373

 

 

 

 

الفصل السابع عشر

ا لإ خـــــلا ص

 

قال عزّ من قائل: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾(1).

والمخلِص (بكسر اللام) يعكس انتساب خلوص الفعل إلى العبد، أي: أنّه هو الذي أخلص الفعل من كلّ غاية سوى الله. و (بالفتح) يعكس خلوص نفس الإنسان من كلّ رجاسة ونجاسة. فالأوّل مقدّمة للثاني، والثاني نتيجة الأوّل. والتعبير الثاني ـ أيضاً ـ وارد في عدد من الآيات وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿... كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾(2).

وقوله تعالى عن لسان إبليس: ﴿... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾(3).

وبما شرحناه تبيّن: أنّه يقرب إلى الذهن الفرق بين التعبير بالمخلِص (بكسر


(1) السورة 39، الزمر، الآيات: 1 ـ 3.

(2) السورة 12، يوسف، الآية: 24.

(3) السورة 15، الحجر، الآيتان: 39 ـ 40، والسورة 38، ص، الآيتان: 82 ـ 83 .

374

اللام) والتعبير به (بفتح اللام) بأنّ الأوّل يصدق على العبد من بدايات سلوكه، والثاني يصدق في النهايات.

والإخلاص مع التضحية في سبيل الله هما سيّدا الأوصاف الفاضلة. وتوضيح ذلك: أنّ وزن كلِّ عمل وقيمته عند الناس إنّما يكون بمقدار نتائجه الخارجيّة، فالخادم الذي يكون أكثر نتاجاً في خدمته خارجاً مثلاً يكون هو المقرّب عند صاحب العمل، والمقاتل الذي يكون أكثر نتاجاً في فتح البلاد يكون هو المقرّب لدى السلطان، وما إلى ذلك، وحتّى بالنسبة للمؤمنين الذين يستأجرون أُناساً للخدمات الإسلاميّة يكون المقرَّب منهم أكثر ـ لدى أُولئك المؤمنين ـ مَن ينتج خارجاً أكثر في خدمته الموكّلة إليه، كخدمة التبليغ مثلاً للإسلام أو أيّ خدمة أُخرى، ولكنَّ الوزن والقيمة للأعمال لدى الربّ سبحانه وتعالى ليس بكثرة النتاج الخارجي، بل بمدى الخلوص الباطني للعبد من ناحية، ومدى تضحية العبد في عمله هذا من ناحية اُخرى وإن قلّت النتائج الخارجيّة، فربّ جنديٍّ ضعيف قليل الإنتاج تحت راية زعيم حرب فاتح عظيم يكون خيراً عندالله من ذاك الزعيم الفاتح؛ لكونه أكثر إخلاصاً، وأكثر تضحية منه. ومن هنا فُسّر قوله تعالى: ﴿... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ...﴾(1) من قبل الإمام الصادق (عليه السلام)في حديث بقوله: «ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً. وإنّما الإصابة خشية الله، والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّوجلّ...»(2).

وفُسِّر في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: «أتمّكم عقلاً، وأشدّكم لله


(1) السورة 11، هود، الآية: 7، والسورة 67، الملك، الآية: 2.

(2) تفسير البرهان 2 / 207، والكافي 2 / 16.

375

خوفاً، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلّكم تطوّعاً»(1).

وبكلمة أُخرى: إنّ الإخلاص هو روح الأعمال جميعاً؛ لأنّ الله هو الكمال المطلق الذي مَنْ أراده وجده، ولم يتحوّل مقصوده إلى السراب، وذلك بخلاف مَنْ أراد غير الله، فإنّ أيَّ هدف آخر غير الله ناقصٌ، وبتكامل العبد يتّضح له نقصه، أو يصبح لدى الوصول إليه سراباً، أو يلتفت لدى نزع الروح أو بعد الموت إلى كونه سراباً.

وبكلمة ثالثة: إنّ الإخلاص هو سيّد الصفات الفاضلة؛ لأنّه يدعو إلى باقي الصفات؛ لأنّ الذي يخلص لله يريد ما أراده الله، والله قد أراد من عبده الصفات الفاضلة.

وأقلَّ درجات الإخلاص اللازم أن تكون عبادته خالصة لله بالمعنى الفقهي من الخلوص الذي لا ينافي كون الهدف الأخير الداعي له إلى هدف امتثال أمر الله عبارةً عن الوصول إلى الجنّة أو الفرار من النار، أو أيَّ هدف آخر دنيوي أو أُخروي، وأن يترك العبد المناهي على إلاطلاق.

وأقوى درجاته أن يكون إخلاصه في كلِّ شيء، لا في خصوص العبادات بالمعنى المصطلح الفقهي، وأن يكون إخلاصه بمعنى: أن يكون هدفه محضاً هو الله تعالى ورضوانه، لا جنته أو الهرب من ناره، وإن كانت تلك أهدافاً جانبية وحاصلة ضمناً بلطف الله وكرمه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُر مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِن مَّعِين * بَيْضَاءَ لَذَّة لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ


(1) تفسير «نمونه» 44 / 317.

376

لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَ إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ...﴾(1).

وفي تفسير هذه الآيات اتّجاهان(2) بيانهما ـ بتكميل أو تنقيح منّي ـ ما يلي:

1 ـ أن يكون قوله تعالى: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ خطاباً للذين ذكروا فيما قبل هذه الآية من أصحاب جهنّم، فقوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ استثناء منقطع يشمل جميع أهل الجنّة، وعندئذ يناسب أن يكون المقصود بالرزق المعلوم في قوله: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾: إجمالاً عن التفصيل الذي جاء بعد ذلك في قوله: ﴿فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ ...﴾ إلى آخر الآيات التي تبيّن نعماً مادّيّةً مزيّنةً بنعم معنويّة مفهومة لعامّة الناس وذلك من قبيل كونهم مكرمين أو غير ذلك. فإذن كأنّ الملحوظ في ذلك أدنى درجات الجنّة؛ لأنّه الذي يتصوّر ثبوته لتمام أهل الجنّة.

