341

الانطباق على فرد لا يشكّ في انتفائه، فلا يجري الاستصحاب. واُخرى لا يقطع بالفعل بانتفاء الفرد، وإنّما يعلم بقضية شرطيّة كما في المثال الوارد في التقرير، حيث يعلم بهلاك الحيوان على تقدير وجوده في الجانب الغربيّ من الدار، والعلم بالقضية الشرطيّة ليس إلاّ علماً بالملازمة بين الشرط والجزاء، وليس علماً بالجزاء بالفعل، ولا علماً بالجزاء على تقدير وجود الشرط واقعاً، ولهذا قد يكون الشرط في علم الله متحقّقاً، ومع ذلك لا يعلم الإنسان بالجزاء فعلاً. نعم، لو حصل القطع بالشرط حصل القطع بالجزاء.

إذن، فلا مبرّر لإنكار جريان الاستصحاب في مثل المثال الذي ورد في التقرير، وهو من استصحاب الفرد المعيّن.

 

موارد استغناء المكلف عن استصحاب الفرد المردّد:

الجهة الخامسة: في الموارد التي يستغني المكلف عن استصحاب الفرد المردّد، حيث يتنجّز عليه أثره، سواءٌ جرى استصحاب الفرد المردّد بمعنى: استصحاب واقع الفرد المعيّن عند الله والمردّد عندنا، أو بمعنى: استصحاب الجامع الانتزاعي بهدف تنجيز آثار الفرد، أو لم يجرِ.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّ المكلّف تارةً يحصل له العلم الإجمالي بأحد الفردين قبل ارتفاع الفرد القصير، وأخرى يحصل له العلم بذلك بعد ارتفاعه وزوال أثره.

أمّا القسم الأوّل، فنذكر تحته ثلاث صور:

1 ـ أن يعلم المكلّف حدوثاً بتحقّق أحد الفردين، والمفروض أنّ ثمة أثراً على كلّ من التقديرين، وهو يعلم بالإضافة إلى ذلك أنّ أحد الفردين طويل، أي: على تقدير وجوده فهو باق إلى الآن الثاني أيضاً. وفي مثل هذه الصورة يكون المكلّف في غنىً عن استصحاب الفرد المردّد؛ لأنّه إنّما يريده لكي ينجّز أثر الفرد الطويل في الآن الثاني، وأمّا القصير فهو منتف حسب الفرض ـ وكلامنا في موارد الإلزام الذي يراد بالاستصحاب فيه تنجيز التكليف لا الترخيص ـ، وأثر الفرد الطويل في مثل هذه الصورة منجّز بنفس العلم الإجمالي الذي يحمله المكلّف، حيث إنّه كما ينجّز الفردين حدوثاً ينجّز الفرد الطويل بقاءً مع الفرد القصير حدوثاً، للعلم إجمالاً بأحدهما، وهو منجّز على ما هو الصحيح من منجّزيه العلم الإجمالي في التدريجيات. وعليه، فلا يحتاج إلى استصحاب الفرد المردّد، بل ويكون لغواً؛ لأنّ أثره حاصل بنفس العلم الإجمالي، ولو كان قد جرى فتأثيره وتنجيزه يكون بالعلم الإجمالي كما رأينا في الجهة الثانية، فبعد أن كان العلم الإجمالي نفسه موجوداً، وجعل هذا

342

الاستصحاب لا يوصل إلى التنجيز إلاّ بنفس قانون تنجيز العلم الإجمالي فيكون ـ لا محالةـ جعله لغواً في مثل هذا المورد.

2 ـ نفس الصورة مع فرض أنّ المكلّف غير عالم بأنّ أحد الفردين طويل، ولكن المفروض أنّه محتمل البقاء إلى الآن الثاني على تقدير حدوثه. والحكم في هذه الصورة كالصورة السابقة ـ أيضاً ـ من حيث الاستغناء عن استصحاب الفرد المردّد دون لغويّته.

ذلك: أنّ المكلف وإن لم يكن عنده علم إجمالي بين الفرد القصير حدوثاً والطويل بقاءً، كي يتنجّز أثره بهذا العلم، إلاّ أنّه يجري في حقّه استصحاب بقاء الفرد الطويل على تقدير حدوثه ـ على مبنانا الذي لم نشترط فيه اليقين بالحدوث في جريان الاستصحاب، واكتفينا بذات الحدوث أيضاً، وبذلك يتشكّل له علم إجمالي ـ إذا كان ملتفتاً إلى هذا الاستصحاب، بأنّه: إمّا يجب عليه الآن آثار الفرد القصير واقعاً، أو يجب عليه آثار الفرد الطويل في الآن الثاني استصحاباً وظاهراً. وهذا علم إجمالي منجّز حسب قواعد تنجيز العلم الإجمالي.

وأمّا قولنا: إنّ استصحاب الفرد المردّد في هذه الصورة ليس كالصورة السابقة في اللغوية، مع أنّه هنا ـ أيضاً ـ توصّلنا إلى أثره ونتيجته العمليّة من دون الاحتياج إليه، فلإنّه هنا قد توصّلنا إلى ذلك بالاستصحاب المعلّق على حدوث الفرد الطويل، لا بالعلم الإجمالي. وحال هذا الاستصحاب كاستصحاب الفرد المردّد من حيث كونهما معاً أصلين مؤثّرين في إيجاد العلم الإجمالي المنجّز، فكلاهما في مرتبة واحدة من حيث الأثر والنتيجة، فلا يمكن فرض أحدهما لغواً في قبال الآخر.

3 ـ ما إذا لم يكن للفرد القصير أثر حدوثاً، وإنّما أثره في فرض بقائه. وهنا نحتاج إلى استصحاب الفرد المردّد؛ إذ ليس هنالك ما يحرز لنا أثر الفرد الطويل بقاءً لو لم نقل بجريان الاستصحاب في الفرد المردّد بأحد معنييه الماضيين.

وأمّا القسم الثاني الذي يكون فيه العلم الإجمالي بأحد الفردين حاصلاً بعد ارتفاع الفرد القصير، فهذا حكمه حكم الصورة الثالثة من القسم الأوّل، من الاحتياج إلى استصحاب الفرد المردّد وعدم الاستغناء عنه؛ لأنّ العلم الإجمالي قد حصل حسب الفرض بعد زوال أحد طرفيه، وبذلك لا يمكنه التنجيز بنفسه. وهذا واضح لا شائبة فيه.

 

عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في موارد الشبهات المفهومية

الجهة السادسة: قد اتضح مما ذكرناه عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في موارد

343

الشبهات المفهومية، كما إذا شك في أنّ مفهوم العادل هل يشمل من فعل الصغيرة أو لا، وكان زيد عادلاً تاركاً لجميع الذنوب، ثمّ ارتكب الصغيرة، فهنا لا يجري استصحاب بقاء العدالة؛ لأنّ استصحاب بقاء العدالة بعد ارتكاب الصغيرة إن قصد به استصحاب صدق لفظة العادل عليه عرفاً ولغةً، فهذا وإن تمّت فيه أركان الاستصحاب، غير أنّه ليس بموضوع الأثر الشرعي كي يترتّب عليه الحكم والأثر؛ وذلك لأنّ الحكم للواقع والمعنى، لا للفظ وصدقه. وإن قصد به إجراء الاستصحاب في المعنى والواقع، فهذا من استصحاب الفرد المردّد بين ما يجزم بارتفاعه وهو ترك الذنوب جميعاً، وما لا يجزم بارتفاعه وهو ترك الكبائر، والحكم ثابت لأحدهما المردّد بين ما ارتفع يقيناً وما لم نعلم بارتفاعه.

 

الشبهة العبائية

الجهة السابعة: في الشبهة العبائية، وهي محاولة أثيرت للقضاء على استصحاب الكلّي في هذا القسم، حيث يحاول أن يبرز النتائج واللوازم العملية الغريبة التي لا يمكن الالتزام بها فقهياً وشرعياً، فيكون ذلك دليلاً وشاهداً على بطلان الملزوم، أي: استصحاب الكلي، وقد اُبرز هذا الشيء في مثال العباءة، حيث فرض أنّ هنالك عباءة علم إجمالاً بنجاسة أحد جانبيها، ثمّ غُسل أحد جانبيها، وعندئذ يقال: إنّنا لو لاقينا بيدنا الطرف غير المغسول فقط كان الحكم طهارة اليد وعدم لزوم الاجتناب، بناءً على عدم وجوب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، بينما لو لاقينا بيدنا إضافة إلى ذلك الطرف المغسول والمطهّر حقيقة، كان الحكم نجاسة اليد الملاقية، حيث تكون ملاقية للنجاسة الثابتة باستصحاب كلّي النجاسة في العباءة، وهذا معناه أنّ ملاقاة الطرف الطاهر توجب التكليف ولزوم الاجتناب على المكلف. وهذا أمر غريب فقهيّاً ومتشرعيّاً.

وقد ردّ السيّد الاُستاذ هذه الشبهة بأنّ الاعتراف بهذه النتيجة الغريبة لا مانع منه، فإنّ الحكم بنجاسة اليد الملاقية ظاهراً بمجرد الملاقاة للطرف الطاهر مع الحكم بطهارة ذلك الطرف أمر معقول، يلتزم به على مستوى الاُصول العمليّة والأحكام الظاهريّة، فإنّ التفكيك في مؤدّياتها بين المتلازمات أمر ليس بعزيز(1)، وأيّاً ما كان، فهنا مطلبان ينبغي أن نتعرّض لهما:


(1) راجع مصباح اصول: ج3، ص113.

344

المطلب الأوّل: في مورد هذه الشبهة.

