453

 

 

 

 

الفصل الثامن والعشرون

حسـن الخُــلُق

 

قال تعالى:

1 ـ ﴿فَبِمَا رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(1).

2 ـ ﴿بِسْمِ الله الرَحْمن الرَحِيم ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * وَإِنَّ لَكَ لاََجْراً غَيْرَ مَمْنُون * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم﴾(2).

3 ـ ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ...﴾(3).

قد يُرى من نافلة الحديث التحدُّث عن حسن الخُلُق في فصل مستقل؛ لأنَّ الكتاب كلَّه في الأخلاق، فما معنى إفراد باب للحديث عن حسن الخُلُق ؟ !

إلاّ أنَّ حسن الخُلُق وإن كان قد يُطلَق على جميع محامد الأخلاق، والإسلام كلُّه أخلاق، وكأنَّ هذا المعنى العام هو المقصود بالمرويّ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله):


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 159.

(2) السورة 68، القلم، الآيات: 1 ـ 4.

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 61.

454

«إنَّما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق»(1).

وبقوله المرويّ أيضاً: «بُعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها»(2) إلاّ أنَّه قد يُطلق على خصوص حسن المعاشرة والتعامل مع الخَلْق، وقد يضاف إليه الخالق، إلاّ أنّ الثاني يعود مرّة أُخرى إلى جانب الخُلُق بالمعنى العام؛ فانَّه جميعاً يبعث بمرضاة الخالق، فيدخل في حسن التعامل مع الخالق. فنحن ـ هنا ـ نقصد بحسن الخُلُق خصوص الأوّل، أعني: حسن المعاشرة والتعامل مع الخَلْق.

ونشير ـ هنا ـ إلى الخطأ الوارد عن العرفاء المنحرفين عن عرفان أهل البيت(عليهم السلام)حيث يقول القائل منهم: «إنَّ حسن المعاشرة مع الخَلْق يرتبط بمعرفتك مقام الخَلْق، إنّهم بأقدارهم مربوطون، وفي طاقتهم محبوسون، وعلى الحكم موقوفون. فتستفيد بهذه المعرفة ثلاثة أشياء: أمن الخَلْق منك حتّى الكلب، ومحبَّة الخَلْق إياك ونجاة الخَلْق بك»(3).

فترى أنَّه ربط حسن الخُلُق مع الناس بالاعتقاد بالجبر، وأنَّهم جميعاً ـ إذن ـ معذورون؛ لأنَّهم مربوطون بأقدارهم، وموقوفون على حكم القضاء بشأنهم، فعلى ماذا نتأذَّى منهم أو نجازيهم بالسوء. فالمفروض أن يأمن الخَلْق جميعاً منّا. وهذا معنى ما يقال: من أنّ الصوفي يؤمن بالتصالح مع جميع الناس.

أقول: ومع القول بالجبر لا يبقى موضوع للأخلاق وللحسن والقبح، ولا يبقى معنى للتبرؤ من أعداء الله الذي هو فرع مهم من فروع الدين. ولئن كان من الضروري أمن الناس جميعاً من المؤمن فأين الجهاد، وأين الحدود، وأين التعزيرات ؟ !


(1) البحار 16 / 210، و 71 / 382.

(2) المصدر السابق: ص 287، و 69 / 405.

(3) راجع منازل السائرين لعبد الله الأنصاري قسم الأخلاق باب الخلق.

455

وعلى أيّة حال، فلنذكر لك هنا نموذجاً من روايات حسن الخُلُق الواردة عن أهل اليبت(عليهم السلام):

1 ـ عن محمّد بن مسلم بسند صحيح، عن الباقر(عليه السلام) قال: «إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً»(1).

والمقصود بذلك: إمّا كون حسن الخُلُق كاشفاً عن كمال الدين، وأنّ مَن يكمل دينه يحسن أخلاقه، أوكون حسن الخُلُق هو نوع كمال للدين، وأنَّ الدين به يكمل.

2 ـ عن عليِّ بن الحسين(عليهما السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ما يوضع في ميزان امرى يوم القيامة أفضل من حسن الخُلُق»(2).

3 ـ عن الصادق(عليه السلام): «ما يقدم المؤمن على الله ـ عزَّوجلَّ ـ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله ـ تعالى ـ من أن يسع الناس بخُلُقه»(3).

4 ـ عن ذريح بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنَّ صاحب الخُلُق الحسن له مثل أجر الصائم القائم»(4).

5 ـ عن عبدالله بن سنان، عن الصادق(عليه السلام): «البِرّ وحسن الخُلُق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار»(5).

6 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنَّ الخُلُق منيحة يمنحها الله ـ عزَّ وجلَّ ـ خَلْقه: فمنه سجيّة، ومنه نيّة. فقلت: فأ يّتهما أفضل ؟ فقال: صاحب السجيّة، هو مجبول لا يستطيع غيره. وصاحب النيّة يصبر على الطاعة تصبّراً، فهو أفضلهما»(6).


(1) و (2) الكافي: 2 / 99.

(3) المصدر السابق: ص 100.

(4) المصدر السابق.

(5) المصدر السابق.

(6) المصدر السابق.: ص 101.

456

7 ـ عن أبي عبيدة الحذّاء، عن الصادق(عليه السلام) قال: «أُتي النبيّ(صلى الله عليه وآله)باُسارى فأمر بقتلهم خلا رجل من بينهم. فقال الرجل: بأبي أنت وأُمّي يا محمَّد كيف أطلقت عنّي من بينهم ؟ فقال: أخبرني جبرئيل عن الله ـ عزَّوجلَّ ـ أنَّ فيك خمس خصال يحبّه الله عزَّوجلَّ ورسوله: الغيرة الشديدة على حرمك، والسخاء، وحسن الخُلُق، وصدق اللسان، والشجاعة. فلمّا سمعها الرجل أسلم، وحسن إسلامه، وقاتل مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) قتالاً شديداً حتّى استشهد»(1).

