362

يتبادر إلى أذهاننا ـ نتيجة اُنس الذهن بالموازين المادّيّة في دار الدنيا ـ ميزان كموازيننا، وقد تناسب ذلك فكرة تجسّم الأعمال، وعليه أيضاً بعض الروايات، إلّا أنّ المعنى الأصلي للميزان أعمّ وأوسع من ذلك؛ لأنّه المقياس الذي يؤخذ به قياس الأشياء، فميزان الحرارة مثلاً في هذه الدنيا يختلف حاله عن ميزان الأمتعة، وميزان مستوى الفهم والعقل أو قوّة الذاكرة أو غير ذلك يختلف بعضها عن البعض الآخر.

وقد ورد في الأخبار لتشخيص ميزان يوم القيامة ميزانان معنويّان وكلّ واحد منهما قابل للتطابق مع الآخر:

أحدهما: أشخاص معيّنون يعتبرون مقاييس أو تعتبر أعمالهم مقاييس، فيوزن العاملون أو الأعمال بهم أو بأعمالهم.

ففي الحديث: «سئل الصادق(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ قال: الموازين الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)»(1)، وفي حديث آخر قال (عليه السلام): «الرسل والأئمّة من آل بيت محمّد(عليهم السلام)»(2)، وعن ابن عباس: «الموازين الأنبياء والأولياء»(3)، وفي رواية اُخرى: «نحن الموازين القسط»(4)، وقد ورد في زيارة إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «اَلسَّلامُ عَلى ميزانِ الاَْعْمالِ، وَمُقَلِّبِ الاَْحْوالِ، وَسَيْفِ ذِي الْجَلالِ، وَساقِي السَّلْسَبيلِ الزُّلالِ»(5).

ثانيهما: العدل، فقد روي عن هشام بن الحكم: أنّ من أسئلة الزنديق من


(1) البحار 7: 251، وانظر الكافي 1: 419، وتفسير البرهان 3: 61.

(2) تفسير البرهان 3: 61.

(3) المصدر السابق.

(4) كنز الدقائق 5: 41 نقلاً عن تفسير الصافي.

(5) راجع مفاتيح الجنان، الزيارة الاُولى من الزيارة المطلقة لأمير المؤمنين(عليه السلام).

363

الصادق(عليه السلام) قوله: فما معنى الميزان؟ قال(عليه السلام): «العدل». قال: فما معناه في كتابه: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُه﴾؟ قال: «فمن رجح عمله»(1).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأمّا قوله تبارك وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ فهو ميزان العدل، يؤخذ به الخلائق يوم القيامة، يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين»(2).

ولا تنافي بين الطائفتين؛ فإنّ المعصومين(عليهم السلام) هم مظهر العدل الحقيقي الكامل، فكونهم ميزاناً للأعمال يساوق كون العدل ميزاناً للأعمال وبالعكس.

هذا وقد ورد في بعض الأخبار اختصاص الميزان بأهل الإسلام، فقد ورد في الحديث عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «اعلموا عباد الله، أنّ أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين ولا ينشر لهم الدواوين، وإنّما يحشرون إلى جهنّم زمراً، وإنّما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام»(3).

 

الاُمور التي تثقّل الميزان:

نختم حديثنا عن الميزان بالإشارة إلى اُمور ورد في الأحاديث أنّها تثقّل الميزان:

1 ـ حسن الخلق بمعنى حسن المداراة مع الناس.

فقد ورد عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما يوضع في


(1) البحار 7: 249 نقلاً عن الاحتجاج.

(2) البحار 7: 250.

(3) الكافي 8: 75، كتاب الروضة، موعظة لعليّ بن الحسين(عليه السلام).

364

ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»(1).

2 ـالصلاة على محمّد(صلى الله عليه وآله) وآله.

ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال: «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمّد وآل محمّد، وإنّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به، فيخرج(صلى الله عليه وآله)الصلاة عليه، فيضعها في ميزانه، فيرجح به»(2).

3 ـحبّ أهل البيت(عليهم السلام).

فقد ورد عن إمامنا الباقر(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): حبّي وحبّ أهل بيتي نافع في سبعة مواضع أهوالهنّ عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(3).

 

 

 

* * *

 


(1) البحار 7: 249.

(2) الكافي 2: 494.

(3) البحار 7: 248، الباب 10 من أبواب المعاد.

365

 

4 ـ سوق الكفّار والمؤمنين إلى مثواهم الأخير

 

المرحلة الرابعة لمراحل عالم الآخرة أو يوم القيامة هي مرحلة سوق الكفّار والمؤمنين إلى مثواهم الأخير: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ...﴾(1)، ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ...﴾(2).

وعمدة البحث في هذه المرحلة الخلود، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاَِجَل مَّعْدُود * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ﴾(3).

ونحن إنّما بدأنا حديثنا في الخلود بهذه الآية المباركة دون باقي آيات الخلود؛ لأنّها الآية التي قد يتوهّم أنّها ضدّ الخلود، فلابدّ من بحث فيها يرفع هذا التوهّم.

وسبب التوهّم واضح، وهو الاستثناء الموجود من الخلود بلحاظ أهل النار وبلحاظ أهل الجنّة، وهو استثناء مشيئة الربّ تعالى، فقد يخطر بالبال أنّ هذا الاستثناء يعني اقتطاعاً زمنيّاً في آخر الأمر، وهذا يعني عدم الخلود.

ومن هنا قد يفترض أنّ هذه الآية لا علاقة لها بيوم القيامة؛ كي لا تنافي


(1) س 39 الزمر، الآية: 71.

