182


«ضرب زيد» على نسبة من النسب، وإنّما كان ذكر الفاعل وهو زيد لتشخيص الفاعل في شخص معيّن.

أمّا لماذا نفترض أنّ النسبة الصدوريّة مأخوذة ضمن المادّة، لا ضمن هيئة الفعل؟ فله وجهان:

الأوّل: أن يكون هذا مجرّد فرض في مقابل الفرض الأوّل؛ وذلك لأنّ المتيقّن هو وجود نسبتين في مثل «ضرب زيد»: نسبة صدوريّة، كما هو مفهوم بوضوح من هذا الكلام، ونسبة تامّة، بدليل أنّ هذا الكلام تامّ، في حين أنّ النسبة الصدوريّة ناقصة، وهذا المتيقّن كما يمكن فرض تفسيره بإرجاع النسبة الصدوريّة إلى هيئة الفعل، وإرجاع النسبة التامّة إلى هيئة الجملة، كذلك يمكن فرض تفسيره بإرجاع النسبة الصدوريّة إلى مادّة الفعل(1) وإرجاع النسبة التامّة إلى هيئته.

والثاني: أن نثبت ذلك بالبرهان، وهذا البرهان موقوف على الإيمان بما يقال من أنّ وضع الهيئات وضع نوعيّ، فمبنيّاً على ذلك نقول: إنّ النسبة المفهومة من الفعل ليست دائماً هي الصدوريّة، بل يختلف ذلك باختلاف الموادّ، ففي بعضها تفهم النسبة الصدوريّة، وفي بعضها الآخر تفهم النسبة الحلوليّة، أو غير ذلك، فلو اُوعزت هذه النسب إلى الهيئة كان هذا خلف فرض كون وضع الهيئة وضعاً نوعيّاً، إذن فينحصر الأمر في إيعازها إلى المادّة.

أقول: بناءً على كلّ ما مضى تحصّلت لنا حتّى الآن وجوه ثلاثة لحلّ مشكلة تصادم البرهان والوجدان في مثل «ضرب زيد»:

1 ـ فرض هيئتين ونسبتين حرفيّتين: إحداهما ناقصة مستفادة من هيئة الفعل، والاُخرى تامّة مستفادة من هيئة الجملة، وهي عين النسبة التصادقيّة المفهومة من مثل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ودمج النسبة الناقصة في المعنى الاسميّ لاعيب فيه؛ لأنّها نسبة تحليليّة لا واقعيّة.

183


«زيد قائم» أو «زيد ضارب» ونحو ذلك.

2 ـ عين الأوّل مع الفرق بأنّ النسبة التصادقيّة المستفادة من هيئة الجملة تكون بلحاظ المركز، لا بلحاظ اتّحاد الطرفين في الخارج تماماً.

3 ـ فرض نسبة حرفيّة واحدة تامّة، وهي النسبة التصادقيّة بالمعنى الثاني، وأمّا النسبة الصدوريّة فهي مندكّة ضمن معنى المادّة.

والقاسم المشترك بين الأوّل والثاني هو فرض معنيين حرفيّين، والقاسم المشترك بين الثاني والثالث هو فرض النسبة التصادقيّة بلحاظ المركز، لا بلحاظ ذات المعنون الذي يفنى فيه العنوانان.

وما جاء في كتاب السيّد الهاشميّ ـ ج 1، ص 272 ـ في تفسير الجملة الخبريّة الفعليّة منحصر في فرض النسبة التصادقيّة بلحاظ انطباقهما على مركز واحد مركّب من العرض ومحلّه، دون التصادق بمعنى انطباقهما على واقع واحد. وهذا يعني حصر حلّ الإشكال في المقام بالوجه الثاني والثالث، دون الأوّل.

