مفهوم البيع في الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
آية الله السيد كاظم الحسيني الحائري
عالجت هذه الدراسة ـ كما يظهر من عنوانها ـ مفهوم البيع.. وركّزت على ثلاثة محاور: أوّلها: اختصاص المبيع بالعين.. وثانيها: كفاية المالية في الثمن.. وثالثها: التمييز بين البائع والمشتري وبين البيع والمبادلة.. ثم انتهت الدراسة بخاتمة دارت حول تعريف البيع في الفقه الوضعي..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلوات على أفضل النبيّين محمّد وآله الطاهرين، وبه نستعين.
تعريف البيع:
قد عرّف الشيخ الأعظم الأنصاريّ (رحمه الله) في المكاسب البيع بأنّه إنشاء تمليك عين بمال (1).
والدليل عنده هو: أنّ كلمة البيع ليست لها حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة، فالمرجع في فهم معناه هو العرف، ويرى (رحمه الله) أنّ المعنى الذي يفهمه العرف هو ذلك.
وذلك رغم ما ذكر (رحمه الله) من أنّه فسّر معناه الأصليّ في اللغة بمبادلة مال بمال كما عن المصباح المنير(1)حيث لم يخصّص المبيع بحسب الظاهر بكونه عيناً(2).
وخير عذر يمكن أن يذكر له في الخروج عمّا نسبه إلى اللغة ما أفاد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) من أنّه تعارف لدى اللغويّين في التعاريف اللغويّة ـ يعني غير تفسير المرادف بالمرادف ـ أن تكون تعاريف لفظيّة كقولهم: سعدانة نبت، وقولهم: العود خشب، فلا مجال للمناقشة فيها طرداً وعكساً(3).
ما يدلّ على عدم اختصاص المبيع بالعين:
قد عرفت أنّ الذي ذكره الشيخ الأنصاري (رحمه الله) هو الاختصاص بالعين، بل ونسبه الى اصطلاح الفقهاء.
ويُنقض عليه بما ذكره بقوله (رحمه الله): «نعم، ربّما يُستعمل في كلمات بعضهم في نقل غيرها»(4).
وأضاف قائلاً: «بل يظهر ذلك ـ أي عدم تخصيص المبيع بالعين ـ من كثير من الأخبار كالخبر الدالّ على جواز بيع خدمة المدبّر»(5).
وقد أشار الشيخ (رحمه الله) الى تلك الأخبار، وهي على طوائف، وسوف نوضّح مراده (رحمه الله) من ذلك:
الطائفة الاُولى: الأخبار الدالّة على جواز بيع خدمة المدبّر:
ونحن ننقل هنا من تلك الروايات التي أشار إليها الشيخ (رحمه الله) روايتين تامّتين سنداً:
الاُولى: صحيحة أبي مريم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سئل عن رجل يعتق جاريته عن دبر أيطؤها إن شاء أو ينكحها أو يبيع خدمتها حياته؟ فقال: «أيّ ذلك شاء فعل» (1).
والثانية: صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن العبد والأمة يعتقان عن دبر فقال: «لمولاه أن يكاتبه إن شاء، وليس له أن يبيعه إلا أن يشاء العبد أن يبيعه قدر حياته، وله أن يأخذ ماله إن كان له مال» (2).
الطائفة الثانية: الأخبار الدالّة على بيع سُكنى الدار، وهذا ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في مقام الإشارة إلى الروايات التي يظهر منها نسبة البيع إلى غير العين قال: «وبيع سكنى الدار التي لا يعلم صاحبها» (3).
وكأنّه (رحمه الله) يُشير بذلك إلى موثّقة إسحاق بن عمّار عن العبد صالح قال: سألته عن رجل في يده دار ليست له ولم تزل في يده ويد آبائه من قبله، قد أعلمه من مضى من آبائه أنّها ليست لهم، ولا يدرون لمن هي، فيبيعها ويأخذ ثمنها؟ قال: «ما اُحبّ أن يبيع ما ليس له»، قلت: فإنّه لا يعرف صاحبها ولا يدري لمن هي، ولا أظنّه يجيء لها ربّ أبداً، قال: «ما اُحبّ أن يبيع ما ليس له» قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده فيقول: أبيعك سكناي وتكون في يدك كما هي في يدي؟ قال: «نعم يبيعها على هذا» (4).
الطائفة الثالثة: أخبار الأرض الخراجية، وهذا أيضاً ممّا ذكره الشيخ (رحمه الله) بقوله: «وكأخبار بيع الأرض الخراجيّة وشرائها» (1).