(2) س 39 الزمر، الآية: 73.

(3) س 11 هود، الآية: 103 ـ 108.

366

الخلود في الجنّة والنار الاُخرويتين، فهي راجعة إلى عالم البرزخ.

إلّا أنّ هذا بعيد غاية البعد؛ لأنّ الصفات التي ذكرت في صدر الآية كلّها صفات يوم القيامة، وهي أنّه يوم مجموع له الناس، وأنّه يوم مشهود، وأنّ الله تعالى يؤخّره لأجل معدود، وأنّه يأتي في المستقبل فلا تكلّم نفس إلّا بإذنه، ومن الواضح أنّ هذه الصفات لا علاقة لها بعالم البرزخ.

أمّا قوله تعالى: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْض﴾ فلا يشهد لرجوع الأمر إلى عالم البرزخ؛ لأنّ السماوات والأرض موجودتان في يوم القيامة أيضا ولو بعد التبديل كما قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَات﴾(1).

وأمّا الجواب الحقيقي عن أصل الإشكال فهو: أنّ الاستثناء هنا لم يكن بمعنى الاقتطاع الزمنيّ، وإنّما هو مجرّد تعليق على مشيئة الله تعالى والذي هو ثابت في كلّ شيء، والشاهد على ذلك قوله عزّوجلّ بالنسبة لأهل الجنّة بعد الاستثناء المذكور: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ﴾، فلو كان هناك فناء لأهل الجنة أو للجنّة لم يكن العطاء غير مجذوذ.

وهذه القرينة وإن جاءت بعد الاستثناء بلحاظ أهل الجنّة، ولم ترد في الآية المباركة بلحاظ أهل النار قرينة مماثلة ولكن وحدة السياق أبطلت الدلالة على عدم الخلود في الآيتين.

ثُمّ إنّ استثناء المشيئة قد ورد أيضاً في القرآن في مورد آخر بشأن أهل النار، وذلك في سورة الأنعام، قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ


(1) س 14 إبراهيم، الآية: 48.

367

حَكِيمٌ عَليم﴾(1).

والجواب هنا أيضاً نفس الجواب، فإنّ الظاهر أنّ المقصود هو استثناء المشيئة فحسب والذي هو ثابت في كلّ شيء، وليس الاستثناء الزمني.

كما يحتمل هنا أيضاً ـ ولو ضعيفاً ـ إشارة الكلام إلى المؤمنين الفسقة الذين سينجون من النار بالشفاعة.

وقد يشكّك في أصل معنى الخلود فيقال: إنّ الخلود لا يعني الدوام الأبدي؛ لأنّه قد يستعمل بمعنى المكث الطويل.

إلّا أ نّني لا أظن أنّ صراحة الخلود في معنى الدوام التامّ أقلّ من صراحة مثل كلمة الأبد، أمّا استعماله في المكث الطويل فليس إلّا بقرينة، كما هو الحال في كلّ مجاز، وكما هو الحال في كلمة الأبد أيضاً فيقال مثلاً: إنّ فلاناً سجن من قبل الحكومة سجناً مؤبّداً، والمقصود بذلك ليس إلّا السجن الطويل المدّة، كما هو مصطلح اليوم، أو مدى العمر بقرينة أنّه ليس في الدنيا شيء مؤبّد؛ لأنّ أصل الدنيا غير مؤبّدة، ولأنّ عمر الإنسان غير مؤبّد فسينتهي السجن لا محالة.

ولو وقع الإصرار على عدم ظهور كلمة الخلود في الدوام الكامل بدعوى أنّه يستعمل في كلا المعنيين: الخلود والمكث الطويل، فالتصريح بالأبد أو الدوام أو نحو ذلك وارد في القرآن بشأن أهل الجنّة وبشأن أهل النار في موارد عديدة:

أمّا بشأن أهل الجنة فمن قبيل:

1 ـ قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة﴾(2).

2 ـ قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلا﴾(3).

 


(1) س 6 الأنعام، الآية: 128.

(2) س 4 النساء، الآية: 57.

(3) س 4 النساء، الآية: 122.

368

3 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾(1).

4 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم﴾(2).

5 ـ قوله تعالى:﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾(3).

6 ـ قوله تعالى:﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً﴾(4).

7 ـ قوله تعالى:﴿وَيُدْخِلْهُ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾(5).

8 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً﴾(6).

9 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه﴾(7).

10 ـ قوله تعالى:﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ...﴾(8).

وأما بشأن أهل النار فمن قبيل:

1 ـ قوله تعالى:﴿إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً﴾(9).

2 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾(10).


(1) س 5 المائدة، الآية: 119.

(2) س 9 التوبة، الآية: 22.

(3) س 9 التوبة، الآية: 100.

(4) س 18 الكهف، الآية: 2 ـ 3.

(5) س 64 التغابن، الآية: 9.

(6) س 65 الطلاق، الآية: 11.

(7) س 98 البينة، الآية: 8.

(8) س 13 الرعد، الآية: 35.

(9) س 4 النساء، الآية: 169.

(10) س 33 الأحزاب، الآية: 65.

369

3 ـ قوله تعالى:﴿فَإنَّ لَهُ نار جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيْها أَبَدَاً﴾(1).

4 ـ قوله تعالى:﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيم﴾(2).

5 ـ قوله تعالى:﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُون﴾(3).

6 ـ قوله تعالى:﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار﴾(4).

