54

ايّاً منهم شاء بقدر ثلثهم فالقرعة في هذه الموارد تحمل عرفاً على قضية أخلاقية لكي لا يتأذّى بعض المماليك نفسيّاً على أثر ترجيح غيره عليه بلا مرجّح على انّ الحديث الأخير لم يشتمل على الأمر بالقرعة حتى يتوهّم منه الوجوب.

ويؤيد الحمل على القضية الأخلاقية ما ورد في روايات من نذر عتق أوّل مملوك له فملك أكثر من واحد من رواية تدلّ على كون الناذر مخيّراً في عتق ما أراد(1) وإن كانت الرواية ضعيفة سنداً على انّنا لو حملنا هذه الروايات على وجوب القرعة في موردها لا يمكن التعدّي منها إلى المقام لإثبات نكتة إضافية وهي كون القرعة متمّمة للسبب الناقص للملكية كما فرضه (رحمه الله).

وأمّا إطلاقات القرعة للأمر المشكل فهي أيضاً لا تثبت كون القرعة متمّمة للسبب الناقص للملكية إذ لا مشكلة في افتراض بقاء السبب الناقص على نقصه وبالتالي عدم حصول المسبب وهو الملكية حتى يتمسّك بكون القرعة لكل أمر مشكل؟! هذا لو كان لدينا إطلاق من هذا القبيل أمّا لو قلنا إنّ الإطلاق انّما ورد في كون القرعة لكل أمر مجهول فهذا لا يشمل إلّا فرض وجود تعيّن للأمر في الواقع كما هو واضح.

هذا والحقّ في المقام انّه لو قلنا بانّ الارتكاز العقلائي يقبل صحّة أحد البيعين في مورد بطلان أحدهما غير المعين حتى في الواقع فهذا يعني انّ العرف يرى انّ الملكية حصلت على عنوان أحدهما الجامع رغم انّ البائع لم يقصد ذلك وانّما قصد بيع هذا وذاك على التعيين وعندئذ يتم كلام السيد الخوئي من انّه لا داعي إلى القرعة بل أمر التعيين يكون بيد البائع ولو لم نقل بذلك إذن يتعين


(1) الوسائل 16: 59، الباب 57 من أبواب العتق، الحديث 3.

55

بطلانهما معاً كما اختاره الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) حيث ذكر: انّ أحدهما باطل ولاتعين للصحيح منهما فيبطلان معاً قال ولا يعكس الكلام علينا بان يقال: أحدهما صحيح ولا تعين للباطل منهما فيصحّان معاً فان حصول النقل والانتقال هو الذي يكون بحاجة إلى دليل أمّا الحكم بالبطلان فيكفيه انّنا لم نستطع الحكم بصحّة أحدهما لعدم تعيّنه في الواقع(1).

هذا. وذكر المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام: انّه لو اكره على بيع أحد الأمرين ولم يكن يرغب في بيع الثاني لولا بيعه مكرهاً للأوّل أي كان هناك ارتباط بين البيعين في رغبته النفسية إذن فالإكراه قد سرى إلى كلا البيعين وبطلا معاً حتى فيما إذا كان الإكراه على بيع أحدهما المعيّن وضمّ المكرَه الثاني إليه باعتبار ما في نفسه من الترابط بين البيعين وعدم رغبته في بقاء الثاني وحده لديه بل لا يبعد ذلك فيما إذا باعهما تدريجاً أيضاً ففي كل هذا قد باع البيعين عن إكراه لما هو المفروض من الترابط بينهما في رغبته النفسية(2).

إلّا انّ هذا الكلام في غير محله فان الإكراه لم يكن إلّا على أحدهما ومجرّد انجرار بيعه إلى الرغبة في بيع الآخر الذي لم يكن يرغب في بيعه في ذاته وانّما رآى نفسه مضطراً إليه بعد أن كان البيع الأوّل مفروضاً عليه لا يوجب صدق الإكراه وغاية ما في الباب فرض صدق الاضطرار وهو غير مبطل للمعاملات.

وقد يقال(3) إنّ الاضطرار أيضاً مبطل للبيع وانّما كان في الفروض المتعارفة


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 125.

(2) راجع تعليقته على المكاسب: 50.

(3) كما عن السيد الإمام (رحمه الله) في خصوص ما إذا كان الإكراه على أحدهما غير المعين وباعهما دفعة واحدة وكان بيع الثاني عن اضطرار جرّه إليه بيع الآخر إكراهاً.

56

غير مبطل لانّ الإبطال كان خلاف الامتنان أمّا في المقام فهو وفق الامتنان ولذا لوعرف بطلان البيعين ورجوع العينين إليه سرّه ذلك إذن فكلا البيعين في المقام باطل أحدهما بالإكراه والآخر بالاضطرار.

ويردّ عليه: انّ امتنانية بطلان البيع الثاني في المقام نتيجة الاضطرار بل نتيجة انكشاف الخلاف حيث انّه كان يعتقد انّ أحد الفردين قد خرج من يده ولو ظلماً وإكراهاً ورآى انّ الفرد الآخر وحده لا ينفعه مثلا فاضطرَّ إلى بيعه وبعد ما انكشف له إرجاع الفرد الأوّل إليه بسبب سلطان عادل مثلا يسرّه إرجاع الفرد الثاني أيضاً وهذا نظير من اعتقد مرض ابنه فاحسّ بالاضطرار إلى بيع داره للحصول على مال يداوي به ابنه ثم انكشف بعد البيع انّ ابنه ليس مريضاً وعندئذ لو حكم له ببطلان البيع لسرّه ذلك أفهل يقال هنا ببطلان البيع بحكم رفع ما اضطرّوا إليه باعتبار انّ بطلانه امتنانيّ في المقام؟!

وفصّل السيد الخوئي في موارد بيع العينين دفعة واحدة إذا كان الإكراه على بيع أحدهما لا بعينه بين ما لو كان لانضمام كل من العينين إلى الاُخرى دخل في مالية الآخر كفردي النعال أو مصراعي الباب فيبطل البيعان معاً لاستنادهما إلى خوف الضرر أمّا ضرر الجائر مباشرة أو ضرر بقاء الفرد الآخر بلا راغب الذي هو أيضاً نتيجة عمل الجائر وما لو لم يكن لأحدهما دخل في مالية الآخر من قبيل فرسين فهنا يصحّ أحد البيعين ويبطل أحدهما(1).

أقول: يردّ عليه:

أوّلا ـ انّه في مثال الفرسين إن لم نفترض تضرره ببقاء أحدهما عند بيع الآخر


(1) المحاضرات 2: 264.

