478

السفر الأوَّل: هو السير إلى الله سبحانه وتعالى، وبه يطوي السالك المنازل والأحوال والمقامات إلى أن يصل إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وصولَ عيان، وليس وصول دليل وبرهان، ويفنى في الله عزَّوجلَّ، ويبقى بعد الفناء بقاءً في الله سبحانه وتعالى. وبانتهاء السفر الأوَّل يفترون عن الأعمال الشاقَّة، ويقتصرون على الفرائض والسُّنَن الرواتب؛ لما حصل لهم من الطمأنينة. قالوا: وأوَّل وصوله لا يخلو غالباً من اصطلام وسُكْر؛ لأنَّ لهذا الشهود سطوةً تقهر كلَّ شيء؛ لفناء الكلّ فيه عند تجلِّيه، فإذا صحا واستأنس بشهوده رأى جمال الذات بعينه؛ إذ لا غير ثمَّة، فشهوده شهود للحقِّ بذاته، فكان الشاهد في قوله تعالى: ﴿وَشَاهِد وَمَشْهُود﴾(1) عين المشهود(2).

السفر الثاني: يبدأ بالبقاء في الله. ويكون هذا السفر هو: السير في الله، أي: في مراتب أفعاله، وصفاته، وأسمائه. والتنقل فيه يُسمَّى التلوين في التمكين. قالوا: والناس يعظِّمون صاحب السفر الأوَّل أكثر ممَّا يعظِّمون صاحب السفر الثاني؛ لبُعد الثاني عن إدراكهم.

السفر الثالث: وبعد كمال السفر الثاني (وانتهاؤه القطبيَّة الوجوديَّة التي هي مركز المراكز، وصاحبها قطب الأقطاب) تكون بداية السفر الثالث، وهو: سفر المرسلين. ويُسمَّى السفر بالله إلى خلقه. وفيه يكون التنزُّل إلى مقادير العقول؛ لدعوتهم إلى الله.

السفر الرابع: هو: الرجوع إلى الله عزَّوجلَّ، والبقاء بالله. ويُسمَّى سفراً بالموجود إلى الوجود. وأكثر ما يكون هذا السفر عند الموت. وإليه أشار رسول


(1) السورة 85، البروج، الآية: 3.

(2) راجع بلحاظ هذه الجملة بالذات شرح الكاشاني لمنازل السائرين: ص 164 لدى شرح الدرجة الثالثة للطمأنينة.

479

الله(صلى الله عليه وآله)بقوله: «اخترت الرفيق الأعلى» قالوا: فهذه الأسفار الأربعة هي للرُسُل بطريق الأصل، وللأتباع بالوراثة والتبعيَّة.

وذكر سماحة آية الله الشيخ جوادي آملي حفظه الله في بيان حقيقة السفر الرابع: أنَّه بعد الرجوع من الوحدة إلى الكثرة (الذي هو السفر الثالث) يسير في الكثرة بمنظار الوحدة(1).

وعبَّر السيّد الإمام ـ رضوان الله تعالى عليه ـ عن هذا السفر باسم السفر من الخلق إلى الخلق، في مقابل السفر من الخلق إلى الحقّ الذي هو السفر الأوَّل، ومن الحقِّ إلى الحقِّ بالحقِّ الذي هو السفر الثاني، ومن الحقِّ إلى الخلق الذي هو السفر الثالث(2).

أقول: إنَّ ما ورد في شرح الكاشاني لمنازل السائرين من اتِّحاد الشاهد والمشهود إن كان من باب اعتقاد أنَّه لا وجود إلاّ لله تعالى، فهذا لو صحَّ في نفسه لكان ثابتاً منذ البدء، بلا حاجة إلى رياضة وتهذيب نفس.

وإن كان بمعنى كشف ذلك فمن الذي ينكشف له ذلك ؟ ! هل الوجود، ولا وجود إلاّ لله بحسب الفرض، وهو مطِّلع على الحقيقة منذ البدء، أو العدم وما معنى الانكشاف للعدم ؟ !

وإن كان بمعنى حصول الاتِّحاد بين المخلوق وخالقه بعد أن كان غيره، فهذا عين الكفر.

وإن كان بمعنى فناء العبد حقيقة من غير اتِّحاد، فمن الذي يواصل بعد ذلك هذه


(1) راجع المقدِّمة التي كتبها سماحة الشيخ جوادي آملي (حفظه الله) على كتاب سرِّ الصلاة للسيّد الإمام رضوان الله تعالى عليه: 13 ـ 14 بحسب طبعة مؤسسة تنظيم ونشر آثار السيّد الإمام(رحمه الله).

(2) راجع مصباح الهداية للسيّد الإمام رضوان الله عليه: 207 ـ 208 بحسب الطبعة المشتملة على ترجمة السيّد أحمد الفهري حفظه الله.

480

الأسفار ؟ ! فهل الله ـ تعالى ـ هو الذي يسافر ويكتمل ؟ ! تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً.

ثُمَّ: ما هو المقصود بما ورد في شَرْحي منازل السائرين من أنَّ السالك حينما يصل إلى الله يفتُر عن أعماله الشاقَّة ؟ ! وكأنَّهم افترضوا أنَّ الوصول له نهاية، فإذا انتهينا إلى نهاية الوصول فلا حاجة إلى الأعمال الشاقَّة، فلئن كان المقصود بالأعمال الشاقَّة: رياضات اختراعيَّة من عند أنفسهم، فهي لهم، وليست للأنبياء والأئمَّة ولأتباعهم،فهم لا يقتربون إليها منذ البدء، ولئن كان المقصود: الطاعات والعبادات والاحتراق ضمن حالات المناجاة والبكاء والتضرُّع وما إلى ذلك، فسيِّد الرسل(صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه لم يفتروا عن ذلك و﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالاَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(1) وكانت ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ...﴾(2) وفي الحديث الصحيح سنداً عن الصادق(عليه السلام) قال: «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا كان العشر الأواخر ـ يعني: من شهر رمضان ـ اعتكف في المسجد، وضُرِبت له قُبَّة من شعر، وشمَّر المئزر، وطوى فراشه...»(3).

وأخيراً ما هو المقصود بالوصول إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في نهاية السفر الأوّل؟:

إن كان المقصود الوصول إليه بمعنى الفناء واتِّحاد الشاهد والمشهود، فقد مضت الإشارة إلى جوابه أعلاه.

وإن كان المقصود الوصول بالعلم والبرهان (وليس هذا هو المقصود)، فهذا أوَّل الطريق، وليس آخر الطريق، بل قد يثبت حتّى للكفَّار الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.