فإنّ ظاهر عبائر بعض من تعرّض لهذه الشبهة عدم التفرقة بين ما إذا كانت الملاقاة للجانب المغسول من العباءة أوّلاً ثمّ للجانب غير المغسول، أو بالعكس، بينما الصحيح: أن تجعل الشبهة في الصورة الثانية فحسب وهي ما إذا لاقت اليد مثلاً الجانب غير المغسول أوّلاً، ثمّ لاقت الطرف المغسول. وأمّا في الصورة الأولى فلا تجري الشبهة حتّى لو جرت وتمّت في الثانية؛ وذلك لأنّ استصحاب بقاء النجاسة على إجمالها في العباءة لأثبات نجاسة الملاقي معارض باستصحاب طهارة الملاقي ـ وهو اليد ـ تلك الطهارة الثابتة بين الملاقاتين، حيث إنّ الملاقي نحن نقطع ببقاء طهارته حتّى بعد ملاقاته للطرف المغسول، فنستصحب هذه الطهارة لا الطهارة الثابتة قبل الملاقاتين معاً، التي هي محكومة لاستصحاب بقاء النجاسة المجملة في العباءة. وهذا الاستصحاب لا يكون محكوماً لاستصحاب النجاسة المجملة في العباءة؛ لوضوح أنّ النجاسة المجملة المردّدة بين الجانبين على تقدير ثبوتها إنّما يكون بإمكانها أن ترفع الطهارة الثابتة للملاقي قبل الملاقاتين معاً، أمّا الطهارة التي هي ثابتة بالقطع والوجدان بين الملاقاتين، فبقاؤها ليس إلى ما بعد الملاقاة الثابتة محكومة لاستصحاب تلك النجاسة المردّدة؛ لأنّ استصحاب تلك النجاسة لا يثبت أنّها في الطرف الآخر الذي لاقيناه ثانياً، إلاّ بنحو الملازمة التي هي من الأصل المثبت. إذن، فالتعبّد: ببقاء هذه الطهارة بالاستصحاب غير محكوم لشيء، وبكلمة أخرى: أنّ هذه الطهارة المثبتة بين الملاقاتين والتي يستصحب بقاؤها لا يكون زوالها مسبّباً عن نجاسة الجامع بين الطرفين على حدّ تسبّب نجاسة الملاقي عن نجاسة الملاقى، وإنّما زوالها يكون بنجاسة خصوص الطرف غير المغسول التي لا تثبت باستصحاب الكلي. إذن، فاستصحاب كلّي نجاسة أحد الجانبين لا يكون حاكماً على استصحاب طهارة اليد، بل يتعارضان في إثبات طهارة اليد ونجاسته(1).

هذا. ويمكن تعميم فكرة التعارض للصورة الاُخرى أيضاً، أعني: صورة ما إذا لاقت اليد أوّلاً الجانب غير المغسول من العباءة، ثمّ لاقت الجانب المغسول؛ فيصبح هذا البيان بذاته جواباً عن الشبهة العبائية وذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أنّنا نستصحب أوّلاً طهارة اليد إلى ما بين الملاقاتين، وهذا الاستصحاب إلى هنا غير محكوم لاستصحاب نجاسة الجامع كما هو واضح، ثمّ نستصحب الطهارة الثابتة


(1) ويكون المرجع أصالة الطهارة في اليد.

345

لليد بين الملاقاتين إلى ما بعد الملاقاة الثانية، وهي لا ترتفع إلاّ بنجاسة الطرف الذي تلاقيه اليد ثانياً، لا بنجاسة الجامع، ولا نقصد بهذا الاستصحاب استصحاب الطهارة الظاهرية، كي يقال بأنّ الطهارة الظاهرية تزول بعد الملاقاة الثانية وجداناً لحكومة استصحاب نجاسة الجامع عليه، بل نقصد به استصحاب الطهارة الواقعية التي أحرزها الاستصحاب ظاهراً فيما بين الملاقاتين، وذلك بأحد تخريجين:

1 ـ إنّ الطهارة الواقعية فيما بين الملاقاتين متيقّنة لنا تعبّداً وإن لم تكن متيقّنة وجداناً، فإنّ الاستصحاب قطع تعبّدي بناءً على مبنى قيامه مقام القطع الموضوعي، وقد تعلّق بها الشكّ بعد الملاقاة الثانية، فتكون أركان الاستصحاب تامّة.

2 ـ إنّنا نبني على عدم أخذ اليقين بالحدوث في الاستصحاب، بل نفس الحدوث كاف في الموضوع، كما استظهرناه من بعض الروايات، وبما أنّ هذا الركن يثبت بالاستصحاب، والركن الآخر وهو الشكّ في البقاء بعد الملاقاة الثانية محرز وجداناً فتتمّ أركان الاستصحاب ـ أيضاً ـ على هذا التخريج، ويكون جارياً. إذن فلا يكون استصحاب النجاسة المجملة في أحد الطرفين حاكماً ـ حتّى في هذه الصورة ـ على استصحاب طهارة اليد، بل يتعارضان، غير أنّ هذا البيان فيه جانبان ينبغي الالتفات إليهما:

الأوّل: أنّه هل المأخوذ في الاستصحاب هو الشكّ في الوجود في الآن الثاني، أو الشكّ في الارتفاع؟ فلو استظهرنا الثاني لم يكن في المقام استصحاب بقاء الطهارة الثابتة فيما بين الملاقاتين جارياً؛ لأنّه لا يحتمل ارتفاع تلك الطهارة التي أثبتناها بالاستصحاب فيما بين الملاقاتين على تقدير ثبوتها في هذه الصورة؛ إذ المفروض أنّ الملاقاة الثانية كانت مع الطرف المغسول والطاهر، وإنّما المحتمل هو ثبوتها في ذلك الوقت وفيما بعده، أو ارتفاعها كذلك، أمّا التفكيك فغير محتمل. إذن فاحتمال ارتفاع تلك الطهارة فيما بعد الملاقاة الثانية غير موجود حتّى يتحقّق موضوع الاستصحاب، وهو الشكّ في الارتفاع. نعم، الشكّ في أصل الوجود فلو كان المستظهر من دليل الاستصحاب أصل الشكّ في وجود المستصحب في الآن الثاني جرى الاستصحاب.

الثاني: أنّ الشكّ بعد الملاقاتين في الطهارة هو ـ في الحقيقة ـ نفس الشكّ بين الملاقاتين فيها، وليس شكّاً جديداً؛ لعدم احتمال التفكيك بين الزمانين كما قلنا. إذن فيكون هو عين الشكّ في بقاء الطهارة الثابتة قبل الملاقاتين، وقد قلنا: إنّ استصحاب الطهارة الثابتة قبل الملاقاتين محكوم بعد الملاقاتين لاستصحاب بقاء جامع النجاسة؛ لأنّه مسبّب بلحاظه.

346

التقريب الثاني: أن نفترض مبنىً فقهياً هو: أنّ لدينا موضوعاً مركّباً للحكم بالطهارة بقاءً، وهو طهارة الشيء حدوثاً وعدم ملاقاته للنجاسة بقاءً. وفي المقام قد ثبتت طهارة الملاقي فيما بين الملاقاتين بالاستصحاب، وعدم ملاقاتها للنجاسة إلى ما بعد الملاقاة الثانية محرز بالوجدان حسب الفرض؛ لأنّ الملاقاة كانت مع الطرف المغسول، فترتّب على نفس استصحاب بقاء الطهارة إلى ما بين الملاقاتين الطهارة بعد الملاقاة الثانية، ويقع التعارض بين هذا الاستصحاب واستصحاب جامع النجاسة أيضاً.

وهذا البيان ـ أيضاً ـ باطل لبطلان مبناه الفقهي، حيث إنّ الصحيح فقهياً، والذي يستفاد من الأدلّة أنّ الطهارة حدوثاً وبقاءً جعلت في عرض واحد على الشيء ما لم يلاقِ النجاسة، لا أنّ الطهارة في الساعة الاُولى جزء الموضوع للحكم بطهارة الشيء في الساعة الثانية، بل الشيء الذي ليس من أعيان النجاسات حكم عليه بحكم واحد بالطهارة المستمرّة إلى أنّ يلاقي النجس.

 

والمطلب الثاني: في صحّة الشبهة وبطلانها.

والصحيح أنّها غير تامّة؛ وذلك لأنّه: إن قصد بها استصحاب النجاسة المضافة إلى طرف من الطرفين المعيّن عند الله وفي الواقع، دَخَل هذا في استصحاب الفرد المردّد الذي قلنا بعدم جريانه. وإن قصد بذلك استصحاب النجاسة بما هي مضافة إلى مجموع الملاقيين لليد، أي: إلى الجامع بين الطرفين، فهذا الاستصحاب لا يثبت نجاسة اليد الملاقية إلاّ بالملازمة العقلية؛ وذلك: أنّ هذه النجاسة لو فرض محالاً وقوفها على الجامع وصرف الوجود، ولم تسرِ إلى شيء من الطرفين الملاقيين لليد، وبقي الطرفان طاهرين، لم تكن تتنجّس اليد الملاقية لهما، غير أنّنا نعلم من الخارج أنّ النجاسة يستحيل أن تقف على الجامع بحدّه الجامعي؛ إذ ليست هي كالأحكام التكليفية من الأمر والنهي التي قد تقف على الجامع وصرف الوجود من دون سريانها إلى الأفراد، وإن كان امتثالها وعصيانها بلحاظ الإتيان بالأفراد أو تركها، فإذا كان الجامع بين الطرفين نجساً فالنجاسة موجودة حتماً في أحد الطرفين المتلاقيين مع اليد، فتتنجّس اليد لا محالة، إلاّ أنّ هذا الأمر العقلي لا يمكن إثباته بالاستصحاب.

ثمّ إنّه هل تثبت باستصحاب نجاسة الجامع بين الطرفين المانعية عن الصلاة وإن كان الطرف غير المغسول بنفسه منجّزاً على المكلف بالعلم بالإجمالي؛ إذ لا يرفع تنجيزه الثابت منذ البدء بإخراج أحد طرفيه عن مورد الابتلاء، فيكون هذا الاستصحاب مؤكّداً للتنجيز،

347

وموجباً للاحتياط بنفسه؟(1).

قد يقال في الجواب: إنّ النجاسة إن فرضت مانعة في الصلاة بنحو صرف الوجود، ويترتّب على ذلك: أنّ من اضطرّ إلى لبس شيء من النجس في الصلاة جاز له تكثير النجاسة لتحقّق هذا الوجود، ولا يفرّق بعد ذلك بين القليل والكثير، أو بنحو مطلق الوجود، فكلّ نجاسة مانع مستقلّ، ويترتّب عليه لزوم الاقتصار على قدر الاضطرار عند الاضطرار إلى لبس النجس، فعلى الأوّل تثبت المانعية باستصحاب نجاسة الجامع.

وعلى الثاني يكون الأثر للحصّة؛ إذ الأثر إذا كان بنحو مطلق الوجود رجع إلى الحكم على الحصص، فيدخل في استصحاب الفرد المردّد في الحصّة، أي: استصحاب الحصّة المردّدة.

غير أنّ الصحيح: أنّه لا يجري هذا الاستصحاب حتّى إذا بنينا على أنّ النجاسة ملحوظة بنحو صرف الوجود؛ وذلك: لأنّنا ذكرنا فيما سبق: أنّ مانعية صرف الوجود لا تكون معقولة إلاّ بأن ترجع إلى شرطية ضدّها، وهو الطهارة، وشرطية الطهارة تكون ـ لا محالة ـ بنحو مطلق الوجود حيث يجب أن تكون تمام الحصص والقطعات طاهرة فيكون الاستصحاب بلحاظها في الحصص لا في الجامع فيكون من الفرد المردد.

