206

وقد تحصّلت من تمام ما ذكرناه تماميّة حديث رفع التسعة سنداً ودلالة.

 

3 ـ حديث السعة:

ومنها: حديث «الناس في سعة ما لا يعلمون».

ودلالة هذا الحديث على البراءة المساوقة للبراءة العقليّة واضحة لا تحتاج إلى كلام، وإنّما الإشكال في تقريب دلالته على البراءة بالنحو الذي يعارض دليل


ولم يكونوا مشايخ إجازة للكتب فهو لا يذكر سنداً موحّداً إلاّ إلى كتبه لا إلى رواياته. ومن هنا نقول: إنّ نظريّة التعويض إنّما تفيدنا حينما يكون الضعف بيننا وبين صاحب الكتاب، ونجد سنداً تامّاً إلى من يقع بين الضعف وصاحب الكتاب، أو إلى صاحب الكتاب مباشرة، ولا تفيدنا حينما يكون الضعف بين صاحب الكتاب والإمام(عليه السلام). وفيما نحن فيه لو لم يثبت أنّ الحديث مأخوذ من كتاب يعقوب بن يزيد أو سعد بن عبد الله مثلاً، واحتملنا أنّ الصدوق إنّما سمع الحديث شفهاً من أحمد بن محمّد بن يحيى عن سعد بن عبد الله، فالضعف المفروض في أحمد بن محمّد بن يحيى لا يمكن تداركه بفرض سند تامّ للصدوق إلى كتب وروايات سعد بن عبد الله. نعم، بناءً على ما مضى منّا من استظهار أنّ الصدوق لم يأخذ الحديث شفهاً عن أحمد بن محمّد بن يحيى الذي هو شيخ إجازة للكتب وليس راوياً لمتون الأحاديث شفهاً، فسند الصدوق التامّ إلى سعد بن عبد الله كاف في المقام لدفع الإشكال.

وأمّا وصول كتاب الخصال والتوحيد إلى الشيخ فلا ينفعنا في المقام أصلاً؛ لأنّ الشيخ وإن كان له سند تامّ إلى سعد بن عبد الله ولكن الضعف إنّما وقع بين صاحب كتاب الخصال والتوحيد والإمام، ولم يقع بيننا وبين صاحب الكتاب وقد قلنا: إنّ نظريّة التعويض إنّما تنفعنا حينما يكون الضعف بعد صاحب الكتاب لا بين صاحب الكتاب والإمام.

207

وجوب الاحتياط الذي يقيمه الأخباريّ.

والتقريب الساذج لذلك هو: أنّ المفروض أنّ الواقع غير معلوم، وقد جعلت السعة في هذا الحديث مغيّاة بعدم العلم، وإيجاب الاحتياط ليس إيصالاً للمشكوك وجداناً أو تعبداً، وإنّما هو تنجيز له، فهو مناف لا محالة لهذه السعة.

واعترض على ذلك بأنّ هذا إنّما يتمّ إذا كانت «ما» في الحديث موصولة؛ إذ يكون ظاهر المعنى عندئذ أنّ الناس في سعة من ذلك الشيء الذي لا يعلمونه، ولكن من المحتمل كونها مصدريّة زمانيّة، ويكون الحديث ـ على التقدير ـ في قوّة أن يقال: الناس في سعة ماداموا لا يعلمون، ومقتضى إطلاقه هو عدم العلم لا بنفس التكليف ولا بإيجاب الاحتياط في قباله.

وأجاب السيّد الاُستاذ عن ذلك بأنّ لفظة «ما» في الحديث ظاهرة في إرادة المعنى الموصوليّ، وذلك بنكتة ندرة دخول (ما) المصدريّة الزمانيّة على الفعل المضارع، وإنّما يتعارف دخولها على الماضي، كأن يقال: (ما لم يعلموا)، أو (ماداموا لا يعلمون)(1).

ويرد عليه: أنّه على تقدير كون «ما» موصولة تقرأ كلمة «سعة» مضافة وبلا تنوين، بخلافها على تقدير كونها ظرفيّة زمانيّة. فالتنوين قرينة متصّلة على الظرفيّة الزمانيّة، فاحتماله مساوق لاحتمال القرينة المتصّلة، كما أنّ احتمال الظرفيّة الزمانيّة مساوق لاحتمال التنوين، فيكون احتمال الظرفيّة الزمانيّة مساوقاً لاحتمال القرينة المتّصلة عليها. فلا يمكن دفع هذا الاحتمال بالظهور؛ إذ الجزم بالظهور فرع القطع بعدم القرينة المتّصلة، وفي سائر الموارد إنّما ندفع احتمال القرينة المتّصلة بشهادة الراوي؛ لأنّ سكوته عن ذكرها في مقام الذكر



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 278.

208

يعتبر شهادة على العدم، لكن هنا لا ندري أنّ الراوي هل كان يقرأ بلا تنوين أو مع التنوين، وعدم التنوين في الكتب ليس شهادة على العدم؛ إذ لم يكن من المتعارف كتب التنوين بنحو يعدّ عدمه شهادة على العدم، بل لعلّه هكذا الأمر في زماننا أيضاً في غير ما أُريد ضبط حركاته. فتحصّل أنّ هذا الجواب عن الإشكال غير مقبول(1).

نعم، أصل الإشكال أيضاً غير مقبول، فإنّ استظهار البراءة من الحديث وعدمه لا يدور مدار كون «ما» موصولة أو مصدريّة زمانيّة، بل يدور مدار كون إضافة السعة إضافة لها إلى ما يكون مورداً للسعة والضيق وبمعنى نفي مورديّته للضيق وثبوت السعة في ذاك المورد، أو إضافة إلى ما يترقّب أن يكون سبباً للضيق وبمعنى نفي سببيّته للضيق.

توضيح ذلك: أنّنا لو فرضنا «ما» موصولة فإضافة السعة إليها إن كانت إضافة مورديّة، أي: من باب إضافته إلى ما يكون مورداً للسعة أو الضيق كان معنى الحديث: أنّ الإنسان لا يكون في ضيق في مورد ما لا يعلم، وهذا ينافي دليل إيجاب الاحتياط، فإنّ دليل إيجاب الاحتياط يثبت الضيق في مورد الحكم غير المعلوم وينفي السعة، وإن كانت إضافة إلى ما يترقّب كونه سبباً للضيق وبهدف نفي سببيّته للضيق كان معنى الحديث: أنّ الإنسان لا يكون في ضيق بسبب ما لا يعلم، وهذا لا ينافي دليل إيجاب الاحتياط؛ لأنّ سبب الضيق هو إيجاب الاحتياط،



(1) نعم، بالإمكان إنكار صحّة دخول (ما) المصدريّة على المضارع على ما يبدو من موارد استعمالها، وعندئذ يكون هذا دليلاً على حمل ما في المقام على الموصول من دون ورود إشكال احتمال القرينة المتّصلة، ويحتمل من عبارة مصباح الاُصول كون هذا أيضاً مقصوداً للسيّد الخوئيّ(رحمه الله) فراجع.

209

وهو معلوم ولم يكن الواقع المجهول بنفسه سبباً كافياً للضيق.

