628

التمسّك بقرينة ارتكازيّة الشريعة أو امتنانيّة القاعدة، وهذا عبارة عن التقريب الأوّل والثاني.

هذا تمام الكلام في وجه تقدّم القاعدة على أدلّة الأحكام الأوليّة.

الإضرار بالتصرّف في الملك

الأمر الرابع: في تصرّفات المالك فيما يملك إذا كانت ضرريّة بالنسبة الى شخص آخر، من قبيل أن يحفر بالوعة في داره فيتضرّر بذلك بئر جيرانه أو جداره، فهل تبقى سلطنة المالك على حفر البالوعة ثابتة، أو لا؟

والكلام في ذلك تارة يقع بلحاظ القواعد الأوّليّة، أي: بغضّ النظر عن قاعدة (لا ضرر)، واُخرى بلحاظ قاعدة (لا ضرر).

أمّا الكلام بلحاظ القواعد الأوّليّة: فقد يتصوّر أنّ إطلاق دليل سلطنة الناس على أموالهم يحكم في المقام بأنّ من حقّ المالك حفر البالوعة في بيته وإن أضرّ بالجار، ولكن هذا غير صحيح لما يلي:

أوّلاً: لأنّ قاعدة السلطنة ليس لها دليل لفظي معتبر يتمسّك بإطلاقه، وإنّما هي قاعدة متصيّدة من الموارد المختلفة زائداً على الإجماع والارتكاز والسيرة، فيلتزم بها بمقدار قابليّة هذه المصادر لها لا أوسع من ذلك، ومن المحتمل أن لا تكون السلطنة ثابتة على ماله على الحصة الملازمة للإضرار بشخص آخر، ويكون ذلك خارجاً عن القدر المتيقّن لهذا الدليل اللبّي الناشىء من هذه المصادر، وحديث الناس مسلّطون على أموالهم ليس معتبراً سنداً.

ثانياً: لأنّنا لو سلّمنا هذا الحديث وفرضناه دليلاً لفظيّاً له إطلاق في نفسه لم يصحّ ـ أيضاً ـ التمسّك بإطلاقه في المقام، فإنّنا إمّا أن نفهم من حديث السلطنة أنّها سلطنة في مقابل قانون الحجر المجعول على السفيه ونحوه، فيدلّ على أنّ الأصل الأوّلي في الإنسان هو أن يكون غير محجور عليه، ويكون هو بنفسه الذي يمارس الصلاحيات المشروعة، وكلّ من خرج بدليل خاصّ عن ذلك يكون محجوراً عليه، ويكون وليّه هو الذي يمارس الصلاحيات المشروعة، وعليه فنفس هذه القاعدة لا تشرّع تلك التصرّفات المشروعة ولا تعيّنها، فكلّما شُكّ في جواز تصرّف تكليفاً أو وضعاً لا يمكن إثبات جوازه بالقاعدة.

وإمّا أن نفهم من الحديث أنّه في مقام إعطاء السلطنة على ماله بمعنى تجويز

629

التصرّفات التي يريدها، لا أنّ جوازها في نفسه مفروغ عنه في المرتبة السابقة، ويكون الحديث في مقام نفي المانع وهو أسباب الحجر، فعندئذ نقول ـ أيضاً ـ: إنّه لا يمكن الاستدلال بإطلاق الحديث في المقام؛ لأنّ المتفاهم منه عرفاً أنّه في مقام بيان أنّ المال ليست له عصمة في مقابل إرادة المالك كما له عصمة في مقابل الآخرين، فإذا احتملنا ضيقاً في دائرة سلطنة المالك من باب أنّ المال له عصمة في مقابله فذلك يُنفى بالقاعدة، ولكن إذا احتملنا ضيقاً في دائرة السلطنة لا بلحاظ المال، بل باعتبار كونه مؤدّياً الى الإضرار بالغير فهذا الاحتمال لا يرفع بالقاعدة، فإنّ غاية ما يستفاد منها أنّه من ناحية المال وكونه محترماً لا مانع أن يتصرّف فيه المالك.