وبودِّي أن أزيَّن الكتاب ـ هنا ـ بإشارة عابرة إلى خُلُق رسول الله(صلى الله عليه وآله)الذي لا يمكن أن يوصف، وكيف يمكن أن يُوصَف خُلُق من قال بشأنه الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم﴾. وهذه الإشارة ضمن أمرين:

الأوّل: نقل عبارة عجبتني عن الطبرسي(رحمه الله) وهي ما يلي:

«من عجيب أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه كان أجمع الناس لدواعي الترفع، ثُمَّ كان أدناهم إلى التواضع؛ وذلك أنَّه(صلى الله عليه وآله) كان أوسط الناس نسباً، وأوفرهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم، وأزكاهم وأفصحهم. وهذه كلُّها من دواعي الترفع. ثمّ كان من تواضعه أنَّه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح (يعني البعير يستقى عليه) ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يدعو إلى الله من دون زأر (أي: نهر) ولا كهر (أي: عبس الوجه) ولا زجر. ولقد أحسن مَن مدحه في قوله:

فَما حَمَلَتْ مِنْ نَاقَة فَوْقَ ظَهْرِها
أَبَرَّ وأوْفى ذِمَّةً مِنْ مُحمَّدِ»(2)

والثاني: قِصّتان طريفتان عن خُلُق رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهما ما يلي:


(1) البحار 71 / 384 ـ 385.

(2) البحار 16 / 199 نقلاً عن تفسير الطبرسي، وهو موجود في تفسير الطبرسي: مج 1 / 2 / 428 ـ 429.

457

الأُولى: ما ورد بسند تام عن أبان الأحمر، عن الصادق(عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد بُلِيَ ثوبه ـ يعني: ثوب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ فحمل إليه اثني عشر درهماً. فقال(صلى الله عليه وآله): يا عليّ خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه. قال عليٌّ (عليه السلام)فجئت إلى السوق، فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فنظر إليه فقال: يا عليّ غير هذا أحبُّ إليَّ. أترى صاحبه يقيلنا ؟ فقلت: لا أدري، فقال: انظر. فجئت إلى صاحبه فقلت: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)قد كره هذا، يريد ثوباً دونه، فأقلنا فيه، فردّ عليّ الدراهم. وجئت بها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما شأنك ؟ قالت: يا رسول الله إنَّ أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة، فضاعت، فلأ أجسر أن أرجع إليهم، فأعطاها رسول الله(صلى الله عليه وآله) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلى أهلك. ومضى رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى السوق، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم، ولبسه وحمد الله. وخرج فرآى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه الله من ثياب الجنّة، فخلع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قميصه الذي اشتراه، وكساه السائل. ثُمَّ رجع إلى السوق، فاشترى بالأربعة التي بقت قميصاً آخر، فلبسه وحمد الله. ورجع إلى منزله فإذا الجارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما لك لا تأتين أهلك ؟ قالت: يا رسول الله إنِّي قد أبطأت عليهم أخاف أن يضربوني، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): مرّي بين يديّ، ودلّيني على أهلك. وجاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى وقف على باب دارهم، ثُمّ قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه، فأعاد السلام، فلم يجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أوّل السلام والثاني ؟ فقالوا: يا رسول الله سمعنا كلامك(1) فأحببنا أن نستكثر منه. فقال


(1) الظاهر أنَّ الصحيح: (سلامك) كما هو الوارد في البحار: 16 / 215.

458

رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤذوها، فقالوا: يا رسول الله هي حرّة لممشاك. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) الحمد لله: ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من هذه: كسا الله بها عريانين، وأعتق نسمة»(1).

الثانية: عن موسى بن جعفر(عليهما السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن أميرالمؤمنين (عليهم السلام) «إنَّ يهودياً كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دنانير فتقاضاه، فقال له: يا يهوديّ، ما عندي ما اُعطيك، فقال: فإنِّي لا أُفارقك يا محمّد حتّى تقضيني، فقال: إذن أجلس معك. فجلس معه حتّى صلَّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به ؟ فقالوا: يا رسول الله يهوديّ يحبسك ؟ ! فقال(صلى الله عليه وآله): لم يبعثني ربِّي عزَّوجلَّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أنّ لا إله إلاّ الله، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإنِّي قرأت نعتك في التوراة: محمّد بن عبدالله مولده بمكّة، ومهاجره بطيبة، وليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا متريّن بالفحش، ولا قول الخناء، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنَّك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله. وكان اليهودي كثير المال ...»(2).

أختم الحديث عن حسن الخُلُق بالإشارة إلى نموذج رائع من خُلُق الإسلام، وهو: ضرورة البرّ بالوالدين بأعلى مستويات البِرّ اللذين هما خالقان مجازيان للإنسان، أي: أنَّهما من المقدِّمات الإعداديّة لوجوده، وقد يكون لا لشيء إلاّ لشهوة بينهما. وقرن شكرهما في القرآن بشكر الله والإحسان إليهما بعبادة الله الذي هو الخالق الحقيقي، في حين أنَّه في الغرب المتمدّن اليوم لا يسأل الولد عن


(1) الخصال: ص 490 ـ 491.

(2) البحار 16 / 216 ـ 217.

459

حال أبويه العجوزين المطروحين في دور العجزة أو المستشفيات إلاّ بعد موتهما، فيراجعهما بعد الموت؛ لأجل بيع جسدهما للمستشفيات !!!

قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(1).

2 ـ ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(2).

فقد قرن شكرهما بشكر الله حتّى ولو كانا مشركين؛ وذلك بقرينة استثناء إطاعتهما في الشرك. وهذه القرينة وردت في آية اُخرى ـ أيضاً ـ في وصية الإنسان بوالديه حسناً، وهي قوله تعالى:

3 ـ ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(3).

فيا ترى هل يوجد سلطان في الدنيا يأمر أحداً بالإحسان إلى والد له عدوّ لذلك السلطان ؟ ! نعم، هذا هو الخُلُق الرفيع للإسلام الذي لايضاهيه خلق.

 


(1) السورة 17، الإسراء، الآيتان: 23 ـ 24.

(2) السورة 31، لقمان، الآيتان: 14 ـ 15.

(3) السورة 29، العنكبوت، الآية: 8 .

460

 

 

461

 

 

 

 

الفصل التاسع والعشرون

ا لتــواضــع

 

قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً﴾(1).

2 ـ ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾(2).

3 ـ ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الاَْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَْصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(3).

التواضع هو: عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل الله سبحانه وتعالى، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين. ويقابله التكبُّر، وهو: التعالي على الله سبحانه، وهذا كفر بالله، أو على رسوله أو الإمام، وهذا كفر بالرسول أو الإمام، أو على المؤمنين، وهذا هو


(1) السورة 25، الفرقان، الآية: 63.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 37.

(3) السورة 31، لقمان، الآيتان: 18 ـ 19.

462

التكبُّر المألوف بين المسلمين الذين لم يهذِّبوا أنفسهم، وهي معصية عظيمة.

وفرق التكبُّر عن الكِبر هو: أنّ الكِبْر مجرّد تعاليه على غيره في نفسه. أمّا التكبُّر فهو: إظهار الكِبْر وإبرازه بجوارحه. وفرق الكبر عن العُجْب: أنّ الكِبْر يكون بالقياس إلى غيره، وهو الله أو الرسول والإمام أو المؤمنون. والعُجْب ما يكون في الإنسان من رؤيته إلى نفسه بالعظمة والزهو والتبختر بذلك ولو من دون قياس بغيره، وهذا ـ أيضاً ـ من المعاصي العظيمة.

وقد ورد في روايات عديدة: أنَّ الكِبْر خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، ويحرم منازعته فيه.

والسرُّ في ذلك واضح، وهو: أنَّ الوحيد الخالي من كلِّ نقص هو الله تعالى، فهو الذي يستحقُّ الكبرياء.

فعن العلاء بن فضيل بسند تام، عن الصادق(عليه السلام)، عن أبيه الباقر(عليه السلام): «العِزّ رداء الله، والكِبْر إزاره، فمَنْ تناول شيئاً منه أكبَّه الله في جهنَّم»(1).

وعن معمر بن عطاء، عن الباقر(عليه السلام) قال: «الكِبْر رداء الله، والمتكبِّر ينازع الله رداءه»(2).

وعن ليث المرادي، عن الصادق(عليه السلام) قال: «الكِبْر رداء الله، فمَنْ نازع الله شيئاً من ذلك أكبَّه الله في النار»(3).

وبما أنَّ الكبرياء تختصّ بالله ـ سبحانه وتعالى ـ فكأنَّه لهذا جعل الكِبْر في بعض الروايات مساوقاً لأدنى الإلحاد. فعن حكيم قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن


(1) الكافي: 2 / 309.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق: ص 310.

463

أدنى الإلحاد فقال: إنَّ الكِبْر أدناه»(1).

والعُجب من جملة أسباب الكبر، فإنَّ من أُعجب بنفسه تعالى على غيره. والروايات في ذمّ العُجْب كثيرة، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بينما موسى(عليه السلام) جالساً إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلمَّا دنا من موسى(عليه السلام) خلع البرنس، وقام إلى موسى فسلّم عليه، فقال له موسى: مَنْ أنت ؟

فقال: أنا إبليس.

قال: أنت فلا قرّب الله دارك.

قال: إنِّي إنَّما جئت لأُسلِّم عليك لمكانك من الله.

قال: فقال له موسى(عليه السلام): فما هذا البرنس ؟

قال: به أختطف قلوب بني آدم.

فقال موسى (عليه السلام): فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟

قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه (يعني: أنَّ هذه الحالة توجب الغرور والغفلة وعدم الاكتراث بعظمة الذنب. فمن الطبيعي أن يستحوذ الشيطان على صاحبها). وقال: قال الله عزّوجلَّ لداود(عليه السلام): يا داود بشِّر المذنبين، وأنذر الصدّيقين.

قال داود: كيف أُبشّر المذنبين، وأُنذر الصدّيقين؟

قال: يا داود بشّر المذنبين أ نِّي أقبل التوبة، وأعفو عن الذنب (يعني: ليتوبوا)، وأنذر الصدّيقين ألاّ يعجبوا بأعمالهم؛ فإنَّه ليس عبدٌ أنصِبه للحساب إلاَّ هلك»(2).

2 ـ وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر


(1) المصدر السابق: ص 309.

(2) الكافي 2 / 314.

464

فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صدِّيق والعابد فاسق؛ وذلك أنَّه يدخل العابد المسجد مدلاًّ بعبادته يدلُّ بها، فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عزّوجلّ ممَّا صنع من الذنوب»(1).