ولو فرضنا «ما» مصدريّة زمانيّة فالسعة عندئذ وإن لم تكن مضافة في اللفظ، لكن من الواضح أنّ السعة لابدّ أن تكون متعلّقة بشيء، فهي مضافة إلى شيء في التقدير، فكأنّه قال: (الناس في سعة من الشيء ماداموا لا يعلمون) وظاهر السياق كون متعلّق عدم العلم هو نفس ما تضاف إليه السعة، وعندئذ يأتي هنا نفس التفصيل الذي شرحناه في فرض كون «ما» موصولة. فإن فرضت إضافة السعة إلى الشيء إضافة مورديّة بمعنى أنّ الناس ليسوا في ضيق في مورد شيء ماداموا لا يعلمونه فهذا ينافي دليل إيجاب الاحتياط المثبت للضيق في ذاك المورد. وإن فرضت إضافة السعة إلى شيء بمعنى نفي سببيّته للضيق لم ينافِ الحديث دليل إيجاب الاحتياط؛ لأنّ ذاك الدليل إنّما يجعل إيجاب الاحتياط سبباً للضيق، وهذا لا ينافي فرض عدم كون الشيء الذي لا يعلمونه سبباً كافياً للضيق.

إذن فالمقياس في معارضة الحديث لدليل الاحتياط ليس هو كون «ما» موصولة أو مصدريّة زمانيّة، وإنّما المقياس هو كون الإضافة مورديّة أو سببيّة بالمعنى الذي عرفت، والظاهر منها كونها مورديّة لا سببيّة.

ثمّ إنّ هذا الحديث ـ بناءً على تماميّة دلالته ـ حاله حال حديث الرفع في شموله للشبهة الموضوعيّة وللشبهة الحكميّة بجميع أقسامها. فإن بيّن الأخباريّ حديثاً يدلّ على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة، أو بعض أقسامها لم يمكن للاُصوليّ دفعه بالمعارضة بهذا الحديث، أو حديث الرفع؛ لأنّ دليل الاحتياط عندئذ يتقدّم عليهما بالأخصّيّة. نعم، لو وجد الاُصوليّ حديثاً دالّاً على البراءة في خصوص مورد حديث الاحتياط فتعارضا وتساقطا أفادنا حديث الرفع، أو حديث «الناس في سعة ما لا يعلمون» كعامّ فوقانيّ نرجع إليه وتثبت بذلك البراءة. هذا تمام الكلام في دلالة هذا الحديث.

210

وأمّا سنده فالظاهر أنّه غير موجود في الكتب المعتبرة بهذه الصياغة، ومن المحتمل أن يكون هذا الحديث مأخوذاً من ذيل آخر حديث رواه في الوسائل(1)في كتاب اللقطة، وهو كما يلي:

محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفليّ، عن السكونيّ، عن أبي عبد الله(عليه السلام): أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن»، فقيل: يا أميرالمؤمنين، لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ، فقال: «هم في سعة حتّى يعلموا». والظاهر أنّ الجهة المنظورة للسائل حينما يقول: لعلّه مجوسيّ هي النجاسة، أو لعلّه ينظر إلى تصوّر أنّ طعام المجوسيّ في نفسه فيه محذور شديد أو غير شديد مثلاً، وكأنّ أحداً من العلماء نقل حديث (الناس في سعة ما لا يعلمون) ناظراً إلى ذيل هذا الحديث من باب النقل بالمعنى أو نحو ذلك، ثمّ تبعه الآخرون من دون مراجعة المصدر، وأنت ترى أنّ ذيل هذا الحديث إنّما ورد في الشبهة الموضوعيّة ولا يمكن التعدّي، أو نقول باختصاصه بخصوص الجهة الملحوظة للسائل، وهي الطهارة أو النجاسة مثلاً(2).

 


(1) ج 17، ب 23 من اللقطة، ص 372.

(2) وقد روي الحديث في مستدرك الوسائل، ج 3، ب 14 من اللقطة، ص 153و154 عن الجعفريّات، وفيه بدلاً عن (السكّين) (السكّر)، ولعلّه أصّح، والنصّ ما يلي: (الجعفريّات أخبرنا محمّد، حدّثني موسى، حدّثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه جعفر بن محمّد، عن أبيه: أنّ عليّاً(عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها

211

 

4 ـ حديث الحجب:

ومنها: ما رواه في الكافي بسند صحيح من قوله(عليه السلام): «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1). ورواه الصدوق في التوحيد، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريّا بن يحيى، عن الصادق(عليه السلام). ولا يخفى أنّ أحمد بن محمّد بن يحيى لا يمكن أن يروي عن أحمد بن محمّد بن عيسى، والظاهر أنّه قد سقط في الطبع اسم أبيه(2)، وهو وارد في الكافي، حيث روى الكلينيّ(رحمه الله)في


وجبنها وبيضها وفيها سكّر فقال عليّ(عليه السلام): «يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس لما فيها بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن» فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا نعلم سفرة ذمّيّ ولا سفرة مجوسيّ، قال: «هم في سعة من أكلها ما لم يعلموا حتّى يعلموا». ورواه في دعائم الاسلام عنه(عليه السلام) مثله.

(1) الكافي، ج 1، كتاب التوحيد باب حجج الله على خلقه، ح 3، ص 164.

(2) لا يوجد عندي كتاب التوحيد كي اُراجعه، ولكن ما نقله صاحب الوسائل عن التوحيد ـ على ما في الطبعة الجديدة ـ جاء فيه: الصدوق عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى.... راجع ج 18، ب 12 من صفات القاضي، وح 28، ص 119.

أمّا سند الحديث ففي أوّل السند في التوحيد يوجد أحمد بن محمّد بن يحيى، وهذا لا يضرّ بناءً على ما بنينا عليه من وثاقته، على أنّه غير موجود في الكافي؛ لأنّ الكلينيّ ينقل مباشرةً عن محمّد بن يحيى. وعلى أيّ حال فالذي يبدو لي أنّ تعبير اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)

212

الكافي هذا الحديث عن محمّد بن يحيى وذكر نفس السند.

والتقريب البدائيّ للاستدلال بهذا الحديث واضح، وهو أنّ التكليف غير المعلوم محجوب، فهو موضوع عن العباد بمدلول هذا الحديث، والوضع معناه نفي إيجاب الاحتياط، فيقع الحديث طرفاً للمعارضة مع ما يستدلّ به الأخباريّ على الاحتياط.

واعترض على ذلك الشيخ الأعظم(قدس سره) ومن تأخّر عنه من المحقّقين بأنّ هذا إنّما يتمّ لو لم يكن الحجب مضافاً إلى الله ـ تعالى ـ بأن يقال: ما حُجب عن العباد فهو موضوع عنهم، ولكن بما أنّه اُضيف في هذا الحديث إليه ـ تعالى ـ يكون خارجاً عن محلّ الكلام؛ إذ ظاهر الحجب المضاف إليه ـ تعالى ـ هو الحجب في قبال ما يترقّب من البيان منه ـ تعالى ـ وهو عبارة عن إعلام وليّه بالحكم وأمره بالتبليغ، وأين هذا ممّا هو محلّ الكلام من احتمال اختفاء الحكم المبيّن علينا بالعوارض الخارجيّة؟!