2 ـ أن يكون قوله تعالى: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ خطاباً لتمام الناس من المؤمنين والمجرمين، فقوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ استثناء متّصل. وقد رجّحنا فيما سبق أن يقصد بالمخلَصين (بالفتح): الذين هم في نهايات مستويات الإيمان، وهم الذين أخلصوا أنفسهم لله، أو أخلصهم الله ـ تعالى ـ لنفسه من كلّ شائبة أو درَن. فكأنّ الآية تقول ـ والله العالم ـ: إنّ النعم المادّيّة والمزيّنة بنعم معنوية قابلة للتصوّر ولو مختصراً لعامّة الناس إنّما تعتبر جزاءً للأعمال الحسنة أو تجسّماً لها، وكذلك العذاب يعتبر جزاءً للأعمال السيّئة أو تجسّماً لها (على


(1) السورة 37، الصافات، الآيات: 39 ـ 62.

(2) راجع تفسير «نمونه» 19 / 51 مع ما قبله وما بعده.

377

المسلكين المعروفين من مسلك تجسّم الأعمال أو عدمه). وأمّا المخلَصون فلا يكفي بشأنهم جزاء أعمالهم، وليسوا هم من الذين عملوا للجزاء، بل عملوا لذات الله سبحانه وتعالى، فهم يُعامَلون معاملة تختلف عن معاملة الأجير، فجزاؤهم خارج عن حيطة أعمالهم، وهو فضل خاصّ من الله لهم، وكأنّما يعاملهم الله ابتداءً لذواتهم الذائبة في الله لا لأعمالهم، فجزاؤهم الأوفى يكون جزاءً معنوياً محضاً: من لقاء الله، والالتذاذ بجمال الله بالمعنى الممكن، وغير ذلك ممّا لا يمكن لعامة الناس تصوّره، فعندئذ يناسب أن يقال: إنّ قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾ليس إجمالاً للتفصيل الآتي في تتمّة الآيات، بل إشارة إجماليّة إلى تلك النعم المعنوية التي لا يمكن توضيحها لمن لم يُرزَقها بعدُ، ثُمّ جاءت تتمة الآيات لتوضّح أنّ هؤلاء المخلَصين ـ أيضاً ـ ليسوا محرومين من تلك النعم المادّية، بل هي لهم ـ أيضاً ـ كما للآخرين، ويزيدون على الآخرين بتلك النعم المعنوية التي هي فوق تصوراتنا في هذه الدنيا، وذلك لأنّ المخلَصين هم ـ على أيّ حال ـ بشر، والبشرُ بذاته يملك الجسد الذي هو أمر مادّي، كما يملك الروح التي تعالت إلى مستوى الخلوص لله، فكما يُكرَم بروحه العالية الراقية مرقاة الخلوص كذلك يكرم بالإكرامات المادية المناسبة لجانبه المادي، وهو جسده الذي هو مركوب لروحه، تماماً من قبيل ما لو دخل شخص عزيز راكباً فرسه على ملك كريم، فذلك الملك يكرم الشخص في غرفته الخاصة بما يناسب عزّته ومقامه، ويكرم مركوبه ـ أيضاً ـ وهو الفرس في الإصطبل الخاص به بالعلف المناسب له.

والقرآن الكريم قد تكرّرت منه التعابير الإجماليّة عن نعم أُخروية غامضة إلى صفّ تعابيره التفصيلية المفهومة، ويحتمل أن تكون تلك التعابير المجملة جميعاً إشارة إلى ما ذكرناه من النعم المعنوية التي هي فوق تصوّراتنا، والتي لم يكن يمكن شرحها وتوضيحها لنا، وذلك من قبيل قوله تعالى:

378

1 ـ ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُن ...﴾(1).

2 ـ ﴿يَا أَ يَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(2).

يا ترى ما هو المقصود بقوله تعالى: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ هل المقصود الدخول في محشر العباد الذي يضمّ جميع الناس دخولاً مكانياً وجسدياً ضمن سائر البشر المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾(3) أو بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ...﴾ أوَليس هذا الدخول أمراً واقعاً بوضوح وغير مخصوص بالنفس المطمئنة ؟ ! فالذي يقرب للذهن أنّ المقصود هو: الدخول في عباد الله المخلَصين بمعنى الانحساب منهم ووقوعه في صفوفهم.

ثُمّ يا تُرى ما معنى ﴿ادْخُلِي جَنَّتِي﴾ أوليست الجنان كلُّها جنان الله سبحانه وتعالى ؟ فأيّ جنّة هذه التي أضافها الله تعالى إلى نفسه ؟ ! ! أفلا تحدس معي أنّ هذه جنّة الفوز بلقاء الله بالمعنى المعقول من لقاء الله وجنّة الرضوان ورضوان من الله أكبر، وأنّها إشارة إلى تلك النِّعم المعنوية التي هي فوق تصوّراتنا، والتي يكون الالتذاذ بها فوق جميع الالتذاذات على الإطلاق.

3 ـ ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾(4) فإذا كان لهم ما يشاؤون (ومن الطبيعي أن يشاؤوا كلَّ ما رأت عين أو سمعت أُذن أو خطر على قلب بشر) فما معنى قوله تعالى: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ أليس هذا إشارة اجماليّة إلى ما لم يكن يمكن


(1) السورة 32، السجدة، الآية: 17.