(1) السورة 51، الذاريات، الآيتان: 17 ـ 18.

(2) السورة 32، السجدة، الآية: 16.

(3) البحار: 16 / 273 ـ 274.

481

وإن كان المقصود الوصول بمعنى التجلِّي والحضور والشهود، فلا نعرف أحداً من الأنبياء وصل إليه غير رسول الله(صلى الله عليه وآله).

والذي نفهمه من الآية المباركة بشأن موسى على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام (والله أعلم بمقصوده) أنَّه(عليه السلام) لم يكن قابلاً للتجلِّي فبتجلِّي الله ـ تعالى ـ للجبل ـ لا له هو ـ خرَّ صَعِقاً، قال الله تعالى ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(1) فلئن كان هذا حال موسى(عليه السلام)الذي هو رسول الله وكليمه، ويُعدُّ من الأنبياء أُولي العزم، فما ظنُّك بالعارفين الاعتياديين ؟ ! أفلا تستنتج معي أنَّه لو فُرِض تجلِّي الله ـ تعالى ـ للعارف كان حظُّه الهلاك قبل الوصول ؟ ! ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

هر چند تو را راى جفا كارى نيست
در سينه تمنّاى دل آزارى نيست
بى پرده بسوى عاشق خود مگذر
كش طاقت آنكه پرده بردارى نيست
دى شانه زد آن ماه خم گيسو را
بر چهره نهاد زلف عنبر بو را
پوشيد بدين حيله رخ نيكو را
تا هر كه نه محرم نشناسد او را


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 143. وقد أوَّل بعض العرفاء المنحرفين عن خطِّ أهل البيت (عليهم السلام) (الجبل) في الآية المباركة بكون الإنسان وإنّيته. وجعل معنى الآية: أنَّه انظر إلى كونك وإنّيتك فسيتجلَّى ربُّك لجبلك هذا، فإن استقرَّ مكانه فسوف تراه، ولكنَّه سيتلاشى بتجلِّي الربّ لفناء المحدث عند تجلِّي القديم، فلا يبقى لك وجود إضافي متقيد بتلك الصورة الكونيَّة، فلا يبقى إلاّ الحقّ، ومعه لن تراني؛ لأنَّك تُفنى بهذا التجلِّي. قال: وهذا النظر هو اللحظ، فإنَّه ينظر إلى وجود الحقِّ بالحقيقة لا من حيث إطلاقه، بل من حيث تقيّده بتلك الصورة الكونيَّة. راجع شرح منازل السائرين للكاشاني باب اللحظ، وهو الباب الأوَّل من قسـم الولايات، أي: القسم الثامن من الكتاب: ص 194.

أقول: ما أجرأهم على تفسير القرآن بالرأي، وهو الذي نهى عنه أئمّتنا(عليهم السلام).

482

أمَّا ما ورد في كلمات أئمّتنا(عليهم السلام) بالنسبة لعامَّة الناس من عنوان رؤية الله تعالى، أو عنوان السفر إلى الله تعالى، فهو محمول على المستويات النازلة المناسبة لعامَّة الناس؛ فإنَّ التجلِّي والشهود أو الحضور غير محتمل بشأن عموم الناس. ومثال ذلك:

1 ـ ما عن إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام)، وقد سأله ذِعْلب اليماني: «هل رأيت ربَّك يا أميرالمؤمنين ؟

فقال(عليه السلام): أفأعبد ما لا أرى ؟ !

فقال: وكيف تراه ؟

قال(عليه السلام): لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان...»(1).

والدليل على كون هذه الرواية ناظرة إلى حال عامَّة الناس، وكون المقصود بالرؤية وإدراك القلب: مجرَّد العلم والإيمان الحاصل لكلِّ مؤمن هو: تعليقه (عليه السلام)العبادة على الرؤية، واستفهامه الاستنكاري من العبادة مع فرض عدم الرؤية. ومن الواضح: أنَّه تكفي لوجوب العبادة الرؤية البرهانيَّة عن طريق رؤية آياته.

2 ـ ما عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام) «... وأنَّ الرَّاحل إليك قريب المسافة. وأنَّك لا تحتجب عن خلقك، إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك...»(2).

والدليل على كون المقصود هو السفر الثابت لعامَّة المؤمنين الملتزمين، وأنَّه لا ينظر إلى الخواصِّ هو: أنَّه حصر الحجاب بالأعمال، يعني: المعاصي، فإذن المقصود هو ذاك المستوى من الحجاب المرتفع عن بصيرة كلِّ مؤمن ملتزم دون اختصاص لذلك بالخواص. ولنعم ما قيل بالفارسيّة:


(1) نهج البلاغة: 344، رقم الخطبة: 179.

(2) دعاء أبي حمزة.

483

كى رفته اى ز دل كه تمنّا كنم تو را
كى گشته پشت پرده كه حاشا كنم تو را
با صد هزار جلوه برون آمدى كه من
با صد هزار ديده تماشا كنم تو را

أمّا ما أشرنا إليه من إمكان الاعتقاد بوصول النبيِّ الخاتم(صلى الله عليه وآله) إلى مرتبة الشهود والحضور، فهو أمر مستوحى من قوله سبحانه وتعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالاُْفُقِ الاَْعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾(1) فقد ذُكِرَ لهذه الآيات المباركات تفسيران:

 

التفسير الأوَّل: إرجاع الضمائر إلى جبرائيل. وأنَّ الاقتراب قاب قوسين أو أدنى كان بين النبيِّ(صلى الله عليه وآله) وجبرائيل. وأنَّ الرؤية الواقعة مرَّتين هي: رؤية جبرائيل بصورته الأصليَّة.

والتفسير الثاني: أنَّ الضمائر راجعة إلى الله. وأنَّ الاقتراب لم يكن مادِّيَّاً، وكان اقتراباً من الله. وأنَّ الرؤية رؤية بالفؤاد لا بالعين الباصرة. وعلى هذا الأساس قد يقال: إنَّ هذه عبارة عن المشاهدة الحضوريَّة.

ولعلَّ أصحاب التفسير الأوَّل إنَّما ذهبوا إلى تفسيرهم: من رجوع الضمائر إلى جبرئيل، وحملوا الرؤية على رؤية جبرئيل؛ لأنَّهم حملوا الرؤية على رؤية العين الباصرة. وهذا في الله ـ سبحانه ـ مستحيل؛ إذ ليس جسماً، وليس مكانياً تعالى الله


(1) السورة 53، النجم، الآيات: 5 ـ 18.