 

استصحاب جامع الحكمين بعد انتفاء أحدهما

الجهة الثامنة: في استصحاب الجامع بين حكمين بعد انتفاء أحدهما.

والحكمان اللذان يعلم بانتفاء أحدهما تارةً يفترض اختلافهما من حيث المتعلّق، كما لو دار الأمر بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة، وقد سقط أحدهما بالامتثال مثلاً. وأخرى يفترض اتّحادهما في المتعلّق، كما لو دار الأمر بين وجوب الجلوس في المسجد إلى الظهر ووجوبه إلى المغرب:

فإذا اختلف الحكمان في المتعلّق فالكلام هو الكلام في استصحاب الجامع بين موضوعين بهدف تنجيز آثار الفرد، حيث يقال: إنّ استصحاب الجامع بين الحكمين إن قصد به إجراء الاستصحاب في أحدهما الثابت المعيّن عند الله، فهو من الفرد المردّد الذي يكون مقطوع الارتفاع على أحد التقديرين. وإن قصد به استصحاب الجامع لتنجيز الحكم الذي لم يقطع


(1) ويظهر الأثر العملي لذلك فيما لو فرض عدم الاطّلاع على النجاسة إلاّ بعد غسل أحد الطرفين.

348

بارتفاعه، فهو غير ممكن؛ لأنّ أحد الطرفين ممّا لا يقبل التنجيز للقطع بارتفاعه بالامتثال، أو العصيان، أو غير ذلك من فروض الارتفاع.

وإذا اتّحد الحكمان في المتعلّق فهذا ينقسم إلى قسمين:

1 ـ أن تكون الشبهة حكمية، كما لو علم إجمالاً بأحد جعلين لوجوب الجلوس من الآن: إمّا جعل قصير أمده إلى ساعة مثلاً أو جعل طويل أمده إلى ساعتين، فنحن في الساعة الثانية نشكّ في وجوب الجلوس، فنستصحب الجامع بين الحكمين، فقد يتصوّر أنّ هذا ملحق بالقسم السابق، وأنّه يرد فيه نفس الإشكال السابق.

ولكنّ الصواب: أنّ هذا ليس من استصحاب الكلّي أصلاً، بل هو من استصحاب الشخص، حيث يعلم بجعل واحد معيّن لا يدرى أمده، وأنّه هل يرتفع إلى ساعة. أو يمتدّ إلى ساعتين، فيستصحب.

نعم، إذا فرض تعدّد الموضوع والشرط في كلّ من الجعلين، بأن أحتمل جعل وجوب الجلوس إلى ساعة معلّقاً على دخول زيد، أو جعل وجوب الجلوس إلى ساعتين معلّقاً على دخول عمرو، وقد علمنا بدخولهما، أو بدخول ما هو موضوع الأثر على إجماله إلى المسجد، فهنا قد يتوهّم ورود الإشكال الذي ذكرناه فيما سبق؛ لتعدّد الجعل، غير أنّه يندفع بما نذكره في القسم الآتي.

2 ـ أن تكون الشبهة موضوعية، كما لو علم بوجوب الجلوس في المسجد إلى الظهر لو دخل زيد الدار، وإلى المغرب لو دخل عمرو الدار، وقد علمنا بدخول أحدهما، ولم نعلم أيّهما هو الذي دخل، وهنا قد يتصوّر ـ أيضاً ـ جريان ما مضى في فرض تعدّد المتعلّق، فلا يمكن استصحاب الجامع؛ لأنّه غير قابل للتنجّز على أحد تقديرين.

غير أنّ الصحيح: جريان الاستصحاب هنا، وذلك بأحد بيانين:

1 ـ إنّ الجامع هنا بما هو جامع قابل للتنجّز مع قطع النظر عن فرديه، بحيث لو فرض محالاً وجوده بحدّه الجامعي كان منجّزاً بالعلم به، وهذا بخلافه في صورة تعدّد المصبّ، فإنّه هناك لا يتنجّز الجامع بين الحكمين لو وجد محالاً مجرّداً عن خصوصياته في أحد الفردين، وإنّما يقبل التنجيز بما هو في ضمن أحد فرديه: من وجوب الجمعة أو وجوب الظهر، فإذا كان أحد الفردين غير قابل للتنجيز، كان الجامع جامعاً بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبل، فلا يتنجّز، والعلم بالجامع بين ما يقبل النتجّز وما لا يقبل لا يدفع الإنسان نحو الاحتياط وامتثال الواقع.

349

ونكتة الفرق بين المقامين: أنّه في فرض تعدّد المتعلّق ليس الجامع معيّناً من ناحية التعلّق، فلا هو متعلّق بصلاة الجمعة، وإلاّ لما كان جامعاً لوجوب صلاة الظهر، ولا هو متعلّق بصلاة الظهر، وإلاّ لما كان جامعاً لوجوب صلاة الجمعة، ولا هو متعلّق بالجامع بينهما، وإلاّ كان وجوباً تخييريّاً، بل هو جامع بين وجوبين لكلّ منهما متعلّق ينفرد عن الآخر في مرحلة الامتثال الخارجي، فهذا الجامع لا متعلّق له، ولهذا لا يكون منجّزاً بنفسه؛ لأنّ الحكم طالما لا متعلّق له لا يقتضي التنجيز؛ لأنّه لا يطلب الامتثال. وهذا بخلاف فرض وحدة متعلّق الحكمين، فإنّ الجامع بينهما ـ على كلّ تقدير ـ له متعلّق معيّن، وهو الجلوس في المسجد، فإذا تعلّق العلم به كان منجّزاً ولو فرض محالاً وجود هذا الجامع في غير فرد. إذن، فالجامع هنا بنفسه يدخل في ذمّة التنجّز بقطع النظر عن فرديه، فيجري الاستصحاب بلحاظه لا بلحاظ فرديه، حتّى يقال: إنّه جامع بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبل التنجّز.

2 ـ إنّه قد مضى في بحث استصحاب الحكم لدى تردّد المجعول بين الطويل والقصير أنّ النظر العرفي إلى الحكم لدى استصحابه هو نظر الحمل الأوّلي، أي: حمل هو هو، وبهذا المنظار يرى الحكم أمراً خارجياً (أو قل: يُرى المجعول) ولا يُرى الجعل الذي ليس إلاّ جزءً من ذهن المولى، فإذا طبّقنا هذا الكلام على المقام قلنا: لا يُرى بالجعلين إلاّ مجعول واحد، أو قل: لا يرى بلحاظ الأمر الخارجي إلاّ حكم واحد مردّد بين أن يكون قصيراً أو طويلاً، ولا يُرى الموضوع ـ وهو دخول زيد أو عمرو مثلاً ـ إلاّ حيثية تعليليّة، فيجري في المقام استصحاب هذا الحكم الواحد.

 

تطبيق استصحاب القسم الثاني من الكلّي

الجهة التاسعة: بعد أن عرفنا صحّة استصحاب الكلّي في هذه الصورة المسمّاة بالقسم الثاني من الكلّي، لوقوعه ثانياً في ترقيم الشيخ(رحمه الله) في الرسائل ينبغي الالتفات إلى التطبيق الذي ذكر من قبل المحققين كممارسة في مرحلة التطبيق، وإبراز آثار ونتائج هذا الاستصحاب من الناحية الفقهية والعملية من جهة، ومن جهة اُخرى ملاحظة المورد الذي يكون فيه استصحاب عدم الفرد الطويل حاكماً ومقدّماً عليه.

والمذكور في هذا المضمار ـ على ما يظهر من كلمات المحققين ـ فرعان:

أحدهما: في من يعلم بخروج بلل مشتبه منه لا يدري هل هو بول فيكون محدثاً بالأصغر، أو منيّ فيوجب الحدث الأكبر، حيث يقال بجريان استصحاب كلّي الحدث المعلوم

350

بالإجمال عليه بعد الوضوء؛ لأنّه إن كان محدثاً بالأصغر فقد زال بالوضوء. لكنه لو كان محدثاً بالأكبر فهو باق على حدثه، وحيث إنّ الجامع بين الحدثين معلوم، فيستصحب بقاؤه.

وثانيهما: ما إذا افترض العلم إجمالاً بنجاسة شيء بإحدى النجاستين: البولية أو الدمّيّة، فإن كانت دمّيّة فهي تزول بغسلة واحدة، وإن كانت بولية فلا بدّ في رفعها من غسلتين، فيقال في مثل هذا الفرض ببقاء كلّي النجاسة بعد الغسلة الاُولى.

أمّا الفرع الأوّل، فقد قسّمه المحقّق العراقي(قدس سره) إلى أقسام(1):

القسم الأوّل: ما إذا كانت الحالة السابقة للشخص الطهارة، ثمّ خرج منه البلل المشتبه المردّد بين موجب الحدث الأصغر وموجب الحدث الأكبر. وهذا القسم واضح من حيث كونه من موارد جريان استصحاب كلّي الحدث المعلوم بالإجمال سابقاً فيما بعد الوضوء لترتيب آثاره، من حرمة مسّ القرآن ونحوها، ولا كلام زائد فيه على ما قيل في أصل استصحاب الكلي في هذه الصورة.

القسم الثاني: ما إذا كانت حالته السابقة الحدث الأكبر ثم خرج منه البلل المشتبه. وفي مثل هذا القسم واضح: أنّ الحكم هو لزوم الغسل وعدم جريان شيء من الاستصحابات؛ لأنّه يقطع بأنّه على جنابة، وخروج موجب الجنابة أو موجب الوضوء بعد الجنابة لا يؤثّر شيئاً في إسقاط وجوب الغسل عنه.

القسم الثالث: ما إذا كانت حالته السابقة غير معلومة، فخرج منه البلل المشتبه. وحكم هذا القسم حكم القسم الأوّل من حيث جريان استصحاب كلّي الحدث فيما بعد الوضوء.

