41

أقول: لا أدري كيف جعل استخراج أُمور دقيقة غير مطابقة للواقع إفراطاً في القوّة العاقلة وحِدَّة لها، أفهل ترى لو استعملت القوّة العاقلة أكثر ممّا يُسمّى بالحدِّ الوسط أوجبت خطأً ولماذا؟ أوليست قوّة العقل والإدراك كلَّما اشتدَّت في الإنسان وقوي الإنسان على استعمالها كان ترقُّب كشف الحقائق أكثر؟! وليس استعمال قوّة التفكير بمنهج غير صحيح وموجب للوقوع في الخطأ إلاَّ نقصاً في عرض نقص عدم استعمال تلك القوّة أو البلادة الموجب للجهل البسيط، وجعل استعمال القوّة العاقلة بالنحو الصحيح وسطاً بين عدم استعمالها رأساً واستعمالها بشكل غير صحيح ليس ـ أيضاً ـ إلاَّ تلاعباً بالألفاظ.

 

المِقياس الثامن ـ حسن العَدل وقبح الظلم:

بمعنى أنَّ العناوين التي تحمل بذاتها الحسن والقبح إنَّما هي العَدل والظلم، وما سواهما يكون حسناً إذا دخل في العَدل، وقبيحاً إذا دخل في الظلم، فضرب اليتيم ـ مثلاً ـ ليس في ذاته حسناً أو قبيحاً، ولكنّه حينما يدخل في العَدل كما في ضرب وليِّه إيّاه لغرض التأديب يكون حسناً، وحينما يدخل في الظلم كما لو كان لغرض الإيذاء لا التأديب يكون قبيحاً. ومن هنا لا ترى مجتمعاً أو شخصاً اعتياديّاً يناقش في حسن العدل أو قبح الظلم، ولكن يجري الاختلاف في حسن أو قبح عناوين أُخرى؛ نظراً لاختلافهم في دخولها في العَدل أو الظلم.

ثُمَّ إنَّنا لو فسَّرنا العَدالة بمعنىً يكون مترتِّباً على سائر الفضائل، من قبيل ما مضى عن بعضهم: من أنَّ الفضائل الثلاث ـ وهي: الحكمة، والعفَّة، والشجاعة ـ إذا اعتدلت نشأ عنها العَدل، فلا معنى لفرض العَدالة والظلم مِقياساً للفضيلة والرذيلة، بمعنى كونهما رأس الخيط لذلك.

ولو فسَّرنا العَدالة ـ كما مضى عن بعض آخر ـ بأنَّها عبارة عن انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوتيْ الغضب والشهوة، كان هذا عبارة أُخرى عن أنَّ مِقياس الفضيلة والرذيلة هو العقل.

42

إلاَّ أنَّ هذه التفاسير للعَدالة لا ترجع إلى محصَّل، ولا نتصوَّر قوّة عاملة في البشر محرِّكة لسائر القوى كالقوة الغضبيّة التي فسَّروها بقوّة دفع المنافر، والشهويّة التي فسَّروها بقوّة جلب الملائم، أفليست هاتان القوّتان هما العاملتين، فتحتاجان إلى قوّة أُخرى تحركهما تُسمّى بالقوّة العاملة؟! كما لا نتصوّر فرضيّة كون سائر الفضائل موجبة لانتزاع فضيلة جديدة اسمها العَدالة.

وخير ما يقال في تفسير العَدالة والظلم هو: أنَّ العَدالة عبارة عن إعطاء ذي الحقِّ حقَّه، والظلم عبارة عن سلب ذي الحقِّ حقَّه.

وما قد يقال من: (أنَّ العَدالة عبارة عن وضع الشيء في موضعه، والظلم عبارة عن وضعه في غير موضعه) لا نفهم له مفهوماً إلاَّ برجوعه إلى ما قلناه: من إعطاء ذي الحقِّ حقَّه، وسلب ذي الحقِّ حقَّه. وأنت ترى أنّه لا معنى لثبوت الحقِّ إلاّ الانبغاء والضرورة الخُلُقيّة، فمعنى أنَّ فلاناً له حقٌّ عليَّ أن لا أُوذيه أو حقُّ أن أُحسن إليه هو: أنّه من الضرورة الخُلُقيّة وممّا ينبغي أن لا أُوذيه أو أُحسن إليه، وليس هذا إلاّ عبارة عن الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة، إذن، فقولنا: العدل حسن أو الظلم قبيح قضيّة ضروريّة بشرط المحمول، وقد أُخذ محمولها في موضوعها، ويرجع روحها إلى أنَّ الحسن حسن والقبيح قبيح. وهذا هو السرُّ في أنّك لا ترى إنساناً اعتياديّاً يشكّك في هاتين القضيتين، فإنَّ الإنسان الاعتياديَّ لا يشكّك ـ طبعاً ـ في الضروريّة بشرط المحمول.

ومن هنا يتّضح أنَّ جعل العَدل والظلم مِقياساً للفضيلة والرذيلة ليس ـ أيضاً ـ إلاّ لَعِباً بالألفاظ.

وقد تحصَّل بكلِّ ما ذكرناه أنَّ الحسن والقبح أمران واقعيّان يدركهما العقل، وأنَّ المِقياس الأوّلي لهما هو درك العقل بالضرورة، ولهما مقاييس أُخرى مؤيَّدة من قبل العقل: كالدين الصحيح، وكالمصلحة والمفسدة في الجملة، كما أشرنا إليه فيما مضى.

43

 

 

 

 

النقطة الثانية

حقيقة الوجوب والاستحباب

أو الحرمة والكراهة في منطق العقل العملي

 

بعد أن عرفنا واقعيّة الحسن والقبح وإدراك العقل لهما، ولو على مستويات مختلفة ممّا وصل إليه الناس من الدرك بحسب اختلافهم في مستوى كمالهم العقليِّ بالحركة الجوهريّة، وأسمينا ذلك بالعقل العمليِّ، يقع الكلام في حقيقة الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهة في منطق العقل العمليِّ.

والواقع: أنَّ الحديث عن الفرق بين الوجوب والاستحباب، أو بين الحرمة والكراهة في منطق العقل العمليِّ يختلف عن الحديث عن ذلك في فقه الشريعة، ففي الفقه يقال عادة: إنَّ الفرق بين الوجوب والاستحباب هو: أنَّ الوجوب طلبٌ من الشريعة لا يطيب المشرِّع نفساً بمخالفة العبد له. والاستحباب طلبٌ من الشريعة يطيب المشرِّع نفساً بمخالفة العبد له.

