208

ودوران الأمر بينهما في كلّ ما قطع العبد فيه بالإلزام، ولكن المفروض أنّ العبد يقطع بعدم الدوران، وبأنّه قد ميّز موارد المصلحة من موارد المفسدة، فهو قادر على تحصيل كلا الغرضين، وفي هذا الفرض لايكون ترخيص المولى عذراً له.

الثالث: أن يفرض قطع المكلّف بالحكم الإلزامىّ في بعض الموارد، فى حين أنّه يكون الحكم في بعض موارد قطعه إلزاميّاً على عكس الإلزام الذي قطع به، بأن يكون بعض ما تخيّله واجباً محرّماً في الواقع أو بالعكس، فحرّم عليه المولى العمل بقطعه طريقاً للتحفّظ على الأحكام التي أخطأ العبد فيها.

وهذا الردع في الحقيقة له جانبان: جانب التنجيز للإلزام الذي قطع بخلافه، وجانب التعذير عن الإلزام الذي قطع به، والكلام في الجانب الأوّل هو الكلام في الفرض الأوّل، والكلام في الجانب الثاني هو الكلام في الفرض الثاني.

 

الفروع المُوهِمة للترخيص في مخالفة العلم

 

قد يذكر في المقام فروع يتخيّل فيها أنّ الشارع رخّص في مخالفة العلم بالحكم في تلك الفروع.

 

الفرع الأوّل: الدراهم عند الودعىّ

لو كان عند الودعىّ درهمان لزيد، ودرهم لعمرو، فُسرِق أحد الدراهم، فقد حُكِم بأنّ أحد الدرهمين يعطى لزيد، والآخر ينصّف بينهما. وهذا قد يؤدّي إلى مخالفة العلم التفصيلىّ، كما لو انتقل كلّ من النصفين إلى شخص، فاشترى بهما جارية، ووطأها.

أقول: تارة يقع الكلام في هذا الفرع من الناحية الفقهيّة، واُخرى من ناحية كونه نقضاً على حجّيّة القطع وعدم إمكانيّة الردع عنه.

أمّا الكلام من الناحية الفقهيّة، فتفصيله: أنّ هذه الدراهم تارة يفرض عدم معروفيّة ما كان منها لزيد، وما كان منها لعمروعلى أثر وقوع الخلط والامتزاج، واُخرى يفرض ذلك على أثر النسيان دون خلط أو امتزاج.

209

أمّا الفرض الأوّل: ففيه أقوال ثلاثة:

1 ـ إعطاء أحد الدرهمين لزيد، وتنصيف الآخر بينهما.

2 ـ تثليث الدرهمين، وإعطاء ثلثيهما لزيد، وثلثهما لعمرو.

3 ـ تشخيص مالك الدرهم الثاني بالقرعة التي هي لكلّ أمر مشكل.

أمّا القول الأوّل: وهو التنصيف، فيدلّ عليه أمران:

الأوّل: رواية السكونىّ، لكنّها ساقطة عن درجة الاعتبار؛ لضعف السند(1).

الثاني: قاعدة العدل والإنصاف، والدليل عليها ـ على ما أفاده السيّد الاُستاذ ـ هو السيرة العقلائيّة الممضاة من الشارع.

ومُفادها ـ على ما يستفاد من كلماته ـ مجموع أمرين:

الأمر الأوّل: الحكم التكليفىّ، وهو: أنّه إذا دار الأمر في مال بين وصول نصفه فقط قطعاً إلى المالك، أو وصول تمامه احتمالاً إليه، فمقتضى السيرة العقلائيّة هو الأخذ بالثاني.

والآخر: الحكم الوضعىّ، وهو: ثبوت الملك ظاهراً لكلّ من النصفين لمن يعطى له. وذكر في المقام: أنّ تنصيف المال بينهما الموجب لوصول أحد النصفين إلى صاحبه وفوات النصف الآخر عليه، يكون نظير صرف الحاكم نصف المال حسبة، مقدّمة لإيصال النصف الآخر إلى مالكه.

ولعلّه يقصد بذلك مجرّد التنظير والتقريب إلى الذهن.

وعلى أيّ حال، فتارة تفترض دعوى السيرة العقلائيّة على قاعدة العدل والإنصاف. وحجّيّتها في باب القضاء، ولعلّه المقصود للسيّد الاُستاذ، كما يشهد لذلك تنظيره بمسألة اختيار الحاكم إيصال نصف المال بصرف النصف الآخر.

واُخرى تفترض دعوى السيرة على ذلك، وحجّيّة القاعدة في نفسها، وبغضّ النظر عن باب القضاء. ولاتلازم بين حجّيّة الشيء في نفسه، وحجّيّته في مقام القضاء والحكم، فاليمين ـ مثلاً ـ حجّة في مقام الحكم، وليس حجّة في نفسه، والاستصحاب حجّة في


(1) المقصود بذلك ما ورد في الوسائل ج 13 باب 12 من الصلح ص 171 عن السكونىّ عن الصادق(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) «في رجل استودع دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينار منها، قال: يعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقسّم الآخر بينهما نصفين» والسند ضعيف بالنوفلىّ.

210

نفسه، وليس حجّة في مقام الحكم.

أمّا الدعوى الاُولى: وهي دعوى السيرة على قاعدة العدل والإنصاف في مقام فصل الخصومة، فإن ثبتت، لم تفدنا شيئاً؛ لأنّ هذه السيرة مردوعة بإطلاق الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ القضاء إنّما هو بالبيّنات والأيمان، فإنّها ناظرة إلى إسقاط كلّ ما يجعل فاصلاً للخصومة عدا البيّنة واليمين عن درجة الاعتبار، فلايمكن إثبات جواز فصل الخصومة بشيء آخر، إلّا بالنصّ الخاصّ، لا السيرة العقلائيّة(1).

وعلى أيّ حال، فلاحاجة لنا في باب فصل الخصومة إلى هذه السيرة؛ لدلالة النصّ الخاصّ على قاعدة العدل والإنصاف فيه، حيث ورد في فرض تعارض البيّنتين وعدم مرجّح لأحدهما على الاُخرى الحكمُ بالتنصيف(2).

ومقتضى الجمود على اللفظ هو الاقتصار في فصل الخصومة بهذه القاعدة على خصوص فرض تعارض البيّنتين المتساويتين، دون ما لم تكن هناك بيّنة أصلاً، لكن الظاهر عرفاً من الكلام: أنّ الحكم بالتنصيف يكون بنكتة أنّ البيّنتين بعد التعارض وعدم المرجّح كالعدم، فتتّجه حجّيّة هذه القاعدة في مقام فصل الخصومة حتّى مع عدم وجود البيّنة.

وأمّا الدعوى الثانية: وهي دعوى قيام السيرة على حجّيّة قاعدة العدل والإنصاف في نفسها، فهي ممنوعة بكلا جانبيها التكليفىّ والوضعىّ.

والحاصل: أنّ السيرة إن سلّمت، فإنّما تسلّم في مورد فصل الخصومة، ولاحاجة إليها هناك؛ للردع أوّلاً، وللنصّ الخاصّ ثانياً، ولاتسلّم في غير باب فصل الخصومة.


(1) قد يفسّر قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» على وفق مناسبات الحكم والموضوع بحصر أدلّة تشخيص الحقّ في باب الترافع بالبيّنة والأيمان، في حين أنّ قاعدة العدل والإنصاف لا تستعمل لتشخيص الحقّ، بل تستعمل بعد فرض تردّد الحقّ بين من يقسّم المال عليهم بالعدل والإنصاف.

(2) من قبيل ما ورد عن غياث بن إبراهيم بسند تامّ عن أبي عبد الله(عليه السلام)، «أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دا بّة، وكلاهما أقام البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين» (الوسائل ج 18 باب 12 من كيفية الحكم، ح 3 ص 182) إلّا أنّه يوجد بهذا الصدد ـ أيضاً ـ ما دلّ على القرّعة، كما ورد بسند تامّ عن سماعة، قال: «إنّ رجلين اختصما إلى عليّ(عليه السلام) في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، وأقاما كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة... إلى أن قال: فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها» (المصدر نفسه ج 12 ص 185).