484

عن ذلك علوَّاً كبيراً ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ...﴾(1)، ﴿... أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ...﴾(2)، ﴿... وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنتُم ...﴾(3) في حين أنَّ الرؤية في المقام ليست رؤية بالعين، بل رؤية بالفؤاد، بدليل قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾، وأمَّا قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ فهذه رؤية بالباصرة راجعة إلى سدرة المنتهى، وجنّة المأوى، وآياته الكبرى.

وقد ذكر بعض الأعلام لتضعيف التفسير الأوَّل، وتأييد التفسير الثاني وجوهاً، منها ما يلي:

1 ـ الضمائر في جملة: ﴿أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ تعود إلى الله بلا شكٍّ. فكذلك باقي الجمل بمقتضى وحدة السياق.

2 ـ قوله ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ لايناسب تفسيره بجبرئيل؛ فإنَّه ليس معلِّماً لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإنَّما هو بمنزلة ساعي البريد في إنزال الوحي، ورسول الله(صلى الله عليه وآله)أعلى درجة منه؛ ولذا صعد في المعراج إلى مرتبة عجز عنها جبرئيل، وقال: «.. لو دنوت أنملة لاحترقت»(4).

3 ـ مشاهدة جبرئيل بصورته الأصليّة ليست لرسول الله(صلى الله عليه وآله) منزلة عالية بحيث يهتمّ بها القرآن بمثل قوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾.

4 ـ رؤية جبرئيل تناسب أن تكون رؤية بالباصرة لا بالفؤاد، في حين أنَّ الله تعالى يقول: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾.

5 ـ المعنى المؤيّد في الروايات إنَّما هو: التفسير الثاني لا الأوَّل، وذلك من قبيل


(1) السورة 6، الانعام، الآية: 103.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 115.

(3) السورة 57، الحديد، الآية: 4.

(4) البحار 18 / 382.

485

ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي عن ابن عباس، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربِّي ـ عزَّوجلَّ ـ حتّى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى».

وما رواه الصدوق في العلل عن هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر(عليهما السلام): «فلمَّا أُسري بالنبيِّ وكان من ربِّه قاب قوسين أو أدنى رفع له حجاب من حجبه»(1).

أقول: ومن هذا القبيل ما ورد في دعاء الندبة: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ دنوَّاً واقتراباً من العليِّ الأعلى.

فإذن المناسب لكلِّ هذا هو التفسير الثاني. ويبدو أنَّ المقصود به هو: المشاهدة الحضوريَّة بالقلب التي لا يمكن أن تخطأ، ويكون ذلك ـ بلا تشبيه ـ من قبيل مشاهدتنا لأنفسنا ولحبِّنا وبغضنا وما إلى ذلك ممَّا هو حاضر لدى أنفسنا. وهذه مشاهدة مصونة عن الخطأ؛ ولذا قال تعالى: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ ففرق بين العلم بالأُمور التي هي منفصلة عن النفس، والتي يمكن فيها الخطأ، والعلم بمشاهدة ما هو متصل بالنفس. والمثال الذي مثّلنا به من مشاهدتنا لأنفسنا ولحبِّنا وبغضنا وما إلى ذلك، إنَّما هو مثال بقدر عقولنا الناقصة وأفهامنا القاصرة، وإلاّ فأين المشبَّه به من المشبَّه.

ثُمَّ إنَّ تجلِّي الله ـ سبحانه ـ لرسوله مرَّتين في حياته كما ورد في هذه الآيات، لا ينافي افتراض دوام التجلِّي له طيلة عمره المبارك؛ وذلك لإمكان حمل هاتين المرَّتين على مراتب عُلْيا من التجلِّي، وافتراض التجلِّي على مراتب متفاوتة.

ومن جملة مراتبها المرتبتان التاليتان، واللتان لا نستطيع أن نفهم مغزاهما قبل أن نصل إليهما:


(1) راجع تفسير «نمونه» 22 / 487 ـ 489.

486

إحداهما: ما يحصل لكلِّ أحد لدى الموت مؤمناً كان أو كافراً؛ ولهذا قد يُعبَّر عن الموت بلقاء الله. وقد ورد عن عبدالصمد بن بشير، عن بعض أصحابه، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قلت: أصلحك الله من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، ومَنْ أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه ؟

قال: نعم.

قلت: فوالله إنَّا لنكره الموت.

فقال: ليس ذلك حيث تذهب، إنَّما ذلك عند المعاينة إذا رأى ما يحبّ فليس شيء أحبُّ إليه من أن يتقدَّم، والله تعالى يحبُّ لقاءه، وهو يحبُّ لقاء الله حينئذ وإذا رأى ما يكره فليس شيء أبغض إليه من لقاء الله، والله يبغض لقاءه»(1).

والثانية: ما تكون خاصَّة في يوم القيامة بالمؤمنين، قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(2) فمن الواضح: أنَّ المقصود ليس هو النظر بالعين الباصرة؛ لأنَّ الله ليس جسماً، وليس مكانيّاً تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، كما أنَّ حمله على النظر إلى نعم الله خلاف الظاهر جدَّاً. فالظاهر: أنَّ المقصود هو النظر بعين البصيرة، وفي مقابل ذلك قال الله تعالى بشأن الكفَّار: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ﴾(3).

 


(1) الكافي: 3 / 134.

(2) السورة 75، القيامة، الآيتان: 22 ـ 23.

(3) السورة 83، المطففين، الآية: 15.

487

 

 

 

 

الفصل الواحد والثلاثون

حـــبّ اللّه

 

وقد جعل بعض هذا أوَّل باب من أبواب الأحوال(1) التي هي خالية من مشقَّة السعي والاجتهاد، فإنَّ المحبَّ يتبع المحبوب بالجذب والانقياد، ويكون سيره مقروناً باللذّة والبهجة، ولا يحسُّ العبد فيه بمشقَّة السعي وجهده.

قال تعالى:

1 ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(2).

2 ـ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ...﴾(3).

3 ـ ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(4).


(1) راجع شرح منازل السائرين للكاشاني: ص 168.

(2) السورة 5، المائدة، الآية: 54.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 165.

(4) السورة 3، آل عمران، الآية: 31.

488

4 ـ ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(1).

إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلاً؟! ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا؟!(2).

ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «حبُّ الله إذا أضاء على سرِّ عبد أخلاه عن كلِّ شاغل وكلِّ ذكر سوى الله عند ظلمة. والمحبُّ أخلص الناس سرَّاً لله، وأصدقهم قولاً، وأوفاهم عهداً، وأزكاهم عملاً، وأصفاهم ذكراً، وأعبدهم نفساً، تتباهى الملائكة عند مناجاته، وتفتخر برؤيته، و به يعمر الله ـ تعالى ـ بلاده، وبكرامته يكرم عباده يعطيهم إذا سألوا بحقِّه، ويدفع عنهم البلايا برحمته. فلو علم الخلق ما محلُّه عند الله ومنزلته لديه، ما تقرَّبوا إلى الله إلاّ بتراب قدميه»(3).

قال(4) أميرالمؤمنين(عليه السلام): «حبُّ الله نار لا يمرُّ على شيء إلاّ احترق. ونور الله لا يطَّلع على شيء إلاّ أضاء. وسحاب(5) الله ما يظهر من تحته شيء إلاّ غطّاه. وريح الله ما تهبُّ في شيء إلاّ حرَّكته. وماء الله يحيي به كلّ شيء، وأرض الله ينبت منها كلُّ شيء. فمَنْ أحبَّ الله أعطاه كلَّ شيء من المال والملك»(6).


(1) السورة 9، التوبة، الآية: 24.

(2) مناجاة المحبين.

(3) البحار 70 / 23 نقلاً عن مصباح الشريعة: 64. وكلمة (عند ظلمة) في أوائل الحديث غير موجودة في نسخة المحجَّة ذات ثمانية أجزاء، الجزء الثامن: ص 7، وكذلك غير موجودة فيما عندي من نسخة مصباح الشريعة الباب الثاني والتسعين في حبِّ الله: 192.

(4) هذا المقطع تتمَّة المنقول في مصباح الشريعة نقلناه من نسخة البحار 70 / 23 ـ 24.

(5) سماء خ ل.

(6) كأنَّ المقصود: أنَّ المحبَّ الكاملَ توضع تحت قدرته الدنيا بأجمعها وإن كان هو ربّما لا يختار منها شيئاً.

489

قال (1) النبيُّ(صلى الله عليه وآله): «إذا أحبَّ الله عبداً من أُمَّتي قذف في قلوب أصفيائه وأرواح ملائكته وسكان عرشه محبَّته؛ ليحبُّوه، فذلك المحبُّ حقّاً، طوبى له ثُمَّ طوبى له، وله عند الله شفاعةٌ يوم القيامة».

إنّ مصدر الطاعة حينما يكون هو العلم بالمبدأ والمعاد الناتج من تقليد الآباء أو العلماء أو غيرهم، كما هو الحال لدى كثير من العوام، أو الناتج من البرهان كما هو الحال عند آخرين، تراه يختلف عمَّا إذا كان مصدر الطاعة بعد العلم هو الحبُّ لله تعالى، وأقصد بذلك: بعض المراتب العالية من الحبِّ دون أدنى الحبِّ الذي لا ينفكُّ عنه مسلم. ومَظهرُ هذا الاختلاف أُمورٌ ثلاثة:

الأوَّل: أنَّ مصدريَّة العلم للطاعة كثيراً ما تتخلَّف عن المقصود، كما ترى ذلك في كثير من الفسقة الذين يعصون على رغم علمهم بالمبدأ والمعاد، ولكن مصدريَّة الحبِّ للطاعة إذا كان في الدرجات العالية لا تنفصم ولا تتخلَّف؛ ولذا ترى أنَّ الأبوين ـ مثلاً ـ لشدَّة تعلقهما بالطفل وحبِّهما له قد يلتزمان بتهيئة مطاليب الطفل التي لا تضرُّ به أكثر من التزامهما بطاعة الله الذي تجب عقلاً إطاعته، وإن هو إلاّ لكون الطفل أحبّ إليهما من الله. وقد رُوي عن الصادق(عليه السلام)أنَّه قال: «ما أحبَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مَنْ عصاه. ثُمَّ تمثَّل فقال:

تعصي الإله وأنت تُظْهِرُ حبَّه
هذا محالٌ في الفعال بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتهُ
إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ»(1)

والثاني: أنَّ الطاعة التي تنتج من الحبِّ تكون طاعة الأحرار، وهم الذين يعبدون الله تعالى؛ لأنَّه أهل للعبادة، في حين أنَّ الطاعة الناتجة من مجرّد العلم تكون طاعة الأُجراء أو العبيد، وهم الذين يعبدون الله ـ تعالى ـ طمعاً في جنَّته، أو


(1) هذا المقطع ـ أيضاً ـ تتمَّة المنقول في مصباح الشريعة نقلناه من نسخة البحار 70 / 24.

(2) البحار 70 / 15.

490

خوفاً من ناره. وعن عليٍّ(عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنَّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنَّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار»(1).

وفي حديث آخر عن الصادق(عليه السلام): «العِبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله ـ عزَّوجلَّ ـ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله ـ تبارك وتعالى ـ طلب الثواب فتلك عبادة الأُجراء، وقوم عبدوا الله ـ عزّوجلّ ـ حبَّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(2).

وأيضاً عن الصادق(عليه السلام): «إنَّ الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبةً إلى ثوابه فتلك عبادة الحرصاء، وهو: الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبيد، وهي: الرهبة، ولكنِّي أعبده حبَّاً له فتلك عبادة الكرام، وهو: الأمن لقوله تعالى: ﴿وَهُم مِّنْ فَزَع يَوْمَئِذ آمِنُونَ﴾(3) ﴿قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ...﴾(4) فمَنْ أحبَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ أحبَّه الله، ومن أحبَّه الله ـ عزّوجلّ ـ كان من الآمنين»(5).

والثالث: أنَّ الطاعة الناتجة من الحبِّ تكون مقترنةً بلذَّة فائقة، والطاعةُ الناتجة من العلم بحتاً تكون مقترنةً بالسأم والملل. ومثال ذلك مثال شخصين(6): أحدهما يصرف ساعات من وقته في غرفة انتظار مقابلة الطبيب، فهو يتألَّم ويملُّ؛ لأنَّه


(1) نهج البلاغة: 702، رقم الحكمة: 237.

(2) الوسائل 1 / 62، الباب 9 من مقدّمة العبادات، الحديث 1.

(3) السورة 27، النمل، الآية: 89 .

(4) السورة 3، آل عمران، الآية: 31.

(5) البحار 70 / 18.

(6) مضت الإشارة إلى هذه النكتة في ضمن بحث النقطة الثالثة من الحلقة الثانية من هذا الكتاب.