وبتعبير أدقّ ـ حسب تحقيق نقَّحناه في علم الأُصول ـ: إنَّ الاستحباب طلبٌ مرافق لرغبة المولى في كون العبد حرَّاً في تصرّفه وأن لا يحسّ بالحرج ولا بدّيّة الإتيان بذلك الفعل. والوجوب طلب لا يرافق رغبة من هذا القبيل، بل يريد المولى إلزام العبد وتقيُّده بذلك المطلوب. وقلْ بنظير ذلك في الفرق بين الحرمة والكراهة.

وسواءٌ عبَّرنا بتعبير طيب نفس المولى بالترك وعدمه أو عبَّرنا بتعبير رغبة

44

المولى في حرّيّة العبد وعدمها، فالتعبير بكلا شكليه إنَّما يناسب فقه الشريعة؛ لأنَّ للمولى أمراً ونهياً ورغبةً وحكماً، وهذا لا يأتي في بحثنا عن العقل العملي؛ لأنَّ العقل ليس له حكم ورغبة بمعنى الكلمة، وإنَّما العقل شأنه الدرك لا أكثر، فلابدَّ من بيان فرق آخر في المُدرَك بالعقل العملي بين الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهة.

وما يمكن أن يُفتَرض في المقام كتفسير للفرق بين الأمرين أحد تفاسير ثلاثة:

فأوَّل تفسير قد يخطر في الذهن هو التفسير باختلاف الدرجة، بأن نقول: إنَّ الحَسَن الشديد الحُسن هو الواجب والقبيح الشديد القبح هو الحرام، وما بينهما متوسطات، والمتوسط الحقيقيُّ بينهما يكون مباحاً عقلاً لا يعدُّ فضيلة ولا رذيلة، فكأنَّ لدينا سُلَّماً واحداً، وقع في الدرج الأسفل النهائيِّ منه أشدُّ الرذائل المحرّمة، وفي الدرج الأعلى النهائيِّ منه أشدُّ الفضائل الواجبة، وبينهما متوسطات يخفُّ قبحها أو حسنها بمقدار بُعدها عن أحد القطبين، ويكون الوسط الحقيقيُّ في هذا السُلَّم هو رفُّ المباحات.

إنَّ هذا التفسير يشتمل على بعض المفارقات من قبيل:

1 ـ إنَّنا لا نمتلك حَدّاً مشخِّصاً لفصل الواجبات عن المستحبات، فيا تُرى هل يُفترض أنَّ الحسنَ البالغَ المترتبة السبعين هو الواجب، وما نقص عنه ولو مرتبة واحدة هو المستحب مثلاً أم ماذا؟

2 ـ إنّ لازم ذلك أن يصحَّ القول بأنَّ كلَّ ماهو حسن فنقيضه قبيح؛ لأنَّ الفعل ونقيضه ككفَّتي الميزان، وبقدر ما يصعد أحدهما ينزل الآخر، فبقدر ما يقترب الحُسن إلى ذروة السُلَّم يقترب نقيضه إلى أسفله، في حين أنّ هذا خلاف الوجدان، فإنّنا نرى بوجداننا أنَّ العفو حَسن وفي مرتبة عالية من الحسن، ولكنَّ القصاص ليس قبيحاً، وكيف يكون قبيحاً وهو حقٌّ؟! والحقَّانيّة لا تجتمع مع القبح.

45

3 ـ إنَّه لو وقع التزاحم بين قبيح في أقلِّ مراتب الحرمة وحَسَن غير بالغ مرتبة الوجوب، لزم أن يجوز ارتكاب ذاك القبيح، وتنتفي حرمته؛ وذلك لأنّه سيتنزَّل عن قبحه ولو جزئيّاً بالمزاحمة مع الحَسَن، وبهذا التنزَّل يخرج من حريم الحرمة؛ لأنّنا كنَّا قد فرضناه في المراتب الدنيا من الحرمة.

مثال ذلك:

ما لو كان كشف سرٍّ مختصر عن أَمر له ألف طرف يؤدِّي إلى الإضرار بواحد منهم إضراراً خفيفاً، وفي نفس الوقت يؤدِّي إلى نفع تسع مئة وتسعة وتسعين نسمة نفعاً كبيراً، فكانوا راضين بكشف السرِّ، ولم يكن تحقيق هذا النفع واجباً علينا، فياتُرى هل يصبح كشف السرِّ هذا جائزاً عقلاً، ولا نكون مُلزَمين أمام ذاك الواحد؛ لأجل أنّه استلزم نفع كثير من الناس ممّا لم يكن واجباً؟! كلاَّ إنّ ضميرنا لا يدلَّ على ذلك. وكذلك ضرب يتيم ضربةً ضعيفة لا يبكي منها إلاّ دقائق موجباً لنفع آخرين نفعاً هائلاً في غير ما يكون واصلاً حَدَّ الوجوب كإنجاء النفس من الهلكة مثلاً، فهل يجوز ظلم هذا اليتيم باقلِّ ظلم في سبيل إدخال نفع هائل في جيب آخرين والذي لولا استيجابه لظلم اليتيم لكان من أفضل الأعمال غير الواجبة؟! كلاَّ.

وعليه فلننتقل إلى تفسير ثان للوجوب والاستحباب، أو للحرمة والكراهة في باب الفضائل والرذائل العقليتين، وهو: أن نفترض للفضائل والرذائل سُلَّمين متباينين بدلاً عمّا مضى من افتراض سُلَّم واحد لها جميعاً، فهناك سُلَّم للفضائل، وهي: ما يكون فعلها حسناً، وسلم آخر للرذائل، وهي: ما يكون فعلها قبيحاً. وهما سُلَّمان متوازيان لا يلتقيان، ولا يستلزم حسن الشيء قبح نقيضه وبالعكس. ونفترض الفرق بين الوجوب والاستحباب فرق درجة، وكذلك الفرق بين الحرمة والكراهة.