القسم الرابع: ما إذا افترضنا حالته السابقة هي الحدث الأصغر، فابتلى بالبلل المشتبه. وهذا القسم شقّقه إلى عدّة فروض من حيث المبنى الفقهي في تفسير النسبة والمقابلة بين الحدثين: الأصغر والأكبر، فهل هما يجتمعان إذا وجد سببهما، أو لا يجتمعان لأنهما متضادان في ذاتيهما، أو في حدّيهما ومرتبتهما؟ وهي على ما يلي:

1 ـ أن نفرض الجزم فقهياً بعدم التضاد بين الحدثين. وقد أفاد (قدس سره) في هذه الصورة: أنّ الاستصحاب ـ أعني: استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء ـ ليس من استصحاب الكلّي من القسم الثاني، بل من استصحاب الكلي من القسم الثالث بحسب اصطلاح الرسائل، وذلك:


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص138 ـ 142، والمقالات: ج2، ص 384 ـ 389 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي بقم.

351

لأنّه في مثل هذا يكون الحدث الأصغر مقطوع التحقّق والوجود على كلّ تقدير، أي: سواء كان البلل الخارج بولاً أو منيّاً، فيكون من موارد العلم التفصيلي بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معيّن في الزمن الأوّل، كما يعلم بانتفائه في الزمن الثاني من أجل الوضوء، والشكّ البدوي في تحقّق فرد آخر مقارناً للفرد الأوّل، كي يكون الكلّي باقياً بعد ارتفاع الأوّل، وفي مثله يعالج الحدث الأصغر بالوضوء، والحدث الأكبر باستصحاب عدمه، دون إجراء استصحاب الكلّي؛ لأنّه غير جار على التحقيق في هذا القسم.

وتعليقنا على هذا الكلام: أنّ الحكم في هذه الصورة جريان استصحاب الشخص بعد الوضوء، وذلك بناءً على المبنى الفقهي المشهور والصحيح، من أنّ الحدث الأصغر لا يرتفع بالوضوء إذا كان مع الحدث الأكبر، وعليه فيكون المكلّف شاكّاً بعد الوضوء: هل ارتفع حدثه الأصغر فيما إذا لم يكن محدثاً بالأكبر، أو لم يرتفع بوجود الحدث الأكبر، فيجري استصحاب بقائه.

غير أنّ هذا الاستصحاب محكوم لاستصحاب آخر هو استصحاب عدم الحدث الأكبر، وبذلك يتنقّح موضوع الطهارة من الحدث بعد الوضوء؛ لما سيأتي من أنّ الموضوع مركّب من الحدث الأصغر وعدم الحدث الأكبر، أي: إنّ كلّ محدث بالأصغر من دون أن يكون محدثاً بالأكبر يرتفع حدثه بالوضوء، فباستصحاب عدم الحدث الأكبر هنا نثبت رافعية الوضوء للحدث الأصغر، ويبقى بعد ذلك استصحاب الجامع بين الحدثين المعلوم سابقاً، فإنّه لا يثبت انتفاؤه إلاّ بالملازمة، وهي لا تثبت بالأصول، فيترتّب عليه آثار الجامع، غير أنّه يكفي في الجواب حينئذ أنّه لا يجري، لأنّه من القسم الثالث كما ذكر المحقق العراقي(قدس سره).

2 ـ أن نفرض أنّ الحدثين متضادّان بالمرتبة والحدّ، لا بالذات، كالسواد الشديد مع السواد الضعيف، وقد أفاد(رحمه الله)في هذا الفرض: أنّه يجري هنا استصحاب الفرد؛ لأنّه يشكّ في بقاء نفس الحدث الأصغر بعد الوضوء، فإنّه لو كانت مرتبته قد اشتدّت لتحقيق موجب الحدث الأكبر فهو باق، وإلاّ فلا، فنستصحب بقاءه بالشخص، ومهما حاول المكلّف أن يرفع حدثه بالوضوء فهو غير قادر؛ لمكان هذا الاستصحاب.

وللتعليق على هذا نقول: إنّ هذا الاستصحاب الذي ذكره محكوم لاستصحاب آخر، هو استصحاب بقاء الحدث على المرتبة الخفيفة، حيث يكون هنالك شكّ في أنّ الحدث الأصغر ذا المرتبة الخفيفة هل تغيّرت مرتبته وحدّه كي يكون حكمه الارتفاع بالوضوء، أو لا فيرتفع بالوضوء، فيستصحب بقاؤه، وبذلك ينقّح موضوع الطهارة بعد الوضوء.

352

3 ـ أن نفترض التضادّ الذاتي بين الحدثين. وقد أفاد(رحمه الله)في هذه الفرضية: أنّه يجري استصحاب كلّي الحدث بنحو استصحاب القسم الثاني للكلّي، حيث تحقّق علم إجمالي بأحد الحدثين المتضادّين، فإن كان الأصغر فقد ارتفع بالوضوء، وإلاّ فهو باق قطعاً، فيستصحب بقاء الكلّي. ومن هنا وقع في مشكلة من الناحية الفقهية، حيث لا يمكن الالتزام بعدم كفاية الوضوء، ولزوم الغسل في مثل هذه الفرضية، وقد أفتى الأصحاب بكفاية الوضوء للطهارة، فاضطرّ إلى أن يجمع بين هذه الفتيا مع هذا التحقيق الاُصولي، بحمل فتاواهم على مبنى عدم التضادّ بين الحدثين.

لكنّ الصواب: أنّ المشكلة محلولة حتّى على هذه الفرضية كما حقّقه المحقّق النائيني(رحمه الله)(1)مبنيّاً على مبنىً فقهي في تحديد موضوع الطهارة من الحدث الأصغر والطهارة من الحدث الأكبر، بيانه: أنّ المستفاد من آية (إذا قمتم إلى الصلاة... إلخ)التي وردت في بيان الوضوء والطهارة أنّها فرضت المقسم هو الحدث الأصغر، حيث إنّه يستظهر منها ـ إمّا في نفسها أو بضميمة الروايات المفسّرة ـ أنّ المقصود هو القيام من النوم، وقد قسّم هذا المقسم إلى ما إذا كنتم على جنابة، وإذا لم تكونوا عليه، فجعل الأوّل موضوعاً لوجوب الغسل، والثاني موضوعاً لوجوب الوضوء، فيستفاد من ذلك أنّ موضوع الطهارة الوضوئية مركّب من جزئين: من كان على حدث أصغر ولم يكن محدثاً بالأكبر، وتفصيل الكلام في هذا المبنى ومبرراته موكول إلى محلّه في الفقه.

أمّا هنا فنأخذه أصلاً موضوعياً، ونقول: إنّ المكلّف في هذا الفرض بإمكانه أن ينقّح موضوع الطهارة بالوضوء، وذلك بإجراء استصحاب عدم الحدث الأكبر بعد أن كان محدثاً بالأصغر بالوجدان، فيثبت الموضوع المركّب، ويترتّب عليه حكمه، وهو الطهارة بالوضوء، وبذلك يحكم على استصحاب كلّي الحدث.

4 ـ أن نفترض الشكّ في التضادّ بين الحدثين، فلا يدري هل هما يجتمعان، أو لا؟ وقد أفاد(رحمه الله)هنا بأنّ هذه الصورة لا تلتحق بالصورة الاُولى، بل تلتحق بالصورة الثالثة، أي: ما إذا علم بالتضادّ من حيث النتيجة، حيث إنّ احتمال التضادّ مؤد إلى تشكيل العلم الإجمالي بين الحدثين، بحيث لا يبقى قطع وجزم بالحدث الأصغر على كلّ تقدير، فلا يكون استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء من القسم الثالث.


(1) راجع فوائد الاصول: ج 4، ص 427 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

353

وقد كان المترقّب منه (قدس سره) ـ على هذا الأساس ـ أن يقول بجريان هذا الاستصحاب في هذه الصورة أيضاً، كما قال به في الصورة الثالثة، لكنّه أفتى بعدم جريان استصحاب كلّيّ الحدث بترتيب آثاره.

وما يمكن أن يكون محطّ نظره من عبارته المجملة هو: أنّ الاستصحاب ـ كما قرأنا ـ عبارة عن التعبّد ببقاء المتيّقن بحيث ينبغي أن يكون الباقي على تقدير وجوده واقعاً في مرحلة البقاء بقاءً لما كنّا على يقين به، فذلك هو المستفاد من جملة: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، حيث أضيف اليقين والشكّ إلى متعلّق واحد ولو بقرينة حذف المتعلّق. إذن، فلا بدّ ـ لكي يجري الاستصحاب ـ من تماميّة الشكّ في البقاء، وكون ذلك بقاءً للمتيّقن. أمّا إذا لم يكن كذلك فلا يجري الاستصحاب، كما أنّه إذا احتمل أن لا يكون الباقي بقاءً للمتيّقن أيضاً، لم يجرِ الاستصحاب؛ لأنّ التمسّك به بعموم دليله تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وفي هذه الصورة يحتمل أن لا يكون الباقي هو ما تيقّنّا به؛ وذلك لأنّ استصحاب بقاء الحدث بعد الوضوء ـ لو صح وتمّ ـ فهو ـ على تقدير صدقه ومطابقته للواقع ـ متعيّن في الحدث الأكبر فقط، بينما قد يكون متيقننا الواقعي قبل الوضوء إنّما هو الحدث الأصغر، لا الأكبر، بعد احتمال عدم التضادّ فلنفرض أنّ الاستصحاب كان صحيحاً، وأن الحدث الأكبر باق؛ لأنّه الذي حدث بالبلل المشتبه، لكن قد يكون الذي دخل في علمنا هو الحدث الأصغر طالما يمكن اجتماع الحدثين. نعم، لو جزمنا بالتضادّ، وكان علمنا الإجمالي بنحو مانعة الجمع، لقلنا: إنّه لو طابق الاستصحاب الواقع كان معناه أنّ الحدث هو الأكبر فقط، وهو المتيّقن، لا غير، للتضادّ بينه وبين الأصغر ممّا يستدعي عدم وجود الأصغر.

وبالإمكان أن يستخلص من هذا الكلام كبرى كلّيّة، هي التفصيل في استصحاب الكلّي من القسم الثاني بين ما إذا كان العلم الإجمالي بنحو مانعة الجمع أو كان بنحو مانعة الخلوّ فقط، ففي الأوّل يقال بجريانه؛ لأنّ المستصحب الباقي ـ على تقدير مطابقته للواقع ـ يكون عين ما علمنا إجمالاً؛ لأنّ الواقع ليس إلاّ واحداً بعد امتناع الجمع، بينما في الثاني لا يجري الاستصحاب؛ لأنّه مع احتمال الجمع يكون من المحتمل أنّ المتيقن هو أحد الفردين الّذي يقطع بانتفائه، وهو الفرد القصير، بينما الباقي هو الفرد الآخر الطويل.