 


عن هذا الحديث بالصحيح اعتماداً منه على نقل الكافي غير تامّ؛ لأنّ الراوي المباشر للإمام هو زكريّا بن يحيى مع تكنيته بأبي الحسن، ولو تمّ القول بانصرافه ـ لولا هذه التكنية ـ إلى زكريّا بن يحيى الواسطيّ أو التميميّ اللذين وثّقهما النجاشيّ وذكر عن كلّ واحد منهما أنّ له كتاباً، وذكر لنفسه سنداً إلى كتاب هذا وسنداً إلى كتاب ذاك فهذه التكنية لا تناسب هذا الانصراف؛ لأنّنا لا نعرف أنّ هذه كنية مَن، وفي كتب الرجال لم تذكر هذه الكنية لأيّ واحد من المسمّون بزكريّا بن يحيى، فلعلّها كنية لغيرهما، ولعلّه إنّما ذكرت له في سند هذا الحديث هذه الكنية تمييزاً له عن زكريّا بن يحيى الواسطيّ أو التميميّ. إذن فالظاهر أنّ الحديث غير تامّ سنداً.

213

وهذا الإشكال قد يدّعى التخلّص منه بوجوه:

الوجه الأوّل: أن يتمسّك أوّلاً بهذا الحديث في الشبهات التحريميّة المستجدّة، فيدفع به مثلاً احتمال حرمة التدخين، أو ركوب الطائرة، أو التلقيح الصناعيّ، فإنّنا نعرف من الذوق المستكشف من الأخبار الواصلة إلينا أنّه لم يكن المبنى على بيان الإمام للأحكام على موضوعات غريبة مستنكرة خارجة عن الحياة الاعتياديّة للسامعين وقتئذ، فلو فرض أنّ هذه الاُمور كانت حراماً في الواقع فهي حرمة محجوبة عن العباد من قِبل الله ـ تعالى ـ فترفع بهذا الحديث، ثمّ يتعدّى إلى سائر الشبهات بالقطع بعدم الفرق، أو الإجماع عليه.

وفيه: أنّ مثل هذا الحديث إنّما يرد بعد ملاحظة المولى لأغراضه الواقعيّة، فإذا رأى تماميّة ملاك الوضع في المحجوبات منها تكلّم بمثل هذا الكلام، فإن قطعنا بأنّ هناك غرضاً واصلاً إلى مرتبة الحكم وإنّما لم يبيّنه لعدم إمكان بيانه في ذلك الوقت بوجه عرفيّ، ومع هذا تكلّم بهذا الكلام عرفنا من ذلك أنّ ملاك الوضع في ذلك المحجوب هو عبارة عن ملاك البراءة، وأنّ المولى جعل البراءة في ذلك المورد وجاء دور التعدّي إلى سائر الموارد بعدم الفصل. وأمّا إذا احتملنا أنّ تلك الاُمور المستجدّة لا تكون مبغوضة عند المولى أصلاً، أو احتملنا أنّه كان من الممكن بيان المبغوض منها بعموم من العمومات مثلاً، كأن يبيّن مبغوضيّة كلّ ما يضرّ بالبدن الشامل للتدخين مثلاً، بحيث يصبح البيان عرفيّاً، فمن المحتمل عندئذ أن يصدر هذا الكلام من المولى من دون تماميّة ملاك لرفع حرام واقعيّ بالبراءة، لكون حجبه تعالى ـ بمعنى عدم بيانه لغرض من الأغراض ـ مساوقاً عندئذ لعدم ثبوت الحكم واقعاً على طبق ذاك الغرض، وحيث إنّ هذا الاحتمال موجود فلا يمكن التمسّك بهذا الحديث عن هذا الطريق.

الوجه الثاني: أن يتمسّك باستصحاب الحجب؛ إذ كلّ حكم من الأحكام يمرّ

214

عليه آن من الآنات يكون محجوباً، وهو قبل نزول الوحي أو قبل بيان الوليّ، فبالاستصحاب ننقّح موضوع هذا الحديث في كلّ تكليف مشكوك، فنتمسّك به لرفعه.

ويرد عليه: أنّ الظاهر أنّ المراد بالحجب عدم بيانه بالنحو المترقّب والمتعارف، فلو فرض أنّ الحكم قد تمّ جعله ولكن تأخّر بيانه ساعتين أو ثلاث حتّى يدخل النبيّ(صلى الله عليه وآله)المسجد ويبيّنه لأصحابه أو تأخّر وحيه شيئاً مّا، لا يقال: إنّ هذا الحكم حجب عن العباد. إذن فالحجب حدوثاً غير متيقّن حتّى يستصحب.

الوجه الثالث: أن نستصحب عدم ورود البيان من الشارع في مورد فقد النصّ، وعدم ورود قرينة رافعة للإجمال في مورد إجماله، أو عدم ورود قرينة على ترجيح الحقّ من المتعارضين في مورد تعارض النصّين، حيث لا فرق في صدق الحجب من قِبله ـ تعالى ـ بين المنع عن البيان رأساً، أو الأمر بالبيان المجمل أو المتعارض، فيثبت الحجب ونتمسّك بالحديث.

ويرد عليه: أنّ الحجب عنوان ثبوتيّ ملازم لعدم البيان، فالتمسّك باستصحاب عدمه تمسّك بالأصل المثبت.

الوجه الرابع: أن يقال: إنّ الحجب المنسوب إلى الله ـ تعالى ـ وإن كان في قبال البيان المترقّب منه ولكن قد يفرض أنّ الحجب نسب إليه بما هو مولىً، وقد يفرض أنّه نسب إليه بما هو سيّد الكون وخالقه ومدبّره. فعلى الفرض الأوّل يكون الحجب في قبال البيان المترقّب منه بما هو مولىً، وهو عبارة عن الإيصال إلى الوليّ وأمره بتبليغه فيتمّ ما مضى من الإشكال. وأمّا على الفرض الثاني، فالحجب يكون في قبال البيان المترقّب منه بما هو سيّد الكون، ونسبة الحجب بهذا المعنى إليه صادقة حتّى إذا فرض كون عدم وصول الحكم بسبب طبيعيّ غير عدم بيان الشارع، وذلك من قبيل احتراق الكتاب أو غرقه صدفة ونحو ذلك ممّا يتّفق

215

بالأسباب التكوينيّة الطبيعيّة، كما ينسب نزول المطر ونحوه إليه ـ تعالى ـ مع أنّه ليس فعلاً مباشريّاً له، بل مترتّب بحسب النظام الطبيعيّ الذي وضع الله ـ تعالى ـ على أساسه العالم.

نعم، إذا كان الحجب مستنداً إلى إرادة الفاعل المختار العاصي لله ـ تعالى ـ كشخص طاغية أجبر الإمام على الاتّقاء مثلاً، فهو غير مستند إلى الله ـ تعالى ـ عرفاً، سواء صحّ إسناده إليه حقيقة كما هو مذهب الفلاسفة، أو لا كما هو الصحيح، لكنّنا نتعدّى إلى مثل هذا المورد بعدم الفرق.

