143

النبوّة

1

 

 

 

النبوّة العامّة

 

 

○ البحث الأوّل: ضرورة بعث الأنبياء.

○ البحث الثاني: أدلّة النبوّة.

○ البحث الثالث: الوحي.

○ البحث الرابع: عصمة الأنبياء.

 

 

145

 

 

 

 

 

نذكر تحت عنوان النبوّة العامّة عدّة أبحاث:

 

البحث الأوّل: ضرورة بعث الأنبياء

 

قال اللّه تعالى: ﴿رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾(1).

﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُون﴾(2).

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءنَا مِن بَشِير وَلاَ نَذِير فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾(3).

﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَاب مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾(4).


(1) س 4 النساء، الآية: 165.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 155 ـ 157.

(3) س 5 المائدة، الآية: 19.

(4) س 20 طه، الآية، 134.

146

﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(1).

إنّ الله سبحانه وتعالى قد دبّر اُمور الجمادات والنباتات بأحسن تدبير من: سير الشمس وحركة القمر وجري الأنهار وإرسآء الجبال وغير ذلك ممّا مضى جزء يسير منه في أحد أدلّتنا على وجود الله سبحانه وتعالى. وهذه اُمور لا إرادة لها ولا شعور ولا إدراك بحسب ما نفهمه نحن في نشأتنا من الإرادة والإدراك، وإن كان الأمر بحسب عالم العرفان بشكل آخر فإنّه: ﴿وَإِن مِّن شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَه﴾(2)، ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِه﴾(3)، ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه﴾(4)، ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه﴾(5)، فبغضّ النظر عن هذا الفهم العرفاني وبالنظر إلى ما هو المعروف لنا في نشأة الإنسانيّة من فهم وإرادة نقول: إنّ الجماد والنبات مدَبّرٌ أمرهما بأحسن وجه جبراً وقهراً عليهما، ويلحق بذلك أبداننا وأعضاؤنا، فهي كالنباتات لا إرادة لها ولا شعور فيما نفهم ما لم يظهر الله لنا نشأتها التي يصدق بشأنها قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء﴾(6)، فقد دُبّرت اُمورها من دون إرادتها بأحسن تدبير وحتّى بلحاظ الكماليات، من قبيل: أنّه جعل فوق العين حاجباً يمنع من نزول العرق إليها، وأوجد في ناصية الإنسان خطوطاً ليسهل انحراف العرق يميناً ويساراً، وجعل الشعر على أشفار العين صيانة لها من الدخان والغبار، وقعّر الأخمص من القدمين لتسهيل الوقوف والمشي، وقد قال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): «كلّ شيء في هذا الكون الواسع (يعني


(1) س 17 الإسراء، الآية: 15.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 44.

(3) س 13 الرعد، الآية: 13.

(4) س 59 الحشر، الآية: 21.

(5) س 2 البقرة، الآية: 74.

(6) س 41 فصّلت، الآية: 21.

147

الجماد والنبات والجسد الإنساني والحيواني) يحمل معه قانونه الربّاني الصارم الذي يوجّهه ويرتفع به مدى ما يتاح له من ارتفاع وتطوّر، فالبذرة يتحكّم فيها قانونها الذي يحوّلها ضمن شروط معيّنة إلى شجرة، والنطفة يتحكّم فيها قانونها الذي يطوّرها إلى إنسان، وكلّ شيء: من الشمس إلى البروتون، ومن الكواكب السيّارة في مدار الشمس إلى الالكترونات السيّارة في مدار البروتون، يسير وفق خطّة، ويتطوّر وفق إمكاناته الخاصّة»(1).

وهناك ما يكون أعلى درجة في سلّم الوجود من الجمادات والنباتات وهي الحيوانات؛ فإنّها تملك شيئاً من الإرادة ونحواً من الشعور، ولا تتدبّر كلّ اُمورها بالجبر كما في الجمادات والنباتات، فسلّط الله عليها لتمشية اُمورها الغرائز، فهي في الحيوانات بمنزلة الجبر في الجمادات والنباتات، فالحيوان بغريزته يحسّ بالجوع فيأكل أو بالعطش فيشرب الماء، أو بالحاجة الجنسيّة فيديم عن هذا الطريق بقاء جنسه وما إلى ذلك، وهذا المقدار من تدبير اُمور الحيوانات يكفي لبلوغها الكمال المترقّب لها.

وهناك ما يكون أعلى درجة في سلّم الوجود من الحيوانات، فيمتلك الإرادة الكاملة والإدراك الكامل، وهو الإنسان والجنّ والملك، وهذا الثالث لا يمتلك الشهوات وإنّما يمتلك العقل، فلا يبلغ في الكمال ما يمكن للإنسان أن يبلغه؛ لأنّ بلوغه إيّاه يتوقّف على ضغطه بإرادته على شهواته وتضحيته لرغباته وميولاته النفسيّة، في حين أنّ الملك يفقد ذلك. والإثنان الأوّلان ـ وهما الإنسُ والجنّ ـ لا شكّ في أنّ أشرفهما هو الإنس، وبامتلاكه للإرادة من ناحية، وللعقل من ناحية اُخرى، وللشهوات من ناحية ثالثة، وللقدرة والسلطنة والاختيار أصبح قادراً على رقيّ مدارج الكمال التي لا يرقى إليها الجماد والنبات، بل ولا


(1) الفتاوى الواضحة: 63.

