65

 

الترتّب

أمّا الكلام في الترتّب، فيقع في جهات:

 

ثمرة الترتّب:

الجهة الاُولى: في ثمرة بحث الترتّب. وهي: أنّ الترتّب إن كان صحيحاً أصبح باب التزاحم باباً مستقلاًّ برأسه في مقابل باب التعارض، ويعالَج التزاحم بقوانينه الخاصّة التي سوف تأتي إن شاء الله، لا بقوانين باب التعارض. وإن لم يكن صحيحاً دخل التزاحم في باب التعارض، ويعالَج بقوانين باب التعارض.

ونوضّح ذلك الآن ببيان بدائيّ سوف يتعمّق خلال البحث إن شاء الله فنقول:

إنّه إذا تزاحم واجبان مضيّقان، ولنفرضهما الصلاة والإزالة مثلا، فبناءً على صحّة الترتّب لا تعارض بين دليل الأمر بالصلاة ودليل الأمر بالإزالة؛ لأنّ كلاًّ منهما مخصوص بحال القدرة، ولا تكاذب بين وجوب الصلاة عند القدرة، ووجوب الإزالة عند القدرة، فإن ترك الإزالة أصبح قادراً على الصلاة ووجبت عليه الصلاة، وإن ترك الصلاة أصبح قادراً على الإزالة ووجبت عليه الإزالة.

نعم، يقع الضيق في عالم القدرة، فالمكلّف إمّا أن يُعمل قدرته في هذا الجانب ويخرج عن موضوع ذاك الدليل، أو يُعمل قدرته في ذاك الجانب ويخرج عن موضوع هذا الدليل؛ لأنّه لا يملك إلاّ قدرة واحدة.

أمّا لماذا يكون كلّ من الحكمين مخصوصاً بحال القدرة؟ فلأنّ التكليف والأمر حتّى لو فُرض وضعه لمجرّد اعتبار الفعل في الذمّة، يدلّ ـ بدلالة سياقيّة يفهمها كلّ إنسان عرفيّ ـ على أنّ المولى في مقام الجدّ، لا في مقام الهزل، أي: إنّه في مقام

66

البعث والتحريك، ولا يمكن البعث والتحريك عند عدم القدرة وعدم إمكانيّة الانبعاث(1).

هذا إذا قبلنا الترتّب، وأمّا إذا لم نقبل الترتّب فلا يمكننا أن نقول: إنّه تجب عليه الصلاة عند القدرة، وتجب عليه الإزالة عند القدرة أيضاً، فمتى ما ترك أحدهما قدر على الآخر فوجب عليه؛ إذ هذا مرجعه إلى الأمر بكلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، وهذا هو الترتّب الذي فرضنا إنكاره. إذن، فلابدّ من سقوط أحدهما عند التزاحم، وطبعاً إطلاق دليل كلّ واحد منهما يقتضي بقاءه، ويتطلّب سقوط الآخر، فيتكاذبان فيقع التعارض. ومن هنا نقول: إنّ القول بالترتّب من مبادئ مبحث التزاحم. هذا.

وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في مقام بيان ثمرة بحث الترتّب: أنّ ثمرته تظهر في فرعين. وذكر الفرعين الماضيين:

الأوّل: إذا تزاحم الواجب العباديّ المضيّق مع واجب مضيّق أهمّ، فبناءً على الترتّب يُصحَّح المهمّ بالأمر، بينما لو أنكرنا الترتّب لم يمكن تصحيحه، لا بالأمر؛ لعدمه بحسب الفرض، ولا بالملاك؛ لعدم طريق إلى إحرازه.

الثاني: إذا تزاحم بعض أفراد الواجب العباديّ الموسّع مع واجب مضيّق، فإن


(1) أمّا الاستدلال على اشتراط القدرة بحكم العقل بقبح تكليف العاجز، فغير صحيح؛ فإنّه لا وجه للقبح؛ إذ لو كان وجه القبح هو أنّه إحراجٌ للمكلّف، قلنا: إنّ الإحراج إنّما يكون لو حكم العقل بالتنجّز، والعقل لا يحكم بالتنجّز إلاّ إذا كان للمولى حقّ تكليف من هذا القبيل، وفَرض حقّ تكليف من هذا القبيل للمولى خلف فرض القبح العقليّ. ولو كان وجه القبح اللغويّة، فقد يكون شمول التكليف للعاجز بالإطلاق وعدم التقييد، ولا يشترط فيه الفائدة؛ فإنّ التقييد هو الأمر الوجوديّ الذي يحتاج إلى داع عقلائيّ، لا الإطلاق.

67

قلنا بثبوت الأمر عرضيّاً على الجامع بين الفرد المزاحم وغيره، صحّ العمل من دون أن تصل النوبة إلى الترتّب وثمرته. وأمّا إن قلنا بعدم إمكان ذلك ـ لما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ـ فهنا تظهر ثمرة الترتّب، فبناء عليه صحّ العمل بالأمر، وبناءً على عدم الترتّب لم يصحّ العمل؛ لعدم إحراز الأمر وعدم إحراز الملاك.

أقول: إنّ لنا حول هذا الكلام ثلاث نقاط:

1 ـ إنّ الأولى إبراز الثمرة بصيغتها الأوسع والأشمل، وهي التي نحن ذكرناها، فإنّ صحّة العمل بالأمر وعدم صحّته مظهر من مظاهر التعارض وعدمه، فإنّه لو فرض التعارض وسقط الأمر بطل العمل؛ إذ لم يثبت أمر ولا ملاك. ولو فُرض عدم التعارض ووجوب الصلاة على القادر، فهو إذا ترك الإزالة فقد حصلت له القدرة على الصلاة، فثبت عليه الأمر بالصلاة، فصحّت صلاته.

وببيان آخر: إنّ الثمرة التي اخترناها تمتاز على الثمرة التي اختارها السيّد الاُستاذ بنكتتين:

الاُولى: أنّ الثمرة التي ذكرناها هي الأصل للثمرة التي ذكرها السيّد الاُستاذ، وتلك الثمرة تتفرّع على الثمرة المختارة. ففي الفرع الأوّل إنّما تبطل العبادة ـ بعدم الأمر ـ بناءً على بطلان الترتّب؛ لأنّه بناءً على بطلان الترتّب يقع التعارض بين الأمرين، فبعد فرض تقديم الأمر الآخر، وسقوط هذا الأمر تبطل العبادة. وفي الفرع الثاني إن قلنا بثبوت الأمر على الجامع عرضيّاً فلا ثمرة، بلا فرق بين مختارنا ومختاره؛ إذ لا تعارض بين الأمرين، وتصحّ العبادة بالأمر، سواءً قلنا بالترتّب أو لا.

الثانية: أنّه على بعض المباني والفروض تظهر الثمرة بالصياغة التي نحن بيّنّاها، ولا تظهر الثمرة بالصياغة التي ذكرها السيّد الاُستاذ؛ وذلك لأنّنا لو قلنا بإحراز

68

الملاك حتّى مع عدم الأمر، وصحّحنا العمل بذلك، فالثمرة بالنحو الذي ذكره السيّد الاُستاذ لا تظهر؛ لأنّه يصحّ العمل على كلّ حال. ولكنّ الثمرة بالنحو الذي ذكرناه تظهر؛ إذ نتكلّم في أنّ دليل الأمرين هل يتعارضان وتطبّق عليهما قوانين باب التعارض، أو يتزاحمان وتطبّق عليهما قوانين باب التزاحم؟

ثُمّ إنّ قيد كون الواجب عباديّاً ـ الذي جاء على لسان السيّد الاُستاذ ـ في غير محلّه؛ فإنّه لو كان المفروض إمكان إحراز الملاك ـ بمعنى المصلحة ـ مع فرض سقوط الأمر، أمكن تخصيص الثمرة بالواجب العباديّ؛ لأنّ الملاك ـ بمعنى المصلحة ـ لا يصحّح العبادة؛ لعدم إمكان التقرّب بالمصلحة بغضّ النظر عن المحبوبيّة، ولكنّه يصحّح الواجب التوصّليّ، لكنّه قد فرغنا وفرغ ـ دامت بركاته ـ عن عدم إمكان إحراز الملاك، لولا الأمر، ومعه فالواجب التوصّليّ أيضاً يبطل باقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه؛ إذ لم يثبت أمرٌ به ولا ملاك فيه.