هذا. وللمحقّق العراقي(رحمه الله) وجه آخر غير ما ذكرناه من الوجهين في مقام إثبات عدم إمكان الرجوع في المقام الى قاعدة السلطنة، وحاصله: إيقاع المعارضة بين إطلاق القاعدة لسلطنة المالك على حفر البالوعة في داره، وإطلاقها لسلطنة الجار على المحافظة على جداره وبئره، ولا يعقل جعلهما معاً؛ لأنّ كلاّ من السلطنتين تلازم منع الآخر من سلطنته(1).

ويرد عليه: أنّه لو سُلّم إطلاق القاعدة في نفسها لسلطنة صاحب البيت على تمام أنحاء التصرّف في بيته بما فيها حفر البالوعة، فذلك لا يعارض بإطلاقها لمحافظة الجار على جداره أو بئره، فإنّ المفهوم من كلمة (على) أنّ القاعدة إنّما تنظر الى السلطنة بلحاظ التصرّفات التي تمثّل جانب القهر والغلبة على المال، فله البيع والصلح والهدم واستيفاء المنافع ونحو ذلك، لا جعل الولاية له على كلّ ما له مساس بالمال وإضافة إليه، ولو كان عبارة عن منع الجار عن حفر البالوعة مثلاً في ملكه من باب أنّ هذا محافظة على ماله فله نحو إضافة إليه، ولكن ليس مصداقاً للقهر والغلبة على المال. وعلى أيّ حال، فقد عرفت أنّ قاعدة السلطنة لا أثر لها في المقام.

وبعد هذا قد يقال: إنّ المرجع هو الأصل، فنجري أصالة جواز حفر البالوعة، فينتج الأصل النتيجة التي كان يُرام تحصيلها من قاعدة السلطنة.

إلّا أنّ الصحيح أنّه لابدّ من الرجوع الى مدارك قاعدة السلطنة، ولا يبعد أن يقال: إنّ السيرة العقلائيّة تقتضي بحسب الارتكاز التفصيل بين ما لو كان المالك لا يتضرّر بترك حفر البالوعة، أو يتضرّر ضرراً يكون مندكّاً عرفاً في مقابل ضرر الجار، من


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 120.

630

قبيل مثال لوح السفينة الذي هو للغير، أو الأرض المستأجرة للزراعة لو أرادها صاحبها بعد انقضاء مدّة الإجارة، وما لو كان يتضرّر ضرراً غير مندكّ كأن يفرض مثلاً: أنّه لو لم يحفر البالوعة لانهدم بيته، ففي الأوّل لا يجوز للمالك التصرّف المضرّ بالآخر، وفي الثاني له هذا التصرّف، وما دام ضرر المالك لم يصل في الضآلة الى مرتبة القطع بالاندكاك بنحو يخرج التصرّف بحسب الارتكاز عن سلطنة المالك يكون الأصل هو الجواز.

وهذا المطلب مطابق لما هو المعروف في فتاوى الفقهاء، وأظن أنّ الفقهاء (قدس سرهم) تأثّروا بارتكازهم أكثر مما تأثّروا بالصناعات الاستدلاليّة.

وأمّا الكلام بلحاظ قاعدة (لا ضرر): فبعد أن نفرض تماميّة قاعدة السلطنة في نفسها، وأنّه وجد لها إطلاق لفظي، هل يمكن نفي هذه السلطنة باعتبار كونها ضرريّة أو لا؟

اعترض على التمسّك بالقاعدة لنفي السلطنة بوجوه أهمّها وجهان:

1 ـ أنّ القاعدة إرفاقيّة، وجريانها هنا خلاف الإرفاق بالنسبة للمالك.

ويرد عليه: أنّ هذا الكلام مبني على كبرى خاطئة: وهي أنّه اُخذ في القاعدة أنّ لا تكون خلاف الإرفاق على أحد، والصحيح أنّها إنّما تكون ارفاقيّة بالنسبة لمن تجري في حقّه، نعم لو بلغ خلاف الإرفاق بالنسبة لشخص آخر الى حدّ الضرر عليه دخل في باب تعارض الضررين، فلا تشمل القاعدة كلا الطرفين.

2 ـ دعوى المعارضة بين الضررين بافتراض أنّ تحريم الحفر ضرر على المالك، وذلك إمّا بدعوى أنّ نفس حرمانه من التصرّف في ماله ضرر عليه، أو بفرض مؤونة زائدة في المقام، بأن يفرض أنّه لو لم يحفر البالوعة لتجمّع الماء في بيته وتضرّر به بيته.

