100

كذلك فالإنسان جدير ببذل الجهد لتذليل تلك الصعوبات؛ لأنّ عقيدة الإنسان هيأهمّ مافيه.

ومع ذلك فقد لاحظت الشريعة أيضاً اختلاف مستويات الناس الفكرية والثقافية، فلم تكلِّف كلّ إنسان بالنظر والبحث في اُصول الدين إلّا بالقدر الذي يتناسب مع مستواه، ويصل به إلى قناعة كاملة بالحقيقة، تطمئِنّ بها نفسه، ويعمر بها قلبه، ويتحمّل مسؤوليتها المباشرة أمام ربّه.

الاجتهاد والتقليد مبدآن مستمرّان:

ولمّا كانت مصادر الشريعة محفوظةً إلى يومنا هذا في الكتاب الكريم كاملا بدون نقصان وفي عدد كبير من أحاديث السنّة الشريفة فمن الطبيعي أن يستمرّ الاجتهاد ـ كتخصّص علميّ ـ في فهم تلك المصادر واستخراج الأحكام الشرعية منها. ومن الطبيعي أيضاً أن تنمو خبرات المجتهدين وتتراكم لفتاتهم وانتباهاتهم على مرّ الزمن، وتكوّن للمجتهد المتأخّر دائماً رصيداً أكبر وعمقاً أوسع بالاستنباط، وهذا من الأسباب التي تدعو إلى عدم جواز جمود المقلّدين على رأي فقيه من فقهاء عصر الغيبة طيلة قرن أو قرون؛ لأنّ ذلك كالجمود على رأي طبيب كذلك مع نموّ الطبّ بعده وتراكم الخبرات خلال تلك المدّة.

ومن هنا كانت رابطة المقلّد بالمرجع الديني رابطةً حيّةً متجدّدة باستمرار، ويزيدها قدسية مايتمثّل في المرجع من نيابة عامّة عن الإمام عليه الصلاة والسلام.

 

التركيز على العلماء في الشريعة:

 

وحينما وضعت الشريعة الاجتهاد والتقليد كمبدأين مستمرّين ما دام

101

الكتاب والسنّة، وفرضت المجتهد محوراً ومرجعاً للآخرين في شؤون دينهم، استعملت كلّ الأساليب الكفيلة بإنجاح هذين المبدأين وأدائهما لرسالتهما الدينية باستمرار.

فمن ناحية أوجبت الاجتهاد وجوباً كفائياً على ما يأتي في الفقرة (21) من باب التقليد والاجتهاد.

وحثّت على طلب العلم ودراسة علوم الشريعة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(1).

ومن ناحية اُخرى حثّت على التمسّك بالعلماء والسؤال منهم، قال تعالى: ﴿فَاسْألُوا أهْلَ الذّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾(2).

وقدّمتهم إلى الناس بوصفهم ورثةً للأنبياء، فقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّ « العلماء ورثة الأنبياء »(3)، وجاء عنه أنّه قال: « اللهمّ ارحم خلفائي » فقيل له: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: « الذين يأتون من بعدي، يروون عنّي حديثي وسنتي، فيعلّمونها الناس من بعدي »(4).

وفي رواية عن الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) أنّه قال: « مجاري الاُمور على أيدي العلماء بالله، الاُمناء على حلاله وحرامه »(5). إلى غير ذلك من


(1) التوبة: 122.
(2) النحل: 43.
(3) الكافي 1: 34، الحديث 1.
(4) وسائل الشيعة 18: 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53 مع اختلاف يسير.
(5) تحف العقول: 238 وفيه: « مجاري الاُمور والأحكام...».
102

الأحاديث والروايات.

ورغّبت الشريعة بشتّى الأساليب في التقرّب من العلماء والاستفادة منهم، حتّى جعلت النظر إلى وجه العالم عبادةً؛ للترغيب في الرجوع إليهم والأخذ منهم.

وبقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شدّدت عليهم، وتوقّعت منهم سلوكاً عامراً بالتقوى والإيمان والنزاهة، نقيّاً من كلّ ألوان الاستغلال للعلم؛ لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقّاً.

فقد جاء عن الإمام العسكريّ (عليه السلام) في هذا السياق قوله: « فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه »(1).

وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: « من استأكل بعلمه افتقر »، فقيل له: إنّ في شيعتك قوماً يتحمّلون علومكم، ويبثّونها في شيعتكم، ويتلقّون منهم الصلة، فقال: « ليس اُولئك بمستأكلين، إنّما ذاك الذي يُفتي بغير علم ولا هدىً من الله ليُبطِل به الحقوقَ طمعاً في حطام الدنيا »(2).

وفي حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: « الفقهاء اُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا »(3).

وقد جاء في الأحاديث التأكيد على المعنى العملي لاستمرار مبدأ الاجتهاد


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): 300.
(2) وسائل الشيعة 18: 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.
(3) الكافي 1: 46، الحديث 5.
103

إضافةً إلى استمراره الشرعي، وعلى أنّ الدين لن يعدم أبداً العلماء القادرين على استيعابه والتفقّه فيه، وتفهيمه للآخرين، ورفع الشبهات عنه.

فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: « يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول، ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكِير(1) خبث الحديد »(2).

الرسالة العملية أهمّيتها وتطويرها:

وقد كانت الرسائل العملية التي يكتبها المجتهدون لمقلِّديهم هي الأساس لتعرّف المقلَّدين على فتاوى من يقلِّدون، وبالتالي على ما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية.

وقد قامت الرسائل العملية بدور مهمٍّ وجليل في هذا المجال، ولكن على الرغم ممّا تمتاز به عادةً من الدقّة في التعبير والإيجاز في العبارة توجد فيها ـ على الأغلب ـ ملاحظتان تستدعيان التغيير والتطوير:

الملاحظة الاُولى: أنّ هذه الرسائل تخلو غالباً من المنهجية الفنّية في تقسيم الأحكام وعرضها، وتصنيف المسائل الفقهية على الأبواب المختلفة.

ومن نتائج ذلك حصل ما يلي:

أوّلا: أنّ كثيراً من الأحكام اُعطيت ضمن صور جزئية محدودة تبعاً للأبواب، ولم تُعطَ لها صيغة عامة يمكن للمقلّد أن يستفيد منها في نطاق


(1) وهو زقّ أو جلد غليظ ذو حافّات يُنفَخ فيه. مجمع البحرين: (مادة كَيَر). (لجنة التحقيق).
(2) وسائل الشيعة 18: 109، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 43.
104

واسع.

ثانياً: أنّ عدداً من الأحكام دُسّ دسّاً في أبواب أجنبية عنه لأدنى مناسبة؛ حرصاً على نفس التقسيم التقليدي للأبواب الفقهية.

ثالثاً: أنّ جملةً من الأحكام لم تذكر نهائياً؛ لأنّها لم تجد لها مجالا ضمن التقسيم التقليدي.

رابعاً: أنّه لم يبدأ في كلّ مجال بالأحكام العامة ثم التفاصيل، ولم تربط كلّ مجموعة من التساؤلات بالمحور المتين لها، ولم تُعطَ المسائل التفريعية والتطبيقية بوصفها أمثلةً صريحةً لقضايا أعمّ منها لكي يستطيع المقلّد أن يعرف الأشباه والنظائر.

خامساً: افترض في كثير من الأحيان وجود صورة مسبقة عن العبادة أو الحكم الشرعي، ولم يبدأ العرض من الصفر؛ اعتماداً على تلك الصورة المسبقة.

سادساً: انطمست المعالم العامّة للأحكام عن طريق نثرها بصورة غير منتظمة، وضاعت على المكلّف فرصة استخلاص المبادئ العامة منها.

الملاحظة الثانية: أنّ الرسائل العملية لم تَعُدْ تدريجاً بوضعها التأريخي المألوف كافيةً لأداء مهمّتها؛ بسبب تطور اللغة والحياة؛ ذلك أنّ الرسالة العملية تعبّر عن أحكام شرعية لوقائع من الحياة، والأحكام الشرعية بصيغها العامة وإن كانت ثابتةً ولكنّ أساليب التعبير تختلف وتتطور من عصر إلى عصر آخر؛ ووقائع الحياة تتجدّد وتتغيّر، وهذا التطور الشامل في مناهج التعبير ووقائع الحياة يفرض وجوده على الرسائل العملية بشكل وآخر.

فاللغة المستعملة تأريخياً في الرسائل العملية كانت تتّفق مع ظروف الاُمّة

105

السابقة، إذ كان قرّاء الرسالة العملية مقصورين غالباً على علماء البلدان وطلبة العلوم المتفقّهين؛ لأنّ الكثرة الكاثرة من أبناء الاُمّة لم تكن متعلّمة، وأمّا اليوم فقد أصبح عدد كبير من أبناء الاُمّة قادراً على أن يقرأ ويفهم ما يقرأ، إذا كتب بلغة عصره وفقاً لأساليب التعبير الحديث، فكان لابدّ للمجتهد المرجع أن يضع رسالته العملية للمقلّدين وفقاً لذلك.

والمصطلحات الفقهية التي تعتمد عليها الرسائل العملية ـ غالباً ـ للتعبير عن المقصود قد كان من مبرّراتها تأريخياً اقتراب الناس سابقاً من تلك المصطلحات في ثقافتهم، بينما ابتعد الناس عنها اليوم، وتضاءلت معلوماتهم الفقهية، حتّى أصبحت تلك المصطلحات على الأغلب غريبةً تماماً.

وعرض الأحكام من خلال صور عاشها فقهاؤنا في الماضي كان أمراً معقولا، فمن الطبيعي أن تعرض أحكام الإجارة ـ مثلا ـ من خلال افتراض استئجار دابّة للسفر، ولكن إذا تغيّرت تلك الصور فينبغي أن يكون العرض لنفس تلك الأحكام من خلال الصور الجديدة، ويكون ذلك أكثر صلاحيةً لتوضيح المقصود للمقلِّد المعاصر.