هذا ولولا الخلود في الجنّة لكان عيشهم منغّصاً بهادم اللذّات وهو الموت.

وقد سبق منّا بيان: أنّ أقوى نزعة فطرية في الإنسان وأقوى شهوة لهي شهوة الخلود، فهي ألحّ على الإنسان من شهوة الجنس، والتفسير المعقول لذلك هو أ نّا خلقنا للبقاء لا للفناء.

وأمّا أنّ الخلود لأهل النار ليس من صالحهم فهذا بسوء فعالهم وليس بتقصير أو ظلم من الله سبحانه وتعالى.

وأمّا ما ورد في بعض الروايات عن أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير الآية التي فيها استثناء مشيئة الله تعالى فهو التفصيل بين الاستثناء بلحاظ الجنّة والاستثناء بلحاظ النار، بحمل الأوّل على مجرّد التعليق على مشيئة الله والذي هو ثابت في كلّ شيء، وحمل الثاني على الفسقة الذين ليسوا خالدين في النار فهم يعذّبون في النار مدّة من الزمن ثُمّ يخرجون منها(5).

ولعلّ المقصود ليس هو التفصيل في مفهوم الاستثناء بين الموردين،


(1) س 72 الجنّ، الآية: 23.

(2) س 5 المائدة، الآية: 37.

(3) س 43 زخرف، الآية: 77.

(4) س 2 البقرة، الآية: 167.

(5) راجع كنز الدقائق 6: 247، حديث حمران، وحديث أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) نقلاً عن تفسير العيّاشي.

370

فكلاهما بمعنى التعليق على مشيئة الربّ الثابتة في كلّ شيء، وإنّما المقصود التفصيل بين المشيئتين: بأنّ الاُولى لن تتحقّق، والثانية سوف تتحقّق بشأن المؤمنين الفسقة دون الكفّار ومن يُلحق بهم.

وورد في حديث آخر أيضاً ـ لا بعنوان تفسير الآية ـ عن الحسن بن علي الناصر] ي [ عن أبيه، عن محمّد بن علي عن أبيه الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين(عليهم السلام) قال: «قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): صف لنا الموت فقال: على الخبير سقطتم، هو أحد اُمور ثلاثة يرد عليه: إمّا بشارة بنعيم الأبد، وإمّا بشارة بعذاب الأبد، وإمّا تخويف وتهويل وأمر مبهم لا يدرى من أيّ الفريقين هو:

فأمّا وليّنا المطيع لأمرنا فهو المبشَّر بنعيم الأبد، وأمّا عدوّنا المخالف علينا فهو المبشَّر بعذاب الأبد، وأمّا المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدري ما يؤول إليه حاله يأتيه الخبر مبهماً محزناً، ثُمّ لن يسوّيه الله عزّ وجلّ بأعدائنا، لكن يخرجه من النار بشفاعتنا، فاعملوا وأطيعوا ولا تنكلوا ولا تستصغروا عقوبة الله عزّ وجلّ، فإنّ من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلّا بعد ثلاث مئة ألف سنة»(1).

أيّها القارئ الكريم، حينما نجد أنفسنا في فراش الموت وقبل أن نتعرّض لحالة النزع، أيّ هول سنشعر به؛ لتركنا جميع ما نملك عدا أعمالنا؛ ولإقبالنا على عالم جديد مجهول لدينا؟ فكيف بنا لو نزلت سكرات الموت فاُرينا التخويف والتهويل والأمر المبهم حسب تعبير هذه الرواية؟

والجهل بالعاقبة قد فطّر قلوب جميع العارفين بالله، فماذا ينبغي أن يصنع بنا


(1) راجع كنز الدقائق 6: 245 حديث حمران، وحديث أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) نقلاً عن معاني الأخبار.

371

نحن الجهلة الغافلين؟ أسال الله تعالى أن يختم لنا بالسعادة، «اللهم اختم لنا بخير حتّى لاتضرّنا الذنوب»، وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام) عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام)عن عليّ(عليه السلام) أنّه قال: «حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة، وحقيقة الشقاوة أن يختم للمرء عمله بالشقاوة»(1).

وعلى أيّة حال فقد اتّضح بهذا العرض أنّ فكرة الخلود في الجنّة لا غموض فيها ولا شبهة.

 

شبهتان حول الخلود في النار وردّهما:

نذكر في نهاية الكلام في هذه المرحلة من مراحل المعاد شبهتين حول مسألة الخلود في النار:

الشبهة الاُولى: التمسّك بالآية الشريفة في سورة النبأ: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً * لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾(2)، فقد يتصوّر أنّ الآية تدلّ على انتهاء العذاب واللبث فيه بعد مضيّ أحقاب.

إلّا أنّ الواقع أنّ الأحقاب بمعنى المُدد الطويلة ـ غير معلومة الأمد أو معلومة الأمد على رأي من فسّر الحُقب بثمانين أو سبعين أو أربعين سنة ـ لا تدلّ على نفي الخلود؛ إذ لم يُذكر عدد للأحقاب تنتهي بانتهائه، بل قد تكون أحقاباً غير متناهية، وبكلمة اُخرى: أنّ الأحقاب بنفسها يمكن أن تكون أحقاباً متناهية، ويمكن أن تكون أحقاباً غير متناهية، فذكر هذه الكلمة لا يكون دليلاً على التناهي.

 


(1) راجع كنز الدقائق 6: 246 حديث حمران، وحديث أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) نقلاً عن الخصال.