57

صحّ إذن ما قرّبه الشيخ الانصاري من صحّة كلا البيعين لانّ كل واحد منهما كان كافياً لإشباع رغبة المكرِه فالآخر صدر منه عن رضا وهذا صادق في كلا الفرسين إذن فقد صحّ كلا البيعين وإن فرضنا تضرّره بذلك لم يبق فرق بين مثال الفرسين ومصراعي الباب أو فردي النعال فالمفروض به أن يقول بالبطلان في الكل لانّ كلا البيعين نتجا عن خوف ضرر مستند إلى الجائر سواء كان هو ضرر البطش عليه من قِبَل الجائر أو ضرر بقاء أحد الفردين عنده منفصلا عن الفرد الآخر.

وثانياً ـ انّه لو كان خوف الضرر مبطلا ما دام مستنداً إلى إكراه المكرِه ولو على شيء آخر ولذا حكم ببطلان البيعين في المقام للزم من ذلك انّه لو اكرهه على دفع مال فباع بيته خوفاً من ضرر المكرِه ثم تبيّن انّه كان يمتلك ذاك المبلغ بطل البيع في حين انّه لا يفتي بذلك والواقع انّ الرضا موجود ولو بدافع الخوف والاضطرار غير مرفوع لان الامتنانية نشأت من الجهل لا من الاضطرار كما مضى.

وأمّا الاختلاف بالنقيصة فمن قبيل ما لو اكرهه على بيع الفرسين فباع أحدهما فان فعل ذلك بقصد التدرّج أي أنّه ناو لبيع الفرس الثاني بعد ذلك معتقداً انّ المكرِه لم يقصد خصوص بيعهما دفعة فالبيع باطل بلا إشكال وان فعل ذلك عن طوع ورضا بعدما لم يكترث بإكراه المكرِه ولذا لم يفعل ما أراده من بيع كلا الفرسين فالبيع صحيح بلا إشكال وان فعل ما فعل برجاء اكتفاء المكرِه بهذا المقدار ورفع يده عن الإكراه على بيع الفرس الثاني فهذا بيع صادر عن إكراه ويكون باطلا.

نعم ذكر الشيخ الانصاري (رحمه الله): انّ في سماع دعوى ذلك من قبل البائع مع عدم الامارات نظراً(1).


(1) راجع المكاسب 1: 121، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

58

ويرد عليه: انّ الإكراه على البعض ثابت ضمن الإكراه على الكل فحال بيعه للبعض هو حال ما لو باع الكل واحتملنا رضاه صدفة.

نعم لو فرض كون إكراه المكره على الأبعاض بشرط شيء فكل واحد من الأبعاض ليس مطلوباً له لولا البعض الآخر فالإكراه كان على المجموع من حيث المجموع لا على الجميع فهنا لا يكون بيع البعض صادراً عن إكراه لانّه يباين ما اُكره عليه وهذا داخل في ما سيأتي الآن إن شاءالله من القسم الثالث وهو الاختلاف بالتباين.

وأمّا الاختلاف بالتباين فمن قبيل ما لو أكرهه على بيع كتابه فباع رداءه فإن كان ذلك بطوع رغبته بلا علاقة له بإكراه المكرِه صحّ البيع بلا إشكال وإن كان ذلك برجاء قناعة المكرِه بذلك ورفع يده عن إكراهه على بيع الكتاب فالبيع باطل لا بالإكراه بل بعدم الطيب وهنا يصحّ القول بانّ دعوى البائع ذلك لا تسمع بلا قرينة تدل على ذلك.

لحوق الرضا بالعقد بعد الإكراه:

الفرع الثالث ـ لو رضي المكرَه بعد إيقاع العقد قالوا صحّ العقد ويمكن النقض عليه بسائر الشروط فمثلا لم يقل أحد انّ بيع الصغير إذا أعقبه البلوغ أصبح تاماً لانّه لم يكن يعوزه عدا شرط البلوغ وقد حصل فلماذا يقال في الرضا الذي هو شرط من الشروط انّ لحوقه المتأخر كاف في صحّة العقد فأي فرق بينه وبين باقي الشروط؟!

كما يمكن إثبات البطلان بالحلّ بانّ دليل شرطية الرضا ظاهره الشرطية المقارنة خصوصاً قوله تعالى: ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا أن تكون

59

تجارة عن تراض﴾(1) فانّ عن النّشوية تدل على ضرورة نشوء التجارة عنتراض ولا يكفي في صدق هذا العنوان لحوق الرضا.

وبان دليل مانعية الإكراه وحديث رفع ما اكرهوا دلّ على انّ الإكراه قد أبطل العقد وتصحيحه مرة اُخرى بالرضا المتأخّر بحاجة إلى دليل جديد ولم يرد.

وان ورد دليل في الفضولي بصحّة العقد بلحوق الرضا لم يمكن قياس عقد المكره بذلك لاحتمال الفرق بانّ عقد الفضولي نشأ استناده إلى المالك عن الرضا فصدق عنوان نشوء التجارة عن تراض في حين انّ تجارة المكره لم تنشأ عن رضا وانّما لحقه الرضا متأخّراً فصحّة عقد الفضولي بالرضا والإمضاء ثابتة بمقتضى القاعدة حتى لو لم يكن هناك نصٌّ يدل على صحّته وهذا بخلاف عقد المكرَه.

وأجاب الشيخ الانصاري (رحمه الله) عن الآية بانّ الاستثناء منقطع تام فلا يدلّ على الحصر.

وعن حديث رفع الإكراه بوجهين: (الأوّل) ان حديث الرفع امتنانيٌّ ولا امتنان في إبطال الحكم بوقوف العقد على الرضا. (والثاني) انّ الحكم بوقوف العقد على الرضا متفرّع على الإكراه فلا يرتفع بحديث رفع الإكراه.

ثم أورد إشكالا قد توهم عبارته انّه إشكال على الوجه الثاني واظن انّ المقصود هو الإشكال على كلا الوجهين وهو: انّ وقوف العقد على الرضا حكم جديد والحكم الأوّلي للعقد وهو النفوذ المستفاد من مثل ﴿اوفوا بالعقود﴾ قد ارتفع بحديث رفع الإكراه والحكم الجديد بحاجة إلى دليل جديد وهو مفقود.

ثم أصبح (رحمه الله) بصدد حلّ الإشكال بلحاظ حديث الرفع ببيان آخر وهو انّ


(1) النساء: 29.

