349

 

الأمر بالاحتياط في وقائع معيّنة:

وأمّا الطائفة الثالثة ـ وهي الآمرة بالاحتياط في وقائع معيّنة ـ: فيمكن إدراج روايتين تحت هذا العنوان:

الرواية الاُولى: رواية عبد الله بن وضّاح قال: كتبت إلى العبد الصالح: (يتوارى عنّا القرص، ويقبل الليل، ويزيد الليل ارتفاعاً، ويستر عنّا الشمس، ويرتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذّن عندنا المؤذّن، فاُصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً، أو انتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟) فكتب: «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائط لدينك»(1).

وظاهرالسؤال في هذه الرواية أنّ إشكال السائل في دخول وقت الصلاة والإفطار كان من ناحية هذه الحمرة المرتفعة فوق الجبل، وهذه الحمرة التي صارت منشأً للسؤال فيها احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أن تكون هذه الحمرة هي الحمرة التي يبتدئ بها الشفق المقارنة لآخر وجود قرص الشمس، فإنّ قرص الشمس بعد أن يفقد صولته يحاط بلون من النور الباهت، وهذا اللون من النور يسمّى بالحمرة، فهذا السائل رأى حمرة مرتفعة فوق الجبل بعد أن فقد قرص الشمس، فاحتمل أن تكون هذه الحمرة حمرة موجودة بتبع وجود قرص الشمس خلف الجبل، وأنّه إنّما لا يرى قرص الشمس باعتبار مانعيّة الجبل عن رؤيته، وهذا الاحتمال منطبق على عبارة السؤال في الرواية انطباقاً تامّاً، حيث إنّه فرض في السؤال وجود الجبل، ولا ترى



(1) الوسائل، ج 3، ب 16 من المواقيت، ح 14، ص 129، وجاء مختصر منه فيج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 37، ص 122.

350

لفرض وجود الجبل نكتة أحسن من احتمال وجود الشمس خلفه، ولو فرض أنّ المراد بالحمرة هي الحمرة المشرقيّة مثلاً، فهذا لا يفرّق فيه بين الأرض المسطّحة والأرض التي فيها جبل، وكيفيّة التعبير عن غيبوبة القرص أيضاً تناسب هذا الاحتمال، حيث فرض أنّه يتوارى عنّا القرص ويستر عنّا الشمس، ولم يفرض تواري القرص في نفسه واستتاره، وهذا التعبير يناسب الشكّ في أنّ الاستتار هل هو لحائل، أو أنّه استتار في نفسه. وليس مقصودي أنّ هذا التناسب أوجد ظهوراً للكلام في كون المقصود الشكّ في حقيقة الاستتار دون فرض العلم بكونه استتاراً في نفسه، وإنّما المقصود مجرّد أنّ هذا التعبير يلائم هذا الاحتمال تمام الملائمة.

إلاّ أنّ العبارة التي قد يقال: إنّها لا تنسجم مع هذا الاحتمال هي قوله: (ويقبل الليل، ويزيد الليل ارتفاعاً)؛ إذ مع إقبال الليل وزيادته ارتفاعاً كيف يفرض الشكّ في غروب القرص؟

إلاّ أنّ عدم انسجامها مبنيّ على أن يراد بالليل في المقام الزمان. أمّا لو فرض أنّه كنّى عن الظلمة بالليل خصوصاً باعتبار احتمال كون هذه الظلمة ظلمة ليليّة، فهذا التعبير تعبير عرفيّ في المقام، ومنسجم مع ما ذكرناه من الاحتمال.

وبناءً على هذا الاحتمال يكون المورد مورد أصالة الاشتغال واستصحاب عدم دخول الوقت، ويكون الاحتياط على القاعدة، والشبهة تكون موضوعيّة.

الاحتمال الثاني: أن تكون هذه الحمرة عبارة عن الحمرة المغربيّة، فكأنّ السائل يحتمل أنّ صلاة المغرب لابدّ في دخول وقتها من زوال الحمرة المغربيّة، كما يقول بذلك الخطّابيّون. وعلى هذا الاحتمال لابدّ من ردّ الرواية إلى أهلها؛ لأنّها تكون إمضاءً بوجه من الوجوه ـ إمّا بلحاظ الحكم الواقعيّ، أو بلحاظ الحكم الظاهريّ ـ لعمل الخطّابيّين من الانتظار إلى ذهاب الحمرة المغربيّة، وبطلان هذا المطلب من ضروريّات الفقه، وقد جاء في الروايات العديدة والصحيحة سنداً التبرّي واللعن بالنسبة لهم على مثل هذه البدع.

351

الاحتمال الثالث: أن تكون هذه الحمرة هي الحمرة المشرقيّة، ويفرض الجبل في جهة المشرق، والسائل احتمل أنّ الوقت لا يدخل إلاّ بذهاب الحمرة المشرقيّة، كما احتمل أنّ الوقت يدخل بمجرّد غروب الشمس.

وعلى هذا قد يقال: إنّ هذا الجواب لابدّ من الالتزام بحمله على غير محمل الجدّ؛ إذ لو كانت غيبوبة القرص كافية في المقام فلماذا يأمر الإمام(عليه السلام) بالانتظار؟ ولو لم تكن كافية بل لابدّ من ذهاب الحمرة المشرقيّة ـ كما عليه مشهور الإماميّة ـ فلماذا يأمر(عليه السلام)بالاحتياط وهو العالم بتمام الأحكام وقد استفتي في الشبهة الحكميّة؟

ومن هنا يتعيّن حمله على أنّه يريد بيان وجوب الانتظار، وأنّ الوقت لا يدخل إلاّ بذهاب الحمرة المشرقيّة، لكن حيث إنّ هذا المطلب خلاف رأي علماء السنّة بيّنه في صيغة الاحتياط لتخفّ فيه التبعة، ويتخلّص بذلك من محذور المخالفة. فأصل الفتوى بلزوم الانتظار جدّيّ، لكن بيانه بلسان الاحتياط غير جدّيّ، وعليه فيسقط الاستدلال بالرواية.

لكنّ الصحيح أنّ هذه الرواية بناءً على أن يكون النظر فيها إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة لا ينحصر توجيهها بهذا المطلب، بل يمكن أيضاً توجيهها بحيث تكون جدّيّة بتمام المعنى. وتوضيح ذلك: أنّ في باب دخول الوقت احتمالات:

1 ـ أن يكون مناط دخول الوقت هو غياب القرص، كما صرّح بذلك في بعض الروايات الصحيحة.

2 ـ أن يكون مناطه غياب الحمرة المشرقيّة.

3 ـ أن يكون المناط الواقعيّ غياب القرص، ولكن ذهاب الحمرة المشرقيّة معرّف لغياب القرص وكاشف عنه، والكاشفيّة هنا تتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يكون الكاشف مساوياً للمنكشف وملازماً له، بأن نفرض أنّ المناط هو غياب القرص عن بلدتي وعن تمام البلاد، أو قطعات الأرض الواقعة بعدها في حركة غروب الشمس إلى قطعة أرضيّة يكون غروب الشمس فيها مساوياً زماناً

352

لذهاب الحمرة عن بلدي، وحيث إنّ تلك القطعة الأرضيّة غير متعيّنة جعل الشارع معرّفاً مساوياً لغروب الشمس عنها، وهو ذهاب الحمرة عن بلدي، وهذه المعرّفيّة واقعيّة ولا تستبطن أيّ حكم ظاهريّ واحتياط.