2 ـ إنّ السيّد الاُستاذ ـ الذي قد صرّح بأنّ القدرة ليست شرطاً في التكليف، وإنّما هي شرط في التنجيز؛ لأنّ التكليف ليس إلاّ مجرّد اعتبار وفرض، وفرض المحال ليس بمحال ـ لم يكن من حقّه أن يفترض كون صحّة العمل من آثار الترتّب؛ فإنّه لا حاجة إلى الترتّب، بل يثبت كلّ من الأمرين عرضاً؛ فإنّه إذا أمكن تعلّق أمر واحد ابتداءً بما هو محال، فكذلك يمكن تعلّق أمرين بشيئين يكون الجمع بينهما محالا.

ومن هنا كان اشتراط القدرة في التكليف من المبادئ التصديقيّة للترتّب. وقد عرفت أنّ القدرة شرط في التكليف حتّى ولو فرضنا أنّ التكليف والأمر مجرّد اعتبار؛ فإنّه على أيّ حال يدلّ بدلالة سياقيّة على أنّ المولى بصدد البعث والتحريك، لا بصدد مجرّد الفرض والخيال حتّى يقال: إنّ فرض المحال ليس بمحال، ولا يعقل البعث عند عدم القدرة وعدم إمكانيّة الانبعاث.

69

3 ـ إنّ ما ذكره في الفرع الثاني ـ من أنّه بناءً على تعلّق الأمر بالجامع لا مورد للترتّب ـ صحيح، ولكنّ ما ذكره من أنّه بناءً على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ من استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد ـ لا يمكن شمول الجامع المأمور به للفرد المزاحم، غير صحيح؛ لما مضى من أنّ الإطلاق الذي يفرضه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)عدم الملكة بالنسبة للتقييد، هو إطلاق الحكم للطرف المقابل لذاك التقييد، على ما مضى شرحه. كما أنّ الصحيح هو تعلّق الأمر بالجامع حتّى بناءً على أنّ ملاك اشتراط القدرة هو كون الخطاب ـ بحسب روحه ـ عبارة عن البعث الذي لا يُعقل إلاّ مع إمكانيّة الانبعاث والقدرة، فإنّ الجامع مقدور. إذن، فثمرة الترتّب لا تظهر في الفرع الثاني.

ثُمّ إنّ الثمرة ـ سواءً بُيّنت بالصياغة التي نحن اخترناها، أو بصياغة السيّد الاُستاذ ـ موقوفةٌ على أصلين موضوعيّين، لو لم يتحفّظ عليهما معاً لم تظهر أيّ ثمرة للترتّب، لا بصياغتنا للثمرة، ولا بصياغة السيّد الاُستاذ لها:

أحدهما: أن يقال بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، أمّا على تقدير الاقتضاء فلا إشكال في وقوع التعارض على كلّ حال، كما لا إشكال في عدم إمكان تصحيح العبادة بالأمر على كلّ حال؛ لأنّه بعد أن فُرض تقديم جانب الأمر بالإزالة ـ مثلا ـ فالواجب الآخر المزاحم له منهيٌّ عنه، فكيف يكون مأموراً به؟!

هذا إذا كان الواجبان مضيّقين، أمّا إذا كان الضدّ واجباً موسّعاً زاحم بعض أفراده مع الواجب الآخر، فلو آمنّا بمقالة المحقّق الثاني ـ من تعلّق الأمر العرضيّ بالجامع الشامل للفرد المزاحم ـ لم يكن هناك تعارضٌ بين الأمرين على كلّ حال، وصحّت العبادة على كلّ حال. ولو قلنا بعدم إمكان تعلّق الأمر بالجامع عرضيّاً على إطلاقه الشامل للفرد المزاحم، فبناءً على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ـ كما هو المفروض ـ لا تظهر الثمرة أيضاً؛ إذ على هذا الفرض يصبح إطلاق

70

تعلّق الأمر بالجامع ـ بنحو يشمل الفرد المزاحم ولو بنحو الترتّب ـ معارضاً لدليل الأمر بالإزالة المقتضي للنهي عن الضدّ المستحيل اجتماعه مع الأمر بجامع يشمل ذلك الضدّ، ولو قدّم الأمر بالإزالة لم يبق أمرٌ بالعبادة، فتبطل.

ثانيهما: أن يقال باشتراط القدرة في التكليف، فلو أنكرنا ذلك لم تبق ثمرة للترتّب، لا بصياغتنا؛ لأنّه لا يقع التعارض على كلّ حال، أي: حتّى لو أنكرنا الترتّب؛ فإنّ غاية ما يلزم من ذلك الأمر بضدّين، ولا بأس به، ولا بصياغة السيّد الاُستاذ؛ لأنّه على كلّ حال يكون الأمر بالعبادة موجوداً، فتصحّ بذلك العبادة.

 

ما يرجع إليه تقديم أحد المتزاحمين على الآخر من أقسام رافعيّة أحد الحكمين لموضوع الآخر:

الجهة الثانية: أنّ كلّ حكمين قد يكون أحدهما غير رافع لموضوع الآخر، سواءً كانا غير متنافيين، كـ (صلّ) و(صم)، أو كانا متنافيين، كـ (صلّ) و(لا تصلّ). وقد يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر، وهذا على خمسة أقسام؛ فإنّ الرافع للحكم الآخر: إمّا هو جعل الحكم الأوّل، أو فعليّة المجعول، أو وصول المجعول، أو تنجّز الواصل، أو امتثال المنجّز.

مثال الأوّل: ما قد يقال في مسألة الزكاة: من أنّه لو ملك نصاباً كعشرين إبلاً، وعلى رأس نهاية ستّة أشهر ـ مثلا ـ اُضيف إليه ما أدخله في نصاب آخر، كما لو صار خمساً وعشرين إبلاً، وقلنا: إنّ سنة الزكاة بلحاظ النصاب الأوّل تبدأ من الشهر الأوّل، وبلحاظ النصاب الثاني تبدأ من الشهر السابع، وقلنا بأنّ عيناً واحدة لا يصحّ أن تشترك في تكوين نصابين، وقلنا بأنّ النصاب السابق زماناً هو الذي يحكم على النصاب اللاحق، فإن صحّ كلّ هذا فالحكم بالزكاة في النصاب الأوّل بجعله يرفع موضوع الحكم بالزكاة الثانية، برغم أنّ فعليّة الحكم بالزكاة لا تكون إلاّ بعد الحول.

71

ومثال الثاني: الحكم بحرمة ما وقع متعلّقاً للشرط، والمفروض وجوب الوفاء بالشرط إلاّ ما خالف الكتاب والسنّة، فلو اشترط ـ مثلا ـ في ضمن العقد المشي في مكان معيّن، فالحكم بحرمة الغصب بجعله لا يرفع موضوع وجوب الوفاء بالشرط، ولكن إذا صار فعليّاً، بأن ملك شخص ذلك المكان ولم يرض بالمشي فيه، ارتفع بذلك موضوع وجوب الوفاء بالشرط؛ لأنّه أصبح شرطاً مخالفاً للكتاب والسنّة.

ومثال الثالث: ارتفاع موضوع الاُصول العمليّة، كـ (رفع ما لا يعلمون) بالعلم بالحكم، بناءً على أنّ العلم اُخذ غاية لها بما هو طريق، لا بما هو منجّز.