60

دليل ﴿أوفوا بالعقود﴾ أو ﴿أحل الله البيع﴾ قد قيّده. أوّلا بالأدلّة الأربعة بالرضامن دون ثبوت قيد التقارن وبعد ذلك لم يبق مجال للتمسّك بحديث الرفع لانّ حديث الرفع هل يرفع أثر ذات البيع أو يرفع أثر مجموع البيع والرضا المتأخّر؟! فان فرض الأوّل قلنا إنّ ذات البيع لا أثر شرعي له وانّما الأثر الشرعي يترتّب على مجموع البيع والرضا حسب الفرض نعم هنا أثر عقلي منتزع من ذلك وهو كون ذات البيع جزء سبب لحصول النقل والانتقال وحديث الرفع لا يشمل الآثار العقليّة وان فرض الثاني قلنا: إنّ مجموع البيع والرضا المتأخّر يستحيل طروء الإكراه عليه(1).

أقول: وقد يعترض على الشيخ (رحمه الله) بانّه لو لم يبق مجال بعد هذا البيان للتمسّك بحديث رفع الإكراه إذن فقد بطل استدلاله في مستهلّ بحث الرضا ومبطليّة الإكراه بحديث الرفع على المقصود وكان ينبغي له الاقتصار في الاستدلال على ذلك بمثل آية التجارة عن تراض.

ولكن بالإمكان ان يقال: انّه يكفي في نظام المحاورة لصحّة الاستدلال بدليلين أن يكون أحد الدليلين صحيحاً بعد فرض التنزّل عن الدليل الآخر ولا يشترط كونهما دليلين عرضيين فلعلّ مقصود الشيخ (رحمه الله) في المقام كان ذلك أي انّه يقال: أولا انّ بيع المكرَه باطل بدليل ما ثبت به شرط الرضا ولو تنزّلنا عن ذلك وافترضنا عدم ورود دليل يدلّ على شرط الرضا صحّ لنا التمسّك بحديث رفع الإكراه فهما دليلان طوليّان على المقصود.

أمّا المحقّق الاصفهاني (رحمه الله)(2) فذكر بالقياس إلى جواب الشيخ الانصاري


(1) راجع المكاسب 1: 122.

(2) راجع تعليقته على المكاسب 1: 126 ـ 129.

61

عن الآية الشريفة بكون الاستثناء منقطعاً تامّاً: انّ الانقطاع لا يمنع عن إفادة الحصر بل يكون آكد في الحصر فهو يفترض انّ الشيء الذي كان يترقّب دخوله في المستثنى منه في الحكم ويتوهّم ذلك هو الشيء الفلاني وهو الوحيد الذي خرج حيث لم يجد ما يستثنى إلّا ما يتوهّم دخوله من قبيل ﴿سجد الملائكة كلّهم اجمعون إلّا أبليس﴾(1) ونظيره ما يفترض دخوله تأكيداً ومبالغة حيث لم يجب ما يستثنيه فاضطرّ إلى فرض الدخول ثمّ الإكراه فهذا أيضاً يكون أبلغ في الحصر من قبيل: فلان لا عيب فيه إلّا انّه عالم.

أقول: إنّ الانقطاع إن كان آكد في الحصر بلحاظ المستثنى منه فالتمسّك بالمستثنى منه في المقام تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لان كون أكل المال بالبيع المكرَه عليه بعد الرضا أكلا بالباطل أوَّل الكلام فالمهم هو استظهار كون الاستثناء متصلا بان تفسّر الآية بمعنى لا تاكلوا أموالكم بينكم بكل سبب فانّه باطل إلّا ان تكون تجارة عن تراض.

وعلى أيّة حال فالمحقّق الاصفهاني (رحمه الله) يرى انّ إشكال الآية الكريمة يحل ببيان انّها وإن كانت تدلّ على كون الرضا شرطاً مقارناً للعقد لكنّ التقارن في المقام محفوظ لانّ الرضا شرط لواقع التعاقد والقرار المعاملي والذي هو مستمر إلى حين لحوق الرضا لا للألفاظ المتصرّمة التي لم تكن عدا آلة للتعاقد والقرار.

أقول: لئن سلّمنا انّ العقد أمر مستمر وليس في مثل البيع أمراً آنيّاً قلنا في المقام: إنّ التقارن لو كان مستفاداً من مجرّد دعوى ظهور دليل الاشتراط في كون الشرط شرطاً مقارناً لأمكن حل الإشكال بما ذكره من انّ الرضا وإن كان متأخّراً


(1) ص: 73 و 74.

62

لكن العقد مستمر إلى حينه فيتمّ التقارن لكنّنا لو تمسّكنا بظهور كلمة (عن) فيالآية المباركة في ضرورة نشوء العقد عن الرضا فمجرّد لحوق الرضا لا يؤمّن لنا نكتة النشوء.

وأمّا تعليق الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) على ما ذكره الشيخ الانصاري أخيراً من انّ حديث الرفع لا مورد له في المقام إذ لو اُريد به رفع أثر ذات البيع فليس لذات البيع عدا أثرٌ عقلي وهو انتزاع كونه جزء سبب ولو اُريد به رفع أثر العقد المرضيّ فالعقد المرضيّ بوصفه مرضياً لا يطرأ عليه الإكراه فهو أن لذات البيع أثراً شرعيّاً بشرط الرضا وهو حصول النقل والانتقال أو قل انّ البيع جزء سبب أو جزء موضوع لأثر شرعي جعله الشارع وهو الملك وهذا الأثر الشرعي هو الذي يرفع بحديث الرفع.

ومن هنا ذهب (رحمه الله) إلى انّ حلّ الإشكال إذن يكمن في امتنانية حديث الرفع فيقال: إنّ دليل حلّ البيع والوفاء بالعقد لم يقيد بدليل رفع الإكراه إلّا بمقدار زمان ثبوت الإكراه لانّ هذا المقدار هو الذي كان مطابقاً للامتنان امّا بلحاظ ما بعد زوال الإكراه فالدليل الأولي للمعاملة باق على إطلاقه لعدم الامتنان في رفع الحكم بلحاظه كي يشمله حديث الرفع.

أقول: وزائداً على ذلك بالإمكان أن يقال: إنّ المستظهر من حديث رفع الإكراه بمناسبات الحكم والموضوع هو انّ رفع الإكراه ناظر إلى نكتة تضعيف الإكراه للقدرة والاختيار وهذه النكتة مفقودة في مورد اختصاص الإكراه بجزء موضوع الأثر الشرعي وبقاء الجزء الآخر تحت القدرة والاختيار الكاملين.