الثاني: أن يكون الكاشف أخصّ من المنكشف، وذلك بأن يكون المناط غياب القرص عن منطقة محدودة في علم الله ـ تعالى ـ مهما ذهبت الحمرة في بلدنا فقد غاب القرص عن تلك المنطقة حتماً، ولكن قد يغيب عن تلك المنطقة قبل حصول هذا الكاشف، فيكون ذلك معرّفاً ظاهريّاً واحتياطيّاً، فالشارع أوجب الاحتياط بالعمل بهذا المعرّف، ورفض أيّ معرّف آخر ما لم يوجب القطع، وهذا الاحتمال عليه عدّة شواهد من الروايات، ولعلّه يصير وجه التقاء ما بين القولين، ووجه جمع ما بين الطائفتين. فبناءً على هذا الاحتمال نفهم معنى الاحتياط في الحديث بنحو لا يحمل على التقيّة، وتفصيل المطلب من الناحية الفقهيّة موكول إلى الفقه.

ومقصودنا هنا أنّه بناءً على هذا أيضاً لا تدلّ الرواية على المقصود، والشبهة في مورد الرواية موضوعيّة، ولم يقل أحد في الشبهة الموضوعيّة بالاحتياط، والاحتياط في الحديث يكون على القاعدة؛ لأصالة الاشتغال واستصحاب عدم الوقت، ولا يتعدّى من مورد الحديث إلى الشبهة البدويّة في التكليف، ولا يقال: إنّ الخصوصيّة الموجودة في المقام وهي ثبوت الاستصحاب وأصالة الاشتغال إنّما هي خصوصيّة فنّيّة، وأمّا العرف ـ بما هو عرف ـ فحينما يسمع هذا الكلام يلغي خصوصيّة المورد ويتعدّى إلى تمام موارد الشبهة، فإنّ لحاظ العرف لخصوصيّة قاعدة الاشتغال عند العلم به والشكّ في الفراغ واضح، فهو في مورد البراءة العقليّة، أعني: أوامر الموالي العرفيّة يحكم لدى الشكّ في الفراغ لا في التكليف بالاحتياط لا البراءة.

الرواية الثانية: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج حيث سئل الإمام(عليه السلام) أنّ شخصين محرمين اصطادا، فهل كفّارة الصيد عليهما بالاشتراك، أو أنّ كلاًّ منهما

353

عليه كفّارة مستقلّة، فأجاب(عليه السلام): (أنّ على كلّ منهما كفّارة مستقلّة)، ثمّ يقول له السائل: إنّي سئلت عن هذا ولم أدرِ ما اُجيب، فقال الإمام(عليه السلام): «إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا أو تعلموا»(1).

والفقرة التي هي محلّ الاستدلال هي الجملة الأخيرة، بناءً على أن يكون المشار إليه في قوله: «إذا أصبتم بمثل هذا» واقعة الصيد التي كانت شبهة من الشبهات بتقريب أنّه(عليه السلام)حكم بوجوب الاحتياط على عنوان «مثل هذا»، فجعل الضابط كون الأمر مثل هذه الواقعة، و عندئذ فلابدّ من فرض قدر مشترك بين واقعة الصيد والوقائع الاُخرى التي يجب فيها الاحتياط بحكم هذا الحديث، وهذا القدر المشترك لابدّ أن يتوفّر فيه أمران:

الأوّل: أن يكون هذا القدر المشترك عرفيّاً وواقعاً تحت اللحاظ العرفيّ؛ لأنّ الإمام(عليه السلام)في مقام بيان الضابط لوجوب الاحتياط، ولا محالة يكون في مقام بيان ذلك على وجه عرفيّ كما هو الحال في كلّ بياناته(عليه السلام)، وكون هذا البيان عرفيّاً فرع أن يكون ذلك القدر المشترك المنظور له(عليه السلام)واقعاً تحت اللحاظ العرفيّ، أي: لا يكون قدراً مشتركاً لا يلتفت إليه إلاّ بالعناية والتأمّل، وإلاّ لم يكن بياناً عرفيّاً، وظاهر الكلام أنّه في مقام البيان العرفيّ، فمثلاً إبداء احتمال أن يكون المقصود من مثل هذه الشبهة: الشبهة التي يدور الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر ـ كما هو الحال في هذا المورد؛ لدوران الأمر بين وجوب كفّارة تامّة على كلّ واحد منهما أو نصف كفّارة ـ ينفى بما ذكرناه؛ لأنّه ليس جامعاً يلتفت إليه العرف بلا عناية، فلا يحتمل كونه المقصود من كلمة «مثل هذا» في المقام.

الثاني: أن يكون هذا الضابط والقدر المشترك ممّا يناسب ـ بلحاظ مناسبات



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 1، ص 111 ـ 112، و ج 9، ب 18 من كفّارة الصيد، ح 6، ص 210.

354

الحكم والموضوع المركوزة في ذهن أهل العرف ـ كونه بما هو موضوعاً لوجوبالاحتياط، ويكون منسجماً مع المناسبات الارتكازيّة، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تحكم على الظهورات اللفظيّة، فتقيّد وتوسّع وتعيّن، فمثلاً ينتفي بهذا احتمال أن يكون الضابط والقدر المشترك هو أحكام الصيد أو أحكام الكفّارة.

وبعد الالتفات إلى هذين الأمرين يقال: إنّ الضابط الواجد لكلا الأمرين هو عنوان (الشبهة الحكميّة). فبهذا التقريب يصبح الحديث دالّاً على المدّعى.

ولكنّ الصحيح: عدم تماميّة الاستدلال بالرواية في المقام؛ لأنّ المشار إليه بقوله: «بمثل هذا» إمّا واقعة الصيد، وإمّا واقعة الحكم المسؤول عنه، فإن فرض الثاني ـ وليس احتماله أبعد من الأوّل إن لم يكن أقرب باعتبار تأخّر هذه الواقعة ذكراً عن الواقعة الاُولى ـ فمن الواضح كون الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه، فإنّها عندئذ تكون آمرة بالاحتياط لمن سئل عن حكم ولم يعلم به. ومعنى أمره بالاحتياط هو أمره بما هو مسؤول عنه بالاحتياط ـ أي: نهيه عن القول بغير علم ـ ولا إشكال في حرمة القول بغير علم واشتراط جواز الإفتاء بالعلم.

وإن فرض الأوّل، فالرواية وإن دلّت على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة بالتقريب الذي بيّنّاه لكنّها بقرينة قوله: «حتّى تسألوا وتعلموا» تكون ناظرة إلى موارد الشكّ قبل الفحص مع التمكّن من العلم، حيث إنّ ظاهر جعل السؤال والعلم غاية للاحتياط، هو كون المورد مورداً يترقّب فيه حصول العلم، ويكون مورداً قبل السؤال، ولا إشكال في وجوب الاحتياط في الشبهة قبل الفحص.

هذا تمام كلامنا في دلالة روايات الاحتياط. وأكثر ما استدلّ بها على الاحتياط ممّا وقفنا عليه ضعيفة سنداً، وكلّها غير تامّة دلالة، ولعلّ بعض الروايات التي ذكرت في المقام من المضحك الاستدلال بها.