(2) س 78 النبأ، الآية: 21 ـ 23.

372

ولو فرض إيحاء للعبارة بعدم الدوام فليس هذا الإيحاء قابلاً للمقاومة في مقابل التصريحات الماضية.

الشبهة الثانية: أنّ دوام العقاب مخالف لعدل الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه لم تصدر منهم إلّا المعصية المنتهية بالموت، فكيف يقابَلون بعذاب غير متناه؟

والواقع أنّ هذا الإشكال ينشأ من تخيّل أنّ العذاب في القيامة يكون شيئاً من قبيل التقاصّ لسحق العاصي حقّ المولى تعالى، فكأنّ المولى عزّوجلّ يريد أن يأخذ حقّه منه بالعذاب فيقال: إنّ حقّ العذاب من قبل المولى لن يكون بأزيد من عصيان العبد إيّاه، وقد كان العصيان مؤقّتاً محدوداً، فكيف يستعقب عذاباً أبدياً؟

إلّا أنّه لو كان الأمر كذلك لورد إشكال أعظم من ذلك على العقاب، وهو: أنّ الله تعالى غنّي عن أخذ حقّه، فلماذا يأخذ حقّه بالعذاب؟ فتفسير العذاب بذلك من أساسه باطل.

والأمر المعقول في تفسير عذاب الآخرة ليس إلّا أحد اتّجاهين:

الأوّل: أن يكون العذاب أثراً تكوينياً للعمل، فكما لا يمكن أن يعترض على ترتب مرض مستمرٍّ على أكلة خاطئة أو شرب شربة مخالف لإرشاد الطبيب بأنّ الخطأ الذي صدر من الفاعل لم يكن إلّا أكلة قليلة أو شربة واحدة، فلماذا يعذّب طول عمره بذاك المرض؟ ولا يصح أن يقال: إنّ من أخطأ بشرب السمّ لم يكن المفروض أن يجازى بأشدّ الاُمور وهو الموت والحرمان الدائم من حياته، كذلك لا يرد إشكال من هذا القبيل على عذاب الآخرة؛ فإنّ عمل الإنسان لا ينفكّ من الإنسان ﴿وَكُلَّ إِنسَان أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِه﴾(1)، وربما يكون أثر عمله


(1) س 17 الإسراء، الآية: 13.

373

العذاب الدائم من دون فرق في ذلك بين القول بتجسّم الأعمال ـ كما قد يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه﴾(1) وغير ذلك من الآيات ـ والقول بأنّ نسبة العقاب إلى العمل نسبة المعلول إلى العلّة.

الثاني: أن يكون العذاب أمراً استحقاقياً لظلمة النفس ورَينها الناتجين من المعاصي، وكان بالإمكان علاج ذلك في الدنيا بماء التوبة وبالخضوع للغيب، فإنّ الندم عن غيب يغسل النكتة السوداء التي ظهرت في القلب، وأمّا الندم الناتج من تحوّل الغيب إلى الشهود فلا يخلق تحوّلاً في النفس: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾(2).

ولعلّه يشير إلى هذا المعنى الحديث الذي ورد عن الصادق(عليه السلام) معلّلاً الخلود بقوله(عليه السلام): «إنّما خلّد أهل النار في النار؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا لو بقوا أن يُطيعوا الله أبداً ما بقوا، فالنيّات تخلّد هؤلاء وهؤلاء». ثُمّ تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه﴾(3). قال: «على نيّته»(4).

نعم الذين بقي في قلوبهم بصيص من النور: فإمّا أنّ نفس احتراقهم بالنار يصقل أنفسهم ويطهّرها، أو أنّه تدركهم الشفاعة آخر الأمر فيتحوّلون إلى الجنّة، أمّا لو لم يبق بصيص من النور في القلب فالظلمة والرَين لا ينفصلان عن الشخص، وماداما موجودين في القلب يستحق صاحبه العذاب، ولا يمكن


(1) س 99 الزلزلة، الآية: 7 ـ 8.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 28.

(3) س 17 الإسراء، الآية: 84.

(4) البحار 8: 347، الباب 26 من أبواب المعاد، الحديث 5.

374

تحصيل بصيص النور في ذاك العالم، وإنّما هو نور ينقله الإنسان معه إلى الآخرة من هذه الدنيا: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً﴾(1)، أي إنّ النور يجب أن يلتمس ممّا قبل عالم الآخرة وهو عالم الدنيا.

والخلاصة بناءً على هذا الاتجاه: أنّ استحقاق العذاب يكون لأجل الظلمة والرَين الثابتين على القلب وفقدان النور، وما داما دائمين فالعذاب دائم، وتحصيل النور لا يمكن إلّا بالرجوع إلى الوراء أي الدنيا، والرجوع إلى الدنيا لا ينفعهم لتحصيل النور؛ لأنّهم لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه، فهذا هو سرّ الخلود في النار.

وما ألطف تعبير القرآن عن هذه الحالة بخسران النفس، فقد قال عزّ من قائِل: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون﴾(2)، ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون﴾(3)، ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُون﴾(4)، ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُون﴾(5)، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَاب مُّقِيم﴾(6)، ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾(7).

 


(1) س 57 الحديد، الآية: 13.

(2) س 23 المؤمنون، الآية: 103.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 9.

(4) س 7 الأعراف، الآية: 53.

(5) س 11 هود، الآية: 21 ـ 22.

(6) س 42 الشورى، الآية: 45.

(7) س 6 الأنعام، الآية: 12.