(2) السورة 89، الفجر، الآيات: 27 ـ 30.

(3) السورة 18، الكهف، الآية: 47.

(4) السورة 50، ق، الآية: 35.

379

شرحه وتفصيله أو بيانه وتوضيحه ؟ !

أمّا ما أشرنا إليه من أنّ الآيات المباركات ذكرت نعماً مادية مزينة بنعم معنوية يدركها أهل الدنيا ولو في صورة مصغّرة، فقد قصدنا بتلك النّعم المعنوية ما يلي:

1 ـ هم مكرَمون، ففرق بين أن يُنعَم على أحد بالفواكه والمأكولات الشهية والمشروبات اللذيذة من دون حالة الاحترام والإجلال والإكبار، وأن يُنعم على أحد بتلك النّعم مقترنةً بتلك الحالة، ولا يقاس الالتذاذ في الفرض الثاني به في الفرض الأوّل.

2 ـ الجلسة الإخوانية على سرر متقابلين، ولا يخفى على أحد أنّ التفكّه الإخواني في مجلس من هذا النمط التذاذه أشدّ من أصل الالتذاذ بالماديات الموجودة في المجلس.

3 ـ اطّلاعهم على أهل الجحيم والعذاب الموجود فيه، فالله يعلم ما يتداخلهم من السرور نتيجة المقايسة والتقابل بين ما هم فيه من النّعم العظيمة التي لا تتناهى، وعذاب الكفّار الذي لا يتناهى.

ولتوضيح الكلام أكثر ممّا مضى في درجات الإخلاص نقول: إنّه يمكن أن يذكر للإخلاص في العمل درجات:

الدرجة الاُولى: هو الإخلاص بالمعنى الذي يكون فقهياً مصححاً للعبادة، وتوضيح الأمر: أنّه لا شكّ فقهيّاً في اشتراط العبادة بالقربة، ومن هنا يقع الإشكال فيمن يأتي ببعض العبادات لهدف قضاء حاجة دنيوية: من شفاء مرض، أو دفع عدوّ، أو رفع فقر، أو ما إلى ذلك؛ إذ يقال: إنّ الهدف من هذه العبادة لم يكن هو التقرّب إلى الله، بل كان هو قضاء الحاجات، بل إنّ الإشكال يتّسع أكثر من ذلك ليشمل عبادة كلِّ من يعبد الله التماساً لثواب الآخرة أو هرباً من عذاب الله، ولم تكن عبادته عبادة الأحرار الذين يعبدون الله لكونه أهلاً للعبادة، وهذا يعني:

380

بطلان عبادة جميع العبّاد ما عدا النادر من المؤمنين كالمعصومين(عليهم السلام) ومن قارب العصمة.

إلاّ أنّ هذا الإشكال له حلّ على مستوى الفقه، وهو ما يقال من أنّ العبادة إنّما تصدر عن المؤمن غير المرائي امتثالاً لأمر الله أو للتقرب إليه، إلاّ أنّ الذي دعاه إلى هذا التقرب أو إلى هذا الامتثال هو الوصول إلى حاجته الدنيوية أو الأُخروية، فبرغم أنّ الهدف النهائي كان عبارة عن تلك الحاجة إلاّ أنّ تلك الحاجة صارت من قبيل الداعي إلى الداعي، والداعي الثاني الطولي هو داع القربة، وهذا كاف في تصحيح العبادة فقهياً.

الدرجة الثانية: أن يكون هدف العامل هو الله سبحانه وتعالى، إلاّ أنّ له هدفاً جانبياً أيضاً، وهو: قضاء الحاجة أو الثواب الأُخروي أو النجاة من النار. ولا شكَّ أنّ هذه الدرجة خير من الدرجة الأُولى، إلاّ أنّه قد يفترض هذا ـ أيضاً ـ ناقصاً نتيجة عدم تمحضه في ذات الله.

الدرجة الثالثة: أن يكون هدفه ـ أيضاً ـ هو الله سبحانه وتحصيل رضاه، ولكن يسهم مع هذا الهدف في الغاية التذاذه برضوان الله وبالتقرب إليه أو الوصول إليه، لا الثواب أو نفي العقاب أو قضاء الحاجة.

الدرجة الرابعة: أن يكون الهدف محضاً هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ من دون أيّ نظر ولو جانبي: لا إلى حاجة دنيوية، ولا إلى الثواب والعقاب، ولا إلى التذاذه بعبادة الله وتحصيل رضوانه، أو قربه، أو الوصول إليه؛ وذلك لأنّه قد نسي ذاته، وقطع من نفسه جذور حبِّ الذات، فانحصر ما في نفسه في حبِّ الله تعالى.

إلاّ أنّ هناك اتّجاهاً يقول باستحالة انقطاع حبِّ الذات من النفس، إلاّ بتبدّل هوية الإنسان وحقيقته؛ لأنّ حبّ الذات ذاتيٌ للإنسان(1). والنقل شاهد لهذا


(1) راجع فلسفتنا: 35 ـ 36.

381

الرأي الأخير، لأنّ المعصومين(عليهم السلام) على رغم بلوغهم مستوى عبادة الأحرار وكون غايتهم القصوى رضوان الله والتقرب إليه والذوب فيه والوصول إليه وفناءهم في ذات الله تعالى وفي حبّه، نرى أنّ الأدعية الكثيرة الواردة عنهم (عليهم السلام)واضحة في طلب الجنّة وما فيها من النِّعم المادية، وطلب الابتعاد من النار. وحملها جميعاً على التصنّع المحض؛ لغرض تعليمنا نحن الذين لم نصل إلى تلك المستويات، في غاية الصعوبة والإشكال.