46

وهذا التفسير ـ أيضاً ـ باطل؛ لأنّه لا يخلو من بعض المفارقات، من قبيل:

1 ـ لم يتّضح لنا ما هو الحَدُّ الدقيق بين الوجوب والاستحباب، والمفروض أنَّ الواجبات والمستحبَّات في سُلَّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة. وكذلك لم يتَّضح لنا ما هو الحَدُّ الدقيق بين الحرمة والكراهة، والمفروض أنَّ المحرمات والمكروهات في سُلَّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة. ولا أظن إمكان الوصول إلى حدٍّ مائز إلاّ بالاعتباط.

2 ـ يلزم من ذلك عدم استبطان الوجوب لعنصر الإلزام؛ لأنَّ الإلزام مساوق للذَّم على الترك، والذَّم على الترك مساوق لقبح الترك، وقد فرضنا عدم استلزام الحُسن قبح النقيض، وبالعكس. ولا معنى لفرض مساوقة شدة الحسن لقبح النقيض، فإنَّ الحسن الشديد لو ساوق قبح النقيض شديداً لكان الحسن الخفيف ـ أيضاً ـ مساوقاً لقبح النقيض، ولكن بدرجة أخفّ. وهذا رجوع إلى التصوير الأوّل الذي كان السلم فيه واحداً، أيْ: كان الحسن والقبح فيه عبارة عن نسبة كلّ من الفعل والترك إلى نقيضه في درجة الرجحان.

وعليه، فينحصر الأمر في التفسير الثالث، وهو أن يقال: إنَّ للحسن والقبح سُلَّمين: سُلَّم للحسن وسُلَّم للقبح، ويكون سُلَّم الحسن هو سُلَّم المستحبات والمكروهات، أيْ: أنَّ كلَّ حسن مستحب ونقيضه مكروه، وسلم القبح هو سلم الواجبات والمحرّمات، أيْ: أنَّ كلَّ قبيح حرام ونقيضه واجب.

وبكلمة أُخرى: إنَّ الحسن مهما بلغ ذروته لا يستبطن الإلزام، وإنَّما الإلزام عنصر مستبطن في القبح، فإنَّ الإلزام عبارة أُخرى عن استحقاق الذم على المخالفة، وهو عبارة أُخرى عن قبح المخالفة.

إذن، فالفرق بين الواجب والمستحبِّ في منطق العقل العملي عبارة عن أنَّ المستحبَّ ما لا يحكم العقل العملي بقبح تركه وإن حكم بحسن فعله، وعنصر

47

الحسن غير عنصر قبح الترك. ومهما صعد الحسن في سُلَّمه لا يعني قبح الترك، فالمستحبُّ ما يكون حسناً وليس تركه قبيحاً، كالعفو، والواجب ما يكون تركه قبيحاً، سواءٌ كان فعله حسناً بحسن آخر أو كان حسن فعله عبارة أُخرى عمَّا فيه من الاحتراز عن القبيح. وأيضاً نقول: المكروه العقليُّ ما يكون تركه حسناً من دون أن يكون فعله قبيحاً، وذلك من قبيل: القِصاص في مورد يحسن العفو. والحرام العقلي ما يكون فعله قبيحاً، سواءٌ كان تركه حسناً بحسن آخر أو كان حسن تركه عبارة أُخرى عمَّا فيه من الاحتراز عن القبيح.

ومثال ذلك:

إيذاء شخص بلا سبب فإنَّه قبيح وحرام عقلاً، وتركه لا حسن فيه إلاّ بمعنى مجانبة القبح؛ ولذا ترى أنَّ فاعل الإيذاء يستحقُّ الذمَّ والتقاصَ من قبل الشخص المؤذى، ولكن تارك الإيذاء لا يستحقَّ شكراً من قبل الشخص الذي لم يؤذه(1).


(1) مأخوذ من كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل مبحث دلالة الأمر على الوجوب. تحت الخط ( مخطوط ).

48

 

49

 

 

 

 

النقطة الثالثة

في الجبر والاختيار

 

لا يخفى أنَّنا لو لم نؤمن بالحسن والقبح كمفهومين واقعيَّين خُلُقيَّين يستتبعان ـ عقلاً ـ استحقاق المدح والذمِّ، لا من سنخ مدح اللؤلؤ على ضوئه وبهائه وذمِّ حجر كريه المنظر على كراهة منظره، بل من سنخ استحقاق خُلقيٍّ يستتبع الثواب والعقاب، بل فرضنا أنّ الحسن والقبح ـ مثلاً ـ ليسا إلاّ أمرين اعتباريَّين ومجعولين من قبل العقلاء أو الشرع أو القانون؛ لحفظ المصالح ودرْء المفاسد، فهذا المعنى الخاوي للحسن والقبح عن المغزى الخُلُقيِّ ينسجم مع الجبر، كما ينسجم مع الاختيار، فحتَّى لو قلنا بالجبر قلنا: إنَّ جعل الحسن والقبح من قبل العقلاء أو القانون أو الشرع وفرض ثواب وعقاب على ذلك، إنَّما كان لفائدة انعطاف الإنسان إلى حفظ المصالح ودرْء المفاسد ولو جبراً.

ولكن بعد فرض الإيمان بأنَّ الضرورة الخُلُقيّة ـ وهي الانبغاء وعدم الانبغاء ـ أمرٌ واقعيٌّ يتبعه المدح والذمُّ الخُلُقيّان عن استحقاق عقليٍّ، وكذلك الثواب والعقاب، (وهذا ما ادَّعينا أنَّ الضمير والوجدان شاهدان عليه) فهذا لا ينسجم إلاَّ مع فرض الاختيار؛ لشهادة الوجدان بأنَّ المجبور لا يستحقُّ مدحاً ولا ذمّاً ولا ثواباً ولا عقاباً؛ كما أنَّ حركة يد المرتعش لا تمدح ولا تذمُّ ولا يثاب عليها ولا يعاقب عليها إن ترتّب عليها شيء.

50

والواقع: أنَّ اختيار الإنسان ليس شيئاً يثبت بالبرهان، وإنَّما هو أمر ثابت بالوجدان.

وقد اشتهر لتوضيح الاختيار التمثيل برغيفيْ الجائع وطريقيْ الهارب، فياتُرى لو آمَنَّا بالجبر وعدم صدور الفعل إلاّ بمرجِّح يؤثِّر قهراً في النفس أفلا يعني ذلك: أنَّ هذا الجائع لو لم يكن له مرجِّح لأحد الرغيفين فسوف يموت جوعاً. وهذا الهارب لو لم يكن له مرجِّح لأحد الطريقين فسوف يستسلم لافتراس الأسد مثلاً أو لوقوعه في أسر العدوِّ؟! أوليست هذه النتيجة أمراً بديهيِّ البطلان؟!