ومثالٌ آخر: أنّ حرمة الإفتاء بغير علم يرتفع موضوعها بالعلم بالحكم.

ومثال الرابع: ارتفاع موضوع الاُصول العمليّة بالعلم بالحكم، بناءً على أنّ العلم اُخذ غايةً لها بما هو منجّز.

ومثالٌ آخر: ما يقال في باب الزكاة: من أنّها مشروطة بأن يكون قادراً في أثناء الحول على التصرّف في العين الزكويّة، بمعنى عدم كونه عاجزاً عن ذلك، لا تكويناً ولا تشريعاً ومن باب تقيّده بالشرع وأداء حقّ المولويّة، فإذا حرم عليه التصرّف بحجر ـ مثلا ـ وتنجّزت عليه الحرمة، أصبح بتنجّزها عاجزاً شرعاً عن التصرّف، وبذلك ارتفع موضوع وجوب الزكاة.

ومثالٌ آخر: ما يقال في باب الوضوء أو الحجّ من اشتراطه بالقدرة الشرعيّة، بناءً على تفسيرها بأن لا يكون عاجزاً عقلا ولا مولويّاً ومن ناحية التزامه بالشرع، فحينئذ لو تنجّز عليه حفظ الماء تحفّظاً على نفس محترمة ـ مثلا ـ أو تنجّزت عليه زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة ارتفع موضوع الوضوء أو الحجّ.

والنقاش في بعض هذه الأمثلة أو كلّها لا يضرّنا؛ فإنّ المقصود فعلا مجرّد المثال لتوضيح المقصود.

72

ومثال الخامس: وجوب الكفّارة على من أفطر شهر رمضان، الذي يرتفع موضوعه بامتثال وجوب الصوم في شهر رمضان.

إذا عرفت ذلك جئنا إلى ما نحن فيه، لنرى أنّ وجوب الإزالة ـ مثلا ـ الذي فُرض مقدّماً بوجه من الوجوه على وجوب الصلاة ورافعاً لموضوعه، داخل في أيّ قسم من هذه الأقسام الخمسة؟

فنقول: بناءً على القول بالترتّب يدخل في القسم الأخير، كما هو واضح؛ إذ قد فُرض أنّ المولى أوجب الصلاة على تقدير تركه للإزالة، فوجوب الإزالة يكون بامتثاله رافعاً لوجوب الصلاة.

وأمّا بناءً على القول ببطلان الترتّب ووقوع التعارض، فالصحيح أنّه يدخل في القسم الرابع، أي: أنّ وجوب الإزالة بتنجّزه يرفع موضوع وجوب الصلاة؛ فإنّ اشتراط القدرة لا يقتضي تقييد وجوب الصلاة بقيد غير قيد عدم تنجّز الإزالة؛ فإنّ من لم تتنجّز عليه الإزالة يكون قادراً على الصلاة، ولا يقبح ـ مثلا ـ تكليفه بالصلاة؛ لعدم كون ذلك إحراجاً له وإيقاعاً له فيما يوجب استحاق العقاب. هذا بلحاظ اشتراط القدرة بملاك قبح تكليف العاجز، وكذلك الأمر بلحاظ كون البعث بنفسه متطلّباً للقدرة على الانبعاث وشأنيّته؛ فإنّه لا يتطلّب أكثر من هذه الشأنيّة.

فإن قلت: إذا فُرض رجوع الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة إلى باب التعارض، فكيف يُعقل كون مجرّد تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر موجباً لرفع التعارض؟ بينما في سائر موارد التعارض لو قُيّد أحدهما بعدم تنجّز الآخر لم يرتفع التعارض، مثلا: لو ورد دليلٌ على الأمر بالصلاة، ودليلٌ على النهي عن الصلاة في الحمّام، فتعارضا في الصلاة في الحمّام، فحتّى لو قيّد الأمر بالصلاة بعدم تنجّز النهي عن الصلاة في الحمّام يبقى التعارض ثابتاً بينهما في مادّة الاجتماع في فرض عدم تنجّز النهي. وكذلك الحال في مثل (صلّ) و(لا تغصب) في مادّة

73

الاجتماع، بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي، ولذا يقال ـ بناءً على الامتناع ـ ببطلان الصلاة في المكان المغصوب، ولو مع الجهل والعذر.

فليكن ما نحن فيه أيضاً كذلك، فبمجرّد تقييد وجوب الصلاة بعدم تنجّز وجوب الإزالة لا يرتفع التعارض، حتّى يُفرض أنّ القيد المأخوذ فيه هو عدم تنجّز وجوب الإزالة، وأنّ وجوب الإزالة بتنجّزه يرفع موضوع وجوب الصلاة، فحتّى لو فرض وجوب الإزالة غير منجّز يبقى التعارض ثابتاً بين الأمرين؛ لأنّهما أمران بضدّين، والمفروض عدم قدرة المكلّف على الجمع بين الضدّين، في حين أنّ الخطاب يتطلّب القدرة على الانبعاث، فمحذور عدم القدرة على الجمع بين الضدّين ـ الذي أوجب التعارض بين الأمرين ـ لم يرتفع بمجرّد تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر.

قلت: إنّه في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) يكون التعارض بينهما ثابتاً في مادّة الاجتماع، حتّى مع فرض تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر؛ وذلك لأنّ كلاًّ من الأمرين يكشف عن ثبوت مبادئ الحكم في متعلّقه، ومتعلّقهما في مادّة الاجتماع واحد، ويستحيل اجتماع الحبّ والبغض، أو اجتماع المصلحة والمفسدة ـ الغالب كلّ منهما في التأثير ـ في متعلّق واحد، ولو في فرض عدم تنجّز أحدهما؛ إذ من الواضح أنّ عدم تنجّز أحدهما لا يوجب إمكان اجتماع الحبّ والبغض الفعليّين في مورد واحد.

وأمّا في مثل المقام وهو (صلّ) و(أزِل) فإن فرض أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه كان معنى ذلك اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد، فصار حالُه عيناً حال (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) ويقع التعارض بلحاظ مبادئ الأمر ومبادئ النهي، ولا ينحلّ التعارض بمجرّد تقييد أحد الأمرين بعدم تنجّز الآخر.

وأمّا بناءً على ما هو الحقّ من عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه

74

الخاصّ، فمع فرض تقيّد أحدهما بعدم تنجّز الآخر لا معنى للتعارض بينهما، فإذا كان وجوب الصلاة مقيّداً بعدم تنجّز وجوب الإزالة لم يبق أيّ تعارض بينهما؛ إذ ما هي النقطة التي يتمركز فيها التعارض؟ هل هي عبارة عن مبادئ الحكم، أو عبارة عن نفس الحكم، أي: ما هو مدلول الخطاب، أو عبارة عمّا لكلّ واحد منهما من استحقاق الامتثال؟

أمّا النقطة الاُولى ـ وهي مبادئ الحكم ـ: فمن الواضح عدم أيّ تعارض بينهما بلحاظ المبادئ؛ لتباين متعلّقهما، فأحدهما تعلّق بالصلاة، والآخر تعلّق بالإزالة، وليس أحد الأمرين متعلّقاً بنقيض ما تعلّق به الأمر الآخر، وأيّ منافاة بين افتراض كون الشخص الواحد محبّاً بالفعل لعمل حبّاً شديداً جدّاً، ومحبّاً لما يضادّه أيضاً بنفس الدرجة؟! غاية الأمر أنّه عاجز عن تحصيلهما معاً لما بينهما من التضادّ.