148

الملك عن طريق التضحيات وتحصيل الملكات الفاضلة من الإيثار والوفاء والصدق، وما إلى ذلك وعلى رأسها طاعة المولى سبحانه وتعالى.

إلّا أنّ بلوغه مرتبة الكمال في الدنيا من ناحية، والجزاء الأوفى في الآخرة من ناحية اُخرى لا يكون عن طريق الجبر؛ لأنّه خلف مقام الإرادة التي بها يتمّ الكمال، فمن التزم بالصدق والأمانة وإطاعة مولاه أو ما إلى ذلك من صفات الكمال بالجبر والاضطرار لم يكن محموداً ولم يكن بالغاً مرتبة الكمال، وإنّما يبلغ الكمال بفعل الحسن باختياره، وبالإيثار والوفاء والصدق وما إلى ذلك بمحض إرادته، وكذلك لا يكون عن طريق الغريزة؛ لأنّها بمنزلة الجبر وقريبة منه فتمنع عن الوصول إلى الكمال أو بلوغ الجزاء الأوفى.

وعليه فيدور الأمر بالنسبة للإنسان ـ ويلحق به الجنّ ـ بين: أن يهمله الله تعالى ولا يهتم بتكميله، وحاشاه سبحانه وتعالى عن إهماله لأشرف مخلوقيه، أو يدبّر أمره عن طريق الجبر أو الغريزة، وهما ينافيان الهدف الذي لأجله ركّبت الإرادة والشهوات والعقل في الإنسان، وهو فتح باب رقيّه لمدارج الكمال ونيله لاستحقاق الجزاء الأوفى، أو يرسل الرسل إليه؛ لأنّ عقل البشر وحده عاجز عن ارتقاء تلك الدرجات؛ لعدم دركه لكثير من الاُمور من ناحية، ولمغلوبيّة العقل للشهوات في ما يدرك إلّا بمعونة الشرع وبالوعد والوعيد والإرشاد من ناحية اُخرى، ولو أنّ الله تعالى أهمل الناس بعدم إرسال الرسل إليهم فسيضلّون عن سلوك طريق الكمال، وفي الوقت نفسه لا يكون لله عليهم الحجّة، ولم يكن من الصحيح أن يفرّق الله بين سعيدهم وشقيّهم في يوم القيامة بالثواب والعقاب؛ لعدم إتمام الحجّة عليهم، بل كانت لهم الحجّة على الله كما أشارت إلى هذا الأمر الآيات التي استهللنا البحث بها كقوله تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل﴾.

ومع هذا الهدف الأصلي لإرسال الرسل يوجد هدفان آخران:

 

149

أحدهما: إقامة العدل في العالم، وهذا هدف في ذاته من ناحية، ومقدمة لرقيّ مدارج الكمال من ناحية اُخرى، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط﴾(1)، ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(2)، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه﴾(3).

وإقامة العدل في العالم لا يمكن إلّا بالتوفيق بين المصالح الفرديّة والمصالح الاجتماعيّة، فإنّ الإنسان بطبيعته ميّال عادة إلى مصالحه الفرديّة وهي ـ في إطار المادّيات الدنيويّة وبقدر فهم الإنسان الاعتيادي ـ في تعارض شديد مع المصالح الاجتماعيّة، وهذا التوفيق هو الذي يحقّقه الأنبياء عن طريق فتح باب الالتذاذ بالقيم الخلقيّة من ناحية، وتوضيح مصالح عالم الآخرة للناس من ناحية اُخرى.

ثانيهما: إسعاد الحياة الدنيا المادّية ورفاهيّتها؛ إذ ليس الدين ينشد إسعاد الحياة الآخرة فحسب، ولا ترقية الإنسان مراقي الكمال فحسب، بل يهدف إلى تحقيق الرفاهيّة المادّية في الحياة الدنيا أيضاً، قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾(4).

2 ـ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُون﴾(5).

3 ـ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً﴾(6).


(1) س 57 الحديد، الآية: 25.

(2) س 38 ص، الآية: 26.

(3) س 4 النساء، الآية: 105.

(4) س 7 الأعراف، الآية: 96.

(5) س 5 المائدة، الآية: 66.

(6) س 11 هود، الآية: 52.

150

4 ـ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّات وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾(1).

والخلاصة: أنّ الناس لو اتّبعوا الرسول لأصبحوا سادة الدنيا والآخرة، وإلّا فلا يكون الأمر أفضل ممّا ترى اليوم من نشوب الحروب وألوان الظلم والجور والاستهتار بالقيم الإنسانيّة والخلقيّة، وتفشّي ألوان البؤس والشقاء والحرمان، والسبب كلّه يعود إلى ما أشرنا إليه من ضعف عقل البشريّة من ناحية، وغلبة الشهوات والأهواء عليه من ناحية اُخرى، فالسيادة والملوكيّة الحقيقيتان في الدنيا والآخرة مرتبطتان باتّباع رسالة السماء.

