475

الخروج فرضناه معلولا للعلّة الملازمة لعلّة عدم الكون في الدار.

والخلاصة: أنّ التلازم بين عدم الكون في الدار والكون في خارج الدار نشأ من اتّحاد العلّة، لكن لا بمعنى اتّحادها في نفس مرتبة الخروج، بأن يكون الخروج جزء علّة لكلا الأمرين، بل بمعنى اتّحادها فيما هو سابق على مرتبة الخروج، فلم يصبح الخروج داخلا في العلّة المشتركة، والعلّة المشتركة هي غلبة داعي الكون في خارج الدار على داعي الكون في الدار(1).

أقول: توجد لدينا عدّة كلمات تعقيباً على هذا البيان:

الكلمة الاُولى: أنّ هذا نتيجته أنّ الخروج ليس بينه وبين عدم الكون في داخل الدار أيّ علاقة علّيّة وتلازم مباشر، وإنّما هو ملازم لعلّة عدم الكون في الداخل وهي عدم إرادة البقاء؛ لكونه معلولا لما يلازم تلك العلّة وهو إرادة الكون في خارج الدار، فعدم انفكاك الخروج عن عدم الكون في داخل الدار إنّما هو لأجل التلازم غير المباشر بينهما بواسطة تلازم الخروج مع علّة عدم الكون في الداخل، من دون أيّ دخل للخروج في سلسلة علل عدم الكون في الداخل. وعليه نسأل: أنّه لو تحقّقت علّة عدم الكون في الدار وبفرض المحال لم يتحقّق الخروج ـ لأنّنا افترضنا محالا عدم التلازم بين علّة الخروج وعلّة عدم الكون في الدار ـ فهل يثبت عدم الكون أو لا؟ من الواضح أنّ الجواب بالنفي، وهذا يعني أنّ هناك تلازماً مباشراً بين الخروج وعدم الكون في الدار لا يمكن أن يخفى هذا التلازم بهذا اللفّ والدوران.

الكلمة الثانية: أنّنا تكلّمنا في الكلمة الاُولى وفق الاُصول الموضوعيّة لكلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)، فافترضنا أنّ انفكاك عدم إرادة البقاء في الدار عن الخروج


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 344 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

476

مستحيل، أمّا الآن فنقول: إنّ هذا الفرض ليس بمحال؛ لأنّ استحالته مبنيّة على ما تراه الفلاسفة من أنّ الفعل الاختياريّ علّته الوحيدة هي الإرادة، فالمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) فرض أنّ هذا الإنسان إمّا يريد الكون في الداخل، أو يريد الكون في الخارج، ولا ثالث لهما، فإنّ الفعل الاختياريّ يكون مقتضيه هو الإرادة، فحيث لا إرادة فلا فعل اختياريّ، وحيث إنّ الكون في الدار والكون في خارج الدار فعلان اختياريّان، وهما ضدّان لا ثالث لهما، فلابدّ من إحدى الإرادتين بدون الاُخرى. وهذا يعني أنّ عدم إرادة الكون في الداخل مع إرادة الكون في الخارج متلازمان، وحيث إنّ إرادة الكون في الخارج ملازم للخروج فثبت التلازم غير المباشر بين عدم إرادة الكون في الداخل وبين الخروج.

لكنّنا بحسب مبنانا الذي بيّنّاه في بحث الطلب والإرادة نقول: إنّ الفعل قد يقع بسلطنة المكلّف واختياره من دون إرادة، كما إذا فُرض أنّ الكون في الدار كان مساوياً عنده مع الكون في خارج الدار، فليس له شوق مؤكّد تجاه أيّ واحد منهما في قبال الآخر، وحينئذ سوف يفعل أحدهما حتماً بسلطنته واختياره، فهنا لا إرادة الكون في الداخل تثبت ولا إرادة الكون في الخارج. فعندئذ نقول: إنّه في مثل هذه الحالة هل هناك ارتباط بين عدم الكون في الدار وبين الخروج أو لا؟ من الواضح أنّ الارتباط موجود، وهذا الارتباط ليس على أساس التلازم غير المباشر؛ إذ ليس هناك شيء اسمه إرادة الكون في خارج المكان تكون من ناحية ملازمة لعدم إرادة الكون في الداخل، ومن ناحية اُخرى علّة للخروج، كي تثبت بذلك الملازمة غير المباشرة بين عدم الكون في الداخل والخروج، فهذا الارتباط لابدّ وأن يكون ارتباطاً مباشراً، وبهذا ثبت المطلوب.

الكلمة الثالثة: هي أنّه في المقام اُغفل المقتضي الطبيعيّ للكون في داخل المكان، فحتّى لو فُرض أنّ هذا الإنسان كان حجراً كان هناك مقتض لبقائه في هذا

477

المكان غير الإرادة، وهو مثلا: ميله إلى المركز بناءً على ما كان يقوله الفلاسفة سابقاً، أو جاذبيّة الأرض له بناءً على الجاذبيّة، أو القصور الذاتيّ بناءً على نظريّة اُخرى، ومن هنا لو أنّ الإنسان لم تكن عنده إرادة الخروج ولا البقاء لكان يبقى لا محالة؛ إذ يصير حاله حال الحجر.

إذن فهذا المقتضي الطبيعيّ للبقاء يحتاج إلى شيء يزاحمه ويمانعه وهو حركة هذا الجسم وخروجه، إذن فالخروج بحسب الحقيقة مزاحم لتأثير المقتضي الطبيعيّ للبقاء، ويكون ـ لا محالة ـ وجوده علّة لعدم ترتّب المقتضى على هذا المقتضي، فالخروج سبب للابتعاد الذي هو مانع عن تأثير الجاذبيّة ـ مثلا ـ التي هي سبب طبيعيّ للبقاء.

فالإنصاف: أنّ مقدّميّة الخروج لعدم الكون في الدار ممّا لا يمكن الإشكال فيه.

الناحية الثانية: في الكبرى، وهي ما تعرّض له صاحب الكفاية(رحمه الله)، فهو بفطرته كأنّه سلّم الصغرى ولم يبحث فيها، وإنّما صبّ البحث في الكبرى وناقش فيما يبدو للذهن في البداية من أنّه بناءً على وجوب مقدّمة الواجب يثبت وجوب الخروج في المقام بعد أن سلّمنا مقدّميّته لترك الغصب المحرّم.

وحاصل توضيح ما أفاده(1) في مناقشة ذلك: أنّ المقدّمة التي قد تقع على وجه حرام تكون على ثلاثة أقسام:

1 ـ أن لا تكون مقدّمة منحصرة، فالمقدّميّة تكون للجامع بين فردين أحدهما حرام، وهنا يقول القائلون بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة: إنّ الوجوب هنا ينبسط على الحصّة المحلّلة فحسب.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 264 ـ 265.

