374

التركيب، فيتعامل مع القيد معاملة الجزء في أنّ مجرى الاستصحاب وجوداً وعدماً هو نفس القيد، وإذن فنحتاج في المقام من ناحية الخصوصيّة إلى استصحاب عدم الخصوصيّة بنحو العدم الأزليّ، ولو فرضت قيداً لا جزءاً، فلابدّ أن يرى أنّ تلك الخصوصيّة هل هي ذاتيّة حتّى يبطل الاستصحاب بناءً على عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ في الذاتيّات، أو عرضيّة حتّى يجري استصحاب العدم الأزليّ بلا إشكال.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) أفاد في المقام: أنّه سواء فرضت الشبهة موضوعيّة أو حكميّة إن قلنا بأنّ التذكية أمر بسيط متحصّل جرى استصحاب عدم التذكية، وإن قلنا بأنّها مركّب من فري الأوداج مع القابليّة للتذكية لم يجرِ الاستصحاب سواء فرضت القابليّة جزءاً أو قيداً(1)؛ لأنّ هذه القابليّة ليست لها حالة سابقة؛ إذ هي أمر ذاتيّ في الحيوان وثابت بثبوته من أوّل الأمر، ولم يمّر على الحيوان وقت لم تكن فيه هذه القابليّة حتّى يستصحب عدمها، ثمّ أورد على نفسه بأنّكم تقولون باستصحاب العدم الأزليّ، فلماذا لا تستصحبون العدم الأزليّ للقابليّة؟ فأجاب على ذلك: بأنّ هذه القابليّة حيث إنّها ذاتيّة في الحيوان ومن لوازم الماهيّة ـ على حدّ تعبيره(قدس سره) ـ لا يمكن استصحاب عدمها؛ لأنّ استصحاب العدم الأزليّ لا يجري في الذاتيّات.

أقول: أمّا الجانب الإيجابيّ من كلامه(قدس سره) وهو ما أفاده من جريان استصحاب عدم التذكية إذا كانت أمراً بسيطاً، فهو صحيح في ذاته، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّه إن اُضيفت التذكية في موضوع الحكم الشرعيّ إلى الحيوان جرى



(1) التصريح بعدم الفرق في المقام بين فرض القابليّة جزءاً أو قيداً ورد في نهاية الأفكار ولم يرد في المقالات، ولكن قد يمكن استفادته من المقالات أيضاً بالإطلاق.

375

الاستصحاب بلا إشكال، وإن اُضيفت إلى زاهق الروح ابتنى الاستصحاب على القول باستصحاب العدم الأزليّ.

وأمّا الجانب السلبيّ من كلامه، وهو إنكار جريان الاستصحاب إذا كانت التذكية مركّبة من فري الأوداج والقابليّة سواء اُخذت القابليّة جزءاً أو قيداً، ففيه كلام موضوعاً ومحمولاً:

أمّا من ناحية الموضوع، فلأنّه لا معنى لأخذ قابليّة التذكية في التذكية جزءاً أو قيداً، فإنّ القابليّة للشيء يستحيل أن تكون مأخوذة في نفس ذلك الشيء، فينبغي أن يكون مراده من القابليّة الخصوصيّة التي بها يرى المولى أنّ فري الأوداج يؤثّر في طهارة الحيوان وحلّه، كالغنميّة والأهليّة.

وأمّا من ناحية المحمول، فلأنّه إن كانت الشبهة حكميّة لم يجرِ الاستصحاب ولو قلنا باستصحاب العدم الأزليّ، لما مضى من أنّ الخصوصيّة مردّدة بين مقطوعة الثبوت ومقطوعة الانتفاء، فعدم جريان الاستصحاب في ذلك ليس مربوطاً بمباني استصحاب العدم الأزليّ. نعم، إن كانت الشبهة موضوعيّة فجريان الاستصحاب وعدمه مبتن على مباني استصحاب العدم الأزليّ، فإذا فرضت الخصوصيّة عرضيّة(1) كالأهليّة لا ينبغي الإشكال في جريان استصحاب الأزليّ، وإذا فرضت ذاتيّة كالغنميّة جاء الإشكال على ما يرتئيه من عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ في الذاتيّات.



(1) والمحقّق العراقيّ(رحمه الله) هو أشار في المقام إلى التفصيل بين ما إذا فرضت القابليّة ذاتيّة أو عرضيّة، وذلك في المقالات (ج 2، ص 73)، وهذا قابل للحمل على الالتفات إلى كون الخصوصيّة المأخوذة هل هي مثل الغنميّة أو مثل الأهليّة، ولكنّ عبارة نهاية الأفكار ـ القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 257 ـ صريحة في فرض القابليّة ذاتيّة.

376

وأمّا عدم التفرقة بين فرض الخصوصيّة جزءاً أو قيداً، فيصحّ بعد الالتفات إلىما أشرنا إليه أخيراً من رجوع التقييد عادة بوجه من الوجوه إلى التركيب في الارتكاز العرفيّ.

ثمّ إنّه ظهر من تمام ما ذكرناه الإشكال فيما أفاده بعض المحقّقين كالمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) من تفريع استصحاب عدم التذكية على سنخ التقابل بين موضوع الحلّيّة وهو التذكية، وموضوع الحرمة، فإن كان التقابل بينهما تقابل التضادّ بأن كان موضوع الحرمة الموت حتف الأنف، فاستصحاب عدم التذكية معارض باستصحاب عدم الموت حتف الأنف، وإن كان التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب جرى استصحاب عدم التذكية بلا إشكال(1)، وإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فكان موضوع الحرمة هو عدم التذكية في المحلّ القابل لم يجرِ الاستصحاب؛ لعدم الحالة السابقة؛ إذ في حال الحياة لا تكون القابليّة، ومن أوّل الممات يكون الحيوان مذكّىً أو غير مذكّىً.

أقول: أمّا فرض كون التقابل بين موضوع الحرمة وموضوع الحلّيّة تقابل التضادّ فهو في نفسه غير معقول، وعلى فرض معقوليّته لا يقع التعارض بين الاستصحابين.

أمّا عدم معقوليّته في نفسه، فلأنّه يكفي في الحلّيّة عدم تحقّق ملاكات الحرمة



(1) بل يرى في ذلك تفصيلاً، وهو التفصيل بين ما إذا كان موضوع الحرمة أن لا يكون ما زهق روحه مذكّىً فلا يجري استصحاب عدم التذكية، أو كان موضوعها مركّباً من زهاق الروح وعدم التذكية، فيجري الاستصحاب. راجع نهاية الدراية، ج 2،ص 207.

377

وانتفاء موضوع الحرمة(1)، فإذا كان موضوع الحرمة الموت حتف الأنف فلا محالةيكون موضوع الحلّيّة نقيض ذلك، فلا يجري إلاّ استصحاب عدم الموت حتف الأنف.