والكلام تارة يقع في الصغرى أي: أنّه هل يكون المقام من باب تعارض الضررين، أو لا؟ واُخرى في الكبرى أي: أنّه بعد فرض كونه من باب التعارض بين الضررين هل يتساقط الإطلاقان، أو يقدّم أحدهما على الآخر؟

أمّا البحث في الصغرى: فقد قالوا: إنّ تعارض الضررين إنّما يكون عند فرض تلك المؤونة الزائدة بأن يكون عدم حفر البالوعة مستلزماً لضرر في الدار، وأمّا مجرّد حرمانه عن التصرّف فليس ضرراً، وإنّما هو عدم النفع. وهذا الكلام صحيح إلّا أنّ تحقيقه: هو أنّ كون مجرّد الحرمان عن التصرّف ضرراً من دون فرض المؤونة الزائدة

631

أو لا، يتفرّع على أن نرى في المرتبة السابقة أنّ دائرة الارتكاز العقلائي في مقام إعطاء السلطنة للمالك هل تشمل السلطنة على التصرّف الضرري بالنسبة للجار من دون أن يكون في تركه ضرر غير مندكّ على المالك، أو لا؟ فإن شملت ذلك لم نحتج في مقام تصوير تعارض الضررين الى تلك المؤونة الزائدة، وكان مجرّد منع المالك عن التصرّف في ملكه ضرراً عليه، وإلّا احتجنا الى تلك المؤونة، وقد مضى عند التكلّم على مقتضى القواعد الأوليّة أنّ الارتكاز العقلائي لا يساعد على مثل هذه السلطنة، فصغرى تعارض الضررين إنّما تتمّ عند فرض تلك المؤونة الزائدة.

وأمّا البحث في الكبرى: فقد ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله)(1): أنّ قاعدة (لا ضرر) إنّما تجري بالنسبة الى تصرّف المالك، فتحرّم عليه التصرّف، ولا تجري لنفي الضرر على المالك، ولا يقع التعارض بين الإطلاقين؛ وذلك لأنّ حرمة التصرّف على المالك هي وليدة للقاعدة فلا تُنفى بالقاعدة، فإنّ القاعدة إنّما تكون حاكمة على الأدلّة الأوليّة، ومقتضى الأدلّة الأوليّة: إمّا هو جواز الحفر للمالك، أو حرمته، ولا يمكن أن تكون الأدلّة الأوليّة مقتضية لكلا الحكمين، فلا معنى للتعارض بين إطلاقين للقاعدة، والواقع عند المحقّق النائيني(رحمه الله): أنّ مقتضى الأدلّة الأوليّة هو جواز الحفر للمالك، فيرفع ذلك بقاعدة (لا ضرر) وتثبت الحرمة، وهذه الحرمة التي تولّدت من تطبيق القاعدة لا ترفع بالقاعدة، ولا تكون موضوعاً من جديد للنفي المجعول بها.

ثمّ اعترض(قدس سره) على نفسه: بأنّكم تقولون في باب دليل حجيّة خبر الواحد: إنّ القضية الحقيقيّة يمكن أن تشمل نفسها، وإنّ (صدّق العادل) يطبّق على إخبار الشيخ، فيولّد موضوعاً جديداً للحجيّة وهكذا، فلماذا لا تقولون بمثل ذلك في المقام؟!

وأجاب عن ذلك: بأنّ هذا إنّما يعقل فيما إذا لم تكن القضية الحقيقيّة مسوقة مساق النظر والحكومة، وأمّا إذا كانت كذلك كما هو الحال في قاعدة (لا ضرر)، فلا يعقل فيها ذلك، فلو كانت القاعدة مجرّد نفي للحكم الضرري من دون نظر الى الأدلّة التي تشمل بإطلاقها صورة الضرر، فلا بأس بأن يقال: إنّ الحكم الضرري المتولّد منها يصبح موضوعاً جديداً للنفي المستفاد من القاعدة، ولكنّ المفروض أنّ القاعدة حاكمة، ومعنى الحكومة النظر الى تلك الأدلّة نظراً تقييديّاً، فبالإمكان أن ينفى بها


(1) راجع قاعدة (لا ضرر) بقلم الشيخ موسى النجفي، ص 225.