وعليه، فمنتهى درجات الإخلاص أو ما قد يُسمّى بالتهذيب ليس هو تهذيب النفس عن شائبة حبّ الثواب أو حبّ الالتذاذ؛ فإنّ هذا الحبّ ذاتي للإنسان، و نقصُ الإنسان المانع عن الوصول الحقيقي إلى الله أي: إلى كنه ذاته ـ أيضاً ـ ذاتيٌّ للممكن، بل منتهى درجات التهذيب أو الإخلاص هو: أن يصل إلى مستوى كفاية حبّ الله مُحرِّكاً له إلى ما أراده الله، أي: إنّه لولا الثواب والعقاب لكان يتحرّك ـ أيضاً ـ نحو ما يريده الله؛ وعلامة ذلك أنّ الإنسان لن يحسّ ـ عندئذ ـ بالفتور والكسل في الطاعة أو بحالة الإكراه عليها؛ لأنّ رضا الله رضاه، وحبّه حبّه، فيفعل ما يفعل بكلِّ طواعية ورغبة لا كرهاً لخوف العقاب أو لتحصيل الثواب. والنقطة المقابلة تماماً لذلك هم المنافقون الذين قال الله ـ تعالى ـ عنهم:

﴿إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء ...﴾(1).

وقال تعالى أيضاً: ﴿... وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾(2) وفيما بين هاتين النقطتين المتقابلتين متوسّطات كثيرة.

وإن شئت نموذجاً للإخلاص الكامل ولما شرحناه: من أنّ الإخلاص الكامل


(1) السورة 4، النساء، الآيتان: 142 ـ 143.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 54.

382

لا يعني عدم الالتفات إلى الثواب والعقاب، فانظر إلى رواية أبي الدرداء، وإليك نصّها: ورد عن عروة بن الزبير قال:

«كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أُخبركم بأقلّ القوم مالاً، وأكثرهم ورعاً، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة ؟ قالوا: مَنْ ؟ قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلاّ معرض عنه بوجهه. ثُمّ انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم إنّي قائل ما رأيت، وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا: شهدت عليَّ بن أبي طالب بشويحطات النجَّار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممّن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته، وبعد عليّ مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّ وهو يقول: إلهي كم من موبقة حَلِمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعَظُمَ في الصحف ذنبي، فما أنا بمؤمّل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك. فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)بعينه، فاستترت له، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثُمّ فرغ إلى الدعاء والبكاء والبثّ والشكوى، فكان ممّا به الله ناجاه أن قال: إلهي أُفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثُمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي، ثُمّ قال: آه إن أنا قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أُذن فيه بالنداء، ثُمّ قال: آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزّاعة للشوى(1)


(1) (بفتح الشين) جمع شُواء بضمّه، وهي: جلدة الرأس، وقيل: الآخر من اليد والرجل وغيرهما. مجمع البحرين 1 / 253.

383

آه من غمرة من ملهبات لظى، قال: ثُمّ أنعم في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر اُوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون مات والله عليّ بن أبي طالب، قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة(عليها السلام): يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومن قِصّته ؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله ثُمّ أتوه بماء، فنضحوه على وجهه فأفاق، فنظر إليّ وأنا أبكي، فقال: ممّ بكاؤك يا أبا الدرداء ؟ فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء فكيف ولو رأيتني ودُعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية، فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(1).

نختم حديثنا عن الإخلاص بذكر بعض روايات الباب:

1 ـ عن داود بن سليمان، عن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): الدنيا كلّها جهل إلاّ مواضع العلم، والعلمُ كلّه حجّة إلاّ ما عمل به، والعمل كلّه رياء إلاّ ما كان مخلصاً، والإخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما يُختم له»(2).

2 ـ عن دارم، عن الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما أخلص عبد لله ـ عزَّوجلَّ ـ أربعين صباحاً إلاّ جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(3).


(1) البحار 41 / 11 ـ 12.

(2) المصدر السابق 70 / 242.

(3) المصدر السابق: ص 242 ـ 243.

384

والمقصود بإخلاص العبد: إمّا هو إخلاصه لعمله لله فيصبح هو مخلصاً (بكسر اللام)، أو هو إخلاص نفسه لله فيصبح مخلَصاً (بالفتح)، ولا يبعد إرادة كلتا الدرجتين، بل كلّ الدرجات بأنّ يقال: كلّ درجة من الإخلاص لو دامت أربعين صباحاً أوجبت انفجار ينبوع الحكمة من قلبه على لسانه بما يناسب تلك الدرجة.

3 ـ روي أنّ رجلاً قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله): «يا رسول الله إنّا نعطي أموالنا التماس الذكر، فهل لنا من أجر ؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لا. قال: يا رسول الله ! إنّا نعطي التماس الأجر والذكر، فهل لنا أجر ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الله ـ تعالى ـ لا يقبل إلاّ من أخلص له، ثُمّ تلا رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذه الآية: ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ...﴾»(1).

4 ـ وهذه الرواية تجسّد مثلاً رائعاً عن إخلاص سيّد العارفين وأميرالمؤمنين عليّ عليه الصلاة والسلام، وهي ما يلي: «لمّا أدرك عمرو بن عبدودّ لم يضربه، فوقعوا في عليٍّ فردّ عنه حذيفة، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): مه يا حذيفة، فإنّ عليّاً سيذكر سبب وقفته، ثُمّ إنّه ضربه، فلما جاء سأله النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن ذلك، فقال: قد كان شتم أُمّي، وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي، فتركته حتّى سكن ما بي، ثُمَّ قتلته في الله»(2).