ويعجبني هنا ذكر هذه الرواية الطريفة: «لمّا أظهر رسول الله(صلى الله عليه وآله) الدعوة بمكّة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبابنا وفرّق جماعتنا، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالاً حتّى يكون أغنى رجل في قريش ونملّكه علينا. فأخبر أبوطالب رسول الله(صلى الله عليه وآله) بذلك، فقال: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته، ولكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنّة. فقال لهم أبوطالب ذلك فقالوا: نعم وعشر كلمات. فقال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): تشهدون أن لا إله إلّا الله وأ نّي رسول الله. فقالوا: ندع ثلاث مئة وستّين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً؟! فأنزل الله تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب﴾»(2).

* * *


(1) س 71 نوح، الآية: 10 ـ 12.

(2) راجع تفسير علي بن إبراهيم 2: 228 ـ 229، والآيات في سورة 38 ص، الآية: 4 ـ 5.

151

 

البحث الثاني: أدلّة النبوّة

 

قد ذكرت تحت هذا العنوان عدّة أدلّة:

 

الدليل الأوّل: إخبار نبيّ سابق

 

كماوردفيالقرآنالكريمبشأنرسول الله(صلى الله عليه وآله):

1 ـ ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد﴾(1).

2 ـ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون﴾(2).

3 ـ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَر﴾(3).

وهذا الوجه صحيح، ولكنّه ليس هو الوجه الأصلي؛ لاحتياجه إلى دليل سابق على نبوّة النبيّ السابق.

 

الدليل الثاني: مضمون الدعوة

 

لا إشكال في أنّ مضمون الدعوة يلقي ضوءاً واضحاً على صدق الرسالة


(1) س 61 الصفّ، الآية: 6.

(2) س 2 البقرة، الآية: 146.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 157.

152

وكذبها، فبقدر ما يكون المضمون مشتملاً على مفاهيم ونُظُم وأخلاقيّات رفيعة وعالية ونظيفة، يكون ذلك شاهداً على كونها سماويّة وإلهية، ولو كانت مشتملة على الخرافات أو الأخلاقيّات الخسيسة أو النُظُم الساقطة عقلاً تبرهن بذلك على كذب مدّعي الرسالة.

ولا استغراب من بلوغ رقيّ المضمون حدّاً لا يحتمل صدوره من سلطان من سلاطين الأرض، بل الواقع هو ذلك. فما ظنّك بدين مشتمل على نماذج كثيرة من مفاهيم وأحكام وأخلاقيّات لا يمكن أن يتصوّر أرقى منها، من قبيل: الاهتمام الجدّي بالالتزام بأرقى مستويات الخلق الرفيع حتّى مع أعدى عدوّه، فهل هناك عدوّ لله وللإسلام أكبر وأشدّ عداءً من المشرك؟ في حين أنّ الإسلام يؤكّد على ضرورة إيجار المشرك الذي استجارك ثمّ إبلاغه مأمنه عملاً بعهد الإيجار معه، في حين أنّه بمجرّد وصوله إلى مأمنه قد يحارب الإسلام بالسيف، وأيّ سلطان من سلاطين الأرض يحتمل ـ بحسب نُظُم الطبيعة ـ وصوله إلى هذا المستوى من رحابة الصدر في التمسّك بالأخلاق الرفيعة؟! قال الله تعالى:﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾(1)، ويؤكّد على ضرورة الوفاء بالعهد مع أعدى عدوّه، بالرغم من أنّ الإسلام كان وقتئذ يعيش ذروة قدرته ولم يكن يحتاج إلى مداهنة العدوّ، قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين﴾(2)، وقال أيضاً: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ


(1) س 9 التوبة، الآية: 6.

(2) س 9 التوبة، الآية: 4.

153

يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(1).

ومن قبيل أمر الأولاد بخفض جناح الذلّ للوالدين، ولو كانا من أعدى أعداء الله، أي كانا من المشركين، قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(2)، ﴿وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾(3)، ﴿وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾(4)، ﴿وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾(5).

والدليل على أنّ هذه الآيات تشمل الوالدين المشركين هو ما ورد في بعضها من النهي عن قبول قولهما في الأمر بالشرك، فهذا يعني أنّ الله يعلّم الأولاد على التذلّل والتخشّع للوالدين ولو كانا من أشدّ أعداء الله وهم المشركون، لا لشيء إلّا للحقّ الأخلاقيّ الثابت لهما على الولد؛ لكونهما من المقدّمات الإعداديّة لوجوده؛ ولتحمّل الاُمّ عناء الحمل والوضع والرضاع، على الرغم من أنّهما قد يكونان قد فعلا ما فعلا، وتحمّلت الاُمّ ما تحمّلت لإرضاء رغبات نفسيّة لا أكثر


(1) س 9 التوبة، الآية: 7.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 23 ـ 24.

(3) س 31 لقمان، الآية: 14 ـ 15.

(4) س 29 العنكبوت، الآية: 8.

(5) س 46 الأحقاف، الآية: 15.