وأمّا النقطة الثالثة ـ وهي اقتضاء كلّ منهما للامتثال لو فُرض أنّ تزاحمهما في ذلك يوجب التعارض بينهما ـ: فمن الواضح أنّه لا تعارض بينهما بلحاظها أيضاً؛ إذ لو تنجّز وجوب الإزالة لم تجب الصلاة بحسب الفرض، ولو لم يتنجّز وجوب الإزالة لم يكن وجوب الإزالة مستحقّاً للامتثال حتّى يقع التعارض بينهما بلحاظ استحقاق الامتثال.

وأمّا النقطة الثانية ـ وهي نفس الحكم ومفاد الخطاب ـ: فإن قلنا: إنّ مفاد الخطاب ليس إلاّ مجرّد الاعتبار والخيال، فمن الواضح عدم التعارض بين مجرّد خيال وخيال، أو اعتبار واعتبار.

وإن قلنا: إنّ الخطاب يدلّ بدلالة سياقيّة على كونه بداعي الجدّ، أي: يكشف عن داعي البعث والتحريك، وعلى أساسه يتطلّب الخطاب اشتراط القدرة، فكشف الخطاب ـ بدلالة سياقيّة ـ عن داعي البعث والتحريك يتصوّر بأحد أنحاء عديدة لابدّ من تمحيصها:

الأوّل: أن يُفرض أنّ الخطاب يكشف عن ثبوت داعي التحريك الفعليّ على الإطلاق.

75

وهذا أقلّ ما يرد عليه: أنّه يلزم منه عدم شمول الخطاب للعاصين، أوتخيّل المولى أنّ المكلّفين مطيعون، وإلاّ فالمولى المطّلع على وجود عاصين لخطابه لا يعقل أن يخاطب بداعي التحريك الفعليّ لكلّ المكلّفين علىالإطلاق.

الثاني: أن يُفرض أنّ الخطاب يكشف عن ثبوت داعي التحريك الفعليّ على الإطلاق لكلّ مكلّف على تقدير انقياده.

وهذا أيضاً غير صحيح، وإلاّ لزم عدم شمول الخطاب للمنقاد الذي لم يصل إليه الخطاب بل وصل إليه عدمه، فالمنقاد على الإطلاق لا يمكن أن يتحرّك بهذا الخطاب، وإنّما يتحرّك به المنقاد الذي وصله الحكم وتنجّز عليه مثلا.

الثالث: أن يُفرض أنّ الخطاب يكشف عن ثبوت داعي التحريك الفعليّ لكلّ مكلّف على تقدير انقياده ووصول الخطاب إليه وصولا منجّزاً، ولهذا لا يكون العاجز تكويناً مشمولاً للخطاب؛ لعدم معقوليّة التحريك بالنسبة إليه.

وفيما نحن فيه يكون الأمر بالإزالة مع الأمر بالصلاة مقيّداً بعدم تنجّز وجوب الإزالة معقولا بلا تعارض بينهما؛ لأنّ كلاًّ منهما يكشف عن الداعي للتحريك الفعليّ للمكلّف على تقدير انقياده ووصول الخطاب إليه وصولا منجّزاً، وهذا الداعي في كلا الخطابين معقول؛ فإنّ فرض وصول وجوب الإزالة وصولا منجّزاً مساوقٌ لعدم فعليّة وجوب الصلاة، وفرض فعليّة وجوب الصلاة ووصوله وصولا منجّزاً مساوقٌ لعدم تنجّز وجوب الإزالة؛ إذ بتنجّزه ترتفع فعليّة وجوب الصلاة بحسب الفرض، بلا تناف بينهما؛ إذ مع فرض تنجّز وجوب الإزالة لا تجب عليه الصلاة، ومع فرض عدم تنجيزه تجب عليه الصلاة، ولكن داعي التحريك الكامن في الأمر بالإزالة لا ينافيه؛ إذ ذلك داع للتحريك الفعليّ على تقدير الانقياد

76

والتنجّز بحسب الفرض؛ إذن لم يبق أيّ تناف بين داعيي التحريك.

الرابع: أن يُفرض أنّ الخطاب لا يكشف عن ثبوت داعي التحريك الفعليّ ـ كما هو الحال في الاحتمالات الثلاثة الماضية ـ وإنّما يكشف عن داعي إيجاد المقتضي للتحريك الذي قد يقترن صدفةً بمانع ـ من خبث أو غيره ـ ولا يحرّك، وقد لا يقترن صدفةً بمانع فيحرّك. ومبنيّاً عليه أيضاً لا يكون العاجز تكويناً مشمولا للخطاب؛ لعدم اقتضاء الخطاب لتحريكه.

ولا يبقى تعارضٌ بين الخطابين فيما نحن فيه من ناحية داعيي التحريك حتّى لو فرض عدم تقيّد أحدهما بفرض عدم تنجّز الآخر؛ إذ كلّ منهما فيه اقتضاء التحريك حينما يصبح فعليّاً، وهو كاف فيما يكشف عنه الخطاب من داعي التحريك ولو فرض الخطاب الآخر مانعاً عن تأثير هذا المقتضي. فلو فُرض تعارضٌ بين الخطابين العرضيّين فإنّما هو من ناحية استحقاق كلّ منهما للامتثال لو فُرض أنّ مثل ذلك يوجب التعارض، وهذا التعارض يرتفع بتقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر كما مضى. إلاّ أنّ هذا الاحتمال الرابع لا يساعد عليه الفهم العرفيّ للمدلول السياقيّ للخطاب.

الخامس: أن يُفرض أنّ الخطاب يكشف عن داعي تحريك كلّ منقاد بقدر انقياده وفقاً لدرجات الوصول، أي: أنّه اُنشئ الخطاب لكي يحرّك بوصوله التنجيزيّ مَن فيه طبع الانقياد بالوصول التنجيزيّ، ولكي يحرّك بوصوله الظنّيّ غير التنجيزيّ مَن فيه طبع الانقياد حتّى بالوصول الظنّي غير المنجّز، ولكي يحرّك بوصوله الاحتماليّ مَن فيه طبع الانقياد حتّى بالوصول الاحتماليّ وهكذا.

وبناءً على هذا لا يرتفع التعارض بين الأمرين في المقام بمجرّد تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر؛ إذ المفروض أنّ الأمر بالإزالة يكشف عن داعي التحريك بوصوله الاحتماليّ أيضاً على تقدير بعض درجات الانقياد، في حين أنّه لا يمكن

77

أن يجتمع هذا التحريك مع التحريك الثابت في الأمر بالصلاة الفعليّ عند عدم وصول الأمر بالإزالة وصولا منجّزاً.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال الخامس لا يساعد عليه الفهم العرفيّ للمدلول السياقيّ للخطاب.

وحيث إنّه لا برهان عقليّ يعيّن أحد الاحتمالات، وإنّما المرجع هو الفهم العرفيّ، فنحن نقول: إنّ الفهم العرفيّ يساعد على الاحتمال الثالث، وبه يثبت المقصود، وهو عدم التعارض في المقام عند تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر.

وبذلك اتّضحت صحّة ما يقال: من التفصيل بين الصلاة في المكان المغصوب بناءً على الامتناع، والصلاة عند التزاحم بما يفرض تقدّمه عليها، ببطلان الصلاة في الفرض الأوّل حتّى مع الجهل والعذر، وصحّتها في الفرض الثاني عند الجهل والعذر، فهذا الكلام تامّ حتّى بناءً على إنكار الترتّب.

 

الكلام في الفروع الفقهيّة التي قد توهم وقوع الترتّب:

الجهة الثالثة: قد تورد على القائلين بامتناع الترتّب نقوضٌ فقهيّة تُجعل كبرهان إنّيٍّ على إمكان الترتّب؛ لأنّ أدلّ الدليل على الإمكان هو الوقوع:

منها: أنّ مَن وجب عليه السفر ـ لحجّ أو إنقاذ غريق أو غير ذلك ـ ولم يسافر فهل يجب عليه التمام، أو القصر، أو تسقط عنه الصلاة؟ الأخيران كلاهما ضروريّ البطلان، والمتعيّن هو الأوّل وهو وجوب التمام على تقدير عصيان وجوب السفر، ولا نعني بالترتّب إلاّ هذا، من قبيل وجوب الصلاة على تقدير عصيان وجوب الإزالة.