والواقع: أنَّ ذكر هذه الأمثلة لو قُصِدت به البرهنة على الاختيار بما اتَّفق حتَّى الآن في العالَم من أمثال هذه الأمثلة، وأنَّنا لم نرَ ـ ولا مرّة واحدة ـ أنَّ مَنْ ابتُلي بشيء من هذا القبيل ـ مع دوران حاله بين فعلين لم يعرف مرجِّحاً لأحدهما على الآخر ـ ترك الفعلين واستسلم للمحذور الذي يقع فيه لدى ترك الفعلين، أمكن الإيراد عليه باحتمال وجود مرجِّح في الواقع مؤثِّر في لا شعوره غير ملتفت هو إيّاه تفصيلاً.

أمّا لو قُصِد بذكر مثل هذه الأمثلة مجرّد تنبيه الوجدان على الاختيار، فهذا الاعتراض لا يرد عليه؛ لأنَّ المقصود بذكر هذه الأمثلة ـ عندئذ ـ تنبيه الوجدان الحاكم بأنّه حتَّى لو لم يكن في الواقع وفي اللاّشعور مرجِّح لأحد الأمرين لن يستسلم هذا الشخص للموت بالجوع أو بافتراس الأسد أو لأيِّ مشكلة أُخرى، بل يختار أحد الأمرين من دون مرجِّح.

والانصاف: أنَّ هذه الأمثلة من خير المنبِّهات على الوجدان الحاكم بالاختيار.

وكذلك من خير المنُبِّهات على ذلك الوجدان الخُلُقيّ والاستحقاق الخُلُقيّ للمدح والذمِّ والثواب والعقاب في أفعال الناس؛ لأنّ ذلك لا يمكن أن يكون على الأفعال غير الاختياريّة.

51

والذي يقف أمام الخضوع لحكم الوجدان بالاختيار هو البرهان الفلسفي المتخيَّل لإثبات الجبر، فنحن لسنا بحاجة إلى إقامة البرهان على الاختيار، وإنّما نحن بحاجة إلى بطلان برهان الجبر؛ كي يعمل الوجدان بعد إبطال برهان الجبر عمله في النفس، ويتَّضح لصاحب الشبهة الاختيار بعد زوال شبهته.

والبرهان الفلسفيُّ للجبر مؤتلف من مقدّمتين:

الأُولى: أنَّ الاختيار ينافي الضرورة، فإنَّ الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار، من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضروريّة.

والثانية: أنَّ صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة؛ لأنَّ الفعل الصادر منه ممكن من الممكنات، فتسوده القوانين السائدة على عالَم الإمكان والتي منها أنَّ الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد، فبالجمع بين هاتين المقدّمتين يثبت أنَّ الإنسان غير مختار في أفعاله؛ إذ لا يصدر عنه فعلٌ إلاَّ بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار.

والبحث هنا مفصَّل، والوجوه والآراء حول الجواب عن ذلك متشعِّبة، وذكرها مع تقييمها لا يناسب المقام وبإمكانك ـ لو أردت التفصيل ـ أن تراجع كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل ضمن بحث (دلالة الأمر على الوجوب) والجزء الأوّل من القسم الثاني ضمن بحث (الحسن والقبح العقليين)(1).

ونحن نقتصر هنا على ذكر ما أفاده أُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله) في المقام ردّاً على مبنى فلسفيّ معروف.

ذلك أنَّ الفلاسفة ذكروا: إنَّ نسبة شيء إلى شيء ـ بعد فرض إخراج الامتناع من المقسم ـ إمّا هي الوجوب أو الإمكان، فنسبة الشيء إلى قابله هي الإمكان


(1) مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الثاني: 527 ـ 534.

52

وإلى فاعله هي الوجوب، وقد قالوا بذلك في تمام عوالم الإمكان، بلا فرق بين الأفعال الاختياريّة وغيرها، فحركة يد المشلول وتحريك اليد اختياراً سيَّان في هذا الأمر، ومن هنا جاءت شبهة الجبر.

ولكنَّ الواقع: أنَّ تخيّل انحصار النسبة في الوجوب والإمكان غير صحيح، وأنَّ نسبة الفعل الاختياري إلى فاعله نسبة ثالثة، هي: بالتعبير الاسمي: نسبة (السلطنة) وبالتعبير الحرفي: نسبة (له أن يفعل وله أن لا يفعل) والقاعدة العقليّة المعروفة القائلة: (إنَّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) ليست ـ بدقيق معنى الكلمة ـ صادقة، وإنَّما الصحيح لو أردنا أن نعبِّر بتعبير دقيق هو: أنَّ الشيء لا يوجد إلاَّ بالوجوب أو السلطنة، فموضوعها هو الجامع بين الوجوب والسلطنة لا نفس الوجوب فحسب. نعم، بما أنَّ السلطنة غير موجودة في العلل التكوينيّة فوجود معلولاتها لا يكون إلاّ بالوجوب.

وما ادَّعيناه من وجود نسبة أُخرى إلى صفِّ نسبة الوجوب والإمكان يكون ـ بحسب عالم التصور ـ بديهيّاً كبداهة الوجوب والإمكان، والوجود والعدم، فلا غبار ـ بحسب عالم التصور ـ على وجود نسبة ثالثة في قِبال نسبة الوجوب والإمكان، فهذه غير الوجوب وغير الإمكان.

أمّا أنَّها غير الوجوب فللتضادِّ الواضح بين عنوان (له أن يفعل) وعنوان (لا بدَّ له أن يفعل).

وأمَّا أنَّها غير الإمكان فلأَنَّ الإمكان عبارة عن القابليّة، وهي: التأهُّل للقبول، وهذا مفهوم لا يُتصوَّر إلاَّ بين الشيء وقابله دون الشيء وفاعله بخلاف مفهوم (له).