والظاهر من الحديث هو إضافة الحجب إليه ـ تعالى ـ بما هو سيّد الكون، فإنّ كلمة (الله) إنّما تستبطن هذه الحيثيّة. أمّا ملاحظة حيثيّة المولويّة فهي جهة زائدة لا قرينة عليها في المقام، فنتمسّك بإطلاق الحجب لمحلّ الكلام.

نعم، في بعض الموارد نحمل الكلام ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ على كونه بعنوان المولويّة، فمثلاً لو ورد أمر من الشارع مردّد بين كونه صادراً بما هو مولىً، أو بما هو مرشد تمسّكنا بالظهور في المولويّة. وأمّا فيما نحن فيه فحيث إنّ مناسبات الحكم والموضوع لا تعيّن لحاظ المولويّة يتعيّن التمسّك بإطلاق الحجب.

وهذا الوجه هو أحسن الوجوه في المقام، وبناءً عليه لا يختصّ الحديث بالشبهات الحكميّة، بل يشمل الشبهات الموضوعيّة أيضاً.

ولكن المحقّق العراقيّ(رحمه الله) مع أنّه تمسّك بهذا الوجه في مقام دفع الإشكال(1)


(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 227. وراجع أيضاً المقالات، ج 2، ص 60، وفيه استبعد حمل الحجب على الحجب في مقام التكوين.

216


وللمحقّق العراقيّ(رحمه الله) وجهان آخران لحلّ الإشكال:

أحدهما: ما جاء في المقالات، ج 2، ص 60، حيث فرض فيه أنّ الحجب هنا وإن كان بمعنى عدم صدور البيان ولكن المقصود بالوضع ليس هو وضع الخطاب المحجوب بمعنى السكوت عنه، فإنّ السكوت عنه هو المفروض في موضوع هذا الحديث، فالمقصود بالوضع إنّما هو وضع إيجاب الاحتياط، وهذا هو معنى البراءة، والإشكال في المقام يكون عبارة عن أنّ هذه البراءة إنّما تثبت في مورد عدم صدور البيان، ولا يشمل النصّ فرض عدم وصول البيان إلينا مع صدوره في الواقع، ويكون حلّ الإشكال هو التمسّك بعدم القول بالفصل.

أقول: يرد عليه: أنّ ما لم يصدر أصلاً من المولى لا يحكم العقل بوجوب امتثاله حتّى مع العلم به صدفة، وهذا غير البراءة التي هي محلّ الكلام، ولا معنى لدعوى عدم الفصل في وجوب الاحتياط وعدمه بين مورد لم يكن يجب الامتثال حتّى مع العلم بالملاك لعدم صدور الخطاب، ومورد يحتمل صدور الخطاب وبيانه رغم عدم وصوله صدفة إلينا.

وثانيهما: ما جاء في نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، حيث اعترف فيه بالقطع بعدم فعليّة حكم لم يوحَ به إلى الرسول(صلى الله عليه وآله)، وأنّ مجرّد الأحكام الإنشائيّة البحتة لا يجب امتثالها، ولكنّه ذكر أنّ الحكم لو اُوحي إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)ولكنّ النبيّ لم يبلّغه إمّا لأنّه لم يكن مأموراً بالإبلاغ، أو لاقتضاء بعض المصالح الإخفاء، فهذا الحكم فعليّ بلا إشكال، فإنّ الذي ينافي فعليّة الإرادة إنّما هي نفي الفعليّة المطلقة لا الفعليّة ولو من جهة الخطاب. وحديث الحجب يشمل هذا النوع من عدم البيان؛ لأنّه مستند إلى الله ـ تعالى ـ الذي لم يأمر نبيّه بالإبلاغ، ويكون الإشكال عندئذ منحصراً في عدم شمول الحديث لمورد تمّ

217

ذكر: أنّ الحديث مختصّ بالشبهات الحكميّة بدعوى أنّ الحجب المضاف إلى الله تعالى ظاهر ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ في الحجب في مقام بيان الأحكام لا الحجب من حيث الاُمور الخارجيّة، فيختصّ بالشبهات التي يترقّب فيها صدور البيان من قِبله ـ تعالى ـ وهي خصوص الشبهات الحكميّة(1).

وهذا الكلام منه(قدس سره) خلف وتهافت؛ إذ لو فرضنا أنّ الحجب اُضيف إليه ـ تعالى ـ بما هو سيّد الكون فعمّمنا الحديث لفرض اختفاء الحكم بواسطة الأسباب الطبيعيّة فلا معنى لإخراج الحجب من حيث الاُمور الخارجيّة عن الحديث، بدعوى أنّ البيان عن هذا الطريق لا يترقّب منه تعالى؛ إذ ذلك مترقّب منه بما هو سيّد الكون وعدمه حجب يسند إليه بما هو مدبّر العالم وخالقه، ولو فرضنا أنّه اُضيف إليه بما هو مولىً، فهو خلف أصل مبنى الاستدلال بهذا الحديث.

والتحقيق: أنّه وإن كان هذا الوجه الرابع لا يبعد تماميّته كجواب على الإشكال


الوحي وبلّغ النبيّ(صلى الله عليه وآله) بالحكم ولكنّه لم يصلنا، ويكون علاجه هو التمسّك بمقتضى عدم الفصل.

أقول: يرد عليه: أنّ العقل كما لا يحكم بوجوب امتثال ما لم يصدر المولى ـ تعالى ـ على طبقه خطاباً كذلك لا يحكم بوجوب امتثال ما أوحى إلى نبيّه(صلى الله عليه وآله) ولم يأمره بالتبليغ، وذلك حتّى في فرض القطع بذلك صدفة، وهذا غير البراءة التي نتكلّم عنها، ولا معنى لدعوى عدم الفصل في ذلك، والمقياس في عدم وجوب الامتثال إنّما هو عدم كون الحكم بمستوىً يحرّك المولى ـ سبحانه ـ للتصدّي إلى إيصاله إلى العباد، من دون فرق بين أن يفرض عدم وحيه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)أو عدم أمره بتبليغ ما اُوحي إليه.

(1) نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 226.

218

بالتقريب الذي بيّنه الأصحاب، ولكنّه ـ رغم هذا ـ لا يتمّ الاستدلال بهذا الحديث على البراءة، والسرّ في ذلك أنّ من المحتمل كون المقصود في الحديث هو تعليق الموضوعيّة عن العباد على الحجب عن العباد من حيث المجموع المساوق لعدم صدور البيان رأساً، لا تعليق الموضوعيّة عن أيّ شخص على الحجب عنه بالخصوص. نعم، لو جاء الحديث بصيغة المفرد كأن يقال: ما حجب الله علمه عن المكلّف فهو موضوع عنه لم يرد هذا الإشكال.

إن قلت: لا إشكال ولا ريب في أنّ مثل قوله: (أكرم العلماء) ظاهر في الانحلال فكيف لا تقولون بالانحلال هنا؟!