211

ونقول بعنوان بيان نكتة الفرق (إن وجدت سيرة في باب الخصومة)، لابعنوان إقامة البرهان: إنّ الفارق بين باب الخصومة وغيره هو: أنّ في ذاك الباب كان المطلوب فصل الخصومة ورفعهما، والتنصيف يصلح لذلك، فقامت السيرة على التنصيف. وهذا بخلاف فرض عدم الخصومة.

يبقى الكلام فيما هو الحكم بالنسبة إلى هذا المال في غير باب الخصومة، فنقول: تارة يفرض الكلام فيما هو حكم الشخص الثالث الذي بيده هذا الدرهم المردّد مالكه بين شخصين.

واُخرى يفرض الكلام بالنسبة إلى نفس الشخصين اللذين تردّد المال بينهما.

أمّا الكلام بالنسبة إلى الشخص الثالث، فقد يقال: إنّه يجب على هذا الودعيّ إيصال الدرهم إلى مالكه؛ لأدلّة وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها. وعليه يدور أمره بين الموافقة الاحتماليّة المقرونة بالمخالفة الاحتماليّة، وذلك بإيصال الدرهم إلى أحد الشخصين، وبين الموافقة القطعيّة في نصف الدرهم المقرونة بالمخالفة القطعيّة في النصف الآخر، وذلك بالتنصيف. وهنا يمكن أن يقال بلزوم اختيار الشقّ الأوّل؛ لوجهين:

الوجه الأوّل: ما هو المختار في سائر موارد العلمين الإجماليّين: من أنّه إذا دار الأمر بين الموافقة القطعيّة لأحدهما المقرونة بالمخالفة القطعيّة للآخر، وبين الموافقة والمخالفة الاحتماليّتين لهما، تعيّن الثاني؛ لأنّ العلم الإجمالىّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، دون وجوب الموافقة القطعيّة؛ وذلك بنكتة تعلّق العلم بالجامع، فيجب امتثاله، ويكفي في إيجاد الجامع إيجاد أحدهما(1).

ويرد عليه: أنّ تعلّق العلم بالجامع الذي نسبته إلى كلا الطرفين على حدّ سواء إنّما هو فيما نسمّيه بالعلم الإجمالىّ البسيط، كما لو علمنا إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة. أمّا فيما نسمّيه بالعلم الإجمالىّ المعقّد، وهو ما علم فيه بتعلّق التكليف بالشيء بالإضافة إلى


(1) لعلّ مقصوده (رضوان الله عليه) من كون المختار علّيّة العلم الإجمالىّ لحرمة المخالفة القطعيّة، كونه مختاراً له على المبنى المشهور: من علّيّة البيان للتنجيز ولو كان إجماليّاً، وإلّا فسيأتي منه أنّ المختار ـ بناءً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ هو اقتضاء العلم الإجماليّ البسيط حرمة المخالفة القطعيّة فحسب، ووجوب الموافقة القطعيّة ـ أيضاً ـ في العلم الإجماليّ المعقّد. وبناءً على إنكار تلك القاعدة يكون مقتضياً لحرمة المخالفة القطعيّة، ولوجوب الموافقة القطعيّة مطلقاً.

212

عنوان، كوجوب إكرام العالم بما هو عالم، وكان التردّد في انطباق هذا العنوان على هذا الطرف أو ذاك الطرف، كما لو علمنا إجمالاً بعالميّة أحد الشخصين، فهنا ليس العلم متوقّفاً على الجامع الذي نسبته إلى الطرفين على حدّ سواء، بل نفذ العلم بالتكليف إلى عنوان (إكرام العالم)، ومن الواضح أنّه ليست نسبة ذلك إليهما على حدّ سواء، وإنّما تردّدنا نحن في انطباقه. فما تنجّز بالعلم إنّما هو إكرام العالم، وهو أكبر من الجامع الذي يعبّر عنه بمثل أحدهما. وسيأتي في محله ـ إن شاء الله ـ تفصيل الكلام في الفرق بين القسمين. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ وجب ردّ المال إلى المالك بما هو مالك، وتردّد لدينا انطباقه بين هذا وذاك.

الوجه الثاني: أنّه على رغم نفوذ العلم بالوجوب إلى ردّ المال إلى المالك بما هو مالك ـ ولذا لم نقبل بالوجه الأوّل ـ يمكن الترخيص في مخالفة ذلك مخالفة احتماليّة، ولايمكن الترخيص في مخالفتها مخالفة قطعيّة ولو في أحد النصفين؛ وذلك لأنّ الترخيص في المخالفة الاحتماليّة حكم ظاهرىّ قابل للجمع مع الحكم الواقعىّ بوجه يجمع به بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة، أمّا الترخيص في المخالفة القطعيّة، فغير ممكن. فلابدّ من إرجاعه إلى تقييد الواقع؛ إذ يشترط في الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ عدم القطع بمخالفته للواقع، فإطلاق دليل الحكم الواقعىّ يطرد الترخيص في المخالفة القطعيّة(1).

إلّا أنّ تمام ما ذكرناه إلى هنا كان مبنيّاً على دعوى وجوب إيصال المال إلى مالكه على هذا الودعىّ.

لكن التحقيق: أنّه لادليل على وجوب ذلك عليه، بل إنّما يجب عليه التخلية بين المال ومالكه، بأن يقول لهما ـ مثلاً ـ: كلّ من كان منكما مالكاً لهذا المال، فليأخذه. وأمّا وجوب


(1) لعلّ هذا ـ أيضاً ـ مبنىّ على مبنى القوم: من أنّ العلم الإجمالىّ كالتفصيلىّ في علّيّته للتنجيز، ولكن مع ذلك يمكن الترخيص في المخالفة الاحتماليّة في مورد العلم الإجمالىّ، كما رخّص فيها في مورد العلم التفصيلىّ بمثل قاعدة الفراغ وغيرها.

إلّا أنّ الواقع: أنّ نفس النكتة التي جعلت الترخيص في المخالفة الاحتماليّة جائزاً في مورد العلم الإجمالىّ والتفصيلىّ، جعلت الترخيص في المخالفة القطعيّة في مورد العلم الإجماليّ جائزاً أيضاً، وسيأتي منه(رحمه الله)منع كون العلم الإجمالىّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة. وتفصيل الكلام يتّضح في الأبحاث الآتية في محلّها إن شاء الله.

213

إيصال المال إلى المالك، فلادليل عليه سوى أمرين:

أحدهما: قاعدة على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.

والصحيح: أنّ عمدة الدليل عليها هي السيرة العقلائيّة، وهي لاتقتضي فيما نحن فيه أكثر من التخلية بالشكل الذي أشرنا إليه.

وثانيهما: دليل وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها.

والتحقيق: أنّه ليس المستفاد منه عرفاً لزوم الإيصال؛ ولذا لم يفت الفقهاء بأنّه يجب على الأمين حمل المال إلى باب دار صاحبه، وإنّما قالوا بوجوب التخلية عليه، وهذا هو المفهوم عرفاً من دليل ردّ الأمانات. والتخلية بين المال والمالك ـ بمعنى رفع المانع من ناحية نفسه عن أخذ المالك ـ تحصل برفع الحاجب بين المال وكلا هذين الشخصين.

نعم، لايحصل بذلك رفع مانع احتمال مالكيّة ذاك الشخص الآخر الذي ليس في الحقيقة مالكاً، لكنّه لايقدر على رفع هذا المانع حتّى يجب عليه، إلّا بأن يقرّ بعدم مالكيّة الشخص الآخر، فيكون إقراره حجّة من باب حجّيّة إقرار ذي اليد، ولكن لايجوز له هذا الإقرار؛ لفرض كونه شاكّاً. بل لو فرض إمكان رفع هذا المانع، لم يجب ـ أيضاً ـ رفعه؛ إذ دليل وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها لايدلّ على وجوب التخلية بمعنىً يشمل ذلك، وإنّما يدلّ على وجوب التخلية بمعنى رفع المانع من قبله فقط(1).