وللتعليق على هذا التفصيل نقول:

أوّلاً: إنّ العلم الإجمالي ـ كما بينّا في محلّه ـ لا يتعلّق إلاّ بالجامع بين الفردين، لا بهذا بالخصوص، ولا بذاك والواقع يكون بعيداً عن مصبّ العلم. وعليه فسواء كان العلم

354

الإجمالي بنحو مانعة الجمع أو مانعة الخلوّ يكون المعلوم هو الجامع بين الفردين، لا القصير بخصوصه، ولا الطويل بعينه، ويكون استصحاب هذا الجامع الكلي إبقاءً لنفس المتيّقن، وهو الكلّي، وكونه في الفرد الطويل لا يجعله غير ما تيّقنّا به كما لا يخفى. نعم، لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع كما بنى عليه هو (قدس سره)، كان لهذا الكلام مجال.

ثانياً: لو بنينا على الاُصول الموضوعية التي بنى عليها، وقلنا بأنّ العلم الإجمالي لو كان بنحو مانعة الجمع، جرى استصحاب الكلّي، وإلاّ فلا، مع ذلك نقول: إنّ استصحاب كلّي الحدث يجري في المقام؛ لأنّ العلم الإجمالي هنا يمكن تقريبه بنحو مانعة الجمع ذلك أنّ العلم الإجمالي هنا علم إجمالي بين أمور ثلاثة: إمّا الحدث الأصغر وحده فيما إذا كان الخارج بولاً، أو الحدث الأكبر وحده فيما إذا كان منيّاً، وكان التضادّ بين الحدثين، أو مجموع الحدثين فيما إذا كان الحادث منيّاً، ولم يكن تضادّ بين الحدثين، فنحن نعلم إجمالاً بأحد هذه الاُمور الثلاثة بنحو مانعة الجمع؛ لأنّ الحدث الأصغر وحده مع الأكبر وحده لا يجتمعان، كما أنّهما لا يجتمعان مع فرض مجموع الحدثين. إذن، فنحن نعلم بالجامع بين الأطراف الثلاثة بنحو مانعة الجمع، فيجري استصحاب بقاء الجامع بينها، لكنّ هذا الإشكال ربّما لا يلتزم به، لفظاعة ما يستلزم منه، من أن يكون العلم الإجمالي متعلقاً بمجموعهما لو كان الموجود واقعاً من الفروض الثلاثة هو المجموع، فإن هذا ما لا يقرّ به وجدان إنسان.

ثالثاً: إنّ الشرط الذي فرضه في الاستصحاب موجود حتّى في العلوم الإجمالية بنحو مانعة الخلو فقط، ذلك أنّ نفس احتمال انصباب اليقين على الفردالطويل معناه احتمال بقاء المتيقّن. نعم، لو فرض أنّنا استفدنا من قوله: «لا تنقض اليقين» أنّ الموضوع مأخوذ بنحو التركيب من الشكّ في بقاء شيء، وأن يكون ذلك هو المتيقّن، لم يجرِ الاستصحاب؛ لأنّنا نحتمل أنّ اليقين تعلّق بغير الفرد الطويل، فيكون الشكّ في شيء يحتمل أن لا يكون هو المتيقّن، فالجزء الثاني غير محرز، لكنّه لا وجه له، بل إنّ الشرط هو عنوان احتمال بقاء المتيقّن، وهذا الاحتمال متحقّق بنفس احتمال تعلّق اليقين بالفرد الطويل، وليس هذا منافياً لوحدة المتعلّق في جملة: «لا تنقض اليقين بالشك»؛ لأنّ احتمال بقاء المتيّقن معناه احتمال بقاء ذاك الواقع الذي تعلّق به اليقين، فالشكّ واليقين منصبّان على مصبّ واحد(1).


(1) كأنّ المقصود: أنّ وحدة المتعلّق المفهومة من النصّ ليست بأكثر من انصباب الشكّ على بقاء المتيقّن، وهو حاصل، ولا يشترط انصباب الشكّ في البقاء على المتيّقن كي يقال: إنّ هذا غير محرز.

355

رابعاً: إنّ المبنى المشهور والصحيح: هو أنّ الحدث الأصغر لا يرتفع بالوضوء فيما إذا اقترن بالأكبر. وبناءً عليه نقول: حتى إذا كان هنالك اجتماع لكلا الحدثين في الواقع، كما لو كان الخارج منيّاً، ولم يكن تضادّ، فالذي تعلّق به اليقين باق سواء كان هو الأصغر أو الأكبر؛ لأنّ الوضوء لا يرفع الحدث الأصغر مع وجود الأكبر.

هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل من الفرعين.

وأمّا الفرع الثاني، وهو ما إذا علم إجمالاً بملاقاة شيء للدم أو البول، ثمّ غسل مرّة واحدة. فحصل الشكّ بارتفاع النجاسة وعدمه؛ إذ لو كانت النجاسة بوليّة فهي باقية، وإلاّ فمرتفعة، فيستصحب بقاء كلّي النجاسة الجامعة بين البوليّة والدمّيّة.

وهذا الاستصحاب لحكم النجاسة بنحو الكلّي من القسم الذي بينّا في الفرع السابق جريانه فهنا نتكلّم في أنّه هل هناك استصحاب حاكم عليه وبلامعارض أو لا؟ من هنا نعقد مقامين:

المقام الأوّل: في جريان الاستصحاب الحاكم في نفسه:

وبيان ذلك موقوف على ملاحظة الأدلّة الاجتهادية، وما جعل فيها موضوعاً للحكم بوجوب الغسلة أو الغسلتين، فنقول: إنّ الأدلّة العامّة والمطلقة قد دلّت على نجاسة كلّ شيء يلاقي النجس، وأنّ تلك النجاسة السارية ترتفع بغسلة واحدة، ثمّ جاءت روايات أُخرى قيّدت بنحو المخصّص المنفصل هذه المطلقات، وحكمت في ملاقي البول بأنّ نجاسته السارية لا ترتفع إلاّ بغلستين.

والمبنى الصحيح في مثل ذلك هو أن يحدّد موضوع المطلق بعد التقييد والتخصيص بنقيض عنوان الخاصّ، بأن يصبح مركّباً ممّا أُخذ في لسان المطلق والعام ومن عدم العنوان الخاصّ بنحو التركيب من عنوان وجودي وآخر عدمي، لا كما في الكفاية من أنّ موضوع العام بعد التخصيص يبقى وجودياً، وهو العنوان الذي لم يكن بعنوان الخاصّ من العناوين الوجودية الاُخرى. إذن فينبغي ملاحظة عنوان الخاصّ في المقام كي نفهم على ضوء فهمه موضوع العام.

فنقول: إنّ المعقول في المقام صياغتان لتحديد موضوع الخاصّ.

الأولى: أن يكون عنواناً وحدانيّاً إفراديّاً هو الملاقي للبول بنحو التقييد لا التركيب. وعلى هذا يكون نقيضه ـ أيضاً ـ عنوان عدم الملاقاة للبول، فيكون موضوع العامّ بعد التخصيص كلّ شيء لاقى النجس ولم يلاقِ البول.

356

وبناءً على هذه الصياغة نجري استصحاب عدم الملاقاة للبول لتثبت ارتفاع النجاسة بعد الغسلة الاُولى، حيث يكون الملاقي ملاقياً للنجس بالوجدان، وهذا هو الجزء الأوّل، وغير ملاق للبول بالاستصحاب، فيثبت كلا الجزئين، وبالتالي يتنقّح موضوع العام، فيحكم على استصحاب النجاسة؛ لأنّها أثر شرعي مسبّب عن الموضوع، فبنفيه يرتفع الحكم لا محالة.

الثانية: أن يكون عنواناً تركيبيّاً وهو أن يكون ملاقياً لشيء وأن يكون ذلك الشيء بولاً. وهذه الصياغة هي الصحيحة عندنا، لما يأتي وتقدّم مراراً في الفقه من أنّ العناوين التقييديّة كقوله(عليه السلام): ما لاقى البول ينحلّ بالارتكاز العرفي إلى التركيب بين أمرين: أن يلاقي شيئاً، ويكون ذلك بولاً.

وبناءً على هذه الصياغة يتقيّد موضوع العامّ بنقيض الجزء الثاني من الجزءين. وأمّا الجزء الأوّل وهو أن يلاقي شيئاً فهو موجود في الدم أيضاً، فلا ينافيه إلاّ الجزء الثاني، فيصبح الموضوع مركبّاً من أن يلاقي نجساً من النجاسات، وأن لا يكون ذلك النجس بولاً. وبما أن الجزء الأوّل محرز في المقام بالوجدان فلا بدّ من إحراز الجزء الثاني، وهو عدم كون الملاقى بولاً، وإثبات هذا بالاستصحاب موقوف على القول بجريان استصحاب العدم الأزلي، فمن لا يقول بجريانه كالميرزا(رحمه الله)لا يمكنه تنقيح هذا الموضوع بالاستصحاب.

فالصحيح في المقام الأول جريان الاستصحاب الحاكم في نفسه في هذا الفرع.

المقام الثاني: في وجود المعارض لهذا الاستصحاب، حيث توهّم معارضته باستصحاب عدم الملاقاة للدم بناءً على الصياغة الاُولى، أو عدم كون الملاقي دماً على الصياغة الثانية.

فلقد تصوّر المحقق الإصفهاني(رحمه الله)المعارضة بين الاستصحابين بدعوى: أنّ لدينا في المقام علماً إجمالياً بأنّ النجاسة نجاسة يجب غسلها مرّة واحدة، أو نجاسة يجب غسلها مرّتين. ونفي الثانية يعارضه نفي الاُولى، فيتساقط الاستصحابان(1)، ونرجع إلى استصحاب الكلّي.

وهذا التصوّر غير صحيح؛ وذلك: لأنّه إن قصد باستصحاب عدم كون النجاسة نجاسة يجب غسلها مرّة واحدة الانتهاء إلى نفي أصل هذا الوجوب، فلا قيمة له؛ لأنّه لا يؤدّي إلى التأمين عن الغسلة الاُولى لليد؛ لفرض العلم التفصيلي بوجوبها، وإن قصد به الانتهاء إلى


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 149 بحسب طبعة آل البيت.

357

نفي قيد المرّة، أي: إنّنا نستصحب عدم كون النجاسة نجاسة رُخّصنا في الاقتصار في غسلها على مرّة واحدة، فهذا لا يعارض الاستصحاب الذي ينفي النجاسة الاُخرى التي اُلزمنا بغسلها مرّتين؛ لأنّ الأصل النافي للترخيص لا يقع طرفاً للمعارضة، وإنّما يتعارض الاصلان في أطراف العلم الإجمالي إذا كانا نافيين لفردين من الإلزام المعلوم أحدهما بالإجمال.