وكأنّ هذه إشارة إلى بعض أخبار الباب 21 من عقد البيع وشروطه من الوسائل (2) ، كالحديث التامّ سنداً عن إسماعيل بن الفضل الهاشميّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل اشترى أرضاً من أرض أهل الذمّة من الخراج وأهلها كارهون وإنّما يقبلها من السلطان لعجز أهلها عنها أو غير عجز؟ فقال: «إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها إلا أن يضارّوا، وإن أعطيتهم شيئاً فسخت أنفس أهلها لكم فخذوها». قال: وسألته عن رجل اشترى أرضاً من أرض الخراج فبنى بها أو لم يبن غير أنّ اُناساً من أهل الذمّة نزلوها،
له أن يأخذ منهم اُجرة البيت إذا أدّوا جزية رؤوسهم؟ قال: «يشارطهم، فما أخذ بعد الشرط فهو حلال» (3).
وأيضاً تكون إشارة إلى بعض أخبار الباب 71 من جهاد العدوّ من الوسائل (4).
مناقشة دعوى عدم اختصاص المبيع بالأعيان:
1 ـ وقد أجاب الشيخ (رحمه الله) على هذه النقوض المستفادة من تلك الروايات التي نسبت البيع إلى نقل المنفعة بأنّ الظاهر أنّ هذه مسامحة في التعبير رغم أنّه (رحمه الله) أقرّ بأنّ الأصل اللغويّ في البيع هو مطلق مبادلة المال بالمال من دون اختصاص بالعين (5).
وعلى أيّ حال فقد عرفت خير ما يمكن أن يكون عذراً للشيخ في الخروج عمّا قد يظهر من المعنى اللغويّ: أنّ التعاريف اللغويّة عادة هي تعاريف لفظيّة.
ويشهد للفظيّة التعريف الوارد في المصباح المنير تكملة العبارة في المصباح العبارة التي تلت ذلك، وتمام العبارة في المصباح ما يلي: «والأصل في البيع مبادلة مال بمال؛ لقولهم: بيع رابح وبيع خاسر، وذلك حقيقة في وصف الأعيان لكنّه اُطلق على العقد مجازاً. لأنّه سبب التمليك والتملّك» (1).
فلولا أنّ تعريفه مجرّد تعريف لفظيّ فيا تُرى كيف يُمكن تفسير عبارته؟. فهل نجعل فرضه لكون الرابح والخاسر حقيقة في وصف الأعيان قرينة على أنّ المقصود بالمال في صدر كلامه كان هو العين، أو نجعل كلمة المال في صدر كلامه قرينة على أنّ مقصوده بالعين في ذيل الكلام هو مطلق المال، أو نجعل هذا الاختلاف بين الصدر والذيل موجباً لإجمالهما؟ !
2 ـ ثمّ إنّنا لو أصررنا على تخصيص البيع بتمليك العين مع تنزيل الروايات الماضية على معنى تمليك العين أمكن أن يقصد بتمليك العين معنىً أوسع من
التمليك المصطلح فعلاً لدينا الذي هو عبارة عن أعلى درجات التسليط الاعتباريّ الذي يشرّع شرعاً أو عقلائيّاً أو عرفاً أو ادّعاءً من قبل السارق مثلاً، فيشمل التسليط الاعتباريّ بدرجاته المختلفة، فتُحمل كلّ هذه الروايات على إرادة نقل مطلق السلطة الاعتباريّة التي تسمّى أقصاها بالملكيّة، وهي نوع سلطة اعتباريّة على العين.
محاولة وردّ:
وقد يخطر ببال أحد أن يحذف أصلاً كلمة التمليك ويُعرّف البيع بأنّه إنشاء تبديل عين بعوض من جهة الإضافة من دون تخصيص تلك الإضافة بإضافة الملكيّة، بل بكلّ درجات السلطة الاعتباريّة والتي تسمّى أعلاها بالملكيّة.
وهذا ما فعله الشيخ النائينيّ (رحمه الله) (1).
واستشهد على ذلك بجواز بيع ما لا ملكيّة فيه، كما في بيع سهم سبيل الله من الزكاة لصرف ثمنه في سبيل الله، أو بيع نماء العين الموقوفة في سبيل الله وصرف ثمنه في قربات الله، أو ما لو افترضنا أنّه أوصى أحد بصرف ماله في سبيل الله ونصّ على عدم صيرورته ملكاً لأحد فبيع المال المذكور لكي يصرف ثمنه في قربات الله.