وأمّا الكلام بالنسبة إلى من تردّد بينهما المال: فلو أرادا الصلح، أو رفع أحدهما أو كلاهما اليد عن المال، فلاكلام، وإلّا فإن كان كلّ منهما يدّعي القطع بأنّه المالك، خرجت


(1) بل الظاهر: أنّ المفهوم منه أكثر من هذا، فلو كان يعلم أنّ هذا المال لزيد، وليس لعمرو، لم يكن يكفي بأن يخلّي بين هذا المال وبينهما، ويبقيهما حائرين بشأن هذا المال، بل كان عليه أن يشهد بالواقع. وشأن السيرة العقلائيّة على قاعدة اليد ـ أيضاً ـ كذلك.

نعم، في خصوص ما نحن فيه ـ باعتباره غير قادر على شهادة من هذا القبيل إلّا بأن يشهد بغير علم ـ لايفهم عرفاً من دليل وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها وجوب الشهادة بغير علم عليه، فيكتفي بالتخلية بين المال وبينهما.

نعم، لو كان كلّ منهما مصمّماً على أن يستأثر بالمال، فالتخلية بين المال وبينهما (لا بينه وبين المالك) إيجاد للحاجب عن المال، ومعه لاتتمّ التخلية الواجبة في الحالات الاعتياديّة، لكن في فرض الشكّ والتردّد بينهما لادليل على وجوب التخلية بالمعنى الشامل؛ لعدم إيجاد حاجب من هذا القبيل، لامن السيرة العقلائيّة، ولامن دليل ردّ الأمانات إلى أهلها. أمّا السيرة العقلائيّة، فلعدم ثبوتها على ذلك في مثل المقام، وأمّا دليل ردّ الأمانات، فهو ـ أيضاً ـ ينصرف عن ذلك في مثل المقام بالمناسبات العقلائيّة.

214

المسألة عمّا نحن فيه، وعليهما أن يرفعا النزاع إلى الحاكم، وقد مضى أنّ الحاكم يحكم بقاعدة العدل والإنصاف، وإن كان كلّ منهما يحتمل كون المال له، فبعد ما عرفت من عدم حجّيّة قاعدة العدل والإنصاف في غير باب الحكومة، لايبقى شيء عدا القرعة، وتصل النوبة إليها.

وأمّا القول الثاني: وهو التثليث، فمنشؤه القول بحصول الشركة بالامتزاج، وهل هذه الشركة ظاهريّة، أو واقعيّة؟ فمقتضى كلام صاحب الجواهر(رحمه الله) أنّها ظاهريّة، والذي حمله على المصير إلى ذلك ما تسالموا عليه من كون الامتزاج موجباً للشركة من ناحية، ومن كون عقد الشركة موجباً للشركة ـ أيضاً ـ مشروطاً بالامتزاج من ناحية اُخرى.

فيرد الإشكال: بأنّ الامتزاج لو كان وحده موجباً للشركة، فافتراض كون عقد الشركة مشروطاً بالامتزاج موجباً للشركة ضمّ للحجر في جنب الإنسان. ففراراً من هذا الإشكال افترض أنّ الامتزاج إنّما يولّد الشركة الظاهريّة، في حين أنّه لو انضمّ إليها العقد، أصبحت الشركة واقعيّة.

أقول: إنّ كون الشركة ظاهريّة فيما نحن فيه غير متصوّر؛ إذ لو لم يكن الامتزاج موجباً للشركة الواقعيّة، إذن نحن نعلم بأنّ كلّ مال قد بقي في ملك مالكه، ومعه كيف نفترض الشركة الظاهريّة؟ ولامجال للحكم الظاهرىّ مع القطع بالخلاف!!

والواقع: أنّ دليله على كون الامتزاج شرطاً لحصول الشركة بالعقد هو الإجماع، ونحن لانراه في المقام بنحو يكشف عن رأي المعصوم. وتحقيق المقياس في ذلك يرجع إلى بحث الإجماع.

والدليل الصحيح على كون الامتزاج موجباً للشركة هو السيرة العقلائيّة، وهي لم تثبت في مطلق الامتزاج، وإنّما ثبتت فيما إذا كان الامتزاج بين الشيئين بنحو يأبى العرف عن كون المركّب موضوعين لحكمين بالملكيّة، كما في امتزاج الماء بالماء، أمّا امتزاج الدرهم بالدرهم، فليس كذلك. وحتّى لو كان دليلنا على الشركة هو الإجماع، فالقدر المتيقّن منه هو الامتزاج بالشكل الأوّل.

ومن هنا ينحلّ الإشكال الموجود في الجمع بين الفتوى بكون الامتزاج موجباً للشركة، والفتوى بكون تأثير العقد في إيجاد الشركة مشروطاً بالامتزاج ـ لو سلّمنا

215

الاعتماد على الإجماع المستدلّ به في المقام ـ وذلك لأنّ الامتزاج الموجب للشركة إنّما هو الامتزاج بالنحو الأوّل، سنخ امتزاج الماء بالماء، والقدر المتيقّن من اشتراط الامتزاج في نفوذ عقد الشركة هو أدنى مراتب الامتزاج الثابت في مثال الدرهم؛ لأنّ الدليل على اشتراط الامتزاج ليس لفظيّاً، وإنّما هو دليل لبّىّ لابدّ فيه من الاقتصار في مقام تقييد إطلاقات نفوذ عقد الشركة على القدر المتيقّن.

وأمّا القول الثالث: وهو تحكيم القرعة، فقد ظهر حاله ممّا سبق؛ فإنّه إن اُريد القرعة بمعنى حكم القاضي بذلك، فقد عرفت أنّ القاضي يجب أن يحكم بقاعدة العدل والإنصاف، بحكم النص، وإن اُريد القرعة بالنسبة إلى الشخص الثالث الودعىّ، فقد عرفت أنّه ليس عليه سوى التخلية بينهما وبين المال، وإن اُريد القرعة بالنسبة إلى نفس الشخصين الشاكّين، فقد عرفت صحّتها في ذلك.

وأمّا الفرض الثاني: وهو كون الاشتباه بسبب النسيان من دون أىّ خلط وامتزاج في المقام، فهذا حاله حال الفرض الأوّل في تمام ما مضى، عدا أنّ القول الثاني ـ وهو الشركة ـ لا مجال لتوهّمه هنا.

هذا تمام الكلام في هذا الفرع من الناحية الفقهيّة.

وأمّا افتراضه نقضاً على حجّيّة القطع وعدم الردع عنها، فخلاصة الكلام في ذلك:

أنّه بناءً على القول الثالث ـ وهو القرعة ـ لاتوجد في المقام مخالفة للعلم كما هو واضح. وكذلك الحال بناءً على القول الثاني، وهو الشركة؛ لما عرفت من أنّ الحقّ هو أنّ الشركة واقعيّة لاظاهريّة.

وأمّا بناءً على التنصيف لقاعدة العدل والإنصاف، فهنا قد يؤدّي العمل بآثار القاعدة إلى الانتهاء إلى مخالفة العلم، كما لو وقع النصفان في يد شخص ثالث، فهو يعلم إجمالاً بعدم مالكيّته لهما، وكما لو اشترى بهما جارية، فهو يعلم تفصيلاً بعدم الملكيّة المستقلّة، وحرمة الوطء.

لكنّنا نلتزم في مثل هذه الموارد بحرمة المخالفة، ونقتصر في مقام العمل بقاعدة العدل والإنصاف وترتيب آثارها على ما لايلزم منه مخالفة العلم بعد ثبوت منجزيّة العلم خصوصاً فيما إذا كان دليل القاعدة خصوص السيرة؛ فإنّ ثبوتها على ترتيب مثل هذه الآثار ممنوع.