491

تأخَّر عن أشغاله وأعماله الحياتيَّة، ولكنَّه مجبور على ذلك؛ لتحصيل شفائه من وراء فحص الطبيب إيَّاه، ووصفه للعلاج. فهذا حاله حال العباد الذين يعبدون الله، ويرون أنفسهم مجبورين على ذلك تحصيلاً للثواب، وهرباً من العقاب، ولكنَّهم يسأمون ويملُّون من ساعات الصلاة؛ لأنَّهم يحسُّون بذهاب الوقت الذي كانوا بحاجة إليه لأُمورهم المعيشيّة والحياتيَّة، إلاّ أنَّهم يصبرون على ذلك؛ لأجل الوجوب. وثانيهما يصرف ساعات من وقته في لقاء الأحبَّة، ومجلس الأُنس، وسهرة الليل، وتبادل الأحاديث معهم من كلِّ جانب، ويحسُّ في ذلك بلذَّة قصوى على رغم علمه بأنّه يصرف وقته الذي كان بحاجة إليه للنوم والراحة، أو لطلب المعاش، أو ما إلى ذلك، ولا يحسُّ بملل أو سأم من صرفه لهذا الوقت. فهذا مثله مثل مَن يعبد الله حبَّاً له وشوقاً إليه، فهو يحسُّ بلذَّة المناجاة وحلاوة الخلوة مع الله مع فارق كبير بين الممثل والمثال؛ لأنَّ حبَّ الأوَّل لأصحابه حبٌّ دنيويٌّ ضعيف، وحبُّ الثاني لله حبٌّ حقيقي ناتج من جمال الله وعظمته. وشتَّان ما بين الثرى والثريَّا.

وقد ورد في مصباح الشريعة: «... ألا وإنَّك لو وجدت حلاوة عبادة الله، ورأيت بركاتها، واستضأت بنورها، لم تصبر عنها ساعةً واحدةً ولو قُطِّعت إرباً إرباً ...»(1).

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «إذا تخلَّى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حبِّ الله، وكان عند أهل الدنيا كأنَّه قد خُولِط، وانَّما خالط القوم حلاوة حبِّ الله، فلم يشتغلوا بغيره»(2).

وما أشبه هذا التعبير في هذا الحديث الذي تلوناه بالتعبير الوارد عن


(1) البحار 70 / 69.

(2) البحار 73 / 56.

492

أميرالمؤمنين(عليه السلام) في خطبة المتقين: «... لقد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم...»(1).

قال الشاعر:

أُحِبُّك حبَّين حبَّ الهوى
وحبَّاً لأنَّك أهل لذاكا
فأمَّا الذي هو حبُّ الهوى
فشغلي بذكرك عمَّن سواكا
وأمَّا الذي أنت أهلٌ له
فكشفك لي الحجب حتّى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا(۲)

وقال الشاعر:

كانت لقلبيَ أهواءٌ مفرَّقةٌ
فاستجمعتْ مذ رأتك العينُ أهوائي
فصار يحسدني مَنْ كنت أحسده
فصرت مولى الورى مذ صرتَ مولائي
تركتُ للناسِ دنياهم ودينَهمُ
شغلاً بذكركَ يا ديني ودنيائي(3)
 

وعلى أيِّ حال، فهذا الحبُّ والالتذاذ لا يجتمعان مع الذنب. وعلى هذا الأساس ورد في بعض الروايات كون الذنوب سبباً للانحرام من صلاة الليل، أو الانحرام من لذَّة المناجاة، وكيف لا وإنَّ الذنوب تخلق حجاباً بين العبد والربِّ، وتهدم الحبَّ والشوق، وتغطِّي القلبَ، وترين عليه. وقد ورد في دعاء أبي حمزة «...وأنَّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك...».

 

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «إنَّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل...»(4) وأيضاً عن الصادق(عليه السلام) بسند تام قال: «إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم


(1) نهج البلاغة: 411، رقم الخطبة: 193.

(2) المحجة 8 / 32. وقد مضت هذه الأبيات مع أدنى تغيير في حالات رابعة العدوية في مدخل البحث العملي.

(3) المحجة 8 / 33.

(4) الوسائل 8 / 160، الباب 40 من الصلوات المندوبة، الحديث 3.

493

صلاة الليل...»(1).

وأيضاً ورد في الحديث: «جاء رجل إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) فقال: إنِّي قد حرمت الصلاة بالليل، فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أنت رجل قد قيَّدتك ذنوبك»(2).

وأيضاً ورد عن موسى بن جعفر(عليهما السلام) في و صيته لهشام بن الحكم أنَّه قال: «...يا هشام، أوحى الله إلى داود قل لعبادي: لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدُّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي، أُولئك قُطَّاع الطريق من عبادي، إنَّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة عبادتي ومناجاتي من قلوبهم...»(3).

وفي حديث آخر: «أوحى الله إلى داود(عليه السلام) أنَّ أهون ما أنا صانع بعالم غير عامل بعلمه أشدّ من سبعين عقوبة أن أُخرج من قلبه حلاوة ذكري...»(4).

وقد جعل بعض الحبَّ مركزاً للفضائل، فبلحاظ ما بعده يثمر المقامات اللاحقة كالشوق والرضا، وبلحاظ ما قبله تنتهي إليه المقامات السابقة كالتوبة والصبر والزهد(5). وبكلمة أُخرى: إن المحبَّة آخر منازل العامة، وأوَّل منازل الخاصَّة(6).

وقد ظهر بكلِّ ما سردناه حتّى الآن أنَّ الإيمان الكامل هو: الإيمان البالغ درجة الحبِّ، كما ورد في الحديث الصحيح السند عن الصادق(عليه السلام): «... وهل الإيمان إلاّ الحبُّ والبغض، ثُمَّ تلا هذه الآية: ﴿... حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ


(1) المصدر السابق 15 / 302، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 14.

(2) المصدر السابق 8 / 161، الباب 40 من الصلوات المندوبة، الحديث 5.

(3) البحار 1 / 154.

(4) المصدر السابق 2 / 32.

(5) المحجة 8 / 3.

(6) راجع منازل السائرين أوَّل باب من أبواب الأحوال.

494

إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾»(1).

وورد ـ أيضاً ـ في الحديث الصحيح السند عن الصادق(عليه السلام): « هل الدين إلاّ الحبُّ إنَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ يقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ...﴾ »(2).