ولا يبعد أن يكون هذا المستوى من الإخلاص هو العامل المهمّ، أو أحد العوامل المهمّة في فرض رجحان ضربة عليّ(عليه السلام) على أعمال أُمّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)جميعاً، فقد رُوِي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنَّه قال لعليّ(عليه السلام): «... أبشر يا عليّ، فلو وزن اليوم عملك بعمل أُمّة محمّد(صلى الله عليه وآله) لرجح عملك بعملهم»(3).

وورد بسند سُنّي أنّه قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن


(1) تفسير «نمونه» 19 / 365، والآية: 3 في السورة 39، الزمر.

(2) البحار 41 / 50 ـ 51.

(3) المصدر السابق 20 / 205.

385

عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة»(1).

5 ـ عن مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «... وأدنى حدّ الإخلاص بذل العبد طاقته، ثُمّ لا يجعل لعمله عند الله قدراً، فيوجب به على ربّه مكافأة بعمله لعلمه أنّه لو طالبه بوفاء حقّ العبوديّة لعجز. وأدنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من جميع الآثام، وفي الآخرة النجاة من النار والفوز بالجنّة»(2).

6 ـ عن الحسن بن عليّ الزكي(عليه السلام) أنّه قال: «لو جَعَلت الدنيا كلَّها لقمة واحدة، ولقّمتها من يعبد الله خالصاً لرأيت أ نّي مقصّر في حقّه، ولو منعت الكافر منها حتّى يموت جوعاً وعطشاً ثُمّ أذقته شربة من الماء لرأيت أ نّي قد أسرفت»(3).

7 ـ عن رجل، عن معاذ بن جبل قال: قلت: حدّثني بحديث سمعته عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حفظته وذكرته في كلِّ يوم من دقّة ما حدّثك به، قال: نعم، وبكى معاذ، فقلت: اسكت، فسكت، ثُمّ نادى: بأبي وأُمّي حدّثني وأنا رديفه، قال: «فبينا نسير إذ يرفع بصره إلى السماء فقال: الحمد لله الذي يقضي في خلقه ما أحبّ. قال: يا معاذ، قلت: لبّيك يا رسول الله إمام الخير ونبيّ الرحمة، فقال: أُحدّثك ما حدّث نبيّ أُمّته إن حفظته نفعك عيشك، وإن سمعته ولم تحفظه انقطعت حجّتك عند الله.

ثُمّ قال: إنّ الله خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السماوات، فجعل في كلِّ سماء ملكاً قد جلّلها بعظمته، وجعل على كلّ باب منها ملكاً بوّاباً، فتكتب الحفظة عمل العبد من حين يصبح إلى حين يمسي، ثُمّ يرتفع الحفظة بعمله، له نور كنور الشمس حتّى إذا بلغ سماء الدنيا فيزكّيه ويكثره، فيقول له ملك سماء الدنيا: قف، فاضرب بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الغيبة، فمن اغتاب لا أدع عمله يجاوزني إلى


(1) المصدر السابق 20 / 205 تحت الخط نقلاً عن الحاكم في المستدرك.

(2) المصدر السابق 70 / 245.

(3) المصدر السابق ص 245 ـ 246.

386

غيري، أمرني بذلك ربّي.

قال: ثُمّ يجيء من الغد ومعه عمل صالح، فيمرّ به ويزكّيه ويكثره حتّى يبلغ السماء الثانية، فيقول الملك الذي في السماء الثانية: قف، فاضرب بهذا العمل وجه صاحبه، إنّما أراد بهذا العمل غرض الدنيا ] أظنّ أنّ الصحيح عرض [أنا صاحب الدنيا، لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري.

قال: ثُمّ يصعد بعمل العبد مبتهجاً بصدقة وصلاة، فتعجب الحفظة، ويجاوزه إلى السماء الثالثة، فيقول الملك: قف، فاضرب بهذا العمل وجه صاحبه وظهره، أنا ملك صاحب الكبر، فيقول: إنّه عمل وتكبّر فيه على الناس في مجالسهم، أمرني ربّي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كالكوكب الدرّي في السماء، له دويّ بالتسبيح والصوم والحجّ، فيمرّ به إلى ملك السماء الرابعة، فيقول له: قف، فاضرب بهذا العمل وجه صاحبه وبطنه، أنا ملك العُجْب، فإنّه كان يعجب بنفسه، وإنّه عمل وأدخل نفسه العجب، أمرني ربّي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري، واضرب به وجه صاحبه.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد كالعروس المزفوفة إلى أهلها، فيمرّ به إلى ملك السماء الخامسة بالجهاد والصلاة ما بين الصلاتين، ولذلك رنين كرنين الإبل، عليه ضوء كضوء الشمس، فيقول الملك: قف، أنا ملك الحسد، فاضرب بهذا العمل وجه صاحبه، وتحمّله على عاتقه ] أنّه كان يحسد من يتعلّم، ويعمل لله بطاعته، فإذا رأى لأحد فضلاً في العمل والعبادة حسده ووقع فيه، فيحمله على عاتقه [ ويلعنه عمله.

قال: وتصعد الحفظة، فيمرّ بهم إلى ملك السماء السادسة، فيقول الملك: قف، أنا صاحب الرحمة اضرب بهذا العمل وجه صاحبه، واطمس عينيه؛ لأنّ صاحبه لم يرحم شيئاً إذا أصاب عبداً من عباد الله له ذنب للآخرة أو ضرّ في الدنيا يشمت به،

387

أمرني ربّي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري.