478

2 ـ أن تنحصر المقدّمة في الحرام لا بسوء الاختيار، فهنا يقع التزاحم بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها سواءً آمنّا بوجوب مقدّمة الواجب أو لا، وعندئذ فإن اقتضت قواعد التزاحم تقديم جانب ذي المقدّمة سقطت حرمة المقدّمة لا محالة، ويسري إليها الوجوب بناءً على وجوب مقدّمة الواجب. أمّا لو كانت حرمة المقدّمة أهمّ فلا يثبت الوجوب لذي المقدّمة فضلا عن المقدّمة.

3 ـ أن تنحصر المقدّمة في الحرام بسوء الاختيار، فإذا كان ذو المقدّمة أهمّ فهل تجب المقدّمة هنا إلحاقاً لها بالقسم الثاني، أو تلحق بالقسم الأوّل؟ الصحيح أنّها تلحق بالقسم الأوّل، فإنّنا وإن قلنا: إنّ المقدّمة تتّصف بالوجوب الغيريّ إذا كان ذو المقدّمة أهمّ إلاّ أنّه إنّما قلنا بذلك باعتبار سقوط حرمة المقدّمة بالتزاحم وخروجها عن كونها معصية، وهنا المقدّمة معصية؛ لأنّ النهي عنها وإن سقط لكنّه إنّما سقط بالمعصية. فقبل سوء الاختيار لا تزاحم بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها؛ لأنّها ليست مقدّمة منحصرة فلا ينسحب الوجوب على الحصّة المحرّمة، وبعد سوء الاختيار سقطت الحرمة ولكن بالعصيان، فالمقدّمة تكون معصية ولا تجب.

وكأنّ روح كلامه(رحمه الله) ـ وإن لم يف تعبيره بذلك ـ هو: أنّ العقل إنّما يدرك الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته بالوجدان، والوجدان إنّما يدرك ذلك فيما إذا كان المحلّ قابلا لانسحاب الوجوب عليه، أمّا إذا كانت المقدّمة حراماً ولم تسقط الحرمة ـ لعدم الانحصار ـ فالمحلّ غير قابل لتقبّل الوجوب. والوجدان من أوّل الأمر قاصر عن إثبات الوجوب لهذه المقدّمة، فليس هذا تخصيصاً في الحكم العقليّ، فإنّ وجوب المقدّمة لم يكن لثبوت برهان وقياس منطقيّ عليه، بل كان بالوجدان والتجربة النفسيّة الخاصّة بغير هذا القسم، وحينئذ يقول صاحب الكفاية: إنّ حرمة المقدّمة لو سقطت بالعصيان وبسوء الاختيار فلا

479

زال المحلّ غير قابل لتقبّل الوجوب، والتجربة النفسيّة لا تقتضي انسحاب الحبّ عليها(1).

وأمّا الجهة الثالثة: ففي أنّه بعد فرض تماميّة المقتضي لكلّ من الحرمة والوجوب كيف الجمع في التأثير؟

وهنا تارة يتكلّم في الجمع بين مقتضي حرمة المقدّمة ومقتضي وجوبها في التأثير. واُخرى يتكلّم في التوفيق بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها:

أمّا الجمع بين مقتضيي حرمة المقدّمة ووجوبها: فيخطر بالبال أنّ مقتضي الحرمة إنّما اقتضى حرمة الخروج حرمة ثابتة قبل الدخول، وأمّا بعد الدخول فقد سقطت الحرمة وثبت الوجوب، فالمقتضيان مختلفان في زمان التأثير.

وقد يقال في قبال ذلك: إنّ الخطاب والنهي وإن كان قد سقط بالدخول لكن روح الحرمة ـ وهي المبغوضيّة ـ لم تسقط؛ لأنّ الخطاب لم يسقط لأجل النسخ وعدول المولى عن رأيه وإنّما سقط بالاضطرار، فالتنافي باق على حاله.

وهذا المقدار من البيان يمكن الإجابة عليه بأنّه قبل الدخول لم يكن الخروج مقدّمة منحصرة للتجنّب عن الغصب، فلم يكن التجنّب عن الغصب الزائد متوقّفاً عليه، ولذا لم يكن مشتملا على المصلحة، فكان مبغوضاً. وأمّا بعد الدخول فقد أصبح الخروج ـ ولو بسوء الاختيار ـ مقدّمة منحصرة، فأصبح ذا مصلحة غالبة،


(1) بل التجربة النفسيّة تقتضي انسحاب الحبّ على اختيار أقلّ المحذورين لأجل التخلّص من المحذور الأشدّ حينما يدور الأمر بينهما وإن كان العبد مستحقّاً للعقاب إن كان هو قد سبّب بسوء الاختيار دوران الأمر بينهما، فهو مستحقّ للعقاب بما حصلت له من المعصية بمجرّد تسبّبه لذلك، وإن كان النهي فعلا ساقطاً والمتعلّق محبوباً من باب كونه موجباً للتخلّص من المحذور الأشدّ.

480

ومع غلبة المصلحة تندكّ المفسدة وبالتالي ترتفع المبغوضيّة.

إلاّ أنّه مع هذا قد يبيَّن الإشكال بصياغة اُخرى، وهي: أنّ الحرمة والوجوب حتّى إذا افترضا في زمانين يستحيل اجتماعهما على فعل واحد؛ فإنّ هذا وإن لم يكن من باب اجتماع الضدّين ـ لأنّنا افترضنا زوال الحرمة حتّى بروحها في زمان الوجوب ـ إلاّ أنّه يلزم من ذلك جهل المولى، فإنّ المولى من أوّل الأمر يلحظ الفعل حين صدوره، والفعل الواحد حين صدوره إمّا أنّه مشتمل على المفسدة الغالبة، أو مشتمل على المصلحة الغالبة، فعلى الأوّل لا يكون إلاّ الحرمة، وعلى الثاني لا يكون إلاّ الوجوب.

والجواب: أنّ المصلحة والمفسدة المتزاحمتين في المقام غير متطابقتين في المركز، فهناك بابان لعدم الخروج: أحدهما عدم الخروج بعدم الدخول، والآخر العدم الذي يكون بعد الدخول، والتزاحم يكون بلحاظ الباب الثاني بعد أن سدّ الباب الأوّل، والمصلحة حينئذ تكون أقوى. فالمولى يحتاج إلى حكمين: أحدهما يضمن فتح الجامع بين البابين، والآخر يضمن سدّ الباب الثاني من العدم، ولا استحالة في اجتماعهما فيحرّم الخروج قبل أن يدخل، وهذا يضمن فتح الجامع بين البابين ويوجبه بعد أن يدخل، وهذا يضمن سدّ الباب الثاني(1).