375

 

خاتمة في الشفاعة

 

قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾(1)، وممّا يوجد بصريح القرآن في محكمة عدل الله في يوم القيامة هي الشفاعة، وأقصد بها في هذا البحث ما يسمّى بشفاعة المغفرة، أي إنّ هناك من ينجو من عذاب الله بسبب شفاعة الشافعين.

وبما أنّنا عرضنا هذا البحث بشيء من التفصيل في كتابنا «تزكية النفس» لا نرى مزيد حاجة هنا لشرحه، ولكننا نشير إلى ذلك باختصار؛ لأنّ الشفاعة مفردة من مفردات تلك المحكمة، وقد صرّح بها في آيات قرآنيّة كثيرة كالتي بدأنا الحديث بها.

إلّا أنّ شرذمة ممّن سمّوا أنفسهم باسم الإسلام وهم بعيدون عن الإسلام كلّ البعد قد أنكروا الشفاعة.

وقد روى السيّد الطباطبائي(قدس سره) في تفسيره(2) عن أمالي الصدوق، عن الحسين بن خالد، عن الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي. ثُمّ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل...».

قال السيّد الطباطبائي(قدس سره) في ذيل نقله لهذا الحديث: قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «...إنّما شفاعتي...» هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه(صلى الله عليه وآله وسلم).


(1) س 20 طه، الآية: 109.

(2) الميزان 1: 174 ـ 175.

376

وقال أيضا السيّد الطباطبائي(قدس سره) لدى نقل حديث تفسير المقام المحمود بالشفاعة: وهذا المعنى مستفيض مرويّ بالاختصار والتفصيل بطرق متعدّدة من العامّة والخاصّة... .

والأصل في إنكار الشفاعة ما هو المألوف غالبا في المحاكم الدنيوية من أنّ الشفيع قنطرة لإبطال الحقّ وإحقاق الباطل، فلئن كان المفروض أنّ القاضي يحكم بالعدل، وأنّ الشفيع جاء كي يؤثّر على حكم القاضي ويغيّره، فهذا يعني أنّ الشفيع جاء لكي يبطل حقّاً أو يحقّ باطلاً، وبما أنّ المفروض أنّ فضاء يوم القيامة منزّه عن أيّ لون من ألوان الباطل أو الظلم، فتدخّل الشفاعة فيه أمر غير معقول.

بل ربما أسرف بعض مخالفي الشفاعة إلى حدّ القول بأنّ الإيمان بالشفاعة مساوق للشرك.

وإنّما أسمينا ذلك بالإسراف لأنّ من الواضح أنّ الشفاعة إنّما تؤدّي إلى الشرك لو فرضت تدخّلاً في الأمر رغم إرادة الله تعالى وعلى خلاف ما يُرضي الله عزّ وجلّ، أمّا إذا قُرّر أنّه ﴿لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾(1)، وأن ليس حالها إلّا حال الدعاء الذي إن أراد الله استجابه وإن لم يرد رفضه، فلا معنى لافتراض الإيمان بها شركاً بالله إلّا إذا افترض أنّ الإيمان بالدعاء أيضاً شرك بالله.

وعلى أيّ حال فليس غريباً من مخالفي نهج القرآن الواضح إنكار الشفاعة، إنّما الغريب أن يقول من يعتبر في صفوف المؤمنين بالشفاعة: إنّ الشفاعة أمر صوريّ، وإنّ الله تعالى حينما يريد أن يغفر لأحد يفترض ظاهراً أنّ مغفرته إياه كان لأجل فلان الشفيع، وذلك إبرازاً لعظمة ذاك الشفيع واحترامه.


(1) س 21 الأنبياء، الآية: 28.

377

وإليك نصّ كلام هذا الباحث: «أمّا الشفاعة التي جاء الحديث عنها في الروايات المتعدّدة عن السنّة والشيعة فإنّها ليست حالة وساطة بالمعنى الذي يفهمه الناس في علاقاتهم بالعظماء لديهم الذين قد لا يستطيع الناس مخاطبتهم بشكل مباشر للحواجز المادّية الفاصلة بينهم وبين الناس؛ ولذلك يلجأ الناس إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودّة أو مصلحة أو موقع معيّن ليكونوا الواسطة في إيصال مطالبهم إليهم وقضاء حوائجهم عنده.

إنّ الشفاعة هي كرامة من الله لبعض عباده في ما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة، فيشفّعهم في من يريد المغفرة له ورفع درجته عنده؛ لتكون المسألة ـ في الشكل ـ واسطة في النتائج التي يتمثّل فيها العفو الإلهي والنعيم الرباني، تماماً كما لو كان النبيّ هو السبب أو كان الوليّ هو الواسطة، ولكنها ـ في العمق ـ إرادة الله لذلك ممّا لا يمكن لنبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو وليّ امتحن الله قلبه للإيمان أمر تغييرها في الاتجاه الذي تتحرّك فيه، وبذلك فهم يدرسون مواقع رضا الله في عباده ليقوموا بالشفاعة، أو ليأذن الله لهم بالشفاعة، وفي ضوء ذلك لا معنى للتقرّب للأنبياء والأولياء ليحصل الناس على شفاعتهم؛ لأنّهم لا يملكون من أمرها شيئاً بالمعنى الذاتي المستقل، بل الله هو المالك لذلك كلّه على جميع المستويات، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محدّدة ليس لهم أن يتجاوزوها، الأمر الذي يفرض التقرب إلى الله في أن يجعلنا ممن يأذن لهم بالشفاعة له، وهذا هو الذي نفهمه من آيات الشفاعة في القرآن التي تؤكّد على أنّها قضية تتّصل بالله، فليس لأحد أن يمارسها إلّا بإذنه في من ارتضاهم الله لينالوا عفوه قال الله تعالى: ﴿لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً «19/87» ﴾، ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن «20/109» ﴾،﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه «34/23» ﴾،

378

﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾(1).