وأمّا أنّه على فرض تعلّقه لا يقع التعارض بين الاستصحابين، فلأنّه إذا فرض موضوع الحرمة وموضوع الحلّيّة متضادّين فكانت الحلّيّة والحرمة مضادّتين بتبع تضادّ موضوعهما، فلا أثر لاستصحاب عدم موضوع الحلّيّة؛ إذ لا يثبت موضوع الحرمة بنفي موضوع الحلّيّة إلاّ بالملازمة، ونفي الحلّيّة لا يثبت الحرمة؛ إذ المفروض كونهما متضادّين، فإثبات إحداهما بنفي الاُخرى تعويل على الأصل المثبت، وإذا لم تثبت بذلك الحرمة فلا أثر لهذا الاستصحاب، فإنّ التنجّيز إنّما يترتّب على الحرمة لا على عدم الحلّيّة، ولذا لو فرض في مورد عدم الحرمة



(1) إن اُريد بالحلّيّة جعل الحلّ فقد يقال: إنّه بالإمكان أن يكون في أحد الضدّين ملاك الحرمة فيحرّم، وفي الضدّ الآخر ملاك الحلّيّة الاقتضائيّة فيحلّل مع افتراض عدم وجود ضدّ ثالث، وصحيح أنّه كان بالإمكان أن يجعل موضوع الحلّ نقيض الضدّ الحرام ولو من باب الحلّيّة اللااقتضائيّة ـ أي: الحلّيّة الناشئة من عدم اقتضاء الحرمة ـ لكن بما أنّ الضدّين لا ثالث لهما ليس مجبوراً على جعل هذا الحلّ، وبإمكانه الاكتفاء بجعل حلّيّة الضدّ الآخر الذي كان فيه اقتضاء الحلّيّة، وهذا لا ينافي ظهور أدلّة الأحكام في تبعيّتها لملاكات متعلّقاتها، فإنّ حلّيّة الضدّ قد افترضنا أنّها كانت بتبع ملاك في المتعلّق يقتضي الحلّ، ولا ينافي أيضاً إطلاق (ما من واقعة إلاّ ولها حكم)، فإنّ هذا لا يدلّ على أنّ العنوانين المتلازمين اللذين لا يمكن أن ينفكّ أحدهما عن الآخر، كعنوان الضدّ مع عنوان نقيض الضدّ الآخر الذي لا ثالث لهما لابدّ أن يكون كلاهما متعلّقين لحكم مجعول، بل يمكن الاكتفاء بجعل الحكم لأحدهما.

378

والحلّيّة معاً لعدم أصل التشريع لا يكون هناك تنجيز، وإذا كان كذلك فاستصحاب عدم موضوع الحرمة يرفع التنجيز، ولا يعارض باستصحاب عدم موضوع الحلّيّة.

وأمّا فرض كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فبقطع النظر عمّا عرفت من أنّه لابدّ أن يكون التقابل بينهما تقابل التناقض؛ إذ يكفي في الحلّيّة انتفاء ملاكات الحرمة وعدم موضوعها، نقول: لعلّه(قدس سره)خلط في ذلك بين القابليّة الإمكانيّة والقابليّة الاحتماليّة، فإنّ القابليّة المختصّة بحال الموت إنّما هي القابليّة الاحتماليّة، والقابليّة المأخوذة في اصطلاح تقابل العدم والملكة هي القابليّة الإمكانيّة بمعنى إمكان القبول بحسب نظام الطبيعة، والحياة لا تمنع عن هذه القابليّة، فإنّه إن فرضت التذكية حكماً شرعيّاً فالحيوان الحيّ أيضاً قابل لذلك الحكم الشرعيّ، وإن فرضت أمراً بسيطاً تكوينيّاً فالحيوان الحيّ أيضاً قابل لذلك بالذبح المخصوص، وإن فرضت عبارة عن عمليّة القتل بنحو مخصوص فهذه القابليّة مختصّة بالحيوان الحيّ ولا يقبل الحيوان الميّت ذلك.

وأمّا فرض كون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب فهو فرض معقول. وجريان استصحاب عدم التذكية فيه وعدمه يكون بحسب التفصيل الذي مضى منّا.

وأمّا الفرض الثالث ـ وهو فرض الشكّ في ناحية المانع كالجلل ـ: فالشبهة فيه تارة تكون حكميّة واُخرى موضوعيّة:

فإن فرضت حكميّة كما إذا شكّ في مانعيّة الجلل، فإن كانت التذكية عبارة عن نفس الأعمال المركّبة لم يجرِ استصحاب عدم التذكية؛ لأنّ الشكّ ليس في وجود الموضوع، بل في موضوعيّة الموجود وأنّ عدم الجلل دخيل في التذكية أو لا؟ فتصل النوبة إلى أصالة الحلّ والبراءة إن لم يوجد إطلاق فوقانيّ أحواليّ يتمسّك به في رفع احتمال دخل عدم الجلل في التذكية. وإن كانت التذكية أمراً بسيطاً جرى استصحاب عدمها نعتيّاً أو محموليّاً بحسب التفصيل الماضي، وفي قبال هذا

379

الاستصحاب يوجد استصحاب تعليقىّ؛ وذلك لأنّ هذا الحيوان قبل الجلل لو ذبح بنحو مخصوص لصار مذكّىً، فتستصحب هذه القضيّة التعليقيّة. فبناءً على أنّ الاستصحاب التعليقيّ حاكم على الاستصحاب التنجيزيّ يقدّم هذا الاستصحاب على ما عرفته من استصحاب عدم التذكية، وبناءً على كونه في عرض الاستصحاب التنجيزيّ ومعارضاً له يتعارضان، وبناءً على إنكار الاستصحاب التعليقيّ رأساً يجري استصحاب عدم التذكية بلا أيّ معارض.

هذا. واستصحاب القابليّة للتذكية قبل الجلل يرجع إلى ما ذكرناه من الاستصحاب التعليقيّ؛ إذ القابليّة أمر انتزاعيّ لا أثر لها، وإنّما العبرة بمنشأ انتزاعها وهو تلك القضيّة التعليقيّة، أي: أنّه لو ذبح لذكّي.

وإن فرضت موضوعيّة كما إذا شكّ في الجلل مع العلم بمانعيّته، فإن فرضت التذكية عبارة عن نفس الأعمال مع دخل عدم الجلل جزءاً أو قيداً، فالأعمال ثابتة بالوجدان، وعدم الجلل يثبت بالاستصحاب، وإن فرضت التذكية أمراً بسيطاً فإن كان ذلك الأمر البسيط حكماً شرعيّاً موضوعه مركّب من تلك الأعمال وعدم الجلل، فأيضاً يستصحب عدم الجلل، وبه يكتمل موضوع هذا الحكم، ويثبت بذلك الحكم وهو التذكية، وإن كان أمراً تكوينيّاً نظير الموت الناشئ من الضرب مع عدم الدرع فلا يجري استصحاب عدم الجلل، كما لا يجري في مثال الموت استصحاب عدم الدرع؛ إذ عدم الجلل ليس موضوعاً لحكم شرعيّ، وإنّما هو ملازم لأمر تكوينيّ وهو التذكية، وإثبات الحكم المترتّب على التذكية باستصحاب عدم الجلل تعويل على الأصل المثبت، والمرجع هنا استصحاب عدم التذكية.