والوقائع المتزايدة والمتجدّدة باستمرار بحاجة إلى تعيين الحكم الشرعي، ولَئِن كانت الرسائل العملية تأريخياً تفي بأحكام ما عاصرته من وقائع فهي اليوم بحاجة إلى أن تبدأ تدريجاً باستيعاب غيرها ممّا تجدّد في حياة الإنسان.

والأحكام الشرعية على الرغم من كونها ثابتةً قد يختلف تطبيقها تبعاً للظروف من عصر إلى عصر، فلابدّ لرسالة عملية تعاصر تغيّراً كبيراً في كثير من الظروف أن تأخذ هذا التغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشرعي. فمثلا: الشرط الضمني ـ على حدّ تعبير الفقهاء ـ واجب ونافذ، وهو: كلّ شرط دلّ عليه

106

العرف العامّ وإن لم يصرَّح به في العقد ولكنّ نوع هذه الشروط ـ لمّا كان العرف هو الذي يحدّدها ـ تختلف، فقد يكون شيء ما شرطاً ضمنياً مع العقد في عصر دون عصر.

وهكذا ينبغي للرسالة العملية أن تأخذ العرف المتطور بعين الاعتبار في تحديد ذلك القسم من الأحكام الذي يرتبط بالعرف.

وقد وجدت محاولات منذ زمن للتطوير والتجديد في الرسائل العملية، وكان لكلّ محاولة أهمّيتها وقيمتها.

وحينما صدرت تعليقتنا العملية على منهاج الصالحين أحسست إحساساً واضحاً من خلال مراجعات القارئين وأسئلة السائلين، بما كنت على إيمان به من ضرورة الأخذ بالملاحظتين السابقتين في وضع رسالة عملية تتقيّد بمنهج سليم في العرض من الناحية الفنية، وتلتزم بلغة مبسّطة حديثة، وتبدأ في العرض من الصفر، وتحاول أن تعرض الأحكام من خلال صور حيّة وتطبيقات منتزعة من واقع الحياة، وتتجه إلى بيان الحكم الشرعي لما يستجدّ من وقائع.

وهذه «الفتاوى الواضحة» تحقيق لذلك بالقدر الذي اتّسع له المجال وأتاحته الفرصة، ونسأل المولى القدير سبحانه وتعالى أن يتقبّلها بلطفه، وينفعَ بها إخواننا المؤمنين.

مصادر الفتوى:

ونرى من الضروريّ أن نشير أخيراً بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدناها بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي ـ كما ذكرنا في مستهلّ الحديث ـ عبارة عن الكتاب الكريم، والسنّة الشريفة المنقولة عن

107

طريق الثقات المتورّعين في النقل مهما كان مذهبهم، أمّا القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوّغاً شرعياً للاعتماد عليها.

وأمّا ما يسمّى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدّثون في أنّه هل يسوغ العمل به أو لا؟ فنحن وإن كنّا نؤمن بأنّه يسوغ العمل به ولكنّا لم نجد حكماً واحداً يتوقّف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كلّ مايثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنّة.

وأمّا ما يسمّى بالإجماع فهو ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنّة، ولا يُعتمَد عليه إلّا من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات.

وهكذا كان المصدران الوحيدان هما: الكتاب والسنّة، ونبتهل إلى الله تعالى أن يجعلنا من المتمسّكين بهما، ومن استمسك بهما ﴿فَقَد اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَميِعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

التقسيم في هذه الرسالة:

وقد بدأنا في هذه الرسالة العملية بالتقليد، فذكرنا أحكام التقليد، وأحكام الاجتهاد والاحتياط، وتكلّمنا بعد ذلك عن التكليف وشروطه، ثمّ صنّفنا الأحكام إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: العبادات.

القسم الثاني: الأموال، ويشتمل على الأموال العامّة والأموال الخاصّة.

القسم الثالث: السلوك الخاصّ.

 


(1) البقرة: 256.
108

القسم الرابع: السلوك العامّ.

وسيأتي توضيح ما هو المقصود بكلّ واحد من هذه الأقسام في نهاية الحديث عن التكليف وشروطه.

ونسأل المولى القدير تعالى السداد والاعتصام، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين.

 

محمّد باقر الصدر

النجف الأشرف

26 محرّم الحرام (1396 هـ)

109

أبْحَاث تَمهيديّة

3

التقليد والاجتهاد

 

 

○  تمهيد.

○  التقليد.

○  الاجتهاد.

○  الاحتياط.

 

 

111

بسم الله الرحمن الرحیم

[تمهيد]

 

الطرق الثلاث لطاعة الله:

(1) في دين الله سبحانه أوامر ونواه، جلّت عظمته يسأل عباده عنها، ولا وسيلة لمعرفة المكلّف بأنّه قد أدّى إلى الله طاعته في أمره واتّقاه في نهيه، إلّا إذا كان في جميع أفعاله وتروكه مجتهداً في أحكام الشريعة، أو مقلِّداً لمن هو أهل للتقليد والاقتداء به، أو محتاطاً، على أن يستند في احتياطه إلى علمه هو واجتهاده أو إلى تقليد مجتهد معيّن.