وليس معنى إذن الله للشفعاء أنّه أعطاهم الحرّيّة في ذلك، أو أنّه يتقبّل منهم ذلك على أساس خصوصيات علاقاتهم ليتقرّب الناس منهم بالوسائل الخاصّة التي تثير مشاعرهم وتؤكّد علاقاتهم بهم بشكل شخصي كما هي الأشياء الشخصية، بل إنّ معنى ذلك أنّ الله جعل لهم هذه الكرامة ليستعملوها في ما يوافق رضاه؛ لأنّ المفروض أنّ رضاهم لا ينفصل عن خط رضاه، كما أنّ رضاه يتحرّك في آفاق حكمته لا في آفاق رغبات القريبين إليه بالمعنى الذاتي للمسألة.

وفي ضوء ذلك فإنّ الاستشفاع بالأنبياء والأولياء لا يمثّل خروجاً عن توحيد الاستعانة بالله؛ لأنّه يرجع في الحقيقة إلى طلب المغفرة من الله، والنجاة من النار من خلال ما اقتضته إرادة الله وحكمته في ارتباط عفوه بشفاعة هذا النبيّ أو الوليّ على أساس ما أراده الله من حكمته في ذلك»(2).

وحاصل هذا الكلام: أنّ الشفاعة لا تعني استجابة الله تعالى لرغبة الشفيع في المغفرة رغم عدم المغفرة لولا الشفاعة، وإنّما تعني أنّ الله تعالى حينما قرّر المغفرة لفلان أراد من الشفيع أن يشفع له حتّى تتم مغفرته إيّاه باسم طلب هذا الشفيع، وذلك نوع تكريم وتعظيم للشفيع.

أقول: إنّ الشفاعة الشكلية ـ حسب تعبيره ـ ينبغي أن يطيّب بها خاطر الأطفال ويكرّموا بها، لا خاطر الأنبياء والأوصياء والأولياء، ولا معنى لافتراضها مقاماً محموداً ولا لادّخارها لأهل الكبائر، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل.

 


(1) س 21 الأنبياء، الآية: 28.

(2) من وحي القرآن 25: 66 ـ 69.

379

ولئن فرض العجز عن حلّ إشكالات الشفاعة بمعناها الحقيقي فليس الطريق المعقول سلوكه هو القول بالشفاعة الشكلية، وإنّما الطريق الذي يكون سلوكه أكثر منطقية عندئذ هو إنكار الشفاعة لا سمح الله.

ولحل مشكلة الشفاعة أحد طريقين لا ثالث لهما:

الأوّل: ما ذهب إليه المرحوم الشهيد الشيخ المطهّري(قدس سره) من أنّ الشفاعة وإن كانت أمراً حقيقياً وليست أمراً صورياً وشكلياً ولكنّها طريق تكوينيّ لنزول الرحمة والمغفرة والتطهير من قبل الله تعالى إلى العبيد، فهي تبدأ من الله وتنتهي إلى العاصي عن طريق الأنبياء والأوصياء والأولياء والمؤمنين، بخلاف ما هو المتعارف في الدنيا من الشفاعة بين الناس ممّا يبدأ بالعاصي بطلبه من الشفيع، وينتهي بالحاكم أو السلطان ممّن له العقاب، فيعفو عن الذنب ويرفع عنه العقاب.

الثاني: ما يعني الالتزام بأنّ الشفاعة حتّى في ما لو بدئ بها عن طريق طلب المذنب وإلحاحه على الشفيع أو زيارته إياه أو نحو ذلك، لكنها في الحقيقة إثابة للمولى سبحانه على حسنات الشفيع، فيستجيب لشفاعته شكراً لما له من مقامات عالية إلهيّة، وليس ذلك بمعنى أن يتقبّل الله منه شفاعته لسحق حقّ مظلوم كما يتفق في الدنيا، بل إنّ الحق الذي يغفر للمذنب بطلب الشفيع إمّا أن يكون حقّاً إلهياً يتنازل الله تعالى عنه إثابةً للشفيع، أو يكون حقّاً من حقوق الناس يُرضي الله صاحبه بتعويضه إيّاه بما لا عينٌ رأت ولا اُذن سمعت، فصاحب الحق يتنازل عن حقّه طلباً لذلك التعويض.

وقد ورد في الحديث على ما رواه السيّد الطباطبائي(قدس سره) في تفسيره عن تفسير الفرات عن بشر بن شريح البصري قال: «قلت لمحمّد بن عليّ(عليه السلام): أيّة آية في كتاب الله أرجى؟ قال: فما يقول فيها قومك؟ قلت: يقولون:﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ

380

أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه﴾(1). قال: لكنّا أهل البيت لا نقول ذلك، قال: قلت: فأيّ شيء تقولون فيها؟ قال: نقول:﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾(2)، الشفاعة والله الشفاعة والله الشفاعة»(3).

وقد اختلفت الروايات في تشخيص أرجى آية في القرآن، فالرواية التي تلوناها آنفاً تشير إلى أنّ أرجى آية هي الآية التي أعطت لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ما يُرضيه، وهو لا يرضى إلّا بأكبر مقدار ممكن من الشفاعة.

وهناك رواية اُخرى رواها صاحب مجمع البيان عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾(4): «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية»(5).

وهناك رواية ثالثة عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما(عليهما السلام) يقول: إنّ عليّاً(عليه السلام) أقبل على الناس، فقال: أيّة آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾(6). قال(عليه السلام): حسنة وليست إيّاها: وقال بعضهم: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(7). قال(عليه السلام): حسنة وليست إيّاها. فقال بعضهم: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم﴾(8). قال(عليه السلام): حسنة وليست إيّاها. وقال بعضهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ


(1) س 39 الزمر، الآية: 53.

(2) س 93 الضحى، الآية: 5.

(3) تفسير الميزان 1: 176.

(4) س 4 النساء، الآية: 48.

(5) مجمع البيان، في ذيل تفسير الآية.

(6) س 4 النساء، الآية: 116.

(7) س 4 النساء، الآية: 110.

(8) س 39 الزمر، الآية: 53.

381

الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين﴾(1) قال(عليه السلام): حسنة وليست إيّاها. قال: ثمّ أحجم الناس فقال(عليه السلام): ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا والله ما عندنا شيء. قال(عليه السلام): سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله)يقول: أرجى آية في كتاب الله:﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الليْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين﴾(2). وقال(صلى الله عليه وآله): يا علي، والذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً، إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته اُمّه، فإن أصاب شيئاً بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلوات الخمس. ثُمّ قال(صلى الله عليه وآله): يا عليّ، إنمّا منزلة الصلوات الخمس لاُمّتي كنهر جار على باب أحدكم، فما ظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثُمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في اليوم، أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لاُمّتي(3).

ويمكن الجمع بين هذه الروايات الثلاث بافتراض الفرق بينها في النقاط المنظور إليها، فسعة الرجاء تارة ينظر إليها من زاوية سعة دائرة غسل الدرن الذي التصق بالنفس وإزالة الرين الذي التصق بالقلب نتيجة للذنب، فأوسع شيء بهذا الصدد هو أنّ الحسنات يذهبن السيّئات، فعلى المذنبين الذين يحبّون إصلاح أنفسهم أن يلتزموا بفعل الحسنات بعد السيّئات.

واُخرى ينظر إليها من زاوية سعة عدد الأفراد الذين يُرجى لهم النجاة من


(1) س 3 آل عمران الآية: 135 ـ 136.

(2) س 11 هود، الآية: 114.

(3) اُنظر البحار 82: 220، الباب 1 من كتاب الصلاة، الحديث 41.

382

الهلاك في يوم القيامة، فأرجى آية هي الآية التي لم تستثن أحداً من المذنبين غير التائبين من أمل المغفرة إلّا المشرك ومن بحكمه، فمن عداهم من العاصين قد فتح الله بشأنه أمل النجاة بإبداء احتمال تعلّق مشيئة الله بالعفو عنه؛ إذ لم يحتّم عدم العفو عن غير التائب إلّا عن المشركين.

وهذه الآية أعني قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ تجعل المؤمن بين الخوف والرجاء مهما كثرت ذنوبه وموبقاته مادام هو مؤمناً وليس مشركاً.

وروي في مجمع البيان في ضمن تفسير الآية عن مطرف بن شخير: أنّ عمر ابن الخطّاب قال: «كنّا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا بأنّه من أهل النار، حتّى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات».

وثالثة ينظر إليها من زاوية النجاة من دون استحقاق، وعندئذ فأرجى آية هي آية الشفاعة بلا إشكال، فإنّ النجاة لو كانت باستحقاق نفس العاصي لم يكن في نجاته بحاجة إلى الشفاعة، والوحيد الذي يستفيد العاصي منه باستحقاق غيره هي الشفاعة التي أشرنا إلى أنّ قبولها في الحقيقة مكافأة للشفيع على حسانته.

هذا وهنا بمناسبة آية ﴿يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ أروي هذه الرواية: حينما قدم وحشي قاتل حمزة عمّ الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى مكة أرسل هو وأصحابه كتاباً إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّا قد ندمنا على الذي صنعناه، وليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أ نّا سمعناك تقول وأنت بمكّة: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ

383

الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾(1)، وقد دعونا مع الله الهاً آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله وزنينا فلولا هذه لاتبعناك. فنزلت الآية: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً﴾(2)، فبعث بهما الرسول(صلى الله عليه وآله)إلى وحشي وأصحابه فلمّا قرأوهما كتبوا إليه: إنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نفعل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾(3)، فبعث بها إليهم فقرأوها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته. فنزلت: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾(4)، فبعث بها إليهم، فلمّا قرأوها دخل هو وأصحابه في الإسلام(5).

 

الأعراف

قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ *وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ


(1) س 25 الفرقان، الآية: 68 ـ 69.

(2) س 25 الفرقان، الآية: 70 ـ 71.

(3) س 4 النساء، الآية: 48.

(4) س 39 الزمر، الآية: 53.

(5) مجمع البيان في تفسير الآية (48) من سورة النساء.

384

* أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون﴾(1).

يبدو من هذه الآيات المباركة أنّه بعد ما يسكن أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار ويكون بينهما حجاب، يمنع هذا الحجاب عن رؤية أحدهما الآخر، ولكنّه لا يمنع سماع الأصوات، فينادي أهل الجنّة أهل النار: هل وجدتم وعد الربّ بالعذاب حقّاً كما وجدنا وعده بالرحمة حقّاً؟ ويسمعون الجواب من أهل النار بالإيجاب.