هذا. وأورد السيد الخوئي(1) على الكلام الأخير للشيخ الانصاري (رحمه الله) بان


(1) راجع المحاضرات 2: 272، ومصباح الفقاهة 3: 337.

63

تخصيص دليل الوفاء بالعقد بحديث الرفع يكون في عرض تخصيصه بباقي أدلّة الشرائط التي منها أدلة شرط الرضا لا في طوله فلا مبرر لتخصيصه أوّلا بتلك الأدلّة ثم قياسه إلى حديث الرفع كي يقال: لم يبق موردٌ للتمسّك بحديث الرفع لانّ ذات البيع لا أثر شرعي له والبيع المرضيّ بما هو مرضيٌّ لا يطرأ عليه الإكراه.

أقول: إنّ هذا الإشكال غريب فان حديث الرفع له الرفع حكومة على الأحكام الأوليّة بالنظر ونظره ليس إلى كل دليل على حدة وانّما ينظر إلى ذات الأحكام بجميع ما لها من قيود وشروط في ذاتها وبقطع النظر عن حديث الرفع فالحكم الذي لا يكون وفق قيوده وشروطه شاملا قبل حديث الرفع لفرض وجود الإكراه لا معنى لحكومة دليل رفع الإكراه على دليله.

هذا. وبنى السيد الخوئي(1) البحث في المقام على مسألة الرجوع إلى العام بعد انتهاء زمان المخصص وعدمه فذكر: انّ عموم ﴿اوفوا بالعقود﴾ له إطلاق أزماني خرجت منه فترة وجود الإكراه والمخصص لم يشمل ما بعد انتهاء تلك الفترة وذلك لانّ موضوع المخصّص كان هو وجود الإكراه وقد انتهى ولأنَّ إطلاقه لما بعد تلك الفترة ليس موافقاً للامتنان فإذا انتهت فترة التخصيص بأحد هذين الوجهين رجعنا إلى الإطلاق الأزماني للعام وثبت بذلك نفوذ العقد فبهذا ينتهي الإشكال الناتج عن حديث الرفع في المقام. وقد اقحم السيد الخوئي حسب ما في المحاضرات ضمن بيان الوجه الأوّل فكرة انّ واقع العقد باق إلى حين الرضا وإن كانت الألفاظ قد تصرَّمت.

أقول: بناء على كون المرجع بعد انتهاء فترة المخصص هو عموم العام


(1) راجع المحاضرات 2: 272 ـ 274، ومصباح الفقاهة 3: 334 ـ 335.

64

ينتهي بذلك الإشكال الناتج عن حديث الرفع بلا حاجة إلى فرض انّ العقد أمر باق إلى حين الرضا فحتى بناء على انّ العقد أمر آنيّ يتم هذا البيان لكن هذا لا يؤدّي إلى الإفتاء بصحّة بيع المكره بعد الرضا ما دمنا لم نحلّ الإشكال الناتج عن دليل شرط الرضا وطيب النفس وخاصّة بلحاظ (عن) النشوية الواردة في الآية المباركة وقد تعرّض السيد الخوئي لإشكال عن النشوية في المحاضرات(1) وفي المصباح(2) إلّا انّه لم يذكر جواباً عليه في المحاضرات لدى ذكر الإشكال وأمّا المصباح فقد ذكر(3) في جوابه أمرين:

(الأوّل) انّ التعاقد مستمر إلى حين لحوق الرضا وان انتهت الألفاظ وهذا غريب فانّ هذا الجواب انّما يدفع إشكال التقارن لو كان منشأه مجرّد دعوى ظهور ذكر الشرط في كونه شرطاً مقارناً ولا يدفع إشكال ظهور كلمة (عن) في النشوء فان مجرّد لحوق الرضا مع استمرار العقد لا يحقّق عنوان نشوء العقد عن الرضا.

(والثاني) انّ الآية ظاهرة في انّ سبب الأكل منحصر في أمرين: الأسباب الباطلة والتجارة عن تراض ولا ريب في انّ الأكل بعد رضا المكرَه ليس أكلا بالباطل فيكون لا محالة من جهة التجارة عن تراض.

وقد ذكر نظير هذا الكلام في المحاضرات(4) أيضاًولكن ضمن الجواب عن


(1) المحاضرات 2: 271.

(2) مصباح الفقاهة 3: 331.

(3) المصدر السابق: 332.

(4) 2: 273.

65

إشكال حديث الرفع ولعلّه اشتباه في الكتاب فكان المقصود به هو الجواب عن إشكال الآية وعلى أية حال فهذا الكلام أيضاً غريب فان فرض عدمِ كون الأكل في المقام أكلا بالباطل مصادرة على المطلوب ولو كنّا نعلم انّه ليس باطلا لم نكن نحتاج إلى هذا البحث.

وأمّا ما أشرنا إليه في مستهل البحث من النقض بسائر الشروط وانّه لماذا لا يكون لحوق شرط آخر مفقود حيث العقد موجباً لصحّة العقد ويكون خصوص الرضا لحوقه موجباً لصحّته لدى فقدانه حين العقد فلم أرَ من الأصحاب بحدود فحصي الناقص من تعرّض له.

والصحيح: انّ عقدة البحث شيء واحد إذا انحلّت انحلّ الإشكال النقضي والحليّ معاً.

وتوضيح ذلك: انّه هل المقصود بلحوق الرضا المصحّح لعقد المكرَه مجرّد حصول الحالة النفسية المسمّاة بطيب النفس؟ أو المراد هو الإمضاء والإجازة وهو نوع إنشاء يصدر من الإنسان إذا طابت نفسه بالعقد؟ فإن كان المقصود هو الأوّل فحال الرضا حال سائر الشرائط لا يكفي مجرّد لحوقه لصحّة العقد فان ظاهر دليل الشرط بطبعه هو الشرط المقارن وخاصّة بلحاظ ما يستفاد من كلمة (عن) النشوية في المقام وبيع الفضولي أيضاً لا يصح بمجرّد لحوق الرضا بمعنى طيب النفس.