هذا في غير البديهيات الدينية والمسلّمات الواضحة، كوجوب الصوم والصلاة، وحرمة الزنا والربا، وكالمسائل القطعية التي يمكن العلم بها بلا جهد ودرس، كبعض الواجبات، وكثير من المستحبّات، وأكثر المباحات التي يعرف حكمها الكثير من الناس الذين يعيشون في البيئات الدينية، ومنها ـ على سبيل المثال ـ وجوب العدّة على زوجة الميّت وعلى المطلّقة الشابّة بعد المقاربة، واستحباب الأذكار والدعوات، وإباحة أكل الرمّان، فإنّ هذا النوع من الأحكام لااجتهاد فيه ولا تقليد ولا احتياط.

وأيضاً لا تقليد في تطبيق المعاني الكلّية على أفرادها الخارجية والتمييز بينها، من قبيل: أنّ هذا المائع السائل أمامك هل هو خمر أو خلّ؟ فقد يجهل

112

المرجع أنّه خمر، ولكنّك تعلم أنّه خمر، فعليك أن تتصرّف وفقاً لعلمك.

تعريف الطرق الثلاث:

(2) الاجتهاد: هو القدرة العلمية على استخراج الحكم الشرعي من دليله المقرَّر له.

والاحتياط: أن يأتي المكلّف بكلّ شيء يحتمل فيه الأمر والوجوب، ولا يحتمل تحريمه على الإطلاق، وأن يترك كلّ شيء يحتمل فيه النهي والتحريم، ولا يحتمل فيه الوجوب بحال.

والتقليد: قدوة واُسوة، ويتحقّق بمجرّد العمل، أو بمجرّد الجزم والعزم على العمل ـ عند الحاجة ـ بقول مجتهد معيّن، فأحد هذين كاف في صحة التقليد، وواف في جواز البقاء عليه بعد موت المقلّد على ما يأتي (1).

 


(1) ما قد يفترض أثراً شرعياً مترتباً على عنوان التقليد أحد اُمور أربعة:
الأوّل: جواز الاجتزاء بالعمل بهذا الرأي مدّة بقائه وبقاء المقلِّد على تقليده وبقاء شروط الحجّية.
الثاني: إجزاء ما وقع من العمل في زمان هذا الرأي بعد ما انكشف خلافه ولو بمعنى تبدّل الرأي أو تبدّل التقليد.
الثالث: جواز البقاء عليه بعد وفاة الفقيه.
الرابع: حرمة العدول عنه في الأحكام الإلزاميّة إلى رأي غير الأعلم ولو كان مساوياً.
أمّا الأوّل ـ وهو الاجتزاء الفعلي ـ: فموضوعه في الحقيقة هو العلم بمطابقة العمل لذاك الرأي الحجّة، سواء كان العمل مستنداً إلى ذاك الرأي أو كان التطابق قد حصل بالصدفة وعن غير عمد.


113

حكم من ترك الطرق الثلاث:

(3) لا وزن لعمل عامل غير مجتهد في أحكام الله تعالى، ولا محتاط فيها، ولا مقتد بمجتهد عادل، حتّى ولو كان العامل جاهلا بوجوب التقليد أو الاحتياط؛ لأنّ الجهل هنا ليس بعذر، ولكن لو تكشّف له أنّ عمله كان على النهج المطلوب منه واقعاً بالتمام والكمال، أو كان موافقاً لفتوى من يجب عليه تقليده ساعة الكشف والعلم بوجوب التقليد أو الاحتياط، لو كان هذا كفاه عمله السابق، ولا شيء عليه.

وإذا تنبَّه وعلم بوجوب التقليد أو الاحتياط ولكنّه شكّ في أنّ عمله السابق بلا تقليد واحتياط هل كان على المنهج المطلوب حتّى لا يجب القضاء ـ على حدّ تعبير الفقهاء، وهم يطلقون كلمة « القضاء » على الإتيان بالفعل المأمور به بعد فوات أمده المضروب له ـ أو لم يكن على النحو المطلوب، بل كان باطلا حتى يقضي المكلّف ما فات؟ فماذا يصنع؟



وأمّا الثاني ـ وهو الإجزاء بعد انكشاف الخلاف ـ: فموضوعه هو الاستناد في العمل أو في ترك القضاء والإعادة إلى ذاك الرأي.
وأمّا الثالث ـ وهو جواز البقاء على التقليد مع وفاة الفقيه ما لم تثبت أعلميّة الحيّ منه ـ: فهذا ما نفتي به، ومن حقّنا أن نفتي به على ما نفهمه من الحديث الشريف الذي يقول: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصريّ؟». وسائل الشيعة: 27 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 145.
وأمّا الرابع ـ وهو حرمة العدول ـ: فموضوعها بالدقّة هو حصول العلم الإجمالي ببطلان أحد العملين، وليس عنوان التقليد.
114

الجواب: أمّا في ما يعود إلى القضاء فقط فلا يجب عليه في مثل هذا الفرض، وتجب الإعادة ما بقي وقت الفريضة.