 


(1) هذا البيان واضح الصحّة بناءً على أنّ النهي طلب لعدم المنهيّ عنه، وقد يتخيّل عدم صحّته بناءً على كونه زجراً عن الفعل.

ولكنّ التحقيق: أنّه يتمّ حتّى على مبنى كونه زجراً عن الفعل؛ وذلك لإمكان افتراض أنّ الهدف من الزجر عن الفعل ـ وهو الخروج ـ كان بهدف فتح باب العدم عليه بعدم الدخول، فيسقط النهي بالدخول من باب أنّ النهي استوفى غرضه ولم يبق ملاك لبقائه وكأنّه تمّت معصيته.

481


والهدف من الأمر بالخروج على تقدير الدخول سدّ باب العدم عليه على تقدير سدّ الباب الأوّل. وإن شئت فقل: إنّ النهي عن الخروج ليس بشكل قضيّة خارجيّة وناظراً إلى فرضيّة جزئيّة واقعيّة حتّى يقال: إنّ المولى العالم بالغيب كان يعلم بأنّ عبده سيدخل الدار ولو عصياناً، فلماذا نهاه عن الخروج ثُمّ أمره به؟ بل النهي عنه كان بنحو القضيّة الحقيقيّة، ولم يكن نهياً مطلقاً بل كان نهياً عنه مقيّداً بما قبل الدخول، لا بمعنى تقييد المنهيّ عنه بما قبل الدخول بل بمعنى تقييد النهي بما قبل الدخول. والسبب في هذا القيد أنّه قبل الدخول لا مصلحة في الخروج غالبة على مفسدته؛ لأنّه كان يمكن ترك الخروج بلا تورّط في غصب زائد وذلك بترك الدخول. هذا حال النهي عن الخروج.

وأمّا الأمر بالخروج فأيضاً كان ثابتاً بنحو القضيّة الحقيقيّة من أوّل الأمر مشروطاً بالدخول، أي: إنّ الدخول كان شرطاً للوجوب لا للواجب، ولا تنافي بين ذاك النهي وهذا الأمر.

ولا ينبغي قياس المقام بأمر نُسخ قبل وقت الحاجة حيث يقال: إنّ هكذا أمرٌ لغو؛ لأنّه لا يقبل التحريك لا قبل وقت الحاجة كما هو واضح، ولا بعده؛ لأنّه قد فُرض نسخه، فإنّ الفرق واضح؛ لأنّ النهي عن الخروج قبل الدخول كان قابلا لتحريك العبد بترك الخروج بعد الدخول، فالنهي قد استنفد غرضه وتمّ عصيانه بنفس الدخول.

ولاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بيانٌ في دورة سابقة من بحثه الشريف فكّك فيه بين فرض القول بأنّ النهي عبارة عن طلب الترك، والقول بأنّه عبارة عن الزجر عن الفعل، وقد كنّا كتبناه سابقاً كتقرير لبحث تلك الدورة وإليك نصّ ذاك التقرير مع فوارق جزئيّة تعبيريّة:

تحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّنا تارةً نبني على أنّ النهي مرجعه إلى طلب الترك، كما بنى عليه المحقّق النائينيّ والشيخ الخراسانيّ(قدس سرهما)، وعندئذ فلا موضوع لتخيّل توارد

482


الحكمين على متعلّق واحد، فإنّ متعلّقهما بحسب الدقّة اثنان. واُخرى نبني على كون النهي زجراً عن الفعل كما هو الصحيح وعندئذ نقول: رغم أنّ الحكمين متوجّهان إلى متعلّق واحد لا تنافي بينهما:

أمّا على الأوّل: فتوضيح الحال متوقّف على التنبيه على نكات أربع لاستيناس الذهن:

الاُولى: أنّه وقع الخلاف في أنّ مرجع النهي هل يكون إلى طلب الترك أو إلى الزجر عن الفعل؟ فاختار الأوّل المحقّق الخراساني والنائينيّ(قدس سرهما)، واختار الثاني المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره).

الثانية: أنّ الوجوب المقدّميّ للخروج على القول به يتصوّر بوجهين: أحدهما: أنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء الواجب فهو واجب. الثاني: أنّ ترك الخروج علّة تامّة للبقاء الحرام فهو حرام.

الثالثة: أنّ وجوب الخروج على جميع الصور ـ وهي وجوبه النفسيّ ووجوبه المقدّميّ بالوجهين ـ مشروط بالدخول، ويكون الدخول مقدّمة وجوبيّة له لا مقدّمة وجوديّة: أمّا بناءً على وجوبه النفسيّ من باب صدق عنوان التخلية عليه فمعلوم أنّ أمر الشارع بالتخلية يكون بعد فرض الإشغال، وليس الإشغال مقدّمة وجوديّة بأن يقول الشارع: (ادخل في المكان المغصوب لكي تتمكّن من إتيان الواجب وهو الخروج).

وأمّا بناءً على وجوب الخروج لكونه مقدّمة لترك البقاء فمن الواضح أنّه قبل الدخول ليس الخروج مقدّمة منحصرة؛ لإمكان ترك البقاء بعدم الدخول، وقد ثبت في بحث المقدّمة أنّ مقدّمة الواجب إذا لم تكن منحصرة وكان بعض أفرادها حراماً لايتّصف ذلك الفرد بالوجوب، والمفروض فيما نحن فيه تماميّة المقتضي لحرمة الخروج، فالوجوب

483


يتعلّق بالفرد الآخر من المقدّمة وهو عدم الدخول. فوجوب ذات الخروج مشروط بتحقّق الدخول؛ لتوقّفه على انحصار المقدّمة فيه المتوقّف على الدخول.

وأمّا بناءً على أنّ ترك الخروج حرام لكونه علّة تامّة للبقاء فمعلوم أنّه قبل الدخول ليس ترك الخروج علّة تامّة للبقاء، فثبت أنّه على جميع التقادير يكون وجوب الخروج مشروطاً بالدخول، وكيف لا يكون كذلك مع وضوح أنّه لو كان الدخول مقدّمة وجوديّة لزم أن يكون الواجب على الناس دائماً أن يدخلوا في ملك الغير ليخرجوا منه، وهذا ـ كما ترى ـ ضروريّ البطلان.

الرابعة: أنّه قد أثبتنا في بحث الواجب المشروط أنّ وجوبه لا يحفظ شرطه بأن يكون محرّكاً نحو تحصيل الشرط أو مانعاً عن إفناء الشرط، مثلا وجوب الحجّ المشروط بالاستطاعة لا يحفظ شرطه وهو الاستطاعة، ولا يدلّ على وجوب تحصيلها أو حرمة تفويتها، وبعبارة اُخرى: إنّ الوجوب يحرّك العبد نحو سدّ جميع أبواب العدم المتوجّه إلى المتعلّق إلاّ باب العدم المتوجّه إليه من ناحية شرط الوجوب.