216

الفرع الثاني: اختلاف المتبايعين في أحد العوضين

نبحث في هذا الفرع فيما لو وقع الخلاف في الثمن أو المثمن، كما لو قال البائع: بعتك كتاب الجواهر بعشرة دراهم، وادّعى المشتري: أنّك بعتني كتاب الحدائق بهذا الثمن، ولم يكن لأحدهما بيّنة، فالمورد مورد التحالف. فإن حلفا، حكم الحاكم للبائع بالكتابين، وللمشتري بالثمن. فلو وقع الكتابان في يد ثالث، علم إجمالاً بعدم مالكيّته لهما، ولو اشترى بهما جارية، علم تفصيلاً بعدم مالكيّته لها بالاستقلال، وعدم حلّيّة الوطء.

وذكر السيّد الاُستاذ: أنّه مع التحالف إمّا أن نقول بالانفساخ الواقعىّ، أو الظاهرىّ. فإن قلنا بالأوّل، فلا إشكال في المقام، وإن قلنا بالثاني، فإن كفى تصرّف ذي اليد ظاهراً في جواز تصرّف غيره واقعاً، فلا إشكال أيضاً، وإلّا التزمنا بلزوم اجتناب الشخص الثالث.

أقول: تارة يقع الكلام في التحالف.

واُخرى في الانفساخ الظاهرىّ.

وثالثة في الانفساخ الواقعىّ.

ورابعة في النقض بالمسألة على حجّيّة القطع.

أمّا الأوّل: وهو ثبوت التحالف هنا وعدمه، فهو مبتن على تحقيق نكتة في بحث القضاء، وهي: أنّه لا إشكال في أنّ البيّنة على المدّعي، والحلف على المنكر. فالتحالف إنّما يكون فيما لو كان كلّ منهما منكراً بلحاظ، أمّا إذا كانا مدّعيين من دون أن يصدق عليهما عنوان المنكر، فلامعنىً للتحالف.

ولا إشكال في أنّ كلّ واحد منهما منكر في ذاته، أي: إنّه ينكر بيع أحد الكتابين، وهو يطابق أصالة عدم البيع، إلّا أنّ هذا الأصل معارض للأصل في دعوى الطرف الآخر. فإن قلنا: إنّ المقياس في الإنكار هو مطابقة الكلام للأصل، أو الدليل في ذاته، وبغضّ النظر عن المعارض الذي قد يثبت في دعوى الطرف الآخر، إذن فكلّ منهما مدّع ومنكر، ويجري التحالف.

وإن قلنا: إنّ المقياس في الإنكار هو المطابقة للأصل، أو الدليل الذي يكون حجّة بالفعل، ولا تكفي الحجّيّة الشأنيّة ـ أي: الحجّيّة لولا المعارض ـ إذن فهما مدّعيان، ولامجال للتحالف. والمختار في باب القضاء ـ على ما أتذكّر ـ هو الأوّل، فكلّ منهما مدّع ومنكر. والخصومة في الحقيقة منحلّة إلى خصومتين بعدد البيعين اللذين اختلفا بينهما،

217

فكلّ منهما مدّع في إحدى الخصومتين، ومنكر في الاُخرى. ومن هنا يأتي التحالف.

وأمّا الثاني: وهو الانفساخ الظاهرىّ هنا ـ لو أنكرنا الانفساخ الواقعىّ ـ فمستحيل؛ للعلم بمخالفته للواقع. فإن كان هناك انفساخ، فهو الانفساخ الواقعىّ(1).

وأمّا الثالث: فيمكن الاستدلال على الانفساخ الواقعىّ في مطلق موارد التحالف في باب التنازع في المعاملات بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ نفس التحالف يقتضي الانفساخ، من ناحية أنّ التحالف إنّما ثبت في باب القضاء لإنهاء الخصومة، ولو لم تنفسخ المعاملة، تكون الخصومة ثابتة على حالها.

ويرد عليه: أنّ إنهاء الخصومة في باب القضاء ليس بمعنى رفع موضوع الخصومة، بل بمعنى: أنّ حكم الحاكم يفرض عليهما ترك التخاصم، أي: لايجوز لأحدهما أن يخاصم الآخر، ويجب عليه السكوت والصبر حتّى لو علم بأنّه حكم عليه حكماً غير مطابق للواقع، وأنّه هو على الحقّ. فلو حكم عليه ـ مثلاً ـ بأنّ المال المتنازع فيه لصاحبه، لم يجز له أن يسرقه من صاحبه لعلمه بأنّه له، وأمّا انتفاء أصل منشأ الخصومة، فليس هو المقصود من قوانين باب الترافع.

الوجه الثاني: تطبيق قانون (تلف المال قبل قبضه من مال بائعه) على المقام، بدعوى أنّ من كانت دعواه غير مطابقة للواقع، فقد عجّز الآخر عن أخذ ماله ومطالبته به؛ إذ بحكم الحاكم قد حرم عليه مطالبته بالمال، وهذا بحكم تلف المال عليه، والتلف قبل القبض من مال البائع.

وقد فسّروا هذه القاعدة بالانفساخ.

ويرد عليه: أنّه لو سلّم(2) ذلك، فهو لايعمّ مطلق موارد التحالف في باب المعاملات؛ لثبوت القاعدة بنصّ خاصّ في باب البيع قبل القبض. وربّما يكون الترافع في غير البيع، وربّما يكون بعد القبض.

الوجه الثالث: أنّ المعاملة تنفسخ بعد التحالف؛ للغويّة بقائها؛ لعدم ترتّب فائدة عليها عندئذ.


(1) قد يقصد بالانفساخ الظاهرىّ نفي تحقّق كلّ واحد من البيعين ظاهراً. واحتمال مطابقة كلّ من الحكمين للواقع موجود، وإن علم إجمالاً بمخالفة أحدهما له.

(2) ولانسلّمه.

218

ويرد عليه: أنّه تترتّب على بقائها عدّة ثمرات(1): منها أنّه لو اهتدى بعد ذلك من كان على خطأ، وأقرّ بالحقّ، أعطى مال صاحبه لصاحبه، وأخذ ماله. وهذا بخلاف فرض الانفساخ.

والتحقيق: أنّه لاوجه للقول بالانفساخ بقول مطلق في تمام موارد التحالف في المعاملات. نعم، نثبت فيما نحن فيه الانفساخ بمقدّمتين:

الاُولى: أنّ من كان محقّاً منهما قد حصل له خيار تخلّف الشرط الضمنىّ؛ لأنّه انحرم من ماله بحكم الحاكم بسبب دعوى صاحبه، والمعاملة تشتمل على شرط ضمنىّ للتسليم والخيار(2) في فرض عدم التسليم، فكلّ واحد منهما بحسب دعواه يكون ذا خيار على أساس عدم تسليم صاحبه العوض.

الثانية: أنّ الظاهر عرفاً من هذه الدعوى والمرافعة: هو عدم رضا كلّ واحد منهما بالمعاملة إن لم يثبت مقصوده(3).

وهذا كاف في حصول الانفساخ عند جواز الفسخ، سنخ ما قال الفقهاء: من أنّ إنكار الوكالة فسخ لها، وإنكار الطلاق رجوع إلى الزوجيّة. وعليه فكلّ واحد منهما يكون بحسب دعواه فاسخاً. هذا حالهما.

وأمّا حال الشخص الثالث، فهو يعلم إجمالاً بأنّ أحدهما ذوخيار، وإنّ صاحب الخيار قد فسخ المعاملة، فيجوز له شراء كلا الكتابين.

وأمّا الرابع: فقد ظهر أنّه لامجال للنقض بهذه المسألة على حجّيّة القطع؛ لتحقّق الانفساخ واقعاً.

وأمّا لو أنكر ما مضى من الظهور العرفىّ، فمن الممكن لهما حلّ الإشكال بالفسخ،


(1) على أنّ مجرّد عدم ترتّب الثمرة على البقاء لامسّوغ لإيجابه للانفساخ، غاية ما هنا أنّه لايمكن ـ أيضاً ـ نفي الانفساخ بالاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب مشروط بالثمرة العمليّة.

(2) الشرط الضمنىّ ليس منصبّاً على الخيار، بل هو منصبّ على التسليم، ومع عدمه يحصل خيار تخلّف الشرط.