قلت: لا ننكر أنّ الحكم على موضوع ظاهر في الانحلال على أفراده، وفي هذا الحديث حكم بالوضع عن العباد، وهذا أيضاً انحلاليّ، فزيد موضوع عنه وعمر موضوع عنه وبكر موضوع عنه.... وهكذا، ولا يتصوّر غير هذا، وإنّما الكلام في أنّ ترتّب الجزاء على الشرط ـ أي: الوضع عن العباد على الحجب عنهم ـ هل هو بنحو مقابلة الجميع بالجميع بمعنى كون الوضع عن كلّ فرد مترتّباً على الحجب عن ذلك الفرد، أو بنحو مقابلة الجميع بالمجموع بمعنى ترتّب الوضع عنهم الذي هو الجزاء على الشرط بمجموعه، وهو الحجب عن كلّ العباد المساوق لعدم صدور البيان؟ ولمّا كان احتمال الثاني موجوداً في المقام فلا محالة يبطل الاستدلال بهذا الحديث.

فإن قلت: أيّ فرق بين هذا الحديث وحديث الرفع، حيث أبديتم هذا الاحتمال هنا ولم تبدوه هناك؟ ولا شكّ بحسب الظهور العرفيّ في أنّ قوله: (رفع ما لا يعلمون) ظاهر في الترتّب بنحو الانحلال، أي: أنّ الرفع عن كلّ شخص مترتّب على عدم علم ذلك الشخص لا على عدم علم الجميع.

قلت: إنّ تعيين كون القيد مأخوذاً بنحو الانحلال، أو بنحو المجموعيّة يرجع

219

إلى المناسبات الارتكازيّة للحكم والموضوع، والقيد في حديث الرفع كان هو عدم العلم، فصحيح أنّ عدم علم الجميع يلازم عدم صدور البيان، وهو حجب مستند إلى الله ـ تعالى ـ لكن الذي اُخذ قيداً في الحكم لم يكن هو الحجب المستند إلى الله بل كان هو عدم علم العبد، والارتكاز العرفيّ يرى أنّ عدم علم كلّ شخص يصلح عذراً لذلك الشخص، ولا علاقة لعدم علم شخص مّا بعذر شخص آخر، ولكن القيد في حديث الحجب كان هو حجب الله ـ تعالى ـ عن العباد، وكما يناسب عرفاً افتراض إرادة كون حجب الله عن كلّ شخص عذراً لذلك الشخص، كذلك يناسب عرفاً كون المقصود أنّ حجب الله عن كلّ العباد المتجسّد في عدم صدور البيان عذراً، فإنّ هذا عذر مفهوم عقلائيّاً، وهو غير عذر البراءة الذي يكون على نحو الانحلال ومقابلة الجميع بالجميع على شكل التوزيع.

وما ذكرناه هي النكتة فيما ترى من أنّه لو قيل: (إنّ عدم مسؤوليّتك تجاه شيء محتمل يتفرّع على كونه ممّا حجب الله علمه عن العباد) كان هذا بياناً عرفيّاً لا حزازة فيه؛ إذ هو في قوّة أن يقال: (إنّ عدم مسؤوليّتك عن شيء محتمل يتفرّع على عدم صدور البيان)، وهذا بخلاف ما لو قيل: (إنّ عدم مسؤوليّتك تجاه شيء محتمل يتفرّع على أن لا تعلم به أنت ولا غيرك)، فهذا تعبير غير مستساغ عرفاً، ويقال في مقابله: إنّه أيّ علاقة لجهل غيري بعذري؟

هذا. ولا يخفى أنّ ما ذكرناه بالنسبة لحديث الرفع إنّما كان بحثاً فيه بالنظر إلى خصوص جملة (رفع ما لا يعلمون). وأمّا إذا نظرنا إلى مجموع الحديث فلا موضوع لهذا البحث؛ إذ إنّ مثل (رفع ما اضطرّوا إليه) لا يعقل التشكيك في انحلاليّته بأن يفترض احتمال أنّ الشرط في (رفع ما اضطرّ إليه زيد) هو اضطرار الجميع، وبوحدة السياق يثبت أنّ (رفع ما لا يعلمون) أيضاً كذلك.

220

 

5 ـ أحاديث الحِلّ:

ومنها: حديث (كلّ شيء لك حلال). وهذه الرواية مرويّة في الكتب العلميّة بصيغ ثلاث:

1 ـ ما ورد في أخبار متعدّدة في موارد مختلفة، منها ما عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(عليه السلام): «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1).

2 ـ ما عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى



(1) الوسائل، ج 12، ب 4 ممّا يكتسب به، ح 1، ص 59، ونحوه ما عن معاوية بن عمّار، عن رجل، عن أبي جعفر(عليه السلام)، راجع الوسائل، ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة،ح 7، ص 92، ونحوهما ما عن عبد الله بن سليمان، عن أبي جعفر(عليه السلام)، راجع الوسائل،ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة، ح 1، ص 90 و 91، وسند الحديث الأوّل تامّ. وأمّا سند الحديث الثالث فليس فيه من يتوقّف لأجله عدا عبد الله بن سليمان، وقد روى عنه بعض الثلاثة في مشيخة الفقيه، والمقصود به هو الصيرفيّ؛ لأنّه الذي يوجد له كتاب فلا يمكن أن يكون المقصود به في مشيخة الفقيه غيره، فبناءً على أنّ عبد الله بن سليمان في حديثنا منصرف إلى من له الكتاب وللصدوق والنجاشيّ سند إليه لأنّه المعروف يتمّ سند الحديث.

221

يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(1).

3 ـ «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام». وهذه العبارة لا ترد عليها جملة من الإشكالات الواردة على الاُوليين، لكنّه ليس لها عين ولا أثر في كتب الحديث(2)، وعليه فالمرجع هو الصيغتان السابقتان.

أمّا الصيغة الاُولى: فقد ذكر الشيخ الأعظم(قدس سره) وجملة من سائر المحقّقين بعده: أنّ هذه الرواية تختصّ بالشبهات الموضوعيّة ولا تشمل الشبهات الحكميّة، وتتلخّص من كلامهم لذلك قرينتان في الحديث:

القرينة الاُولى: ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره) وهو أنّ في هذا الحديث ظهورين:

1 ـ ظهوره في فعليّة تقسيم الشيء إلى الحلال والحرام دون مجرّد الترديد والقابليّة.

2 ـ ظهوره في أنّ هذا الانقسام هو المنشأ للشكّ.

وهذان الظهوران إنّما ينطبقان على موارد الشبهات الموضوعيّة، فاللحم مثلاً ينقسم إلى حلال وهو المذكّى وحرام وهو الميتة، وهذا الانقسام سبب للشكّ في حلّيّة وحرمة الفرد الذي لا ندري أهو مذكّىً أو ميتة. وأمّا الشبهة الحكميّة فلا يكون الأمر فيها كذلك، فمثلاً إذا شككنا في حرمة شرب التتن فهنا ليس التتن مقسّماً بالفعل إلى قسم حلال وقسم حرام، فلابدّ من حمل «فيه حلال وحرام»



(1) الوسائل، ج 12، ب 4 ممّا يكتسب به، ح 4، ص 60، وسند الحديث ضعيف بمسعدة بن صدقة الذي لم يرد توثيق بشأنه.

(2) ولعلّه نقل غير دقيق لنفس المضامين السابقة، أو نقل غير دقيق لما عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله(عليه السلام)في الجبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة». راجع الوسائل، ج 17، ب 16 من الأطعمة المباحة، ح 2، ص 91.