355

 

 

 

 

 

 

 

علاج التعارض بين أدلّة البراءة والاحتياط

ثمّ لو تنزّلنا وفرضنا تماميّة أخبار الاحتياط يقع الكلام عندئذ في جهات أربع:

1 ـ في النسبة بين أخبار الاحتياط وأخبار البراءة.

2 ـ في النسبة بين أخبار الاحتياط ودليل البراءة من القرآن الكريم.

3 ـ في النسبة بين أخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب، حيث ذكرنا أنّه يجري استصحاب عدم التكليف.

4 ـ في أنّه لو تعارض الدليلان وتساقطا فماذا يصنع؟

 

نسبة أخبار الاحتياط إلى أخبار البراءة:

أمّا الجهة الاُولى: وهي في النسبة بين أخبار الاحتياط وأخبار البراءة، فقد تصدّى جملة من المحقّقين الاُصوليّين لدعوى أنّ أخبار البراءة أخصّ من أخبار الاحتياط، فتقدّم عليها، وذكر السيّد الاُستاذ وجوهاً ثلاثة للأخصّيّة:

1 ـ إنّ أخبار البراءة لا تشمل موارد العلم الإجماليّ بخلاف أخبار الاحتياط.

2 ـ إنّ أخبار البراءة لا تشمل ما قبل الفحص بخلاف أخبار الاحتياط.

3 ـ إنّ بعض أخبار البراءة وارد في خصوص الشبهة الحكميّة التحريميّة من

356

قبيل رواية: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» فيكون أخصّ من أخبار الاحتياط الواردة في مطلق الشبهات.

أقول: أمّا الوجه الثالث للأخصّيّة فيبتني على تماميّة دلالة قوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» على البراءة، وقد مضى عدم دلالته عليها، ولو فرضنا تماميّة دلالته فمع ذلك لا ينفع في المقام شيئاً؛ إذ كما يكون هذا نصّاً في الشبهة التحريميّة كذلك يوجد في أخبار الاحتياط ما يكون نصّاً في الشبهة التحريميّة لو تمّت دلالته على وجوب الاحتياط من قبيل أخبار التثليث، فإنّ قول: «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك» لا يمكن حمله على خصوص الشبهات الوجوبيّة مثلاً، بل لابدّ من حمله على الشبهة التحريميّة إمّا بالخصوص، أو هي مع غيرها. وعلى أيّ حال يكون نصّاً في الشبهة التحريميّة ولا يمكن إخراج الشبهة التحريميّة منه بقوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(1).

وأمّا الوجهان الأوّلان وهما اختصاص البراءة بغير موارد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص بخلاف موارد الاحتياط، فإن ادّعينا أنّ دليل البراءة بمدلوله اللفظيّ لا يشمل موارد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص، أو بقرينة لبّيّة عقليّة أو ارتكازيّة كالمتّصل، كانت أخبار البراءة أخصّ من هذه الناحية. وأمّا إن قلنا: إنّ موارد العلم



(1) كما أنّه لا يمكن تخصيص حديث التثليث بقوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» بدعوى أنّ حديث التثليث يشمل الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، وهذا الحديث خاصّ بالحكميّة، فإنّ هذا التخصيص يعني اختصاص وجوب الاحتياط بالشبهة الموضوعيّة، والمفروض أنّ الشبهة الموضوعيّة خرجت أيضاً بمخصّص آخر يكون القدر المتيقّن منه الشبهة الموضوعيّة، كحديث «كلّ شيء فيه حلال وحرام، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» فيلزم التعارض والتباين بين العامّ والمخصّصين.

357

الإجماليّ وما قبل الفحص إنّما هي خارجة بمخصّص منفصل، فلا تكون أخبار البراءة أخصّ إلاّ بناءً على انقلاب النسبة الذي لا نقول به. على أنّه لو قلنا به لم يكن دليل البراءة أخصّ مطلقاً، بل بينهما عموم من وجه، لأخصّيّة أخبار الاحتياط أيضاً من ناحية اُخرى؛ لأنّ دليل الاحتياط لا يشمل موارد الشبهة الموضوعيّة، وذلك إمّا للتخصيص من الخارج أيضاً بناءً على انقلاب النسبة، حيث إنّ هناك نصوصاً صريحة واضحة على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة، ولم يدّعِ أحد من علماء الإسلام قاطبة وجوب الاحتياط فيها، فيكون المخصّص هنا قطعيّاً، أو بدعوى أنّ بعض أدلّة وجوب الاحتياط في نفسها صريحة في خصوص الشبهة الحكميّة من قبيل مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في تعارض النصّين وهو شبهة حكميّة، وعليه فلا تتمّ دعوى أخصّيّة دليل البراءة من دليل الاحتياط حتّى في نفسه بدعوى عدم شمول دليل البراءة بمدلوله اللفظيّ لمورد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص، أو بواسطة مخصّص لبّيّ كالمتّصل، فإنّ بعض أدلّة الاحتياط أيضاً فرض أخصّ من جانب آخر وهو عدم شموله للشبهة الموضوعيّة، والنسبة بينهما عموم من وجه.

ومن هنا ينقدح إمكان تقريب النسبة بين الأخبار بما يكون في صالح الأخباريّ، وذلك بأن يقال: إنّه قد وجدت في أخبار الاحتياط طائفتان: الطائفة الاُولى: ما يدلّ على الاحتياط في مطلق الشبهة، كقوله: «أخوك دينك، فاحتط لدينك»، والطائفة الثانية: ما يدلّ على الاحتياط في خصوص الشبهة الحكميّة، وهي مقبولة عمر بن حنظلة. والطائفة الاُولى عامّة، والطائفة الثانية خاصّة. وأمّا أخبار البراءة فقد عرفت فيما سبق عدم تماميّة شيء منها عدا حديث الرفع، وعندئذ نقول: إنّنا إمّا أن نفترض أنّ حديث الرفع بمدلوله اللفظيّ أو بمخصّص كالمتّصل يكون خاصّاً ـ أي: أنّه غير شامل لموارد العلم الإجماليّ وما قبل

358

الفحص ـ أو نفترض أنّه يكون عامّاً ـ أي: أنّه شامل لتلك الموارد ـ وإنّما خرجت تلك الموارد بمخصّص منفصل. فإن فرضنا حديث الرفع خاصّاً أصبح معارضاً لحديث الاحتياط الخاصّ بالعموم من وجه، ويتساقطان ويكون المرجع العموم الفوقانيّ، وهو الطائفة الاُولى من أخبار الاحتياط، ولا يصلح حديث الرفع لتقييدها؛ لابتلائه بالمعارض. وإن فرضناه عامّاً أصبح معارضاً لحديث الاحتياط العامّ بالتباين، ونرجع إلى الطائفة الثانية من أخبار الاحتياط، فإنّها حجّة من دون ابتلاء بالمعارض؛ إذ لايعارضها شيء من العامّين؛ لأنّها موافقة لأحدهما ومخصّصة للآخر.

ولا يفترق الحال فيما ذكرنا بين ما لو قلنا بانقلاب النسبة أو لا، فحتّى مع القول بانقلاب النسبة تكون النتيجة نفس النتيجة، سواءً فرضنا حديث الرفع خاصّاً معارضاً للطائفة الثانية، أو عامّاً معارضاً للطائفة الاُولى.