وأمّا الفرض الرابع ـ وهو فرض الشكّ في إجراء تمام عمليّة التذكية على الحيوان ـ: فإن كانت الشبهة حكميّة كما إذا شكّ في اشتراط التسمية، فعندئذ إن

380

فرضت التذكية عبارة عن نفس الأعمال فلا مجال لاستصحاب عدم التذكية؛ لأنّ الشكّ في موضوعيّة الموجود، فنرجع إلى أصالة الحلّ والبراءة إن لم يوجد عموم فوقانيّ، وإن فرضت التذكية أمراً بسيطاً جرى استصحاب عدمه نعتيّاً أو محموليّاً بحسب التفصيل الماضي، وإن كانت الشبهة موضوعيّة جرى استصحاب عدم التذكية.

هذا تمام الكلام في الفروض الأربعة.

وليعلم أنّه مهما جرى استصحاب عدم التذكية فإنّما يترتّب عليه حرمة الأكل وعدم صحّة الصلاة في جلده، ولا يترتّب عليه نفي الطهارة بناءً على ما هو المختار عندنا في الفقه من أنّ ضدّ التذكية وهو الموت حتف الأنف موضوع للنجاسة، لا أنّ التذكية موضوع للطهارة، واستصحاب عدم أحد الضدّين لا يثبت وجود الضدّ الآخر، فالمرجع في الشكّ في الطهارة إلى استصحاب عدم الموت حتف الأنف وأصالة الطهارة، فنفكّك في ذلك بين الحلّيّة والطهارة، فنقول بحرمة أكله وطهارته. نعم، بناءً على أنّ الطهارة والنجاسة رتّبت على التذكية و عدمها تثبت النجاسة أيضاً.

بقي علينا ما وعدنا من الإشارة إلى ما هو الصحيح في البحثين الفقهيّين اللذين ترتّب عليهما الحكم فيما نحن فيه في جملة من الشقوق، فنقول:

أمّا أنّ التذكية هل اُخذت موضوعاً للحلّيّة بما هي مضافة إلى ذات الحيوان، أو بما هي مضافة إلى زاهق الروح، فالصحيح هو الثاني(1)، فإنّه الذي يظهر من أدلّة



(1) لا يخفى أنّه سيأتي في بحث الأصل المثبت مفصّلاً رجوع التقييد عادة إلى التركيب، ببيان يثبت ببعض جوانبه كون مثل قيد التذكية وزهاق الروح عرضيّين لا طوليّين، وأنّ الطوليّة الموجودة في لسان الدليل في أمثال ذلك ليست عدا مجرّد قالب صياغيّ لا أكثر من ذلك.

381

الباب، والأصل في ذلك الآية الشريفة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾(1). فقد ذكرت الآية عدّة أقسام من الحيوان الميّت، وتفهم من ذلك عرفاً الإشارة إلى جامعها،ثمّ استثنت المذكّى، فالمذكّى صار مستثنىً من الميّت وزاهق الروح لا من ذات الحيوان، وذلك ظاهر عرفاً في أخذ التذكية مضافة إلى زاهق الروح. وهكذا الحال في أخبار الباب، كما ورد(2) في فريسة الكلب والصقر والفهد من أنّه إذا أدركت حياته فهو حلال.

وأمّا أنّ التذكية هل هي أمر بسيط أو عبارة عن نفس الذبح؟ فقد ذهب المحقّق النائينيّ(قدس سره)إلى أنّها عبارة عن نفس العمليّة، ولعلّ هذا القول هو مختار المشهور، ويُستشَهد لهذا القول بتفسير اللغويّين للتذكية بالذبح وبنسبة التذكية إلى الذابح في لسان الروايات(3) الظاهرة في أنّها فعل مباشريّ له، وفي قبال ذلك قال بعض: بأنّ التذكية أمر بسيط مسبّب عن العمليّة، وأمّا الاستشهادان للقول الأوّل فقد ردّ أوّلهما بعدم حجّيّة قول اللغويّ، والثاني بأنّ المسبّب التوليديّ أيضاً ينسب عرفاً إلى الشخص حقيقة وبلا أيّ مؤونة وعناية.

والتحقيق: أنّ التذكية لا هي نفس العمليّة، ولا هي أمر بسيط مسبّب عن العمليّة، بل هي أمر بين الأمرين. وتوضيح ذلك: أنّ التذكية نسبت في جملة من الأخبار إلى الذابح(4)، وهذه الطائفة تناسب كون التذكية عبارة عن نفس الأعمال، كما



(1) سورة 5 المائدة، الآية: 3.

(2) راجع الوسائل، ج 16، ب 19 من الذبائح، ص 272 ـ 273.

(3) كما هو الحال في لسان القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾.

(4) من قبيل الحديث الرابع من ب 1 من الذبائح من المجلّد 16 من الوسائل، ص 253.

382

تناسب كونها أمراً بسيطاً، لكن في عديد من الأخبار اُطلقت الذكاة ولا يحتمل في موردها إرادة الذبح، ويعرف منها أنّ التذكية ليست مرادفة لمفهوم الذبح، ونشير بهذا الصدد إلى طوائف ثلاث من تلك الأخبار:

1 ـ ما ورد في كتاب الطهارة في مقام بيان عدم الانفعال بملاقاة اليابس(1) من أنّ اليابس ذكيّ(2)، فإنّ هذا ـ كما ترى ـ لا يحتمل فيه إرادة الذبح، وإنّما المقصود من الذكاة في ذلك: الطيب وملائمة الطبع وعدم التنفّر ونحو ذلك من العناوين.

2 ـ ما ورد في باب الجلود من أنّ الجلد الذكيّ يجوز الصلاة فيه(3)، فإن جعل الذكاة بمعنى الذبح صفة للجلد لا معنى له إلاّ بالتأويل وبلحاظ أنّه جلد الحيوان الذكيّ، وهو خلاف الظاهر، فالمراد بالذكاة فيه هو الطيب والطهارة.

3 ـ ما ورد فيما لا تحلّه الحياة من الميتة(4)، كالصوف والبيض من أنّه ذكيّ،


(1) ليس هذا هو المعنى المتعيّن في الحديث.

(2) راجع الوسائل، ج 1، ب 31 من أحكام الخلوة، ح 5، ص 248. وهو في الوسائل (الطبعة الحديثة) «زكيّ» بالزاء لا بالذال، وكذلك في الاستبصار (الطبعة الحديثة، ج 1،ح 167)، ولكن في التهذيب (الطبعة الحديثة، ج 1، ص 49، ح 141) بالذال، وجاء في لسان العرب (ج 2، بحسب الطبعة المنقسمة إلى ثلاثة مجلّدات، ص 36) عن الباقر(عليه السلام)«زكاة الأرض يبسها»، فهنا أيضاً مذكور بالزاء، ولكن في ج 1، ص 1073، ورد بالذال، وممّا يؤيّد كون الحديث ورد بالزاء لا بالذال أ نّي لم أرَ مورداً لاستعمال الذكاة بمعنى الطهارة في غير باب الحيوان وتوابعه كالبيض.

(3) راجع الوسائل، ج 3، ب 2 من لباس المصلّي، ح 2، ص 251، وح 8، ص252، وب 3، ح 3، ص 252.

(4) راجع الوسائل، ج 16، ب 33 من الأطعمة المحرّمة، ص 365، ح 3 و 4 و5،

383

فإنّ الذكاة بمعنى الذبح هنا لا معنى له حتّى بملاحظة التأويل الذي عرفته في الطائفة السابقة؛ إذ نفس الحيوان أيضاً ليس مذكّىً حتّى تطلق الذكاة على مثل الصوف والبيض بهذا اللحاظ.