على أنّ الواقع: أنّه ليس هناك إلاّ الحكم بالنجاسة وبقائها بعد الغسلة الاُولى لو كانت النجاسة بوليّة، والحكم بعدم بقائها(1) لو كانت دمّيّة. وعليه، فإن قصد باستصحاب عدم النجاسة الدمّيّة نفي أصل النجاسة قبل الغسلة الاُولى، فهذا ممّا يقطع به تفصيلاً فكيف يجوز نفيه؟! وإن قصد به إثبات بقاء النجاسة، فهذا لا يكون إلاّ عن طريق الملازمة، باعتبار أنّها لو لم تكن دمّيّة فهي بولية لا محالة، فتكون باقية، ولوازم الاُصول ليست حجّة، إذن، فالصحيح في المقام عدم وجود المعارض لهذا الاستصحاب الحاكم على استصحاب كلّي النجاسة.

وبهذا ينتهي الكلام عن كلّ الجهات التي أردنا تقديمها في الصورة الثالثة من الصور الاربعة لاستصحاب الكلي.

 

صورة العلم بالجامع ضمن فرد والشك في بقائه ضمن آخر

الصورة الرابعة: ما إذا علم بحدوث الكلّيّ من ناحية العلم التفصيلي بحدوث الفرد،


(1) كأنّ المقصود: أنّه لو لوحظت النجاسة نجاستين بأن تقصد قذارة البول العينيّة وقذارة الدم العينيّة، أو بأن تقصد نجاستين حكميّتين، إحداهما غير الاُخرى، كما هي كذلك بلحاظ مرحلة الجعل وفرض وجوب الغسل مرّة ووجوبه مرّتين مضافين إلى متعلقيّن، أي: غسل هذه النجاسة وغسل تلك النجاسة، أمكن القول ـ بقطع النظر عن الإشكال الذي مضى بيانه ـ بأنّ استصحاب عدم كلّ من النجاستين يعارض استصحاب عدم الاُخرى، ولكنّ الواقع: أنّ الكلام ليس في إزالة القذارتين العينيّتين، وقد يفترض زوالهما من قبل. وأمّا النجاسة الحكمية فهي بلحاظ مرحلة الجعل وإن كانت متعدّدة، ولكنّ الصحيح في باب استصحاب الحكم لدى تردّد المجعول بين الطويل والقصير هو النظر إلى الحكم بالحمل الأوّلي، أي: حمل هو هو، وبهذا المنظار تُرى النجاسة أمراً خارجياً واحداً لا يجري إلاّ استصحاب بقائها. أمّا استصحاب عدم النجاسة الدمّيّة بمعنى استصحاب عدم كون الملاقاة ملاقاة دمّيّة، فهو لا يجري؛ لأنّه لا ينفي أصل النجاسة للعلم به تفصيلاً، ولا بقاء النجاسة؛ لأنّه تمسّك بالأصل المثبت؛ إذ لا يثبت بقاء النجاسة إلاّ باعتبار أنّ انتفاء ملاقاة الدم يلازم ثبوت ملاقاة البول؛ لفرض العلم الإجمالي بإحداهما.

358

وشكّ في بقائه لاحتمال بقائه في فرد آخر بعد الجزم بارتفاع الأوّل ومن دون اقتران بالعلم الإجمالي، وذلك كما لو علمنا بدخول زيد في المسجد وخروجه، وشككنا في دخول عمرو في المسجد مقارناً لخروج زيد أو مقارناً لزمان تواجد زيد في المسجد، فهل يمكن إجراء استصحاب كلّي الإنسان مثلاً في المسجد، أو لا؟

ولتحقيق حال هذه الصورة من حيث جريان الاستصحاب فيها ـ وقد عبر عنه في اصطلاح الرسائل باستصحاب القسم الثالث من الكلي ـ ينبغي مراجعة التصوّرات التي ذكرناها في أوّل الحديث، والتي كان يختلف حال الاستصحاب باختلافها، فعلى التصوّر الأوّل الذي قال به الرجل الهمداني من أنّ هنالك وجوداً واحداً سعياً تفرق فيه الأفراد والتعينّات والجزئيات، ينبغي المصير إلى جريان الاستصحاب في هذا القسم على اعتبار أنّ هذا الوجود الواحد السعي كان مقطوع الحدوث، وبالفعل يشكّ في بقائه، فإمكان الاستصحاب واضح فيه، والجزم بارتفاع الفرد الأوّل لا يوجب ارتفاع الشكّ عن الوجود السعي بعد أن كان الكلّي أمراً واحداً لا يتغيّر بتغيّر الأفراد، ولا يتعدّد بتعدّدها، ولا ينتفي بانتفاء بعضها، فهو واحد ذاتاً وحقيقة ووجوداً، ولا تنثلم هذه الوحدة بتغيّر فرد وتبدّله إلى آخر. إذن فاستصحابه وإبقاؤه قد حفظت فيه وحدة القضية المشكوكة والقضية المتيقّنة.

وعلى التصوّر الثاني الذي كان يرى من الكلّي الحصّة، ويفهم منه ذات الفرد مع قطع النظر عن خصوصيّاتها العرضيّة، والتحفّظ على خصوصيّة وجودها، يكون من الواضح عدم جريان الاستصحاب في المقام؛ لأنّ الحصّة التي علم بوجودها وتحقّقها قد علم بانتفائها أيضاً، والحصّة الثانية التي تتحقّق بالفرد الثاني ممّا لا يقين بحدوثها، وليس وراءها شيء آخر حتّى يكون هو المستصحب. إذن فعلى هذا التصوّر لا يوجد هنالك إلاّ حصّتان، لا يجري الاستصحاب بلحاظ شيء منهما؛ لعدم توفّر الشكّ في البقاء بلحاظ إحداهما وعدم إحراز الحدوث أو اليقين بالحدوث بلحاظ ثانيتهما.

وأمّا على التصوّر الثالث الذي لا يفهم الكلّيّ على أنّه وجود سعي، كما أنّه غير الحصّة التي هي الكلّي في التصوّر الثاني، بل هو مفهوم عامّ ينطبق على الأفراد، فإذا انسقنا من هذا التصور مع ما يتراءى من كلمات المشهور من علماء الكلام، والذي لعلّه هو المشهور عند الاُصوليين من أنّ هنالك مثلاً إنسانيتين: إنسانية ما، وهي الإنسانية المقشّرة عن تعيّنات الحصص، وإنسانية خاصّة، وهي الحصص، والثانية مشتملة على الاُولى، فهذا التصور يودّي بنا إلى الاعتراف بكون الكلّي أمراً خارجياً مع كلّ فرد فرد، لا ذهنياً، وإلاّ فكيف

359

يكون موجوداً بوجود الإنسانية الخاصّة؟! فعنئذ يقال: بأنّ الاستصحاب جار في المقام؛ لأنّ الإنسانية الخاصّة التي تعلّق العلم بها وإن زالت يقيناً لكنّنا كنّا نعلم ضمناً بالإنسانية العامّة أيضاً، ولم يحصل لنا القطع بزوالها، بل نحتمل بقاءها ضمن فرد آخر، فكأنّ كلّ فرد مشتمل على إنسانيتين: إنسانية تخصّه وإنسانية مشتركة بين الكلّ، والاُولى قد زالت، والثانية محتملة البقاء ضمن وجود خارجيّ آخر، فيكون الاستصحاب بلحاظ الكلي تامّاً.

ولا يوجد ما يبطل جريان هذا الاستصحاب سوى ما ادّعاه المحقق العراقي(رحمه الله)(1) من استظهار اشتراط وحدة المتيّقن والمشكوك خارجاً، وعدم كفاية الوحدة المفهومية والذاتية لجريانه، وفي المقام هذه الوحدة غير محفوظة؛ لأنّ الإنسانية العامّة في زيد غيرها في عمرو وجوداً وإن كانت نفسها حقيقةً وذاتاً، ولا يبعد صحّة هذا الاستظهار عرفاً.

وأمّا على مسلكنا الذي شرحناه فيما سبق من أنّ الكليّة والجزئية ليست بلحاظ الخارج أصلاً، فليس هنالك إلاّ إنسانية واحدة في الخارج، لكن هذه الإنسانية تختلف نحو تلقيّها وانطباعها في الذهن، فإذا جاءت بما هي هي، أي: بما هي مفهوم مجرّد عن التعيّنات سمّي ذلك بالكلّي، وإذا جاءت مع التعيّن كان جزئياً، فعندئذ نستغني عن الشرط الذي استظهره المحقق العراقي(قدس سره) سواء كان في نفسه صحيحاً أو لا، فنقول: هل يراد استصحاب بقاء زيد؟ فهذا ما نعلم بانتفائه، أو بقاء عمرو؟ فهذا ما لم نحرز حدوثه، أو بقاء الجامع، أي: كلّي الإنسانية؟ فهذا ممّا لم نعلم به إلاّ بنفس العلم بالفرد الذي زال بالفرض. إذن فلا تتمّ أركان الاستصحاب في هذه الصورة في شيء حتّى يمكن جريانه.

وربّما يناقش في هذا البيان بأنّنا كما نعلم بالفرد كذلك نعلم في ضمن ذلك بالجامع، فإنّ العلم بالفرد ينحلّ إلى العلم بالكلّي والعلم بالخصوصية والتعيّن، فإذا انتفى الثاني للقطع بانتفاء الفرد فالأوّل لا يقطع بارتفاعه؛ لأنّ نسبة الصورة الكليّة إلى كلّ الأفراد على حدّ واحد. إذن فليستصحب الكلّي في الصورة التي علمنا فيها تفصيلاً بالفرد وكان الأثر للكلّي وشكّ في بقائه، حيث يستصحب بمقدار الكلّي المعلوم ضمن العلم بالفرد.

وقد يصاغ الإشكال بنحو النقض، فيقال: إنّه بإمكاننا أن نقصد صورة تدخل في هذا القسم من استصحاب الكلّي لا يتمّ فيها هذا الإشكال، وذلك بأن نفرض أنّ علمنا بالكلّي لم


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع ص134 ـ 135، والمقالات: ج2، ص382 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي في قم.

360

يكن تفصيلياً، بل إجمالياً، كما إذا علمنا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد، وعلمنا بخروج الداخل في الآن الأوّل مع احتمال بقاء الكلّي في ضمن الآخر، فيقال: إنّ علمنا هنا بالجامع منذ البدء لا الفرد، فليجرِ الاستصحاب هنا.