أمّا على الأوّل: فوجه توهّم انقلاب النسبة في المقام هو أنّ حديث الاحتياط العامّ قد خرجت منه بالتخصيص الشبهة الموضوعيّة، فيصبح أيضاً معارضاً بالعموم من وجه لحديث الرفع.

والجواب: أنّ القائلين بانقلاب النسبة لا يقولون به في فرض المعارضة بنحو العموم المطلق إذا وجد مخصّص آخر للعامّ؛ لأنّ نسبة العامّ إلى المخصّصين على حدّ سواء ـ بحسب ما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله تعالى ـ وإنّما يقولون به في فرض التعارض بالتباين إذا وجد مخصّص لأحدهما فصار أخصّ من الآخر، أو بالعموم من وجه إذا وجد مخصّص لأحدهما أخرج منه مادّة الافتراق فصار أخصّ من الآخر.

وأمّا على الثاني: فعندنا نسبتان: نسبة حديث الرفع، أي: قوله: «أخوك دينك، فاحتط لدينك» وهي التباين فيتساقطان، ونسبة حديث الرفع إلى مقبولة عمر بن

359

حنظلة وهي العموم والخصوص المطلق، وبناءً على انقلاب النسبة لا يترتّب أيّ فرق عمليّ بلحاظ شيء من النسبتين.

أمّا بلحاظ النسبة الاُولى، فلأنّه إن لم نقل بانقلاب النسبة فقد تساقط حديث الرفع وحديث الاحتياط بالتباين. وإن قلنا به فهما يتساقطان بالمعارضة بالعموم من وجه؛ لأنّ حديث الرفع وجد له مخصّص أخرجَ منه موارد العلم الإجماليّ والشكّ قبل الفحص، وحديث الاحتياط أيضاً وجد له مخصّص أخرج منه موارد الشبهة الموضوعيّة(1).

وأمّا بلحاظ النسبة الثانية، فقد يتخيّل أنّه بناءً على انقلاب النسبة لا يكون حديث الرفع أعمّ مطلقاً من المقبولة؛ لأنّه خرجت منه بالتخصيص موارد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص، فالنسبة بينهما عموم من وجه.

وجوابه: ما مضى من أنّ القائلين بانقلاب النسبة لا يقولون به في فرض التعارض بالعموم المطلق إذا وجد مخصّص آخر للعامّ، بل يلحظون المخصّصين في عرض واحد، ويخصّصون العامّ بهما.

ثمّ إنّه لو فرض أنّ أخبار البراءة وأخبار الاحتياط تعارضتا بنحو التباين وصلت النوبة إلى المرجّحات. والمرجّح عندنا أمران: موافقة الكتاب ومخالفة



(1) ولو غضضنا النظر عن خروج الشبهة الموضوعيّة من حديث الاحتياط كانت النتيجة أيضاً الاحتياط في الشبهة الحكميّة؛ لأنّ حديث الرفع كما خرج منه مورد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص، كذلك خرجت منه ـ بحكم المقبولة ـ الشبهة الحكميّة، فاختصّ بالموضوعيّة، فخصّص حديث الاحتياط بالحكميّة، إلاّ إذا ضممنا إلى دعوى انقلاب النسبة الاُولى دعوى انقلاب النسبة الثانية أيضاً، ولكن عندئذ ستكون النتيجة أيضاً الاحتياط؛ لأنّ المرجع على هذا الفرض هو حديث الاحتياط العامّ.

360

العامّة. والأخباريّون يرون أنّ أخبار الاحتياط تقدّم على أخبار البراءة بمخالفتها للعامّة، حيث يقولون: إنّ العامّة مطبقون على جريان البراءة في الشبهات الحكميّة، وما سنح لي أن أتتبّع صحّة هذه النسبة. وعلى أيّ حال نقول: إنّ هنا مرجّحاً أسبق رتبة من هذا المرجّح وهو موافقة الكتاب، وهي ترجّح أخبار البراءة؛ لما عرفت فيما مضى من أنّ الكتاب يدلّ على البراءة لا الاحتياط. هذا بقطع النظر عمّا سنذكره في الجهة الثانية ـ إن شاء الله تعالى ـ من أنّ المعارضة للكتاب ـ ولو بالعموم من وجه ـ تسقط الخبر عن الحجّيّة في نفسه.

 

نسبة أخبار الاحتياط إلى آيات البراءة:

وأمّا الجهة الثانية: وهي في النسبة بين أخبار الاحتياط وآيات البراءة، فقد مضى أنّه تدلّ من الكتاب على البراءة آيتان:

إحداهما: قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾. ومضى أنّها مختصّة بالشبهة الحكميّة بعد الفحص بلسان يأبى عن التخصيص بخصوص بعض الشبهات الحكميّة، فتقدّم على أخبار الاحتياط بالأخصّيّة.

والثانية: قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ وقد مضى أنّ نسبتها إلى أخبار الاحتياط هي العموم من وجه، وقد بنينا في حجّيّة خبر الواحد على أنّ كلّ خبر معارض للقرآن بالعموم من وجه يكون ساقطاً عن الحجّيّة بنفسه، وعليه فالدليل القرآنيّ بكلا قسميه مقدّم على أخبار الاحتياط.

 

نسبة أخبار الاحتياط إلى دليل الاستصحاب:

وأمّا الجهة الثالثة: وهي في النسبة بين أخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب، فقد ذكر السيّد الاُستاذ: أنّ دليل الاستصحاب يكون حاكماً على أخبار الاحتياط؛

361

لأنّ موضوعها الشكّ، والمجعول في دليل الاستصحاب هو الطريقيّة وإلغاء الشكّ،فلا يبقى موضوع لأخبار الاحتياط(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: الخلاف المبنائيّ فيما هو المجعول في دليل الاستصحاب، حيث إنّنا لا نقول بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب ولا في أدلّة الأمارة الطريقيّة على ما مرّت الإشارة إليه في بحث القطع، ويأتي تفصيله ـ إن شاء الله تعالى ـ فيما يخصّ الاستصحاب في مباحث الاستصحاب.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا أنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الطريقيّة والعلم، فهذا إنّما يصير حاكماً على دليل رتّب فيه الأثر إثباتاً أو نفياً على العلم لا على دليل رتّب فيه الأثر على الشكّ؛ وذلك لأنّ دليل الاستصحاب بنفسه قد اُخذ في موضوعه الشكّ، فالطريقيّة المجعولة فيه طريقيّة في طول الشكّ، وظاهر التعبّد بالطريقيّة في طول الشكّ هو أنّ هذا التعبّد ليس ناظراً إلى إلغاء الشكّ نفسه، بل مسوق لجهة اُخرى غير إلغاء الشكّ وهي صِرف إثبات عنوان اليقين، وهذه النكتة لا تأتي في أدلّة الأمارة لو فرض جعل الطريقيّة فيها؛ إذ لم يؤخذ في موضوعها الشكّ كي يكون ذلك قرينة على أنّ التعبّد بالطريقيّة ليس في مقام إلغاء الشكّ والتردّد ونحو ذلك من العناوين المقابلة للعلم.