632

إطلاق دليل السلطنة الشامل للفرد الضرري، فإنّها تنظر الى دليل السلطنة وتقيّده بالحكومة، ولكن ليس بالإمكان أن ينفى بها إطلاق نفس القاعدة الشامل للفرد الضرري، بأن تنظر الى نفسها، وتفرض ثبوت نفسها في المرتبة السابقة عليها، وتقيّدها بالحكومة، فإنّ هذا غير معقول وتهافت في عالم اللحاظ والنظر.

أقول: إنّ هذا الكلام إنّما تكون له صورة بناءً على مبنى المحقّق النائيني(قدس سره): من أنّ قوام حكومة القاعدة يكون بالنظر الى أدلّة الأحكام الواقعيّة نظراً تقييديّاً، ومن هنا يقول(رحمه الله): إنّ القاعدة لا يمكن أن ينفى بها أصل حكم ضرري من رأس كوجوب الجهاد مثلاً، وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ القاعدة تنظر الى الشريعة الإسلاميّة ككلّ، ويكون نظرها نظراً توضيحيّاً وشرحيّاً لها لا تقييديّاً، فهي إنّما تبيّن وصف الشريعة الإسلاميّة وتصفها بأنّها ليس فيها حكم ضرري، ومن هنا نبني على أنّ القاعدة تنفي ـ أيضاً ـ الحكم الذي يكون ضرريّاً من رأس، فلا يلزم أن يتصوّر نظر القاعدة الى شخص الأدلّة والأحكام الأوليّة حتّى يقال:إنّه يستحيل أن تنظر الى نفسها، وتفرض نفسها في المرتبة السابقة، وإنّما تنظر الى الشريعة الإسلاميّة ككلّ، وتنفي وجود حكم ضرري فيها، ولو تولّد حكم ضرري من نفس القاعدة أصبح موضوعاً جديداً لنفي الضرر الموجود فيها.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أن مقتضى قاعدة (لا ضرر) هو التفصيل بين ما لو كان ترك الحفر موجباً لضرر على المالك كانهدام بيته مثلاً أو لا، فإن لم يكن موجباً لضرر عليه جرت القاعدة في حقّ الجار فقط ولم يجز للمالك حفر البالوعة، وإن كان موجباً لضرر عليه تعارض الإطلاق، وكان مقتضى الأصل هو الجواز، وهذه هي نفس النتيجة التي توصّلنا إليها عندما تكلّمنا على مقتضى القواعد الأوليّة بغضّ النظر عن قاعدة (لا ضرر)، فقد تحصّل: أنّ إدخال عامل قاعدة (لا ضرر) وعدم إدخاله لا يغيّر من الموقف شيئاً.

هذا كلّه من حيث بيان الحكم التكليفي للمسألة، وأمّا الضمان فحتّى لو جاز للمالك حفر البالوعة كان ضامناً فيما إذا صدق عنوان الإتلاف؛ لأنّ الضمان بملاك الإتلاف، ومجرّد جواز التصرّف لا يخرج الإتلاف عن كونه موضوعاً لدليل الضمان.

هذا. وذكر المحقّق العراقي(رحمه الله)(1): أنّ من حفر بالوعة تؤثّر على بئر جيرانه


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 119 ـ 120.

633

فتارة يفرض أنّ ذلك يتلف أصل المال بأن ينضب ماء البئر، واُخرى يفرض أنّه يتلف وصفاً من الأوصاف الدخيلة في ماليّة الماء كالعذوبة، وثالثة يفرض أنّه لا يتلف وصفاً حقيقيّاً، ولكن يوجب نوعاً من تنفّر الطبع قائم على أساس تصوّر كون البئر قريباً من البالوعة ونحو ذلك من دون أيّ تغيير حقيقي في أوصاف الماء، ففي الأوّل والثاني يضمن؛ لأنّه أتلف مال الغير ذاتاً أو وصفاً، وأمّا في الثالث: فلا يضمن، بل ليس عمله حراماً أيضاً؛ لأنّه لم يتلف مال الغير، وإنّما اتلف ماليّته لكون التنفّر الطبعي يوجب قلّة الماليّة والرغبة العقلائيّة فيه، وذلك ليس من المحرّمات ولا من موجبات الضمان، ولهذا لا يستشكل أحد في أنّه لو قلّل ماليّة مال شخص آخر بإصدار بضاعة مماثلة لبضاعته الى السوق لم يكن ذلك حراماً، ولا موجباً للضمان.