إذا عرفت هذه فنقول: إنّ النهي ـ على ما هو المفروض ـ مرجعه إلى طلب الترك وفتح باب العدم، فلو فُرض غلبة مبادئ الوجوب ـ من المصلحة والمحبوبيّة ـ على مبادئ الحرمة لا محالة ينتفي النهي لو كان الوجوب مقتضياً لسدّ جميع أبواب العدم التي يطلب النهي فتح واحد منها.

وأمّا فيما نحن فيه فالأمر بالخروج إنّما يقتضي سدّ أبواب العدم غير باب العدم الناشئ من ناحية ترك الدخول؛ لما عرفت من أنّ الدخول شرط لوجوبه، والوجوب المشروط لا يحفظ شرطه، فمبادئ النهي تكون مغلوبة بهذا المقدار. وأمّا طلب فتح باب العدم الناشئ من ناحية ترك الدخول فلا مانع منه، وأيّ محذور في أن يقول المولى: (أعدِم

484


الخروج بترك الدخول) ويقول: (يجب الخروج مشروطاً بالدخول)؟ هذا مضافاً إلى أنّه في الحقيقة يكون ترك الخروج بعد الدخول حراماً، فهنا خطابان: أحدهما: الأمر بفتح باب خاصّ من بابي العدم. والثاني: النهي عن فتح الباب الآخر من بابيه.

هذا كلّه إذا بنينا على مبنى المحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما)من أنّ حقيقة النهي هي طلب الترك.

وأمّا على الثاني: أي: إذا بنينا على مبنى المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ حقيقته هي الزجر عن الفعل ـ وهو الحقّ ـ فمتعلّق الأمر والنهي حينئذ شيء واحد، لكنّ التحقيق عدم المنافاة بينهما؛ لتعدّد الزمان، وقد ذكر وجهان لبيان المنافاة بينهما كلاهما باطل:

الأوّل: ما أشار إليه في متن التقريرات وصرّح به السيّد الاُستاذ في تعليقته عليها، وهو: أنّه لا يعقل تعلّق الأمر والنهي بمتعلّق واحد ولو في زمانين من المولى العالم بجميع المصالح والمفاسد. نعم، لو كان تعدّد الزمان في الحقيقة موجباً لتعدّد المتعلّق ـ كما إذا وجب الصوم في النهار وحرم في الليل ـ كان ذلك معقولا، وأمّا إذا كان زمان المتعلّق ـ واجباً كان أو حراماً ـ واحداً كما فيما نحن فيه، فلا يكون تعدّد الزمان موجباً لتعدّد المتعلّق ولا يعقل أن يكون هذا المتعلّق حراماً في وقت وواجباً في وقت آخر؛ لأنّ هذا المتعلّق في زمانه إمّا فيه المفسدة والمبغوضيّة فيجعل الحرمة دون الوجوب، أو فيه مبادئ الوجوب ـ وهي المصلحة والمحبوبيّة ـ فيجعل الوجوب دون الحرمة، أو فيه مبادئ الوجوب والحرمة بالتساوي فلا يجعل الوجوب ولا الحرمة، أو أنّ إحداهما أقوى فيجعل الحكم على طبق الأقوى، فعلى كلّ حال لا يعقل تعلّق الأمر والنهي معاً به ولو في زمانين إلاّ في مولى غير علاّم الغيوب وغير العالم بجميع المصالح والمفاسد.

الثاني: ما صرّح به في متن التقريرات، وهو: أنّ الحكم المولويّ من الوجوب والحرمة

485


لابدّ أن يكون بداعي البعث والزجر، فلا يعقل جعل الحرمة مع رفعه قبل مجيء زمان المتعلّق، فإنّ هذا النحو من الحرمة ليست زاجرة قطعاً وتكون نظير الأمر بصلاة المغرب قبل المغرب ـ مثلا ـ ورفعه حين الغروب.

وكلا هذين الوجهين غير تامّ في المقام:

أمّا الوجه الأوّل ـ وهو الترديد بين وجوب المصلحة أو المفسدة أو كليهما مع التساوي أو مع أقوائيّة إحداهما، وأنّه على جميع التقادير لا معنى لإصدار الأمر والنهي من قِبَل العالم بكلّ الاُمور ـ فالجواب: أنّنا نختار الشقّ الرابع ونفترض أنّ المصلحة هي الغالبة، ولذا يكون التصرّف الخروجيّ بعد الدخول واجباً ولكن قبل الدخول ليس الموجود سوى مبادئ الحرمة دون مبادئ الوجوب، فإنّ ثبوت المصلحة فيه يكون موقوفاً على مقدّميّته لترك التصرّف في مال الغير، ومقدّميّته موقوفة على الدخول، فقبل الدخول لا مصلحة.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو أنّ النهي لابدّ أن يكون زاجراً، والنهي الساقط قبل زمان المتعلّق ليس زاجراً ـ ففيه:

أوّلا: أنّه لو تمّ هذا لم يكن دليلا على عدم إمكان اجتماع النهي قبل الدخول بالخروج مع الأمر به بعده، بل هو دليل على عدم إمكان أصل هذا النهي.

وثانياً: أنّه غير تامّ؛ فإنّ المحتملات فيه ثلاثة وإن شئت جعلتها وجوهاً ثلاثة، وجميعها باطل:

الوجه الأوّل: أنّه يشترط في متعلّق التكليف القدرة وهي مفقودة هنا؛ لأنّ هذا النهي ليس حكماً شخصيّاً بل هو حكم على نحو القضايا الحقيقيّة، وموضوعه الكلّيّ: إمّا هو الإنسان أعمّ من كونه داخلا في الأرض المغصوبة أو لا، أو خصوص غير الداخل، أمّا

486


الأوّل فيلزم منه ثبوت النهي بعد الدخول المفروض خلافه، وأمّا الثاني فيلزم منه ما ذكرنا من عدم تعلّق قدرة بمتعلّق التكليف؛ لأنّ المتعلّق ـ وهو الخروج ـ غير مقدور في زمن الحكم وهو ما قبل الدخول.

وفيه: أوّلا: النقض بالمقدّمات السببيّة المحتاجة إلى فاصل من الزمان، كما لو كان الرمي مقدّمة سببيّة لقتل المؤمن، فإنّ النهي قد تعلّق قبل الرمي بنفس قتل المؤمن ـ والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) معترف بذلك ـ مع أنّه يسقط بمجرّد الرمي قبل تحقّق القتل؛ لأنّه حينئذ يحصل القتل قهراً.