ولعلّ المتفاهم عرفاً من الذكاة أيضاً هو الطيب والطهارة لا نفس الذبح. نعم، الذبح مصداق للتذكية وتحصيل للذكاة لا أنّه عين التذكية مفهوماً، والظاهر أنّ تفسير اللغويّين للتذكية بالذبح من باب تفسير المفهوم بالمصداق، لا من باب تفسير المفهوم بالمفهوم(1). والحاصل المستفاد ممّا عرفتها من الأخبار هو أنّ الذكاة عبارة عن أمر بسيط وهو الطيب والطهارة ونحو ذلك من العناوين.

هذا. وفي بعض الأخبار اُطلقت الذكاة على نفس العمليّة، فقيل: التسمية


وج 2، ب 68 من النجاسات، ح 2 و3، ص 1089. وقد اُضيفت في كتاب السيّد الهاشميّ (حفظه الله) على هذه الطوائف طائفة رابعة، وهي ما ورد في الجنين من أنّ ذكاته ذكاة اُمّه، راجع الوسائل، ج 16، ب 18 من الذبائح، ص 270 ـ 271.

(1) هذا الكلام بعيد من ظاهر كلمات اللغويّين جدّاً، فالظاهر منها خلافه. ويشهد لعدم كون الذكاة بمعنى الطيب والطهارة أنّه لم يستعمل في غير الحيوان وتوابعه. وورد في لسان العرب: (أنّ أصل الذكاة في اللغة كلّها إتمام الشيء، فمن ذلك الذكاء في السنّ والفهم، وهو تمام السنّ، قال: وقال الخليل: الذكاء في السنّ أن يأتي على قروحه ـ أي: على خروج نابه ـ سنة وذلك تمام استتمام القوّة).

والظاهر من اللغة أنّ الذكاة نفس العمليّة وهو حجّة، فخصوصيّة الحيوان إمّا شرط شرعيّ للتذكية، وإمّا شرط للطهارة والحلّ، والثاني أظهر. وأمّا استعمال الذكيّ في مثل السنّ والبيض من الميتة فباعتبار أنّ أثر تذكية الحيوان طهارته، وهذه الأشياء هي طاهرة وليس استعمالاً حقيقيّاً.

384

ذكاة(1)، أو إخراج السمك من الماء ذكاة(2)، ونحو ذلك، ومن هنا نعرف أنّ ذلك العنوان البسيط عنوان منطبق على نفس العمليّة، وعنوان الطيب والطهارة وإن كان في الحقيقة عنواناً اعتباريّاً يعرض على نفس الحيوان وتتّصف به نفس الحيوان لا الذبح وباقي خصوصيّات العمليّة، لكنّنا نعرف من إطلاق الذكاة في لسان الأخبار على نفس العمليّة أنّ الذبح جعل بالاعتبار فرداً للطيب والطهارة.

نعم، يمكن توجيه الأخبار بنحو آخر أيضاً، وهو أن يكون المقصود من كون التسمية مثلاً ذكاة، كونها سبباً للذكاة، لكنّ العناية الاُولى، وهي إيجاد الفرد الاعتباريّ للطهارة والذكاة أقرب عرفاً من العناية الثانية، ويكون الكلام ظاهراً في الأوّل.

فتحصّل: أنّ الذكاة عنوان بسيط منطبق على الأعمال ومنتزع منها لا نفس الأعمال مفهوماً ولا أمر مسبّب عنها، وهذا هو مختارنا أيضاً في باب الطهارات الثلاث.

بقي في المقام شيء، وهو: أنّ في أخبار الباب ما يوافق مضموناً استصحاب عدم التذكية وفيها ما يخالفه ولو بدواً:

أمّا ما يوافقه مضموناً، فكما ورد فيما اُرسِل إليه الكلب المعلَّم ثمّ رأى المُرسِل ذلك الحيوان مفترساً ولا يدري هل افترسه ذلك الكلب المعلَّم، أو افترسه حيوان آخر؟ من أنّه لا تحلّ تلك الفريسة ولا يؤكل منها حتّى يعلم أنّه هو الذي



(1) الوسائل، ج 16، ب 1 من الصيد، ح 4، ص 208، وورد أيضاً في الصيد الذي يصيده الكلب: (قتله ذكاة)، راجع الوسائل، ج 16، ب 2 من الصيد، ح 1، ص 209.

(2) الوسائل، ج 16، ب 31 من الذبائح، ح 8، ص 297، وب 34 من الذبائح، ح 2، ص 302.

385

افترسها(1)، وكما ورد في من رمى طائراً فقتل الطائر وشكّ في أنّه هل قُتل بهذه الرمية أو بشيء آخر؟ من أنّه لا يحلّ ذلك الطائر(2). والصحيح أنّ هذه الأخبار وإن كانت موافقة مضموناً للاستصحاب لكنّها مع ذلك ليست شاهدة للقول باستصحاب عدم التذكية؛ إذ لا قرينة فيها على أنّ حكمها بالحرمة يكون بملاك الاستصحاب، فلعلّها حكمت بالحرمة على مستوى الحكم بالحلّيّة في أصالة الحلّ والبراءة وبقطع النظر عن الحالة السابقة(3).

وأمّا ما يخالفه مضموناً ولو بدواً، فكما ورد من سؤال الراوي عن أنّه رمى طائراً ليصطاده، ثمّ شكّ في التسمية، فأجاب(عليه السلام): بأنّه يأكله(4)، فحكمه بالحلّ هنا ينافي استصحاب عدم التذكية، فيمكن الاستيناس بذلك لإنكار استصحاب عدم التذكية.

والتحقيق: أنّ هذا أيضاً ليس شاهداً على خلاف استصحاب عدم التذكية، وذلك لإبداء احتمالين آخرين في المقام:

الأوّل: أن يكون حكمه(عليه السلام) بالحلّ بملاك قاعدة الفراغ، وقد ثبت في محلّه تقدّم قاعدة الفراغ على الاستصحاب.

والثاني: ما يبطل الاحتمال الأوّل أيضاً، وهو أن تكون الحلّيّة المذكورة في هذا الحديث حلّيّة واقعيّة، وتوضيح ذلك: أنّ المنصرف من هذا الحديث أنّ التسمية على فرض كونها متروكة إنّما تركت نسياناً لا عمداً، كما هو مورد قاعدة الفراغ



(1) راجع الوسائل، ج 16، ب 5 من الصيد، ص 215.

(2) راجع الوسائل، ج 16، ب 18 و 19 من الصيد، ص 230 ـ 232.

(3) فلا يمكن مثلاً التعدّي إلى موارد الشكّ في القابليّة.

(4) راجع الوسائل، ج 16، ب 25 من الصيد، ص 237.

386

أيضاً، فإنّ موردها فرض دوران الأمر بين الفعل والترك عن نسيان لا بين الفعل والترك العمديّ، وقد وردت روايات(1) تدلّ على أنّ التسمية شرط ذكري وتسقط بالنسيان، وعلى هذا فحلّيّة هذا الطائر تكون واقعيّة؛ إذ الأمر دائر بين أنّه سمّى أو لم يسمِّ نسياناً، فإن سمّى فقد حصلت التذكية قطعاً، وإن نسي فقد حصلت التذكية أيضاً؛ لأنّ التسمية ليست شرطاً في حال النسيان.