وقال: وتصعد الحفظة بعمل العبد أعمالاً بفقه واجتهاد وورع، له صوت كالرعد، وضوء كضوء البرق، ومعه ثلاثة آلاف ملك، فيمرّ بهم إلى ملك السماء السابعة فيقول الملك: قف، واضرب بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الحجاب أحجب كلّ عمل ليس لله، إنّه أراد رفعة عند القوّاد، وذكراً في المجالس، وصوتاً في المدائن، أمرني ربّي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري ما لم يكن خالصاً.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به من خُلُق حسن وصمت وذكر كثير تشيّعه ملائكة السماوات السبعة بجماعتهم، فيطؤون الحجب كلّها حتّى يقوموا بين يديه، فيشهدوا له بعمل صالح ودعاء، فيقول الله: أنتم حفظة عمل عبدي، وأنا رقيب على ما نفسه عليه، لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي، فيقول الملائكة: عليه لعنتك ولعنتنا.

قال: ثُمّ بكى معاذ، وقال: قلت: يا رسول الله ما أعمل ؟ قال: اقتدِ بنبيّك يا معاذ في اليقين، قال: قلت: إنّك أنت رسول الله وأنا معاذ بن جبل، قال: وإن كان في عملك تقصير يا معاذ فاقطع لسانك عن إخوانك وعن حملة القرآن، ولتكن ذنوبك عليك لا تحملها على إخوانك ولا تزكّ نفسك بتذميم إخوانك، ولا ترفع نفسك بوضع إخوانك، ولا تراءِ بعملك، ولا تدخل من الدنيا في الآخرة، ولا تفحّش في مجلسك؛ لكي يحذروك بسوء خلقك، ولا تناج مع رجل وعندك آخر، ولا تتعظّم على الناس فيقطع عنك خيرات الدنيا، ولا تمزّق الناس فتمزّقك كلاب أهل النار، قال الله: ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً﴾(1) أتدري ما الناشطات ؟ كلاب أهل النار تنشط اللحم والعظم، قلت: من يطيق هذه الخصال ؟ قال: يا معاذ أما إنّه يسير على من يسّر الله عليه» قال: وما رأيت معاذاً يكثر من تلاوة القرآن كما يكثر تلاوة هذا


(1) السورة 79، النازعات، الآية: 2.

388

الحديث(1).

8 ـ عن ابن رئاب عن الصادق(عليه السلام) قال: «من أحبّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فهو ممّن يكمل إيمانه»(2).

9 ـ وعنه(عليه السلام) قال: «من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ لله، وتبغض لله، وتعطي في الله، وتمنع في الله»(3).

10 ـ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: «إنّ أولى الناس أن يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل ذلك. ثُمّ أُمر به، فسُحب على وجهه حتّى أُلقي في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ القرآن، فقد قيل. ثُمّ أُمر به، فسحب على وجهه حتّى أُلقي في النار»(4).

11 ـ وقال (صلى الله عليه وآله): «إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكلّ امرىً ما نوى: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى أمر الدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»(5).

12 ـ وقال (صلى الله عليه وآله): «إنّما يبعث الناس على نيّاتهم»(6).

13 ـ وقال (صلى الله عليه وآله) مخبراً عن جبرئيل عن الله عزّوجلّ أنّه قال: «الإخلاص سرّ


(1) البحار 70 / 246 ـ 248.

(2) المصدر السابق: ص 248.

(3) المصدر السابق.

(4) البحار 70 / 249.

(5) المصدر السابق.

(6) المصدر السابق.

389

من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي»(1).

14 ـ وعن أبي جعفر الجواد(عليه السلام) قال: «أفضل العبادة الإخلاص»(2).

15 ـ وعن الصادق(عليه السلام)قال: «ما أنعم الله ـ عزّوجلّ ـ على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع الله ـ عزّوجلّ ـ غيره»(3).

16 ـ وعن سيّدة النساء صلوات الله عليها قالت: «من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله ـ عزّوجلّ ـ إليه أفضل مصلحته»(4).

 


(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق: ص 249 ـ 250.

391

 

 

 

 

الفصل الثامن عشر

ا لتــــو كّـــل

 

قال الله عزّوجلّ: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَد جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً﴾(1).

روي عن معاوية بن وهب، عن الصادق(عليه السلام)(2) قال: «من أعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً: من أُعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أُعطي الشكر أُعطي الزيادة، ومن أُعطي التوكّل أُعطي الكفاية. ثُمّ قال: أتلوت كتاب الله عزّوجلّ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ...﴾(3) وقال: ﴿... لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ...﴾(4) وقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...﴾(5).

ورد في عرفان بعض العرفاء المنحرفين عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام): أنّ التوكّل كلة الأمر كلّه إلى مالكه والتعويل على وكالته. وهو من أصعب منازل العامّة عليهم، وأوهى السبل عند الخاصّة: أمّا كونه من أصعب منازل العامّة عليهم فلأنّهم غائصون في الأسباب الظاهريّة والماديّة، ومنهمكون في ذواتهم، وغافلون عن


(1) السورة 65، الطلاق، الآية 2 ـ 3.

(2) اُصول الكافي 2 / 65، باب التفويض إلى الله والتوكّل عليه، الحديث 6.

(3) السورة 65، الطلاق، الآية: 3.

(4) السورة 14، إبراهيم، الآية: 7.

(5) السورة 40، غافر، الآية: 60.

392

المؤثّر الحقيقي الواحد الأحد، فمن الصعب عليهم أن يوكّلوا الله سبحانه في أُمورهم ويعتمدوا عليه، لا على أنفسهم، ولا على ما يحسّون به من الأسباب. وأمّا كونه أوهى السبل لدى الخاصّة فلعلمهم بأنّ الحقَّ ـ تعالى ـ قد وكلّ الاُمور كلَّها إلى نفسه، وأيأس العالم من ملك شيء منها. وأشرف الناس وأكملهم وهو الرسول (صلى الله عليه وآله)، مُخاطَب بقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ...﴾ فكيف بأدونهم وأضعفهم، فإذا لم تكن أُمورهم بأيديهم وكان الملك بأسره له، فأيّ شيء يكلونه إلى الله ويسلّمونه إليه ؟ ! وفي أيّ شيء يجعلونه وكيلاً لهم؟! فكان التوكّل أضعف السبل عندهم.