ويشبه هذا الحديث ما نقله في المحجَّة(2) عن إحياء العلوم من «أنَّ رجلاً في بني إسرائيل يقال له: خليع بني إسرائيل؛ لكثرة فساده، مرَّ برجل آخر يقال له: عابد بني إسرائيل، وكانت على رأس العابد غمامة تظلُّه، فلمَّا مرَّ الخليع به قال الخليع في نفسه،: أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل، فلو جلست إليه لعلَّ الله يرحمني، فجلس إليه. فقال العابد في نفسه: أنا عابد بني إسرائيل، وهذا خليع بني إسرائيل، كيف يجلس إليَّ. فأنف منه وقال له: قم عنّي. فأوحى الله إلى نبيِّ ذلك الزمان مرهما فليستأنفا العمل، فقد غفرت للخليع، وأحبطت عمل العابد. وفي حديث آخر: فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع».

وأيضاً من أسباب التكبُّر الإحساس بالصَغار والذلِّ والهوان، فكأنَّه يريد أن يجبر ذلك بالكِبْر، أو ينتقم من الناس الذين يرى نفسه حقيراً عندهم بالتكبر عليهم كما ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «ما من رجل تكبَّر أو تجبَّر إلاَّ لذلَّة وجدها في نفسه»(3).

ومن أسباب علاج الكِبْر علاج سببه؛ فإن كان سببُ الكِبْرِ الإحساسَ بالذلِّ والصَغار، فليعرف صاحبه أنّ الله ـ تعالى ـ خَلَقَ البشر عزيزاً كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ...﴾(4)، وقال: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾(5).


(1) المصدر السابق: ص 314.

(2) المحجة 6 / 239.

(3) الكافي 2 / 312.

(4) السورة 17، الإسراء، الآية: 70.

(5) السورة 44، الدخان، الآية: 49.

465

وإنَّما الإنسان هو الذي يذلُّ نفسه بالكفر أو العصيان. وليس الذلُّ ـ حقيقةً ـ عبارةً عن النقصان في المال أو الولد، أو سلامة البدن، أو صباحة الوجه، أو الجاه والجلال عند أهل الدنيا أو ما إلى ذلك. وإن كان ذلُّه بالفسق، فعليه ترك الفسق. وإن كان سبب الكِبْرِ إعجابَه بنفسه، فليدقِّق في معايبه ونقائصه يرها أكثر من كماله، بل قد ينكشف له أنَّ إعجابه لم يكن بالكمال، بل بالنقص، كالإعجاب بتغلُّبه على حقِّ فلان بالمكر والظلم، فيرى نفسه بذلك ذكيّاً أو شجاعاً، ولو كان إعجابه ـ حقّاً ـ بكمال، فليلتفت إلى أنَّ عاقبة الأمر مستورة عنه. وقد يؤدِّي نفس هذا الإعجاب أو أيِّ سبب آخر إلى فقده لذلك الكمال كما ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «العَجب كلُّ العجب ممَّن يُعْجب بعمله وهو لا يدري بما يُختَم له. فمن اُعجب بنفسه وفعله فقد ضلَّ عن نهج الرشاد، وادَّعى ما ليس له، والمدّعي من غير حقٍّ كاذب وإن خفي دعواه وطال دهره، فإنَّه أوَّل ما يُفعَل بالمعجب نزع ما أُعجب به ؛ ليعلم أنَّه عاجز حقير ويشهد على نفسه؛ لتكون الحُجَّة عليه أوكد كما فُعِلَ بإبليس ...»(1).

وما أقرب الكِبْر إلى العلماء غير الربَّانيين. وتوضيح ذلك: أنَّ العالم الربَّاني هو العالم الذي تجتمع فيه صفتان:

الأُولى: أن يكون مهمُّ علمه الذي يعتني به وينمِّيه معرفةَ نفسه ومعرفة ربِّه «مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربَّه ...»(2). وهذا العلم لا يزيد العالم إلاَّ خضوعاً وخشوعاً؛ لأنَّه بغوره في معرفة النفس تنكشف له نقائصه التي لا تتناهى(3) أمام ما يغور فيه


(1) المحجة 6 / 275.

(2) البحار 2 / 32، الحديث 22.

(3) فمعرفته بنقائصه تمنعه عن الكِبْر.

466

ـ أيضاً ـ من عظمة الربِّ التي لا تتناهى(1) وتكون باقي علومه في حاشية هذا العلم الأصلي. فأوَّل العلم معرفة الجبَّار، وآخر العلم تفويض الأمر إليه.

والثانية: أن يقترن علمه بتهذيب النفس؛ فإنَّ العلم بلا تهذيب للنفس يضرُّ ولا ينفع، فإنَّ العلم سيف ذو حدَّين؛ لأنَّ معرفة الأُمور كما تُعين الشخص في وضع الشيء في محلِّه؛ إذ لولا العلم بالشيء وبمحله لما استطاع إحراز وضع الشيء في محلِّه، كذلك تُعينه في وضع الشيء في غير محلِّه؛ إذ لولا العلم بالشيء وبمحلِّه وغير محله لما استطاع إتقان وضع الشيء في غير محلِّه. ويبقى تهذيب النفس وعدمه هو الذي يُعيِّن للعالم أن يصرف علمه في جانب العدل أو في جانب الظلم، ألا ترى أنَّ علم الأسلحة ـ مثلاً ـ يستفيد منه العادل لإقامة العدل ولحرب أعداء الله، ويستفيد منه الظالم للظلم ولمحاربة المؤمنين. وهذا معنى ما قلنا: من أنَّ العلم سيف ذو حدّين. والعلم إن لم يقترن بتهذيب النفس أوجب التكبُّر، وإن اقترن بتهذيب النفس أوجب التواضع؛ لأنَّه مهما تقدّم الإنسان في العلم انكشف أمامه واد أوسع للجهل، وعرف حقيقة قوله تعالى: ﴿... وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً﴾(2)وعرف أنَّ ما أُوتي من العلم إنَّما هو بتوفيق الرب وليس من تلقاء نفسه، ومتى ما أراد الله أن ينزعه عنه لنزعه، فهو ليس بأعظم من الرسول(صلى الله عليه وآله) الذي قال له الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً﴾(3).