ومنها: عكس المسألة السابقة، أعني: أنّ المسافر إذا وجبت عليه الإقامة وعصى، فهل يجب عليه القصر، أو التمام، أو لا تجب عليه الصلاة؟! لا سبيل إلى

78

الأخيرين فقهيّاً، والمتعيّن هو الأوّل، فقد وجب عليه القصر على تقدير عصيان الأمر بالإقامة.

ومنها: نفس الفرع الأوّل مع تبديل الصلاة بالصوم، فمن وجب عليه السفر في شهر رمضان وعصى فهل يجب عليه الصوم، أو لا؟ طبعاً لا سبيل إلى الثاني، والمتعيّن هو الأوّل فقهيّاً، فقد اتّجه إليه أمران ترتّبيّان وهما: (سافر) (وإن لم تسافر فصُم)، عيناً من قبيل قولنا: (أزل) (وإن لم تزل فصلّ).

ولنا حول هذه النقوض ثلاث كلمات:

الكلمة الاُولى: أنّ هذه ليست نقوضاً على القائل بامتناع الترتّب؛ فإنّه في موارد الترتّب المختلف فيه ـ من قبيل الأمر بالإزالة مع الأمر بالصلاة ـ توجد علاقتان بين الأمرين: إحداهما: كون الأمر بالأهمّ متطلّباً لهدْم موضوع الأمر بالمهمّ. والاُخرى: كون الأمر بالأهمّ مقرّباً نحو الأهمّ، وبالتالي مبعّداً عن المهمّ، بينما الأمر بالمهمّ يقرّب ويجرّ العبد نحو المهمّ، فيفرض تناف بين الجرّين.

فالعلاقة الاُولى هي نكتة القول بإمكان الترتّب، والعلاقة الثانية هي نكتة القول بامتناعه. وفي هذه النقوض إنّما توجَد العلاقة الاُولى التي هي نكتة القول بالإمكان من دون أن توجَد العلاقة الثانية التي هي نكتة القول بالامتناع، فلا الأمر بالتمام يبعّد العبد عن السفر؛ لأنّه مشروط بعدم السفر، ولا الأمر بالسفر يبعّده عن التمام؛ لعدم تضادّ بينهما، ومع عدم التضادّ ليس الجرّ نحو أحدهما تبعيداً عن الآخر.

الكلمة الثانية: أنّ الضرورة الفقهيّة إنّما تدلّ على النتيجة، وهي: أنّ من عصى الأمر بالسفر أو الإقامة لم يكن له سبيل إلى النجاة من العقاب الثاني، إلاّ بأن يتمّ ويصوم في الأوّل، أو يقصّر في الثاني، ولا تُعيّن التكييف الفنّيّ لذلك، وليس تكييفه الفنّيّ منحصراً بافتراض كون الأمر بالتمام والصوم، أو بالقصر مشروطاً بعصيان الأمر الآخر.

79

فلو افترضنا أنّ هذا هو الترتّب المستحيل عند القائل بامتناع الترتّب، وأنّ الضرورة الفقهيّة دلّت على تلك النتيجة، كان بإمكان القائل بامتناع الترتّب أن يخرّج هذه الفروع بتخريج آخر، فيقول ـ مثلا ـ في صلاة التمام: إنّه مأمور بأمرين: أحدهما الأمر بالسفر، والثاني الأمر بالجامع بين السفر وصلاة التمام في الحضر(1). وكذلك في الصوم يقول: إنّه مأمور بالسفر، وبالجامع بين السفر والصوم في الحضر. وكذلك في القصر يقول: إنّه مأمور بالإقامة وبالجامع بين الإقامة والقصر(2) على تقدير عدم الإقامة.

وبإمكانه أن يخرّج هذه الفروع بتخريج آخر أيضاً، وهو أن يبدّل ما ذكرناه من الأمر بالجامع، بالنهي عن الجمع بين تركي كلا الفردين لذاك الجامع.

نعم، هذان التخريجان خلاف ظاهر الأدلّة؛ فإنّ ظاهرها أنّ الواجب هو الصلاة أو الصوم، لا ذاك الجامع، أو عدم الجمع بين تركي الفردين. إلاّ أنّ الكلام ليس في البحث الإثباتيّ، وإنّما الكلام في التكليف المعقول والممكن لشيء ثابت بحسب مقام الإثبات.

الكلمة الثالثة: تختصّ بالفرعين الأوّلين، وهي: أنّ جعلهما كنقض على القول باستحالة الترتّب موقوف على افتراض أنّ هناك حكمين على موضوعين مختلفين: أحدهما الحكم بالتمام على الحاضر، والآخر الحكم بالقصر على المسافر، بينما هذا المطلب غير ثابت فقهيّاً؛ إذ من المحتمل أن يكون هناك حكمٌ واحدٌ على الحاضر والمسافر معاً، بالجامع بين التمام الحضريّ والقصر السفريّ، بأن يكون السفر والحضر قيداً في الواجب.


(1) (2) أمراً ضمنيّاً ضمن الأمر بالصلاة.

80

وبناءً على هذا الاحتمال يكون تفسير كون العبرة في القصر والتمام بوقت الأداء واضحاً، فلو كان حاضراً في أوّل الوقت ثمّ سافر يقصّر، ومع العكس يتمّ. أمّا على احتمال كون التمام والقصر حكمين لموضوعين فيشكل تصوير ذلك؛ إذ قد يقال: إنّه إذا كان التمام ـ مثلا ـ حكم الحاضر في أوّل الوقت ولو سافر في الأثناء، إذن فلماذا لو سافر في الأثناء قبل أن يصلّي يقصّر؟ وإذا كان التمام حكم الحاضر بشرط أن لا يسافر في الأثناء لزم أنّه لو صلّى تماماً ثمّ سافر في أثناء الوقت بطلت صلاته، بينما لا يلتزم بذلك.

إلاّ أنّ هذا يمكن أن يجاب عليه بمثل أن يقال: إنّ التمام حكم الحاضر بشرط أن لا يسافر في الأثناء سفراً لم يصلّ قبله التمام مثلا. فالاحتمال الأوّل أيضاً معقول لكنّه لا معيِّن له، فلا يكون هذان الفرعان شاهدين للقول بالترتّب.

 

الاستدلال على صحّة الترتّب بارتفاع محذور الأمر بضدّين بالطوليّة وتعدّد الرتبة بين الأمرين:

الجهة الرابعة: قد يستدلّ على صحّة الترتّب بأنّ محذور الأمر بضدّين مرتفع بالطوليّة وتعدّد الرتبة بين الأمرين، وهذا يمكن بيانه بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال(1): إنّ كلاًّ من الأمرين وإن كان يقتضي جرّ العبد إلى ما


(1) هذا الوجه نقله المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) عن بعض في الجزء الثاني من المجلّد الأوّل من نهاية الدراية، ص 30، ببيان خلاصته:

إنّ الأمر بالمهمّ متأخّر رتبة عن الأمر بالأهمّ؛ لأنّه في طول عصيان الأمر بالأهمّ الذي هو في عرض نقيضه، وهو إطاعة الأمر بالأهمّ، وإطاعة الأمر بالأهمّ في طول الأمر