وقاعدة أنَّ (الشيء ما لم يجب لم يوجد) ليست قاعدة قام برهان عليها، وإنَّما هي قاعدة وجدانيّة ومن المُدرَكات الأوَّليّة للعقل، فإنَّه وإن كان قد يُبرهَن عليها

53

بأنَّ الحادث لو وُجِدَ بلا علَّة ووجوب لَزِمَ ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجِّح، وهو محال، لكنَّك ترى أنَّ استحالة الترجيح أو الترجُّح بلا مرجِّح هي عبارة أُخرى عن أنَّ المعلول لا يوجد بلا علَّة. إذن، فلابدَّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفِطرة السليمة مع التخلُّص من تشويش الاصطلاحات والألفاظ؛ لنرى ماهو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة؟

والفِطرة السليمة تحكم بأنَّ مجرّد الإمكان الذاتي لا يكفي للوجود.

وهنا أمران إذا وُجِد أحدهما رأى العقل أنّه يكفي لتصحيح الوجود:

أحدهما: الوجوب بالغير، فانه يكفي لخروجه من تساوي الطرفين ويصحِّح الوجود.

والثاني: السلطنة، فلو وجدت لفاعل ما السلطنة رأى العقل بفطرته السليمة أنَّ هذه السلطنة تكفي للوجود.

وتوضيح ذلك: أنَّ السلطنة تشترك مع الإمكان في شيء، ومع الوجوب في شيء، وتمتاز عن كلّ منهما في شيء:

فهي تشترك مع الإمكان في أنَّ نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية، لكن تختلف عن الإمكان في أنَّ الإمكان لا يكفي لتحقق أحد الطرفين، بل يحتاج تحقّقه إلى مؤونة زائدة، وأمّا السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضمِّ شيء آخر إليها لأجل تحقّق أحد الطرفين؛ إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة، وهو خلف، بينما في الإمكان لا يلزم من فرض الحاجة إلى ضمِّ ضميمة خلفُ مفهوم الإمكان، إذن، فالسلطنة لو وُجِدت فلابدَّ من الالتزام بكفايتها.

وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شيء، بلا حاجة إلى ضمِّ ضميمة، وتمتاز عنه بأنَّ صدور الفعل من الوجوب ضروريٌّ، ولكن صدوره من السلطنة ليس ضروريّاً؛ إذ لو كان ضروريّاً لكان خلف السلطنة. وفرق بين حالة (له أن

54

يفعل) وحالة (عليه أن يفعل). والعقل ينتزع من السلطنة ـ باعتبار وجدانها لهذه النكات ـ مفهوم الاختيار بالمعنى المنسجم مع الحسن والقبح الخُلُقيَّين.

يبقى شيء وهو: أنَّنا لو حصلنا على برهان على ثبوت هذه السلطنة في الإنسان ثبت الاختيار بالمعنى المصحِّح لقضايا الأخلاق بالبرهان، ولو لم نحصل على برهان على ذلك فمجرد تصوُّرنا البديهيِّ لمفهوم السلطنة في مقابل مفهوم الوجوب والإمكان، وتصديقنا بأنَّه لو وجد لذلك مصداق ثبت الاختيار، وصحَّ وجود الفعل من دون أن يجب، كاف في إبطال برهان الجبر القائم على أساس تخيُّل أن المصحِّح للوجود لا يمكن أن يكون إلاَّ الوجوب، فإذا بطل برهان الجبر سهل على الإنسان الرجوع إلى وجدانه الذي كان لدى صاحب الشبهة مغطَّى بالبرهان المتُخيَّل.

والسلطنة التي تكلَّمنا عنها بعد فرض عدم امتلاك برهان عليها ينحصر أمر إثباتها خارجاً للإنسان بالشرع أو بالوجدان، بأن يقال مثلاً: إنَّنا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا، وأنَّنا حينما يتمُّ الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل ما لا نقدم عليه قهراً، ولا يدفعنا إليه أحد، بل نقدم عليه بالسلطنة بناءً على دعوى أنَّ حالة السلطنة من الاُمور الموجودة لدى النفس بالعلم الحضوريِّ، من قبيل: حالة الجوع، أو العطش، أو حالة الحبِّ، أو البغض، وهذا يعني: وجدانيّة الاختيار.

55

 

 

 

 

النقطة الرابعة

ما هي مَغْزى الربط بين الخالق والمخلوق؟

 

وهنا ننقل ما أوردناه في مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل ضمن بحث (دلالة الأمر على الوجوب) في ذيل بحث ( الأمر بين الأمرين ) تحت الخط. وهو ما يلي:

تعارف القول بأنَّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي، وأنّها في مرتبة ذاتها ليست وجوداً ولا عدماً، وإن كان لابدَّ أن يحمل عليها إمّا الوجود وإمّا العدم، فهي إمّا موجودة وإمّا معدومة.

ولكن لا يخفى أنَّ هذا النوع من التصوُّر يشتمل على شائبة أصالة الماهيّة وعروض الوجود على الماهيّة شاء صاحبه أم أبى، ويفترض أنَّ للماهيّة ثبوتاً في عالم التقرُّر، وتتلبَّس إمَّا بثوب الوجود أو بثوب العدم، في حين أنَّ من الواضح: أنّه لا يُتصوَّر قبل الوجود شيء يلبس ثوب الوجود.

وبهذا ينهار البيان الفلسفيُّ القائل: إنَّ العالم مركَّب من وجود وماهيّة، وإنَّ الماهيّة إن كان ينبع من ذاتها الوجود كانت واجبة الوجود، وإلاّ كانت ممكنة الوجود، أو ممتنعة الوجود، وبما أنَّ العالم لا ينبع من ذاته الوجود؛ لأنّه متغير والمتغير حادث، إذن، فلابدَّ له من علّة، ولابدَّ من انتهاء العلَّة إلى واجب الوجود.

والبيان الصحيح الذي يحلُّ محلَّ هذا البيان هو: أنّه لا شيء في العالَم إلاّ

56

الوجود، وأمّا الماهيّة فليست إلاّ عبارة عن حَدِّ الوجود وانتهاء الوجود، أيْ: أنَّ الماهيّة عدم صِرف، والذي يكون بذاته هو حقيقة الوجود المستقل يكون واجب الوجود، ولا يتَصوَّر العقل له حداً، وما لا يكون كذلك يكون عدماً صِرفاً، إلاّ أن يوجد ويخلَق، وبما أنَّ كلَّ ما في هذا العالم محدود وكذلك هو متغيّر فيستحيل أن يكون هو واجب الوجود، فلابدَّ من انتهائه إلى واجب الوجود.