(3) بل الظاهر من ذلك: إنّما هو عدم رضا كلّ واحد منهما بالمعاملة التي يدّعيها الآخر لو كانت حقّاً، أي: إنّ إنكار تلك المعاملة يدلّ على عدم الرضا بها، سنخ ما قالوا في إنكار الوكالة وإنكار الطلاق. أمّا عدم الرضا بالمعاملة التي يدّعيها هو ـ لو كانت حقّاً ـ لمجرّد أنّها لم تثبت بحكم الحاكم، فلاموجب لاستظهاره. نعم، يمكن أن يقال: إنّ ظاهر الحال عدم رضا أىّ واحد منهما بمعاملة حجر فيها شرعاً عن التصرّف فيما انتقل إليه.

219

بعد ما عرفت من ثبوت الخيار.

فإن فسخا، لم يبق إشكال في المقام، وإن لم يفسخا، التزمنا بعدم جواز مخالفة القطع، وحرمة تصرّف الثالث، ومحظوريّة وطء الجارية المشتراة بهما(1).

 

الفرع الثالث: العلم الإجمالىّ بالجنابة

لو علم شخصان إجمالاً بجنابة أحدهما، أجرى كلّ واحد منهما أصالة عدم الجنابة بشأن نفسه مع أنّ هذا قد يوجب مخالفة العلم كما لو اقتدى أحدهما بالآخر.

أقول: نحن لا نكتفي بقولنا: (لا يجوز لأحدهما الاقتداء بالآخر للزوم مخالفة العلم)(2)، بل نقول: لاتجري أصالة عدم الجنابة بشأن أىّ واحد منهما عند كون طهارة


(1) لا أدري لماذا فرض اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) الإشكال بالنسبة إلى الشخص الثالث، في حين أنّه يوجد لنفس المشتري ـ بعد فرض علمه إجمالاً بتحقّق أحد البيعين ـ العلم التفصيلىّ بأنّ الثمن ليس له؟! فإن حلّ إشكاله بوجه من الوجوه، لم يبق إشكال بالنسبة إلى الشخص الثالث، وإلّا فأصل الإشكال يكون بالنسبة إلى المشتري بلحاظ مخالفة العلم التفصيلىّ، وبالنسبة إلى البائع بلحاظ الكتاب الذي يعلم أنّه قد خرج من ملكه.

والواقع: أنّ القاضي لو علم بتحقّق أحد البيعين، وقلنا: إنّ علمه بهذا الموجب للتعارض بين أصالة عدم تحقّق هذا البيع وأصالة عدم تحقّق ذاك البيع يوجب عدم التحالف؛ لسقوط الأصلين، لوصلت النوبة إلى الحكم بالقرعة، ومعه لا إشكال في المقام بالنسبة إلى الشخص الثالث. وأمّا بالنسبة إلى البائع لو خرجت القرعة على خلاف ما يعتقد، فلا إشكال عليه في تصرّفه في الثمن؛ لأنّه ملكه على كلّ حال، ولا في الكتاب الباقي لديه حتّى لو كان أغلى قيمة من الكتاب الذي أخذ منه؛ لأنّ صاحبه راض بخسارة هذا الكتاب لقاء حصوله على ذاك الكتاب، وهذا كاف في أن يحقّ له التملّك وسقوط احترام يد صاحبه بهذا المقدار، أمّا لو لم يكن أغلى،فمن الواضح أنّه يحقّ له تملّكه بالتقاصّ، وكذا الحال بالنسبة إلى المشتري في تصرّفه في الكتاب الذي اُعطي له لو خرجت القرعة على خلاف ما يعتقد.

أمّا لو لم يعلم القاضي إجمالاً بصدق إحدى الدعويين، أو علم بذلك، ولكن مع هذا حكمنا بالتحالف، فالقاضي يحكم بنفي كلّ واحد من البيعين على وفق الحلف، وهذا نفي ظاهرىّ للبيع، وبعد ذلك سيكون للمحقّ خيار الفسخ، فإن فسخ، لم يبق إشكال في المقام، وإن لم يفسخ، كان من حقّه التصرّف في المال وتملّكهبعد أن كان صاحبه يرضى بهذا في مقابل أن يتمكّن من المال الآخر؛ إذ قد أسقط احترام يده بهذا المقدار. فإن تملّك، ارتفع الإشكال عن التصرّفات الموقوفة على الملك أيضاً، وإلّا فالإشكال يبقى بلحاظ التصرّفات الموقوفة على الملك. أمّا إذا باعه، فظاهر البيع أنّه تملكه، وهذا حجّة للشخص الثالث باعتباره يأخذ المال من يد ذي اليد.

(2) قد يقال: إنّ صحّة الصلاة ظاهراً للإمام تكفي للصحّة الواقعيّة لصلاة المأموم، فلامخالفة للعلم.

والجواب: أنّ صحّة الصلاة ظاهراً للإمام إنّما تكفي في الموارد المتعارفة للصحّة الواقعيّة لصلاة المأموم

220

الآخر ذا أثر ترخيصىّ لهذا حتّى لو لم يقتد به.

فمثلاً: لو جاز لكلّ واحد منهما الاقتداء بالآخر على تقدير عدم الجنابة، حصل له العلم الإجمالىّ بأنّه إمّا يجب عليه الاغتسال، أو يحرم عليه الاقتداء بالآخر، وهذا علم إجمالىّ منجّز.

نعم، لو لم يكن يترتّب على طهارة الآخر أثر ترخيصيّ لهذا الشخص، جرت بشأنه أصالة عدم الجنابة.

 

الفرع الرابع: الاختلاف في سببب نقل الملك

لو اختلفا في كون نقل أحدهما للكتاب ـ مثلاً ـ إلى ملك الآخر بالبيع أو الهبة، فادّعى المالك الأوّل البيع، والمالك الثاني الهبة، تحالفا، وبقي الكتاب للأوّل.

وذكر السيّد الاُستاذ (بعد إخراج فرض كون الهبة جائزة؛ لظهور الإنكار ـ عندئذ ـ في الفسخ كما في إنكار الوكالة والطلاق)(1): أنّ التحالف يوجب الانفساخ، فيكون الكتاب ملكاً للمالك الأوّل.

ومقصوده من التحالف هو: الحلف على إنكار البيع وإنكار الهبة.

أقول: إنّ هذا الفرع ليس من موارد التحالف، إلّا على بعض الفروض.

توضيح ذلك: أنّ في بحث القضاء كلاماً في أنّ تشخيص المدّعي والمنكر هل يكون بنفس مصبّ الدعوى، أو بالإلزامات التي يدّعيها أحدهما على الآخر؟ والمختار هو الثاني، ونحن نتكلّم هنا على كلا الفرضين، فنقول:

أمّا على الفرض الأوّل ـ وهو كون تشخيص المدّعي والمنكر بلحاظ مصبّ الدعوى ـ فقد يتوهّم: أنّ الأوّل يحلف على عدم الهبة، والثاني يحلف على عدم البيع.

والتحقيق: أنّ الثاني يحلف على عدم البيع، والأوّل ليس له الحلف على عدم الهبة؛


بنكتة عدم الإخلال بالركن. أمّا فيما نحن فيه، فيقطع ببطلان صلاة المأموم؛ لأنّ بطلان صلاة الإمام واقعاً يوجب بطلان الاقتداء واقعاً، فالمأموم يعلم ببطلان اقتدائه واقعاً؛ إمّا لجنابته، أو لجنابة الإمام، ومعه يكون ترك القراءة تركاً عمديّاً، وهو مبطل للصلاة.

(1) فيتحوّل النزاع إلى النزاع في البيع وعدمه، ولامعنىً للتحالف.