154

من ذلك، وأيّ سلطان أرضيّ يمكنك أن تتصوّره آمراً لرعيته بخفض جناح الذلّ لأعدى أعدائه وألدّهم؟

وأيّ دين غير سماوي يستطيع أن يربّي أحداً بمستوى المواساة بترك شرب الماء عن عطش، حال بينهم وبين السماء كالدخان، بالرغم من أنّ شربه لم يكن يكلّفه تأخير الماء عن إمام زمانه كي يعدّ ذلك إيثاراً، بل كان مجرّد المواساة البحت وكأنّه افترضه واجباً على نفسه إلى حدّ قال:

والله ما هذا فعال دين
ولا فعال صادق اليقين
 

أفليس هذا المستوى من الخلق الإسلامي الرفيع فوق ما يتصوّر في التربية الطبيعيّة الأرضيّة؟

فإذا كانت الرسالة مليئة بنماذج من هذه الخلقيّات الرفيعة، وكذلك بنُظم وقوانين حكيمة متقنة، أفلا يورث ذلك القطع بسماويّة الدين وصحّة الرسالة وصدق الرسول؟

 

الدليل الثالث: تجميع قرائن مختلفة

 

إنّ القرائن المختلفة من ظروف الرسول وبيئته وحالاته، وما إلى ذلك قد يورث بعضها أو مجموعها القطع بصحّة الرسالة وصدق الرسول، فمثلاً كون الرسول صادقاً وأميناً لدى الناس مدّة حياته الطويلة قبل البعثة، وكذلك خروجه من بيئة جاهلة ضالّة منهمكة في الخرافات والحروب والرذائل، وعدم تتلمذه لدى أيّ عالم من العلماء وعدم قراءته وكتابته وإتيانه على الرغم من كلّ ذلك بأرقى برنامج كامل شامل للحياة السعيدة، وكذلك كون القريبين منه والمؤمنين

155

به من المتّسمين بالصلاح وسلامة النفس، وما إلى ذلك من القرائن يوجب بمجموعه بل ببعضه اليقين بالصدق.

وقد نقل عن قيصر ملك الروم استناده إلى هذا الدليل في تصديق النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فإنّه عندما كتب إليه الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله) رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الذي أتى به، أخذ ـ بعد استلامه الرسالة ـ يتأمّل في عبارات الرسول وكيفية الكتابة حتّى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجوّل في الشام والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب وله اطّلاع على أخلاقه ونفسيّاته، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان وعدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام، فاُحضروا إلى مجلس قيصر فطرح عليهم الأسئلة التالية:

قيصر: كيف نسبه فيكم؟

أبو سفيان: محض أوسطنا نسباً.(يعني أعلانا نسباً).

قيصر: أخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول فهو يتشبّه به؟

أبو سفيان: لا، لم يكن في آبائه من يدّعي ما يقول.

قيصر: هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟

أبو سفيان: لا.

قيصر: أخبرني عن أتباعه منكم، من هم؟

أبو سفيان: الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء، وأمّا ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد.

قيصر: أخبرني عمّن تبعه، أيحبّه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟

أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه.

قيصر: أخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟

 

156

أبو سفيان: سجال، يدال علينا وندال عليه.

قيصر: أخبرني هل يغدر؟

أبو سفيان: ـ لم أجد شيئاً ممّا سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت ـ: لا ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره (وأضاف أبو سفيان بأنّ قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه).

ثمّ إنّ قيصر أبان وجه السؤال عن الاُمور السابقة، وأنّه كيف استنتج من الأجوبة التي سمعها من أبي سفيان أنّه نبيّ صادق بقوله:

سألتك كيف نسبه فيكم فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبيّ إذا أخذه لا يأخذه إلّا من أوسط قومه نسباً.

وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله فهو يتشبّه به، فزعمت أن لا.

وسألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه، فزعمت أن لا.

وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنّهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء، وكذلك أتباع الأنبياء في كلّ زمان.

وسألتك عمّن يتبعه أيحبّه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أن لا يتبعه أحد فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه.

وسألتك هل يغدر، فزعمت أن لا، فلئن صدقتني عنه ليغلبنّي على ما تحت قدميّ هاتين، ولوددت أ نّي عنده فأغسل قدميه، انطلق لشأنك.

قال أبو سفيان: فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يديّ بالاُخرى وأقول: إي عباد الله! لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة، أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام(1).


(1) الإلهيات 2: 112 ـ 114 نقلاً عن تاريخ الطبري 2: 290 ـ 291.

157

 

الدليل الرابع: الإعجاز بمعنى خرق قوانين الطبيعة

 

وقد استدلّ العلماء رحمهم الله بذلك على النبوّة بحجّة أنّ إجراء المعجز على يد المتنبّئ الكاذب تغرير من قبل الله تعالى لعباده بالجهل والضلال، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

إلّا أنّ اُستاذنا الشهيد(قدس سره) لم يقبل هذا النمط من الاستدلال وقال: إنّه لولا وجود دلالة سابقة للإعجاز على حقّانيّة الرسول لما كان في إجرائه على يدي مدّعي الرسالة كذباً إغراء بالباطل، فدلالة الإعجاز على حقّانيّة الرسول ثابتة قبل هذا النوع من الاستدلال وبقطع النظر عنه(1).