81

يضادّ متعلّق الآخر، إلاّ أنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ هو في طول اقتضاء الأمر بالأهمّ؛ وذلك لأنّ فعليّة الأمر بالمهمّ فرع ترك الأهمّ بحسب ما هو المفروض من أنّه اُخذ في موضوعه ترك الأهمّ، فاقتضاؤه يكون في طول ترك الأهمّ، وترك الأهمّ يكون في رتبة فعل الأهمّ؛ لأنّ النقيضين في رتبة واحدة. إذن، فاقتضاء الأمر بالمهمّ صار في طول فعل الأهمّ، وفعل الأهمّ هو معلول للأمر بالأهمّ. إذن، هو متأخّر عن اقتضاء الأمر بالأهمّ. فاقتضاء الأمر بالمهمّ متأخّر عن اقتضاء الأمر بالأهمّ فلم يجتمع الاقتضاءان في رتبة واحدة حتّى يقع التهافت بينهما؛ فإنّه في رتبة اقتضاء الأمر بالأهمّ ليس الأمر بالمهمّ فعليّاً، وفي رتبة اقتضاء الأمر بالمهمّ لا اقتضاء للأمر بالأهمّ؛ إذ عرفنا أنّ الأمر بالأهمّ هو العلّة لفعل الأهمّ، ولا اقتضاء للعلّة في رتبة المعلول ـ وإلاّ لزم تحصيل الحاصل ـ فضلا عن رتبة متأخّرة عن رتبة المعلول.

وما قيل أو يمكن أن يقال في مقام الردّ على هذا الوجه اُمور:

الأوّل: النقض بما لو قيّد الأمر بالمهمّ بامتثال الأهمّ، فهذا أيضاً يكفي لتحقيق ما فُرض من الطوليّة، مع أنّه من الواضح عدم صحّة ذلك.

ويرد عليه: أنّ الأمر بالمهمّ مقيّداً بالإتيان بالأهمّ بنفسه أمر بالمحال؛ لاستحالة



بالأهمّ؛ لأنّها مرتبة تأثيره وأثره، والعلّة منعزلة في رتبة أثرها عن التأثير، بل تمام اقتضائها لأثرها في مرتبة ذاتها المتقدّمة على تأثيرها وأثرها، إذن ففي رتبة الأمر بالأهمّ وتأثيره في صرف القدرة نحوه، لا وجود للأمر بالمهمّ، وفي رتبة وجود الأمر بالمهمّ لا اقتضاء للأمر بالأهمّ، فلا مطاردة بين الأمرين، بل كلٌّ يؤثّر في رتبة نفسه، بلا إيجاب لتحيّر المكلّف في الامتثال، ولا يقتضي كلّ من الأمرين الإلقاء فيما لا يطاق.

82

الإتيان بالمهمّ مقيّداً بإتيان الأهمّ، ولا يحتاج في بطلانه إلى ضمّ الأمر بالأهمّ إليه حتّى يقال: إنّنا نرفع غائلة المنافاة بين الأمرين بفرض الترتّب بينهما، فمن حقّ صاحب ذاك الوجه أن يقول: إنّ غائلة المنافاة بين الأمرين تزول بتقييد أحدهما بامتثال الآخر، ولكن يصبح نفس الأمر بالمهمّ المقيّد بامتثال الأهمّ بنفسه متعلّقاً بأمر غير مقدور، وهذا لا يمتّ إلى بحث الترتّب بصلة.

الثاني: النقض بما لو قُيّد الأمر بالمهمّ باقتضاء الأمر بالأهمّ للتحريك، أو قل: بوصول الأمر بالأهمّ وتنجيزه، فبهذا تتمّ الطوليّة، مع أنّه من الواضح أنّ مشكلة تعلّق أمرين بضدّين باقية على حالها. وهذا نقضٌ متين.

الثالث: المنع عن كون الطوليّة في الرتبة رافعة لغائلة التنافي بين الضدّين؛ فإنّ الضدّين لا يمكن أن يجتمعا في زمان واحد ومكان واحد ولو فُرضت الطوليّة والترتّب بينهما، فالسواد لا يمكن أن يجتمع مع البياض ولو فرض علّة للبياض. وهذا جواب متين.

الرابع(1): أن تُمنع الطوليّة بين الاقتضائين؛ لأنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ وإن كان في طول ترك الأهمّ، لكنّنا نمنع استلزام كون الشيء في طول أحد النقيضين لكونه في طول النقيض الآخر، كما مضى في بحث مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر.

ويمكن أن يجاب على ذلك بإجراء تعديل في البيان، وذلك بأن يفرض أنّ الأمر بالمهمّ مقيّد بعصيان الأمر بالأهمّ بما هو عصيان له، لا بواقع العصيان بمعنى الترك، وعندئذ فتتمّ الطوليّة؛ لأنّ فعليّة الأمر بالمهمّ في طول عصيان الأمر بالأهمّ، وعصيان الأمر بالأهمّ في طول الأمر بالأهمّ؛ إذ لو لا الأمر بالأهمّ لم يُعقل عصيانه، ففعليّة الأمر بالمهمّ معلولة ـ بالواسطة ـ للأمر بالأهمّ.


(1) هذا الجواب ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله).

83

إلاّ أنّ هناك نكتة ينبغي الالتفات إليها، وهي: أنّ التضادّ بين الأمرين إنّما هو تضادٌّ عرَضيٌّ منشؤه التضادّ بين المتعلّقين ـ وهما الصلاة والإزالة ـ الذي هو التضادّ الذاتيّ، فلو فُرض إمكان رفع غائلة الضدّين بتعديد الرتبة بينهما، فلابدّ من تعديد الرتبة بين المتعلّقين حتّى يرتفع التضادّ بينهما، فلا يكون الأمر بهما أمراً بضدّين، أمّا إذا فُرض بقاء المتعلّقين على ما هما عليه من التضادّ، فالأمر بهما أمرٌ بضدّين، والمفروض أنّه إنّما وقع التضادّ بين الأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ لأنّ مجموعهما أمرٌ بضدّين، وهذه الغائلة لا ترتفع بفرض الطوليّة(1) بين نفس


(1) من يقول بأنّ الطوليّة ترفع غائلة التضادّ: إمّا أن يقصد بذلك أنّ الطوليّة ترفع نكتة التضادّ، وإمّا أن يقصد بذلك أنّ الطوليّة تعارض التضادّ. وبتعبير آخر: تارة يقصد أنّ الطوليّة ترفع مقتضي التضادّ، واُخرى يقصد أنّ الطوليّة هي تقتضي عدم التضادّ، وتغلب على مقتضي التضادّ.

فإن قصد الأوّل فمن الواضح أنّه لا أثر في المقام لمجرّد الطوليّة بين الأمرين؛ لأنّ نكتة التضادّ هي أنّهما أمرٌ بضدّين، أي: هي التضادّ الذاتيّ بين الفعلين، وهذا لا زال باقياً على حاله، لم يرتفع بتعديد الرتبة، فلو أفادت الطوليّة فإنّما تفيد لو وقعت بين الضدّين اللذين يكون بينهما تضادٌّ ذاتيٌّ أوجب هذا التضادّ العرَضيّ.

وإن قصد الثاني فقد يُدّعى أنّ الطوليّة تقتضي عدم التضادّ حتّى في التضادّ العرَضيّ، ومن دون أن يعالج التضادّ الذاتيّ. وقد يُدّعى أنّها تقتضي عدم التضادّ فيما لو كانت بين الضدّين بالتضادّ الذاتيّ. ولكن أصل دعوى أنّ الطوليّة تقتضي عدم التضادّ أوضح بطلاناً من دعوى أنّها ترفع نكتة التضادّ؛ وذلك لأنّ غاية ما يُدّعى في المقام هي كون وحدة الرتبة ـ كوحدة الزمان والموضوع مثلا ـ دخيلة في نكتة التضادّ، فكما أنّ تعدّد الزمان أو الموضوع رافعٌ لنكتة التضادّ، لا أنّه مقتض لعدم التضادّ، غالبٌ على مقتضي التضادّ، كذلك تعدّد الرتبة.