115

التقليد

 

(4) التقليد هو الطريق الأكثر عمليةً لجُلّ الناس، فقد اعتاد الناس في كلّ مجال على الرجوع إلى ذوي الاختصاص والخبرة بذلك المجال، وهو واجب على كلّ مكلّف لا يتمكّن من الاجتهاد.

ويشترط في مَن يُرجَع إليه في التقليد: البلوغ(1)، والعقل، والذكورة، وطيب الولادة(2)، والإيمان، والاجتهاد، والعدالة(3)، والحياة، أي: يجبفي سائر الأحوال أن يبدأ التقليد بالعمل، أو الالتزام بقول الحيّ دونالميّت.

(5) إذا تعدّد المجتهدون الذين تتوفّر فيهم الشروط السابقة وكانوا متّفقين في آرائهم وفتاواهم فبإمكان المقلِّد أن يرجع إلى أيّ واحد منهم، ولكنّ هذا مجرّد افتراض نظريٍّ، وليس واقعاً في الحياة العمليّة عادةً؛ لأنّ الاجتهاد مثار للاختلاف بين المجتهدين غالباً، فإذا اختلفوا وعلم المقلِّد بأنّهم مختلفون في آرائهم فلمن يرجع؟ ومن يقلِّد؟

 


(1) شرط البلوغ غير واضح إلّا إذا كان بمعنى عدم الأمن على صدقه في الفتوى على أساس إيمانه بعدم حرمة الكذب والتضليل عليه، أو كان بمعنى عدم ثبوت ملكة العدالة والتقوى فيه على أساس أنّه لا يرى نفسه مكلَّفاً بشيء.
(2)ومعنى طيب الولادة: أن يكون قد ولد بصورة مشروعة.(منه (قدس سره)).
(3)سيأتي معنى العدالة اللازمة في المرجع في الفقرة (32) من هذا الباب.(منه (قدس سره)).
116

والجواب: أنّه يرجع إلى الأعلم في الشريعة(1)، والأعرف والأقدر على تطبيق أحكامها في مواردها، مع فهم للحياة وشؤونها بالقدر الذي تتطلّبه معرفة أحكامها من تلك الأدلّة.

وبعبارة موجزة: يجب على المقلِّد أن يقلّد الأعلم من المجتهدين في هذه الحالة.

(6) وكيف يعرف الأعلم بالمعنى الذي فصّلناه؟

والجواب: أنّه يعرف بطرق، منها:

أوّلا: شهادة عدلين من المجتهدين الأكفّاء، أو الأفاضل القادرين على التقويم العلمي، وسيأتي معنى العادل في الفقرة (32) من هذا الباب.

ثانياً: الخبرة، والممارسة الشخصية من المقلِّد إذا كان له من الفضل والعلم ما يتيح له ذلك وإن لم يكن مجتهداً، وأخيراً بكلّ سبب يؤدّي إلى يقين المقلِّد وإيمانه بأنّ فلاناً أعلم ـ مهما كان السبب ـ فإنّ ذلك يحتّم عليه أن يقلّده دون سواه، ومن ذلك: الشياع بين أهل العلم والفضل، أو الشياع في صفوف الاُمّة إذا أدّى إلى يقين المقلِّد بأنّ من شاع أنّه أعلم هو الأعلم حقّاً.

ويجب على المقلِّد الفحص والبحث عن الأعلم في كلّ مظنّة وسبيل ممكن، وأيضاً يجب على المكلّف أن يحتاط في أعماله مدّة البحث والفحص(2).

(7) قد يتّفق ويصادف أن يكون الأعلم أكثر من واحد من بين المجتهدين، أي اثنين ـ مثلا ـ هما على مستوىً واحد مقدِرةً وفضلا، وقد اختلفا في الفتوى، فهل هناك مرجِّحات غير العلم والاجتهاد توجب تقديم أحدهما على الآخر في


(1) نحن نقصد بالأعلم من كان فاصل الفهم بينه وبين غيره كبيراً جدّاً.
(2) إن لم يكن يعلم بوجود الأعلم فيما بين الفقهاء تَخيَّر في التقليد فيما بينهم.
117

التقليد؟

الجواب: الواجب حينئذ في كلّ واقعة الأخذ بمن كان قوله أقرب إلى الاحتياط(1). وبكلمة اُخرى: لا يتصرّف المكلّف تصرّفاً إلّا إذا اتّفقا على الترخيص فيه.

(8) إذا شكّ المكلّف وتردّد هل زيد أعلم من بكر ـ مثلا ـ أو بكر أعلم منه، أو هما في درجة واحدة؟

إذا حدث هذا ينظر: فإن كان المكلّف على يقين بأنّ أحدهما ـ ولنفرض مثلا أنّه زيد ـ كان من قبل أعلم بلا ريب ولكنّ بكراً جدّ ونشط في البحث أمداً غير قصير بعد العلم بأعلمية زيد حتى احتمل المكلّف أو ظنّ بأنّه قد وصل إلى درجة زيد في العلم أو تفوّق عليه، إن كان هذا فعلى المكلّف أن يقلّد زيداً لا بكراً، وإن لم يسبق العلم بأعلمية زيد وشكّ هل بكر في علمه بمنزلة زيد، أو أعلم منه منذ البداية، أو هو دونه؟ فالواجب في كلّ واقعة الأخذ بمن كان قوله أقرب إلى الاحتياط(2).