وقد تحصّل: أنّه ليس في أخبار الباب ما يؤيّد استصحاب عدم التذكية ولا ما يفنّده.

 



(1) راجع الوسائل، ج 16، ب 15 من الذبح، ص 267، وب 12 من الصيد، ص 225 ـ 226.

387

 

بحثان حول الاحتياط

التنبيه الثاني: في حال الاحتياط بعد أن فرغنا من إبطال قول الأخباريّ بوجوبه في الشبهات البدويّة. والكلام هنا يقع في مقامين:

أحدهما: في حكم الاحتياط في الشبهات البدويّة شرعاً.

وثانيهما: في البحث عن صغرىً من صغريات الاحتياط وهي الاحتياط في العبادات.

 

1 ـ استحباب الاحتياط

أمّا المقام الأوّل ـ وهو في البحث عن حكم الاحتياط في الشبهات البدويّة ـ: فيقال في المقام باستحباب الاحتياط شرعاً، ولعلّ هذا ما ذهبت إليه جمهرة الاُصوليّين، ويستدلّ على ذلك بالأخبار الآمرة بالاحتياط بعد صرفها عن الوجوب بواسطة أخبار البراءة، أو بقرائن اُخرى إن لم نقل ـ كما مضى منّا ـ بأنّ بعض أخبار الاحتياط يدلّ ابتداءً على الاستحباب.

وذهب جملة من المحقّقين ومنهم المحقّق النائينيّ(رحمه الله)إلى أنّ أخبار الأمر بالاحتياط محمولة على الإرشاد إلى حكم العقل، لعدم معقوليّة تعلّق الأمر المولويّ به. والوجه في عدم معقوليّة استحبابه شرعاً أحد تعبيرين:

التعبير الأوّل: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) وهو عبارة عن تطبيق قانون على ما نحن عليه نقّحه(قدس سره) في اُصوله، وذلك القانون عبارة عن أنّ الحسن والقبح العقليّين إذا تعلّقا بشيء بقطع النظر عن الحكم الشرعيّ، كحسن العدل وقبح الظلم يعقل صيرورتهما منشأً للحكم الشرعيّ، وإذا تعلّقا بشيء في طول الحكم الشرعيّ وكانا في سلسلة معلولات الأحكام، كحسن الطاعة وقبح المعصية استحالت صيرورتهما منشأً للحكم الشرعيّ، فطبّق(قدس سره)هذا القانون على ما نحن فيه لأجل أنّ

388

الاحتياط يكون في طول الأوامر الواقعيّة وبلحاظها، فتستحيل صيرورة حسنه العقليّ منشأً لاستحبابه الشرعيّ.

أقول: إنّ التكلّم في أصل هذا القانون كبرويّاً قد مضى في بحث التجرّي، وأثبتنا هناك بطلانه، وهنا نغضّ النظر عن بطلانه كبرويّاً ونتكلّم في تطبيقه صغرويّاً على ما نحن فيه، فنقول: إنّ تطبيقه على ما نحن فيه غير صحيح لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الاحتياط الذي يحكم العقل بحسنه إنّما هو الاحتياط بداعي المولى بأن يطلب بالاحتياط إحراز الواقع بقصد القربة وامتثال الأمر الاحتمالىّ، والاحتياط الذي أمر به في الأخبار لم يؤخذ فيه قصد القربة، فإنّ قصد القربة خارج عن مفهوم الاحتياط، وإنّما الاحتياط عبارة عن ملاحظة أطراف الشبهة بالفعل أو الترك والتخلّص عن مخالفته، سواء كان ذلك لله وبداعي إطاعة الأمر الاحتماليّ، أو لشيء آخر، كأمر الوالد أو إعطاء شخص مالاً له بإزاء ذلك، فما أمرت به الأخبار غير ما حكم بحسنه العقل، حيث إنّ الأخبار أمرت بذات الاحتياط، وما حكم العقل بحسنه هو الاحتياط بداعي المولى، حيث إنّ العقل يرى كلّ تقرّب إلى المولى حسناً، فليس المأمور به في الأخبار داخلاً في دائرة القانون الذي نقّحه(قدس سره)في موارد حكم العقل بالحسن والقبح.

الوجه الثاني: أنّ حسن الاحتياط وإن كان ـ على ما نقّحه من القانون ـ يستحيل أن يكون ملاكاً للحكم بالاستحباب، لكن لنا أن ندّعي استحباب الاحتياط لا بمعنى الاستحباب النفسيّ بملاك حسنه، بل بمعنى الاستحباب الطريقيّ(1) الذي



(1) والذي أنكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في المقام ـ بناءً على قاعدته ـ إنّما هو الاستحباب الطريقيّ. أمّا فرض الاستحباب النفسيّ فلم يمنع عنه. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 204، ومصباح الاُصول، ج 2، ص 317.

389

يكون ملاكه عين ملاكات الأحكام الواقعيّة، فيحكم المولى باستحباب الاحتياط من باب مطلوبيّته الطريقيّة لأجل التحفّظ على ملاكات الواقع بمقدار ما يؤدّيه الاستحباب من التحفّظ، بل لو قطع النظر عن مطلوبيّته الطريقيّة وفرضت ملاكات الواقع ضعيفة إلى درجة لا تقتضي أيّ تحفّظ عليها في حال الشكّ لما حكم العقل بحسنه، وإنّما يحكم العقل بحسنه عند ترقّب مطلوبيّته واحتمالها على الأقلّ.

وخلاصة الكلام: أنّه يمكن أن يدّعى في المقام أنّ أخبار الاحتياط تحمل على الاستحباب المولويّ الطريقيّ. أمّا كونه مولويّاً، فلأنّ ظاهر أوامر الشارع هو المولويّة، وحملها على الإرشاد يحتاج إلى قرينة، ولا قرينة في المقام. وأمّا كونه طريقيّاً فتدلّ عليه نفس مادّة الاحتياط التي اُخذ في مفهومها التحفّظ على الواقع.

التعبير الثاني: أنّ جعل الاستحباب للاحتياط لغو؛ إذ يكفي في تحريك العبد نحو الاحتياط احتمال الأمر الواقعيّ؛ لحكم العقل عندئذ بحسن الاحتياط، ومن لم يتحرّك بذلك لا يتحرّك باستحباب الاحتياط أيضاً.

والجواب: أنّ استحباب الاحتياط إمّا يفرض نفسيّاً، وإمّا يفرض طريقيّاً:

فإن فرض نفسيّاً: فلا مجال لإشكال اللغويّة؛ لأنّ الاستحباب النفسيّ للاحتياط يوجب تأكّد المحرّكيّة نحوه؛ لاجتماع ملاكين فيه للمحرّكيّة، أحدهما ملاك الواقع، والآخر ملاك نفس الاحتياط، كما هو الحال في جميع موارد اجتماع ملاكين وأمرين في شيء واحد، فإنّه يحصل التأكّد في الملاك والحكم، وبالتالي يتأكّد حكم العقل بالانبعاث.