وتبقى فئة من الناس خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، فلاهم يعتبرون من أهل النار ولا هم من أهل الجنة، فجُعلوا على مرتفع من المكان يرون أهل الجنة وأهل النار، فإذا صرفت أبصارهم تجاه أهل الجنة سلّموا على أهل الجنّة وهم يطمعون الدخول فيها، وإذا صرفت أبصارهم تجاه أهل النار قالوا: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾، وهؤلاء المستضعفون لا يُترَكون من قبل أولياء الله الذين هم مشرفون على الأعراف وسُمّوا برجال الأعراف. وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ هؤلاء هم الأئمّة(عليهم السلام)، ففي تفسير القمّي عن الصادق(عليه السلام): «الأعراف: كثبان بين الجنّة والنار، والرجال: الأئمة صلوات الله عليهم»(2)، وفي حديث آخر عن هشام عن الباقر(عليه السلام) «قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾ ما يعني بقوله: ﴿وَعَلَى الأَعْرَاف﴾؟ قال: ألستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم لتعرفون(3) من فيها من صالح أو طالح؟ قلت: بلى. قال: فنحن اُولئك الرجال الذين يعرفون كلاًّ بسيماهم»(4)، وهناك تفاسير اُخرى


(1) س 7 الأعراف، الآية: 44 ـ 49.

(2) تفسير القمّي 1: 231.

(3) الظاهر أنّ الصحيح: لتعرفوا.

(4) كنز الدقائق 5: 93.

385

ولا تنافي في ما بينها.

وحاصل ما يستفاد من ظاهر هذه الآيات المباركة ـ والله أعلم بالاُمور ـ أنّ عدداً من أولياء الله يشرفون على الأعراف ويحاولون نجاة هؤلاء المستضعفين، ويخاطبون أهل النار بأنّكم كنتم تقولون عن هؤلاء: أن ﴿لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَة﴾، ثُمّ يشفعون لهم رغم أنف المستكبرين الذين كانوا ينفون رحمة الربّ عنهم، ويقولون لهم: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون﴾.

وفي تفسير آخر روي عن الصادق(عليه السلام): «الأعراف: كثبان بين الجنّة والنار يوقف عليها كلّ نبيّ وكلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، وقد سبق المحسنون إلى الجنّة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا إلى الجنّة. فيسلّم عليهم المذنبون وذلك قوله: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُون﴾ أن يدخلهم الله إيّاها بشفاعة النبي(صلى الله عليه وآله) والإمام، وينظر هؤلاء إلى أهل النار فيقولون: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾.

وينادي أصحاب الأعراف ـ وهم الأنبياء والخلفاء ـ رجالاً من أهل النار ورؤساء الكفّار يقولون لهم مقرِّعين: ﴿مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾واستكباركم ﴿أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَة﴾ ؟ إشارة إلى أهل الجنّة الذين كان الرؤساء يستضعفونهم ويحتقرونهم بفقرهم ويستطيلون عليهم بدنياهم ويقسمون أنّ الله لا يدخلهم الجنّة. ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾. يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين عن أمر من الله عزّ وجلّ لهم بذلك: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون﴾، أي لا خائفين ولا محزونين»(1).

 


(1) كنز الدقائق 5: 97 ـ 98.

386

 

ختامه مسك

 

بودّي أن أختم كتابي هذا بالبشارة المرويّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لشيعة عليّ(عليه السلام): بأنّهم جميعاً في الجنّة، وهذا هو نصّ الرواية الواردة في تفسير الإمام العسكري(عليه السلام):

«قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): اتّقوا الله معاشر الشيعة، فإنّ الجنّة لن تفوتكم وإن أبطأت بها عنكم قبائح أعمالكم، فتنافسوا في درجاتها. قيل: فهل يدخل جهنّم أحد من محبّيك ومحبّي عليّ(عليه السلام)؟ قال: من قذّر نفسه بمخالفة محمّد وعليّ، وواقع المحرّمات، وظلم المؤمنين والمؤمنات وخالف ما رسم له من الشريعات جاء يوم القيامة قذراً طفساً، يقول محمّد وعليّ (صلّى الله عليهما وآلهما): يا فلان، أنت قذر طفس لا تصلح لمرافقة الأخيار، ولا لمعانقة الحور الحسان ولا الملائكة المقرّبين، لا تصل إلى هناك إلّا بأن يطهر عنك ما هاهنا ـ يعني ما عليك من الذنوب ـ ، فيدخل إلى الطبق الأعلى من جهنّم، فيعذّب ببعض ذنوبه، ومنهم من يصيبه الشدائد في المحشر ببعض ذنوبه، ثُمّ يلتقطه من هنا من يبعثهم إليه مواليه من خيار شيعتهم كما يلقط الطير الحبّ، ومنهم من يكون ذنوبه أقلّ وأخفّ فيطهر منها بالشدائد والنوائب: من السلاطين وغيرهم، ومن الآفات في الأبدان في الدنيا ليدلى في قبره وهو طاهر، ومنهم من يقرب موته وقد بقيت عليه سيّئة، فيشتدّ نزعه فيكفّر به عنه، فإن بقي شيء وقويت عليه ويكون عليه بطر أو اضطراب في يوم موته فيقلّ من بحضرته، فيلحقه به الذلّ فيكفّر عنه، فإن