وإن كان المقصود هو الثاني فهو أمر صحيح وكل الإشكالات تنحلّ في المقام وفي الحقيقة يتمّ العقد بضمّ الإجازة من أحد الطرفين إلى إنشاء الطرف الآخر إذا كان العاقد الآخر أصيلا وغير مكرَه وبضمّها إلى إجازة الآخر إن كان العاقد الآخر أيضاً فضولياً أو مكرهاً فهذا في الحقيقة انتساب جديد للعقد إليه بما

66

هو راض ويكفي تقارن الرضا بهذا الانتساب وكذلك يكون هذا تجارة جديدة نشأت عن تراض ولم تكن مكرهاً عليها ويشترط فيها بقاء الطرف الآخر واجداً للشرائط العامّة للعقد إلى حين لحوق الإجازة وهنا أيضاً لا فرق بين الرضا وسائر الشرائط فعقد الصبي مثلا لو لحقه البلوغ صحّ العقد بإمضائه بعد البلوغ لما صدر منه قبل البلوغ نعم لو كان فقدان الشرط في حين العقد بنحو بحيث يؤدّي إلى عدم تحقّق عقد فعندئذ لا مصبّ للإجازة وذلك كما في فرض الجنون بمستوى مانع عن تحقّق العقد القلبي من أساسه.

وبهذا البيان الذي شرحناه يتّضح ان قياس باب الإكراه بباب الفضولي ليس قياساً مع الفارق.

وقد يقال: إنّ الفرق بينهما هو انّه في باب الفضولي تكون الإجازة من شخص آخر غير الذي أجرى العقد فالعقد لم يكن منتسباً إليه قبل الإجازة وانّما انتسب إليه بالإجازة وأمّا في المقام فالعقد كان منتسباً إلى المكرَه قبل رضاه ولا يتكرّر انتساب فعل إلى شخص مرتين فبعد الرضا لا يوجد انتساب جديد للعقد إليه بوصفه راضياً مثلا إذن فلا مبرّر لصحّة العقد لانّه حينما وقع لم يكن راضياً وحينما رضى لم ينتسب العقد إليه بانتساب آخر.

والجواب: انّنا لا نقصد بانتساب العقد إليه الانتساب بالمعنى الحقيقي للكلمة لذات العقد إليه فانّ هذا لا يتمّ عندنا حتى في الفضولي على ما سيأتي شرحه إن شاء الله في محله وانّما نقصد بذلك ان انتحاله وتبنّيه للعقد والذي هو انتحال جديد حصل بالإجازة المتأخرة سواء في باب الفضولي أو في باب المكره هو موضوع للسيرة العقلائية وللإطلاقات كما سيأتي ذلك أيضاً في بحث الفضولي إن شاء الله.

67

بقي الكلام في انّ الإجازة بعد انتهاء الإكراه هل هي كاشفة أو ناقلة؟ ونحن نختصر الكلام في ذلك محيلين التفصيل إلى بحث الفضولي فنقول:

لا إشكال ولا ريب في انّ الكشف سواء فرض حقيقة أو حكماً فهو خلاف أصالة عدم ترتيب الآثار فلا بُدَّ من الالتزام بالنقل ما لم يثبت خلافه بدليل.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم استحالة الكشف الحقيقي لا لانّ الشرط يؤوّل من كونه هو الرضا إلى كونه هو التعقّب بالرضا فراراً من إشكال الشرط المتأخر مثلا بل لانّ الشرط في مفهومه الفقهي ليس عدا تضييق لدائرة الجعل وهذا ممكن حتى بلحاظ الشرط المتأخر على تفصيل وتحقيق موكول إلى محله في علم الاُصول.

وهناك وجهان لإثبات الكشف:

الأوّل ـ هو التمسّك بروايات خاصّة سنبحثها إن شاء الله في بحث الفضولي وهي لو تمّت سنداً ودلالة فانّما هي واردة في مورد الفضولي فالتعدّي منه إلى المقام يحتاج إلى القطع بعدم الفرق أو عدم احتمال العرف للفرق بحيث يؤدّي إلى ظهور للكلام في إطلاق الحكم للمقام في حين انّه قد يدّعى ان احتمال الفرق موجود باعتبار انّ القطعة الزمنية السابقة في مورد الفضولي انّما كان العيب فيها هو عدم استناد العقد إلى المالك ولكن العيب في ما نحن فيه بالنسبة لتلك القطعة الزمنية هو الكراهة وإرغام الأنف بالنسبة للمالك وهذا اشدّ عرفاً من الأوّل فهذا يشبه الردّ والأوّل يشبه مجرّد عدم الإمضاء وهذا ممّا يحتمل عرفاً كونه فارقاً.

والثاني ـ هو دعوى انّ الكشف موافق لمقتضى القاعدة وذلك لانّ الإجازة إجازة لما وقع وما وقع هو التمليك من ذاك الحين فإن كان دليل على نفوذ الإجازة فمقتضى القاعدة تحقّق الُمجاز وهو التمليك من ذاك الحين.

68

ويرد عليه ما ورد في كلام الشيخ الانصاري (رحمه الله) في المقام(1) وهو انّ عقد البيع مثلا انّما يكون إنشاء لذات التمليك لا للتمليك المقيد بذلك الوقت فان نفّذ شرعاً من ذاك الحين فقد حصل التمليك الشرعي من ذاك الحين وان نفّذ بلحاظ زمن متأخر فقد حصل التمليك الشرعي بلحاظ زمن متأخّر.

أقول: وإذا اتفق انّ التمليك كان منصبّاً على قطعة مقاسة بالزمان كإيجار الدار سنةً من الزمان مثلا فاتفقت الإجازة في أثناء السنة فهذه الإجازة لا تنفذ إلّا بلحاظ القطعة الباقية وذلك لانّ منفعة القطعة المتصرّمة قد تلفت وانتهت وتمليكها وإن كان معقولا وتظهر الثمرة في ضمان اُجرة المسمّى دون المثل للمستأجر الذي استوفاها قبل الإجازة لكنّه ليس عرفياً فليست إجازة تمليك المنفعة المتصرّفة بالإجازة إلّا من قبيل تمليكها ابتداء بالإيجار كما لو آجر شخص بيته الآن لسنة سابقة ممّن كان يسكنه في تلك السنة غصباً وكما انّ هذا غير مقبول عرفاً ولا يُرى هذا الغاصب إلّا ضامناً لاُجرة المثل كذلك الحال في مورد الإجازة.

 

2 ـ التنجيز:

الشرط الثاني ـ من شرطي صحّة الإرادة هو التنجيز وقد ادعي على ذلك إجماع الإمامية وذكر انّ هذا هو عمدة الدليل على هذا الشرط لانّ الوجوه الاُخرى التي ذكرت في المقام ضعيفة ومن هنا ذهب بعض المحقّقين المتأخّرين كالسيد الخوئي والسيد الإمام إلى إنكار هذا الشرط لانّ الإجماع التعبّدي غير ثابت في المقام لاحتمال كون مدرك المجمعين بعض الوجوه التي ذكرت في


(1) راجع المكاسب 1: 122 ـ 123، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

69

المقام وتلك الوجوه كلّها باطلة إذن فالمرجع هو إطلاق أدلّة العقود المقتضية لنفي هذا الشرط.