وثالثاً: أنّنا لو سلّمنا أنّ دليل الاستصحاب لسانه لسان دليل الأمارة ـ أي: أنّه لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ـ قلنا: كما أنّ دليل الاستصحاب دليل على اعتبار العلم وجعل الطريقيّة وإلغاء الشكّ، كذلك دليل الاحتياط والوقوف عند الشبهة دليل على عدم جواز الاعتماد على أحد طرفي الشبهة والبناء عليه، لا التزاماً في مقام الحجّيّة ولا عملاً في مقام الجري الخارجيّ، وإرشاد إلى عدم الحجّيّة والطريقيّة وعدم إلغاء



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 32، والدراسات، ج 3، ص 175.

362

الشكّ فيتعارضان، وهذا نظير ما مضى من أنّه ذهبت مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)إلى حكومة دليل حجّيّة خبر الثقة على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ؛ لأنّ دليل حجّيّة خبر الثقة يخرجه عن كونه ظنّاً، فأجبنا في محلّه بأنّ عمومات النهي عن العمل بالظنّ بنفسها إرشاد إلى عدم حجّيّة الظنّ وعدم جعله علماً فيتعارضان.

 

تعيين المرجع في فرض التساقط:

وأمّا الجهة الرابعة: وهي أنّه لو تعارض الدليلان وتساقطا فماذا نصنع؟ فنقول: لو بنينا على البراءة العقليّة وقبح العقاب بلا بيان ـ كما ذكروه ـ رجعنا إليها. أمّا إذا لم نبنِ عليه ـ كما هو الحقّ ـ وقلنا بأصالة منجّزيّة الاحتمال فأيضاً هنا نكون في سعة من الاحتياط والاشتغال؛ لأنّنا وجدنا فيما مضى في الأدلّة اللفظيّة للبراءة الشرعيّة ما يكون مفاده في مستوى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ أي: أنّ موضوعه عدم وصول إيجاب الاحتياط علميّاً ـ وعليه فيستحيل أن يقع طرفاً للمعارضة مع دليل الاحتياط؛ إذ هو حاكم عليه، فالمعارضة إنّما تقع بين دليل الاحتياط ودليل البراءة التي هي في مرتبة الاحتياط والتي تنفي ذلك الاحتياط، فبعد التساقط يتنقّح موضوع هذا القسم من البراءة ويرجع إليها.

نعم، خصوص أخبار: «إنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» قلنا: إنّها إرشاد إلى تأكيد حكم العقل بمنجّزيّة الاحتمال، ويفهم من هذا الإرشاد عرفاً ـ لصدوره من الشارع ـ كونه في مقام بيان عدم حاكم على هذه المنجّزيّة، فهذه يمكن أن يدّعى أنّها تعارض أخبار البراءة المساوقة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

إلاّ أنّنا أيضاً نقول بعدم المعارضة من باب أنّ العرف يفهم من بيان الشارع لعدم الحاكم على هذه المنجّزيّة أنّه في مقام إيصال الاحتياط، ولا ينظر إلى فرض عدم وصول الاحتياط.

هذا تمام الكلام في أصل مبحث أنّ الأصل هل هو البراءة أو الاحتياط.

363

 

 

 

 

 

 

 

تنبيهات

 

تقدّم بعض الاُصول على البراءة

التنبيه الأوّل: ذكر الشيخ الأعظم(قدس سره): أنّه يشترط في جريان البراءة عدم ثبوت أصل موضوعيّ في مورده، وإلاّ قدّم عليه بالحكومة، ومثّل لذلك باستصحاب عدم التذكية عند الشكّ في التذكية المقدّم على أصالة الحلّ، ثمّ دخل في البحث في نفس هذه الصغرى وهي استصحاب عدم التذكية.

وذُكِر في المقام ـ كما عن المحقّق النائينيّ(قدس سره) ومدرسته تعليقاً على هذا الكلام ـ: أنّه ينبغي أن يكون مراده بالأصل الموضوعيّ مطلق الأصل الحاكم سواء كان في رتبة الموضوع كما في هذا المثال، أو الحكم كما في تقدّم استصحاب عدم الحلّ على أصالة الحلّ فيما يكون مسبوقاً بالحرمة، لا خصوص الأصل الجاري في رتبة الموضوع؛ لأنّه لا خصوصيّة له في المقام، وإنّما العبرة في عدم جريان البراءة بوجود الاستصحاب في موردها، سواء كان في رتبة الموضوع أو الحكم، بنكتة أنّ المجعول في الاستصحاب هو الطريقيّة وإلغاء الشكّ، فيلغى بذلك موضوع البراءة. هذه هي نكتة الحكومة في المقام في رأي مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره)،

364

وعلى أ يّة حال فلأجل ما ذكروه هنا غيّروا عنوان الشرط في المقام، وذكروا أنّه يشترط في جريان البراءة عدم وجود استصحاب حاكم عليها، ثمّ دخلوا فيما دخل فيه الشيخ الأعظم(قدس سره) من البحث في الصغرى وهو استصحاب عدم التذكية.

أقول: إنّه لا مجال للبحث هنا تفصيلاً عن نكات الحكومة ووجه تقدّم الاستصحاب على البراءة، وسيأتي الكلام في ذلك ـ إن شاء الله ـ في آخر مبحث الاستصحاب الذي خصّصوه لهذا البحث، فيتكلّم هناك عن وجه تقدّم الأمارة على الاُصول، وتقدّم الاُصول بعضها على بعض، وسنبيّن هناك ـ إن شاء الله ـ أنّ الأصل الموضوعيّ مقدّم على الأصل الحكميّ، والأصل السببيّ مقدّم على الأصل المسبّبيّ، ودليل الاستصحاب مقدّم على دليل البراءة، ونذكر الوجوه في ذلك مفصّلاً إن شاء الله، وإنّما المقصود هنا الإشارة إلى نقاط الخلاف بيننا وبين المشهور بحيث تتّضح لك تلك النقاط ولو تصوّراً.

فنقول: إنّنا نخالف المشهور في المقام في نقاط ثلاث:

النقطة الاُولى: أنّنا نعترف بحكومة الأصل الموضوعيّ على الأصل الحكميّ بما هو أصل موضوعيّ ـ أي: جار في رتبة الموضوع ـ فإنّ كونه كذلك يوجب بحسب نظر العرف تقدّمه في لسان أدلّة الاُصول على الأصل الحكميّ بحسب ما يأتي بيانه إن شاء الله في آخر الاستصحاب. ومدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره) تعترف فقهيّاً بأنّه إذا غسل مثلاً ثوب متنجّس بماء محكوم بالطهارة بالأصل لا بالاستصحاب ـ لعدم جريان الاستصحاب فيه لتوارد الحالتين مثلاً ـ قدّمت أصالة الطهارة في الماء على استصحاب النجاسة في الثوب، فهنا تقع المدرسة في ضيق من تفسير الموقف؛ لأنّ الأصل الموضوعيّ في المقام ليس أصلاً محرزاً بحسب تعبيرها، بل أصبح الأصل غير المحرز حاكماً على الأصل المحرز. وأمّا نحن فنفسّر ذلك بالحكومة، بنكتة كون الأصل في رتبة الموضوع، والاستصحاب في رتبة الحكم.

365

النقطة الثانية: أنّنا لا نعترف بحكومة الاستصحاب على الأصل بملاك جعل الطريقيّة في الاستصحاب، فإنّنا أوّلاً ننكر جعل الطريقيّة فيه، وثانياً بعد تسليم جعل الطريقيّة فيه نقول: إنّ هذا يدخل تحت كبرى أنّ جعل العلم والطريقيّة في شيء هل يقيمه مقام العلم الموضوعيّ أو لا يقيمه مقام غير العلم الطريقيّ، وهذا بحث مضى أكثر أطرافه في مبحث الأمارات، وتأتي ـ إن شاء الله ـ تطبيقاته في آخر مبحث الاستصحاب.