84

الأمرين؛ فإنّه حتّى لو كانا طوليّين فهما أمران بضدّين. والمكلّف عاجز عن الإتيان بضدّين، فالمهمّ رفع التضادّ بين المتعلّقين ببيان الطوليّة بينهما، حتّى يرتفع التضادّ العرَضيّ بين الأمرين.

ولا يمكن رفع التضادّ العرَضيّ بينهما ابتداءً بتعديد الرتبة، بدون علاج التضادّ الذاتيّ بين المتعلّقين الذي هو المنشأ لذاك التضادّ العرَضيّ، وعليه فإن قبلنا كون ما في طول أحد النقيضين في طول النقيض الآخر أمكن أن يقال: إنّ فعل المهمّ ـ الحاصل بتحريك الأمر به ـ معلولٌ لفعليّة الأمر بالمهمّ الذي هو في طول ترك الأهمّ، وبالتالي في طول نقيضه وهو فعل الأهمّ، فأصبح فعل المهمّ الناشئ بتحريك الأمر بالمهمّ في طول فعل الأهمّ، وهذا معناه الطوليّة بين المتعلّقين.

أمّا إذا لم نقبل ذلك فمجرّد تبديل قيد الترك بقيد العصيان لا ينفع شيئاً؛ فإنّه وإن كان يثبت بذلك أنّ الأمر بالمهمّ في طول الأمر بالأهمّ، لكنّه لا يثبت بذلك الطوليّة بين المتعلّقين؛ فإنّ فعل المهمّ وإن كان في طول الأمر بالمهمّ، الذي هو في طول عصيان الأمر بالأهمّ، الذي هو في طول الأمر بالأهمّ، لكنّه لا يثبت بذلك كون فعل المهمّ في طول فعل الأهمّ، ومجرّد الطوليّة بين الأمرين لا يفيد شيئاً.

الوجه الثاني: أنّ الأمر بالمهمّ معلولٌ لعصيان الأهمّ، وسقوط الأهمّ أيضاً معلولٌ لعصيان الأهمّ؛ لأنّ العصيان ـ كالامتثال ـ سبب للسقوط، إذن فالأمر بالمهمّ مع سقوط الأهمّ في رتبة واحدة؛ لأنّهما معلولان لشيء واحد، إذن ففي رتبة الأمر بالمهمّ لا أمر بالأهمّ؛ لأنّ في هذه الرتبة يكون الأمر بالأهمّ منعدماً وساقطاً بحسب الفرض، إذن فلا يتنافى أحدهما مع الآخر.

وهذا الوجه له بعض الامتيازات على الوجه الأوّل، فمثلا هنا لا نحتاج إلى إثبات كون ما هو المتقدّم على الأمر بالمهمّ متأخّراً عن الأمر بالأهمّ، حتّى يقال بناءً على كون موضوع الأمر بالمهمّ واقع العصيان وهو الترك: إنّ ما هو متأخّر عن

85

أحد النقيضين غير متأخّر عن النقيض الآخر؛ إذ في هذا الوجه لا ننطلق من نقطة أنّ المتأخّر عن المتأخّر متأخّر، وإنّما ننطلق من نقطة أنّ مرتبة الأمر بالمهمّ هي مرتبة سقوط الأهمّ؛ لكونهما معلولين لشيء واحد، فلا أمر بالأهمّ في مرتبة الأمر بالمهمّ.

وأيضاً لا يرد على هذا الوجه ما قد يورد على الوجه الأوّل: من أنّ الأمر بالمهمّ وإن لم يكن يصعد إلى مرتبة الأمر بالأهمّ، ولكنّ الأمر بالأهمّ ينزل إلى مرتبة الأمر بالمهمّ؛ فإنّ العلّة وإن كانت أقدم من المعلول رتبةً، لكن معنى تقدّم المتقدّم رتبة إنّما هو أنّه غير متقيّد بالرتبة المتأخّرة ـ كما هو الحال في المتأخّر رتبة ـ لا أنّه متقيّد بالرتبة المتقدّمة، بل هو مطلقٌ يمتدّ إلى المراتب المتأخّرة، فالمعلول لا يصعد إلى مرتبة علّته، ولكنّ العلّة موجودة في مرتبة المعلول أيضاً(1).

فهذا الإيراد لو تمّ على الوجه الأوّل لا مجال له على هذا الوجه؛ إذ هذا الوجه قد أثبت أنّ سقوط الأمر بالأهمّ ثابت في مرتبة الأمر بالمهمّ؛ لكونهما معلولين لشيء واحد، فلا يعقل أن يكون ثبوته متحقّقاً في تلك المرتبة.


(1) هذا محتمل كلام صاحب الكفاية ـ ج 1، ص 213 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات المشكينيّ ـ حيث قال: «فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما، إلاّ أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما؛ بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة، وعدم سقوطه بعدُ بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها...»، وعلى أيّ حال فقد أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ هذا الكلام في نفسه غير معقول؛ فإنّه لو كانت الرُتَب اُموراً ثابتة بغضّ النظر عن انتزاع التقدّم للمتقدّم والتأخّر للمتأخّر لأمكن أن يقال: إنّ المتقدّم موجود في كلّ هذه الظروف، والمتأخّر غير موجود إلاّ في الظرف الأخير مثلا، ولكن الرُتب ليست ظروفاً ثابتة بغضّ النظر عن تقدّم المتقدّم وتأخّر المتأخّر، بل هي عبارة اُخرى عن ذاك التقدّم وهذا التأخّر، فهذا الكلام خلف وغير متصوّر.

86

ولكن يرد على هذا الوجه:

أوّلا: ما أوردناه على الوجه الأوّل: من منع كون الاختلاف في الرتبة رافعاً لغائلة الضدّين.

وثانياً: ما مضى أيضاً: من أنّ الاختلاف في الرتبة ـ لو أفاد ـ وجب تصويره بين المتعلّقين لا بين الأمرين.

وثالثاً: نحن نسأل ما الذي رفع غائلة التضادّ بين الأمرين؟ هل هو ثبوت عدم الأمر بالأهمّ بنحو الموجبة المعدولة المحمول في رتبة الأمر بالمهمّ، لكونهما معلولين لشيء واحد؟ أو هو عدم ثبوت الأمر بالأهمّ في رتبة الأمر بالمهمّ بنحو السالبة المحصّلة؟ أو هو تقدّم الأمر بالأهمّ على الأمر بالمهمّ رتبة؟

أمّا الأوّل فهو واضح البطلان؛ فإنّ ما يرفع غائلة اجتماع الضدّين ليس هو ثبوت العدم بنحو معدولة المحمول، وإنّما الغائلة ترتفع عند ثبوت عدم أحدهما؛ لكونه ملازماً لعدم ثبوته بنحو السلب التحصيليّ، وهذا رجوع إلى الأمر الثاني.

وأمّا الثاني فعدم ثبوت الأهمّ في رتبة المهمّ لا يكون هنا إلاّ بمعنى أنّهما ليساً معلولين لشيء ثالث، فلو كان هذا كافياً في رفع التنافي لصحّ اجتماع أيّ ضدّين ـ كالسواد والبياض ـ لمجرّد عدم كونهما معلولين لشيء واحد، وهو واضح البطلان.

وأمّا الثالث فلم يثبت بهذا الوجه الثاني كون الأمر بالأهمّ مقدّماً رتبة على الأمر بالمهمّ وإنّما كان ذلك يثبت بالوجه الأوّل(1).