وبكلمة أُخرى: أنَّنا بدلاً عن أن نُقسِّم الشيء إلى ما يكون الوجود واجباً لماهيّته، أو ممتنعاً عليها، أو ممكناً لها، نُقسِّمه إلى الوجود المستقل الواجب، أو الوجود التعلّقي، أو العدم.

وبما ذكرناه إنهار ـ أيضاً ـ ما عن المحقّق الإصفهاني(رحمه الله): من أنَّ كلَّ وجود محدود له حدَّان: حَدّ وجوديّ، وهو: مقدار وجدانه المصحوب بالفقدان، وحَدّ عدميّ، وهو: اللازم لحدِّه الوجوديِّ، وإن كان من ذوات الماهيّة فله حَدٌّ ثالث، وهو: الحَدُّ الماهويُّ(1).

وعلى أيّة حال، فإذا صحَّ أنَّ الوجود اللاَّمحدود هو واجب الوجود لا غيره، ثبت بذلك بعد ثبوت أصل الواجب تعالى:

أوّلاً: استحالة تعدُّد واجب الوجود؛ إذ لو تعدَّد لشكّل كلُّ واحد منهما حَدّاً للآخر؛ لأنَّ أحدهما يجب أن ينتهي منذ أن يبدأ الآخر.

وثانياً: استحالة ثبوت وجود آخر ولو ممكناً إن كان بحيث يحدُّ وجود ذلك الواجب؛ لأنّه لو صار الواجب محدوداً لكان ذلك خلف وجوبه.

ولتطبيق هذه النتيجة الثانية على واقع الحال من وجود إله خالق وعالم مخلوق


(1) راجع كتاب توحيد علمي وعيني الرسالة الرابعة للشيخ الإصفهاني(رحمه الله) جواباً عن رسالة السيّد أحمد الكربلائي(رحمه الله): 96. والصحيح: أنَّ للوجود المحدود حدّاً واحداً، إن شئت فسمِّه بحدِّه العدميِّ، وإن شئت فسمِّه بحدِّه الماهويِّ.

57

تصويرات ثلاثة لا رابع لها بعد التسليم بوجود العالَم حقيقةً:

التصوير الأوّل: افتراض أنَّ واجب الوجود أو الوجود المطلق لا يحدُّه إلاَّ واجب مثلُه أو وجود مطلق مثلُه، وأمّا الوجودات المخلوقة فليست حَدّاً لوجود الواجب؛ ولهذا اجتمع بالفعل وجود واجب الوجود من ناحية ووجود عالم مخلوق له من ناحية أُخرى.

إلاَّ أنَّ هذا التصوير ما لم يرجع إلى التصوير الثاني يبدو بظاهره باطلاً؛ لما قد يقال: من أنَّ الوجود المطلق إن كان مطلقاً حَقّاً لم يبقَ مجالاً لأيِّ وجود آخر، وأيُّ وجود آخر يُفترض في مقابل هذا الوجود يعني ذلك: انتهاء ذاك الوجود المطلق من حين ابتداء هذا الوجود. ومجرّد افتراض رابطة التعلُّق بين الوجودين على شكل كون الوجود المطلق علَّة أو خالقاً، والوجود الآخر المحدود معلولاً أو مخلوقاً، لا يحلُّ مشكلة استحالة وجود آخر إلى صف الوجود المطلق.

التصوير الثاني: افتراض أنَّ إطلاق الوجود يعني إطلاق الوجود المستقل، ولا تعارضه الوجودات التعلُّقيّة، فإنّنا لا نفترض وجودات مستقلَّة مُتَّصفة فيما بينها بصفة العلّيّة والمعلوليّة كي تحدَّ تلك الوجودات المستقلَّة المعلولة وجودَ العلَّة.

وبكلمة أُخرى: إنَّنا لا نفترض أنَّ نسبة الواجب ـ تعالى ـ إلى مخلوقاته كنسبة العلل والمعلولات المادّيّة التي أَلِفْناها، والتي يُفترَض فيها وجودان مستقلان بينهما رابطة التعلّق أو نسبة العليَّة والمعلوليّة، بل نقول: إنَّ وجودات المخلوقات هي كلُّها وجودات تعلّقيَّة، في حين أنَّ وجود الله ـ تعالى ـ هو الوجود المستقل المطلق، فليس هذا التعلُّق خيطاً رابطاً بين شيئين مستقلَّين، بل المخلوق هو عين التعلُّق والارتباط. وهذا هو الفهم السائد بين الفلاسفة الإسلاميين. وعلى هذا الأساس قالوا: إنَّ علم الله ـ سبحانه ـ بمخلوقاته علم حضوريٌّ لا حصوليٌّ.

58

التصوير الثالث: ما نُسِبَ إلى جمع من العرفاء: من أنَّ أيَّ وجود يُفتَرض غير وجود الله ـ سبحانه وتعالى ـ يكون ذلك حَدّاً لوجوده تعالى، سواءٌ فرضناه وجوداً استقلاليّاً أو فرضناه وجوداً تعلُّقيّاً، فهو ما دام شريكاً مع الله في الوجود ولو بمرتبة افترضناها نازلة فقد شكَّل هذا الوجود حَدّاً لوجوده سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، ولا فرق في لزوم التحديد بين أن يُفترَض وجودٌ في مقابل وجود الله صغيرٌ كجناح بعوضة، أو ذرَّة لا تُرى بالعين، أو هو أصغر من ذلك، أو يفترض وجود من أعظم الخلائق وأكبرها، وكذلك لا فرق بين أن يُفتَرض وجود من أعلى مراتب الوجود شدّةً وقوّةً وكثرةً، أو من أدناها مرتبةً وضعفاً وقلّةً.

وعليه، فالواقع: انَّ الممكنات أو الماهيّات في الحقيقة هي: شبكات لذلك الوجود المستقل المطلق، وهو وجود الله تعالى، ويُرَى من خلالها ذاك الوجود(1).

إذن، فصاحب هذا الرأي لا يقول: بأنَّ العالم وهم وخيال، أو اعتبار محض لا وجود له، أو أنَّ إطلاق عنوان الموجود فيه يكون على أساس مجرّد نسبته إلى وجود الله، من قبيل: التامر، واللابن، نسبةً إلى التمر واللبن. ولا يَرى أنَّ وجود الله حلَّ في الوجودات الممكنة، أو اتَّحد معها، أو ما إلى ذلك من عناوين تقتضي نوعاً من الاثنينيّة أوّلاً، ثُمَّ الحلول أو الاتحاد، بل يرى صريحاً أنَّ العالم ـ بكلِّ ما يزخر به ظاهراً من الممكنات ـ شبكة يُرى بها وجود الله الذي هو الوجود الحقيقيّ، والمستقل، والمطلق والبسيط، وغير المشكِّك، وإن كان المرئيُّ كأنَّه يتقدَّر بتقديرات اعتبارية باختلاف الشبكات التي يرى بها الرائي.