وأيضاً ما أقرب الكِبْر إلى العبُّاد والزُّهاد المغرورين بعبادتهم وزهدهم دون المخلصين في عملهم. وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام) قال: «أتى عالم عابداً


(1) فيخضع لدى ما يرى نفسه لا شيء في مقابل الربّ. وهذا ـ أيضاً ـ يمنعه عن الكِبْر.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 85.

(3) السورة 17، الإسراء، الآيتان: 86 ـ 87 .

467

فقال له: كيف صلاتك ؟

فقال: مثلي يُسأل عن صلاته ؟ ! وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا.

قال: فكيف بكاؤك ؟

قال: أبكي حتّى تجري دموعي.

فقال له العالم: فإنَّ ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدلٌّ، إنّ المدلَّ لا يصعد من عمله شيء»(1).

أمّا مَنْ كان عابداً لله عن علم ووعي، ولم تكن عبادته عبادةَ الجهلاء، وكان مخلصاً في عمله، فهو بعيدٌ عن الكِبْر أشدّ البعد.

وناهيك ـ إذن ـ من الأنبياء والمرسلين. ومن هنا نرى أن العلاَّمة المجلسي (رحمه الله)يأوّل الرواية الواردة في قِصَّة يوسف الصدّيق على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام، فقد ورد في الكافي عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنَّ يوسف(عليه السلام) لمَّا قدم عليه الشيخ يعقوب(عليه السلام) دخله عزُّ المُلْك، فلم ينزل إليه، فهبط جبرئيل(عليه السلام)، فقال: يا يوسف ابسط راحتك (يعني: باطن الكفّ) فخرج منها نور ساطع فصار في جوّ السماء، فقال يوسف(عليه السلام): يا جبرئيل ما هذا النور الذي خرج من راحتي ؟ فقال: نزعت النبوَّة من عقبك عقوبة لما لم تنزل إلى الشيخ يعقوب، فلا يكون من عقبك نبيّ»(2).

قال المجلسي(رحمه الله): «ينبغي حمله على أنَّ ما دخله لم يكن تكبُّراً وتحقيراً لوالده؛ لكون الأنبياء مُنزَّهين عن أمثال ذلك، بل راعى فيه المصلحة؛ لحفظ عزَّته عند عامَّة الناس؛ لتمكِّنه من سياسة الخَلْق، وترويج الدين؛ إذ كان نزول الملك عندهم لغيره موجباً لذُلِّه. وكان رعاية الأدب للأب مع نبوَّته ومقاساة الشدائد لحبّه أهمَّ


(1) الكافي 2 / 313.

(2) الكافي 2 / 311 ـ 312.

468

وأولى من رعاية تلك المصلحة، فكان هذا منه(عليه السلام) تركاً للأولى، فلذا عوتب عليه، وخرج نور النبوَّة من صلبه؛ لأنَّهم لرفعة شأنهم وعلوِّ درجتهم يعاتبون بأدنى شيء. فهذا كان شبيهاً بالتكبُّر ولم يكن تكبُّراً»(1).

أقول: هذا الحمل إنَّما يكون بعد فرض صدق الرواية، إلاَّ أنَّ صدق الرواية عندي بعيد.

وعلى أيّ حال، فعلى عكس ما قلناه: من أنَّ العلم والعبادة يوجبان الكِبْر حينما لا يكونان جامعين للشرائط، نقول هنا: إنَّهما يوجبان التواضع والخشوع حينما يكونان إلهيين واجدين للشرائط. وإن أردت أن تقف على حقيقة ذلك، فاستمع إلى حقيقة العلم وحقيقة العبوديَّة وأثرهما عن لسان الإمام الصادق(عليه السلام) في رواية طريفة مرويَّة في البحار(2) عن عنوان البصري (وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع وتسعون سنة) قال: «كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلمَّا قدم جعفر الصادق(عليه السلام) المدينة اختلفت إليه، وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك، فقال لي يوماً: إنِّي رجل مطلوب، ومع ذلك لي أوراد في كلِّ ساعة من آناء الليل والنهار، فلا تشغلني عن وردي، وخذ عن مالك، واختلف إليه كما كنت تختلف إليه. فاغتممت من ذلك، وخرجت من عنده، وقلت في نفسي: لو تفرَّس فيَّ خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه. فدخلت مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)وسلَّمت عليه، ثُمَّ رجعت من الغد إلى الروضة وصلَّيت فيها ركعتين، وقلت: أسألك يا الله يا الله أن تعطف عليَّ قلب جعفر، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم. ورجعت إلى داري مغتماً، ولم أختلف إلى مالك بن أنس؛ لما أُشرب قلبي من حبِّ جعفر، فما خرجت من داري إلاّ إلى الصلاة المكتوبة حتّى


(1) مرآة العقول 10 / 215.

(2) البحار 1 / 224 ـ 226.