ثُمّ قال: التوكّل على ثلاث درجات كلّها تسير مسير العامّة:

الدرجة الاُولى: التوكّل مع الطلب والسعي من وراء الأسباب، فبرغم أنّ التوكّل يقتضي بذاته عدم الاهتمام بالأسباب، ولكنّه يريد أن يلهي نفسه بالأسباب وما لديه من صنعة، أو تجارة، أو عمل؛ كي يقع في طريق نفع الناس، ولينشغل بما هو خير، خشية أن لو بقي فارغاً قد تَطلُب نفسه طرق الهوى، على أنّه لو اكتفى بالتوكّل وكفاه الله اُموره من دون سعي وراء الأسباب، قد يحسن ظنّ الناس به، فيحصل عنده العجب والدعوى، ففي معاطاته للأسباب وتشبّهه بالعوام، الخلاص من هذه الأمراض.

والدرجة الثانية: التوكّل مع ترك الطلب وغضّ العين عن السبب: من صنعة، أو تجارة، أو ما إلى ذلك من الاُمور؛ وذلك اجتهاداً منه في تصحيح التوكّل؛ لأنّ من يسعى من وراء الأسباب قد يكون غير واصل إلى مرتبة التوكّل، ولكنّه يتخيل الوصول إليها، أمّا إذا انقطع عن السبب وابتلى بالفقر والعدم، فقد يتّضح له عدم تمامية مقام التوكّل عنده خصوصاً لدى شدّة الجوع، فعليه أن يصحّح توكّله بانقطاعه عن الأسباب، هذا إضافة إلى أنّ تعلّقه بالأسباب الشريفة عند الناس: من

393

تجارة، ومهنة محترمة، قد يجعل النفس طالبة للتشرف بذلك، والتعزّز به، ولحفظ ماء الوجه، في حين أنّ تركه لهذه الأسباب يؤدّي إلى قمع تشرّف النفس وكسرها من ناحية، وإلى التفرّغ لحفظ واجبات الطريقة من ناحية اُخرى.

والدرجة الثالثة: هي التشبّه بالمتوكّلين، وليس صاحبها متوكّلاً في الحقيقة ؛ وذلك لمعرفته لعلل التوكّل المؤدّية إلى خلاصه من تلك العلّة؛ وذلك لأنَّه علم أنَّ الملك خالص لله لا يشاركه أحد، وليس بيده شيء كي يكله إلى الله تعالى. فهذا صاحب مقام فوق التوكّل، ولكنّه يشبه المتوكّل في قطع النظر عن الأسباب فقط(1). انتهى ملخصاً.

أقول: إنّ توهّم أنّ الالتفات إلى أنَّنا لانملك شيئاً، وأنّ الملك كلَّه لله لا يبقي مجالاً للتوكّل يجب أن ينشأ من أحد أُمور، وكلُّها باطل:

الأوّل: بيان أنّه لئن كان كلُّ شيء ملكاً لله فما معنى توكيله في أمر ما ؟ ! فإنّ الموكّل إنّما يتّخذ الوكيل فيما يملكه هو لا فيما يملكه موكّله.

والجواب: أنّ هذا إنّما يبطل التوكّل بمعنى التوكيل الذي اعتبر في الفقه عقداً من العقود، أمّا إذا قُصِدَ به مجرّد الاعتماد عليه فلا يأتي فيه هذا البيان. ويمكن أن يُسمَّى ذلك بالتوكيل الفقهي، ولكن مجازاً باعتبار الملكية المجازية التي فرضها الله لنا في الأُمور.

والثاني: بيان أنّ العبد لا معنى لإرادته لما في صالحه حتّى يتوكّل في تحقيق ذلك على الله، بل المفروض بالعبد أن لا يريد إلاّ ما أراده الله.

والجواب: أنّ أصل حبِّ الذات وحبِّ المصلحة أمر ذاتيّ للإنسان، وفرضُ انفكاكه عنه خيالٌ طوبائي كما مرّت الإشارة إليه، نعم، له أن يفدي بذلك في سبيل


(1) راجع منازل السائرين باب التوكّل من قسم المعاملات وشرحه للكاشاني: 75 ـ 77 وشرحه الآخر للتلمساني: 197 ـ 201.

394

ما يريده الله، لكنّه يبقى تمنّي أن يكون ما يريده الله مطابقاً لمصلحته ـ كما هو الواقع ـ وفي ذلك يتوكّل على الله.

والثالث: بيان أنّ العبد لا يملك اختياراً؛ لأنّ أفعاله وتروكه تُنسب إلى الله مباشرة، أو أنّه مجبور في الاختيار، فهو على أيِّ حال لا يستطيع أن يفعل شيئاً من تلقاء نفسه حتّى يتوكّل في ذلك على الله، وإنّما الفاعل المطلق هو الله، وهو مفاد التوحيد في الفعل.