(9) إذا قلّد الأعلم ثمّ وجد من هو أعلم منه يقيناً تحوّل من السابق إلى اللاحق، ومعنى هذا: أنّ التقليد يدور مع الأعلم كيفما دار وجوداً وعدماً.

وإذا قلّد الأعلم ثمّ حصل من يساويه جاز له أن يستمرّ على تقليده.

(10) من تخيّل ـ لسبب أو لآخر ـ أنّ فلاناً هو المجتهد الأعلم وبعد حين ظهر له العكس فعليه أن يستدرك ويعدل إلى المجتهد الأعلم، ويسمّى هذا المقلِّد بالمشتبه.

 


(1) بل يتخيّر.
(2) بل يتخيّر.
118

أمّا الفرائض والواجبات التي أدّاها حين الاشتباه من صلاة وصيام ونحوهما فليس عليه أن يقضيها ما دام المقلَّد السابق مجتهداً، وإن كان أقلّ علماً من غيره. وأمّا إذا ظهر له أنّ المقلَّد السابق لم يكن مجتهداً فعليه أن يقضي كلّ ماثبت لديه أنّه قد أدّاه باطلا في رأي مقلَّده الجديد، وسيأتي تأكيد ذلك وتفصيله في الفقرتين (18) و (19).

(11) لا يجوز التحوّل والتنقّل في التقليد من مرجع إلى مرجع مهما كانت الظروف والأسباب(1) إلّا بعد القطع واليقين بوجود المبرّر الشرعي، وهو: أن يفقد المرجع بعض الشروط الرئيسية، أو يوجد من هو أعلم منه، كما قلنا في الفقرة العاشرة.

(12) يستطيع المقلِّد أن يتعرّف على فتوى مقلَّده بإحدى الوسائل التالية:

أوّلا: أن يستمع منه مباشرةً.

ثانياً: أن ينقل الفتوى إليه شاهدان عادلان، وتسمّى شهادة العادلين بالبيّنة.

ثالثاً: أن يخبره بها شخص واحد عادل، أو شخص واحد يعرفه بصدق اللهجة والتحرّج عن الكذب حتّى لو لم يكن عادلا وملتزماً دينياً في كلّ سلوكه، ويسمّى بالثقة، وعلى هذا الأساس فنحن كلّما ذكرنا الثقة فهو يشمل العادل.

رابعاً: أن يجد الفتوى في كتاب أ لّفه المرجع أو أقرّه، كالرسالة العملية الصادرة منه.

(13) إذا جاءه ثقة بفتوى عن مقلَّده، وجاءه ثقة آخر بفتوى تتعارض مع الفتوى الاُولى فكيف يصنع المقلِّد ؟



(1) هذا فيما إذا أدّى ذلك إلى العلم الإجمالي ببطلان أحد العملين الإلزاميين، ومع ذلك يكون عدم التنقّل حكماً احتياطيّاً.

119

والجواب: أنّ الثقتين إذا كان يتحدّثان عن زمنين مختلفين وجب العمل بالفتوى المنقولة عن الزمن المتأخّر.

مثال ذلك: أن يخبر أحدهما عن فتوى سمعها قبل سنة، ويخبر الآخر عن فتوى سمعها قبل شهر، فيعمل على أساس الخبر الثاني.

وأمّا إذا كانا يتحدّثان عن زمن واحد فلا يمكن للمقلِّد أن يعتمد على أيّ واحد منهما، بل يحتاط إلى أن يتّضح له واقع الحال.

(14) إذا شكّ المقلِّد في أنّ فتوى المقلَّد تغيّرت واحتمل أنّه عدل عنها إلى فتوىً جديدة فيعمل على أساس أنّ الفتوى السابقة لا تزال باقية، ما لم يقم دليل شرعي على العكس.

والشيء نفسه نقوله كلّما شكّ في بقاء واحد من الشروط التي يجب توفّرها في المرجع، فإنّه يعمل على أساس أنّها باقية، ويظلّ على علاقته به ما لم يثبت العكس.

(15) قد تعرض لصلاة المكلّف المقلِّد عارضة وهو يؤدّيها ولا يعرف لها حكماً ودواءً فماذا يصنع، وهو لا يستطيع أن يسأل عن الحكم في أثناء الصلاة؟

الجواب: يسوغ له في هذا الفرض أن يثق بظنّه ويعمل به، حيث لا وسيلة سواه، شريطة أن يرجع إلى مقلَّده ويسأله عن حكم ماعرض له ويعمل بموجب قوله وفتواه، ولا يجوز له أن يهمل السؤال ويكتفي بظنّه هو واحتماله.