واخصّ بالذكر الآن من أدلّة القول ببطلان التعليق دعوى عدم قابلية الإنشاء للتعليق(1) وقد أجاب عليه الشيخ الأعظم (رحمه الله) بان المعلّق ليس هو ذات الإنشاء حتى يقال بانّ أمره دائر بين الوجود والعدم ولا معنى للتعليق فيه وانّما هو المُنشأ فبدلا عن ان يُنشئ الملكية المنجزة يُنشئ الملكية المعلّقة على شيء وهذا أمر معقول والذي دعاني إلى تخصيص هذا الوجه بالذكر ما استرعى انتباهي من وقوع التعاكس في كلمات الأعلام في انّ الذي يعقل تعليقه هل هو الإنشاء أو المنشأ وإمكانية تلفيق صورة برهان على المدعى من مجموع الكلامين المتعاكسين.

فالمفهوم من كلام الشيخ الأعظم (رحمه الله) وكذلك المحقّق النائيني(2) والسيد الخوئي(3) هو انّ الإنشاء غير قابل للتعليق وانّما يدور أمره بين الوجود والعدم ولكن المنشأ قابل للتعليق فهو ينشئ الملكية المعلّقة لا الملكية المطلقة(4).

والمفهوم من كلام السيد الإمام (رحمه الله) العكس حيث يقول: إنّ تعليق المُنشأ لا معنى له لانّ المعاني التصورية لا يعقل فيها التعليق فلا معنى لتعليق زيد أو تعليق بيع الدار بل التعليق لا بدّ ان يرجع إلى المعاني التصديقية خبرية كانت أو إنشائية أمّا تخيّل عدم معقولية التعليق في الإنشاء قياساً للوجود الاعتباري بالوجود


(1) راجع المكاسب 1: 100، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع منية الطالب 1: 112 ـ 113، وكتاب المكاسب والبيع 1: 291 ـ 292.

(3) راجع المحاضرات 2: 137، ومصباح الفقاهة 3: 66.

(4) راجع كتاب البيع 1: 233 ـ 234.

70

التكويني فهو قياس مع الفارق ولا يلزم من امتناع التعليق في التكوين امتناعه في التشريع وعالم الاعتبار فإذا قال: إن جاءك زيد فاضربه يكون القيد قيد الهيئة لا المادة والبعث الاعتباري معلّق على مجيئه فما لم يجئ لا بعث بالضرورة، وفي ظرف تحقّق المجيء يتحقّق البعث الاعتباري، والإنشاء غير التلفّظ بالألفاظ الموقعة له، والتلفّظ أمر تكويني ولا يعقل تعليقه بخلاف الإنشاء والإيقاع الذي هو أمر اعتباري، وتوهّم انّ التعليق في الإنشاء يلزم منه التناقض غير وجيه لانّ ما يناقض العدم بالفعل هو الوجود بالفعل، والإنشاء حينما يكون مشروطاً ومعلّقاً ليس إيجاداً بالفعل وانّما يتحقّق الإيجاد والوجود لدى تحقّق الشرط.

والسيد الإمام (رحمه الله) في كلامه هذا ينظر إلى الردّ على ما جاء في منية الطالب(1) من انّ التعليق انّما يعقل في المنشأ لا في الإنشاء لانّ الإيجاد سواء كان اعتبارياً أو تكوينياً يستحيل ان يعلّق على شيء، فكما لا يمكن ان يعلّق وقوع الضرب على أحد على كونه عدوّاً كذلك يستحيل أن يكون إنشاؤه شيئاً واخباره به معلّقاً على شيء، فانّ إيجاد المعنى المقصود باللفظ إمّا لا يحصل أصلا أو يحصل منجّزاً فوقوع الإيجاد معلّقاً مرجعه إلى التناقض.

أقول: وبالإمكان التلفيق بين جزئين من هذين الكلامين المتعاكسين ليفترض ذلك برهاناً على استحالة التعليق في العقود وذلك بان يقال: إن قصد بذلك تعليق الإنشاء فالإنشاء حاله حال الإيجاد مردّد أمره بين الوجود والعدم ولا معنى لافتراض التعليق فيه، وان قصد به تعليق المنشأ فهو أيضاً غير معقول لانّ المعاني التصورية لا يعقل فيها التعليق.


(1) 1: 112.

71

وبهذا ننتهي إلى نتيجة واضحة البطلان وهي استحالة التعليق في كل شيء من نذر أو عهد أو حكم ونحو ذلك مع بداهة كثرة التعليق بمعنى مشروطية كثير من الأحكام وتوقفها على شرطها، وكذلك ما أكثر النذور والأيمان المعلّقة على وقوع شيء من الأشياء كمَن ينذر الحج مشروطاً بحصول ولد له مثلا ففي كل هذا يمكن ذكر تلك المغالطة وهي انّ المشروط والمعلّق هل هو الإنشاء أو المنشأ؟ فالأوّل أمره دائر بين الوجود والعدم ولا معنى للتعليق فيه، والثاني يرجع تعليقه إلى التعليق في الاُمور التصورية.

وأمّا ما أفاده السيد الإمام (رحمه الله) من ان الإنشاء المشروط ليس إيجاداً فعلياً وانّما يتحقّق الإيجاد والوجود عند تحقّق الشرط فهذا إن كان مرجعه إلى ما تعارف القول به في باب الأحكام من الفصل بين الإنشاء والفعلية وأن فعلية الحكم تتبع فعلية الموضوع بكل ما فيه من شروط ولا تتبع فعلية الانشاء.

فهذا لو تمَّ في نفسه فهو لا ينافي كلام منية الطالب من انّ التعليق في المنشأ دون الإنشاء بل هو يؤكّده فانّه لولا انّ المنشأ كان معلّقاً على أمر استقبالي دون الانشاء لما كان يتصوّر فرض الإنشاء فعلياً والمنشأ غير فعلي، وإن كان مرجعه إلى انّ الإنشاء والمنشأ كلاهما غير فعليّ فهذا واضح البطلان لانّ الإنشاء قد تحقّق وجداناً لا بمعنى مجرّد اللفظ الفارغ.