221

لأنّ تحالفهما فرع أن تكون هناك خصومتان: خصومة في البيع، وخصومة في الهبة، وليس الأمر كذلك؛ فإنّه صحيح أنّ هناك تكاذبين، ولكن ليس كلّ تكاذب تطبّق عليه قوانين الخصومة. مثلاً: لو تكاذب شخصان في نزول المطر وعدمه من دون أن يكون ذلك مثمراً لثمر إلزامىّ لأحدهما على الآخر، فهل يعتبر هذا خصومة ترفع إلى الحاكم؟ طبعاً لا. والهبة فيما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لايترتّب على الهبة شيء عدا ملكيّة الكتاب التي هي مترتّبة على البيع أيضاً، فكلاهما معترفان بها، وهما يختصمان في البيع من ناحية أنّه لو ثبت البيع، كان للأوّل إلزام الثاني بالثمن، وكان له ـ أيضاً ـ خيار الفسخ عند منع الثاني له عن الثمن؛ وذلك على أساس تخلّف الشرط الضمنىّ.

ولو ثبت عدم البيع، لم يكن للأوّل شيء من الإلزامين، وكان للثاني إلزام الأوّل بعدم تأثير الفسخ لو فسخ. وأمّا التكاذب الواقع في الهبة، فليس إلّا من قبيل التكاذب في نزول المطر؛ إذ لايترتّب على الهبة عدا الملكيّة المعترف بها منهما على كلّ تقدير. وليس عدم استحقاق الثمن مترتّباً على الهبة، وإنّما هو مترتّب على عدم البيع الملازم للهبة؛ ولذا ليس عدم الخيار مترتّباً على الهبة، بل على عدم الشرط الضمنىّ الملازم للهبة.

إن قلت: لا إشكال أنّ يد الثاني وقعت على ما كان لغيره، وقد وقع الخلاف في أنّ وضع اليد على مال غيره هل كان بتسليط مجّانىّ منه عليه، فيترتّب عليه عدم الضمان، أو بلاصدور تسليط مجّاني عنه عليه، فيترتّب عليه الضمان؟ والتسليط المجّانىّ هنا منحصر بالهبة، فيترتّب على الهبة عدم الضمان، وعلى عدمها الضمان. فليس النزاع في الهبة راجعاً إلى صرف التكاذب، بل يرجع إلى باب الخصومة؛ فإنّ اليد توجب الضمان عند عدم التسليط المجّانىّ، والتسليط المجّانىّ المختلف فيه هو الهبة.

قلت: ليس نفس عنوان وضع اليد عند عدم التسليط المجّانىّ موضوعاً للضمان، والتسليط المجّانىّ موضوعاً لعدمه، وليست قاعدة ثبوت الضمان في اليد مع عدم التسليط المجّانىّ إلّا أمراً انتزاعيّاً.

والواقع: أنّ موضوع الضمان أمران:

أحدهما: العقد المعاوضىّ. ودليل الضمان فيه هو دليل صحّة ذاك العقد. وهذا هو المسمّى بضمان المعاوضة، ويكون الضمان فيه بالقيمة المسمّـاة في العقد.

222

وثانيهما: وضع اليد على مال الغير بلا معاوضة مع اجتماع شرائط اُخرى. وهذا هو المسمّى بضمان اليد، ويكون الضمان فيه بالمثل أو القيمة. ودليل الضمان فيه هو السيرة العقلائيّة، أو رواية: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» مثلاً لو تمّت.

وننتزع من مجموع هذين الموضوعين عنوان اليد على مال الغير بلا تسليط مجّانىّ. وإنّما الموضوع الحقيقىّ ما عرفته من الأمرين. والأمر الثاني منهما فيما نحن فيه مقطوع العدم، والأمر الأوّل منهما ينطبق ـ فيما نحن فيه ـ على البيع، وهو مصبّ الخصومة. وأمّا الهبة، فليس حولها عدا صرف التكاذب، والموافق قوله للأصل هو منكر البيع، وهو المالك الثاني، فيحلف ويأخذ الكتاب. ولايبقى موضوع للنقض على حجّيّة العلم؛ إذ لم يقع الكتاب في يد من يعلم بعدم مالكيّته، وهو الأوّل.

هذا كلّه بناءً على المبنى المشهور في باب شرط الخيار: من كونه عبارة عن إنشاء مستقلّ، والتزام في الالتزام.

أمّا بناءً على أنّ شرط الخيار ليس إنشاءً مستقلّاً، بل هو تقييد للإنشاء الأوّل، وهو إنشاء الملكيّة، وهو يعني: أنّه أنشأ ملكيّة ما قبل الفسخ فقط، لا الملكيّة المستدامة إلى ما بعد الفسخ(1)، فالتكاذب في الهبة ـ أيضاً ـ يطبّق عليه قوانين باب الخصومة؛ إذ لو كان قد وهب المال فقد ملّكه لما بعد الفسخ أيضاً، في حين أنّه لو كان قد باع المال بيعاً فيه شرط الخيار على تقدير منع الثمن، فقد ملّكه تمليكاً لما قبل الفسخ فقط. إذن فالنزاع في الهبة وعدمها يعني النزاع في التمليك الدائمىّ وعدمه، فكما أنّ منكر البيع يحلف على عدم البيع، كذلك منكر الهبة يحلف على عدم الهبة.


(1) لايخفى أنّ توّهم كون ما نحن فيه من باب إنشاء ملكيّة ما قبل الفسخ فقط إنّما يكون على تقدير مجموع توّهمين:

أحدهما: توهّم رجوع خيار تخلّف الشرط إلى خيار الشرط، أو توهّم أنّ في موارد الشرط الضمنىّ يوجد شرط الخيار ـ أيضاً ـ على تقدير تخلّف الشرط الأوّل.

والواقع: أنّه لايوجد في المقام إلّا شرط ضمنىّ واحد، وهو شرط التسليم، ولايوجد شرط الخيار على تقدير عدم التسليم، وليس خيار تخلّف الشرط راجعاً إلى خيار الشرط. وتفصيل ذلك موكول إلى محلّه.

ثانيهما: توهّم أنّ شرط الخيار يعني تقييد إنشاء الملكيّة بما قبل الفسخ.

والواقع: أنّ البيع تمليك لذات العين من دون أخذ مفهوم زمانىّ فيه من الدوام كي يكون شرط الخيار استثناءً من ذلك. وتفصيل ذلك ـ أيضاً ـ موكول إلى محلّه.

223

ولكن مع ذلك لايتمّ النقض على حجّيّة العلم؛ لا لما ذكره السيّد الاُستاذ: من أنّ التحالف يوجب الانفساخ ؛ فإنّك عرفت في الفرع الثاني أنّ وجوه اقتضاء التحالف للانفساخ مطلقاً غير صحيحة. والوجه الخاصّ الذي ذكرناه في الوجه الثاني لايأتي هنا؛ إذ هناك كنّا نعلم إجمالاً بأنّ أحدهما ذوخيار، وكنّا نعلم بفسخ من له الخيار، فبالتالي كنّا نعلم بحصول الانفساخ، في حين أنّه في هذا الفرع لا نعلم بثبوت الخيار إلّا على تقدير واحد، وهو كون العقد الواقع بيعاً، فلايمكن الحكم بثبوت الانفساخ، بل لأنّه بعد التحالف إن فرض عدم فسخ الأوّل، فالكتاب يعطى للثاني؛ للقطع بكونه ملكاً له، فلا إشكال، وإن فرض فسخه إمّا صريحاً وإمّا بدلالة نفس هذه المرافعة والتحالف على عدم رضاه بالمعاملة إن لم يثبت مقصوده(1)، فالكتاب يعطى للأوّل، ولاعلم بعدم مالكيّته بعد الفسخ، فلا إشكال أيضاً.

وأمّا على الفرض الثاني ـ وهو كون الميزان في تشخيص المنكر والمدّعي مطابقة الإلزامات للأصل ومخالفتها له بلا نظر إلى مصبّ الدعوى ـ فنقول: إنّ هناك إلزامات ثلاثة:

1 ـ إلزام الأوّل للثاني بالثمن.

2 ـ إلزام الأوّل للثاني عند منع الثمن بحقّ الخيار.

3 ـ إلزام الثاني للأوّل بعدم الخيار، وبقاء الملكيّة بعد الفسخ. وأمّا أصل مالكيّة الثاني للكتاب، فليس إلزاماً رابعاً في المقام؛ لأنّ المفروض تسالمهما عليه.