أقول: يمكن أن يدّعي أحَدٌ كدفاع عن المشهور بأنّ الإعجاز له دلالة لدى عامّة الناس البسطاء على صدق مدّعي الرسالة يقيناً، وعندئذ فمن حق خاصّة الناس الذين لا ينغرّون بالحجج الوهميّة أن يستدلّوا على كشف الإعجاز عن الحقّانيّة، بأنّه لو كان يجرى على يد كاذب لكان في ذلك إغراء لعامّة الناس، وهذا غير جائز على الله سبحانه.

وأمّا أصل دلالة الإعجاز على حقّانيّة الرسول سابقاً وقبل الالتفات إلى نكتة التغرير فكلام متين، فإنّ من يأتي إلينا رسولاً من قبل شخص، ويستشهد لصدقه بإراءة ما هو من مختصّات المرسل وقد جعله عند الرسول علامة على أنّه جاء من قبله ـ كخاتم المرسل أو كرسالة تؤيّده أو نحو ذلك ـ نجزم بصدقه؛ إذلولا أنّه قد جاء من قبله حقّاً فمن أين له هذا الشيء الذي هو من مختصّات المرسل؟! وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ خرق قوانين الطبيعة أمر مختصّ


(1) راجع كتابنا مباحث الاُصول، الجزء الأوّل من القسم الثاني: 508.

158

بخالق الطبيعة ومقنّن تلك القوانين أو المعطى من قبله ذلك، فلولا صدق هذا الرسول ومجيئه من قبل الله فمن أين له بما هو من مختصّاته؟

 

الطرق المتصوّرة للإعجاز:

ثمّ إنّ الذي أشرنا إليه من أنّ الإعجاز يكون خرقاً لقوانين الطبيعة، والذي لا يوجد بحدّ ذاته إلّا لدى خالق الطبيعة ونُظُمها يتصوّر بعدّة طرق مذكورة من قبل علمائنا العظام، وكلّها اُمور معقولة:

الأوّل: أن يكون خرق تلك القوانين من قبل الله مباشرة بسبب طلب الرسول منه ذلك، وهو باعتباره خالقاً للطبيعة وواضعاً لقوانينها يستطيع خرقها.

الثاني: أن يكون الرسول قد علّمه الله تعالى عوامل طبيعيّة اُخرى تكون بدلاً من العوامل الظاهريّة التي يعلمها الناس، فبإعمالها يحقّق الرسول الغرض. والخرق لقوانين الطبيعة هنا إنّما يكمن في الوصول إلى تلك العوامل الاُخرى من دون تحقيق الوسائل الطبيعيّة لكشفها، من قبيل وسائل الكشوف الحديثة اليوم التي كشفت بها كثير من العوامل الطبيعيّة التي لم تكن منكشفة في قديم الزمان.

الثالث: تصرّف النبيّ نفسه بولاية تكوينيّة وقوّة الروح المعطيتين له من قبل الله، وهنا يكمن خرق قوانين الطبيعة في الوصول إلى تلك الولاية أو قوّة الروح عن غير وسائل طبيعيّة لذاك الوصول، فلئن كان أصحاب الرياضات يصلون إلى بعض مستويات قوّة الروح بوسائل طبيعيّة رياضيّة، فالرسول الذي لم يقم بتلك الرياضات ولم يتعلّم من أحد تلك الأساليب تراه يفعل ما هو أقوى وأكبر ممّا يفعله اُولئك؛ فيبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.

وكذلك السحرة يوهمون أعين الناس ويجعلونهم يتخيّلون ما يفعلونه بوسائل طبيعيّة، وهي أساليب السحر التي تعلّموها بالطرق الطبيعيّة، في حين أنّ

159

الرسول لا يسلك تلك الطرق والوسائل، ولكنّه يحقّق واقع ما يريد وليس مجرّد تخييل، ومن الطبيعي عندئذ أن يكون السحرة أوّل من يؤمن؛ لأنّ الوسائل الطبيعيّة للسحر واضحة لديهم: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاَْعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِر وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾(1)، وقال أيضاً عزّ من قائل:﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْر عَظِيم * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُون﴾(2).

وقد اتّضح ممّا أشرنا إليه أنّ المعجز لا يشتبه بعمل السحرة ولا بعمل المرتاضين ولا بعمل علماء الطبيعة الذين يعملون ببركة علومهم واكتشافاتهم ما لو كان يُعمل قبل تلك الاكتشافات لكان يُبهر العقول، كإنارة العالم بالكهرباء، أو شفاء المرضى بعلاجاتهم الجبّارة، أو إرسال الأقمار الصناعيّة إلى السماء، أو إنزال عدد من البشر أو الموادّ على كرات اُخرى، أو ما إلى ذلك. فالإعجاز وحده هو الذي يكون خرقاً لقوانين الطبيعة، أمّا السحر فهو عمل تخييلي لا واقعي قائم على اُسس طبيعيّة يتعلّمها الساحر في دروس مخصوصة واكتشافات مدروسة، وكذلك الأعمال الرياضيّة لها طرقها الطبيعيّة يصل إليها المرتاضون بعد معاناة طويلة من الرياضات التي يتحمّلونها كي يبلغوا قوّة روحيّة مخصوصة، كما أنّ العلوم والاكتشافات الحديثة أيضاً ليست إلّا اُموراً طبيعيّة وصل إليها الإنسان بعد جهد جهيد ومعاناة طويلة.