أقول: عدم مالكيّة الجهة في هذه الأمثلة كجهة سبيل الله أوّل الكلام، ولو سلّم عدم ملكيّة الجهة في هذه الأمثلة وكان هذا الكلام منه (رحمه الله) إشكالاً على تعريف الشيخ للبيع بإنشاء تمليك عين بمال لم يرد هذا الإشكال عليه؛ لأنّه لا شكّ في أنّ بيع الزكاة من سهم سبيل الله أو نماء العين الموقوفة في سبيل الله أو ما أوصي به في سبيل الله تمليك للمشتري.
فالأولى أن يقال: أساساً ـ لو فرض أنّ الفهم العرفيّ يساعد على ذلك ـ إنّ البيع ليس إنشاء التمليك بالخصوص، بل إنشاء التسليط الاعتباريّ بأيّة درجة من درجاته. وتؤيّد ذلك الروايات التي أشار إليها الشيخ الأعظم (رحمه الله).
وأمّا الشواهد التي ذكرها الشيخ النائينيّ فلا أثر لها في المقام.
هذا كلّه بالنسبة للمبيع.
كفاية المالية في الثمن:
وأمّا بالنسبة للثمن فقد ذكر الشيخ الأعظم (رحمه الله): أنّه يكفي فيه أن يكون مالاً، ولا يشترط فيه أن يكون عيناً، فبالإمكان أن يكون منفعة من المنافع، وبالإمكان أن يكون عملاً من أعمال الحرّ لو آمنّا بكونه مالاً قبل المعاوضة، وإلا جاءت شبهة احتمال شرط ثبوت الماليّة قبل المعاوضة.
المناقشة في كفاية المالية في الثمن:
ثمّ قال (رحمه الله): ولا ينتقض ما قلناه بكفاية ماليّة الثمن وعدم اشتراط عينيّته بعدم إمكان كون الثمن حقّاً من الحقوق؛ وذلك لأنّ الحقّ لا يخلو من إحدى حالات:
الاُولى: أن لا يكون قابلاً للمعاوضة كحقّ الحضانة والولاية. وهذا لا يصلح للنقض؛ لأنّ هذا الحقّ ليس مالاً أساساً.
والثانية: أن يكون الحق له ماليّة ولكن لا يقبل النقل كحقّ الشفعة وحقّ الخيار. وهذا أيضاً لا يصلح للنقض؛ لأنّه إنّما لم يمكن جعله ثمناً لأنّه لم يقبل النقل، لا لأنّه لم يكن عيناً.
والثالثة: ما يكون قابلاً للانتقال كحقّ التحجير ونحوه ويقابل بالمال في الصلح إلا أنّ في جواز وقوعه عوضاً للبيع إشكالاً؛ وذلك لأخذ شرط الماليّة في عوضي المبايعة لغةً وعرفاً كما هو الظاهر من كلمات الفقهاء أيضاً(1).
النقض على كون البيع تمليكاَ:
قال الشيخ (رحمه الله): «لا ينتقض ـ أي ما ذكرناه من شرط تمليك المبيع ـ ببيع الدين على من هو عليه؛ لأنّه لا مانع من كونه تمليكاً فيسقط» (1).
أقول: إن كان المقصود النقض على مسألة كون البيع تمليكاً ببيع الدين على من هو عليه، أمكن الجواب: بأنّه لا مانع من كونه تمليكاً فيسقط.
ولكن لأحد أن يورد النقض بذلك من زاوية عدم عينيّة الدين، وقد فرض شرط العينيّة في المبيع، وحينئذٍ لا فرق بين أن يكون بيع الدين على من هو عليه وبين بيعه على غير من هو عليه، فالنقض بهما على حدّ سواء.
وينبغي أن يكون الجواب على النقض: بأنّ الفقه الإسلاميّ يؤمن بوعاء الذمّة، ولا يؤمن بوعاء العهدة فحسب، فكأنّ الفقه الإسلاميّ يفترض وجود العين بوجودها الرمزي في وعاء الذمّة، وهذا كافٍ في تصحيح بيعه.
وبهذا ينحلّ إشكال بيع الكلّيّ في الذمّة رغم أنّ وجود هذا الكلّيّ في الذمّة إنّما يتحقّق بنفس البيع، فكأنّه يكفي في الشريعة في صحّة البيع هذا الوجود الرمزي للكلّيّ في الذمّة التقديري، أي على تقدير تحقّق البيع.