أمّا الإلزام الأوّل، فلا إشكال في أنّ المنكر فيه هو الثاني؛ لأنّ مقتضى الأصل عدم اشتغال ذمّته بالثمن، فيحلف على ذلك، ولايعطي الثمن.

وأمّا الإلزامان الأخيران، فهما متناقضان، وأىّ منهما كان على طبق الأصل فالأخر على خلافه، وكون المطابق للأصل هو الأوّل أو الثاني متفرّع على كون شرط الخيار(2)إنشاءً مستقلّاً والتزاماً في الالتزام، أو كونه تقييداً لإنشاء الملكيّة ورجوع الأمر إلى إنشاء ملكيّة ما قبل الفسخ فحسب. فعلى الثاني يكون قول الأوّل هو المطابق للأصل، فيحلف على عدم إنشاء ملكيّة ما بعد الفسخ، وحينئذ له أن يفسخ، وله أن لايفسخ.


(1) هذا البيان كما لم يكن وجيهاً في الفرع الثاني كما شرحناه، كذلك لايكون وجيهاً هنا. نعم، يمكن أن نقول بما أشرنا إليه هناك أيضاً: من ظهور الحال في عدم رضاه بالبيع مع المنع الشرعىّ عن استلام الثمن.

(2) مضى أنّه لايوجد فيما نحن فيه شرط الخيار، وإنّما الموجود هو خيار تخلّف الشرط.

224

فإن لم يفسخ، وأبقى الكتاب في ملك الثاني ـ على رغم حرمانه من الثمن ـ لم يكن مورداً للنقض على حجّيّة العلم؛ فإنّ الكتاب قد أصبح في يد مالكه.

وإن فسخ، وأخذ الكتاب لنفسه، لم يعلم بعدم كونه ملكاً له كي يرد النقض على حجّيّة العلم.

وعلى الأوّل يكون قول الثاني هو المطابق للأصل؛ إذ الأصل عدم جعل الخيار الذي هو إنشاء جديد، إذن فالثاني منكر محض، والأوّل مدّع محض، وكلّ الاُصول توافق قول الثاني. ولا تعارض الاُصول الموافقة له استصحاب عدم الهبة؛ لعدم ترتّب أثر عليه، إلّا بإثبات البيع به تعويلاً على الأصل المثبت، ووضع اليد مع عدم التسليط المجانىّ ليس موضوعاً للضمان كي يكون استصحاب عدم الهبة مثمراً من هذه الناحية كما مضى بيان ذلك.

والحاصل: أنّ الثاني هو المنكر، فيحلف، ويأخذ الكتاب بلا ثمن، ولايعلم بعدم مالكيّته كي تلزم مخالفة العلم.

 

الفرع الخامس: الإقرار لشخصين

لو أقرّ بعين لزيد، ثُمَّ أقرّ بها لعمرو، اُعطيت العين للأوّل، وغرّم للثاني المثل أو القيمة؛ إمّا لكون ذلك بدل التالف، كما هو ظاهر كلام السيّد الاُستاذ، أو لكونه بدل الحيلولة، كما هو المختار.

وغرامة المقرّ للقيمة أو المثل لعمروليست لما يستفاد من كلام السيّد الاُستاذ: من نفوذ إقراره الثاني بأنّ العين كانت لعمرو، بل لأنّ الإقرار الثاني حجّة بحسب المدلول الالتزامىّ؛ لعدم وجود مانع عن حجّيّته بحسبه. أمّا المدلول المطابقىّ لإقراره، فليس حجّة؛ إذ هو إقرار لشخص بمال ثبت شرعاً كونه لشخص آخر غير المقرّ. والإقرار إنّما يكون حجّة على المقرّ لاعلى شخص آخر. وهذا الإقرار بلحاظ مدلوله المطابقىّ ليس إلّا من قبيل أن يقرّ شخص بمال في يد غيره لشخص ثالث، ومن الواضح: أنّه لا أثر لهذا الإقرار. نعم، لإقراره فيما نحن فيه مدلول التزامىّ يثبت على نفسه، وهو إتلافه لمال الثاني، أو حيلولته

225

بين المال ومالكه، فيغرّم البدل؛ لعدم وجود مانع عن حجّيّة هذا المدلول الالتزاميّ(1).

وعلى أىّ حال، فالإشكال فيما نحن فيه عبارة عن أنّه لو اجتمعت العين والقيمة عند شخص واحد، علم إجمالاً بعدم مالكيّته لأحدهما، ولو اشترى بهما جارية، علم بعدم مالكيّته لها بالملكيّة المستقلّة، وعدم حلّها له.

والجواب: أنّنا نلتزم بعدم جواز تصرّفه فيهما، وعدم حلّ الجارية؛ تحكيماً لقانون منجّزيّة العلم.

وخلاصة الكلام: أنّنا إنّما نعمل بأىّ قاعدة من القواعد، أو ظاهر أىّ دليل من الأدلّة بمقدار لايخالف حكم العقل بمنجّزيّة العلم.

 

 

 


(1) وتبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة إنّما هي في حجّيّتها في الكشف عن المقصود لا في النفوذ، والحجّيّة بذاك المعنى لا مانع عنها هنا بلحاظ الدلالة المطابقيّة. فإقراره يكشف عن إرادته للمعنى المطابقيّ كما يكشف عن المعنى الالتزامىّ، فلا نمنع حجّيّة المدلول المطابقيّ. اللّهمّ، إلّا بنكتة أنّ الحجّيّة بحاجة إلى أثر عملىّ، ولا أثر عملىّ للمدلول المطابقىّ. وأنت تعلم أنّ سقوط المطابقىّ عن الحجّيّة بهذا المعنى لايسقط الالتزامىّ عنها.

227

بحث القطع

4

 

 

 

التجرّي

 

 

○ حرمة الفعل المتجرّى به.

○ قبح الفعل المتجرّى به.

○ استحقاق المتجرّي للعقاب.

○ تنبيهات.

 

 

 

 

229

 

 

 

 

ليس المراد بالتجرّي خصوص مخالفة القطع بالحكم الشرعىّ، بل مخالفة مطلق المنجّز، سواء القطع أو الأمارة أو الأصل الشرعىّ أو الأصل العقلىّ، ولو باعتبار كون الشكّ قبل الفحص، أو كان المنجّز هو الحجّة على الحجّة كدلالة الإجماع أو الاستصحاب على حجّيّة خبر الواحد ـ مثلاً ـ المفروض دلالته على حكم إلزامىّ.

والكلام في التجرّي يقع في مقامات ثلاثة:

1 ـ حرمة الفعل المتجرّى به وعدمه.

2 ـ قبح الفعل المتجرّى به عقلاً وعدمه.

3 ـ استحقاق العقاب عليه وعدمه.

وبعد ذلك يقع الكلام في تنبيهات المسألة:

 

حرمة الفعل المتجرّى به

 

المقام الأوّل: حرمة الفعل المتجرّى به وعدمه. والدليل على حرمته:

تارة هو إطلاق الأدلّة الأوّليّة.

واُخرى قاعدة الملازمة.

وثالثة الإجماع.

ورابعة الأخبار.

 

إثبات الحرمة بالإطلاقات:

الدليل الأوّل: دعوى شمول إطلاقات الأدلّة الأوّليّة للفعل المتجرّى به، بمعنى: أنّ الخطابات الأوّليّة تعلّقت بالمعلوم لا بالواقع، فمثلاً: (لا تشرب الخمر) يقصد به تحريم

230

شرب معلوم الخمريّة لا تحريم شرب الخمر الواقعىّ. وهذا الوجه مختصّ بالشبهات الموضوعيّة؛ لوضوح عدم الإطلاق في الشبهات الحكميّة.