ويعتقد ـ عادةً ـ أصحاب هذا المسلك: أنَّ هذا سرٌّ لا يصحُّ إفشاؤه أمام عامّة


(1) راجع كتاب توحيد علمي وعيني، تذييل السيّد محمّد حسين الطهراني على الرسالة الرابعة للشيخ الإصفهاني(رحمه الله): 195 ـ 220، وصاحب التذييل يدَّعي: أنَّ هذا هو رأي جميع العرفاء بالله.

59

الناس؛ لأنّهم لا يدركونه، ولا يتحمّلونه. وعلى هذا الأساس قال القائل بالفارسيّة:

گفت آن يار كزو گشت سردار بلند
جرمش اين بود كه اسرار هويدا مى كرد(1)

وكأنَّ كلاًَّ من أصحاب هذين التصويرين الثاني والثالث ينزِّل على تصوّره ما تقوله الآيات القرآنيّة، من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿ وهُوَ الَّذي في السَّماءِ إلهٌ وَفِي الأرضِ إله... ﴾(2).

2 ـ ﴿ هُوَ الأوّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ وَهُوَ بكُلِّ شيء عَليمٌ ﴾(3).

3 ـ ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنتُم... ﴾(4).

4 ـ ﴿ مَا يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَة إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَة إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أدْنى مِن ذَلِكَ وَلا أكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كَانُوا... ﴾(5).

5 ـ ﴿ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحولُ بَيْنَ المرءِ وَقَلْبِهِ... ﴾(6).

6 ـ ﴿ وَنَحْنُ أقْرَبُ إليْهِ مِنْ حَبْلِ الوَريدِ ﴾(7).

وكذلك بعض الكلمات المنقولة عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) من قبيل قوله (عليه السلام):

1 ـ «مع كلِّ شيء لا بمقارنة وغير كلِّ شيء لا بمزايلة»(8).

2 ـ «هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كلِّ


(1) ديوان حافظ ( آينه جام )، الغزل رقم 142.

(2) السورة 43، الزخرف، الآية: 84 .

(3) السورة 57، الحديد، الآية: 3.

(4) السورة 57، الحديد، الآية: 4.

(5) السورة 58، المجادلة، الآية: 7.

(6) السورة 8، الأنفال، الآية: 24.

(7) السورة 50، ق، الآية: 16.

(8) نهج البلاغة: 14، رقم الخطبة: 1.

60

شيء فلا يقال: شيءٌ فوقه، وأمام كلِّ شيء، فلا يقال: له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج...»(1).

3 ـ «... ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج...»(2).

أقول: لابدَّ من توجيه سؤال إلى صاحب التصوير الثالث، وهو: أنّه لئن كانت الممكنات عبارة عن الهيئات التي هي شبكات مصوّرة على وجود الله تعالى، وتلك الشبكات هي اعدام بحت واعتباريات صرف، إذن، فمن المخاطب بالتكاليف الشرعيّة، هل هو ما يُرى من هذه الشبكات من وجود الله، أو نفس الشبكات التي هي اعدام، أو المجموع المركب منهما تركيباً اعتبارياً، ومن الذي يثاب، ومن الذي يعاقب، وما هو الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب؟! ثُمَّ ما الذي خلقه الله تعالى، هل هو المرئي بالشبكة، وهو الله تعالى، أو نفس الشبكة الذي هو عدم محض، أو إنَّ المقصود بالخلق هو مجرّد الاعتبار الذي لا يكون وحده إلاّ لعباً، وهو يقول: ﴿ وَمَا خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما لاَعِبينَ﴾(3).

أمّا حديث كون الوجود التعلُّقيِّ حدّاً للوجود المطلق الإلهيِّ، فكلام غريب؛ لأنَّ الوجود التعلُّقيَّ إنّما يُعتَبر حداً لذاك الوجود لو كان يفسح عدمُه مجالاً لامتداد ذاك الوجود المطلق، فيقال: إنَّ هذا الوجود يعني حدّاً لذاك؛ إذ لا يبدأ هذا إلاّ من حين ينتهي ذاك، ولكنَّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ عدم الوجود التعلُّقيِّ لو فسح مجالاً للامتداد لكان الامتداد وجوداً تعلُّقيّاً، وتعالى الله عن أن يكون شيء من وجوده وجوداً تعلقياً سواءٌ وُجِدَ وجود تعلُّقيٌّ آخر أو لم يوجد، فأيُّ تأثير في حساب البرهان الذي اقتضى الإطلاق والصرافة في وجود الله لوجود تعلُّقيٍّ مخلوق لله


(1) التوحيد: 306، الباب 43، الحديث 1.

(2) نهج البلاغة: 367، رقم الخطبة: 186.

(3) السورة 21، الأنبياء، الآية: 16.

61

تعالى؟! والبرهان إنّما اقتضى الوجود المستقل لواجب الوجود لا شيئاً آخر، بل البرهان ناف للوجود التعلُّقيِّ عنه، فالذي ينافي البرهان إنّما هو فرض وجود مستقل آخر، فهو الذي ينفي صرافة الوجود المستقل لله تعالى.

نعم، لا شكَّ أنَّ الآيات المشار إليها، والأحاديث التي نقلناها عن عليٍّ(عليه السلام) وما أشبهها تنفي الفهم الساذج لبعض عوام الناس، الذي يعني: كون نسبة الله إلى العالم كنسبة العلل المادية إلى معلولاتها المادية التي تنفصل عن عللها أو كبنّاء بنى بيتاً ثُمَّ انفصل عنه؛ ولكن لا ظهور لها في التصوير الثالث في مقابل التصوير الثاني، ولو فُرِضَ لها ظهور أوّليّ في ذلك لكان ظهوراً منعدماً بحكم العقل. انتهى ما أردنا نقله عن كتابنا في الأُصول.