في حالات موت المرجع:

(16) إذا مات المرجع في التقليد فما هو تكليف من كان مقتدياً به ومقلِّداً له؟

والجواب: عن هذا السؤال يستدعي التفصيل الآتي:

120

1 ـ قد يكون الميّت المقلَّد أعلم من كلّ الأحياء الموجودين بالفعل، وفي هذا الفرض يستمرّ المكلّف على تقليد الميّت تماماً، كما لو كان المرجع حيّاً بلا أدنى فرق فيما عمل به من أقوال المرجع وفيما لم يعمل.

2 ـ وقد يكون الحي أعلم من الميّت، وعلى هذا يجب العدول إلى تقليد الحي في كلّ المسائل دون استثناء.

3 ـ وقد يوجد في الأحياء من هو مساو للميّت علماً واجتهاداً، وحينئذ ينظر: فإن كان الميّت أسبق في الأعلمية استمرّ المكلّف على تقليد الميت، وإن تبيّن أنّهما كانا على مستوىً واحد منذ البداية فالواجب في كلّ واقعة الأخذ بمن كان قوله أقرب إلى الاحتياط(1).

ومن الضروريّ الإشارة إلى أنّه في الحالات التي يسوغ للمقلِّد أن يستمرّ على تقليد المرجع الميّت لا يحقّ له أن يستمرّ هكذا بصورة اعتباطية، وإنّما يسوغ له الاستمرار كذلك بعد أن يتعرّف على الأعلم من المجتهدين الأحياء ويرجع إليه في التقليد، فيسمح له بالاستمرار على العمل بفتاوى المرجع الميّت(2)، وإذا لم يصنع ذلك واستمرّ على تقليد الميت بصورة اعتباطية كان كمن يعمل بدون تقليد.

(17) إذا استمّر المكلّف على تقليد الميّت بفتوى الأعلم الحي، ثمّ مات هذا المفتي فعلى المكلّف أن يرجع ثانيةً إلى أعلم آخر من الأحياء في بقائه على تقليد


(1) بل يجوز له البقاء على تقليد الميّت.
(2) لو كان الميّت أعلم من أعلم الأحياء ولم يدرك المقلِّد بعقله وجوب البقاء على تقليد الميّت الأعلم ولا وجوب أخذ وظيفته من أعلم الأحياء ينحصر أمره لا محالة بالأخذ في كلّ مسألة بالأحوط مِن قولَي الميّت الأعلم من الأحياء وأعلم الأحياء.
121

الميت(1).

في حالات العدول:

(18) إذا عدل المقلِّد ـ بمبرّر شرعيّ ـ من مرجع إلى آخر فكيف يصنع بما أدّاه من صلاة وصيام ونحوهما في الفترة السابقة؟

ومثال ذلك: مَن يموت مرجعه فيعدل إلى تقليد المجتهد الحيّ الأعلم(2)، أو من يقلّد الأعلم ثم يصبح غيره أعلم منه في حياته فيعدل إليه؛ وكلّ من التقليدين في حينه صحيح.

والجواب: أنّه لا يجب عليه أن يقضي تلك الواجبات التي أدّاها وانتهى وقتها، حتّى ولو كانت باطلةً في رأي مقلَّده الجديد.

وأمّا إذا صلّى صلاة الظهر ـ مثلا ـ على رأي مقلَّده الأول، ثمّ عدل إلى المقلَّد الجديد بمبرّر شرعي قبل أن تغرب الشمس وجب عليه أن يقوّم صلاته على أساس فتاوى المرجع الجديد(3).

فإن كانت صلاته متّفقةً مع فتاواه فهي صحيحة ولا تجب إعادتها، وإن كانت صلاته مختلفةً مع فتاواه فالاختلاف على قسمين:

أحدهما: الاختلاف في نقطة يُعذر فيها الجاهل فلا تجب إعادة الصلاة؛ لأنّه كان جاهلا. ومثالها: أن يكون قد قرأ التسبيحات في الركعة الثالثة مرّةً


(1) هنا أيضاً قد تتكرّر المشكلة التي أثرناها في البند السابق، والعلاج نفس العلاج من الأخذ بالاحتياط، إلّا أنّه هنا يكون احتياطه بالأخذ بالأحوط من قولي أعلم الأحياء وأعلم الميّتين والذي هو في نفس الوقت أعلم من أعلم الأحياء.
(2) عرفت تعليقنا على ذلك.
(3) هنا أيضاً نقول بإجزاء عمله السابق.
122

واحدةً والمرجع الجديد يرى وجوبها ثلاث مرّات.

والآخر: الاختلاف في نقطة لا يُعذر فيها الجاهل فتجب الإعادة. ومثالها: أن يكون قد توضّأ للصلاة بماء الورد وفقاً لرأي مقلَّده السابق، والمرجع الجديد يرى بطلان هذا الوضوء.

(19) إذا قلّد المكلّف شخصاً وعمل على رأيه فترةً من الزمن، ثم اتّضح أنّ تقليده لم يكن صحيحاً، كما إذا ظهر له أنّ ذلك الشخص لم يكن مجتهداً، فعدل عنه إلى المجتهد فماذا يصنع بما أدّاه من فرائض على رأي مقلَّده السابق ؟

والجواب: أنّ الفريضة التي لا يزال وقتها باقياً يجب عليه إعادتها، إلّا في حالتين:

الاُولى: أن يعلم بأنّها متّفقة مع رأي مقلَّده الجديد.