أمّا السبب في حذف النسبة التصادقيّة بمعنى التصادق على واقع واحد في المقام، فالظاهر أنّه يعود إلى نكتة جاء ذكرها في نفس المجلّد، ص 307 ـ 308، وهي عبارة عن إيراد إشكال على فرض نسبتين وهيئتين، وهما هيئة الفعل وهيئة الجملة الفعليّة، مع حلّ الإشكال:

أمّا الإشكال فهو: أنّه كيف يُفترض فهم النسبة الصدوريّة الناقصة من هيئة الفعل في حين أنّها بحاجة إلى طرفين: أحدهما: مادّة الفعل، وهي موجودة في الكلام، والآخر: فاعل مّا، وهذا غير موجود في الكلام؛ لأنّ الذي فرض في الكلام فاعلاً قد جعل حسب الفرض طرفاً للنسبة التامّة(1) لا الناقصة، وهذا يعني وجود نسبة ناقصة ذات طرف واحد وهو غير معقول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ومعه لا يمكن أن يكون طرفاً لنسبة ناقصة أيضاً؛ لأنّ ما يكون طرفاً لنسبة ناقصة يكون

184


وأمّا الحلّ، فهو: أنّنا لا نفترض أنّ هيئة الفعل دلّت على النسبة بمعناها التضايفيّ الذي هو بحاجة إلى طرفين، بل نقول: إنّها دلّت على حالة وخصوصيّة في الضرب، فإنّ الضرب تارة يلحظ بما هو حالّ، وهو الضرب الذي يضاف إلى المفعول، واُخرى يلحظ بما هو صادر، وهو الضرب الذي يضاف إلى الفاعل، فالهيئة في المقام دلّت على النحو الثاني، لا بمعنى أخذ مفهوم الصدور الذي هو معنىً اسميّ واستقلاليّ، بل بما هي حالة فانية ومندكّة في المادّة، سنخ فناء بعض الحروف التي لا تدلّ على النسبة بين طرفين، بل تتقوّم بطرف واحد، من قبيل لام التعريف بأقسامه الذي يدخل على الاسم.

أقول: بناءً على هذا، إذن لا يمكن إرجاع «ضرب» إلى ذات لها الضرب؛ لأنّ الذات الفاعلة غير مأخوذة في الكلام، فينحصر الأمر في إرادة ما يرجع إلى معنى «ضرب صادر»، فتتعيّن النسبة التصادقيّة بين الفعل والفاعل في التصادق بلحاظ المركز.

أمّا الذي كان يقصده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في وقت البحث، فهو لم يكن عبارة عن دعوى دلالة هيئة «ضَرَبَ» على مجرّد النسبة الصدوريّة من دون التفات إلى طرفها الثاني، حتّى يقال: كيف يتعقّل قيام النسبة بطرف واحد؟ أو كيف يتعقّل أن يكون «زيد» المذكور في الكلام طرفاً لكلتا النسبتين: التامّة والناقصة؟ ويجاب على ذلك بأنّ معنى الهيئة هنا شبيهة بلام التعريف، بل كان عبارة عن دعوى دلالة الهيئة على تلك النسبة الناقصة، وعلى ذات مّا، لا بمعنى: أنّ الهيئة اشتملت على معنىً اسميّ باستقلاله، وهو معنى الذات، بل بمعنى: أنّ الهيئة دلّت على النسبة الصدوريّة المقيّدة بالذات. ←

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قد انصهر بحكم النسبة الناقصة مع الطرف الآخر في حصّة، فكيف يمكن أن يكون بوحده طرفاً لنسبة اُخرى؟! فلا يقاس هذا بمثل «زيد عالم عادل» مثلاً الذي لو فرض فيه كلّ من عالم وعادل خبراً مستقلاّ، لا بمجموعهما خبراً واحداً، لكان زيد طرفاً لنسبتين تامّتين.

185


إلاّ أنّه لا يخفى أنّ هذا أيضاً لا ينسجم مع تأويل «ضَرَب» إلى ذات لها الضرب؛ لأنّ الذات الذي هو المعنى الاسميّ يصبح عندئذ هو الركن الأساس في معنى الهيئة، وذلك غير محتمل في باب الهيئات.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه لو دار الأمر في حلّ مشكلة التصادم بين الوجدان والبرهان في الجملة الفعليّة من قبيل «ضرب زيد» بين الوجه الأوّل والثاني من الوجوه الثلاثة الماضية، فالثاني أولى؛ وذلك لأنّ الأوّل، وهو فرض النسبة التامّة نسبة تصادقيّة بين عنوان الذات الضاربة وزيد على معنون واحد يستدعي كون مفاد «ضَرَب» نسبة ناقصة بين الضرب وذات مّا، وهذا لا يكون إلاّ بأحد شكلين:

الأوّل: أن نفترض أنّ الركن الأساس المستفاد من الهيئة هو الذات الذي هو معنىً اسميّ، وهذا غير محتمل.