وعين هذا الإشكال ثابت هنا، فإنّه لو كان موضوع النهي عن القتل الأعمّ ممّن صدر منه الرمي وغيره لزم بقاء النهي بعد الرمي، وإن كان موضوعه خصوص من لم يرم فمن المعلوم أنّه لا يمكن تحقّق القتل في زمن الحكم وهو ما قبل الرمي.

وثانياً: الحلّ بأنّه لا دليل على اشتراط القدرة الفعليّة على المتعلّق في زمن الحكم نهياً كان أو أمراً، ويكفي القدرة على قدح الصارف في النفس من ناحية النهي والداعي فيها من ناحية الأمر؛ وذلك لأنّ النكتة في اشتراط القدرة ليست إلاّ أنّه لولاها لم يصحّ الحكم لوجهين:

أحدهما: أنّ قوام الحكم بكونه بداعي قدح الداعي أو قدح الصارف في نفس العبد، ولا يُعقل ذلك مع عدم القدرة.

الثاني: أنّ الحكم مع عدم صلاحيّته لقدح الداعي أو الصارف يكون لغواً. وهذان المحذوران ينتفيان بمجرّد القدرة على قدح الداعي أو الصارف من ناحية الحكم، فهما إنّما يدلاّن على اشتراط القدرة على ذلك لا القدرة على المتعلّق بالفعل، ومن المعلوم فيما نحن فيه أنّ النهي قبل الدخول عن الخروج صالح لقدح الصارف في نفس العبد عن

487


الخروج بواسطة قدرته على الدخول وتركه، والعبد قادر على تحصيل هذا الانقداح، ونحوه الكلام في مسألة الرمي.

الوجه الثاني: أنّه يشترط في صحّة الحكم بقاؤه وامتداده إلى زمان المتعلّق، أما ترى أنّه لا يعقل أن يأمر المولى بصلاة المغرب ثُمّ يرفع اليد عنه قبل المغرب، وهذا غير مسألة اشتراط القدرة التي هي الوجه الأوّل، بل لو فرضنا أنّ الأمر لم يكن على طبيعيّ من هو في زمان قبل المغرب حتّى يتأ تّى الوجه الأوّل، بل كان هنا أمر شخصيّ متوجّه إلى هذا الشخص الخاصّ بأن يصلّي عند المغرب، ثُمّ نسخ المولى هذا الوجوب قبل المغرب، فلا إشكال في أنّ هذا الأمر من المولى ـ مع فرض علمه بالعواقب واستحالة البداء في حقّه ـ غير صحيح. والحاصل أنّه يشترط في صحّة الحكم بقاؤه إلى زمان المتعلّق، والمفروض فيما نحن فيه سقوطه بالدخول، فهذا النهي غير معقول.

وفيه: أوّلا: النقض بما عرفت من مثال الرمي.

وثانياً: الحلّ بأنّ ما ذكرت مسلّم صغرى لكنّه ممنوع كبرى؛ لأنّه لا وجه لاشتراط بقاء الحكم إلى زمان المتعلّق في صحّته. وأمّا عدم صحّة الأمر بصلاة المغرب مع رفع اليد عنه قبل المغرب فليس نكتته هذا، وإلاّ فهي ثابتة في مثال الرمي أيضاً، بل نكتته شيء آخر، وهو أنّه يشترط في صحّة الحكم أمران: أحدهما صيرورته موضوعاً لحكم العقل، والثاني باعثيّته وزاجريّته، وهذان الأمران يثبتان عدم صحّة الحكم مع رفع اليد عنه قبل زمان المتعلّق إذا كان رفع اليد عنه من جانب المولى محضاً، وأمّا إذا كان رفع اليد عنه في طول تمرّد العبد وخروجه عن مقتضى العبوديّة فلا ضير فيه، وما نحن فيه من هذا القبيل بخلاف مثال الأمر بصلاة المغرب.

توضيح ذلك: أنّ العقل كما يحكم بقبح مخالفة المولى بترك ما أمر به أو إتيان ما نهى

488


عنه، ويترتّب عليه اللوم والعقاب، ويحكم بحسن موافقته بإتيان ما أمر به وترك ما نهى عنه، ويترتّب عليه المدح والثواب، كذلك يحكم بقبح إلجاء المولى إلى رفع اليد عن حكمه كُرهاً، ويترتّب عليه اللوم والعقاب، ويحكم بحسن ترك معصيته ولو على نحو السالبة بانتفاء الموضوع، بأن لا يدخل ـ مثلا ـ في الأرض المغصوبة حتّى يبتلى بالخروج، ويترتّب عليه المدح والثواب.

إذن فالنهي قبل الدخول عن الخروج وقبل الرمي عن القتل موضوع لحكمين من أحكام العقل وزاجر للعبد ومبعّد له عن جانب المتعلّق ولو بترك الدخول والرمي، وهذا بخلاف مثال الأمر بصلاة المغرب مع رفع اليد عنه قبل المغرب، وفي هذا المثال يكون رفع اليد عن الحكم من جانب المولى محضاً، وفيما نحن فيه يكون في طول تمرّد العبد وخروجه عن مقتضى العبوديّة، وكم فرق بينهما.

الوجه الثالث: هو أنّ الحكم الذي يرفع اليد عنه قبل زمان المتعلّق لغوٌ صِرف؛ لعدم ترتّب العقاب على مخالفة مثل هذا الحكم، فإنّه لا يتصوّر مخالفة هذا الحكم إلاّ بعد رفع المولى اليد عنه، ففي الحقيقة إنّما خالف حكم المولى بترخيص من المولى في مخالفته، ومثل هذه المخالفة لا يعقل ترتّب العقاب عليها.

وفيه: أوّلا: النقض بما عرفت من مثال الرمي.

وثانياً: الحلّ بأنّ لغويّة الحكم الذي لا يوجب ترتّب استحقاق العقاب لدى المخالفة مسلّمة كبرىً لكنّها ممنوعة صغرىً؛ لما عرفت من أنّ العقاب كما يترتّب فيما إذا خالف حكم المولى مع فرض بقائه إلى زمان المتعلّق، كذلك يترتّب فيما إذا كان هو الذي ألجأ المولى إلى رفع اليد عن حكمه كُرهاً، فمثلا لو كان ابن صغير للمولى عطشاناً والمولى أمر العبد برفع عطشه بسقيه الماء، لكنّ العبد فعل ما أوجب صيرورة ابنه الكبير ـ الذي هو أعزّ

489

إلاّ أنّه على ضوء ما بيّنّاه في الجهة الثانية تبيّن أنّه لا مقتضي للوجوب(1)، وعليه فنحن لا نلتزم بالحكمين؛ لعدم المقتضي لأحدهما لا لأجل عدم معقوليّة اجتماعهما. أمّا لو آمنّا بكلا المقتضيين فالنتيجة هي حرمة الخروج قبل الدخول ووجوبه بعده بالمقدّميّة، ولا بأس بذلك. هذا ولو أنكرنا مقدّميّة الخروج لترك الغصب الزائد يأتي ما عرفته من البحث فيما إذا أصبح الخروج صدفةً مقدّمة لواجب آخر مثل إنقاذ الغريق.