469

عيل صبري، فلمَّا ضاق صدري تنعَّلت وتردَّيت وقصدت جعفراً وكان بعدما صلَّيت العصر، فلمَّا حضرت باب داره استأذنت عليه، فخرج خادم له فقال: ما حاجتك ؟ فقلت: السلام على الشريف فقال: هو قائم في مصلاَّه. فجلست بحذاء بابه، فما لبثت إلاّ يسيراً إذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة الله. فدخلت وسلَّمت عليه، فردَّ السلام، وقال: اجلس غفر الله لك، فجلست، فأطرق مليَّاً ثُمَّ رفع رأسه وقال: أبو مَنْ ؟ قلت: أبو عبدالله، قال: ثبَّت الله كنيتك، ووفَّقك يا أبا عبدالله، ما مسألتك ؟ فقلت في نفسي: لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان كثيراً، ثُمَّ رفع رأسه ثُمَّ قال: ما مسألتك ؟

فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك عليَّ، ويرزقني من علمك، وأرجو أنّ الله ـ تعالى ـ أجابني في الشريف ما سألته.

فقال: يا أبا عبدالله ليس العلم بالتعلُّم إنَّما هو نور يقع في قلب مَنْ يريد الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يهديه(1)، فإن أردت العلم فاطلب أوَّلاً في نفسك حقيقة العبوديَّة(2)، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهِّمك.

قلت: يا شريف، فقال: قل: يا أبا عبدالله، قلت: يا أبا عبدالله ما حقيقة العبوديَّة ؟

قال: ثلاثة أشياء: أن لايرى العبد لنفسه فيما خوَّله الله مُلكاً؛ لأنَّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولايدبِّر العبد لنفسه تدبيراً (3) وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوَّله الله ـ تعالى ـ مُلكاً، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله ـ تعالى ـ أن


(1) كأنَّه إشارة إلى ما قلناه: من أنَّ رأس العلم معرفة النفس والربِّ.

(2) قال الله تعالى: ﴿... وَاتقُوا اللهَ وَيعلِّمُكُمُ اللهُ...﴾ السورة 2، البقرة، الآية: 282.

(3) يُحمل على معنى التوكُّل غير المنافي لمأموريتنا بالتذرّع بالأسباب الظاهرية بالقدر المعقول.

470

ينفق فيه، وإذا فوَّض العبد تدبير نفسه على مدبِّره، هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه، لايتفرَّغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا اكرم الله العبد بهذه الثلاثة، هان عليه الدنيا وإبليس والخَلْق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزَّاً وعلوَّاً (1)، ولا يدع أيامه باطلاً. فهذا أوَّل درجة التُقى، قال الله تبارك وتعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(2).

قلت: يا أبا عبدالله أوصني.

قال: أُوصيك بتسعة أشياء، فإنَّها وصيَّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفِّقك لاستعماله(3): ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإيَّاك والتهاون بها.

قال عنوان: ففرَّغت قلبي له.

فقال: أمَّا اللواتي في الرياضة: فإيَّاك أن تأكل ما لا تشتهيه(4)؛ فإنَّه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلاَّ عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً، وسمِّ الله، واذكر حديث الرسول(صلى الله عليه وآله): ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرَّاً من بطنه، فإن كان ولابدَّ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه.

وأمَّا اللواتي في الحلم فمَنْ قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومَنْ شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل(5) الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومَنْ


(1) فيا تُرى إنّ عالمـاً عابداً كهذا هل يعقل بشأنه التكبُّر ؟ !

(2) السورة 28، القصص، الآية: 83 .

(3) الظاهر أنَّ الصحيح لاستعمالها.

(4) كأنَّ المقصود: الأكل من دون شهيَّة الأكل.

(5) لعلَّ الصحيح: أسأل، أي: من دون حرف الفاء.

471

وعدك بالخنى(1) فعده بالنصيحة والدعاء.

وأمَّا اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإيَّاك أن تسألهم تعنُّتاً وتَجْرِبة، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً. قم عنِّي يا أبا عبدالله فقد نصحت لك، ولا تفسد عليَّ وردي؛ فإنِّي امرؤ ضنين بنفسي، والسلام على مَنْ اتَّبع الهدى». انتهى الحديث.

وممَّا يمنع تورُّط العلماء بالله في التكبُّر علمهم بأنَّ العلم حُجَّة، ومن هنا يكون أمر العالم من هذه الناحية أخطر من أمر الجاهل. وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «...أنَّه يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد...»(2).

وعن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «مَنْ ازداد علماً ولم يزدد هدىً لم يزدد من الله إلاّ بعداً»(3).

وعنه(صلى الله عليه وآله): « أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه »(4).

وعن مسعدة بن زياد بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)«أنَّ عليَّاً(عليه السلام) قال: إنَّ في جهنَّم رحىً تطحن خمساً، أفلا تسألون ما طحنها ؟ فقيل له: فما طحنها يا أميرالمؤمنين ؟ قال: العلماء الفجرة، والقُرَّاء الفسقة والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة...»(5).

وأختم حديثنا عن التواضع بذكر رواية مسعدة بن صدقة عن الصادق(عليه السلام)قال: «أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت له


(1) فُسِّر بالفحش في الكلام.

(2) البحار 2 / 27.

(3) المصدر السابق: 2 / 37.

(4) المصدر السابق: 38.

(5) المصدر السابق.: ص 107، والخصال: 296.

472

جالس على التراب، وعليه خُلقان الثياب، قال: فقال جعفر(عليه السلام): فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلمَّا رأى ما بنا وتغيُّر وجوهنا قال: الحمد لله الذي نصر محمَّداً وأقرَّ عينه، ألا أُبشِّركم ؟ فقلت: بلى أيُّها الملك، فقال: إنَّه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك، فأخبرني أنَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ قد نصر نبيَّه محمَّداً (صلى الله عليه وآله)، وأهلك عدوَّه، وأُسر فلان وفلان وفلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك لكأ نِّي أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيِّدي هناك وهو رجل من بني ضمرة. فقال له جعفر: أيُّها الملك، فمالي أراك جالساً على التراب، وعليك هذه الخُلقان ؟ ! فقال له: يا جعفر، إنَّا نجد فيما أنزل الله على عيسى(عليه السلام)أنَّ من حقِّ الله على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمة، فلمَّا أحدث الله ـ عزَّوجلَّ ـ لي نعمة بمحمَّد(صلى الله عليه وآله) أحدثت لله هذا التواضع. فلمَّا بلغ النبيَّ(صلى الله عليه وآله)قال لأصحابه: إنَّ الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدَّقوا يرحمكم الله، وإنَّ التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفو يزيد صاحبه عِزَّاً، فاعفوا يعزّكم الله»(1).