أقول: إنّ مسألة ضمان الماليّة لها عرض عريض في باب الضمانات، وهذا النقض يتمسّك به دائماً لإثبات عدم ضمان الماليّة؛ لكونه مصداقاً واضحاً لعدم الضمان.

والفرع الآخر الذي يكون شبيهاً بما نحن فيه: هو أنّه لو غصب شخص كميّة من العباءات الصيفيّة في الصيف، وأرجعها في الشتاء فقد قال الفقهاء بأنّه لا يضمن؛ لأنّه أرجع إليه نفس ماله؛ لأنّ العباء لم ينقص ذاتاً ولا وصفاً، غاية الأمر أنّ قيمته الآن أنزل منها وقتئذ، والماليّة غير مضمونة، وإلّا لانتقض بتاجر الحنطة مثلاً الذي يستورد حنطة كثيرة فينزّل قيمة الحنظة الموجودة عند الآخرين.

وتفصيل الكلام في هذا المطلب موكول الى بحث الضمان أي: بحث المقبوض بالعقد الفاسد من المكاسب وليس هنا موضعه، إلّا أنّني أذكر هنا كلمة واحدة بنحو الاختصار كأساس لبحث الضمان وهي:

أنّه لابدّ من التمييز بين نقصان الماليّة الناشىء من نقصان القيمة الاستعماليّة للمال، ونقصان الماليّة الناشىء من نقصان القيمة التبادليّة للمال، فإنّ للمال قيمتين: قيمة استعماليّة: وهي القيمة التي تتحصّل من منافع هذا المال وإشباعه لحوائج الإنسان الطبيعيّة بغضّ النظر عن عرضه بالسوق ووجود مشتر له، وقيمة تبادليّة والتي يعبّر عنها في العرف الاعتيادي بالسعر والثمن السوقي أي: قوة تبادل هذا المال مع مال آخر، والقيمة التبادليّة تؤثّر فيها القيمة الاستعماليّة، فإنّ الشيء الذي ليست له قيمة استعماليّة ولا ينفع أصلاً ليست له قيمة تبادليّة في السوق، فالقيمة الاستعماليّة دخيلة في تكوين القيمة التبادليّة، لكن يدخل في تكوين القيمة التبادليّة

634

عامل آخر أيضاً وهو كميّة العرض والطلب، وهذا العامل ليس مؤثّراً في القيمة الاستعماليّة.

إذا اتّضح هذا قلنا في المقام: إنّ القيمة الاستعماليّة للشيء في الواقع هي وصف من الأوصاف القائمة بالشيء، فإنّها عبارة عن قابليّة الشيء للانتفاع به، وهي حيثيّة قائمة به كسائر حيثيّاته القائمة به كسواده ونعومته وهذه الحيثيّة تستند الى اُمور خارجيّة واُمور نفسيّة، فإنّها كما تستند الى سواد العباءة ومتانتها مثلاً، كذلك تستند الى الحاجة الى العباءة، وكون الجوّ حارّاً أو بارداً، وكذلك ماء البئر يستند في قابليّته لإشباع حاجة الإنسان الى صفائه وعذوبته، والى انشراح الإنسان له، فقميته الاستعماليّة تضعف بإيجاد تنفّر الطباع عنه، ويكون ذلك من قبيل ما لو أوجد شخص حركات معيّنة ومشاغبات في بيت شخص بحيث أوهم أنّه مسكون للجن، وبذلك اشمأزّت الطباع منه من دون أن يؤثّر في هذا البيت شيئاً، فهذا قد قلّل القيمة الاستعماليّة للبيت، وتقليلها كتقليل أيّ حيثيّة من الحيثيّات القائمة بالبيت يوجب الضمان، فلو قلّلها بعنوان الإتلاف يوجب الضمان بقاعدة الإتلاف، ولو قلّت تحت يده ويده يد ضمان ثبت الضمان بمقتضى قاعدة اليد كلّ حسب شرائطه وقانونه.