 


(1) س 20 طه، الآية: 66 ـ 70.

(2) س 7 الأعراف، الآية: 116 ـ 122.

160

 

البحث الثالث: الوحي

 

قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَر أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم﴾(1).

والظاهر أنّ قوله: ﴿مِن وَرَاء حِجَاب﴾ إشارة إلى الصوت الذي يخلقه الله في موجود يسمعه النبيّ، ولا يرى صاحب الصوت الأصلي وهو الله سبحانه، وذلك كالصوت الذي خلقه الله في الشجرة أو في نار في الشجرة لموسى(عليه السلام)، قال عزّ من قائِل: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسىَ الاَْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاَِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَر أَوْ جَذْوَة مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الاَْيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين ﴾(2)، وقال أيضاً سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾(3)، وقوله: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ إشارة إلى إرسال الملك لإيصال الوحي إلى النبيّ كما قال الله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ * عَلَى قَلْبِك﴾(4)، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى﴾(5).

والوحي تارة يستعمل في مقابل هذين القسمين، أعني سماع الصوت ونزول الملك، واُخرى يشمل هذين القسمين، ففي الآية التي بدأنا بها الحديث


(1) س 42 الشورى، الآية: 51.

(2) س 28 القصص، الآية: 29 ـ 30.

(3) س 27 النمل، الآية: 8 ـ 9.

(4) س 26 الشعراء، الآية: 193 ـ 194.

(5) س 11 هود، الآية: 69.

161

استعمل في مقابل هذين القسمين، في حين أنّه طُبّق الوحي في القرآن في قصّة موسى(عليه السلام)على الصوت الذي سمعه موسى(عليه السلام)، قال الله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاَِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَس أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾(1).

وكذلك يطلق الوحي على ما كان يأتي به جبرئيل(عليه السلام)على رسول الله(صلى الله عليه وآله)وهو أحد التفسيرين المذكورين لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾(2).

وعلى أيّة حال فالوحي بالنسبة للأنبياء قد يستعمل بمعنى عامّ يشمل الوحي عن طريق الملك، أو عن طريق خلق الصوت في جسم أو مكان، بل وعن طريق الرؤيا أيضاً، كما في قصّة رؤيا إبراهيم(عليه السلام) لذبح ولده، وقصّة رؤيا رسول الله(صلى الله عليه وآله)لدخول المسلمين المسجد الحرام آمنين، وقد يستعمل بمعنى خاصّ في مقابل هذه الأقسام، وهو وحيٌ مباشر لله إليه، ونحن يستحيل علينا طبعاً أن ندرك حقيقته، كما يستحيل على من ولد أعمى من بطن اُمّه أن يدرك حقيقة الرؤية بالعين أو حقيقة اللون أو حقيقة النور، ولكن المقدار الذي نحدسه هو أن يكون سنخ إدراك حُضوري، وتوضيح المقصود: أنّه قد مضى منّا في بحث التوحيد أنّ الإيمان بالله تعالى أمر فطري، وقد مضى تفسير الفطريّة بأمرين، أحدهما: البداهة ودركه بالوجدان كما في البديهيّات الفطريّة، والثاني: العلم الحضوري بالله تعالى، وقلنا: إنّ المتيقّن من ذلك هو المعنى الأوّل، أمّا المعنى الثاني ـ وهو العلم الحضوري ـ فلا دليل قطعي لدينا عليه وإن كان ثبوته لبعض


(1) س 20 طه، الآية: 9 ـ 14.

(2) س 53 النجم، الآية: 8 ـ 10.

162

أولياء الله أمراً ممكناً. والوجه في عدم الدليل عليه: أنّ المخلوق ـ على ما نقّح في محله ـ وجود ربطيّ بالخالق، وليس وجوداً مستقلاًّ في مقابل الخالق مع فرض علاقة الخلق أو العلّيّة والمعلوليّة بينه وبين الخالق؛ فإنّ هذا خلف الخلق بل هو عين تلك العلاقة وذاك الربط، وهذا إنّما يقتضي إحاطة الخالق بالمخلوق، وكون المخلوق معلوماً حضوريّاً للخالق، كما أنّ مخلوقات ذهننا معلومة بالعلم الحضوري لنا وليس العكس، أي ليس من الضروري كون الخالق معلوماً حضوريّاً للمخلوق؛ لأنّ الخالق هو المحيط بالمخلوق وليس المخلوق محيطاً بالخالق.

ومن الممكن افتراض أنّ الأنبياء ـ لشدّة قربهم إلى الله ـ لهم العلم الحضوري بالله تعالى ولو في بعض الأحيان، وهذا أحد التفسيرين لقوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾(1)، فلعلّ الوحي المباشر يكون في حالة العلم الحضوري بالله تعالى.