وأمّا إشكال جعل الثمن عمل الحرّ، فجوابه واضح؛ لأنّه لا إشكال في أنّ عمل الحرّ له ماليّة، نعم إيجاد هذا المال إنّما يجب على المشتري بعد أن يشتري المبيع بعمله، ففرق كبير بين مسألة جعل عمل الحرّ ثمناً في المبيع ومسألة ضمان عمل الحرّ بالحبس؛ إذ يكفي في صحّة الأوّل كون العمل ذا ماليّة بلا إشكال، ولذا لو أجبر أحد أحداً على عمل ضمن له قيمة العمل ضمان الإتلاف، ولكن لا يكفي في ضمان عمل الحرّ بحبسه مجرّد كون العمل ذا ماليّة، فنحن نفصّل في ضمان عمل الحرّ بالحبس بين أن يكون أجيراً لعمل فيحبس وأن يكون كسوباً حتّى لو لم يكن أجيراً فيحبس وبين أن يكون بطّالاً فيحبس، ففي الأوّل: نؤمن بضمان اُجرة عمله على أساس قاعدة نفي الضرر، وفي الثاني: نؤمن بضمان قيمة المثل لعمله على أساس قاعدة نفي الضرر أيضاً، وفي الثالث: لا نؤمن بضمان عمله.
وأمّا استشكال الشيخ (رحمه الله) في ماليّة مثل حقّ التحجير ونحوه بعد اعترافه بالمقابلة بالمال في الصلح فلا أعرف وجهه.
التمييز بين البائع والمشتري وبين البيع والمبادلة:
بقي الكلام في إفادة اُستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) في التمييز بين الثمن والمثمن، أو قل: بين البائع والمشتري:
ذلك أنّ السيّد الحكيم (رحمه الله) أفاد في منهاج الصالحين (1) ما لفظه: «معنى البيع قريب من معنى المبادلة».
وعلّق اُستاذنا الشهيد (قدس سره) على هذه العبارة بقوله: «مع اختلاف بين نظري الطرفين بحيث يكون نظر أحدهما إلى المال بخصوصه ونظر الآخر إلى ماليّته، وأمّا إذا تساويا في النظر فلا يطلق عليه البيع وإن كان مبادلة».
وقد أخذ اُستاذنا الشهيد هذا المطلب من اُستاذه السيّد الخوئيّ (رحمه الله)؛ فانّه صرّح أيضاً ـ على ما ورد في محاضرات السيّد عليّ الشاهروديّ ومصباح الفقاهة للتوحيديّ (2) ـ بالفرق بين البائع والمشتري بكون أحدهما ناظراً إلى المال بخصوصه والآخر إلى الماليّة، ولو تساويا كان ذلك مبادلة ولم يكن بيعاً وشراءً.
أقول: إنّ تخصيص البيع بما إذا كان نظر أحد الطرفين إلى المال بخصوصه ونظر الآخر إلى الماليّة قابل للمنع، فليكن تخصيص أحدهما باسم المثمن والآخر باسم الثمن، أو تخصيص أحد المتعاملين باسم البائع والآخر باسم المشتري مشروطاً بذلك، وإذا تساويا في النظر إلى المال أو الماليّة فليكن كلاهما ثمناً ومثمناً وكلاهما بائعاً ومشترياً، أمّا تخصيص اسم البيع بفرض عدم التساوي في ذلك فليس عرفيّاً، كيف وبيع المقايضة كان شائعاً في صدر الإسلام وما قبله والنظر في طرفي المبادلة في باب المقايضة يكون في الغالب متماثلاً بلحاظ الطرفين؟ !
وأيضاً لا شكّ في أنّ بيع الصرف يعتبر عرفاً بيعاً مع أنّه يكون النظر بلحاظ الطرفين في الدينار والدرهم متماثلاً في كثير من الأحيان.
نعم، في زماننا هذا تعورف التبادل بين النقد الأجنبيّ كالدولار بنقد البلد في العراق أو إيران وغيرهما، والغالب أنّ النظر لدافع النقد الأجنبيّ إلى المال ولمن يأخذ النقد الأجنبي في مقابل نقد البلد إلى الماليّة.
والظاهر أنّ تعيين الثمن والمثمن في البيع لا يترتّب عليه أثر عمليّ مهمّ، فخيار المجلس مثلاً ثابت في كلا الجانبين، وكذلك خيار الشرط أو خيار تخلّف الشرط ونحو ذلك، وخيار الحيوان لصاحب الحيوان سواء فرض ثمناً أو مثمناً؛ وذلك لصحيحة زرارة عن أبيجعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): البيّعان بالخيار حتّى يفترقا وصاحب الحيوان ثلاثة أيّام...» (1).
وأكثر روايات الباب وإن قيّدت خيار الحيوان بالمشتري (2) ، لكن لا مفهوم لها ولو بنحو القضيّة الجزئيّة بعد وضوح أنّ صاحب الحيوان غالباً هو المشتري، فيكفي في عقلائيّة ذكر وصف المشتري تنزيله منزلة الغالب.