وأمّا إشكال التوفيق بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها: فتوضيح الاستشكال في الجمع بينهما يمكن أن يتصوّر بعدّة أنحاء:

النحو الأوّل: أن يقال بأنّ حرمة الخروج تنافي أوّلا وبالذات وجوب الخروج، وحيث إنّ وجوب الخروج وجوب غيريّ معلول لوجوب ذي المقدّمة، والتفكيك بين العلّة والمعلول مستحيل، إذن فالمنافي للمعلول مناف للعلّة.

وهذا علاجه يكون بأحد وجوه:

منها: ما مضى منّا من إنكار وجوب المقدّمة في المقام.

ومنها: أنّه لو فُرض الإيمان بالوجوب الغيريّ في المقام صغرى وكبرى، وفُرض عدم إمكان رفع المشكلة الاُولى، أي: التنافي بين حرمة الخروج بالنهي


لدى المولى من الصغير ـ عطشاناً، وفرضنا عدم إمكان الجمع بين رفع عطش كليهما، فصار المولى ملجأً إلى رفع اليد عن الأمر برفع عطش الصغير ليأمر برفع عطش الكبير، فصار ترك رفع عطش الصغير من هذه الناحية، فلا إشكال في استحقاق هذا العبد للّوم والعقاب.

(1) وتبيّن منّا وجود المقتضي.

490

الأوّل ووجوبه بالأمر المقدّميّ، فالحرمة تسقط لا محالة؛ لأقوائيّة الوجوب منها، ومع سقوطها لا يبقى مناف لوجوب ذي المقدّمة(1).

النحو الثاني: أن يقال بأنّ وجوب ذي المقدّمة غير معقول؛ إذ يشترط في الوجوب أن يكون متعلّقه مقدوراً عقلا وشرعاً، والمقصود من المقدور شرعاً هو: أن لا يكون ممنوعاً عنه ولا عن مقدّمته المنحصرة، فإذا فُرض في المقام أنّ الخروج يقع معصية للنهي الثابت ولو قبل الدخول ـ وهي مقدّمة منحصرة ـ فالقدرة الشرعيّة على ذي المقدّمة مفقودة. وهذا النحو من البيان إن تمّ يتمّ حتّى على تقدير إنكار مقدّميّة الخروج؛ فإنّ الخروج على أيّ حال ملازم لذي المقدّمة، ولا يعقل الأمر بشيء مع تحريم ما يلازمه.

والجواب: أنّ اشتراط القدرة الشرعيّة بمعنى عدم كون الفعل معصية وعدم توقّفه على المعصية لم يرد عليه دليل لفظيّ بعنوانه، وإنّما هو بحكم العقل بقبح إلجاء المولى عبده على ما لا يقدر عليه مع فرض حالة الانقياد، إذن فالشرط هو القدرة تكويناً على تقدير الانقياد. وفي المقام لو كانت المقدّمة قد انحصرت بسوء الاختيار في الحرام تكون القدرة على تقدير الانقياد على ذي المقدّمة منتفية


(1) والكلام الكلّيّ في المقام هو: أنّ المشكلة الثانية وهي التنافي بين حرمة الخروج ووجوب ذي المقدّمة نتجت في هذا النحو من البيان من المشكلة الاُولى، وهي التنافي بين حرمة الخروج ووجوبه، فلا نحتاج إلى بحث جديد غير ما بحثناه في حلّ المشكلة الاُولى، فإن حلّت المشكلة الاُولى ـ بإنكار وجوب المقدّمة في المقام أو إنكار المقدّميّة أو إثبات إمكان الجمع بين حرمة الخروج ووجوبه؛ لأنّهما في زمانين أو أيّ شكل آخر ـ لم تصل النوبة إلى هذا النحو من البيان للمشكلة الثانية. وإن لم تحلّ المشكلة الاُولى بعد فرض وجود مقتضيي حرمة الخروج ووجوبه معاً فلا محالة قد انتهينا إلى سقوط الحرمة، فأيضاً لا تصل النوبة إلى المشكلة الثانية.

491

تكويناً، أمّا في المقام فلا يكون خروجه مخالفاً للانقياد، بل الخروج بعد الدخول يكون من لوازم الانقياد باختيار ما هو أقلّ محذوراً.

وهذا الجواب الذي ذكرناه مطابق لروح الجواب الأوّل الذي ذكره صاحب الكفاية في المقام(1). وله جواب ثان وحاصله: أنّه لو سُلّم أنّ ذا المقدّمة أصبح غير مقدور فغايته أن نلتزم بسقوط خطابه، لكن حيث إنّ عدم القدرة طرأ بسوء الاختيار فالعقاب على ترك ذي المقدّمة غير ساقط، كما أنّه كان يعاقَب على فعل المقدّمة التي سقطت عنها الحرمة بسوء الاختيار، إذن فالنتيجة ثابتة على كلّ حال(2). وهذا الجواب أيضاً صحيح.

النحو الثالث: أن يقال بأنّ المولى بعد دخول المكلّف إلى الأرض المغصوبة وإن كان يرفع يده عن خطاب (لا تخرج) لكن رفع هذا الخطاب ليس رفعاً عدوليّاً بل هو من قبيل الرفع العصيانيّ، والرفع العصيانيّ ليس معناه انتفاء الغرض، بل معناه أنّ الغرض موجود لكنّه لا يمكن بقاء الخطاب، وحينئذ يكون الأمر الفعليّ بذي المقدّمة نقضاً لهذا الغرض الفعليّ وإن قلتم بأنّ الغرض ارتفع فلا يقع الخروج معصية.

والجواب عن هذا واضح، وذلك بأن يقال: بأنّنا نختار مثلا(3) أنّ الغرض


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 268 ـ 269 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعاليق المشكينيّ.

(2) المصدرالسابق، ص 269.

(3) لعلّ كلمة «مثلا» إشارة إلى أنّه بالإمكان ذكر جواب آخر، وهو: أنّنا نختار ارتفاع الغرض بمعنى المبغوضيّة، وارتفاعها إنّما كان بسبب مغلوبيّة المفسدة، ومغلوبيّة المفسدة كانت بسبب حصر المقدّمة بسوء الاختيار، وهذا النحو من ارتفاع الغرض لا يسقط الفعل عن كونه معصية للنهي السابق؛ لأنّ رفع المولى يده عن النهي ليس عدوليّاً بل لانحراج المولى بفعل العبد بسوء اختياره.