والتحقيق: عدم قيامه مقام العلم الموضوعيّ، فالعلم وإن جعل موضوعاً لغاية البراءة وأمدها، حيث جعلت البراءة في فرض عدم العلم، ولكنّ هذا لا يوجب رفع اليد عن البراءة بالاستصحاب لفرض جعله علماً.

النقطة الثالثة: أنّه بعد أن أنكرنا حكومة الاستصحاب على البراءة بالملاك الذي يقول به المحقّق النائينيّ(قدس سره)فهل تقع المعارضة بين الأصل والاستصحاب أو لا؟

التحقيق: أنّه لا تقع المعارضة بينهما، بل يقدّم الأصل الموضوعيّ على الحكميّ إن كان أحدهما في رتبة الموضوع والآخر في رتبة الحكم، كما في مثال تقدّم استصحاب عدم التذكية على أصالة البراءة، ومثال تقدّم أصالة طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به، ويقدّم الاستصحاب على البراءة إن كانا في رتبة واحدة؛ وذلك لنكات في دليل الاستصحاب والبراءة توجب هذا التقدّم، كما سيأتي بيان ذلك ـ إن شاء الله ـ في آخر بحث الاستصحاب.

هذا. ونحن نجعل عنوان هذا الشرط فيما نحن فيه هكذا: إنّ العمل بدليل البراءة مشروط ـ كما هو الحال في كلّ دليل ـ بعدم تعارضه مع دليل آخر وتساقطه معه، وبعدم وجود دليل أقوى منه يقدّم عليه بوجه من وجوه الأقوائيّة التي تأتي ـ إن شاء الله ـ في باب التعادل والتراجيح، وممّا يكون أقوى من دليل البراءة دليل الأصل الموضوعيّ ودليل الاستصحاب، كما يأتي في بحث الاستصحاب إن شاء الله.

366

 

استصحاب عدم التذكية:

أمّا الكلام في الصغرى التي بحثوها في المقام ـ وهي استصحاب عدم التذكية ـ فنقول: قد ذكروا للشكّ في حلّيّة لحم الحيوان بعد زهاق روحه أربعة فروض:

الأوّل: أن يكون الشكّ فيه من ناحية الشكّ في أنّ ذلك الحيوان محلّل الأكل أو محرّمه، لا من ناحية الشكّ في التذكية، بل نفترض القطع بحصول التذكية، ولكن التذكية في بعض الحيوانات تفيد الطهارة فقط دون حلّيّة الأكل، وهذا قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، بأن يشكّ في حيوان معيّن أنّه هل هو محلّل الأكل أو محرّمه، واُخرى بنحو الشبهة الموضوعيّة، بأن يشكّ في حيوان أنّه هل هو الحيوان الكذائيّ المحلّل الأكل، أو الآخر المحرّم الأكل.

الثاني: أن يكون الشكّ فيه من ناحية الشكّ في قبول هذا الحيوان للتذكية وعدمه في نفسه، وهذا أيضاً قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، بأن يشكّ في أنّ هذا الحيوان المعيّن يقبل التذكية أو لا؟، واُخرى بنحو الشبهة الموضوعيّة بأن يشكّ في أنّ هذا الحيوان هل هو الشاة مثلاً القابل للتذكية، أو الحيوان الآخر غير القابل لها؟

الثالث: أن نعلم أنّه في نفسه قابل للتذكية، لكنّنا نحتمل عدم قبوله لها لطروّ مانع كالجلل، وذلك إمّا بنحو الشبهة الحكميّة، كالشكّ في مانعيّة الجلل، أو بنحو الشبهة الموضوعيّة، كالشكّ في حصول الجلل المعلوم مانعيّته.

الرابع: أن يكون الشكّ فيه ناشئاً من الشكّ في إجراء عمليّة التذكية عليه وعدمه، وذلك إمّا بنحو الشبهة الحكميّة كما لو شكّ في اشتراط التسمية، أو بنحو الشبهة الموضوعيّة، كما لو شكّ في تحقّق التسمية مع العلم باشتراطها.

أمّا الفرض الأوّل ـ وهو فرض الشكّ في أنّ هذا الحيوان المذكّى هل هو محلّل الأكل أو محرّمه ـ: فإن كانت الشبهة حكميّة رجعنا إلى العموم الفوقانيّ إن وجد

367

عامّ فوقانيّ يدلّ على حلّيّة كلّ حيوان عدا ما استثني، أو على حرمة كلّ حيوان عدا ما استثني، وإلاّ رجعنا إلى أصالة الحلّ، ولا يجري استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة بناءً على حرمة أكل الحيوان الحيّ؛ وذلك لما ستعرف إن شاء الله، ولا مورد لاستصحاب عدم التذكية؛ لفرض القطع بالتذكية.

وإن كانت الشبهة موضوعيّة لم يمكن ابتداءً الرجوع إلى العموم الفوقانيّ إن وجد؛ لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة. نعم، يمكن استصحاب العدم الأزليّ لتنقيح موضوع العامّ، فإن فرضت دلالة العامّ على الحرمة وخرجت منه عناوين خاصّة جرى استصحاب عدم تلك العناوين، وكان حاكماً على أصالة الحلّ، وإن فرضت دلالة العامّ على الحلّ وخرجت منه عناوين خاصّة جرى استصحاب عدم تلك العناوين، وكان ذلك أيضاً على المباني المشهورة حاكماً على أصالة الحلّ. وأمّا إن لم يوجد عامّ فوقانيّ، أو وجد ولكن لم نقل باستصحاب العدم الأزليّ، أو قلنا به لكن خصّصناه بالخصوصيّات العرضيّة المقارنة لأصل الموضوع، كالقرشيّة، بخلاف الخصوصيّة الذاتيّة، كالشاتيّة والأرنبيّة، وفرضنا أنّ الخصوصيّة المأخوذة في باب قبول الحيوان للتذكية خصوصيّة ذاتيّة وصلت النوبة إلى أصالة الحلّ، ولا مورد لاستصحاب عدم التذكية لفرض القطع بالتذكية.

هذا. وإن جرى استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة قدّم على أصالة الحلّ؛ لما مضى من أنّ الاستصحاب والأصل إذا كانا في رتبة واحدة قدّم الأوّل على الثاني.

والتحقيق: عدم جريان استصحاب الحرمة. بيان ذلك: أنّ حرمة الأكل في حال الحياة تتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يقال بحرمة أكل الحيوان الحيّ بعنوان أنّه حيّ ولو احتراماً له مثلاً، وهذا لا يبعد استظهاره من بعض الروايات، وهذه الحرمة لا يمكن استصحابها بعد

368

الموت لتبدّل الموضوع؛ لأنّ الحياة تكون عرفاً مقوّمة للموضوع لا جهة تعليليّة.