الثانية: أن تكون مختلفةً في نقطة يُعذر فيها الجاهل.

وأمّا الفريضة التي مضى وقتها فيجب قضاؤها، إلّا في ثلاث حالات:

الاُولى: أن يعلم بأنّها متّفقة مع رأي مقلَّده الجديد.

الثانية: أن يشكّ هل هي متّفقة مع رأي المقلَّد الجديد، أو لا؛ نظراً لأنّه لا يتذكّر طريقة أدائه لها ؟

الثالثة: أن يعلم بأنّها مختلفة مع رأي المقلَّد الجديد، ولكن في نقطة يُعذر فيها الجاهل.

(20) الوكيل والوصي ينفّذان أمر الأصيل وفقاً لتقليده هو، وليس لتقليدهما(1)؛ لقرينة المناسبة والاعتبار، ولدلالة ظاهر الحال على أنّ الأصيل



(1) هذا يتمّ فيما لو كان هناك انصراف للتوكيل أو الوصيّة إلى إرادة العمل وفقاً لتقليد الموكِّل أو الموصِي.

123

لو باشر العمل بنفسه لأتى به على موجب تقليده، وليس على مقتضى تقليد الآخرين.

وأمّا الأصيل نفسه فهو إنّما يتصرّف وفقاً لتقليده، ويعتبر رأي مقلَّده هو المقياس، لا في عمله فحسب، بل في عمل الآخرين أيضاً بقدر ما يتّصل به.

ومثال ذلك: أن يقوم خالد بمعاملة خاصّة فيبيع ديناراً نقداً بدينار ونصف مؤجلا اعتماداً على رأي مقلَّده الذي يقول بجواز ذلك، وزيد مقلِّد لمن يرى بطلان هذه المعاملة، ففي هذه الحالة يجب على زيد أن يتّبع رأي مقلَّده، فيعتبر المعاملة التي قام بها خالد باطلةً، والمال الذي انتقل إلى خالد بسببها غير جائز، ولا يسمح لنفسه بأن يشتري منه ذلك المال.

وقد يرتبط زيد وخالد في معاملة واحدة كعقد بيع مثلا، وعقد البيع يشتمل على بيع ـ أي إيجاب ـ من قبل البائع وشراء ـ أي قبول ـ من قبل المشتري، ففي هذه الحالة لا يجوز لكلٍّ منهما أن يعتبر المعاملة صحيحةً إلّا إذا كانت متّفقةً مع رأي مقلَّده.

ويستثنى من ذلك الحالات التي يُعذر فيها الجاهل، ويقع العمل منه صحيحاً، كما إذا كان خالد مقلِّداً لمن يرى أنّ التسبيحات إنّما تجب في الركعة الثالثة والرابعة مرّةً واحدةً، وزيد مقلِّد لمن يرى أنّها تجب ثلاث مرّات، فيقتدي زيد بخالد الذي يأتي بها مرّةً واحدة، ويصحّ هذا الاقتداء؛ لأنّ التسبيحات يُعذَر الجاهل في تركها أو ترك شيء منها، فتكون صلاة خالد على هذا الأساس صحيحةً لدى زيد(1).



(1) طبعاً لا يشمل مقصوده(رحمه الله) فرض خطأ الإمام في القراءة التي يتحمّلها عن المأموم، فهنا رغم إيمان المأموم بصحّة قراءة الإمام لنفس الإمام لا يجزي اقتداؤه به.

124

الاجتهاد

 

(21) الاجتهاد واجب كفائي على المسلمين، ومعنى ذلك: أنّه إذا قام به البعض وبلغوا درجة الاجتهاد سقط الوجوب عن الآخرين، وإذا أهمل المسلمون جميعاً هذا الواجب فلم يتوفّر مجتهد كان الجميع آثمين.

والعدد الواجب توفّره من المجتهدين ليس محدّداً شرعاً، بل يتحدّد وفقاً للحاجة.

(22) والاجتهاد على قسمين:

أحدهما كامل، ويسمّى ذو الاجتهاد الكامل بالمجتهد المطلق، وهو القدير على استخراج الحكم الشرعي من دليله المقرّر في مختلف أبواب الفقه.

والآخر ناقص، ويسمّى ذو الاجتهاد الناقص بالمتجزّئ، وهو الذي اجتهد في بعض المسائل الشرعية دون بعض، فكان قديراً على استخراج الحكم الشرعي في نطاق محدود من المسائل فقط.

وكلّ من المجتهد المطلق والمجتهد المتجزّئ يجوز له أن يعمل على وفق اجتهاده في حدود قدرته على استخراج الحكم من دليله، ويجوز لكلٍّ منهما أن يعبّر عن رأيه وفتواه، ولكنّهما يختلفان في آثار اُخرى، كما يأتي في الفقرة التالية.

(23) المجتهد المطلق إذا توافرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد المتقدّمة في الفقرة (4) جاز للمكلف أن يقلّده كما تقدم، وكانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كُفؤاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً.