82

والذي نبحث في هذه الجهة عن اكتشاف حقيقته.

وهنا توجد ثلاثة مسالك:

1 ـ مسلك التعهّد.

2 ـ مسلك الاعتبار.

3 ـ مسلك الجعل الواقعيّ.

 

مسلك التعهّد:

أمّا المسلك الأوّل: وهو مسلك التعهّد، فهو الذي اختاره السيّد الاُستاذ دامت بركاته(1) وجماعة من المحقّقين من قبله(2). وحاصله: أنّ هذا الأمر الخارجيّ عبارة عن تعهّد من قبل الإنسان اللغويّ بقضيّة شرطيّة، وهي: أنّه متى ما قصد تفهيم المعنى الفلانيّ أتى باللفظ الفلانيّ(3).


(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، المجلّد الأوّل، ص 44 فصاعداً، وراجع أجود التقريرات، المجلّد الأوّل، ص 12 تحت الخطّ.

وهذا التفسير للوضع يفهم أيضاً من كلام الشيخ الحائريّ(رحمه الله) في كتاب الدرر، الجزء الأوّل ص 35.

(2) يشهد لوجود القول بمسلك التعهّد قبل السيّد الخوئيّ نقل الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ذلك عمّن قبله. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 12 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ، وفوائد الاُصول للشيخ الكاظميّ، ج 1، ص 29 ـ 30 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أيضاً نهاية الدراية، ج 1، ص 47 بحسب طبعة آل البيت، فإنّه ورد فيه نقل مسلك التعهّد عن بعض أجلّة العصر، وذكر المخرّج تحت الخطّ أنّ المقصود به الملاّ عليّ النهاونديّ صاحب تشريح الاُصول(رحمه الله).

(3) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 12 بحسب الطبعة التي أشرنا إليها، ومحاضرات الشيخ الفيّاض، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 48 ـ 53.

83

وهذا التعهّد معقول في نفسه؛ لأنّه تعهّد بأمر اختياريّ له، وبإمكان كلّ إنسان أن يتعهّد بأمر داخل تحت اختياره. ونضمّ إلى هذا التعهّد أصالة وفاء العقلاء بتعهّداتهم، فتحصل الملازمة بين اللفظ والمعنى، بمعنى: أنّه متى ما قال: « أسد » مثلاً عرفنا بمقتضى تعهّده وأصالة الوفاء بالتعهّد أنّه أراد الحيوان المفترس، وقصد تفهيمه.

وهذا المبنى يستخلص منه:

أوّلاً: أنّ الملازمة قائمة بين طرفين: أحدهما اللفظ، والآخر قصد تفهيم المعنى؛ لأنّ هذين الأمرين هما طرفا التعهّد.

وثانياً: ـ وهو مترتّب على الأوّل ـ أنّ الدلالة التي نشأت ببركة هذا التعهّد ليست مجرّد دلالة تصوّريّة، بل دلالة تصديقيّة؛ فإنّ الدلالة التصوّريّة هي انتقاش المعنى من اللفظ في الذهن ولو صدر عن حجر، والدلالة التصديقيّة هي دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى وإخطاره، وطرف الملازمة كان هو الثاني. إذن، فالوضع يتكفّل بالدلالة التصديقيّة، وطبعاً يوجد في ضمنها الدلالة التصوّريّة.

وثالثاً: أنّ كلّ من كان من أهل اللغة فهو واضع، وليس الواضع عبارة عن شخص واحد؛ إذ الوضع عبارة عن التعهّد، والتعهّد لا يتعلّق إلاّ بما يكون تحت اختيار المتعهّد وهو استعماله، لا استعمال الأجيال المتأخّرة إلى يوم القيامة، فالتعهّد يجب أن يكون من قبل كلّ أصحاب اللغة، فكلّهم واضعون لكن أحدهم واضع أصليّ(1) والآخرون واضعون بالتبع والمشايعة.


(1) وإن شئت فاجعل الوضع اسماً لخصوص التعهّد الأصليّ، فيكون الواضع إنساناً واحداً. وهذا مجرّد نقاش لفظيّ وبحث في التسمية، ولبّ المقصود واحد.

84

هذه خلاصة توضيح مبنى التعهّد، ولنا حول هذا المبنى ثلاث كلمات:

الكلمة الاُولى: أنّ هذا المبنى كان عبارة عن دعوى التعهّد بقضيّة شرطيّة، وببركته توجد الملازمة بين الشرط والجزاء، وعليه نقول: إنّ هذه القضيّة الشرطيّة المتعهّد بها والتي أوجدت الملازمة بين شرطها وجزائها تتصوّر على أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن يكون الشرط عبارة عن قصد تفهيم المعنى، والجزاء هو الإتيان باللفظ، وهذا هو المطابق لظاهر كلمات السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) وهذا أمر عقلائيّ في نفسه لكنّه لا يفيد المقصود، وهو دلالة اللفظ على المعنى؛ فإنّ التعهّد بقضيّة شرطيّة إنّما يوجب دلالة الشرط على الجزاء لا دلالة الجزاء على الشرط، والشرط هنا هو قصد تفهيم المعنى، والجزاء هو الإتيان باللفظ، فلو عرفنا صدفة أنّ هذا الإنسان قاصد لتفهيم معنىً دلّنا ذلك على أنّه سوف يأتي باللفظ، وأمّا الإتيان باللفظ فليس دليلاً على أنّه قصد المعنى؛ إذ قد يكون الإتيان باللفظ لازماً أعمّ لقصد المعنى.

والحاصل: أنّه لم يتعهّد بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد المعنى حتّى يكون إتيانه باللفظ دليلا على قصد المعنى.

2 ـ عكس الأوّل، وذلك بأن يكون الشرط هو الإتيان باللفظ، والجزاء هو قصد تفهيم المعنى، فهو متعهّد بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد تفهيم المعنى، وحتّى لو صدر عنه اللفظ غفلةً فسوف يُحدث في نفسه قصد تفهيم المعنى وفاءً بتعهّده. وهذا يفيد المقصود ويوجب دلالة اللفظ على المعنى، لكنّه ليس أمراً عقلائيّاً؛ فإنّ التلفّظ هو


(1) ولكن صريح كلامه(قدس سره) في بحث الاشتراك هو المعنى الثاني، راجع المحاضرات، ج 1، ص 202 بحسب طبعة مطبعة النجف.

85

الذي يكون في طول قصد تفهيم المعنى، وليس قصد تفهيم المعنى في طول اللفظ، وأيّ عاقل يُلزِم نفسه بأن يُحدث قصد تفهيم المعنى عندما يصدر عنه اللفظ ولو غفلة؟!

3 ـ أن يكون الشرط عبارة عن عدم كونه قاصداً لتفهيم المعنى، والجزاء عبارة عن عدم التلفّظ باللفظ. فهو يتعهّد مثلاً بأنّه لو لم يرد معنى الحيوان المفترس لا يستعمل كلمة « أسد »، وعندئذ يصبح استعمال كلمة « أسد » دالاًّ على إرادة المعنى على أساس: أنّ انتفاء الجزاء يدلّ على انتفاء الشرط. وهذا يكون أمراً عقلائيّاً في نفسه، ويكون مفيداً للمقصود، ويصبح اللفظ على أساسه دالاًّ على قصد تفهيم المعنى، إلاّ أنّ هذا غير واقع خارجاً؛ فإنّ هذا لا ينسجم مع الاستعمال المجازيّ الذي هو باب من أبواب اللغة، والواضع حتّى حين الوضع بان على الاستعمال المجازيّ، أو على الأقلّ يحتمل أنّه سوف يستعمل ذلك، والعاقل الباني على الاستعمال المجازيّ كيف يتأتّى منه التعهّد بعدم استعمال كلمة « أسد » مثلاً إلاّ حين إرادة تفهيم الحيوان المفترس؟!

والخلاصة: أنّ هذه الصيغة الثالثة للتعهّد تستلزم التعهّد الضمني بعدم الاستعمال المجازيّ، فلا يعقل صدوره من واضع بان ولو احتمالاً على الاستعمال المجازيّ.

وقد ذكرت هذا الإشكال على مبنى التعهّد بصيَغه الثلاث للسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ فذكر في مقام الجواب صيغةً رابعة أو تعديلاً للصيغة الثالثة، وذلك بأن يقال: إنّ الواضع يتعهّد بأن لا يأتي باللفظ إلاّ إذا قصد المعنى الحقيقيّ، ويستثنى من ذلك فرض إقامة القرينة. وبكلمة اُخرى: أنّه يتعهّد بأن لا يأتي بلفظة « أسد » مثلاً إلاّ في إحدى حالتين:

الاُولى: أن يقصد تفهيم الحيوان المفترس.

86

والثانية: أن يقصد تفهيم الرجل الشجاع مع انضمام القرينة، فإذا لم يأت بقرينة على المعنى المجازيّ تعيّن قصده لتفهيم المعنى الحقيقيّ.

ويرد على هذه الصيغة الرابعة:

أوّلاً: أنّه سواء اُريد بالقرينة القرينة المتّصلة أو اُريد بها الأعمّ من القرينة المتّصلة والمنفصلة لا تكفي هذه العناية ـ أعني: عناية استثناء فرض إقامة القرينة ـ لتصحيح مبنى التعهّد؛ لوضوح: أنّ المستعمل اللغويّ قد يستعمل المجاز بلا قرينة حينما يتعلّق غرضه بالإجمال أو الإهمال، فهذا التعهّد خلف بنائه ولو احتمالاً على الاستعمال المجازيّ بلا قرينة. فهذا المقدار من العناية لا يفي بتصحيح التعهّد ما لم تبذل عنايات إضافيّة اُخرى(1).

وثانياً: أنّه هل المراد بالقرينة خصوص القرينة المتّصلة أو الأعمّ من القرينة المتّصلة والمنفصلة؟ فإن اُريد خصوص القرينة المتّصلة كان هذا تعهّداً ضمنيّاً بإلغاء القرائن المنفصلة. ومن الواضح: أنّه كثيراً ما يعتمد على القرينة المنفصلة، ولا يعقل صدور هذا التعهّد ممّن هو بان ولو احتمالاً على الاستعمال المجازيّ معتمداً على القرينة المنفصلة في بعض الأحيان. وإن اُريد الأعمّ من القرينة المتّصلة والمنفصلة لزم من ذلك أنّه متى ما سمعنا كلاماً من المتكلّم واحتملنا أنّه سوف يقيم قرينة منفصلة على إرادة المعنى المجازيّ لم يجز حمل كلامه على المعنى الحقيقيّ، ولم نحرز دلالة اللفظ على معناه الموضوع له؛ وذلك لأنّ الدلالة على المعنى الموضوع له فرع التعهّد، والتعهّد بذلك قد قيّد بحالة عدم القرينة ولو


(1) كأن يستثنى أيضاً فرض تعلّق غرضه بالإجمال أو الإهمال، ويستعان في مقام تتميم الدلالة بالبناء على عدم إرادة الإجمال أو الإهمال على أساس ندرة هذه الحالة.

87

المنفصلة، فمع احتمال ورود القرينة المنفصلة في المستقبل لا نجزم بالتعهّد بإرادة المعنى الموضوع له، فلا نجزم بالدلالة(1)، مع أنّه لا إشكال في هذه الحالة في حمل الكلام على المعنى الموضوع له.

فإن قلت: إنّ احتمال مجيء القرينة المنفصلة في المستقبل ينفى بأصالة عدم القرينة المنفصلة؛ ومن المعلوم أنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائيّ نحرز بها قيد التعهّد، وبذلك يثبت التعهّد، فتتمّ الدلالة.

قلت: إنّ هذا الأصل أصل عقلائيّ، والعقلاء ليست لهم اُصول تعبّديّة، بل اُصولهم اُصول استظهاريّة، فأصالة عدم القرينة إنّما يبنون عليها من باب: أنّ القرينة المنفصلة على خلاف ظهور اللفظ ودلالته، فيجب أن نفرغ في المرتبة السابقة عن دلالة اللفظ، ولا معنى لنشوء الدلالة من أصالة عدم القرينة.

الكلمة الثانية: أنّنا لو غضضنا النظر عن الكلمة الاُولى، وفرضنا تماميّة إحدى الصيغ الأربع الماضيّة للتعهّد، قلنا: إنّ تفسير الوضع بالتعهّد غير محتمل خارجاً. وتوضيح ذلك: أنّ فهم المعنى من اللفظ على أساس التعهّد عمليّة استدلاليّة مبنيّة على التمسّك بقانون: أنّه متى ما كان شيء مستتبعاً لشيء ووجد الشيء الأوّل وجد الثاني أيضاً من قبيل: أنّنا إذا رأينا إنساناً شرب السمّ جعلنا شربه للسمّ دليلاً على أنّه سوف يموت، ففهم المعنى من اللفظ يرجع إلى الاستدلال بأحد المتلازمين على الآخر على أساس: أنّه لو ثبت الأوّل ثبت الثاني. ومن الواضح:


(1) إلاّ أن يدّعى أنّ التعهّد مقيّد بفرض عدم القرينة المتّصلة وبفرض عدم إرادة الإجمال أو الإهمال ولو الموقّت، أي: خصوص ساعة الكلام، ويستعان أيضاً في مقام تتميم الدلالة بالبناء على عدم إرادة الإجمال أو الإهمال ولو الموقّت على أساس ندرة هذه الحالة.

88

أنّه يحصل عند الطفل فهم جملة من الكلمات كالاُمّ والحليب مثلاً قبل تحقّق أيّ قدرة له على الاستدلال والاستنتاج، ولا يمرّ على ذهن الطفل ( بل ولا على ذهن الكبير ) حين فهم المعنى من اللفظ أنّه بما أنّ اُمّي تعهّدت مثلاً بأن لا تقول كلمة الحليب إلاّ حين تريد معناها، وأنّها تفي بعهدها، إذن فكلمة الحليب تدلّ على معناها. ولا ندري كيف يستكشف الطفل تعهّد الاُمّ بإرادة معنى الحليب مثلاً لدى ذكر كلمة الحليب؟! وقد قالوا: إنّ فهم المعنى من اللفظ متوقّف على العلم بالوضع، ومن الواضح: أنّ الطفل في بداية عمره إذا سمع اللفظ مستعملاً في معنىً معيّن مراراً عديدة انتقل ذهنه بعد ذلك من اللفظ إلى المعنى، فهل يقال: إنّه استكشف التعهّد من قبل المتكلّم بإرادة معنى الحليب عند التكلّم بلفظ الحليب مثلاً، واستنتج من هذا التعهّد وجود الملازمة بين الشرط والجزاء، فأخذ يستدلّ بوجود أحدهما على الآخر؟! طبعاً لا. فبهذا يتّضح: أنّ الانتقال له نكتة محفوظة بقطع النظر عن العلم بالتعهّد والملازمة. أمّا ما هي هذه النكتة؟ فسيأتي بيانها في آخر المسألة إن شاء الله.

الكلمة الثالثة: أنّ هناك إشكالاً مشهوراً اُورد على مذهب التعهّد، وهو إشكال الدور(1)، حيث يقال: إنّ التعهّد بإتيان اللفظ عند قصد المعنى معناه: إرادة الإتيان باللفظ عند قصد المعنى، وعندئذ نقول: إنّ إرادة الإتيان باللفظ هل هي إرادة مقدّميّة تنشأ من إرادة المعنى، أو إرادة نفسيّة غير مترشّحة من إرادة المعنى؟

فإن قيل: إنّها إرادة مقدّميّة تنشأ من إرادة المعنى لزم الدور؛ لأنّ ترشّح إرادة اللفظ من إرادة المعنى فرع كون اللفظ دالاًّ على المعنى، ودلالة اللفظ على المعنى


(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، المجلّد الأوّل، ص 45 ـ 46.

89

فرع التعهّد، والتعهّد معناه: إرادة الإتيان باللفظ عند قصد المعنى، فأصبحت إرادة اللفظ عند قصد المعنى موقوفة على دلالة اللفظ على المعنى، وهذه الدلالة موقوفة على تلك اللإرادة، وهذا دور.

وإن قيل: إنّها إرادة نفسيّة، قلنا: إنّ الإرادة النفسيّة للّفظ تحتاج إلى غرض نفسيّ في الإتيان باللفظ بغضّ النظر عن تفهيم المعنى، في حين لا يوجد أيّ غرض نفسيّ في ذلك، وإنّما الغرض من الإتيان باللفظ هو تفهيم المعنى. إذن، فإرادة اللفظ مقدّميّة حتماً، فيتسجّل إشكال الدور.

وقد يجاب(1) على هذا الإشكال بأنّه توجد عندنا إرادتان للّفظ: إحداهما إرادة جزئيّة للّفظ، وهي تحصل حين الاستعمال، والاُخرى إرادة كلّيّة تتعلّق على نحو القضيّة الحقيقيّة بهذه القضيّة الشرطيّة، وهي أنّه متى ما قصد المعنى أتى باللفظ، وهذه الإرادة تحصل عند الوضع، والإرادة الموقوفة على الدلالة هي الإرادة الاُولى، والإرادة الموقوفة عليها الدلالة هي الإرادة الثانية، فلا دور(2).

إلاّ أنّ هذا الجواب بهذا اللسان غير تامّ؛ إذ إنّ هذه الإرادة الكلّيّة هي عين الإرادات الجزئيّة إلاّ أنّها تقديريّة، فعندنا إرادة واحدة تكون قبل تحقّق الشرط تقديريّة وشرطيّة، وبعد تحقّقه فعليّة، وذلك من قبيل: أنّ كلّ إنسان يريد أن يشرب الماء حين يعطش، فهذه الإرادة ثابتة قبل العطش وحين العطش إلاّ أنّها قبل العطش تقديريّة نعبّر عنها بقضيّة شرطيّة، وحين العطش فعليّة نعبّر عنها بقضيّة تنجيزيّة،وكلاهما تعبيران عن إرادة واحدة، وليست هنا إرادة جديدة تحدث حين


(1) راجع المصدر السابق.

(2) هذا جواب للشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله). راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 48 بحسب طبعة آل البيت.

90

العطش.

والصحيح في الجواب: أنّ التعهّد ليس من سنخ الإرادة، بل من سنخ الالتزام وجعل المسؤوليّة على نفسه من قبيل النذر، وهو فعل نفسيّ يكون بنفسه ذا مصلحة، ومصلحته حصول الدلالة للّفظ، حيث يقول أصحاب مبنى التعهّد: إنّ هذا التعهّد يجعل اللفظ دالاًّ على المعنى.

فظهر: أنّ هذا الإشكال المشهور غير وارد على مسلك التعهّد. والصحيح في ردّ هذا المسلك هو ما مضى في الكلمتين السابقتين.

هذا تمام الكلام في مسلك التعهّد.

 

مسلك الاعتبار:

وأمّا المسلك الثاني: وهو مسلك الاعتبار، فيتشعّب إلى عدّة شعب على أساس اختلاف أرباب هذا المسلك فيما تعلّق به الاعتبار، فهنا عدّة وجوه يُفرض ما هو المُعتبر ـ أي: متعلّق الاعتبار ـ في بعضها غير ما هو المعتبر في البعض الآخر:

الوجه الأوّل: أنّ متعلّق الاعتبار في الأوضاع اللُغويّة هو الوضع الخارجيّ، وتوضيح ذلك:

إنّه لا إشكال في أنّ وضع شيء على شيء خارجاً يكون في كثير من الأحيان دالاًّ على شيء، فمثلاً ينصبون الأعلام على الأرض في أمكنة متباعدة بين فرسخ وفرسخ مثلاً لتعيين رؤوس الفراسخ، أو يُنصب علم على بئر لمعرفة وجود البئر هنا ونحو ذلك. وفي باب الأوضاع اللغويّة أيضاً يقصد وضع شيء على شيء، أي: وضع اللفظ على المعنى لتتمّ الدلالة، إلاّ أنّ الوضع الخارجيّ غير ممكن هنا حقيقة، فيوجد هذا الوضع الخارجيّ اعتباراً، أي: يعتبر أنّ اللفظ وضع على المعنى فتتمّ

91

بذلك الدلالة(1).

وأورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك:

أوّلاً: أنّه لو فرض في باب الأوضاع اللغويّة اعتبار الوضع الخارجيّ الثابت في موارد وضع شيء على شيء خارجاً للدلالة، للزم أن يكون هذا الوضع الاعتباريّ كذاك الوضع الخارجيّ، إلاّ أنّ ذاك حقيقيّ وهذا اعتبار لذاك في حين أنّ الأمر ليس كذلك وتوضيح المقصود: أنّه في باب الوضع الخارجيّ توجد عندنا ثلاثة أشياء: الموضوع وهو العلَم مثلاً، والموضوع عليه وهي الأرض، والموضوع له وهو كون هذا المكان رأس الفرسخ مثلاً. وأمّا في باب اللغة فقد فرض وضع اللفظ على المعنى، فاللفظ موضوع، والمعنى موضوع عليه، ولا يوجد شيء ثالث يكون موضوعاً له، فكيف صار هذا اعتباراً للوضع الخارجيّ، في حين يكون الوضع الخارجيّ للدلالة ذا أركان ثلاثة، وهذا لا يكون له إلاّ ركنان؟!(2).

وثانياً: ما ينقدح من الأوّل، وهو: أنّه لا إشكال في باب الأوضاع اللغويّة في أنّ اللفظ موضوع والمعنى موضوع له، بينما لازم هذا البيان أنّ المعنى موضوع عليه وليس موضوعاً له، فهذا كيف يكون؟(3).

أقول: إنّ صاحب هذا الوجه بإمكانه أن يدفع كلا هذين الإيرادين، وذلك بأن


(1) راجع نهاية الدراية في شرح الكفاية، ج 1، ص 47 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع تقرير الشيخ الفياض، ص 47 بحسب طبعة موسوعة الإمام الخوئيّ، ج 43 من تلك الموسوعة.

(3) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 11 ـ 12 بحسب الطبعة المعلّق عليها من قبل السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وراجع محاضرات الفيّاض الطبعة والمجلّد والصفحة المشار إليها في تخريجنا السابق.

92

يقول: إنّ الموضوع له والموضوع عليه في الوضع الخارجيّ قد يكونان متعدّدين في الوجود الخارجيّ، وقد يكونان متعدّدين بالتحليل لا بالوجود الخارجيّ، فمثلاً قد ينصب علَم على أرض للدلالة على وجود السبع في هذه الأرض، فيكون الموضوع عليه هو الأرض والموضوع له هو السبع، وهما متعدّدان بحسب الوجود الخارجيّ، وقد ينصب علَم على أرض للدلالة على رأس الفرسخ، فيكون الموضوع عليه هو الأرض والموضوع له هو رأس الفرسخ، وهما متّحدان في الوجود الخارجيّ متعدّدان بالتحليل، فالأرض بما هي هي وبغضّ النظر عن تحديدها تعتبر موضوعاً عليه، وبما هي رأس الفرسخ تعتبر موضوعاً له، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل، وذلك بأن يفرض لفظ « الأسد » مثلاً موضوعاً، والمعنى المستعمل فيه على إجماله وبغضّ النظر عن تحديده وتعيينه موضوعاً عليه، وكون ذاك المعنى هو الحيوان المفترس موضوعاً له، فتعدّد الموضوع عليه والموضوع له بالتحليل، وصار الوضع هنا أيضاً ذا أركان ثلاثة، فارتفع الإشكال والاستغراب الأوّل، وهو: أنّه كيف أصبح هذا الوضع ذا ركنين؟ فإنّك عرفت أنّه أيضاً ذو أركان ثلاثة، غاية ما هناك: أنّه يكون التعدّد بين الموضوع له والموضوع عليه بالتحليل، وهذا ما يكون في كثير من موارد الوضع الخارجيّ أيضاً.

وبهذا يتّضح الجواب على الإشكال الثاني أيضاً، وهو: أنّ المعنى يجب أن يكون موضوعاً عليه، فإنّك قد عرفت أنّ المعنى وهو الحيوان المفترس موضوع له، وإنّما الموضوع عليه هو المستعمل فيه على إجماله.

فقد ظهر: أنّ صاحب هذا الوجه بإمكانه دفع هذين الإشكالين.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ أصل هذا الوجه لا يعدو أن يكون مجرّد تلاعب بالألفاظ. وتوضيح ذلك: أنّ هذا الوجه يفترض أنّه قد اعتبر في الأوضاع اللغويّة الوضع

93

الخارجيّ الموجود في مثل وضع العلَم على الأرض للدلالة على شيء، ولكنّنا نحن ننقل الكلام إلى نفس موارد الوضع الخارجيّ الحقيقيّ لكي نرى هل أنّ وضع العلَم على مكانه بذاته ـ بلا أيّ مؤونة اُخرى ـ يدلّ على رأس الفرسخ أو على وجود البئر أو السبع ونحو ذلك؟ طبعاً لا؛ ولهذا ترى لو أنّ النائم ونحوه جعل العَلَم من دون وعي على مكان لم يدلّ على شيء. إذن، فهذه الدلالة تكون ببركة ضمّ مؤونة اُخرى من بناء نفسيّ مثلاً على جعل الأعلام على رؤوس الفراسخ، أو من شيء آخر. فإذا كان الوضع الخارجيّ بوجوده الحقيقيّ لا يدلّ وحده على شيء فما ظنّك بوجوده الاعتباريّ؟! إذن، فلابدّ من صرف عنان الكلام إلى معرفة حقيقة تلك المؤونة الاُخرى التي لولاها لا تتمّ الدلالة.

الوجه الثاني: أنّ المعتبر هو كون اللفظ نفس المعنى. فلفظة « أسد » مثلاً وإن كانت حقيقة غير واقع الحيوان المفترس لكن الواضع يعتبر اللفظ عين المعنى لكي تتمّ بذلك الدلالة(1).

 


(1) من الطريف: أنّ بعض الكتابات فرضت أنّ العلاقة الوضعيّة عبارة عن حصول الهوهويّة الحقيقيّة أو التوحّد الحقيقيّ بين صورة اللفظ وصورة المعنى، وأنّه على هذا الفرض يتمّ ما يقال من فناء اللفظ في المعنى أو مرآتيّته له. أمّا اعتبار هو هو أو تخصيص اللفظ بالمعنى أو جعل الملازمة بينهما أو التعهّد أو نحو ذلك فكلّها من مقدّمات تحقّق الهوهويّة بين صورتَي اللفظ والمعنى، وقد أعرض وأطول في إثبات ذلك بالشواهد والأدلّة (راجع الرافد، ج 1 المدّعى كونه تقريراً لبحث آية الله السيّد السيستانيّ حفظه الله، ص 144 فصاعداً).

وطبعاً هو لا يقصد التوحّد بين واقع اللفظ وواقع المعنى الخارجيّين، فإنّ بطلان ذلك من أوضح الواضحات، وإنّما يقصد التوحّد بين صورتيهما الذهنيّة. ولا أدري كيف

94

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّه لو كان اللفظ منزّلاً منزلة المعنى لكن اللفظ حاملاً لأثر المعنى، فإنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر إنّما يعني تنزيله منزلته في الأثر وإسراء الأثر من المنزّل عليه إلى المنزّل، في حين نرى أنّ شيئاً من آثار المعنى لا يترتّب على اللفظ، فواقع الحيوان المفترس مثلاً يأكل ويشرب ويمشي ويزأر وما إلى ذلك، ولا يترتّب شيء من هذه الآثار على لفظة أسد(1).

وهذا الكلام من قبل السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ مردّه في الحقيقة إلى مجموع أمرين:

أحدهما: تفسير الاعتبار بالتنزيل بلحاظ الآثار. والثاني: دعوى عدم ترتّب أثر من آثار المعنى على اللفظ.

ويمكن المناقشة في كلا هذين الأمرين:

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ الاعتبار لا ينحصر معناه في التنزيل، بل يمكن أن يقصد به الفرض والاعتبار بمعنىً يقابل التنزيل، ونظير ذلك: أنّ مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره) ادّعت في باب الأمارات أنّ دليل الحجّيّة اعتبرها علماً وجعلها طريقاً. وأورد على ذلك بأنّ تنزيل الأمارة منزلة العلم غير معقول؛ لأنّ أثر العلم الطريقي وهو التنجيز والتعذير إنّما هو أثر عقليّ لا يمكن للشارع إسراؤه منه إلى غيره. وكان الجواب على ذلك من قبل مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أنّنا لا نقصد بجعل


يستطيع أن يصدّق توحّد الصورتين حقيقةً رغم تعدّد ذي الصورة، مع وضوح: أنّ كلّ ذي صورة إنّما يشعّ صورته هو دون صورة شيء آخر؟!