أمَّا عن الآية التي فتحنا بها الحديث وهي قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ فقد ورد في التفاسير عِدَّة تطبيقات لها(3)، وذلك من قبيل:

1 ـ تطبيقها على أميرالمؤمنين(عليه السلام) في فتح خيبر، أو في محاربته للناكثين والقاسطين والمارقين؛ ولهذا ورد في الحديث في قِصَّة فتح خيبر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)بعد هروب مَنْ هرب: «لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، كرَّاراً غير فرَّار، لايرجع حتى يفتح الله على يده. فبات الناس يدوكون(4) بجملتهم أيُّهم يعطاها، فلمَّا أصبح الناس غدوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله)كلُّهم يرجون أن يعطاها، فقال: أين عليّ بن أبي طالب ؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال: فأرسِلوا إليه. فأُتي به، فبصق رسول الله(صلى الله عليه وآله)في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال عليٌّ: يا رسول الله أُقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا ؟ قال: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثُمَّ ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير


(1) اُصول الكافي 2 / 125، والآية: 7 في السورة 49، الحجرات.

(2) البحار 69 / 237، والآية: 31 في السورة 3، آل عمران.

(3) راجع تفسير «نمونه» 4 / 417 ـ 418.

(4) أي: يخوضون ويموجون.

495

من أن يكون لك حمر النعم. (قال سلمة) فبرز مرحب وهو يقول:

قد علمت خيبر أنِّي مرحب
شاكي السلاح بطل مجرَّب

فبرز له عليٌّ(عليه السلام) وهو يقول:

أنا الذي سمّتني أُمّي حيدره
كليث غابات كريه المنظره

اُوفيهمُ بالصاع كيل السندره

فضرب مرحباً ففلق رأسه، فقتله وكان الفتح على يده»(1).

وما أحلى أبيات حسَّان بن ثابت:

وكان عليٌّ أرمد العين يبتغي
دواءً فلمَّا لم يحسّ مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة
فبورك مرقيَّاً وبورك راقيا
وقال: سأُعطي الراية اليوم صارماً
كميَّاً محبَّاً للرسول مواليا
يحبُّ إلهي والإله يحبُّه
به يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بها دون البريَّة كلِّها
عليَّاً وسمَّـاه الوزير المؤاخيا(2)

2 ـ ورد أنَّه سُئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن هذه الآية، فضرب بيده على عاتق سلمان فقال: هذا وذووه. ثُمَّ قال: لو كان الدِّين معلَّقاً بالثريَّا لتناوله رجال من أبناء فارس(3).

3 ـ وفي تفسير عليِّ بن إبراهيم: «نزلت في القائم وأصحابه»(4).

ثُمَّ إنَّ ما ذكرنا من الامتيازات للطاعة الناتجة من الحبِّ الحقيقي الصادق في مقابل الطاعة الناتجة من العلم قد قصدنا بذلك: المقابلة بين العلم بمعنى الإيمان الجافِّ غير السيَّال في العواطف والعروق، وبين الحبِّ الحقيقي الذي لا يمكن أن


(1) البحار 21 / 3 ـ 4.

(2) المصدر السابق 21 / 16.

(3) مجمع البيان: مج 2 / 3 / 358.

(4) في الجزء الأوّل في ذيل الآية.

496

ينفرد عن المعرفة بجمال الله وعظمته التي لا تكون إلاّ بعد العلم بالله. ولم نقصد المقابلة بين الحبِّ وحده والعلم وحده؛ فإنَّ أساس الحبِّ هو المعرفة الناتجة من العلم. ولايمكن أن يكون حبٌّ مورث للآثار الماضية بلا معرفة، فمتى ما أنتجت المعرفة الحبَّ الخالص الصادق، أصبحت عبادة المؤمن عبادة الأحرار، واقترنت بلذَّة لاتدانيها لذَّة، وعصمت صاحبها من أيِّ معصية أو ذنب.

وقد ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام) ما يلي: «نجوى(1) العارفين تدور على ثلاثة أُصول: الخوف، والرجاء، والحبُّ. فالخوف فرع العلم، والرجاء فرع اليقين، والحبُّ فرع المعرفة. فدليل الخوف الهرب، ودليل الرجاء الطلب، ودليل الحبِّ إيثار المحبوب على ما سواه. فإذا تحقّق العلم في الصدر خاف، وإذا صحَّ الخوف هرب، وإذا هرب نجا، وإذا أشرق نور اليقين في القلب شاهد الفضل، وإذا تمكَّن من رؤية الفضل رجا، وإذا وجد حلاوة الرجاء طلب، وإذا وُفِّقَ للطلب وجد، وإذا تجلَّى ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المحبَّة، وإذا هاج ريح المحبَّة استأنس ظلال المحبوب، وآثر المحبوب على ما سواه، وباشر أوامره، واجتنب نواهيه، واختارهما على كلِّ شيء غيرهما، وإذا استقام على بساط الأُنس بالمحبوب مع أداء أوامره واجتناب نواهيه، وصل إلى روح المناجاة والقرب. ومثال هذه الأُصول الثلاثة كالحرم والمسجد والكعبة، فمَنْ دخل الحرم أمِن من الخَلْق، ومَنْ دخل المسجد أمِنت جوارحه أن يستعملها في المعصية، ومَنْ دخل الكعبة أمِن قلبه من أن يشغله بغير ذكر الله.

فانظر(2) أيُّها المؤمن فإن كانت حالتك حالة ترضاها لحلول الموت، فاشكر


(1) يعني: المناجاة.

(2) من هنا قد يكون تكملة لكلام الإمام الصادق(عليه السلام)، وقد يكون تفريعاً لمن جمع نصوص مصباح الشريعة.

497

الله على توفيقه وعصمته، وإن تكن الأُخرى فانتقل عنها بصحّة العزيمة، واندم على ما سلف من عمرك في الغفلة، واستعن بالله على تطهير الظاهر من الذنوب وتنظيف الباطن من العيوب، واقطع زيادة الغفلة عن نفسك، وأطف نار الشهوة من نفسك»(1).

واعلم أنَّ الحبَّ ذو طرفين، وليس ذا طرف واحد، فكما أنَّ العبد المؤمن يحبُّ الله عزَّوجلَّ كذلك الله ـ عزَّوجلَّ ـ يحبُّ عبده المؤمن.

وقد روى الكليني بسند قيل عنه: إنَّه تامٌّ(2) عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر(عليه السلام)قال: «لمَّا أُسري بالنبي(صلى الله عليه وآله) قال: يا ربِّ ما حال المؤمن عندك ؟ قال: يا محمَّد(صلى الله عليه وآله) مَنْ أهان لي وليَّاً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وما تردَّدت في شيء أنا فاعله كتردِّدي في وفاة المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، وإنّ من عبادي المؤمنين مَنْ لا يصلحه إلاّ الغنى، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلاّ الفقر، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وما يتقرَّب إليَّ عبد من عبادي بشيء أحبُّ إليَّ ممَّا افترضت عليه،


(1) البحار 70 / 22 ـ 23.