 


(1) الكافي 2 / 121.

473

 

 

 

 

الفصل الثلاثون

ا لا نبســا ط

 

ذكر عبدالله الأنصاري(1): «الانبساط إرسال السجيَّة، والتحاشي من وحشة الحشمة، وهو السير مع الجبلَّة... إلى أن قال: الانبساط مع الحقِّ وهو أن لا يجنِّبك خوف، ولا يحجبك رجاء، ولا يحول بينك وبينه آدم وحوَّاء...».

وذكر شارح كتابه عبدالرزَّاق الكاشاني(2): «الانبساط لايجتمع مع الخوف والرجاء؛ فإنَّ الخوف والرجاء في حال البداية ومقام النفس والاحتجاب، والانبساطُ حال العارفين وأرباب القلوب والتجلِّيات، والخوف يحكم بالتجنُّب والبُعد، والانبساطُ لا يكون إلاّ مع القرب، وفي بعض النسخ (يعني: بعض نسخ كتاب منازل السائرين): أن لا يحبسك خوف، وفي بعضها لا يجبِّنك من الجُبْن، وهي متقاربة في المعنى؛ فإنَّ الخوف يورث الجُبْن والإحجام والانقباض، وكلُّها تنافي الانبساط، وكيف لا تنافي وهو من عالم الجمال، والخوف وما يلازمه من عالم الجلال. وكذلك الرجاء؛ فإنَّ صاحب الرجاء متوقِّع شيئاً، فلابدَّ له من التملُّق حتّى تقضى حاجته، فلا يستطيع أن ينبسط، وصاحب الانبساط مسترسل على حكم الجبلَّة والغريزة غير متكلِّف ولا متملِّق. «ولا يحول بينك وبينه آدم وحوّاء»


(1) في منازل السائرين، قسم الأخلاق، الباب العاشر باب الانبساط.

(2) في شرحه لمنازل السائرين: 112 ـ 113.

474

أي: لا يتوسَّط بين صاحب الانبساط وبين ربِّه خَلْق؛ لغاية قربه، كقولهم ما للتراب وربِّ الأرباب، فهو بصفاء الفطرة في مقام القلب، مجرَّد عن مزاحمة أحكام النشأة والصفات البشريَّة والنفسانيَّة، متوسِّل بالاتِّصال الأزلي، فلا يتوسَّل إلى ربِّه إلاَّ بربِّه، فأين هو من مزاحمة الماء والطين ؟!» انتهى ما أردنا نقله من كلام الكاشاني.

وقد جعل عبدالله الأنصاري(1) وكذلك الغزالي(2) من أمثلة الانبساط قول موسى(عليه السلام): ﴿... إِنْ هِيَ إلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء ...﴾ إلاّ أنَّ الشارح الآخر لكتاب منازل السائرين وهو عفيف الدِّين التلمساني(3) تنبَّه إلى أنَّه متى ما حمل لفظ الفتنة على الاختبار(4) لم يبقَ له ما يدلُّ على الانبساط.

وقال الغزالي(5): «اعلم أنَّ الخوف عبارة عن تأ لُّم القلب واحتراقه بسبب توقُّع مكروه في الاستقبال. وقد ظهر هذا في بيان حقيقة الرجاء. ومن أنس بالله، وملك الحقُّ قلبه، وصار ابن وقته مشاهداً لجمال الحقِّ على الدوام، لم يبقَ له التفات إلى المستقبل، فلم يكن له خوف ولا رجاء، بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء، فإنَّهما زمامان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعوناتها. وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال: «الخوف حجاب بين الله ـ تعالى ـ وبين العبد». وقال أيضاً: إذا ظهر الحقُّ على السرائر لا يبقى فيها فضلة لرجاء ولا لخوف. وبالجملة فالمحبُّ إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق، كان ذلك نقصاً في


(1) في المصدر السابق عنه.

(2) في كتاب الإحياء 4 / 315.

(3) ص: 273. انتشارات بيدار بقم.

(4) من قبيل قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَيُفْتَنُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ السورة 29، العنكبوت، الآيتان: 2 ـ 3 (لا من قبيل قولنا: الملاحم والفتن).

(5) في المصدر السابق عنه: ص 147.

475

الشهود، وإنَّما دوام الشهود غاية المقامات» انتهى كلام الغزالي.

أقول: قوله: «الخوف حجاب بين الله ـ تعالى ـ وبين العبد» يقصد به: الحجاب النوري؛ فإنَّهم يقسِّمون الحجاب إلى قسمين: حجاب ظلماني كشهوات النفس، وحجاب نوراني كالخوف من الله تعالى. وهم يقولون: إنَّ الخوف من مقامات العوام، وليس من مقامات أهل الخصوص.