ويشهد لذلك الثقل الذي كان يحسّ به النبيّ(صلى الله عليه وآله) في وقت الوحي المباشر على ما ورد في بعض الأحاديث، فعن زرارة قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): جعلت فداك، الغشية التي كانت تصيب رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا نزل عليه الوحي؟ قال: فقال: ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد، ذاك إذا تجلّى الله له»(2).

ولئن كان موسى(عليه السلام) لم يتحمّل تجلّي الله للجبل وليس له فخرّ صعقا، فيكفي فخراً لرسولنا الأعظم(صلى الله عليه وآله) أنّه كان يتحمّل تجلّي الله له مباشرةً في بعض حالات


(1) س 53 النجم، الآية: 11 ـ 15.

(2) البحار 18: 256، الباب 2 من أبواب أحوال الرسول(صلى الله عليه وآله) من البعثة إلى نزول المدينة، الحديث 6.

163

الوحي، إلّا أنّه كان يحسّ بالثقل.

وقد تقول: إنّ تجلّي الله تعالى للإنسان بمعنى علم الإنسان به علماً حضوريّاً مستحيل؛ لما مضى من أنّ الخالق هو المحيط بالمخلوق، ولا يعقل أن يكون المخلوق ـ الذي هو عين الربط ـ محيطاً بالخالق، والعلم الحضوري إنّما يكون بإحاطة العالم بذات المعلوم.

ولكن الواقع أنّناإنّما أشرنا إلى نكتة: أنّ الإحاطة هي للخالق بما ليست حقيقته إلّا عين الربط به دون العكس لتوضيح أنّ هذا الالتصاق بين العبد وربّه لا يبرهن على العلم الحضوري بالله أو بالتوحيد، ولكنّا لا نجعل هذا برهاناً على عدم إمكان العلم الحضوري بالله؛ فإنّ العلم الحضوري به لا ينحصر افتراضه بافتراض الإحاطة الكاملة للعبد بربّه، بل يمكن افتراض الإحاطة النسبيّة بقدر ارتباط الربّ بهذا العبد عن طريق كون هذا العبد عين الربط به وفانياً فيه، ويحتمل اختلاف درجات العلم الحضوري، فلعلّ الرسول(صلى الله عليه وآله)كان عالماً بالله بالعلم الحضوري ببعض الدرجات في تمام أحواله، وكان يشتدّ علمه الحضوري بالله في حالة الوحي المباشر؛ ولهذا كان يحسّ بالثقل.

أمّا حينما كان ينزل عليه الوحي بواسطة جبرئيل(عليه السلام) فلم يكن عليه ثقل من هذا القبيل، بل كان ينزل عليه الوحي عندئذ بكمال الأدب من قبل جبرئيل، فعن عمرو بن جميع عن الصادق(عليه السلام) قال: «كان جبرئيل إذا أتى النبيّ(صلى الله عليه وآله) قعد بين يديه قِعدة العبد وكان لا يدخل حتّى يستأذنه»(1).

وا عجباً يستأذن الأمينُ
ببابه ويدخل الخؤون!
 

 

* * *

 


(1) المصدر السابق، الحديث 5.

164

 

البحث الرابع: عصمة الأنبياء

 

1 ـ ما معنى العصمة؟

عصمة الأنبياء عن الذنب لا تعطي معنى الانجبار على ترك الذنب، بل ذلك ينفي العصمة؛ إذ مع الجبر لا معنى للتكليف ولا فخر في ترك الذنب ولا قيمة له.

وكذلك لا تعني العصمة مجرّد العدالة؛ فإنّ العدالة إن هي إلّا ملكة الاعتصام عن الذنب في حالات الإغراءات الاعتياديّة، أمّا إذا اشتدّت الإغراءات أو ضعفت النفس بسبب طارئ ـ فوق ما يتصوّر عادة ـ فقد تزل قدم من كان عادلاً ويهوى إلى مكان سحيق، نعم لو تاب بعد ذلك وكانت الملكة موجودة أو رجعت، رجعت العدالة.

فالعصمة تعني: قوّة الرادع الإلهي إلى حدّ يقف أمام كلّ إغراءات العالم لو اجتمعت، فلا تضعُف النفس أمام جميع تلك الإغراءات فضلاً عن أن تضعف بسبب آخر.

وخير تعبير عن العصمة ما ورد عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى؟ نعُوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين»(1).

 


(1) نهج البلاغة، الخطبة 224.

165

2 ـ هل ينال العصمة غير المعصومين(عليهم السلام)؟

إنّ أصل مرتبة العصمة لا تختصّ بالمعصومين(عليهم السلام) بالمعنى المصطلح، فمثلاً لو جمعت جميع إغراءات العالم لم تكن بأقوى من إغراء الامتلاك للمشرعة بعد العطش ـ الذي حال بين أصحاب الحسين(عليه السلام) وبين السماء كالدخان ـ إلى شرب الماء، ومع ذلك لم يقف هذا الإغراء أمام العبّاس(عليه السلام) لا في مقابل الامتناع عن شرب حرام ولا مكروه، بل في مقابل شرب حلال طيّب طاهر لم يكن يضرّ بالحسين وأهل بيته(عليهم السلام)؛ إذ لم يكن يؤخّره شيئاً عن إيصال الماء إليهم، وإنّما ذلك لمجرّد المواساة، ومع هذا أحسّ أنّ دينه ويقينه يمنعه عن هذا الشرب فقال:

والله ما هذا فعال دين
ولا فعال صادق اليقين

ولك أن تقايس بين اعتصام العبّاس(عليه السلام) ـ الذي لم يكن معصوماً بالمعنى المصطلح ـ عن شرب الماء حينما ملك المشرعة في يوم عاشوراء واعتصام يوسف(عليه السلام) عن العمل القبيح حينما راودته التي هو في بيتها؛ كي ترى أيّهما كان أشدّ؟ هل ترك شرب الماء والعطش حال بينهم وبين السماء كالدخان، أو ترك الزنا لدى طغيان شهوة الجنس بقوّة الشباب مع توفّر كلّ وسائل المعصية واختفاء كلّ الموانع الظاهريّة واجتماع كلّ المغريات الشهويّة؟! والله إنّ الأوّل لاَشدّ، إلّا أنّ لله في أرضه أولياء كالعبّاس(عليه السلام) لا يُعرفون إلّا بصدفة تتّفق كما اتّفقت للعبّاس(عليه السلام)، وإلّا فهم مجهولون في الأرض معروفون في السماء، ولقد عجبتْ من صبر الحسين(عليه السلام)وأصحابه ملائكة السماوات.

والحاصل: أنّ أصل مرتبة العصمة يمكن تحصيلها لشخص غير معصوم بالمعنى المصطلح، وإنّما الذي يختصّ به المعصومون بالمعنى المصطلح تزوّدهم بهذا المستوى من النورانيّة والشفّافيّة العاصمة عن المعصية من قبل الله، ومن

166

أوّل الأمر وإلى آخر لحظة، في حين أنّ عصمة الآخرين اكتسابيّة ونتيجة التربية، ومتى ما ترك متطلّبات التربية تزول عنه تلك الشفّافيّة، ونورانيّة النفس الموجبة لعصمته عن المعاصي.

 

3 ـ أسباب العصمة:

قلنا: إنّ العصمة قد تكون اكتسابيّة وهي مرتبة من التقوى يستحيل معها أن تزلّ قدم العبد بتكاثر المغريات بالرغم من بقاء العبد على كونه فاعلاً مختاراً، ولكنّها متى ما زالت، تزول معها العصمة، وقد تكون إلهيّة ملازمة لوجود المعصوم(عليه السلام).

وهنا يأتي هذا السؤال: ما هي أسباب العصمة التي لو حصلنا عليها لأصبحنا معصومين ولو بعصمة اكتسابيّة؟

والجواب ـ بقدر ما ندركه بعقولنا الناقصة ـ هو أنّ أسبابها أربعة:

الأوّل: إدراك عظمة الربّ سبحانه وتعالى، فبقدر ما يكتمل هذا الإدراك تكتمل العصمة، وكيف يمكن لمن انمحى في عظمة الله وجلاله وجماله أن تخطر بباله معصيته فضلاً عن أن يعصيه؟! فإنّ الكون وما فيه يعتبر في مقابل عظمة الله لا شيء.

الثاني: إدراك خسّة المعصية وحقيقتها الدنيئة وواقعيتها القذرة، «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم»(1)، وقد نقل عن بعض عوام الشيعة الذي كان يتكلّم بفطرته أنّه قيل له: كيف تقولون: إنّ أئمّتنا لم يكن يخطر ببالهم


(1) خطبة المتّقين من نهج البلاغة.

167

المعصية؟ فلنقبل منكم أنّهم لم يكونوا يعصون، ولكن ما هذه المبالغة بالقول بعدم خطور المعصية في أذهانهم؟ فأجاب الشيعي بالبداهة وبمحض الفطرة: هل خطر ببالك يوماً ما أكل قاذورة الإنسان؟ فامتعض السائل من هذا الكلام وقال: كيف يخطر ببالي ذلك؟! فأجابه الشيعي أنّ المعصية عند أئمّتنا أخسّ وأقذر من هذا الشيء، فكيف تخطر ببالهم؟! إنّه جواب متين والتفاتة طريفة إلى دلالة الفطرة والوجدان على برهان العصمة.

الثالث: انكشاف الحجاب عن عين البصيرة ـ وليست الباصرة ـ كي يرى الإنسان شدّة العذاب وعظمة الثواب في يوم القيامة، كما وصف إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) بذلك المتّقين في قوله في خطبة همام: «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون... أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في اُصول آذانهم ...»(1)، وكيف يتصوّر صدور المعصية أو خطورها بالبال ممّن يقول: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً!»(2).

الرابع: اكتمال حبّ الله تعالى في قلب العبد المؤمن، فإنّه مع اكتمال حبّه لا يعقل صدور المعصية منه، وكيف لا وأنت ترى أنّ العشق المجازي بين الشباب والشابّات قد يصل إلى مستوى يستحيل صدور مخالفة المعشوق من العاشق،


(1) المصدر السابق.

(2) البحار 69: 209، الباب 33 من أبواب الايمان والكفر.