492

لا يزال على غرضيّته، ولكن مع هذا لا يكون الأمر بذي المقدّمة ناقضاً لهذا الغرض وإنّما هو معيّن لاُسلوب النقض، فيعيّن أن يكون مكثه في الأرض المغصوبة خروجيّاً لا سكونيّاً، بعد أن كان الجامع بينهما ثابتاً على كلّ حال وناقضاً لغرض المولى، وتعيين الجامع في المكث الخروجيّ لا يكون نقضاً لغرض زائد.

 

حكم الصلاة حال الخروج:

وأمّا المرحلة الثانية: ففي حكم الصلاة حال الخروج، وفي هذه المسألة شقّان:

الشقّ الأوّل: أن يُفرض أنّ هذا الإنسان لا يتمكّن من الصلاة بوجه ولو الاضطراريّة والإيمائيّة بعد الخروج؛ لضيق الوقت. وحينئذ إن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي: فإمّا أن يفرض أنّ الصلاة الاختياريّة المشتملة على الركوع والسجود توجب زيادة مكث، فينتقل إلى الصلاة الإيمائيّة؛ لأنّ الاختياريّة تستلزم الغصب الزائد فيرفع اليد عنها بروح التزاحم. نعم، لو عصى وصلّى صلاة اختياريّة صحّت. وإمّا أن يُفرض أنّها لا توجب زيادة مكث، كما لو خرج في داخل العربة، فتتعيّن الصلاة الاختياريّة.

وإن قلنا بعدم جواز الاجتماع فبناءً على أنّ اجتماع الصلاة والغصب إنّما هو في السجود لا في مطلق الأكوان، تعيّنت الصلاة الإيمائيّة، ولا يجوز السجود حتّى ولو لم يوجب مكثاً زائداً؛ لأنّ مركز الاتّحاد حرام بالحرمة الساقطة بالاضطرار، وهذا الحرام يقع مبغوضاً(1) للمولى، ومعه لا يمكن أن يكون واجباً؛ لأنّ


(1) مضى سقوط البغض بالدخول وتحوّله إلى المحبوب على أثر أنّ مفسدة البقاء أقوى من مفسدة الخروج.

493

المفروض امتناع اجتماع الأمر والنهي(1)، هذا. ولو عصى وصلّى صلاة اختياريّة لم تصحّ.

وأمّا بناءً على اتّحاد الصلاة والغصب في جميع الأكوان فمقتضى القاعدة الأوّليّة هو سقوط وجوب الصلاة رأساً؛ لأنّه قبل أن يدخل الأرض المغصوبة كان أمامه دليلان: أحدهما دليل (لا تغصب) المنحلّ إلى (لا تدخل) و(لا تقف) و(لا تخرج)، والثاني دليل (صلّ)، وقد وقع التعارض بينهما بلحاظ مادّة الاجتماع، والمفروض تقديم جانب النهي، فينتج أنّه يجب الصلاة في المكان المباح(2)، فهو مخاطَب بخطابين: أحدهما النهي عن الخروج، والثاني الأمر بالصلاة في المكان المباح، وبدخوله بسوء اختياره في الأرض المغصوبة عجّز نفسه عن امتثال كلا الخطابين، فسقطا سقوطاً عصيانيّاً ويعاقب بعقابين. هذا بحسب مقتضى القاعدة.

لكنّه قام دليل خاصّ في الفقه ـ كالإجماع وشبهه من الأدلّة اللبّيّة ـ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فهذا دليل على صحّة الصلاة بل وجوبها.

وهنا التزم الأصحاب كالسيّد الاُستاذ وغيره بأنّه حينئذ لا يُعقل الالتزام بمبغوضيّتها.

وهذا الكلام منه ومن غيره لا يمكن المساعدة عليه؛ فإنّ الالتزام بانتفاء


(1) مع فرض تقدّم مبغوضيّة الغصب على محبوبيّة الصلاة.

(2) هذا التقييد محدود بما قبل الدخول، أي: إنّه قبل الدخول مكلّف بأن يوجد الصلاة في المكان المباح وأن ينزجر عن الخروج حتّى بلحاظ ما بعد الدخول، وذلك بأن لا يدخل. أمّا بعد أن دخل وسقط النهي وأصبحت المفسدة مغلوبة لمصحلة ذي المقدّمة فلا مانع من وجوب الصلاة.

494

المبغوضيّة عن هذه الحصّة الخاصّة من الكون الصلاتيّ الغصبيّ إن كان باعتبار أنّ المبغوض لا يُعقل التقرّب به ـ كما هو صريح كلام السيّد الاُستاذ ـ فجوابه: أنّ المبغوض لو كان بديله غير مبغوض لم يمكن التقرّب به. أمّا لو كان البديل الممكن أشدّ مبغوضيّة فيمكن التقرّب به؛ فإنّ التقرّب بشيء معناه ترجيحه على بدله لأجل خاطر المولى، وهذا ما يحصل في هذا الفرض.

وإن كان الالتزام بانتفاء المبغوضيّة لأجل عدم الوقوع في محذور اجتماع المبغوضيّة والوجوب فالجواب: أنّنا نلتزم بعدم ثبوت المحبوبيّة وراء الأمر لا ثبوتاً ولا إثباتاً: أمّا ثبوتاً فلأنّ الأمر كما قد ينشأ من المحبوبيّة كذلك قد ينشأ بداعي تخفيف المبغوضيّة(1)، فلعلّ مقامنا من هذا القبيل.

وأمّا إثباتاً فلأنّ الأمر لو كان ثابتاً بالأدلّة اللفظيّة لجاء فيه الاستظهار العامّ بأن يقال: إنّ الأمر ظاهره عرفاً هو النشوء من المحبوبيّة، إلاّ أنّ الأمر في المقام إنّما ثبت بدليل لبّيّ، وغاية ما يدلّ عليه هو ثبوت الوجوب لا المحبوبيّة.

فإن قلت: ليكن الدليل على ثبوت الوجوب دليلا لفظيّاً، وهو ما ورد من أنّه «لا تدع الصلاة على حال فإنّه عماد دينكم»(2).

قلنا: إنّ هذا الدليل لا ينفع لإثبات الأمر في المقام، وإنّما ينفع في موارد الاضطرار غير الاختياريّ؛ فإنّ غاية ما يدلّ عليه هي: أنّ كلّ مكلّف قد شُرّعت


(1) لا يخفى أنّ ما يخفّف المبغوضيّة ـ بعد عدم إمكان الفرار من أصل المفسدة ـ محبوب، ومن هنا قلنا بسراية وجوب ذي المقدّمة بعد فرض أقوائيّته على المقدّمة المنحصرة في الحرام ولو بسوء الاختيار.

(2) وسائل الشيعة، ج 2، ب 1 من الاستحاضة، ص 373 بحسب طبعة مؤسّسةآل البيت، ح 5.