وقال الغزالي(1): «اعلم أنَّ الأُنس إذا دام وغلب واستحكم، ولم يشوِّشه قلق الشوق، ولم ينغِّصه خوف التغيّر والحجاب، فإنَّه يثمر نوعاً من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى. وقد يكون مُنكَر الصورة؛ لما فيه من الجرأة وقلّة الهيبة، ولكنَّه محتمل ممَّن أُقيم في مقام الأُنس. ومَن لم يقم في ذلك المقام، ويتشبَّه بهم في الفعل والكلام، هلك به، وأشرف على الكفر. ومثاله: مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله ـ تعالى ـ كليمه موسى(عليه السلام) أن يسأله؛ ليستسقي لبني إسرائيل بعد أن قحطوا سبع سنين. وخرج موسى(عليه السلام) ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى الله ـ عزَّوجلَّ ـ إليه كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم، سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له: برخ، فقل له: يخرج حتّى أستجيب له. فسأل عنه موسى(عليه السلام) فلم يُعرَف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى(عليه السلام) بنور الله عزَّوجلَّ، فسلَّم عليه وقال له: ما اسمك ؟ فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين، اخرج فاستسقِ لنا. فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك. انقصت عليك عيونك (وفي نسخة أُخرى: تعصَّت عليك


(1) في المصدر السابق عنه: ص 314 ـ 315.

476

غيومك(1)) أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفد ماعندك، أم اشتدَّ غضبك على المذنبين، ألست كنت غفَّاراً قبل خَلْق الخطَّائين ؟! خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف، أم تُرينا أنَّك ممتنع، أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ! قال: فما برح حتّى اخضلَّت بنو إسرائيل بالقطر، وأنبت الله ـ تعالى ـ العشب في نصف يوم حتّى بلغ الركب. قال: فرجع برخ، فاستقبله موسى(عليه السلام)، فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربِّي، كيف أنصفني ؟ فهمَّ موسى(عليه السلام)به، فأوحى ـ الله تعالى ـ إليه: أنَّ برخاً يضحكني كلَّ يوم ثلاث مرّات. وعن الحسن قال.... كان أبو حفص يمشي ذات يوم، فاستقبله رستاقيٌّ مدهوش، فقال له أبو حفص: ما أصابك ؟ فقال: ضلَّ حماري، ولا أملك غيره. قال: فوقف أبو حفص وقال: وعزَّتك لا أخطو خطوة ما لم تردَّ عليه حماره، قال: فظهر حماره في الوقت، ومرَّ أبو حفص. فهذا وأمثاله يجري لذوي الأُنس، وليس لغيرهم أن يتشبَّه بهم. قال الجنيد: أهل الأُنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياءَ هي كفر عند العامة. وقال مرَّةً: لو سمعها العموم لكفَّروهم، وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك، وذلك يحتمل منهم ويليق بهم. وإليه أشار القائل:

قومٌ تخالجُهم زهَو بسيِّدهم
والعبدُ يزهو على مقدارِ مولاهُ
تاهوا برؤيته عمَّا سواه له
يا حسنَ رؤيتهم في عزِّ ما تاهوا»

انتهى ما أردت نقله من كلام الغزالي.

أقول: من الطريف أنَّ الغزالي افترض أنَّ رجلاً معاصراً لموسى(عليه السلام) اسمه برخ، كان أعلى مرتبة في الأُنس والشهود من موسى(عليه السلام)، ومع ذلك لم يخصُّه الله بالنبوَّة كما خصَّ موسى(عليه السلام) بها، فكان هو أفضل من نبيِّ زمانه على رغم عدم نبوَّته وبرغم أنَّ ذاك النبيّ ليس نبيَّاً اعتياديَّاً، بل من أُولي العزم. وقد عرفت من القِصَّة الخُرافيَّة


(1) هكذا في نسخة إحياء الإحياء 8 / 81 .

477

التي سردها: أنَّ موسى لم يدرك أُنس برخ، وشهوده، وانبساطه، فهمَّ به، ولا أدري هل المقصود بقوله: «همَّ به» أنَّه أراد ضربه، أو أراد قتله، فتدارك الله ـ تبارك وتعالى ـ الموقف بأن وضَّح لموسى(عليه السلام) أنَّ برخاً يُضحكه باليوم ثلاث مرَّات ! !

وأنت إذا تأمَّلت في حالات أئمَّتنا المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ الذين لا يساوي كلُّ أقطاب العرفاء والصوفيَّة ظفراً من إبهامهم، لم ترَ عيناً ولا أثراً فيهم(عليهم السلام) من الانبساط في الأقوال، والأفعال، والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى، أو رفع ستار الحشمة في التعابير، أو ترك الأدب فيها من سنخ ما نقلوه عن برخ في قِصَّتهم الخياليَّة، أو ما إلى ذلك، بل ترى تعابيرهم العالية السامية، من قبيل ما يلي: «إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثُمَّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليَّتي»(1).

وقال ضرار في وصف عليٍّ(عليه السلام): «... ولو رأيته إذ مثل في محرابه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو قابض على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا أبي تعرَّضت، أم إليَّ تشوَّقت، هيهات هيهات لا حاجة لي فيك، أبنتك ثلاثاً لا رجعة لي عليك، ثُمّ يقول: واه واه لبعد السفر، وقلَّة الزاد، وخشونة الطريق»(2).

وأيضاً من الطريف أنَّهم يقولون: إنَّ السالكين حينما يصلون إلى نهاية السفر الأوَّل يفترون عن الأعمال الشاقَّة، ويقتصرون على الفرائض والسُّنَن الرواتب؛ وذلك: أنَّهم يعتقدون(3) أنَّ أمام السالك أسفاراً أربعة:


(1) البحار 41 / 12.

(2) المصدر السابق: ص 15.

(3) راجع شرح منازل السائرين للتلمساني: 380 ـ 382، وشرح منازل السائرين للكاشاني: 164 ـ 165.