فإن كان هذا هو المقصود قلنا: إنّ أساس هذا التوهّم هو: الغفلة عمّا أسماه أ ئمّتنا سلام الله عليهم بأمر بين الأمرين، والغافلون عن ذلك يكونون بين قائِل بالجبر ومنكر للاختيار وبين قائل بالجبر على الاختيار، وهو في روحه عين الجبر، ولا يصحّ معه ثواب ولا عقاب. أمّا على مسلك الشيعة ـ أعزّهم الله ـ التابعين لأئمّتهم القائلين بالاختيار الذي هو أمر بين الأمرين، فقد بقي للعبد شيء، وهو: الاختيار وإن كان ما في هذا الشيء من السلطة والقدرة مفوّضاً إليه من الله آناً فآناً، وهو أحد معاني الأمر بين الأمرين، وإذا بقي له الاختيار بقي المجال الواسع للتوكّل والتوكيل. وشرح ذلك من زاوية التحليل العقلي يُطلب من حديثنا في باب الطلب والإرادة في علم الاُصول، ولكنَّني أذكر هنا عدداً من الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام):

الاُولى: صحيحة يونس بن عبدالرحمن عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) قالا: «إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثُمّ يعذّبهم عليها. والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون. قال: فسئلا(عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا: نعم، أوسع ممّا بين السماء والأرض»(1).


(1) الكافي 1 / 159 كتاب التوحيد، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، الحديث 9. والمقصود بالقدر في هذا الحديث هو: التفويض لا الجبر، فإنّ القدرية استعملت تارة في المجبّرة واُخرى في المفوّضة. راجع مرآة العقول 2 / 178 و 192.

395

أقول: ما نتصوّره: أن يكون مقصوداً له(عليه السلام)، ويكون أوسع ممّا بين السماء والأرض هو أحد أمرين وكلاهما صحيح:

الأوّل: أنّ الله زوّد البشر بكلِّ الطاقات التي يأتي بها الفعل أو يتركه، وزوّده بالقدرة والسلطان، ويفيض عليه في كلِّ آن وجوده وطاقاته وقدرته وسلطانه، ثُمّ العبد هو الذي يُعمل سلطانه الذي زوّده الله به وأفاضه عليه حتّى في ساعة الفعل أو الترك ـ يُعمِله ـ في جانب الفعل أو الترك.

والثاني: ما مضت الإشارة إليه في آخر النقطة الرابعة من الحلقة الأُولى من هذا الكتاب من: أنّ فعل العبد مستند بتبع نفس العبد إلى الله سبحانه بالإضافة الإشراقيّة وذلك لا ينافي الاختيار.

والثانية: أيضاً عن يونس، عن عدّة، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قال له رجل: جعلت فداك، أجبر الله العباد على المعاصي ؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثُمّ يعذّبهم عليها. فقال له: جعلت فداك، ففوّض الله إلى العباد ؟ قال: فقال: لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له: جعلت فداك، فبينهما منزلة ؟ قال: فقال: نعم، أوسع ما بين السماء والأرض(1).

والثالثة: ما روي عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمّد وغيرهما رفعوه، قال: «كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثُمّ قال له: يا أميرالمؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر ؟


(1) المصدر السابق: الحديث 11.

396

فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة، ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر.

فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين ؟

فقال له: مَهْ يا شيخ ! فوالله لقد عظَّم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟ !

فقال له: وتظنّ أنّه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً ؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر من الله، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب، ولا محمدة للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب. تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وخصماء الرحمان، وحزب الشيطان، وقدرية هذه الأُمّة ومجوسها.

إن الله ـ تبارك وتعالى ـ كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يملّك مفوّضاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً. ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. فأنشأ الشيخ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته
يومَ النجاةِ من الرحمنِ غفرانا
أوضحتَ من أمرنا ما كانَ ملتبساً
جزاك ربُّك بالإحسان إحسانا»(1)

والرابعة: حديث الوشّا عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «سألته، فقلت: الله فوّض الأمر إلى العباد ؟ قال: الله أعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي ؟ قال: الله


(1) المصدر السابق: ص 155 ـ 156، الحديث 1.

397

أعدل وأحكم من ذلك. قال: ثُمّ قال: قال الله: يابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيّئاتك منّي. عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك»(1).

انظر إلى هذه الرواية الطريفة كيف تشير إلى إفاضة القدرة من الله وانتساب الفعل إلى العبد، وتقول عن لسان الله تعالى: « يابن آدم أنا أولى بحسناتك منك »؛ لأنّ قدرتك عليها منّي. « وأنت أولى بسيّئاتك منّي »؛ لأنَّ قدرتك التي أخذتها منّي صرفتها فيما هو مبغوض لي بحسب عالم التشريع.

والخامسة: الرواية المرويّة عن جعفر الصادق(عليه السلام) أنّه قال لقدريّ: «اقرأ الفاتحة، فقرأ، فلمّا بلغ قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(2). قال له جعفر(عليه السلام): على ماذا تستعين بالله وعندك أنّ الفعل منك، وجميع ما يتعلّق بالأقدار والتمكين والألطاف قد حصلت وتمّت ؟ ! فانقطع القدريّ»(3).

أمّا ما قاله صاحب منازل السائرين من: أنّ الدرجة الثانية للتوكّل تشتمل على ترك الأسباب طلباً للاجتهاد في التوكّل، فهذا كلام باطل؛ وذلك لأنّ الله تعالى وإن كان هو المدبّر للأُمور ﴿يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾(4) وهو ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ ...﴾(5).

إلاّ أنّ تدبيره على نمطين:

أحدهما: تدبيره لما لا يعقل ولا يدرك ولا يريد ولا يختار كما في الجمادات والنباتات، فهو يدبّر أمرها أفضل تدبير من دون توسّط اختيار تلك الأُمور


(1) المصدر السابق: ص 157 الحديث 3.

(2) السورة 1، الحمد، الآية: 5.

(3) مرآة العقول: 2 / 179.

(4) السورة 32، السجدة، الآية: 5.

(5) السورة 32، السجدة، الآية: 7.