وأمّا لو فرض أنّ القيمة الاستعماليّة لم تقلّ بوجه من الوجوه، وإنّما قلّت القيمة التبادليّة من باب زيادة العرض بحسب الخارج، فهذا ليس ضرراً ونقصاً فيما هو تحت يد المالك فعلاً، وإنّما النقص أمر تقديري تعليقي يعني: لو أنّه بدّله بمال آخر سابقاً لحصل على مال أكثر ممّا يبدّله به الآن، ومثل هذا النقص التعليقي ليس ضرراً بالفعل، ولا ينبغي أن يقاس به محل الكلام. وتحقيق المطلب مفصلاً موكول الى بحث المكاسب(1).

 


(1) الإضرار بالنفس

وفي ختام بحث (لا ضرر) لا بأس بالإشارة الى مسألة الإضرار بالنفس ضرراً غير واصل الى مستوى يشمله دليل حرمة الإلقاء في التهلكة ونحو ذلك؛ لكي نرى هل يمكن إثبات تحريمه بـ(لا ضرر) كما يثبت تحريم الإضرار بالغير من دون رضاه بـ(لا ضرر)، أو لا؟ وإن كان يتّضح ذلك بالتأمّل فيما مضى من الأبحاث السابقة.

ونشرح ذلك وفق مبنيين من المباني في تفسير (لا ضرر):

الأوّل: مبنى تفسيره بنفي الحكم الضرري، فعلى هذا المبنى من الواضح عدم دلالة (لا

635

وبهذا انتهى البحث في قاعدة (لا ضرر)، وبه تمّ الكلام في مباحث البراءة والاشتغال ولنشرع بعد هذا في مباحث الاستصحاب إن شاء اللّه.

 


ضرر) على تحريم الإضرار بالنفس؛ وذلك لأنّ جواز الإضرار بالنفس لا يعتبر حكماً ضرريّاً؛ لأنّ المكلّف لا يكون أمام هذا الجواز مكتوف اليد شرعاً لا محيص له إلّا الرضوخ لتحمّل الضرر كي يعتبر الجواز حكماً نشأ منه الضرر، وإنّما ينسب هذا الضرر الى اختيار نفس الشخص لا غير، وهذا بخلاف الإضرار بالغير، فإنّه لو جاز ذلك كان هذا يعني تحميل الغير الضرر؛ لأنّ الغير لا يملك أمام هذا الجواز حولاً أو طولاً، فلو ضرّره من جاز له الإضرار اعتماداً على جواز الإضرار كان هذا الضرر مستنداً الى ذاك الجواز، فيكون منفيّاً بـ(لا ضرر).

والثاني: ما اختاره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من تفسير ذلك بمعنى نفي الضرر الخارجي المقيّد بنشوئه من الشريعة، أو في دائرة تطبيق الشريعة. والوجه في هذا القيد أمران:

أحدههما: أنّ نفي الضرر الخارجي على الإطلاق واضح الكذب.

وثانيهما: أنّ ظاهر حال الشارع في المقام أن يكون المقصود بنفي الضرر نفيه له بما هو شارع، لا بما هو خالق ومكوّن، وهذا لا ينسجم مع نفي الضرر الخارجي على الإطلاق، وإنّما ينسجم مع نفي الضرر المستند الى الشارع بما هو شارع، وهو الضرر الناشىء من الشريعة.

والوجه الأوّل لا يستلزم خروج الإضرار بالنفس عن إطلاق الحديث، فإنّه لو نفي الضرر الذي يتحقّق بلحاظ جواز الإضرار بالنفس لم يكن ذلك كذباً، ولكنّ الوجه الثاني يستلزم خروج ذلك عن الإطلاق؛ لأنّ الضرر الذي يُلحقه الإنسان بنفسه عمداً لكونه جائزاً شرعاً لا يستند الى الشارع بما هو شارع؛ لأنّ هذا الإنسان كان بإمكانه أن لا يضرّ نفسه رغم التزامه بالشريعة؛ لأنّ الشريعة لم توجب عليه هذا الإضرار، وإنّما حقّق هذا الضرر بمحض إرادته، ولم يكن هو مكتوف الأيدي أمام حكم الشارع لا حول له ولا طول، بل كان بإمكانه أن يتحرّز من الضرر بتركه، فإنّ جواز الضرر يعني جواز فعله وجواز تركه، وهذا بخلاف باب الإضرار بالغير، فإنّه لو جاز ذلك لم يكن للغير حول ولا طول شرعيّ أمام هذا الجواز، وكان ضرره مستنداً الى الشارع بما هو شارع.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.