وفي ختام البحث أقول: من يرى أنّ البيع لا يكون إلّا إذا اختلف البائع عن المشتري في كون نظر أحدهما إلى المال ونظر الآخر إلى الماليّة، أو من يقول: لا يكون البيع إلا إذا كان تمليك أحدهما بالمطابقة والتملّك بالضمن والآخر بالعكس كي يتميّز البائع عن المشتري، أو من يقول مثلاً: لا يكون البيع إلا إذا كان أحدهما يعرض السلعة والآخر يعرض النقد فلو تساويا لم يكن بيعاً، فيا تُرى هل يلتزم لدى التساوي بعدم خيار المجلس أو خيار الحيوان؛ لأنّ خيار المجلس للبيّعين وخيار الحيوان أيضاً للبيّعين أو للمشتري أو لا؟!
تعريف البيع في الفقه الوضعي:
وأخيراً لا بأس بأن نشير إلى ما قاله الدكتور عبدالرزّاق السنهوري في تعريف البيع بحسب التقنين الوضعيّ المدنيّ المصري الجديد قال: «البيع عقد يلتزم به البائع أن ينقل ملكيّة شيء أو حقّاً ماليّاً آخر في مقابل ثمن نقدي».
ثمّ أشار السنهوري إلى موادّ القوانين المدنيّة الوضعيّة العربيّة لبلاد اُخرى تعطي ما يطابق أو يشابه نفس المعنى من التقنين المدني السوريّ والليبيّ والعراقيّ واللبنانيّ.
ثمّ يقول: «ويستخلص من هذا التعريف أنّ البيع عقد ملزم للجانبين؛ إذ هو يلزم البائع أن ينقل للمشتري ملكيّة شيء أو حقّاً ماليّاً آخر ويلزم المشتري أن يدفع للبائع مقابلاً لذلك ثمناً نقديّاً. ويستخلص منه أيضاً أنّ البيع عقد معاوضة، فالبائع يأخذ الثمن مقابلاً للمبيع والمشتري يأخذ المبيع مقابلاً للثمن. ويستخلص منه كذلك أنّ البيع عقد رضائي؛ إذ لم يشترط القانون لانعقاده شكلاً خاصّاً فهو ينعقد بمجرّد تراضي المتبايعين. ويستخلص منه أخيراً أنّ البيع عقد ناقل للملكيّة، فهو يرتّب التزاماً في ذمّة البائع بنقل ملكيّة المبيع إلى المشتري كما هو صريح النصّ».
إلى أن يقول: إنّ التعريف يبيّن في وضوح أنّ الثمن لابدّ أن يكون من النقود. وهذا ما يميّز البيع عن المقايضة والصرف ويميّزه عن البيع في الفقه الإسلاميّ، ففي هذا الفقه يصحّ أن يكون الثمن من غير النقود فيتّسع البيع فيه ليشمل البيع المطلق والمقايضة والصرف والسلم.
ولعلّ أهمّ تطوّر في تاريخ البيع هو تطوّره ليكون عقداً ناقلاً للملكيّة... إنّ البيع لم يكن في القديم عقداً ناقلاً للملكيّة، فقد كان البيع في القانون الروماني لا يرتّب في ذمّة البائع التزاماً بنقل الملكيّة، بل التزاماً بنقل حيازة المبيع إلى المشتري إلا إذا اشترط المشتري على البائع أن ينقل له الملكيّة.
وكذلك كان الحكم في القانون الفرنسي القديم، فكانت الملكيّة لا تنتقل فيه إلا بالقبض، ولكن مراحل طويلة من التطوّر في هذا القانون انتهى إلى أن يكون القبض أمر صوريّاً، وكان يكفي أن يذكر في عقد البيع أن القبض قد تمّ حتّى تنتقل ملكيّة المبيع إلى المشتري، وقطع التقنين المدنيّ الفرنسي في سنة. 1804 م. آخر مرحلة من مراحل التطوّر، فجعل البيع ذاته ناقلاً للملكيّة؛ إذ رتّب في ذمّة البائع التزاماً بنقلها إلى المشتري. ومن ذلك الحين أصبح البيع ناقلاً للملكيّة في التقنينات الحديثة ومنها التقنين المصري السابق والتقنين المصري الجديد وإن كان الفقه الإسلاميّ قد تعجّل هذا التطوّر وجعل البيع ناقلاً للملكيّة قبل ذلك بدهور طويلة...» (1).