وأحسن ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه وأخصره: أنّ مثل قوله: «لاتشرب الخمر» ظاهره ابتداءً حرمة شرب الخمر الواقعىّ؛ إذ (الخمر) موضوع لغة للخمر بوجوده الواقعىّ لا لما هو معلوم الخمريّة، لكن هناك قرينة عقليّة دلّت على كون المراد حرمة شرب معلوم الخمريّة، وهي: إنّ عنوان شرب الخمر الواقعىّ لا يمكن أن يكون متعلّقاً للتكليف؛ لانطوائه على عنوان المصادفة للواقع، أي: إنّ هذا العنوان من نتيجة قضيّة: (أنّ هذا الشرب شرب للخمر واقعاً)، والمصادفة خارجة عن تحت القدرة؛ لخروج الخطأ عنها، وإلّا لما أخطأ أحد، وما يكون منطوياً على أمر خارج عن تحت القدرة لا يمكن أن يتعلّق به الحكم؛ لأنّ الحكم به لا يخلو عن شوب التكليف بغير المقدور، فلابدّ من صرف الحكم إلى عنوان آخر لاينطوي على المصادفة، وهو عنوان شرب معلوم الخمريّة.

وللمحقّق النائينىّ(قدس سره) كلام طويل في بيان دليل شمول إطلاقات الأدلّة الأوّليّة للفعل المتجرّى به، وهو على ما في أجود التقريرات عبارة عن مقدّمات ثلاث، ونحن نذكرها هنا بتلخيص:

المقدّمة الاُولى: أنّ موضوعات الأحكام لابدّ أن تكون مفروضة الوجود خارجاً في الرتبة السابقة؛ كي يحكم عليها بحكم.

المقدّمة الثانية: أنّ المحرّك للمكلّف نحو الاختيار والإرادة هو العلم لا الواقع.

وذكر(قدس سره) في وجه دخل هذه المقدّمة في المطلوب: أنّه لو كان المحرّك هو الواقع، ففي فرض التجرّي لا يوجد محرّك في الحقيقة؛ لعدم الواقع، ولكن بما أنّ المحرّك هو العلم كان المحرّك موجوداً لوجود العلم.

وأجاب عن هذه المقدّمة:

أوّلاً: بمنع كون العلم هو المحرّك، بل المحرّك هو الواقع بعد انكشافه بالعلم؛ لأنّ العلم إنّما يكون دخيلاً في موضوع المحرّكيّة والاختيار بما هو كاشف لابما هو صفة،

231

فلامحيص عن دخل المعلوم.

وثانياً: بأنّنا بعد التسليم نقول: إنّ العلم هو الداعي لإرادة ذاك الواقع والحركة نحوه، ولايتقيّد متعلّقها به.

المقدّمة الثالثة: أنّ حكم المولى يكون لأجل تحريك العبد نحو الاختيار والإرادة، فهو في الحقيقة متعلّق بالاختيار بالمعنى الاسمىّ.

والمتحصّل من هذه المقدّمات: أنّ الحكم في مثل (لا تشرب الخمر) متعلّق باختيار شرب ما اُحرز أنّه خمر، وهو ثابت عند التجرّي.

وأجاب عن هذه المقدّمة: بأنّ الاختيار ليس مأخوذاً بالمعنى الاسميّ: بأن يكون بنفسه ومن حيث هو متعلّقاً للتكليف، بل هو مأخوذ بالمعنى الحرفىّ وطريقاً إلى المختار، فمتعلّق الحكم هو الواقع المختار لا نفس الاختيار.

أقول: إنّ المقدمة الاُولى: أجنبيّة عن المقام إطلاقاً (1)، وأمّا المقدّمة الثانية وكذا الثالثة، فقد اُ لّفتا بشكل غير منتج للمطلوب:

أمّا المقدّمة الثانية: فإنّ المدّعى إنّما هو تعميم متعلّق الحكم لمعلوم الخمريّة، ولا يؤثّر في ذلك كون المحرّك هو واقع الحكم أو العلم به. وكأنّه(رحمه الله) جعل كون الحكم متعلّقاً بالخمر الواقعىّ مفروغاً منه، وتكلّم في أنّ المحرّك هل هو نفس الحكم أو العلم به، وهذا ـ كما ترى ـ نقض لغرض مدّعي الإطلاق(2).

وأمّا ما ذكره من دعوى أنّ المحرّك هو الواقع لا العلم به، فإن أراد به المحرّك التكوينىّ، فمن الواضح: أنّ الواقع لا يصلح للتحريك بهذا المعنى، وإنّما المحرّك هو العلم، ولو لم يكن


(1) وهذه المقدّمة غير موجودة في تقرير الشيخ الكاظمىّ رضوان الله عليه، إلّا ببيان سيأتي إن شاء الله.

(2) هذا التعليق من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إنّما جاء نظراً إلى ما في أجود التقريرات في مقام بيان وجه دخل المقدّمة الثانية في المطلوب؛ إذ إنّ تعبير أجود التقريرات في المقام يوحي إلى أنّ النظر ـ فيما ذكر في المقدّمة الثانية: من كون المحرّك هو العلم لا الواقع ـ إلى الحكم، فكأنّ البحث يدور في أنّ المحرّك نحو الامتثال هو الحكم بوجوده الواقعيّ، أو العلم به، إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا تشويش في البحث، وتقرير الشيخ الكاظمىّ(رحمه الله) خال عن هذا التشويش، وواضح في أنّ النظر إلى مسألة شرب الخمر، وأنّ المحرّك للخمّار هل هو واقع الخمر، أو العلم بالخمريّة.

232

العلم محرّكاً بل كان المحرّك هو الواقع، لزم من ذلك كون تحرّك المتجرّي تحرّكاً بلا محرّك؛ لأنّه حينما شرب المائع بتخيّل كونه خمراً قلنا: ما الذي حرّكه نحو شرب هذا المائع، هل هو خمريّته واقعاً، أو علمه بكونه خمراً؟ أمّا الثاني فهو خلف كون المحرّك هو الواقع لا العلم، وأمّا الأوّل فغير معقول؛ لأنّ المفروض عدم خمريّته واقعاً، فهل تحرّك هذا المتجرّي بلا محرّك؟!

نعم، بالإمكان التعبير بأنّ المحرّك هو المعلوم، على أن يقصد به المعلوم في أفق النفس الذي هو عين وجود العلم، أمّا وجوده في أفق الواقع، فلايعقل أن يكون محرّكاً.

وكون العلم دخيلاً في الموضوع على وجه الكاشفيّة لا يستدعي دخل المعلوم في الموضوع على نحو الجزئيّة فضلاً عن الاستقلال؛ لما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ القطع المأخوذ على وجه الكاشفيّة قد يكون تمام الموضوع.

وإن أراد به المحرّك المولوىّ، فكون المحرّك المولوىّ هو العلم أو الواقع مرتبط بالمقام الثاني الذي سنبحث فيه عن قبح الفعل المتجرّى به وعدمه، ولا علاقة له بما نحن فيه فعلاً.

وأمّا المقدّمة الثالثة: فلأنّه لا أثر في المقام لكون الاختيار بالنحو الذي بيّنه مأخوذاً بالمعنى الاسمىّ أو الحرفىّ؛ فإنّه بعد أن فرضنا أنّ متعلّق الاختيار هو شرب ما اُحرز أنّه خمر، لا شرب واقع الخمر، كان هذا كافياً لمدّعى الإطلاق وشمول الخطاب للمعلوم بالعلم المخالف للواقع، ولو فرض الاختيار مأخوذاً بالمعنى الحرفىّ، وأنّ الحكم تعلّق بنفس المختار، فإن نفس المختار ـ بحسب الفرض ـ هو شرب ما اُحرز أنّه خمر، وهذا ثابت في فرض التجرّي.

نعم، لو جعل متعلّق الاختيار نفس شرب الخمر، أمكن دعوى الفرق بين فرض أخذ الاختيار بالمعنى الاسمىّ أو بالمعنى الحرفىّ، بأن يراد بأخذه بالمعنى الاسمىّ أخذ اختيار شرب الخمر بالمعنى الثابت في فرض الخطأ أيضاً، مع أنّ نفس شرب الخمر غير ثابت في فرض الخطأ، ويراد بأخذه بالمعنى الحرفىّ أخذه بالمعنى الذي يدور مدار واقع