وأمّا قوله (رحمه الله): إنّ تعليق المنشأ لا معنى له لانّ المعاني التصوريّة لا يعقل فيها التعليق فهذا ما لم نتحقّق معناه إلّا ان يقصد بالمعاني التصورية الموضوع والمحمول وبالمعنى التصديقي النسبة وإن كان هذا خلاف المصطلح فيقال: إنّ التعليق داخل في صميم النسبة وشأن من شؤونه لا في صميم الموضوع والمحمول ويشهد لكون هذا هو مقصوده (رحمه الله) ما ذكره في مثال ان جاءك زيد فاضربه

72

(كتوضيح لتصوّر التعليق في الوجود التشريعي) من: انّ القيد قيد للهيئة لا للمادّة.

وعلى أيّة حال فإن كان هذا هو مقصوده قلنا: لا شكّ انّ التعليق الذي يصدر من المتكلّم شأن من شؤون النسبة لكن هذا لا ينافي كلام منية الطالب من كون التعليق راجعاً إلى المنشأ لا الإنشاء فالمتكلّم قد أنشأ نسبة معلّقة وإنشاؤه بما هو إنشاء فعلّي منجّز وليس معلّقاً على شيء.

وكيفما كان فقد ذكر السيد الخوئي (رحمه الله) في المقام: انّ عمدة الدليل على اشتراط التنجيز هي الإجماع والمتيقّن من مورده هو التعليق على ما لا تتوقّف عليه حقيقة العقد ولا صحّته مع كونه أمراً مشكوك الحصول أو أمراً مستقبل الحصول، على أن يكون المقصود بالتعليق على الأمر الاستقبالي تأخّر حصول المعاملة لحين حصول الشرط لا حصولها الآن على تقدير حصول الشرط في وقته، وذكر انّ الإجماع هنا لا حجيّة له لاحتمال استناده إلى الوجوه الاعتبارية التي ذكروها في المقام وهي كلّها ضعيفة إذن لا يوجد دليل متين على اعتبار التنجيز أو مانعية التعليق(1).

أقول: لعلّ خير ما يمكن ان يفترض دليلا على شرط التنجيز أو مانعية التعليق في الجملة، أي في خصوص الموارد التي جعلها السيد الخوئي هو القدر المتيقن من الإجماع ان يقال: إنّ مانعية التعليق لها أحد جذرين عقلائيين.

الأوّل ـ يكون في موارد التعليق على أمر مشكوك الحصول حيث يفترض انّ المركوز في نظر العقلاء لزوم كون العقد منجزاً بمعنى كونه محقّق الحصول لا معلّقاً على أمر مشكوك.


(1) راجع المحاضرات 2: 134 ـ 139، ومصباح الفقاهة 3: 58 ـ 70.

73

والثاني ـ يكون في موارد التعليق على أمر استقبالي بمعنى قصد تأخّر حصول النتيجة لحين تحقّق الشرط حيث يفترض أيضاً انّ المركوز في نظر العقلاء لزوم كون مفاد العقد فعلياً لا استقبالياً إلّا في موارد خاصّة ثبت عقلائياً فيها جواز تعليق النتيجة على المستقبل كما هو الحال في عقد الإيجار حيث يعقد أحياناً لزمن مستقبل، بناء على تفسير ذلك بتمليك مستقبل لا بتمليك حالي لمنفعة مستقبلية وكما هو الحال في الوصية بناء على كون الإيقاع كالعقد في اشتراط التنجيز، فالوصية تكون خارجة من هذه القاعدة لعدم وجود ارتكاز عقلائي على بطلان الوصية الاستقبالية بل لا وصية إلّا وهي استقبالية ومعلّقة على الموت.

كلمات الأصحاب في شرط التنجيز:

ولعلّ ما ذكرناه هو المعنى المقصود ارتكازاً لكثير من الكلمات الواردة على لسان فقهائنا العظام وإن لم يتم الالتفات إليه تفصيلا، ولو وجّهت كلماتهم بهذا التوجيه واوّلت بهذا التأويل ارتفع كثير من الإشكالات التي أوردت عليهم في المقام، ونحن نشير هنا كنموذج لتلك الكلمات إلى عدد منها:

1 ـ ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله) في المقام من انّه يمكن ان يقال: إنّ التعليق ليس ممّا جرى عليه العرف والعادة في الاُمور العهدية والعقود المتعارفة بين عامّة الناس وان مسّت الحاجة إليه أحياناً في العهود الواقعة بين الدول والملوك فلا تشمله أدلّة العقود والعناوين للشكّ في صدقها عليه(1) فان حمل هذا الكلام على التأويل الذي ذكرناه بان يكون المقصود دعوى ارتكازية شرط التنجيز وان يكون ذكر عدم تعارف التعليق كتنبيه على هذا الارتكاز أو كبيان لسبب تكوّن هذا


(1) راجع كتاب منية الطالب 1: 113، وكتاب المكاسب والبيع 1: 295.

74

الارتكاز لم يرد عليه ما قد يتوهم وروده عليه من أنّ التعارف وعدم التعارف لا يوجب الانصراف أو عدم تماميّة الإطلاق(1).

2 ـ ما ذكره البعض لإثبات شرط التنجيز من التمسّك بتوقيفية الأسباب الشرعية الموجبة لوجوب الاقتصار فيها على القدر المتيقن، وهو العقد العاري عن التعليق(2)، وقد أورد عليه الشيخ الأعظم وغيره بانّ الوظيفة لدى الشكّ هو التمسّك بالإطلاقات لا الاقتصار على القدر المتيقّن.

ولكن بالإمكان أن يفترض أنّ المركوز في ذهن صاحب هذا الوجه كان ما أشرنا إليه من إمكان دعوى أنّ شرط التنجيز شرط عقلائي وارتكازي فيصبح هذا الارتكاز مانعاً عن تكوّن الإطلاق في أدلّة العقود فلا بدّ من التمسّك بالقدر المتيقن.

3 ـ ما ذكره العلاّمة في التذكرة على ما نقله الشيخ الأعظم في المكاسب من الاستدلال على اشتراط التنجيز بانّ التعليق ينافي الجزم حال الإنشاء، بل جَعَل الشرط هو الجزم، ثم فرّع عليه عدم جواز التعليق قال (رحمه الله): الخامس من الشروط الجزم فلو علّقَ العقد على شرط لم يصح...(3) فلا يبعد أن يكون هذا إشارة إلى ما ذكرناه من الأمر الأوّل من الأمرين من دعوى ارتكازية ضرورة الجزم وكون مفاده محقّق الحصول لا معلّقاً على أمر مشكوك.

4 ـ ما عن جماعة كالمحقّق والعلاّمة والشهيدين والمحقّق الثاني والصيمري


(1) راجع مصباح الفقاهة 3: 70، والمحاضرات 2: 139.