(2) في السند أبو سعيد القماط، ولعلَّه خالد بن سعيد الثقة، لا أخوه صالح بن سعيد. والقرينة على ذلك ما في الكافي 1 / 70 عن عِدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط وصالح بن سعيد، عن أبان بن تغلب... فعطف صالح بن سعيد على أبي سعيد القماط يشهد لكون أبي سعيد القماط منصرفاً ـ في الأقلِّ ـ في لسان إسماعيل بن مهران إلى خالد دون صالح. وروايتنا ـ أيضاً ـ قد رواها إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط، عن أبان بن تغلب، إلاّ أنَّ الأردبيلي في جامع الرواة استظهر كون (الواو) في نصِّ الكافي القائل: «أبي سعيد القماط وصالح بن سعيد» سهواً قلميَّاً، وأن يكون الصواب: «أبو سعيد القماط صالح بن سعيد».

وعلى أيِّ حال، فقد ذكر الشيخ البهائي(رحمه الله): أنَّ هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بين الخاصَّة والعامَّة، وقد رووه في صحاحهم بأدنى تغيير. (راجع مرآة العقول: 10 / 384).

498

وإنَّه ليتقرَّب إليَّ بالنافلة حتّى أُحبَّه، فإذا أحببته كنت إذن سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته»(1).

قوله: «ما تردَّدت في شيء أنا فاعله كتردِّدي في وفاة المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته».

إنَّ التردُّد بمعناه المألوف لدينا مستحيل على الله سبحانه، إلاّ أنَّ الشيخ البهائي(رحمه الله) ذكر في المقام عِدَّة توجيهات لهذه الجملة(2):

1 ـ إنَّ في الكلام إضماراً وتقديراً، أي: لو جاز عليَّ التردُّد ما تردَّدت في شيء كتردّدي في وفاة المؤمن.

2 ـ إنَّ هذا الكلام فيه استعارة تمثيليَّة، فهو يكنِّي عن توقير المؤمن واحترامه؛ باعتبار أنَّ الإنسان عادةً يتردَّد في عمل يوجب إساءة مَنْ يحترمه ويوقِّره كالصديق الوفيِّ والخلِّ الصفيِّ، بخلاف مَنْ لا يقدّره ولا يوقِّره كالعدو والحيَّة والعقرب.

3 ـ إنَّه ورد في الحديث من طرق الخاصَّة والعامَّة: أنَّ الله ـ سبحانه ـ يظهر للعبد المؤمن عند الاحتضار من اللُطف والكرامة والبِشارة بالجنَّة ما يزيل عنه كراهة الموت، ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار، فيقلُّ تأذِّيه به، ويصير راضياً بنزوله، راغباً في حصوله، فأشبهت هذه الحالة معاملة مَنْ يريد أن يؤلم حبيبه ألماً يتعقَّبه نفع عظيم، فهو يتردَّد في أنَّه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقلُّ تأذِّيه به، فلا يزال يظهر له ما يرغِّبه فيما يتعقَّبه من اللذَّة الجسميَّة والراحة العظيمة إلى أن يتلقَّاه بالقبول، ويعدُّه من الغنائم المؤدِّية إلى إدراك المأمول.


(1) اُصول الكافي: 2 / 352.

(2) أخذتها من مرآة العقول: 10 / 384 ـ 385، وكذلك المجلد التاسع: ص 297 ـ 298.

499

أقول: من جملة الروايات التي أشار إليها الشيخ البهائي(رحمه الله) ممَّا تدلُّ على أنَّ المؤمن لا يُكرَه على الموت، بل يُحبَّب إليه الموت إلى أن يرضى بذلك ما ورد عن أبي بصير قال:

«قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): جعلت فداك يستكره المؤمن على خروج نفسه ؟ قال: فقال: لا والله. قال: قلت: وكيف ذلك ؟ قال: إنَّ المؤمن إذا حضرته الوفاة حضر رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وجميع الأئمّة عليهم الصلاة والسلام، ولكن أكنُّوا عن اسم فاطمة(1)، ويحضره جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل(عليهم السلام)، قال: فيقول أميرالمؤمنين عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام): يا رسول الله، إنَّه كان ممَّن يحبُّنا ويتولاَّنا فأحبَّه، قال: فيقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا جبرئيل، إنَّه ممَّن كان يحبُّ عليَّاً وذرّيته فأحبَّه، وقال جبرئيل لميكائيل وإسرافيل(عليهم السلام) مثل ذلك، ثُمَّ يقولون جميعاً لملك الموت: إنَّه ممَّن كان يحبُّ محمَّداً وآله، ويتولَّى عليَّاً وذرِّيته، فارفق به، قال: فيقول ملك الموت: والذي اختاركم وكرَّمكم، واصطفى محمَّداً(صلى الله عليه وآله) بالنبوَّة، وخصَّه بالرسالة، لأنا أرفق به من والد رفيق، وأشفق عليه من أخ شفيق، ثُمَّ قام إليه ملك الموت فيقول: يا عبدالله، أخذت فكاك رقبتك ؟ أخذت رهان أمانك ؟ فيقول: نعم، فيقول الملك: فبماذا ؟ فيقول: بحبِّي محمَّداً وآله، وبولايتي عليِّ بن أبي طالب وذرِّيته، فيقول: أمَّا ما كنت تحذر فقد آمنك الله منه، وأمَّا ما كنت ترجو فقد أتاك الله به، افتح عينيك فانظر إلى ما عندك، قال: فيفتح عينيه فينظر إليهم واحداً واحداً، ويفتح له باب إلى الجنّة، فينظر إليها فيقول له: هذا ما أعدَّ الله لك، وهؤلاء رفقاؤك أفتحبُّ


(1) قال المجلسي(رحمه الله) في ذيل نقله لهذه الرواية في البحار: «ولكن أكنُّوا عن اسم فاطمة» أي: لا تصرِّحوا باسمها(عليها السلام)؛ لئـلاَّ يصير سبباً لإنكار الضعفاء من الناس.

500

اللحاق بهم أو الرجوع إلى الدنيا ؟ قال: فقال أبوعبدالله(عليه السلام): أما رأيت شخوصه(1)ورفع حاجبيه إلى فوق من قوله: لا حاجة لي إلى الدنيا، ولا الرجوع إليها ! ويناديه مناد من بطنان العرش يسمعه ويسمع من بحضرته: يا أيتها النفس المطمئنَّة إلى محمَّد ووصيّه والأئمَّة من بعده، ارجعي إلى ربِّك راضية بالولاية مرضيَّة بالثواب، فادخلي في عبادي مع محمَّد وأهل بيته، وادخلي جنَّتي غير مشوبة»(2).