وإن فرض طريقيّاً: فأيضاً لا مجال لإشكال اللغويّة، وتوضيحه: أنّ ملاك الأمر بالاحتياط هو عين ملاك الواقع، فتارةً يفرض ملاك الواقع في غاية الأهمّيّة، بحيث لا يرضى المولى بفوته حتّى في حال الشكّ، فيبرز إيجاب الاحتياط، واُخرى يفرض في غاية الضعف، بحيث لا يفرّق في حال المولى بين الاحتياط

390

في حال الشكّ وعدمه، فيبرز عدم مطلوبيّة الاحتياط ولو استحباباً، وثالثة يفرض اهتمامه به بدرجة استحباب الاحتياط، وعندئذ يبرز استحباب الاحتياط. وفائدة هذا الإبراز هي المنع عن أن يصل إلى العبد عدم مطلوبيّة الاحتياط وصولاً جزميّاً من باب الاشتباه فلا يبقى له محرّك بالنسبة للاحتياط، أو وصولاً احتماليّاً فيضعف تحريكه بالنسبة للاحتياط.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: عدم محذور في جعل استحباب الاحتياط، وقد مضى استظهار الاستحباب الطريقيّ للاحتياط من الأخبار. نعم، يظهر من بعض الأخبار الاستحباب النفسيّ كقوله: «مَن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومَن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك»، فإنّ هذا يدلّ على أنّ ملاك ترك شرب التتن المحتمل حرمته مثلاً، هو حصول ترك المحرّمات وأن لا يقع بالتدريج في ارتكاب المحرّمات القطعيّة، لا التحرّز عن الحرمة الواقعيّة لشرب التتن، ولا بأس بالالتزام بكلا الاستحبابين لكلتا الطائفتين من الأخبار لو صحّت أسانيد تلك الأخبار.

 

2 ـ تصوير الاحتياط في العبادات

وأمّا المقام الثاني ـ وهو البحث الصغرويّ ـ: فقد وقع الإشكال في تصوير الاحتياط في العبادات بعد الفراغ عن تصويره في المعاملات من ناحية أنّ الاحتياط لابدّ فيه من حصول الغرض المقصود من الواقع المحتاط لأجله، والغرض في باب العبادات لا يحصل إلاّ مع قصد الأمر، وقصد الأمر مع الشكّ فيه لا يمكن إلاّ بالتشريع الفعليّ، ولا فرق في حرمة التشريع الذي هو إسناد ما لا يعلم أنّه من المولى إلى المولى بين التشريع القولي بأن يسند بالقول شيئاً إلى المولى لا يعلم أنّه منه والتشريع الفعليّ بأن يعمل عملاً بقصد أنّه مأمور به من قِبل المولى وهو لا يعلم بذلك، وبهذه الحرمة تبطل العبادة. هذا هو التصوير الابتدائيّ للإشكال.

391

وتحقيق الحال: أنّه تتصوّر فقهيّاً في المقام فروض ثلاثة:

1 ـ أن يكفي في صحّة العبادة مطلق الداعي القربي بما فيه داعي الأمر الاحتماليّ.

2 ـ أن يشترط في صحّة العبادة قصد الأمر الجزميّ المتعلّق بذات العمل ابتداءً.

3 ـ أن يشترط في صحّة العبادة قصد الأمر الجزميّ، سواء كان متعلّقاً بذات العمل ابتداءً، أو بعنوان الاحتياط.

أمّا على الفرض الأوّل: فلا مجال لتوهّم الإشكال في المقام؛ إذ إتيان العمل بداعي احتمال الأمر بمكان من الإمكان من دون تشريع، ولا يشترط القصد الجزميّ للأمر حتّى يلزم التشريع عند عدم العلم به، فلا مورد لتوهّم الإشكال هنا أصلاً بلا فرق في ذلك بين فرض كون الحاكم بلزوم قصد الأمر هو العقل، لاستحالة أخذه في المتعلّق وفرض كونه مأخوداً في المتعلّق، فإنّ قصد الأمر الاحتماليّ ممكن من دون أثر لسنخ الحاكم بلزوم ذلك في المقام. وهذا الفرض الأوّل هو الصحيح كبرىً وصغرىً:

أمّا الكبرى: فتنقيحها موكول إلى الفقه، وهي أنّه لا يحتمل فقهيّاً اشتراط أزيد من مطلق الداعي القربيّ في باب العبادات.

وأمّا الصغرى: فلما مضى في محلّه من أنّ الانبعاث من الصورة الاحتماليّة لأمر المولى أيضاً تقرّب إلى المولى؛ وذلك لأنّ الانبعاث من ذلك مظهر للإخلاص ذاتاً لا جعلاً حتّى نحتاج إلى دليل على الجعل، وكلّ ما هو مظهر للإخلاص للمولى يوجب التقرّب إلى المولى ذاتاً أيضاً، ولم ينازع أحد في كون الانبعاث من الأمر الاحتماليّ تقرّباً إليه تعالى. نعم، ذهب بعض كالمحقّق النائينيّ(قدس سره) إلى أنّ هذا التقرّب في طول التقرّب بالأمر الجزميّ، أي: أنّه مع التمكّن من التقرّب بقصد الأمر الجزميّ لا يمكن التقرّب بقصد الأمر الاحتماليّ، وبعض آخر كالشيخ

392

الأعظم(رحمه الله)إلى عدم كفاية هذا التقرّب مع التمكّن من التقرّب بالأمر الجزميّ. وعلى أيّ حال فلا إشكال فيما نحن فيه؛ إذ المفروض عدم إمكان قصد الأمر الجزميّ.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا إشكال في الاحتياط في العبادات أصلاً، والإنصاف أنّه لولا جريان الإشكال على قلم الشيخ الأعظم(قدس سره)لم يكن داع للتكلّم في هذا البحث أصلاً، إلاّ أنّه جرى على قلمه(رحمه الله)فبقي هذا البحث في علم الاُصول.

وأمّا على الفرض الثاني: فلا مجال لتوهّم عدم الإشكال في الاحتياط في العبادات؛ إذ المفروض اشتراط قصد الأمر الجزميّ في المقام، ولا أمر جزميّ هنا، ولا يكفي الأمر الجزميّ بالاحتياط؛ لأنّ المفروض اشتراط قصد الأمر الجزميّ بذات العمل ابتداءً، وعليه فيتقيّد ـ لا محالة ـ دليل وجوب تلك العبادة بغير صورة الشكّ؛ إذ تشترط في التكليف القدرة، والشكّ هنا مساوق لعدم القدرة، ولا يفرّق أيضاً على هذا الفرض بين القول بأخذ قصد الأمر في متعلّقه، والقول بكون الحاكم به هو العقل، فإنّه لا أمر جزميّ هنا متعلّق بذات العمل ابتداءً حتّى يمكن قصده بلا أثر لاختلاف طبيعة الحاكم بلزوم هذا القصد في ذلك.

وأمّا على الفرض الثالث: فيمكن أن يقال بإمكان الاحتياط نظراً إلى وجود الأمر الجزميّ بالاحتياط، والمفروض كفاية قصد طبيعيّ الأمر الجزميّ، فيقصد الأمر الجزميّ المتعلّق بالاحتياط.