والثاني: أن نفترض مؤونة الحذف أو ما أشبهه في المقام، بأن نقدّر كلمة الذات مثلاً؛ لأنّ كلمة زيد الموجودة في الكلام قد فرضت طرفاً للنسبة التامّة، فلا يعقل أن تكون في نفس الوقت طرفاً للنسبة الاُخرى أيضاً، في حين أنّنا لا نحسّ في جملة «ضرب زيد» بمؤونة من هذا القبيل.

فينحصر الأمر: إمّا بافتراض أنّ الهيئة الناقصة في الفعل دلّت على حالة في الضرب الملحوظ، وهي الضرب بما هو صادر، لا بما هو حالّ، فليس المعنى الحرفيّ هنا بحاجة إلى طرف ثان، وهو الذات، أو بافتراض أنّ تلك الهيئة دلّت على النسبة الصدوريّة إلى الذات، من دون أن تكون الذات هي الركن الأساس في مفاد الهيئة، فيصبح مفاد «ضَرَب» أيضاً هي الضرب المتحصّص بالصدور عن ذات، وعلى كلا الافتراضين يبطل الوجه الأوّل، وينحصر الأمر بالوجه الثاني، وهو كون مفاد «ضَرَبَ» ضرب ذات، أو ضرب ملحوظ بما هو حالّ، وكون مفاد هيئة الجملة عبارة عن نسبة تصادقيّة بمعنى التصادق في المركز، لا في المعنون.

186


يبقى الكلام في أنّه لو دار الأمر بين هذا الوجه والوجه الثالث، فأ يّهما أولى؟ أي: هل الأصحّ: كون النسبة الناقصة مفهومة من هيئة الفعل، والنسبة التامّة مفهومة من هيئة الجملة؟ أو الأصحّ: أنّ نفس هيئة الفعل دلّت على النسبة التامّة، وأمّا تحصيص الضرب بالنسبة الصدوريّة الناقصة فمندمج في نفس مفهوم مادّة الفعل؟

قد يقال: إنّ الأخير هو الأصحّ؛ وذلك لأنّ النسبة الناقصة الكامنة في الفعل ليست دائماً صدوريّة، فقد تكون حلوليّة، فهناك فرق واضح مثلاً بين «ضَرَبَ» و«مات»، حيث إنّ الأوّل يدلّ على نسبة صدوريّة، والثاني يدلّ على نسبة حلوليّة. وهذا الفرق لا يمكن إيعازه إلى الهيئة؛ لأنّ الهيئة فيهما واحدة، إذن فلابدّ من إيعازه إلى المادّة؛ لأنّها متعدّدة.

وفي مقابل هذا البيان يمكن أن يعكس الأمر، ويقال: إيعاز الفرق إلى الهيئة أولى منه إلى المادّة؛ وذلك لأنّ هناك فرقاً واضحاً بين «ضَرَب» بصيغة المبنيّ للفاعل و«ضُرِب» بصيغة المبنيّ للمفعول، فالأوّل يدلّ على نسبة صدوريّة، والثاني يدلّ على نسبة حلوليّة، أو وقوعيّة. وهذا الفرق لا يمكن إيعازه إلى المادّة؛ لأنّ المادّة فيهما واحدة، فلابدّ من إيعازه إلى الهيئة؛ لأنّها في أحدهما عبارة عن هيئة المبنيّ للفاعل، وفي الآخر عبارة عن هيئة المبنيّ للمفعول، فهي فيهما متعدّدة، فلابدّ من أن يكون الفرق مستنداً إليها، لا إلى المادّة.

وحاصل الكلام: أنّ اختلاف «ضَرَب» المبنيّ للفاعل، و«مات» في الصدوريّة والحلوليّة يبرهن على أنّ الصدوريّة والحلوليّة منتسبتان إلى المادّة، لا الهيئة؛ لأنّ المادّة هي التي اختلفت في المثالين دون الهيئة، ولكن اختلاف «ضَرَب» المبنيّ للفاعل و«ضُرِب» المبنيّ للمفعول في الصدوريّة والحلوليّة، أو في الصدوريّة والوقوعيّة يبرهن على أنّ ذلك منتسب إلى الهيئة، لا المادّة؛ لأنّ الهيئة هي التي اختلفت في المثالين، دون المادّة.