ولتوضيح حال هذين الإشكالين بنحو يرتفع الغموض وينجلي المقصود بتمام حدوده ينبغي أن نقدّم أموراً ثلاثة:

1 ـ إنّنا قرأنا في المنطق الجزئي والكلي، وعرفنا أنّ الجزئي يعني الصورة التي يمتنع بحسب نفس تصوّرها في الذهن فرض صدقها على كثيرين، والكلّي يعني الصورة الذهنية التي لا يمتنع بحسب نفس تصورها فرض صدقها على كثيرين. وهذا مطلب صحيح، إلاّ أن الذي ليس بصحيح هو أنّهم جعلوا الجزئية والكليّة بلحاظ المفاهيم، وقسّموها إلى طائفتين: جزئية، ويمثّل لها بالأعلام وبأسماء الإشارة ونحوها، وكلّيّة، وهي التي تعبّر عن الطبائع ونحوها من المفاهيم العامّة. وهذا غير صحيح:

ذلك أنّ المفاهيم بما هي مفاهيم لا تكون إلاّ كلّية، ومهما نضيف مفهوماً إلى مفهوم ونجمع بينها لا نصل بالتالي إلى الجزئي. نعم قد ينحصر المصداق لمجموع المفاهيم التي ضممنا بضعها إلى بعض في واحد باعتبار التقييد والتضييق، غير أن هذا لا يجعلها جزئياً يمتنع صدقه على كثيرين ولو بالفرض؛ إذ من الواضح أنّه لا يمتنع فرض مصداق وفرد آخر تنطبق عليه هذه المفاهيم على حدّ ما تنطبق على الأوّل، فلو لاحظنا المفاهيم التي نتلقّاها من زيد مثلاً فنرى أنّها عبارة عن الإنسانية مع الطول والبياض، وأنّه ابن عمرو مثلاً، وأنّه ولد في يوم كذا وفي مكان كذا إلى غير ذلك، وواضح أنّ هذه المفاهيم جميعها كلّيّة، وضمّ بعضها إلى بعض لا يؤدّي إلى الجزئية وإن أدّى إلى تضييق في دائرة أفرادها العقلية من الخارج، بل قد يؤدّي إلى انتفائها، لكنّ ذلك لا يعني الجزئية كما هو واضح، إذن، فما هو الجزئي؟! وهل يمكننا أن نقول: إنّ زيداً وعمراً وبكراً وخالداً من الجزئيات ليست بجزئية؟!

الواقع: أنّ الجزئية ليست من خصائص المفهوم والصورة المنطبعة في الذهن، وإنّما هي من شؤون نحو استعمال الذهن وملاحظته للمفهوم والصورة المنعكسة فيه، فإنّ الذهن البشري زوّد من الله تعالى بفعّالية يتمكّن على أساسها أن يلحظ الصورة والمفهوم بما هو هو وبالمعنى الاسمي، أي ينظر إلى نفس المفهوم مستقلاً، وهذا يكون كلّياً، أو أن يلحظه بنحو الإشارة به إلى الخارج والحصّة في عالم تحقّقها ـ عالم الخارج أو عالم لوح الحقيقة الذي هو أوسع من عالم الخارج ـ فيأخذ الذهن المفهوم أداة إشارة وإضافة إلى الحصّة، كما يستعمل الإنسان

361

الإشارة الحسّيّة والخارجية للإشارة إلى الاُمور الخارجية، وقد وضعت أسماء الإشارة لهذا المعنى الإشاري، وكذلك الأعلام وضعت للمفاهيم بما هي مشيرة إلى الخارج، وهذا هو الجزئي، حيث تكون هذه الصورة والمفهوم المشار به إلى الخارج والملحوظ بهذا النحو من الاستعمال الذهني مختصّاً وغير قابل للانطباق على كثيرين ولو بالفرض؛ لأنّ المفهوم أُخذ مشيراً إلى الخارج والواقع الذي هو عالم التشخّص، فيكون مثل هذا المفهوم جزئياً لا محالة.

2 ـ إنّ الصورة الذهنية كما قرأنا في المنطق على قسمين: تصوّر وتصديق، والتصديق من صميمه أن يكون صورة إشارية إلى متعيّن في الخارج أو في لوح الواقع، كما في الملازمات الواقعية، بحيث لا يمكن فرضه من دون الإشارة، ولهذا كانت كاشفيّته ذاتية كما يقولون. وهذا بخلاف التصوّر، فإنّه لم يؤخذ في صميمه أن يكون مستعملاً بنحو الإشارة إلى متعيّن. إذن فالعلم قوامه بالإشارة، ولولاها لما كان علماً. وبهذا يكون العلم دائماً جزئياً.

3 ـ إنّ تعدد العلوم بتعدّد أداة الإشارة مع وجود الإشارة أعني بتعدد المفاهيم التي بها يشار إلى الخارج، فإذا جمعنا في لحاظنا بين مفاهيم عديدة وأشرنا بها إلى الموجود المتعيّن في الخارج، كانت هنالك علوم بعدد المفاهيم، والتي هي أدوات استعملت للإشارة، ودليل ذلك ما نجده من أنّ زوال بعضها لا يستدعي زوال العلم بلحاظ الباقي، فمثلاً لو علمنا بوجود شيء في الدار، وتصوّرنا أنّه حيوان ناطق، أي: اشرنا إليه بمفهومي الحيوانية والناطقية وبعد ذلك وجدنا أنّه ليس بناطق، بل صاهل مثلاً، كان علمنا بحيوانيّته باقياً على حاله لم يعتره الشكّ، ولو علمنا مثلاً بأنّ هنالك إنساناً طويلاً أبيض البشرة هو زيد، فإنّ هذا مجموعة علوم ـ ولو مجتمعة منضمّة ـ لا ينتفي كلّها لو التفتنا بعد ذلك إلى خطئنا في تخيّل بياض البشرة، بل يبقى علمنا بالإنسان والطويل على حاله.

أمّا إذا جردّنا أداة الإشارة عن نفس الإشارة فلا يمكن أن نجعلها علماً في قبال الإشارة، بل ارتفاع الإشارة معناه زوال العلم وارتفاع اليقين؛ لما قلنا في الأمر السابق من أنّ اليقين قوامه الإشارة.

إذا عرفنا هذه الاُمور الثلاثة قلنا في المقام: إنّ دليل الاستصحاب يعبّدنا فيما إذا علمنا بشيء أي: كانت لدينا إشارة بمفهوم تصديقي إلى الخارج المتيّقن، ثمّ شككنا في بقاء طرف هذه الأشارة والذي استعمل الذهن المفهوم للتأشير نحوه ببقاء ذلك الطرف، وأنّ الإشارة كأنّها باقية، فتترتّب الآثار الشرعيّة والعمليّة. وأمّا إذا علمنا بزوال طرف الإشارة وارتفاعه فهذا ليس ممّا يشمله دليل الاستصحاب؛ لأنّ هذا هو نقض اليقين باليقين كما لا يخفى.

362

وعليه نقول: إنّنا في الصورة التي كنّا نعلم فيها بدخول زيد في المسجد ولا نعلم بخروجه لو أردنا استصحاب الكلّي كانت أركان الاستصحاب تامّة، حيث إنّ اليقين السابق وهي الصورة التصديقية لمفهوم الإنسان غير منتقض باليقين؛ لأننا نشكّ في ارتفاع طرف الإشارة وزواله، فنتعبّد بالبقاء ونرتّب الآثار. وأمّا في هذه الصورة التي بين أيدينا والتي نعلم فيها بخروج زيد، ونحتمل دخول عمرو مقارناً لخروج زيد، أو قبل خروجه، فصحيح أنّنا كنّا قد استعملنا مفهوم الإنسان للإشارة، غير أنّنا قد علمنا بعد ذلك بارتفاع طرف الإشارة، وبالتالي بزوال الإشارة التي بها قوام العلم؛ لأنّ طرف الإشارة هو المعيّن؛ إذ لا تكون الإشارة إلاّ إلى المعيّن، وقد علمنا بخروج المعيّن، فعدم التعبّد ببقاء الإشارة وطرفها نقض لليقين باليقين، وتصوّر الإنسان ومفهومه ليس علماً لما قلناه في الأمر الثالث من أنّ المفاهيم التي هي أدوات الإشارة لا تكون علوماً مستقلّة قبال نفس الإشارة ومجرّدة عنها كما لا يخفى(1).

إذن فلا معنى لجريان الاستصحاب في هذه الصورة سواءً كان العلم التفصيلي بالفرد والإشارة إليه بمفهوم الإنسان أو بمفهوم آخر أكثر ضيقاً أو أقل. هذه هي لغة التحقيق في هذه الصورة.


(1) يبدو أنّ مغزى الكلام في المقام هو أنّ العلم بالكليّ ليس إلاّ جزءً تحليليّاً من العلم بالحصّة، كما أنّ الكلّي ليس إلاّ جزء تحليلياً من الحصّة. والوجه في كون العلم بالكلّي جزءً تحليليّاً من العلم بالحصّة أنّ العلم متقوّم بالإشارة المتقوّمة بالتعيّن، والتعيّن يكون للحصّة، فإذا جزمنا بانتفاء الحصّة فقد انتقض اليقين باليقين.

ونقصد بالاشارة إلى الحصّة معنىً واسعاً يشمل الإشارة الموجودة في موارد العلم الإجمالي الذي لا تعيّن لمتعلّقه في علم الله، وذلك لما ظهر في بحثنا عن معرفة حقيقة العلم الإجمالي من أنّ العناوين الانتزاعية من قبيل عنوان (أحدهما) قالبٌ صاغه الذهن البشري على قامة فرد واحد ومتمتّع بخاصيّة الإشارة.

وإذا علمنا إجمالاً بوجود أحد الفردين في الدار، ثمّ علمنا بخروج ذاك الفرد من الدار، واحتملنا دخول الفرد الآخر مقارناً لخروج الأوّل أو قبل دخوله، لم يجر ـ أيضاً ـ استصحاب الكلّي؛ لأنّ علمنا بخروج ذاك الفرد على إجماله يعني العلم بزوال طرف الإشارة، وهذا يعني انتقاض اليقين باليقين.

وقد يستنتج من هذا الكلام الذي ذكرناه أنّ استصحاب الكلي في القسم الثاني دائماً يبتلي بمشكلة استصحاب الحصّة فيه، وهي مشكلة استصحاب الفرد المردّد؛ لأنّ الحصّة فيه مردّدة بين ما يقطع بزوالها وما لا يقطع بحدوثها، والعلم بالكلي متقوّم بالإشارة إلى الحصّة.