أقول: وعلى هذا التصوير لوجود المخلوقين ـ وهو الوجود التعلُّقيُّ الذي أشرنا إليه في التصوير الثانيـ يترتَّب تصوير الأمر بين الأمرين في أفعال العباد، فهي في عين انتسابها إلى العباد حقيقة تكون مسبَّبة لله تعالى؛ لأنّ إضافة المولى ـ سبحانه ـ إلى مخلوقيه إضافة إشراقيّة، فمخلوقوه وأفعالهم مخلوقة لله برغم أنّها صادرة منهم وباختيارهم من دون أن يكونوا محالّاً لتلك الأفعال، وتكون تلك الأفعال منتسبة إلى الله فحسب فهي أفعالهم مختارين فيها، ولكن في نفس الوقت يصحّ قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاؤون إلاَّ أن يَشاءَ الله... ﴾(1).


(1) السورة 76، الإنسان، الآية: 30، والسورة 81، التكوير، الآية: 29.

63

 

 

 

 

النقطة الخامسة

ما هو مدى إمكان تنامي البشريّة في سُلَّم العرفان

والذوبان في ذات الله تعالى وتزكية النفس؟

 

وهنا ـ أيضاً ـ نقتصر على نَقْلِ ما ذكرناه في كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل ضمن بحث (دلالة الأمر على الوجوب) تحت الخط، وهو ما يلي:

ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في مُقدّمة كتاب فلسفتنا(1) ما حاصله: أنَّ المحرك الرئيسي للإنسان في كلِّ نشاطاته هو: حبُّ الذات، فهو الواقع الطبيعيُّ الذي يكمن وراء حياة الإنسانيّة كلِّها، ويوجهها بأصابعه، والذي نعبِّر عنه بحبِّ اللذّة وبغض الألم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمَّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة في سبيل أن يلتذَّ الآخرون وينعموا، إلاّ إذا سُلِبت منه إنسانيّته، وأُعطيَ طبيعة جديدة لا تتعشَّق اللذّة ولا تكره الألم، وحتَّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه تخضع في الحقيقة ـ أيضاً ـ لتلك القوة المحرِّكة الرئيسة: (غريزة حبّ الذات).

فالإنسان قد يُؤْثِر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحِّي في سبيل بعض المُثُل والقيم، ولكنَّه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذَّة خاصة ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم من إيثاره لولده وصديقه أو تضحيته في سبيل


(1) راجع فلسفتنا: 35 ـ 50.

64

مَثل من المُثل التي يؤمن بها. وهكذا يمكننا أن نفسِّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانية والإيثار على حدٍّ سواء، ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة: مادِّيّة كالالتذاذ بالطعام والشراب وألوان المتع الجنسية وما إليها، أو معنويّة كالالتذاذ الخُلُقيّ والعاطفيِّ بقيم خُلُقيّة أو أليف روحي، أو عقيدة معيَّنة حين يجد الإنسان تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة جزءاً من كيانه الخاصِّ.

وهذه الاستعدادات التي تهيِّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوِّعة تختلف في درجاتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعليَّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثِّر فيه، فبينما نجد أنَّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد أنَّ ألواناً أُخرى منها ربَّما لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلُّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتُّحها، وغريزة حبِّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تُحدِّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات، فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأنَّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقيّة والعاطفيّة الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته، بينما ظَفِرَ الآخر بهذا اللَّون من التربية، فأصبح يلتذُّ بالقيم الخُلُقيّة والعاطفيّة، ويضحِّي بسائر لذَّاته في سبيلها.

إذن، فكلُّ الويلات المنتشرة في العالم قامت على أساس مجموع أمرين:

الأوّل: هو حبُّ الذات الكامن في نفس الإنسانيّة، أو قل: تعشُّق اللذّة وكره الألم.

والثاني: انحصار المصالح التي تحقِّق اللذّة وتعالج الأَلم في مصالح مادّيّة

65

دنيويَّة ضيّقة يقع التكالب عليها بين الناس والتزاحم والمنافسات، فتحصل ما تحصل من المصائب والمحن والظلم والرزايا التي يضجُّ بها العالم اليوم.

وتدَّعي الشيوعيّة أنَّها ستعالج ذلك عن طريق القضاء على الأمر الأوّل وهو حبَّ الذات، فيصبح الفرد ـ عندئذ ـ متعشِّقاً للمجتمع لا لنفسه.

إلاَّ أنَّ هذا الحلَّ حلٌّ طوبائيٌّ بحت؛ لأنَّ حبُّ الذات ذاتيٌّ للإنسان، ولا معنى لا نتزاعه عنه، إلاَّ بانتزاع ذاتيَّته وتبديلها إلى شيء آخر غير الإنسان.

ويقول الإسلام: إنَّ علاج المشكل يجب أن يكون بمعالجة الأمر الثاني، وذلك بتوسيع نطاق المصالح في دائرة عريضة لا يؤدِّي التسابق فيها إلى التزاحم والتعارض والتكالب، فيحصل كلُّ فرد على مصالحه وملاذّه بقدر ما أُوتيَ له من قوَّة، من دون أن ينقص من الآخر شيء. وبالفعل هذا هو الذي فعله الإسلام بتوسيعه لدائرة المصالح من بُعدين:

أحدهما: بيان أنَّ مصالح الفرد ليست محصورة في دائرة المصالح المادِّيّة الدنيويّة الضيِّقة؛ بل له جَنَّة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين.

والثاني: تربية الجانب الخُلُقي النبيل في الإنسان، وتنمية قابلياته الأخلاقيّة الكامنة في نفسه: من صفات الإيثار، والعطف، والرحمة، والوفاء، والصدق، وما إلى ذلك. وتتصادق كلتا المصلحتين الأُخرويّة والخُلُقيّة في تحصيل رضا الله سبحانه وتعالى.

وهذا هو الاُسلوب المعقول القابل للتطبيق، فإذ أصبح المجتمع لا يهدِف إلاَّ رضا الله سبحانه وتعالى ـ والذي يكون كفيلاً له بكلتا اللذَّتين وجامعاً له المصلحتين ـ تنتهي كلُّ ألوان الظلم والتعسف والويلات والدركات، ويسود العالَم العدل والرفاه والخيرات والبركات.

أقول: قد يورد على ذلك: بأنَّه لم يبقَ إذن فرق في القيمة المعنويّة والخُلُقيّة، بين