ولكن قد يقال ببطلان الاحتياط في المقام، وأنّ الأمر الجزميّ المتعلّق بالاحتياط لا يصحّح الاحتياط؛ إذ هو عارض على الاحتياط، فتقوّم الاحتياط به يوجب الدور أو ما يشبه الدور، وبكلمة اُخرى يجب تصحيح الاحتياط في الرتبة السابقة على الأمر كي يعرض عليه الأمر.

393

والتحقيق في المقام: أنّ الأمر بالاحتياط تارةً يفرض نفسيّاً، واُخرى يفرض طريقيّاً:

فإن فرض الأمر بالاحتياط نفسيّاً: قلنا: إنّ المبنى في بحث التعبّديّ والتوصّليّ إمّا هو استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، وأنّ الحاكم بلزوم قصد الأمر إنّما هو العقل، أو عدم استحالته، وأنّ قصد الأمر داخل تحت الخطاب.

فإن كان المبنى هو الأوّل: فقد يقال في المقام: إنّ الأمر بالاحتياط هنا غير معقول؛ إذ هذا الأمر إمّا أن يفرض تعلّقه بذات العمل، أو يفرض تعلّقه بالعمل بقصد الأمر. فإن فرض الأوّل كان خلفاً؛ إذ ذات العمل بلا قصد الأمر لا يترتّب عليه الغرض حتّى يتحقّق الاحتياط. وإن فرض الثاني لزم أخذ قصد الأمر في متعلّقه، وبكلمة اُخرى: إنّ الاحتياط أصبح مقيّداً بقصد الأمر، فهو ينحلّ إلى ذات العمل وتقيّده بقصد الأمر، فالأمر به يكون محالاً؛ لأنّه يلزم من ذلك أخذ قصد الأمر في متعلّقه.

ولكنّ هذا مدفوع بأنّنا نختار الشق الأوّل، ولا يرد عليه إشكال. وتوضيحه: أنّ قصد الأمر بالاحتياط وإن كان المفروض استحالة أخذه في متعلّقه لكنّ ذلك الأمر الواقعيّ الذي يحتاط لأجله أيضاً يستحيل أخذ قصده في متعلّقه، فمتعلّق الأمر العباديّ الواقعيّ هو ذات العمل، وحيث إنّ الاحتياط يكون بلحاظ متعلّق الأمر الواقعيّ يكون متعلّق الأمر به أيضاً ذات العمل المحتمل وجوبه، وكما أنّه في الأمر الأوّل بالرغم من تعلّقه بذات العمل عرفنا لزوم قصد الأمر في العمل بحكم العقل من باب تحصيل الغرض، كذلك في الأمر الثاني عرفنا لزوم قصد الأمر بالاحتياط في الاحتياط بحكم العقل من باب تحصيل الغرض. وبهذا يبطل أيضاً التعبير عن الإشكال بأنّ الأمر بالاحتياط عارض على الاحتياط فلا يتقوّم الاحتياط به، فإنّ متعلّقه الذي عرض هذا الأمر عليه عبارة عن نفس العمل، لا العمل بقصد الأمر حتّى يلزم تقوّمه بهذا الأمر.

394

وإن كان المبنى في بحث التعبّديّ والتوصّليّ هو الثاني ـ أعني: كون قصد الأمر تحت الخطاب مأخوذاً في متعلّق الأمر ـ: فلا إشكال أيضاً في الاحتياط فيما نحن فيه؛ إذ ليس فيه محذور وراء الإشكالات التي تورد على قصد الأمر في متعلّقه من أنّه يلزم تقوّم المتعلّق الذي هو معروض للأمر بذلك الأمر ونحو ذلك، والمفروض حلّ الإشكالات والبناء على جواز أخذ قصد الأمر في متعلّقه.

هذا، والصحيح في بحث التعبّديّ والتوصّليّ هو إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه(1)، وما مضى هنا من أنّ الأمر بالاحتياط عارض على الاحتياط فكيف يتقوّم الاحتياط به؟ هو بنفسه إشكال يتكلّم عنه في بحث التعبّديّ والتوصّليّ، حيث يقال: إنّ قصد الأمر إن اُخذ في متعلّق الأمر الذي هو معروض للأمر ومتقدّم عليه لزم تقوّم هذا المتعلّق بعارضه وتأخّره عنه رتبة، وهذا الإشكال لا محصّل له؛ إذ نقول فيما نحن فيه مثلاً: إنّه إذا توقّفت صحّة الاحتياط على الأمر به فهل يدّعى أنّه يلزم من ذلك تأخّر الوجود الذهنيّ للاحتياط في اُفق التشريع رتبة من الأمر به، أو يدّعى أنّه يلزم من ذلك تأخّر الوجود الخارجيّ للاحتياط رتبة من الأمر به، أو يدّعى أنّه يلزم تأخّر إمكان الاحتياط رتبة من الأمر به؟

فإن ادّعي الأوّل: فذلك واضح البطلان؛ إذ الوجود الذهنيّ للاحتياط غير متوقّف على تحقّق الأمر وغير متأخّر عنه، والأمر يتعلّق به بحسب اُفق النفس، فيكون مقدّماً على ذلك الأمر في اُفق النفس رتبة من دون أن يلزم تأخّر في المقام أصلاً.



(1) ولو إثباتاً.

395

وإن ادّعي الثاني: فلا مانع من أن يتأخّر الاحتياط الخارجيّ رتبة من الأمر به، بل كلّما أوجب بشيء تحرّك العبد نحو ذلك الشيء وإتيانه به، كان ذلك العمل الخارجيّ متأخّراً عن الأمر به ومسبّباً عنه.

وإن ادّعي الثالث: فعليه تكون للدور صورة في المقام؛ إذ يقال: إنّ القدرة على الاحتياط متوقّفة على فعليّة الأمر؛ لأنّ المفروض أنّه يشترط فيه قصد الأمر، وفعليّة الأمر متوقّفة على القدرة على الاحتياط توقّف المشروط على شرطه وفعليّة الحكم على موضوعه، فيلزم الدور، وهذا بنفسه أحد ألوان الإشكال في مبحث أخذ قصد الأمر في متعلّقه.

والجواب: أنّ اشتراط الأمر بالقدرة على المتعلّق إنّما هو بحكم العقل، وحكم العقل في المقام يكون بملاك أنّه مع عدم القدرة يستحيل التحريك، فيكون الأمر لغواً حينئذ، وبحسب الحقيقة يكون الأمر مشروطاً بقابليّته للتحريك، وقابليّته للتحريك إنّما هي موقوفة على القدرة من غير ناحية الأمر ـ أي: أنّ المانع من الأمر ليس هو طبيعيّ العجز، بل تلك الحصّة من العجز التي لا ترتفع بالأمر ـ ولذا لو كان نفس توجّه الأمر بالمشي إلى المشلول مؤثّراً تكويناً في برء شلله لم يكن مجال لتوهّم بطلان هذا الأمر أصلاً.

وإن فرض الأمر بالاحتياط طريقيّاً: فصحّة الاحتياط هنا وعدمها تتوقّف على فهم ما هو المراد من لزوم قصد الأمر الجزميّ. فإن كان المقصود الأمر الحقيقيّ الجزميّ فهنا ليس لنا أمر جزميّ؛ إذ أمر ذات العبادة مشكوك، والأمر بالاحتياط طريقيّ روحه وجوهره هو الأمر بذات العبادة المفروض كونه مشكوكاً. وإن كان المقصود مطلق الأمر الجزميّ ـ ولو كان طريقيّاً ـ لا يوجد له مبادئ في متعلّقه، فهذا الأمر ثابت هنا فيصحّ الاحتياط بلحاظه.