إلاّ أنّ هذا غير صحيح؛ فإنّ إشكال الفرد المردّد إنّما يرد في استصحاب الحصّة بالمعنى الذي لا بدّ له من التعيّن عند الله رغم تردّده عندنا. أمّا استصحاب عنوان (أحدهما) القابل للانطباق على كلّ واحدة من الحصّتين من دون فرض الإشارة إلى ما هو المعيّن عند الله فلا يرد عليه هذا الإشكال، فهذا العنوان من ناحية متمتّع بالإشارية بالمعنى الذي يكفي في تقوّم العلم، ومن ناحية اُخرى ليس له تعيّن عند الله، وتردّد عندنا حتى يبتلي استصحابه بإشكال استصحاب الفرد المردّد.

363

واللغة الساذجة العرفية هي أن يقال: إنّ الجامع قد علمنا به في ضمن زيد الذي نقطع بانتفائه ولم نعلم به في ضمن فرد آخر حتّى يستصحب.

وبهذا انتهى الحديث عن الصورة الرابعة من استصحاب الكلّيّ، ولا بأس قبل أن نأتي على ختام هذا التنبيه الذي عقدناه لبحث استصحاب الكلّي أن نتعرّض لما يتراءى في بعض الكلمات أنّه قسم رابع لاستصحاب الكلّي غير الأقسام الثلاثة التي جرى عليها اصطلاح الشيخ الأعظم(رحمه الله)

 

القسم الرابع من الكلّيّ على غير اصطلاح الشيخ الأعظم

والمثال الذي طبّق عليه ذلك ما إذا تيقّنّا بالجنابة عند الصباح كما أنّه اغتسلنا عنها يقيناً، لكنّنا وجدنا في وقت متأخر أثر الجنابة على الثوب مثلاً ممّا أدّى إلى الشكّ في أنّه هل حصل بعد الغسل عن الجنابة الصباحية أو أنّه منها؟ فيشكّ على هذا الأساس في بقاء الجنابة التي يدلّ عليها هذا الأثر وعدمه.

وإنّما جعل هذا قسماً جديداً ـ كما عن السيّد الاُستاذ ـ(1) على اعتبار أنّه يعاكس القسم الثاني الذي كان اليقين فيه منصبّاً على الجامع وعنوان واحد له فردان يشكّ في أنّ الحادث هذا الفرد أو ذاك. أمّا هنا فاليقين قد انصبّ على فرد واحد وهو الجنابة التي نشير إليها عن طريق الأثر المرئي في الثوب، ولهذا الفرد عنوانان يتردد بينهما وهي الجنابة الصباحية والجنابة الناشئة من هذا المني، ولا يدري أنّ هذا الفرد هل هو فرد لكلا العنوانين، أو لأحدهما دون الآخر.

وأيّاً ما كان، فهل يلحق هذا بالقسم الثاني، فيقال فيه بجريان استصحاب الكلّي، أو يلحق بالقسم الثالث فيقال بعدم جريانه فيه؟

قد يقال بالأوّل على أساس أنّنا نعلم إجمالاً بجنابة ناشئة من هذا الأثر المرئي، ولا نعلم بارتفاعها على كلّ تقدير، فإنّها مرتفعة على تقدير كون الجنابة الصباحية هي الناشئة من هذا الأثر، وإلاّ فهي باقية وغير مرتفعة بالغسل السابق، إذن فيستصحب البقاء.

وقد ذهب إلى هذا السيد الاُستاذ، وادّعى جريان استصحاب كلّي الجنابة في المثال في نفسه ولا مانع منه إلاّ استصحاب الطهارة المتيقّنة بعد الغسل المتيقن، فتيعارضان


(1) راجع مصباح الاُصول: ج3، ص104.

364

ويتساقطان، ويرجع بعد ذلك إلى أصالة الاشتغال في تحصيل الطهارة المشترطة في العبادات.

وقد يقال بالثاني، وأنّ هذا الفرع ليس إلاّ مصداقاً من مصاديق القسم الثالث، إذ نعلم تفصيلاً بفرد من الجنابة، وهو الجنابة عند الصباح، وهو قد زال بالفرض، ويشكّ في بقاء الكلّي ضمن فرد آخر متحقّق بعد انتفاء الفرد الأوّل، ومقتضى الأصل عدمه.

وهذا ما أفتى به المحقق الهمداني(رحمه الله).

ونحن في غنىً عن جعل هذا قسماً جديداً، وصورة اُخرى غير الصور الأربعة التي ذكرناها وأقمناها على نكات فنيّة، فإنّه سواء جرى الاستصحاب فيه أم لا فهو ملحق موضوعاً بإحدى الصورتين: الثالثة أو الرابعة، حيث إنّه وقع الشكّ في بقاء الجامع الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد، فإذا لاحظنا الجامع عنوان الجنابة فالشكّ في بقائه من ناحية حدوث فرد جديد، أي: من دون علم إجمالي في الفرد. وإن فرضنا الجامع عنوان الجنابة الحادثة مع هذا الأثر فالشكّ في بقائه من ناحية العلم الإجمالي في حدوثه ضمن أحد فردين وحصّتين يعلم بانتفاء أحدهما.

وأيّاً ما كان، فالصحيح عدم جريان استصحاب كلّي الجنابة في هذا القسم، فما ذكره السيّد الاستاذ غير تامّ، وذلك:

أوّلاً: للنقض بأنّ السماح بمثل هذا التمحّل، وهو أن يؤخذ فيه الجنابة الناشئة من هذا الأثر ونحوه من القيود لتشكيل علم إجمالي غير منحلّ يؤدّي إلى عدم جريان استصحاب الحدث إلاّ معارضاً لاستصحاب الطهارة، وكذا العكس بحيث تسقط إمكانية إجراء استصحاب الحدث أو الطهارة من دون تعارض إطلاقاً، مع أنّه مما لا يلتزم به، وممّا هو خلاف مورد الصحيحة الدالّة على الاستصحاب.

أمّا كيفيّة اللزوم فبيانها: أنّ الشخص الذي بال ثمّ توضّأ ثم شكّ مثلاً في بقاء وضوئه وطهارته لاحتمال أنّه بال ثانياً أو لم يبُل يتصوّر بشأنه علم إجمالي بحدث بنحو غير منحلّ، وذلك بأن يقول: إنّني أعلم إجمالاً بوجود حدث عندي مقارناً لاخِر بول خرج منّي، فلو كان آخِر بول قبلَ الوضوء فكلّ الحدث قد ارتفع، وإلاّ فهو باق، فيستصحب بقاء هذا الجامع غير المنحل، فيتعارض مع استصحاب الطهارة، وهكذا في طرف استصحاب الحدث.

وثانياً: للنقض ـ أيضاً ـ باستصحاب الكلّي من القسم الثالث حسب اصطلاح الشيخ(رحمه الله)، فإنّه دائماً يمكن إرجاعه إلى علم إجمالي بالجامع بنحو غير منحلّ، حيث إنّا لو

365

علمنا مثلاً بدخول زيد في المسجد، وعلمنا بخروجه مع الشكّ في وجود الكلّي ضمن عمرو، أمكننا تصوير عنوان كلّي غير منحل وهو عنوان الإنسان الذي ليس معه إنسان آخر غير متيّقن، فهذا ينطبق على زيد لو كان هو الموجود فقط، وعلى عمرو لو كان هو موجود أيضاً؛ لأنّه إنسان ليس معه إنسان آخر غير متيّقن، وإنّما معه زيد المتيّقن، فهذا الجامع ينطبق على عمرو ـ على تقدير وجوده واقعاً ـ دون زيد؛ لأنّه حينئذ إنسان معه فرد آخر غير متيّقن، وهو عمرو. فهذا عنوان إجمالي منطبق: إمّا على زيد أو على عمرو، وليس انطباقه على زيد على كل تقدير، أي: سواء كان عمرو موجوداً أم لا كي يقال بالانحلال. وبالإمكان أن نختصر العنوان الإجمالي فنقول: الانسان الذي لم يدخل بعده غيره، فإن كان زيد هو الداخل فقط فهو ينطبق عليه، وإن كان عمرو قد دخل بعده فهو الذي ينطبق عليه هذا العنوان لا زيد، وعليه فيجري الاستصحاب بلحاظ هذا العنوان الكلّي غير المنحل.

وثالثاً: للحلّ بأنّ هذا الاستصحاب إن اُريد إجراؤه بلحاظ عنوان الجنابة من دون قيد فهو من القسم الذي لا يجري استصحاب الكلّي فيه، حيث إن كلّيّ الجنابة نعلم تفصيلاً بتحقّقه ضمن الفرد الصباحي، ونشكّ في تحقّقه ضمن فرد آخر لا يعلم وجوده من اصله، وإن اُريد إجراؤه بلحاظ عنوان الجنابة الحادثة مع الأثر المرئي فعندئذ نقول: إن اُريد إجراء الاستصحاب على هذا العنوان لإثبات الأثر بلحاظه بحيث كان هذا العنوان هو مركب الاستصحاب، فجوابه: أنّ هذا العنوان ليس هو موضوع الأثر، وإنّما موضوع الأثر هو ذات الجنابة من دون أن يكون لحدوثه من هذا الأثر دخل في الأثر، وإن اُريد ذلك بنحو يكون العنوان الإجمالي مشيراً إلى ذات الجنابة في الواقع فتكون هي مركب الاستصحاب، فهذا من استصحاب الفرد المردّد الذي تقدّم الكلام فيه.

إذن، فالصحيح أنّ أقسام استصحاب الكلّي هي ما ذكرناه، وهذا الفرع ليس إلاّ تطبيقاً من تطبيقات الصورة الرابعة حسب ترقيمنا لأقسام الاستصحاب، والذي قلنا فيه بعدم جريان استصحاب الكلّي.

ولا بأس أن ننبّه هنا إلى استثناء عن هذا الكلام سوف يأتي الحديث عنه مفصّلاً في محلّه إنشاء الله تعالى.

وعنوان التخصيص هو: أنّ ما نستصحبه تارةً يكون ثابتاً للفرد صدفة، من قبيل وجود الإنسان في الدار ضمن زيد صدفة وأردنا استصحابه وإبقاءه ولو ضمن عمرو، وأخرى يكون كذلك بلحاظ اقتضاء الطبيعة لذلك، كما إذا فرضنا أنّ طبيعة الإنسان الأفريقي يقتضي