وهذا التضادّ المشاهَد بين البرهانين هنا موجود بعينه في المشتقّات، كاسم الفاعل

187


واسم المفعول، فمن ناحية نرى أنّ النسبة الناقصة الكامنة في كلمة «ضارِب» نسبة صدوريّة، ولكنّها في كلمة «نائم» نسبة حلوليّة. وهذا يشهد لكون النسبتين مفهومتين من المادّة، لا من هيئة اسم الفاعل؛ لأنّ المادّة هي التي اختلفت من مثال إلى مثال، دون الهيئة، ومن ناحية اُخرى نرى أنّ النسبة الناقصة الكامنة في كلمة «ضارِب» نسبة صدوريّة، ولكنّها في كلمة «مضروب» نسبة حلوليّة، أو وقوعيّة. وهذا يبرهن على أنّ مردّ الفرق يكون إلى الفرق في الهيئة؛ لأنّ المادّة فيهما واحدة.

ولا أظنّ أنّ هناك حلاًّ لهذا التضادّ، إلاّ أحد أمرين:

الأوّل: أن تنكر فرضيّة كون الهيئة موضوعة بوضع نوعيّ، ويقال: إنّ كلّ كلمة بمادّتها وهيئتها موضوعة لمعنىً، فـ«ضَرَب» المبنيّة للفاعل بمادّتها وهيئتها موضوعة للمعنى المشتمل على جانب الصدور، و«ضُرِب» المبنيّة للمفعول بمادّتها وهيئتها موضوعة للمعنى المشتمل على جانب الحلول أو الوقوع عليه، و«نام» أو «مات» أو نحو ذلك أيضاً موضوعة بمادّتها وهيئتها للمعنى المشتمل على جانب الحلول، وكلمة «ضارِبٌ» موضوعة بمادّتها وهيئتها على معنى اسم الفاعل الصدوريّ، وكلمة «نائم» موضوعة بمادّتها وهيئتها على معنى اسم الفاعل الحلوليّ، وكلمة «مضروب» بمادتّها وهيئتها موضوعة على معنى اسم المفعول الحلوليّ، أو الوقوعيّ، وكلمة «الميّت» موضوعة بمادّتها وهيئتها على معنى اسم الفاعل الحلوليّ، وكلمة «المُمِيت» موضوعة بمادّتها وهيئتها على معنى اسم الفاعل الصدوريّ ... وما إلى ذلك. وعليه، ففي «ضرب زيد» نقول: إنّ النسبة الصدوريّة مستندة إلى الفعل بمادّته وهيئته، والنسبة التامّة مستفادة من هيئة الجملة الفعليّة، لا من هيئة الفعل، وتلك نسبة تصادقيّة بمعنى التصادق على مركز واحد، لا على معنون واحد.

والثاني: أن يحتفظ على ما قد يقتضيه الذوق من فرض معنىً موحّد للمادّة التي تتقلّب ضمن الهيئات المختلفة، وفرض معنىً موحّد أيضاً للهيئة التي تتقلّب ضمن الموادّ


188


المختلفة، ويحلّ التضادّ الذي شاهدناه بين البرهانين بالفرضيّة التالية، وهي: أنّ الموادّ في معناها الأصليّ تختلف من الصدوريّة إلى الحلوليّة، فالضرب في معناه الأصليّ معنىً صدوريّ، وحتّى في المصدر المضاف إلى المفعول به كما في قولنا: «قتل المؤمن جريمة لا تغتفر» نرى المصدر محتفظاً بمعناه الصدوريّ، ولولا احتفاظه بمعناه الصدوريّ لما كان يعتبر جريمة، إلاّ أنّه نسب إلى المفعول به بنسبة تحصيصيّة إضافيّة، فالقتل الذي هو مشتمل على جانب الصدور له حصّتان:

إحداهما: قتل يكون مفعوله المؤمن.