الثاني: أن يقال بحرمة أكله من باب كونه غير مذكّى، كما قيل بذلك بتخيّل الإطلاق في المستثنى منه في آية: ﴿إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾(1)، وعلى هذا يجري استصحاب الحرمة؛ لأنّ هذا الحيوان كان أكله في حال الحياة حراماً جزماً وكانت حرمته مردّدة بين الحرمة من باب كونه غير مأكول اللحم، والحرمة من باب كونه غير مذكّى، فإن فرض الأوّل فالحرمة باقية، وإن فرض الثاني فهي غير باقية، فيجري استصحاب الحرمة على أساس استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني المردّد فرده بين ما يبقى وما لا يبقى. وأمّا اجتماع كلتا الحرمتين فلا يحتمل فقهيّاً(2).

 


(1) سورة 5 المائدة، الآية: 3.

(2) كأنّ هذا دفع دخل في المقام؛ إذ لقائل أن يقول: إنّ استصحاب الكلّيّ هنا يكون من القسم الثالث؛ لأنّ الفرد الحادث يقيناً مقطوع الارتفاع، وهو الحرمة بملاك عدم التذكية، والفرد الآخر وهو الحرمة الذاتيّة مشكوك الحدوث، فكأنّما أراد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أن يجيب على ذلك بأنّ اجتماع الحرمتين غير محتمل فقهيّاً، إذن فهناك حرمة واحدة مردّدة بين ما يقطع بارتفاعه على تقدير حدوثه، وما يكون باقياً على تقدير الحدوث، وهذا هو مورد استصحاب القسم الثاني من الكلّيّ.

ويبدو ممّا ورد في تقرير السيّد الهاشميّ (حفظه الله) أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عدل في الدورة المتأخّرة عن هذا الرأي ـ أي: عن القول بأنّ اجتماع الحرمتين غير محتمل فقهيّاً ـ وبناءً على ذلك أشكل على الاستصحاب في المقام، بأنّ الحرمة بملاك عدم التذكية قد زالت يقيناً، والحرمة الاُخرى مشكوكة الحدوث.

أقول: إنّ تطبيق استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني على المقام لا يتوقّف على عدم احتمال اجتماع الحرمتين، بل يكفي فيه أنّ الحرمة المعلومة إنّما هي إحدى الحرمتين لا

369

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذه الحرمة من أصلها غير ثابتة، فإنّ المستثنى منه في الآية هو الميتة، لا ما يعمّ الحيّ، وكذلك في الروايات إنّما جعلت التذكية شرطاً للحلّيّة بالنسبة للحيوان الميّت لا مطلق الحيوان.

وأمّا الفرض الثاني ـ وهوفرض الشكّ في قبول التذكية وعدمه ـ: فإن كانت الشبهة فيه حكميّة بأن شككنا أنّ هذا الحيوان المعيّن هل يكون حاله شرعاً حال الحشرات، أو حال الشاة مثلاً، فجريان استصحاب عدم التذكية فيه وعدمه يبتني على بحثين فقهيّين:

الأوّل: أنّه ما هي التذكية؟ وفي ذلك احتمالان رئيسان: أحدهما كون التذكية أمراً بسيطاً، والآخر كونها عبارة عن تلك العمليّة الخارجيّة المركبّة، وهذا البحث سنخ البحث في الطهارات الثلاث عن أنّ الطهارة هل هي أمر بسيط، أو نفس الأعمال الخارجيّة المركبّة، ولهذين الاحتمالين شقوق:

فإنّه إن فرضت أمراً بسيطاً فتارة يفرض أنّ النسبة بينه وبين الأعمال الخارجيّة نسبة العنوان إلى المعنون المنطبق عليه، نظير القيام المنطبق عليه عنوان التعظيم، واُخرى يفرض أنّ النسبة بينهما نسبة المسبّب إلى السبب. وعلى الثاني تارة يفرض هذا المسبّب أمراً تكوينيّاً، نظير مسبّبيّة الموت عن الذبح، واُخرى يفرض أمراً تشريعيّاً، نظير مسبّبيّة الملكيّة عن الإيجاب و القبول.

 


خصوص ما يقطع بزواله على تقدير حدوثه، والأمر كذلك في المقام؛ لأنّ دليل حرمة غير المذكّى من قبيل الآية الشريفة إنّما ينظر إلى ما هو محلّل الأكل في ذاته ولا إطلاق له لمحرّم الأكل، فنحن لا نعلم هنا إلاّ بإحدى الحرمتين، فهذا الحيوان إمّا محرّم الأكل في ذاته، ولا دليل عندئذ على حرمة أكله بلحاظ عدم التذكية، أو محلّل الأكل في ذاته، وعندئذ يحرم أكله في حال حياته لعدم التذكية.

370

وإن فرضت التذكية عبارة عن نفس الأعمال الخارجيّة فتارة يفترض أنّ تلك الأعمال تذكية ولو اُجريت على الحشرات أو الإنسان مثلاً، واُخرى يفرض أنّ التذكية هي تلك الأعمال المضافة إلى مثل الشاة.

وهذا التشقيق يأتي أيضاً على فرض كون التذكية أمراً بسيطاً بناءً على كونها أمراً تكوينيّاً. وأمّا بناءً على كونها أمراً تشريعيّاً، فلا نحتمل تشريعها بأزيد ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعيّ.

الثاني: أنّ ما هو موضوع الحكم بالحرمة هل هو عدم التذكية بما هو مضاف إلى الحيوان، أو عدم التذكية بما هو مضاف إلى زاهق الروح؟ فعلى الأوّل لابدّ أن يفرض لموضوع الحرمة جزء آخر وهو زهاق الروح؛ لأنّ الحيوان مادام حيّاً لا يكون حراماً من ناحية عدم التذكية، فالموضوع مركّب من جزءين: زهاق الروح وعدم التذكية، وكلاهما مضافان إلى نفس الحيوان، وعلى الثاني لا حاجة إلى جزء جديد، ويكفي الجزء الواحد وهو عدم تذكية زاهق الروح.

وستأتي الإشارة إلى ما هو الصحيح في كلّ من البحثين. والآن نبيّن كيفيّة تأثير هذين البحثين في استصحاب عدم التذكية، فنقول:

إن اختير في البحث الأوّل أنّ التذكية أمر بسيط رجعنا إلى البحث الثاني، فإن كان المختار فيه هو أنّ الموضوع عبارة عن عدم التذكية بما هو مضاف إلى الحيوان فلا إشكال في جريان استصحاب عدم التذكية من دون أن يبتني ذلك على القول باستصحاب العدم الأزليّ، فإنّ موضوع عدم التذكية هو الحيوان، وكان عدم التذكية ثابتاً في هذا الموضوع في حال حياته، وإن كان المختار فيه أنّ الموضوع عبارة عن عدم التذكية بما هو مضاف إلى زاهق الروح فهذا الموضوع ـ وهو زاهق الروح ـ من أوّل وجوده إمّا كان مذكّىً أو غير مذكّىً. وإنّما لم يكن مذكّىً في حال الحياة من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فجريان الاستصحاب هنا

371

يبتني على القول باستصحاب العدم الأزليّ كما هو الصحيح.

وإن اختير في البحث الأوّل أنّ التذكية عبارة عن نفس العمليّة المركبّة، فإن قلنا: إنّ نفس تلك العمليّة بإطلاقها تذكية، سواء اُجريت على مثل الشاة أو على مثل الحشرات مثلاً، فمعنى ذلك أنّ هذا الحيوان نعلم بتحقّق التذكية عليه، فيرجع شكّنا في أنّ هذا الحيوان هل هو عند الشارع كالحشرات أو كالشاة، إلى الشكّ في أنّه محلّل الأكل أو محرّم الأكل مع القطع بالتذكية، وهذا رجوع إلى الفرض الأوّل الذي مضى الكلام فيه.

وإن قلنا: إنّ التذكية إنّما هي تلك الأعمال المضافة إلى حيوان مخصوص، بأن يفرض أخذ خصوصيّة في الحيوان قيداً للتذكية أو جزءاً لها، فعندئذ لا يجري استصحاب عدم تلك الأعمال المضافة إلى تلك الخصوصيّة في فرض أخذ الخصوصيّة قيداً، ولا استصحاب عدم الخصوصيّة في فرض أخذها جزءاً، فلو ذبحنا الخيل مثلاً، وشككنا في أنّ الخصوصيّة المأخوذة في التذكية هل هي خصوصيّة الغنميّة مثلاً، فالخيل غير قابل للتذكية، أو خصوصيّة الأهليّة مثلاً في قبال الوحشيّة، فالخيل قابل لها، فعندئذ نقول: إنّ واقع الخصوصيّة مردّدة بين ما يقطع بثبوته وما يقطع بانتفائه، فلا مجال للاستصحاب بلحاظ واقع الخصوصيّة، وعنوان الخصوصيّة المنتزعة من حكم الشارع ليس هو الجزء أو القيد حتّى يستصحب عدمه، أو عدم المقيّد به.

وليس هذا بدعاً هنا، بل هذا هو الحال في كلّ شبهة حكميّة، فإنّه لا يجري فيها الاستصحاب الموضوعيّ لنفس هذه النكتة، فلو علم إجمالاً بوجوب إكرام مطلق العالم أو خصوص الفقيه، وكان شخص عالماً بغير علم الفقه ولم يكن فقيهاً، لم يصحّ إجراء استصحاب عدم كونه موضوعاً لوجوب الإكرام؛ لأنّ عنوان الموضوعيّة لا أثر له، وواقع الموضوع مردّد بين ما هو ثابت قطعاً وما هو منتف قطعاً.

372

نعم، توهّم البعض أنّه في خصوص الشبهة الحكميّة المفهوميّة يجري الاستصحاب الموضوعيّ، فإذا تردّد أمر العدالة بين ترك مطلق المعصية، وترك خصوص الكبيرة، أمكن استصحاب عدالة من ارتكب الصغيرة، لكن التحقيق في محلّه هو عدم جريان الاستصحاب في ذلك أيضاً لنفس هذه النكتة، وعليه فلا يجري الاستصحاب فيما نحن فيه حتّى لو كانت الشبهة حكميّة مفهوميّة، كما لو فرض أنّ الخصوصيّة المأخوذة هي الغنميّة، وتردّد مفهومها بين فرض كون كلا أبويه غنماً وكفاية غنميّة أحد الأبوين، فشككنا في قبول هذا الحيوان المتولّد من غنم وغيره للتذكية من هذه الناحية.

وإن كانت الشبهة موضوعيّة، كما لو علمنا أنّ الخصوصيّة المأخوذة هي الأهليّة، وشككنا في أنّ هذا الحيوان المذبوح هل كان غنماً، أو كان من الوحوش مثلاً، باعتبار ظلمة الهواء أو تقطّع هذا الحيوان ونحو ذلك ممّا يوجب الشبهة الموضوعيّة، فإن فرضت التذكية أمراً بسيطاً جرى استصحاب عدم التذكية بنحو استصحاب العدم النعتيّ أو المحموليّ بحسب التفصيل الماضي في الشبهة الحكميّة، وإن فرضت التذكية نفس الأعمال من دون أخذ خصوصيّة للحيوان فيها، فمعنى ذلك عدم الشكّ في التذكية، فيرجع الشكّ في الحلّيّة إلى الفرض الأوّل، وإن فرضت التذكية نفس الأعمال مع فرض أخذ الخصوصيّة فإن أُخذت الخصوصيّة جزءاً جرى استصحاب عدم تلك الخصوصيّة بنحو العدم الأزليّ، وهنا اختلف الحال عن الشبهة الحكميّة، فإنّ الشكّ هناك كان في موضوعيّة الموجود فلم يكن مورداً للاستصحاب، وهنا في وجود الموضوع، فيستصحب عدمه. نعم، إن فرضت الخصوصيّة ذاتيّة، كالغنميّة دون الأهليّة مثلاً، أشكل الاستصحاب من ناحية الإشكال في استصحاب عدم الخصوصيّة الذاتيّة بنحو العدم الأزليّ، فيبتني على القول بصحّة استصحاب العدم المحموليّ حتّى في الذاتيّات.

373

وأمّا إذا اُخذت الخصوصيّة قيداً، فبالإمكان أن يقال: إنّنا من هذه الناحية لا نحتاج إلى استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ شأن المقيّد هو أنّه ينحلّ إلى ذات المقيّد والتقيّد مع خروج القيد، فلا نحتاج إلى استصحاب عدم القيد الذي هو عدم أزليّ، بل نتمسّك باستصحاب عدم المقيّد بما هو مقيّد، فإنّ ذات المقيّد وإن وقع بحسب الخارج لكنّ التقيّد والنسبة التقييديّة أمر مشكوك الوجود؛ لأنّ وقوعه فرع تماميّة الطرفين معاً، فمع الشكّ في ذلك يشكّ في حصول التقيّد، فيستصحب عدم المقيّد بما هو مقيّد. وعندئذ إن فرض أنّ موضوع الحلّيّة هو التذكية بما هي مضافة إلى ذات الحيوان جرى الاستصحاب من دون إشكال، وإن فرض أنّ موضوع الحلّيّة هو التذكية بما هي مضافة إلى الحيوان الزاهق الروح، فالاستصحاب يكون استصحاباً للعدم الأزليّ، وحيث إنّنا نقول باستصحاب العدم الأزليّ فلا إشكال عندنا هنا في الاستصحاب.

والتحقيق: أنّ ما ذكرناه من أنّ مجرى الاستصحاب في باب المقيّدات هو المقيّد بما هو مقيّد، لا القيد وإن كان صحيحاً كبرويّاً فيما هو مقيّد حقيقة وواقعاً، بأن لا يرجع أمره إلى التركيب بوجه يأتي بيانه في باب الاستصحاب إن شاء الله، لكنّ الفقهاء في الفقه لا يلتزمون في باب المقيّدات باستصحاب المقيّد أو عدمه بما هو مقيّد،بل يستصحبون القيد وجوداً وعدماً، فمن كان طاهراً ثمّ صلّى مع الشكّ في بقاء الطهارة مثلاً، أجروا فيه استصحاب الطهارة لا استصحاب عدم تحقّق الصلاة المقيّدة بالطهارة، مع أنّ الطهارة ليست جزءاً للصلاة، بل هي شرط وقيد لها، في حين أنّه يتراءى للذهن أنّ إثبات التقيّد أو عدمه باستصحاب القيد، أو عدمه تعويل على الأصل المثبت، فإن صحّ هذا فلا محالة نكشف عن ارتكاز وفهم عرفيّ للدليل، بحيث يخرج المقيّد عن كونه مقيّداً بالمعنى المباين للتركيب ويرجع التقييد بوجه من الوجوه ـ يأتي بيانه في باب الاستصحاب إن شاء الله ـ إلى