222

على الترديد والقابليّة ـ أي: أنّه قابل لأن يكون حلالاً وقابل لأن يكون حراماً ـ لكونه فعلاً اختياريّاً، وليس من قبيل التنفّس الذي لا يتّصف بالحلّ والحرمة، وهذا خلاف الظهور الأوّل، فإن اُوِّل بإرجاع المطلب إلى الجنس بأن يقال مثلاً: إنّ المشروب فيه حلال وهو الماء، وحرام وهو الخمر، وقد شككنا في أنّ المائع الفلانيّ حلال أو حرام، فهنا يكون الانقسام الفعليّ ثابتاً في المقام، لكن ليس هذا الانقسام منشأ للشكّ، فإنّنا نحتمل حرمة ذاك المائع بقطع النظر عن حرمة الخمر وحلّيّة الماء، ولو لم نكن نعلم بحرمة الخمر مثلاً لعلّنا كنّا نشكّ أيضاً في حرمة كلٍّ من الخمر وذاك المائع كما هو واضح(1).

أقول: إنّ هذا المقدار من البيان يمكن الإيراد عليه بلحاظ الشبهة الحكميّة المفهوميّة بأن نفرض عنواناً كلّيّاً قسم منه حلال وقسم منه حرام، واشتبه القسمان مفهوماً فتردّدنا في فرد مّا من جهة الشبهة المفهوميّة بين دخوله في هذا أو ذاك، فينحفظ فيه كلا الظهورين، كما إذا فرضنا أنّ الماء المطلق حلال والطين حرام وشككنا بنحو الشبهة المفهوميّة في مائع هل هو ماء مطلق أو طين، فانقسام المائع إلى ما هو حلال وهو الماء، وما هو حرام وهو الطين فعليّ، وهذا الانقسام هو الذي جعلنا نشكّ في حكم هذا الفرد باعتبار إجمال مفهومي القسمين.

ولكن يمكن تتميم ما عرفته من التقريب بإضافة شيء عليه، وهو أنّ ظاهر قوله: «حتّى تعرف الحرام منه بعينه» هو أنّ المراد بالمعرفة في المقام معرفة أمر خارجيّ لا معرفة أمر مربوط بعالم الألفاظ كما في الشبهة المفهوميّة، فالشبهة المفهوميّة خارجة عن مورد الحديث؛ لأنّ معرفة الحرام فيها تكون بمعرفة مدلول



(1) راجع رسائل الشيخ الأعظم(قدس سره)، ص 201 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة (رحمت الله).

223

اللفظ في اللغة، لا بمعرفة أمر في العالم الخارجيّ غير عالَم اللغة والوضع.

القرينة الثانية: ما ذكره السيّد الاُستاذ(1) تبعاً للمحقّق النائينيّ(رحمه الله)وهي كلمة «بعينه» المذكورة في الحديث، بتقريب(2) أنّ كلمة «بعينه» بلحاظ الشبهات الحكميّة لا يمكن أن تكون إلاّ تأكيداً صرفاً لا تقييداً زائداً؛ إذ لا يتصوّر التقييد الزائد إلاّ في قبال العلم الإجماليّ، وذلك ينافي منجّزيّة العلم الإجماليّ، مع أنّ ظاهر الكلام كونها تقييداً زائداً، وهذا بخلاف موارد الشبهات الموضوعيّة، فإنّ مورد الشبهات الموضوعيّة يكون دائماً طرفاً للعلم الإجماليّ، فنتحفّظ على ظهور القيد في كونه تقييداً زائداً من دون أن يلزم من ذلك إبطال منجّزيّة العلم الإجماليّ، فمثلاً لو شكّ المكلّف في أنّه هل تنجّس الماء الذي يكون أمامه بملاقاة النجس، أو هل صار الخلّ الذي يكون في بيته خمراً أو لا؟ فهو حيث لا يعلم تفصيلاً بالخمور الموجودة في العالم أو المتنجّسات، ويعلم في الجملة بوجود خمور ومتنجّسات في العالم يصبح هذا طرفاً لعلم إجماليّ أطرافه غير محصورة وأكثرها خارج عن محلّ الابتلاء، فكلمة «بعينه» تخرج ذلك عن وجوب الاحتياط من دون أن ينثلم بذلك قانون منجّزيّة العلم الإجماليّ.

ويرد عليه: أنّه إن فرض أنّ المراد بالعلم الإجماليّ العلم الإجماليّ بين الأقلّ والأكثر فهذا موجود في الشبهات الحكميّة، فإذا شكّ في حرمة شرب التتن فقد شكّ مثلاً في أنّه هل يحرم الخمر والتتن معاً أو يحرم الخمر فقط، وهذا بحسب الحقيقة ليس علماً إجماليّاً. وإن فرض أنّ المراد به هو العلم الإجماليّ بين



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 273 و 274.

(2) هذا التقريب غير منقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ولكن أصل الاستشهاد بكلمة «بعينه» منقول عنه في أجود التقريرات، ج 2، ص 184، وفي فوائد الاُصول، ج 3، ص 132.

224

المتباينين فلا نسلّم كون هذا الفرد من المائع طرفاً للعلم الإجماليّ بوجود الخمر والمتنجّس في العالم وإن كان لا إشكال في وجود هذا العلم الإجماليّ في نفسه، ولذا لا ينقص عدد المعلوم بالإجمال ولا يزيد بإفراز هذا الفرد وعدمه. نعم قد يقال في الشبهات الموضوعيّة: كون مورد الشبهة طرفاً لعلم إجماليّ بعض أطرافه خارج عن محلّ الابتلاء، كما قد يتّفق ذلك أيضاً في الشبهات الحكميّة.

وأمّا الصيغة الثانية: وهي الموجودة في صدر حديث مسعدة بن صدقة، فقد استدلّ بها أيضاً على جريان البراءة في الشبهات الحكميّة تمسّكاً بإطلاقها، وقد وقع الإشكال في أنّه هل لها إطلاق أو لا؟ ثمّ انجرّ هذا الإشكال إلى الإشكال في فقه الحديث وتصوّر معنى الحديث، ومن هنا ينبغي لنا أن نتكلّم أوّلاً في فقه الحديث وتصوّر معناه وبعد ذلك نرى أنّ هذا المعنى المتعقّل للحديث هل يدلّ على البراءة في الشبهة الحكميّة أو لا؟

فنقول: قد يستشكل في فهم هذا الحديث في نفسه بقطع النظر عن أنّه اُريد بالحِلّ الحلّيّة في الشبهات الموضوعيّة كما يقول الأخباريّون، أو الأعمّ منها ومن الشبهات الحكميّة، وذلك باعتبار ما يُرى من نوع من التهافت بين صدر الحديث وذيله، حيث إنّ صدر الحديث لو فصل عن ذيله يعطي معنى أصالة الحِلّ، ولكن الأمثلة المذكورة في ذيل الحديث لا علاقة لها بأصالة الحِلّ، فلو قطعنا النظر عن جريان قاعدة اليد واستصحاب عدم الاُختيّة لا يمكن إباحة الثوب والعبد والزوجة بأصالة الحِلّ، وليس ذلك لأجل صناعة يمكن فرض بطلانها حتّى يستكشف من هذه الرواية بطلان تلك الصناعة، بل هذا أمر واضح لا يشكّ فيه فقيه، ولا يوجد فقيه يفتي في هذه المسائل بالحلّ لو قطع النظر عن قاعدة اليد والاستصحاب.