هذا ما يقتضيه تحقيق الكلام في المقام الثاني.

396

 

مفاد أخبار (مَن بلغ)

وفي نهاية هذا التنبيه وتعقيباً على ما عرفته من المقامين نبحث هنا عن مفاد أخبار (مَن بلغ)، حيث إنّها تنظر إلى العمل برجاء موافقة الواقع في فرض الشكّ في الحكم، فيناسب البحث عنها في هذا التنبيه، فنقول:

قد وردت روايات عديدة بمضمون: (إنّ من بلغه شيء من الخير والثواب فعمله كان له ذلك الثواب وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله).

 

1 ـ تصوير مفادها ثبوتاً:

ونذكر بدواً في تصوير مفاد هذه الروايات احتمالات أربعة:

1 ـ كون المقصود منها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط والانبعاث من المطلوبيّة الاحتماليّة، حيث إنّ مفروض الأخبار هو العمل برجاء المطابقة. أمّا فيما صرّح منها برجاء الثواب فواضح، وأمّا فيما لم يصرّح منها بذلك فيستفاد ذلك من (الفاء) في قوله: (فعمله).

2 ـ كون المقصود جعل استحباب نفسيّ موضوعه البلوغ.

3 ـ كون المقصود منها جعل الحجّيّة للخبر الضعيف في المستحبّات، وهذا هو المناسب لتعبير التسامح في أدلّة السنن.

4 ـ كون المقصود مجرّد الوعد لمصلحة في نفس الوعد بإعطاء ذلك الثواب، وبعد حصول الوعد نقطع بالوفاء لا محالة.

والفرق بين هذه الاحتمالات الأربعة واضح، فعلى الأخير تشتمل الأخبار على مجرّد الوعد لمصلحة في نفس الوعد، في حين أنّه على باقي الاحتمالات تكون تلك الأخبار بداعي الحثّ والترغيب الناشئ من ملاك في نفس العمل.

397

ويفترق الاحتمال الأوّل عن الثاني والثالث بأنّه على الأوّل يكون الترغيب صادراً من الشارع بما هو عاقل لا بما هو مولىً، وعلى الثاني والثالث يكون صادراً عنه بما هو مولىً. وأمّا الفرق بين الثاني والثالث فهو أنّ الترغيب في الثاني يكون بملاك نفسيّ بعنوان البلوغ في نفس هذا العمل وإن كان الخبر مخالفاً للواقع، وفي الثالث يكون طريقيّاً وبملاك العمل بالواقع. وبكلمة اُخرى: أنّ الحكم في الثاني حكم واقعيّ لعنوان ثانويّ، وفي الثالث حكم ظاهريّ لعنوان أوّليّ.

ولكن يوجد في رسالة منسوبة إلى الشيخ الأعظم(قدس سره) مؤلّفة في بحث قاعدة التسامح في أدلّة السنن الإشكال في تصوير الفرق بين الوجه الثاني والثالث، وذلك باعتبار أنّ الحكم الظاهريّ لمّا كان عبارة عن جعل الحكم المماثل فمرجع الوجه الثالث إلى قضيّة شرطيّة شرطها بلوغ الثواب وجزاؤها حكم مماثل لما أدّاه الخبر، والحكم المماثل لما أدّاه الخبر عبارة عن الاستحباب الذي هو الوجه الثاني، فأيّ فرق بينهما؟ نعم، إذا كان الحكم الظاهريّ عبارة عن شيء آخر غير الحكم المماثل، كالتنجيز والتعذير وتتميم الكشف ونحو ذلك فهو يفترق عن جعل الاستحباب.

وسواء كان هذا الكلام صادراً من الشيخ الأعظم(قدس سره)، أو لا فهذا كلام يناسب الذوق الاُصوليّ العامّ في تصوير الحكم الظاهريّ من كونه عبارة عن أحد هذه الاُمور من جعل الحكم المماثل، أو التنجيز والتعذير، أو تتميم الكشف، ونحو ذلك. وأمّا على المختار من أنّ هذه كلّها ألسنة مختلفة وألوان من الكلام تكشف عن شيء واحد وهو اهتمام المولى ببعض الأغراض دون بعض عند تزاحمها، فالفرق بين الوجه الثاني والثالث في غاية الوضوح؛ إذ في الوجه الثاني يكون الاستحباب نفسيّاً ناشئاً من ملاك في ذات العمل بما ينطبق عليه من العنوان الثانويّ، وفي الوجه الثالث يكون الاستحباب طريقيّاً وبداعي الاهتمام بالملاك الموجود في

398

المستحبّات الواقعيّة من دون أن يفرض في نفس هذا العمل بعنوان البلوغ أيّ ملاكومطلوبيّة. هذا بناءً على ما هو المختار في الفرق بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، فنفس ذاك الفرق المختار طبّقناه في المقام لتوضيح الفرق بين الوجه الثاني والوجه الثالث. وأمّا على القول بأنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن جعل الحكم المماثل فأيضاً نقول: إنّ أيّ شيء يفترضه صاحب هذا القول فارقاً بين هذا الحكم المماثل الظاهريّ والحكم الواقعيّ يمكن افتراضه في المقام.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الوجه الثاني والثالث يختلف أحدهما عن الآخر ذاتاً.

نعم، أنكر السيّد الاُستاذ وجود ثمرة فقهيّة بينهما؛ إذ على أيّة حال يفتي الفقيه بالاستحباب إمّا لعنوان البلوغ وجداناً، أو لهذا الخبر الضعيف الذي ثبتت حجّيّته تعبّداً، فلا فرق بينهما فيما يهمّ الفقيه، ثمّ ذكر السيّد الاُستاذ: أنّ بعض المحقّقين حاول إبراز الفرق بينهما بأنّه إن ورد خبر ضعيف يدلّ على استحباب شيء كالمشي بعد الطعام مثلاً، وورد خبر صحيح يدلّ على حرمته، فعلى الثالث يكون الخبر الضعيف حجّة ومعارضاً للخبر الصحيح، وعلى الثاني ليس الأمر كذلك، بل يكون الفعل بعنوانه الأوّليّ حراماً وبعنوان بلوغ استحبابه مستحبّاً، فيدخل ذلك في باب تزاحم الملاكين والمقتضيين للحكم لا في باب التعارض. وأجاب السيّد الاُستاذ عن ذلك بأنّ أخبار (مَن بلغ) لا تشمل فرض بلوغ الثواب في مورد بلغ العقاب فيه أيضاً، فمثل هذا الفرض خارج عن أخبار (مَن بلغ) رأساً.

 

ثمرات الفرق بين الحجّيّة والاستحباب النفسيّ:

أقول: تظهر بين الوجهين ثمرات عديدة:

الاُولى: أنّه في بعض الفروض يتحقّق التعارض بناءً على الوجه الثالث بخلاف الوجه الثاني، ونذكر تحت هذا العنوان موردين:

1 ـ أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب شيء وخبر صحيح على عدم استحبابه