495

عليه الصلاة بنحو إمّا يكون ممتثلا أو عاصياً، فلو سقط الأمر الاختياريّ لا بالعصيان بل بعجز غير عصيانيّ ـ كما لو لم يتمكّن من القيام مثلا ـ دلّ هذا الدليل على ثبوت أمر جديد اضطراريّ. أمّا لو كان سقوط الأمر سقوطاً عصيانيّاً فلا يدلّ الدليل على تولّد أمر جديد بالصلاة، فمثلا لو أخّر الصلاة عمداً إلى زمان لم يبق إلاّ مقدار ركعة فلا يستفاد من هذا الدليل أنّه تجب عليه الصلاة بركعة، ولهذا قلنا: إنّ الدليل منحصر بالإجماع وشبهه.

ثُمّ إنّه هل تكون صلاته في المقام إيمائيّة أو اختياريّة؟ الجواب: أنّه إن كانت الصلاة الاختياريّة موجبة للمكث الزائد تعيّنت عليه الصلاة الاضطراريّة بلا إشكال؛ إذ لا موجب لرفع اليد عن دليل حرمة المكث الزائد. أمّا إذا لم تكن موجبة للمكث الزائد فالظاهر أنّ وظيفته هي الصلاة الاختياريّة، وإن كان أصل دليلنا على وجوب الصلاة في المقام لبّيّاً، وذلك تمسّكاً بإطلاق دليل جزئيّة الركوع والسجود، فإنّه يدلّ على أنّه جزء لكلّ صلاة تكون وظيفة للمكلّف، وقد دلّ الدليل اللبّيّ هنا على أنّ وظيفته الصلاة، إذن فالركوع جزء لها والسجود أيضاً جزء لها.

هذا كلّه بناءً على أنّ الخروج يقع محرّماً ومعصية للنهي السابق الذي سقط ولا يكون واجباً، أمّا لو بنينا على الوجوب النفسيّ أو الغيريّ فننبّه هنا على نكتتين:

الاُولى: أنّه في كلّ مورد لم نكن نقول ـ بناءً على حرمة الخروج وعدم وجوبه ـ بوظيفيّة الصلاة الاختياريّة لا نقول بذلك هنا أيضاً، أمّا فيما إذا اقتضت الصلاة الاختياريّة تصرّفاً زائداً فالأمر واضح، وأمّا فيما لم تقتض ذلك فلوضوح أنّ اختياريّة الصلاة لا تكون دخيلة في الخروج حتّى ترتفع عنها الحرمة، فالحرمة إنّما ترتفع عن الحركة نحو الخروج ولا ترتفع عن تصرّفات اُخرى غير دخيلة في

496

الخروج، إذن فلا ترتفع الحرمة عن مثل وضع الجبهة أو مثل إلقاء الثقل؛ فإنّ إلقاء الثقل لا يكون دخيلا في الخروج وإنّما هو ملازم فقط(1).

الثانية: أنّ الصلاة الإيمائيّة التي ثبت وجوبها في المورد السابق بدليل ثانويّ يثبت هنا بالخطاب الأوّليّ؛ فإنّ المانع عن بقائه كان هو حرمة الخروج وقد فُرض عدم حرمته.

الشقّ الثاني: أن يكون متمكّناً من الصلاة في خارج الأرض، فلو كان متمكّناً منها بدرجة أكمل فوظيفته الانتظار إلى أن يخرج، وإلاّ أمكنه أن يستعجل بالصلاة، بل يجب الاستعجال إذا كانت الصلاة في الداخل أكمل إلاّ في مورد أثبتنا وجوب الصلاة بالإجماع، فمن الواضح عدم ثبوت الإجماع على صحّة الصلاة في الداخل حتّى ولو فُرض أنّ الصلاة في الداخل أكمل.

هذا تمام الكلام في بحث اجتماع الأمر والنهي

 


(1) مادمنا فرضنا عدم كون الصلاة الاختياريّة مشتملة على تصرّف زائد على الخروج وفرضنا جواز الخروج لا يبقى دليل على حرمة اختيار كيفيّة خاصّة من التصرّف، كوضع الجبهة أو وضع الثقل على الأرض على شكل السجود، فإنّ اختيار أيّ شكل من التصرّف يسمّى غير خروجيّ يقلّل بقدره ممّا يسمّى بالتصرّف الخروجيّ، وإلاّ لرجعنا إلى كون الصلاة الاختياريّة مشتملة على تصرّف زائد. وإن شئت فعّبر بأنّ الصلاة الاختياريّة إن لم تشتمل على تصرّف زائد على الخروج فكلّ تصرّفه تصرّف خروجيّ، إلاّ أنّ التصرّف الخروجيّ له أشكال عديدة مختلفة بعضها بدل عن بعض.

497

النواهي

الفصل الثالث

 

 

اقتضاء النهي في العبادة للفساد

 

○ الوجوه والملاكات في اقتضاء النهي لفساد العبادة.

○ تقسيم النهي بما يمكن افتراض تأثيره في بحث مفسديّته للعبادة.

○ مناقشة ملاكات القول بالاقتضاء.

○ تنبيهات.

 

499

 

 

 

 

 

المشهور هو اقتضاء النهي في العبادة للفساد، وقد ذكر الوجه لذلك في كلمات الأكابر بشكل مشوّش.

فلابدّ أن نبيّن أوّلا الوجوه التي يمكن أن يقال باقتضائه من أجلها لفساد العبادة، والفرق بينها من حيث النتائج، فإنّها تختلف فيما بينها في النتائج من ناحية:

أنّ بعضها ينتج المفسديّة بوجوده الواقعيّ، وبعضها ينتج المفسديّة بوجوده الواصل.

وأنّ بعضها يقتضي أنّنا لو شككنا في النهي وصحّحنا العبادة بالبراءة عن الحرمة كانت الصحّة واقعيّة، وبعضها يقتضي كون تلك الصحّة ظاهريّة.

وأيضاً بعضها يؤدّي إلى أنّ دليل النهي يكون دليلا اجتهاديّاً على البطلان، وبعضها لا يؤدّي إلى ذلك، فلكي نصل إلى نتيجة البطلان نحتاج إلى ضمّ قاعدة الاشتغال، فلو كانت قاعدة الاشتغال تقتضي ـ حتّى بقطع النظر عن النهي ـ البناء على نتيجة الفساد كان ضمّ دليل النهي إليها بلا فائدة.

والفارق الثاني في الحقيقة يكون من توابع الفارق الأوّل، فإنّه لو كان النهي يقتضي بوجوده الواقعيّ البطلان فنفي النهي بالبراءة يثبت الصحّة الظاهريّة. ولو كان النهي يقتضي بوجوده الواصل البطلان فنفيه بالبراءة ينتج الصحّة الواقعيّة.