ويمكن تفسير الحديث بنحو ينسجم صدره مع ذيله بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما قد يقال من حمل الأمثلة على التنظير والتشبيه لا على

225

التطبيق، فكأنّ الإمام(عليه السلام) بيّن قاعدة الحلّ، ثمّ ذكر: أنّه توجد في الشريعة الإسلاميّة أشياء اُخرى تشبه قاعدة الحلّ، وهي الحلّيّة الاستصحابيّة والحلّيّة بقاعدة اليد.

وهذا الوجه غير صحيح بعد فرض التحفّظ على كون الكلام الوارد في هذا الحديث بياناً عرفيّاً؛ إذ التنظير يكون بين الحكمين، بأن ينظّر أصالة الحلّ بالحلّيّة الاستصحابيّة والحلّيّة بقاعدة اليد، وليس من المستساغ أن ينظّر بين حكم وأفراد موضوع حكم آخر كما وقع في الحديث.

الوجه الثاني: ما قد يقال أيضاً من أنّ الإمام(عليه السلام) جمع بين حلّيّات متعدّدة، وهي أصالة الحلّ، والحلّيّة الاستصحابيّة، والحلّيّة بقاعدة اليد في عبارة واحدة، وعبّر بالجامع وهو الحلّيّة، فبحسب الحقيقة لم يرد حلّيّة واحدة، بل هي حلّيّات ثلاث يختلف موضوع كلّ واحدة منها عن موضوع الاُخرى، فموضوع أصالة الحلّ عنوان ما لم تعلم حرمته، وموضوع الحلّيّة المجعولة في قاعدة اليد اُخذت فيه قيود عديدة منها اليد، وموضوع الحلّيّة الاستصحابيّة اُخذت فيه قيود عديدة منها الحالة السابقة.

وقد يستشكل في ذلك بأنّ كلّ واحدة من هذه الحلّيّات المتعدّدة موضوعها مغاير لموضوع الاُخرى، فلابدّ من إبراز كلّ جعل على موضوعه، وإبراز الجعول المتعدّدة على موضوع أصالة الحلّ غير صحيح، إلاّ بالالتزام بتقييدات مستترة طبقاً لواقع جعولها، وهذا غير مستساغ عرفاً.

ومن هنا فرض المحقّق العراقيّ(رحمه الله) علاجاً لهذا الاستشكال: أنّ الجمع بين جعول متعدّدة في تعبير واحد في هذا الحديث ليس بمعنى إبراز نفس تلك الجعول، بل بمعنى الإخبار عن نتائج تلك الجعول، وعندئذ لا يلزم التحفّظ على موضوع الجعل، مثلاً لو فرض أنّ المولى جعل قاعدة الفراغ وموضوعها فعل المكلّف،

226

وأصالة الصحّة وموضوعها فعل الغير، ففي مقام الإخبار يمكنه أن يجمع بينهما في عبارة واحدة ويقول: كلّ فعل شكّ في صحّته بعد وجوده فالأصل فيه الصحّة(1).

ولكن التحقيق: أنّ هذا التوجيه أيضاً غير مستساغ عرفاً وإن كان فنّيّاً ودقيقاً بحسب الصناعة العلميّة، وذلك لقوّة ظهور الرواية في أنّ الإمام(عليه السلام) في مقام إعطاء معنىً كلّيّ وضابطة كلّيّة لأجل أن يطبّقها المكلّف على مواردها الخارجيّة، وقد ذكرت الأمثلة لأجل تشريح ذهن هذا السامع في مقام تطبيق هذه الضابطة الكلّيّة، ومن المعلوم أنّنا لو فرضنا أنّنا حملناه على أنّه في مقام الإخبار عن نتيجة جعول متعدّدة على موضوعات متعدّدة ذات قيود مع إسقاط تلك القيود وعدم بيان تلك الموضوعات، لما أمكن للسامع تطبيق الأمر على الصغريات إلاّ إذا فرض ذكر ملازم مساو وانتزاع عنوان مطابق، كما فيما ذكرناه من مثال أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ، دون عنوان أعمّ كما في هذا الحديث.

الوجه الثالث: هو الذي يقوى في نفسي من احتمال أنّ هذه الرواية ليست في مقام بيان قانون ابتدائيّ، بل في مقام التصريح بإطلاق قوانين الحلّيّة من قبيل الاستصحاب واليد بالنسبة لمرحلة البقاء، بمعنى أنّه إذا ثبتت لك حلّيّة شيء بأمثال هذه القوانين فلا ترفع اليد عن الحلّيّة بوسوسة، وطروّ منشأ جديد للشكّ، وحصول الظنّ بالخلاف ونحو ذلك، بل ابقِ على تلك القواعد المفروغ عنها حتّى يستبين لك غير هذا، أو تقوم به البيّنة، وهذا المطلب تطبيقه على الرواية لا يقتضي في المقام عدا الالتزام بتقييد واحد مستساغ عرفاً، ولا ينافيه إلاّ الإطلاق، ولا يخرج الحديث عن كونه بياناً عرفيّاً، وذلك بأن يقال: (كلّ شيء ثبتت حلّيّته



(1) راجع المقالات، ج 2، ص 61. وراجع نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 234 و 235.

227

بقاعدة من القواعد فهو لك حلال ويبقى حلالاً حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه)،فنظر الحديث إلى مرحلة البقاء لا مرحلة الحدوث.

وإنّما قلنا: إنّنا بحاجة إلى تقييد الإطلاق بناءً على أنّ قوله: (هو لك حلال) خبر لقوله: (كلّ شيء). أمّا إذا افترضنا قوله: (هو لك) صفة لشيء، وقوله: (حلال) هو الخبر، فظاهر الحديث ابتداءً هو النظر إلى مرحلة البقاء بلا حاجة إلى تقييد خارجيّ.

وبعد تفسير الحديث بهذا الوجه يظهر الحال فيما نحن فيه؛ وذلك لبداهة أنّه بناءً على هذا المعنى لا يرتبط هذا الحديث بأصالة الحلّ في الشبهات الحكميّة، ولا بأصالة الحلّ في الشبهات الموضوعيّة، بل هو أجنبيّ عن أصالة الحلّ رأساً، وعليه فلو اُريد التمسّك بحديث أصالة الحلّ في الشبهات الموضوعيّة فلابدّ من التمسّك بالصيغة الاُولى.

 

6 ـ إثبات البراءة بالاستصحاب:

وقد يستدلّ على البراءة بالاستصحاب. إمّا بلحاظ حال الصغر، أو بلحاظ ما قبل الشريعة، أو بلحاظ ما قبل استكمال الشرائط الخاصّة للتكليف، كما لو شككنا في وجوب الحجّ بالبذل فاستصحبنا عدم التكليف الثابت قبل البذل لعدم الاستطاعة، إذن فلإثبات البراءة بالاستصحاب وجوه ثلاثة:

 

أ ـ بلحاظ حال الصغر:

الوجه الأوّل: استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر. واعترض عليه بعدّة إشكالات:

الأوّل: ما حمل عليه المحقّق الخراسانيّ؛ عبارة الشيخ الأعظم (رضوان الله عليه)(1)


(1) عبارة الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) واردة في بحث البراءة لدى الاستدلال على البراءة

228

في المقام من أنّ المستصحب يجب أن يكون حكماً مجعولاً، أو موضوعاً لحكم مجعول، وعدم التكليف ليس كذلك.

واستغرب السيّد الاُستاذ من حمل عبارة الشيخ الأعظم على هذا المعنى باعتبار أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره)يقول باستصحاب العدم الأزليّ فضلاً عن العدم المستمرّ إلى حال الصغر، فكيف ينسب إليه في المقام هذا الإشكال؟(1).

 


بالاستصحاب، وكلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) بهذا الصدد وارد في التنبيه الثامن من تنبيهات الاستصحاب، ولعلّ كلام صاحب الكفاية يشعر بأنّ المستفاد من عبارة الشيخ الأنصاريّ هو أنّ كون المستصحب حكماً مجعولاً، أو موضوعاً لحكم مجعول شرط بعنوانه في الاستصحاب، فلو كان هذا هو مقصود الشيخ(رحمه الله) ورد عليه ما سيأتي في المتن، ولكن الظاهر من عبارته أنّ مقصوده شيء آخر، وهو أنّ المستصحب يجب أن يكون حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ لا نفياً له، وذلك لا بدعوى اشتراط ذلك بعنوانه في الاستصحاب، بل بدعوى أنّ استصحاب نفي الحكم لا يؤدّي إلى نفي استحقاق العقاب، فإنّ نفي استحقاق العقاب يكون في حالتين: إمّا لدى نفي الحكم واقعاً على أساس الملازمة العقليّة بين نفيه وعدم استحقاق العقاب، واستصحاب نفي الحكم لا يثبت لازمه العقليّ، وإمّا لدى الترخيص ولو ظاهراً، فإذا ثبت الترخيص ولو ظاهراً قطعنا بعدم استحقاق العقاب، ولكن استصحاب نفي الحكم لا يثبت الترخيص، فإنّ الترخيص والإباحة حكم ثبوتيّ، والثابت في حال الصغر ليس هو هذا، بل هو عدم جعل الإلزام، وعدم جعل الإلزام غير الترخيص المجعول.

ويرد عليه: أنّ نفي استحقاق العقاب يكفي فيه عقلاً نفي الإلزام ولو ظاهراً، ولا يتوقّف على نفي الحكم واقعاً، ولا على الترخيص بمعنى جعل الإباحة ولو ظاهراً.

(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 292.

229

وهذا الاستغراب في غير محلّه؛ إذ الشيخ الأعظم(رحمه الله) إنّما يقول بالاستصحاب في العدم الأزليّ إذا وقع العدم الأزليّ موضوعاً لحكم شرعيّ، فيستصحب مثلاً في المكاسب عدم مخالفة الشرط للكتاب؛ لأنّه موضوع لحكم شرعيّ، وهو نفوذ الشرط ووجوب الوفاء به، وجهة الإشكال فيما نحن فيه هي أنّ عدم التكليف ليس حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً لحكم شرعيّ، ولا علاقة لذلك بمسألة جريان الاستصحاب في العدم الأزليّ، أو عدم جريانه فيه.

وعلى أيّ حال، فلا يهمّنا تحقيق مراد الشيخ الأعظم(قدس سره)، وإنّما المهمّ النظر إلى هذا الإشكال في نفسه سواء كان مقصوداً للشيخ الأعظم أو لا.

والواقع: أنّ هذا الإشكال غير صحيح؛ وذلك لأنّه لا دليل على اشتراط هذا الأمر بعنوانه وهو كون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً له، وإنّما الشرط هو أن يكون المستصحب قابلاً للتصرّف الظاهريّ من قبل المولى والتعبّد الظاهريّ به نفياً وإثباتاً، ويكفي في قابليّته لذلك أن يكون عدم حكم.

الثاني: ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)، وهو يتركّب من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الاستصحاب لا يكفي فيه مجرّد كون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ، بل لابدّ من انتهائه إلى أثر عمليّ، فاستصحاب وجوب الحجّ مثلاً على شخص مات قبل خمسمئة عام من دون ترتّب أثر عمليّ لذلك بالنسبة لنا لا معنى له، والتعبّد به لغو صرف وبلا محصّل.

الثانية: أنّ الأثر العمليّ المشترط في الاستصحاب إن كان مترتّباً على الواقع المستصحب صحّح الاستصحاب. أمّا إن كان مترتّباً على الشكّ، أو على كلّ من الواقع والشكّ فلا معنى عندئذ لإجراء الاستصحاب؛ لأنّ ذاك الأثر ثابت بالوجدان لوجود الشكّ، فإثباته بالاستصحاب تحصيل للحاصل، بل من أردَأ

230

أنحاء تحصيل الحاصل؛ إذ هو تحصيل لما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد(1).

أقول: إذا فرض الأثر مترتّباً على الشكّ دون الواقع، فالاستصحاب لا معنى له في نفسه بقطع النظر عن تحصيل الحاصل؛ إذ المفروض أنّ الأثر ليس للواقع، فإثباته باستصحاب الواقع إثبات للشيء بما لا يترتّب عليه و لا يثبت به، ولعلّه(قدس سره)إنّما عبّر بهذا التعبير بالنسبة لكلا القسمين من باب الجمع في العبارة والاختصار، وإلاّ فينبغي أن يقال: إنّ الاستصحاب فيما إذا كان الأثر مترتّباً على الشكّ لا يثبت لنا شيئاً، وفيما إذا كان الأثر مترتّباً على الواقع وعلى الشكّ يثبت لنا بالتعبّد ما هو ثابت بالوجدان(2).

وعلى أيّة حال، فالنتيجة المترتّبة على المقدّمتين هي أنّ الأثر العمليّ في المقام الذي عرفت في المقدّمة الاُولى اشتراطه في الاستصحاب إنّما هو التأمين، وهذا لا يمكن تحصيله بالاستصحاب؛ إذ التأمين يترتّب على الشكّ، أو على كلّ مِنَ الشكّ والواقع، ولا معنى لترتّبه على الواقع فقط؛ إذ هو خلف قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقد طبّق المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هذا القانون ـ أعني: عدم جريان الاستصحاب في فرض ترتّب الأثر على الشكّ، أو عليه وعلى الواقع ـ في مورد آخر أيضاً وهو



(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 190 و 191.

(2) الظاهر أنّ نظر المحقّق النائينيّ في كلا القسمين إلى إشكال تحصيل الحاصل. وعلى أيّ حال فهذا الإشكال إن تمّ فمصبّه كلا القسمين؛ إذ حتّى في مورد كون الأثر مترتّباً على الشكّ فقط لو اُريد إثبات الأثر بالاستصحاب كان ذلك تحصيلاً لما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد. نعم، يرد إشكال آخر أيضاً، وهو أنّ الأثر إذا لم يكن للواقع فاستصحاب الواقع لا يثبته، ولا يرد هذا الإشكال عند فرض كون الأثر للواقع وللشكّ معاً.