(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 12 تحت الخطّ.

95

العلم والطريقيّة تنزيل الأمارة منزلة العلم، بل نقصد بذلك إيجاد فرد اعتباريّ للعلم بالجعل والاعتبار، فيكون للعلم فردان: فرد حقيقيّ وفرد اعتباريّ، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل بأن نقصد أنّ الواضع اعتبر اللفظ نفس المعنى، أي: جعله وفرضه ادّعاءً نفس المعنى من قبيل الادّعاء السكاكيّ لكي تتمّ الدلالة، وهذا غير التنزيل.

وأمّا الأمر الثاني: فلأنّ أحد آثار المعنى هو أنّ الإحساس به يوجب تصوّره في الذهن، وقد سرى هذا الأثر بالوضع إلى اللفظ، فالإحساس به يوجب تصوّر المعنى.

نعم، الصحيح: أنّ هذا الوجه أيضاً تلاعب بالألفاظ؛ فإنّ مجرّد فرض أنّ الوضع عبارة عن اعتبار اللفظ متّحداً مع المعنى لا يكشف السرّ في المقام، فإنّ المشكلة هي: أنّنا نرى أنّ مجرّد اعتبار شيء متّحداً مع شيء آخر وجعله هو بالفرض والاعتبار لا يوجب سراية سائر آثاره منه إليه، فلو اعتبر الماء ناراً مثلاً لا نرى أنّه يحرق، ولو اعتبر لفظة « الأسد » واقع الحيوان المفترس لم يترتّب عليه سائر آثاره التكوينيّة. فالسؤال هو: أنّه كيف صار من بين الآثار خصوص هذا الأثر سارياً إلى اللفظ بمجرّد فرض واعتباره نفس المعنى؟ فالمهمّ في المقام إنّما هو حلّ هذا اللغز، وفهم أنّه كيف ترتّب أحد الآثار التكوينيّة للمعنى على اللفظ؟!

الوجه الثالث: أنّ الواضع اعتبر اللفظ أداةً للدلالة على المعنى. فأداتيّة شيء لشيء قد تكون ذاتيّة وتكوينيّة ككون الصابون والماء أداة وآلة للنظافة، وقد تكون بالجعل والاعتبار كجعل اللفظ أداة وآلة للدلالة.

وهذا الوجه أيضاً ليس إلاّ تلاعباً بالألفاظ فإنّنا نريد أن نعرف أنّ شيئاً لم يكن سبباً لشيء كيف صار سبباً له بمجرّد الفرض والاعتبار، بينما نحن نعرف أنّ سائر

96

الآثار التكوينيّة لا تترتّب على شيء بمجرّد الفرض والاعتبار؟ وليس حلّ سرّ الدلالة في باب الوضع بمجرّد فرض اعتبار في المقام سواء فرض المعتبر عبارة عن الوضع الخارجيّ أو عن كون اللفظ نفس المعنى أو عن كونه آلة للدلالة على المعنى، فإنّه على أيّ تقدير من هذه التقادير نتساءل: أنّ الاعتبار والجعل كيف أوجد سببيّة تكوينيّة بين الإحساس باللفظ وتصوّر المعنى؟

 

مسلك الجعل الواقعيّ:

وأمّا المسلك الثالث: وهو مسلك الجعل الواقعيّ، فبيانه: أنّ ثبوت الشيء يكون على ثلاثة أقسام:

1 ـ الثبوت في الخارج من قبيل الجواهر والأعراض.

2 ـ الثبوت الاعتباريّ، وقوامه يكون بنفس الاعتبار والفرض والخيال، وينعدم بمجرّد انعدام الاعتبار، كما لو اعتبرنا وجود بحر من زئبق، فيكون لهذا البحر وجود اعتباريّ وفرضيّ ينعدم برفع اليد عن هذا الاعتبار.

3 ـ ثبوت الشيء في الواقع من دون أن يكون له وجود خارجيّ كالجواهر والأعراض، ولا أن يكون ثبوته بمجرّد الاعتبار والخيال كالبحر من زئبق، وذلك من قبيل إمكان الإنسان مثلاً؛ فإنّه ليس مجرّد أمر اعتباريّ وفرضيّ، فإنّ الإنسان ممكن الوجود واقعاً سواء وجد معتبر وفارض أو لا، وليس أمراً موجوداً في الخارج كنفس الإنسان، وإلاّ لاحتاج إلى إمكان آخر وهكذا إلى أن يتسلسل، وإنّما هو أمر له حظّ من الواقعيّة من دون أن يكون موجوداً في الخارج أو اعتباراً صِرفاً، ومن هذا القبيل جميع الملازمات والسببيّات، فسببيّة النار للإحراق مثلاً تكون أمراً واقعيّاً ثابتاً في لوح الواقع، لا أمراً اعتباريّاً وليس لها وجود خارجيّ

97

من سنخ وجود الجواهر والأعراض. ومن جملة هذه السببيّات سببيّة سماع اللفظ لخطور المعنى في الذهن، فهذه السببيّة أمر واقعيّ لا موجود خارجيّ ولا شيء اعتباريّ. وعمليّة الوضع عبارة عن جعل هذه السببيّة الواقعيّة، وإيجادها للّفظ حقيقةً(1).

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّه هل يفرض أنّ الواضع جعل السببيّة في حقّ خصوص العالم بالوضع، أو يفرض أنّه جعلها مطلقاً من دون فرق بين العالم والجاهل؟ فإن فرض الثاني لزم ثبوت الدلالة حتّى عند الجاهل بالوضع، بينما ليس الأمر هكذا. وإن فرض الأوّل لزم أخذ العلم بالوضع في موضوع الوضع، أي: أنّ اللفظ ليس سبباً لتصوّر المعنى إلاّ في حقّ العالم بالسببيّة، وهذا تهافت ودور، حيث إنّ السببيّة توقّفت على العلم بها توقّف الشيء على موضوعه، بينما العلم بها متوقّف عليها توقف العلم على معلومه(2).

أقول: لو كنّا نحن وهذا الإشكال لأمكن لصاحب هذا المسلك أن يصبّ مسلكه بصياغة لا يرد عليها هذا الإشكال، وذلك بأن يقال: إنّ سبب الانتقال إلى المعنى مركّب من جزءين: أحدهما: اللفظ والآخر: العلم بالوضع، والواضع جعل اللفظ جزء السبب لا تمام السبب، وقد جعله جزء السبب مطلقاً من دون فرق بين الجاهل بالوضع والعالم به، إلاّ أنّ الجاهل بالوضع لا تثبت عنده الدلالة؛ لعدم انضمام الجزء الآخر من السبب وهو العلم بالوضع إلى الجزء الأوّل وهو اللفظ، فالسببيّة التامّة موقوفة على العلم بالوضع، والعلم بالوضع موقوف على السببيّة


(1) ربّما يكون هذا التفسير للوضع مأخوذاً من نهاية الأفكار، ج 1، ص 26، أو المقالات، ج 1، ص 62 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 1، ص 39.

98

الضمنيّة لا السببيّة التامّة، فلا دور ولا تهافت(1).

إلاّ أنّ هذا الكلام أيضاً لا يعدو أن يكون مجرّد عبارة فارغة كالمسلك السابق، فإنّنا نقول: ماذا يقصد بدعوى: جعل الواضع اللفظ سبباً للانتقال إلى المعنى؟ هل يقصد بذلك خلقه للسببيّة الذاتيّة في اللفظ، أي: جعل اللفظ سبباً ذاتيّاً للانتقال إلى المعنى على حدّ سببيّة النار للحرارة؟ أو يقصد بذلك جعل السببيّة العرضيّة للّفظ، بمعنى: أنّه يوجد في اللفظ ما هو سبب ذاتاً للانتقال إلى المعنى، من قبيل جعل الماء سبباً عرضيّاً للحرارة، بمعنى: أن يوجد فيه ما هو سبب للحرارة، وذلك بجعل الماء على النار مثلاً لكي يكسب الحرارة، ويكون سبباً بالعرض للحرارة، والسبب الحقيقيّ لها هو الحرارة التي أُوجدت في الماء، حيث إنّ الحرارة تولّد الحرارة؟

فإن قصد الأوّل، قلنا: من الواضح أنّ السببيّة في ذات الأسباب لا تقبل الجعل، وإنّما هي ذاتيّة لها تنبع من حاقّ ذاتها، ولا يمكنك أن تجعل الماء مثلاً سبباً للحرارة على حدّ سببيّة النار للحرارة(2)، وإن قصد الثاني، أي: أنّ الواضع يجعل السببيّة العرضيّة للّفظ، أي: أنّه يوجد في اللفظ شيئاً يكون ذلك الشيء سبباً ذاتيّاً للانتقال إلى المعنى، قلنا: إنّ الذي كان ينبغي بيانه ـ لكي ينكشف سرّ اللغة ـ هو: أنّه ما هو ذلك الشيء الذي يمتلك السببيّة الذاتيّة للانتقال إلى المعنى والذي


(1) وهذا الجواب غير الجواب الذي يذكر في مسألة أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم من التفكيك بين الجعل والمجعول مثلاً، وأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول، فلو اُسري ذاك الجواب إلى ما نحن فيه ثبت جوابان على هذا الإشكال.

(2) هذا على المسلك المعروف من ذاتيّة السببيّات للأسباب، أمّا على المسلك القائل بأنّه جرت حكمة الله تعالى ومشيئته على إيجاد المسبّبات متى ما توجد ما تسمّى بالأسباب، فالأمر أيضاً كذلك، فإنّ الواضع لا يستطيع أن يوجِد مشيئة الله في ترتّب انتقال الذهن إلى المعنى على ما لم يكن قبلاً مترتّباً عليه في مشيئة الله، وهو اللفظ.

99

أوجده الواضع في اللفظ حتّى أصبح اللفظ سبباً للانتقال إلى المعنى؟ فصحيح: أنّ سببيّة اللفظ لتصوّر المعنى كسائر السببيّات هي من الاُمور الواقعيّة غير الموجودة في الخارج، ولا مجرّد اعتبار وخيال، وأنّ الواضع أوجد في اللفظ ما يمتلك هذه السببيّة، ولكن الكلام في معرفة ذلك الشيء، ولم يبيّن هذا.

 

المبنى المختار في حقيقة الوضع:

وتحقيق الحال في المقام:

إنّ هناك سببيّة تكوينيّة، وقانوناً تكوينيّاً جعله خالق الكون الذي أوجد الطبيعة وأخضعها للقوانين المسيطرة عليها، وهو: أنّ الإنسان بحسب طبعه وفطرته التي فطره الله عليها متى ما أحسّ بشيء كان إحساسه بذلك الشيء سبباً لانتقال ذهنه إلى الصورة الذهنيّة لذلك الشيء، فإلاحساس بالأسد يوجب انتقال الذهن إلى معنى الأسد مثلاً.

وهناك سببيّتان اُخريان وقانونان ثانويّان تكوينيّان يحكمان على القانون الأوّل حكومة تكوينيّة، وكأنّهما توسيعان لذلك القانون:

الأوّل: أنّ الإحساس بما يشبه شيئاً سبب أيضاً لتصوّر معنى ذلك الشيء، فمن رأى صورة الأسد مرسومةً على الورق ينتقل ذهنه إلى معنى الأسد، وكأ نّ الإحساس بصورة الأسد إحساس بنفس الأسد.

الثاني: أنّ الإحساس بشيء اقترن في الذهن بشيء آخر اقتراناً مخصوصاً يكون أيضاً سبباً لتصوّر ذلك الشيء الآخر، فترى أنّ من أحسّ بزئير الأسد مثلاً انتقل ذهنه إلى معنى الأسد، وكأنّ الإحساس بزئير الأسد إحساس بنفس الأسد. وأقصد بالإحساس بصورة الأسد أو زئيره مثلاً ما يشمل انتقال الذهن إلى صورة

100

الأسد أو زئيره ولو من دون إحساس خارجيّ، وأقصد بالاقتران المخصوص أن تكون للاقتران خصوصيّة كمّيّة من قبيل كثرة اقتران زئير الأسد بالأسد، أو خصوصيّة كيفيّة بأن يكون الاقتران في ظرف مؤثّر وملفت للنظر كما لو اقترن سفر شخص إلى الحلّة مثلاً بمرض شديد، فمتى ما تذكّر السفر إلى الحلّة تذكّر المرض.

والبشر قد استفاد منذ أبعد العصور في مقام التفهيم والتفاهم من هذين القانونين الثانويّين، فمثلاً تراه يفهّم بعض المعاني بإيجاد صورته باليد وغيرها، فلكي يشير إلى كون فلان لابساً للعمامة أو طويلاً أو قصيراً أو غير ذلك يشير باليد بنحو يصوّر صورة شبيهة بذلك، فينتقل ذهن المخاطب إلى المعنى المقصود، وهذا تطبيق للقانون الأوّل. ولكي يفهّم معنى الأسد يزئر كزئير الأسد فينتقل الذهن من هذا الصوت الشبيه بزئير الأسد إلى زئير الأسد تطبيقاً للقانون الأوّل، ومن زئير الأسد إلى معنى الأسد تطبيقاً للقانون الثاني، فيحصل بذلك تفهيم المعنى المقصود، ولكي يفهّم كون فلان شجاعاً مثلاً يزئر زئير الأسد مشيراً إليه، فينتقل ذهن السامع من صوته إلى زئير الأسد تطبيقاً للقانون الأوّل، ومن زئير الأسد إلى الأسد تطبيقاً للقانون الثاني، ومن الأسد إلى الشجاع للشبه الموجود بينهما تطبيقاً للقانون الأوّل، فبهذا يحصل تصوّر المعنى المقصود وهو الشجاع. وإلى هنا أمكن تكوين لغة للبشر يتفاهمون بها من باب الاستفادة من القانونين التكوينيّين من دون أيّ تصرّف من قبل البشر في كبرى القانون بأن يوجد سببيّة ذاتيّة في شيء لم يكن سبباً، ولا في صغرى القانون بأن يوجد الشبه أو المقارنة فيما لا يكون شبيهاً أو مقارناً، وإذا تكرّر إيجاد صوت يشبه صوت الأسد للدلالة على الشجاع ـ مثلاً ـ أصبح بالتدريج نفس ذلك الصوت دالاًّ على الشجاع من دون توسّط دلالته على صوت الأسد، ودلالة صوت الأسد على الأسد، ودلالة الأسد على الشجاع، وذلك

101

لتكرّر المقارنة في الذهن بين هذا الصوت وبين الشجاع، فتوجد بهذه العمليّة صغرى لكبرى القانون الثاني، فيصبح هذا الصوت دالاًّ بكثرة الاستعمال على الشجاع. وهذا حقيقة الوضع التعيّنيّ الذي قالوا عنه: إنّه يحصل بكثرة الاستعمال، ثُمّ أصبح البشر بالتدريج متعوّداً على دلالة الأصوات على المعاني، وعلى الاستفادة من قانون المقارنة، فأصبحت الذهنيّة البشريّة مهيّأة للوضع بمعنى إقران لفظ بمعنى في الذهن للدلالة عليه، فيقرن الإنسان لفظاً بمعنىً من قبيل قرن لفظة « أسد » بمعناه، أو لفظة « حليب » بمعناه ونحو ذلك مرّة واحدة، لكنّه في ظرف مؤثّر من قبيل أن يقول: سمّيت ابني عليّاً، أو وضعت هذا الاسم عليه، أو اعتبرته عليّاً، وذلك أمام جماعة قد أنست أذهانهم من قبل بدلالة الأصوات على المعاني، والاستفادة من القرن، فيصبح هذا القرن في ظرف مؤثّر من هذا القبيل مُلفتاً للنظر، ويجعل اللفظ دالاًّ على المعنى، وتوجد بهذه العمليّة صغرى اُخرى لكبرى القانون الثاني، وهذا حقيقة الوضع التعيينيّ، فالوضع التعيينيّ والوضع التعيّنيّ كلاهما عبارة عن عمليّة إيجاد الاقتران بين اللفظ والمعنى حتّى يوجد بذلك صغرى من صغريات القانون الثاني، والفرق بينهما: أنّ الاقتران ـ الذي مضى: أنّه لابدّ أن يكون بنحو مخصوص حتّى يوجب الدلالة ـ يتمتّع في الوضع التعيّنيّ بخصوصيّة كمّيّة، وفي الوضع التعيينيّ بخصوصيّة كيفيّة، فروح الوضع والسبب الحقيقيّ للدلالة هو القرن بين اللفظ والمعنى في الذهن بنحو مخصوص(1) سواء تحقّق


(1) وفرق هذا البيان عن نظريّة بافلوف الشهيرة في قصّة دقّ الجرس أو نحو ذلك يمكن أن يفترض بأحد شكلين:

الأوّل: أن يقال: إنّ نظريّة بافلوف نظريّة فسلجيّة عضويّة، ونظريّة اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)

102

إنشاء وجعل، أو اعتبار وتنزيل، أو وضع للّفظ على المعنى، أو تحت المعنى، أو لا، فالتفتيش عن نكتة الوضع والدلالة في كون الوضع اعتباراً أو تنزيلاً أو غير ذلك ليس إلاّ مجرّد تلاعب بالألفاظ.

وقد اتّضح ممّا بيّناه عدّة اُمور:

الأوّل: أنّ الصحيح في الوضع هو مسلك الواقعيّة، لكنّه لابدّ من بيان السرّ ونكتة الدلالة والوضع، وهذا ما صنعناه، لا مجرّد أن يقال: « إنّ الواضع يجعل اللفظ سبباً واقعيّاً للدلالة »، وليس روح الوضع عبارة عن أمر إنشائيّ حتّى يتكلّم


نظريّة سيكولوجيّة نفسيّة، فذاك يقول: إنّ الأثر المادّيّ للطعام ـ ويفترضه سيلان اللعاب ـ سرى إلى ما قارن الطعام لدى الكلب (راجع فلسفتنا، ص 372 ـ 374 بحسب طبعة منشورات عويدات ببيروت، واقتصادنا، ص 54 ـ 57 بحسب طبعة دار الفكر ببيروت). وإسراء ذلك إلى الفكر واللغة من قبل بعض الماديّين يعني: أنّ النشاط المخّيّ المادّيّ الذي يحصل بالإحساس بالشيء يحصل أيضاً بسماع اللفظ المقترن بذلك الشيء. وهذا المطلب لا دليل على صحّته، وتجربة بافلوف لا ينحصر تفسيرها بذلك، فبالإمكان أن تفسّر بأنّ سيلان اللعاب لم يكن أصلاً استجابة لذات الطعام المادّيّ بل كان استجابة للصورة الذهنيّة اللامادّيّة التي هي وراء النشاط المخّيّ المادّيّ، وبما أنّ صوت الجرس المقارن لتقديم الطعام أعطى نفس الصورة للذهن حصلت نفس الاستجابة؛ ولذا ترى أنّ ما يكون حقّاً نتيجة لذات المادّة كالموت بالنسبة للسمّ، أو الشفاء بالنسبة للدواء لا يسري إلى ما يقارن تلك المادّة من لفظ أو غيره، وأمّا اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فإنّما قال بتماثل المتقارنين في خلق الصورة العقليّة الميتافيزيقيّة لدى الفكر اللامادّيّ.

والثاني: أن يفترض أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لا يقول أصلاً بانتقال الأثر من شيء إلى ما يقارنه، وإنّما يقول: بأنّ التقارن الأكيد في الذهن يجعل تصوّر القرين سبباً للانتقال إلى قرينه من دون فرضيّة اكتساب أحد القرينين آثار قرينه الآخر، بينما نظريّة بافلوف هي نظريّة انتقال الأثر من القرين إلى القرين.

103

في أنّه هل هو تنزيل أو اعتبار؟ وأنّه هل يعتبر اللفظ نفس المعنى، أو أداة للدلالة على المعنى، أو فوق المعنى، أو تحت المعنى ونحو ذلك من العبارات والتلاعبات بالألفاظ؟ نعم، كثيراً ما يتّفق أنّ الواضع ينشئ شيئاً من اعتبار أو نحوه، فيقول بقصد الإنشاء: سمّيت ابني عليّاً، إلاّ أنّ هذه العمليّة لها جنبتان: جنبة الإنشاء، كأن ينشئ وضع اللفظ فوق المعنى أو تحته أو نحو ذلك، وجنبة إيجاد اقتران واقعيّ وحقيقيّ في الذهن بين اللفظ والمعنى بنحو مخصوص، والجنبة الثانية هي سرّ الوضع والدلالة دون الاُولى؛ ولذا قد تتمّ الدلالة على أساس الجنبة الثانية مع فقدان الجنبة الاُولى، كما لو سمع الطفل من اُمّه كلمة الحليب مقترنةً بتقديم الحليب له من دون أن يُنشأ أمامه شيء، أو يستطيع أن يتعقّل الإنشاء، فتتمّ في ذهنه الدلالة تارة بتكرّر الاقتران كثيراً، واُخرى بالاقتران مرّة واحدة أو عدداً قليلاً من المرّات إذا كان ذكيّاً، فمتى ما سمع كلمة الحليب انتقل ذهنه إلى معناه.

الثاني: أنّ الوضع يوجب الدلالة التصوّريّة للّفظ ولو سمع من جدار، ولا يوجب الدلالة التصديقيّة، وإنّما الدلالة التصديقيّة تكون وليدة اُمور اُخرى من ظاهر حال وقرائن أحوال ونحو ذلك، وهذا واضح على ما عرفت من أنّ روح الوضع عبارة عن الاقتران في الذهن بين اللفظ والمعنى، وإيجاد الصغرى للقانون الثاني من القانونين التكونيّين الثانويّين، فإنّ من الواضح: أنّ ذاك القانون مفاده إنّما هو انتقال الذهن من أحد المتقارنين إلى الآخر من دون دلالة تصديقيّة، ولا تعقل دلالة اللفظ على المعنى دلالة تصديقيّة إلاّ على مسلك التعهّد، حيث تعهّد الإنسان مثلاً بأن لا يتكلّم بالكلام الفلانيّ إلاّ إذا قصد المعنى الفلانيّ، فكلامه كاشف عن تحقّق ذاك القصد، وأمّا مجرّد الاعتبار كما هو المسلك الثاني، أو خلق سببيّة اللفظ واقعاً لانتقال الذهن إلى المعنى كما هو المسلك الثالث، أو عمليّة القرن

104

كما هو المختار في تعميق المسلك الثالث وتكميله، فكلّ هذا لا يعطي للّفظ الدلالة التصديقيّة، فإنّ مجرّد اعتبار اللفظ معنىً، أو اعتباره على المعنى، أو دالاًّ عليه بعد فرض كفايته لانتقال الذهن إلى المعنى لا ربط له بالتصديق بإرادة المتكلّم لذلك المعنى، وكذلك الإيجاد الواقعي للسببيّة في اللفظ لانتقال الذهن إلى المعنى، فإنّ هذا لا علاقة له بالكشف عن إرادة المتكلّم له، وعمليّة القرن أيضاً إنّما توجب انتقال الذهن من أحد المتقارنين إلى الآخر، لا الكشف عن شيء.

وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ الدلالة التصوّريّة في اللفظ المسموع من الجدار لا يصحّ فرضها دلالة وضعيّة؛ لأنّ الهدف من الوضع إنّما هو التفهيم والتفاهم بين العقلاء، وأمّا الجدار الذي لا يعقل ولا يريد شيئاً، فمدّ الوضع إلى ما يسمع منه لغو ولا فائدة فيه، ويكون خلاف حكمة الواضع(1).

وأنت ترى: أنّ هذا البيان لا موضوع له بناءً على ما بيّناه من أنّ الوضع هو أن يوجد الواضع في اللفظ ما هو سبب ذاتاً للدلالة، وهو الاقتران، وسببيّة الاقتران للدلالة تكوينيّة، ولا تفكيك فيها بين مورد يوجد فيه هدف الواضع ومورد لا يوجد فيه هدفه، فالواضع حينما قرن اللفظ بالمعنى تمّت الدلالة مطلقاً شاء أو أبى، ولا يمكنه أن يفكّك بين ما يُسمع من إنسان فيكون دالاًّ وما يسمع من جدار فلا يكون دالاًّ(2).

 


(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض حفظه الله، ج 1، ص 49 و 104 ـ 105.

وقد أتى في الموضع الثاني ـ أعني: ص 104 ـ 105 ـ بهذا البيان لإثبات عدم إطلاق الوضع للّفظ الصادر من لافظ غير ذي شعور حتّى على مسلك الاعتبار، أمّا على مسلك التعهّد فهو ليس بحاجة إلى هذا البيان، أعني: بيان لزوم اللغويّة؛ وذلك لأنّ التعهّد من اللافظ غير ذي شعور لا معنى له.

(2) هذا بناءً على المسلك المختار، وهو مسلك القرن الأكيد. والواقع: أنّنا حتّى لو

105

الثالث: قد اشتهر: أنّ الدلالة على أساس الوضع مشروطة بالعلم بالوضع، وقد اتّضح بما ذكرناه معنى اشتراطها بالعلم. وسرّ ذلك، فإنّك عرفت: أنّ روح الوضع هو اقتران اللفظ بالمعنى في الذهن، إذن ففي الحقيقة لم يتمّ الوضع بعدُ في حقّ الجاهلين بالوضع؛ لعدم تحقّق الاقتران المخصوص بين اللفظ والمعنى في أذهانهم، وتتمّ الدلالة عندهم غالباً بأن يعلموا بالوضع بمعنى: أنّهم إذا علموا بإنشاء اعتبار أو تنزيل مثلاً، أو قرن سابق في ذهن الآخرين بين اللفظ والمعنى، فقد تحقّق الاقتران في أذهانهم أيضاً، وعلموا بالوضع، فتتمّ الدلالة عندهم. وقد تتّفق تماميّة الدلالة من دون علم بالوضع بهذا المعنى، وذلك كما إذا تمّ الاقتران في الذهن من دون اطّلاع من اُريد تعليمه على الوضع، وذلك من قبيل الأطفال الذين تتمّ الدلالة في أذهانهم بمثل قرن كلمة الحليب بالحليب عندهم.

 


تكلّمنا على مسلك الاعتبار مثلاً، فبرهان اللغويّة الذي ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لنفي إطلاق الوضع للّفظ الصادر من غير ذي شعور غير صحيح؛ وذلك لأنّ الإطلاق ليست فيه مؤونة زائدة كي تُنفى باللغويّة.

106

 

تشخيص الواضع

 

وأمّا الجهة الثانية: وهي في تشخيص الواضع، فقد استقرب جملة منالمحقّقين ومنهم المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1) كون الواضع هو الله تعالى، ويُستفاد من مجموع كلماتهم استبعادان لكون الواضع هو الإنسان:

الأوّل: أنّه يلزم من فرض الواضع إنساناً أن يكون ذلك الإنسان مطّلعاً على دقائق المعاني وخصوصيّاتها، وشوارد الأفكار، واسع الاطّلاع والالتفات ممّا لا يوجد عادة في غير مثل الأنبياء، وطبعاً يرتفع هذا الاستبعاد حينما نفترض أنّ الواضع هو الله تعالى، وأنّه جلّ شأنه قد ألهم البشر باللغة المشتملة على دقائق وخصوصيّات فائقة مع السعة والشمول(2).

وقد اُجيب على ذلك بأنّنا لا نفترض واضعاً واحداً حتّى يأتي هذا الاستبعاد؛ فإنّ اللغة لم توجد في يوم واحد ودفعة واحدة، بل وجدت على مراحل وبالتدريج حسب حاجات الناس التي تبدأ قليلة ثُمّ تتّسع بالتدريج(3).

الثاني: أنّه لو وضع إنسان لغة لكان ذلك حادثة مهمّة ملفتة للنظر تسجّل في


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 11 ـ 12 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(قدس سره)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 30 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم المقدّسة.

(2) راجع المصدرين السابقين.

(3) راجع ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 38 ـ 39.