الوجه الثالث: أنّ الأمر بالمهمّ مترتّب على عصيان الأمر بالأهمّ المترتّب على


(1) ورابعاً: أ نّا نمنع كون عصيان الأمر سبباً لسقوطه، وإنّما هو مقارن لسبب السقوط الذي هو انتفاء الموضوع. إلاّ أنّه يمكن الهروب عن هذا الإشكال بافتراض الأمر بالمهمّ مشروطاً بذلك الفرد من سبب السقوط الذي يكون مقارناً للعصيان.

87

الأمر بالأهمّ. إذن، فالأمر بالمهمّ مترتّب على الأمر بالأهمّ، وما يكون مترتّباً على شيء وفي طوله يستحيل أن يكون رافعاً له؛ فإنّه متى يرفعه؟ هل حين عدمه أو حين وجوده؟ أمّا حين عدمه، فلا يعقل تأثيره في الرفع. وأمّا حين وجوده فقد فُرض وجود الآخر في مرتبة سابقة عليه، فكيف يعقل رفعه؟

وبكلمة اُخرى: إنّ رفع الشيء لما يترتّب عليه يساوق رفعه لنفسه، وهو مستحيل. فإذا ثبت أنّ الأمر بالمهمّ لا يقتضي رفع الأمر بالأهمّ ولا يطرده ثبت عدم التضادّ بينهما؛ إذ مع التضادّ يثبت التنافي والمطاردة من الطرفين، فإذا ثبت عدم التضادّ لم يبق مبرّر لافتراض أنّ الأمر بالأهمّ يطرد الأمر بالمهمّ.

فإن قلت: كما يقال: إنّ الشيء لا يمكن أن يرفع ما يترتّب عليه، فالأمر بالمهمّ المترتّب على الأمر بالأهمّ لا يرفع الأمر بالأهّم. كذلك يمكن أن يقال: إنّ ما يرفع شيئاً لا يمكن أن يترتّب عليه، والأمر بالمهمّ رافع للأمر بالأهمّ، فلا يمكن أن يترتّب عليه.

قلت: واقع المطلب أنّ الشيء يضيق عن أن يكون رافعاً لسببه وما هو مترتّب عليه، فالترتّب رافع لموضوع رافعيّة الشيء، فيستحيل أن تكون رافعيّة الشيء مانعة عن الترتّب.

ويرد عليه: أنّ هذا مبنيّ على القول بمانعيّة كلّ من الضدّين عن وجود الضدّ الآخر، وقد وضّحنا فيما سبق عدم مانعيّة أحد الضدّين عن الضدّ الآخر، وأنّ استحالة اجتماعهما ذاتيّة، فالتنافي المفترض بين الأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ ليس على أساس أنّ أحدهما رافع للآخر ومانع عنه، حتّى يجاب بأنّ الأمر بالمهمّ حيث إنّه مترتّب على الأمر بالأهمّ لا يعقل أن يكون رافعاً له.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ تصحيح الترتّب بالطوليّة بين الأمرين غير صحيح بجميع التقريبات.

88

نعم، الأمر بالأهمّ يتطلّب انهدام موضوع الأمر بالمهمّ. فقد يقال: إنّه إذن لا يعقل كون الأمر بالمهمّ منافياً للأمر بالأهمّ، لكن هذه نكتة مستقلّة للقول بإمكان الترتّب غير مسألة الطوليّة.

 

شبهات جانبيّة حول الترتّب والجواب عنها:

الجهة الخامسة: إنّ الشبهة الرئيسة ـ التي عُقد بحث الترتّب لأجل التحدّث عنها ـ هي: أنّ الأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ حتّى مع الترتّب أمرٌ بضدّين، وهو أمر بغير المقدور. إلاّ أنّ هناك شبهات اُخرى جانبيّة لا بأس بالتعرّض لها ولإبطالها حتّى نتفرّغ بعد ذلك للبحث عن الشبهة الرئيسيّة، فنقول:

الشبهة الجانبيّة الاُولى: أنّ الأمر بالمهمّ إن لم يُقيّد بعصيان الأمر بالأهمّ لم يتحقّق الترتّب. وإن قُيّد بعصيان الأمر بالأهمّ، فهذا العصيان إمّا يفرض شرطاً متقدّماً، أو شرطاً متأخّراً، أو شرطاً مقارناً، وكلّها غير صحيح:

أمّا إذا فُرض شرطاً متقدّماً فهذا معناه انتهاء سقوط الأمر بالأهمّ بالعصيان في زمان سابق، ومعه لا إشكال في إمكان الأمر بضدّه. وهذا خارج عن محلّ الخلاف والبحث؛ فإنّهما أمران بضدّين في زمانين، وما يُدّعى استحالته إنّما هو اجتماع أمرين بضدّين في زمان واحد. على أنّ فرض الشرط المتقدّم غير معقول فيما هو المورد المعقول للترتّب، وهو مورد كون الواجبين كليهما مضيّقين؛ إذ لو كان المهمّ موسّعاً صحّ الأمر بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره عرضيّاً، فلا مجال للترتّب. فلنحدّد محلّ البحث بالواجبين المضيّقين، وفي مثل ذلك لا مجال لفرض كون عصيان الأهمّ شرطاً متقدّماً؛ إذ بانتهاء زمان عصيان الأهمّ ينتهي زمان المهمّ أيضاً.

وأمّا إذا فُرض شرطاً متأخّراً فصاحب هذا الإشكال يقول: إنّ الشرط المتأخّر

89

مستحيل. على أنّ هذا يستلزم الوجوب التعليقيّ؛ لأنّ المفروض أنّنا نتكلّم في المضيّقين، فزمان إمكان الانبعاث نحو المهمّ هو زمان عصيان الأهمّ، فلو كان العصيان شرطاً متأخّراً كان معنى ذلك أنّ البعث نحو المهمّ متقدّم على هذا الزمان، ويقال ـ مثلا ـ: إنّ تقدّم البعث على إمكانيّة الانبعاث محال.

وأمّا إذا فُرض شرطاً مقارناً فمعنى ذلك: أنّ زمان امتثال الأمر بالمهمّ مقارن لزمان توجّه الأمر به إلى العبد؛ لأنّ الأمر بالمهمّ مقارن لعصيان الأهمّ بحسب ما هو المفروض من الشرط المقارن، وعصيان الأهمّ مقارن للإتيان بالمهمّ بحسب ما هو المفروض من التضادّ بين الأهمّ والمهمّ، والتضادّ إنّما يكون مع وحدة الزمان، وكون كلّ منهما بديلا عن الآخر وواقعاً في نفس الزمان الذي كان يُترقّب وقوع الآخر. إذن، فالأمر بالمهمّ مقارن لامتثاله، بينما الأمر بالشيء دائماً يجب أن يتقدّم ولو بزمان قصير جدّاً على امتثاله بأحد البيانات الآتية.

ويرد على ذلك:

أوّلا: أنّ ما ذكر في إبطال الشقّ الثالث ـ من لزوم تقدّم الأمر على زمان الامتثال ـ يستدعي تقدّم البعث دائماً على إمكانيّة الانبعاث، وهذا معناه الالتزام بالوجوب التعليقيّ، وبناءً على كون الوجوب التعليقيّ مستبطناً للشرط المتأخّر، فهذا معناه الالتزام بالشرط المتأخّر، وهذا ينافي ما ذكره في إبطال الشقّ الثاني من استحالة الشرط المتأخّر والوجوب التعليقيّ. إذن، فأحد الشقّين يكون إبطاله في غير محلّه، وبذلك تبطل هذه الشبهة الهادفة لإثبات استحالة الترتّب.

وثانياً: أنّه يمكن الالتزام بالشقّ الثاني، وهو كون العصيان شرطاً متأخّراً، بناءً على ما هو الحقّ من أنّه لا الشرط المتأخّر مستحيل ولا الواجب المعلّق، على ما وضّحناه في محلّه.

وثالثاً: أنّه يمكن الالتزام بالشقّ الثالث، وهو كون العصيان شرطاً مقارناً، وأمّا