وللمجلسي(رحمه الله) توجيه رابع لتردُّد الله في موت عبده المؤمن، وهو: توجيهه بمسألة البداء بالمعنى المعقول عندنا، فيكون التردُّد إشارةً إلى المحو والإثبات في لوحهما؛ فإنَّه يكتب أجله في زمان وآن فيدعو المؤمن لتأخيره، أو يتصدَّق فيمحو الله ذلك، ويؤخِّره إلى وقت آخر، فهو يشبه فعل المتردِّد أُطلِق عليه التردُّد على وجه الاستعارة(3).

وللسيّد الإمام الخمينيّ(رحمه الله) توجيه خامس لذلك، وهو: حمله على نسبة تردُّد المؤمن إلى الله على حدِّ ﴿... مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمَى ...﴾(4) أي: أنَّ هذا من باب انتساب أفعال العبيد إلى الله على أساس الأمر بين الأمرين(5) ثُمَّ ذكر (رحمه الله)تكملةً للمطلب ببيان تفسير جديد للتردُّد بالنسبة للمؤمن، وهو: أنَّ العباد إمَّا أن يكونوا عرفاء وأولياء لله، وينخرطوا لدى سيرهم إلى الله في مسلك أصحاب القلوب، فيكونون مجذوبين للحقِّ، وتوَّاقين لجماله الذي لا مثيل له، ومستقبلين


(1) شخص الميت بصره وببصره: رفعه.

(2) البحار 6 / 162 ـ 163. وفسَّر المجلسي(رحمه الله) «غير مشوبة» بمعنى: كون الجنّة غير مشوبة بالمحن والآلام.

(3) مرآة العقول 10 / 385.

(4) السورة 8، الأنفال، الآية: 17.

(5) الأربعون حديثاً للسيّد الإمام(رحمه الله)، ترجمة السيّد محمَّد الغرويّ: 521.

501

ذاته المقدَّس في كلِّ تطلُّعاتهم وآمالهم، ولا يلتفتون إلى غيره سبحانه من العوالم، بل لا يفكِّرون في أنفسهم وكمالاتهم.

وإمَّا أن ينغمروا في زخارف الدنيا، ويخوضوا في ظلمات حبِّ الجاه والمال، وتكون قلوبهم متجهةً نحو الأنانيّة والإنِّية من دون أن يعبأوا بالعالم الأقدس، ويأبهوا بالملكوت الأعلى، وهم الملحدون في أسماء الله.

والطائفة الثالثة هم الذين ينتبهون إلى العالم الأرفع نتيجة نور إيمانهم، ويكرهون الموت لالتفاتهم إلى هذا العالم، فعُبِّر عن هذا التجاذب بين المُلك والملكوت، والغيب والمادَّة، والآخرة والدنيا بالتردُّد، ونُسِبَ هذا التردُّد إلى الله بالبيان الماضي(1).

قوله: «وإنَّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلاّ الغنى...» هذا المقطع ورد في نقل آخر بشكل أكثر شرحاً، فقال: «... وإنَّ من عبادي المؤمن لمن يريد الباب من العبادة فأكفُّه عنه؛ لئلاَّ يدخله عُجب ويفسده، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم، ولو صححت جسمه لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك. إنِّي أُدبِّر عبادي بعلمي بقلوبهم، فإنِّي عليم خبير»(2).

وحقَّاً أنَّ هذا المقطع يبرِّد قلب المؤمن على أ يَّة حال يكون ما دام يعلم يقيناً أنَّ الله ـ تعالى ـ لا يريد إلاّ الخير بعباده، فلو سُقِم أو أُفقر فلعلَّ الصحّة أو الغنى كان يوجب له البطر، ولو أُغني أو عوفي فلعلَّ الفقر أو السقم كان يوجب له الجزع


(1) الأربعون حديثاً للسيّد الإمام(رحمه الله)، ترجمة السيّد محمَّد الغروي ّ: 524.

(2) البحار 70 / 16 ـ 17.

502

وترك الصبر، وهكذا سائر الأُمور. فالمؤمن يعلم أنَّه على أ يَّة حال قد روعيت مصلحته، ولوحظت الخيرات والبركات له.

وقد ورد في حديث صحيح السند عن الفضيل بن يسار، عن الصادق(عليه السلام):

«... يا فضيل بن يسار، إنَّ المؤمن لو أصبح له ما بين المشرق والمغرب كان ذلك خيراً له، ولو أصبح مُقطَّعاً أعضاؤه كان ذلك خيراً له. يا فضيل بن يسار، إنَّ الله لا يفعل بالمؤمن إلاّ ما هو خير له. يا فضيل بن يسار، لو عدلت الدنيا عند الله ـ عزَّوجلَّ ـ جناح بعوضة ما سقى عدوَّه منها شربة ماء. يا فضيل بن يسار، إنَّه مَنْ كان همُّه همَّاً واحداً كفاه الله همَّه، ومَنْ كان همُّه في كلِّ واد لم يبالِ الله بأيِّ واد هلك»(1).

نعم، إنَّ الله ـ تعالى ـ أقرب إلى عبده من حبل الوريد، ويعلم سرائره، وهو الذي خلقه وخلق كلَّ ما حوله من العالَم الذي جعله ضِمنه، فمن الطبيعي أن يكون أعرف بما يصلحه وما يفسده من نفس العبد.

وعلى أيِّ حال، فلا يخفى أنَّ هذا المقطع وكذلك المقطع الذي قبله راجعان إلى المؤمن الاعتيادي لا إلى الكمّل من عباده؛ وذلك ـ كما أفاده السيّد الإمام الخمينيّ (رحمه الله)(2) ـ لأنَّ مَنْ يكره الموت، أو يعبث الغنى والفقر بقلبه إنَّما هو المؤمن العام دون الخواصِّ.

قوله: «وما يتقرَّب إليَّ عبد من عبادي بشيء أحبُّ إليَّ ممَّا افترضت عليه، وإنَّه يتقرَّب إليَّ بالنافلة حتّى أُحبُّه، فإذا أحببته كنت إذن سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته».


(1) أُصول الكافي 2 / 246.

(2) الأربعون حديثاً للسيّد الإمام(رحمه الله)، ترجمة السيّد محمَّد الغرويّ: 519.