(2) راجع مكاسب الشيخ الانصاري 1: 100، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(3) راجع المكاسب 1: 99، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

75

وعن المبسوط والإيضاح في مثل مسألة «إن كان لي فقد بعته» من عدم بطلان العقد حينما يكون الشرط معلوم الحصول في الحال قال الشيخ الأعظم: بل لم يوجد في ذلك خلاف صريح ولذا ادعى في الرياض في باب الوقف عدم الخلاف فيه صريحاً واستدلّ البعض على استثناء الشرط المعلوم الحصول في الحال بانّ هذا تعليق على واقع لا متوقّع الحصول فهو علّة للوقوع أو مصاحب له لا معلّق عليه الوقوع(1) وهذا الوجه بظاهره باطل لانّ العلم بحصول الشرط لا ينافي صدق التعليق، ولكن لا يبعد أن يكون المقصود ولو ارتكازاً هو الإشارة إلى ارتكازية مبطلية التعليق، وأن هذا النمط من التعليق وهو التعليق على معلوم الحصول في الحال خارج عن التعليق المرتكز مبطليته، وإن لم يكن خارجاً عن ذات التعليق.

5 ـ ما ذكره البعض من انّ التعليق على ما تتوقّف صحّة العقد عليه لا يوجب البطلان فقد نقل الشيخ الأعظم في المكاسب عن المبسوط: انّه حكى في مسألة «إن كان لي فقد بعته» قولا من بعض الناس بالصحّة وانّ الشرط لا يضره مستدلا بانّه لم يشترط إلّا ما يقتضيه إطلاق العقد، وكذلك قبول المشتري لغيره مشروط بأن يكون الموكّل قد أذن له في الشراء فإذا اقتضاه الإطلاق لم يضر إظهاره وشرطه.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (رحمه الله) بانّ المعلّق على ذلك الشرط في الواقع هو ترتّب الأثر الشرعي على العقد دون إنشاء مدلول الكلام الذي هو وظيفة المتكلّم، فالمعلّق في كلام المتكلّم غير معلّق في الواقع على شيء، والمعلّق على شيء ليس


(1) راجع مكاسب الشيخ 1: 99، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

76

معلّقاً في كلام المتكلّم، إذن فهذا الشرط تعليق جديد وليس ممّا يقتضيه إطلاق الكلام(1).

وفصّل السيد الخوئي في المقام بين ما إذا كان ذاك الشرط مقوّماً لحقيقة العقد ومفهومه من قبيل قوله: (بعتك إن قبلت) فانّ مفهوم العقد وحقيقته متقوّم بالقبول، وما إذا كان شرطاً لصحّة العقد ثبت بدليل ما من دون أن يكون مقوّماً لمفهوم العقد كأن يعلّق البيع على كون الشيء ممّا يملك أو يعلّقه في الصرف والسلم على التسليم والتسلم ونحو ذلك فقال في الأوّل بصحّة ذاك الوجه، وهو انّ التعليق في الكلام لم يزد على الواقع شيئاً فمن الواضح انّ التعليق هنا لا يوجب البطلان، وقال في الثاني بعدم صحّة هذا الوجه لانّ التعليق هنا ليس أمراً صورياً أو اشتراطاً لما يقتضيه إطلاق العقد وذلك لما ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله) من ان ما كان في الواقع معلّقاً على ذلك الشرط هو ترتّب الأثر الشرعي وما علّق في الكلام بذكر الشرط هو إنشاء مدلول الكلام فهذا تعليق جديد لم يكن مستبطناً في الإطلاق، نعم مع ذلك لا نقول بمبطلية التعليق على ما هو شرط لصحّة العقد حتى لو قلنا بمبطلية التعليق في الجملة وذلك لانّ عمدة الدليل على مبطليته هو الإجماع وهذا غير داخل في القدر المتيقّن من الإجماع(2).

أقول: إنّ في القسم الأوّل أيضاً بإمكان أحد أن يدّعي وجود تعليق جديد فكون البيع معلّقاً على القبول مثلا، وإن كان أمراً ثابتاً في الواقع بلحاظ ذات العقد لانّ العقد مؤلّف من الإيجاب والقبول فينتفي لا محالة بانتفاء القبول، ولكن تعليق


(1) راجع مكاسب الشيخ 1: 100، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع مصباح الفقاهة 3: 62 ـ 64، والمحاضرات 2: 133 ـ 134.

77

الإيجاب على القبول بقوله: «بعتك إن قبلت» تعليق جديد لانّ شرط القبول ليس مستبطناً في ذات الإيجاب.

إلّا انّه لا يبعد أن يكون لبّ المقصود ولو ارتكازاً لصاحب هذا الوجه الذي استثنى به التعليق على شرط الصحّة من مبطلية التعليق هو انّ الارتكاز العقلائي القائل بمبطلية التعليق للزوم كون العقد حالياً وجزمياً غير موجود فيما إذا كان التعليق لا يؤثّر شيئاً على النتيجة النهائية لكونها في الواقع معلّقة على ما علّق عليه العقد وهذا لا يفرّق فيه بين ما يكون مقوّماً لمفهوم العقد وما يكون مجرّد شرط لصحّة العقد، وعلى أيّة حال فالارتكاز العقلائي الذي ذكرناه أعني ارتكاز شرط التنجيز أو مانعية التعليق لو تمّ فطريق الاستفادة منه يكون بأحد نحوين:

الأوّل ـ دعوى كشفه عن الحكم الشرعي على أساس ان عدم المنع دليل الإمضاء وذلك بعد افتراض ان الإطلاقات لا تصلح مانعة عنه إمّا لقوّة الارتكاز ممّا يجعله (على تقدير عدم رضا الشريعة به) بحاجة إلى ردع أقوى من مجرّد الإطلاق، وإمّا لانصراف إطلاقات المعاملات إلى ما يطابق الارتكازات العرفية.

والثاني ـ دعوى إبطاله للإطلاقات على أساس انصرافها في باب المعاملات إلى ما يطابق الارتكازات العرفية ومن ثمّ الرجوع إلى أصالة الفساد.

هذا. ولكن الإنصاف ان أصل الارتكاز العقلائي الذي ذكرناه كتوجيه للقول بمبطلية التعليق غير واضح الصحّة وغاية ما يمكن أن يقال هي غلبة التنجيز في العقود في زمن صدور النصوص أمّا بلوغ الأمر إلى مستوى الارتكاز المانع عن انعقاد الإطلاق في الأدلّة فعهدته على مدّعيه.

هذا تمام الكلام في الركن الأوّل من أركان العقود وشروطه وهو الإرادة.