والثانية: قتل يكون مفعوله الكافر مثلاً. والموت في معناه الأصليّ حلوليّ، وهذه الصدوريّة والحلوليّة الأصليّتان راجعتان إلى المادّة، لا الهيئة، ولكن ربما يريد المتكلّم تحويل الصدوريّة إلى الحلوليّة أو العكس، وعندئذ يستعين في وصوله إلى هذا الهدف بتغيير الهيئة من المعلوم إلى المجهول، أو من اللازم إلى هيئة التعدية، فكلمة «ضَرَب» التي كانت بمادّتها صدوريّة يحوّلها إلى الهيئة المبنيّة للمفعول بقوله: «ضُرِب» بضمّ الضاد وكسر الراء، فيصبح معناه حلوليّاً، أو وقوعيّاً، وهذا التبدّل مستند إلى الهيئة، وكذلك يبدّل صيغة اسم الفاعل، وهو «ضارب» إلى صيغة اسم المفعول، وهو مضروب، فيتحوّل المعنى من الصدوريّة إلى الحلوليّة، أو الوقوعيّة، وهذا التحوّل مستند إلى الهيئة. وكلمة «مات» التي كانت بمادّتها حلوليّة يحوّلها إلى هيئة باب الإفعال بقوله: «أمات»، فيتحوّل إلى المعنى الصدوريّ، وهذا التحوّل مستند إلى الهيئة.

والخلاصة: أنّ الصدوريّة والحلوليّة الأصليّتين مستندتان إلى الموادّ، بمعنى: أنّ بعض الموادّ بخميرتها الأصليّة تقتضي الصدوريّة، وبعضها بخميرتها الأصليّة تقتضي الحلوليّة، أو ما شابهها، والهيئة هي التي تعيّن وصول تلك الخميرة الصدوريّة أو الحلوليّة إلى الفعليّة، أو انقلابها في عالم الفعليّة إلى ما يخالف ذلك، فمثلاً هيئة المبنيّ للفاعل وضعت لإبقاء الخميرة الأصليّة على حالها، وكذلك هيئة اسم الفاعل، في حين أنّ هيئة المبنيّ

189

فإن قلت: هناك احتمال آخر، وهو أن تكون النسبة التامّة في «ضرب زيد» بين الضرب وصادر، والنسبة الناقصة بين الضرب وزيد، فكأنّما قال: «ضربُ زيد صادر».

قلت: هذا إنّما يكون معقولاً لو فرض أنّ مجموع «ضرب زيد» وضع لهذا المعنى، أي: معنى «ضرب زيد صادر». وأمّا بناء على النظرة التجزيئيّة، واستفادة الصدور من «ضرب» وإن لم يذكر الفاعل، كما يشهد لذلك الوجدان، فلابدّ من افتراض: أنّ استفادة الصدور من «ضرب» ليست إلاّ بمعنى دلالته على النسبة الصدوريّة الناقصة، فلابدّ أن تكون النسبة التامّة مستفادة من الجملة بالنحو الذي بيّنّاه. وأمّا إذا أردنا أن نفرض النسبة الناقصة بين الضرب وزيد، بأن يكون زيد في قولنا: «ضرب زيد» طرفاً للنسبة الناقصة، فالنسبة التامّة يجب أن تفترض استفادتها من هيئة «ضرب» بأن تكون هيئتها دالّة على النسبة التامّة للضرب المقيّدة بكون طرفها الآخر صادر، فيفهم بالتبع معنى «صادر». وهذا معناه أن يكون «ضرب» جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، كما يصحّ السكوت على جملة «الضرب صادر»، بينما من الواضح: أنّه لا يصحّ السكوت على «ضرب»، بل يأتي السؤال عن باقي الكلام، وهو الفاعل، بخلاف مثل «الضرب صادر».

فخلاصة المقصود من تمام ما ذكرناه: أنّ جملة «ضرب زيد» مشتملة على


للمفعول، أو هيئة اسم المفعول موضوعة لتبديل الخميرة الأصليّة الصدوريّة إلى الحلوليّة، أو ما أشبهها، وهيئة باب الإفعال موضوعة لتبديل الحلوليّة إلى الصدوريّة مثلاً ... وهكذا. وعليه، فالنسبة الفعليّة الصدوريّة أو الحلوليّة تفهم بتعاون بين المادّة والهيئة، إذن فالنسبة التامّة في «ضرب زيد» مستفادة من هيئة الجملة لا من هيئة الفعل، وتلك نسبة تصادقيّة، بمعنى التصادق على مركز واحد لا على معنون واحد.

190

نسبتين: إحداهما: نسبة تامّة مستفادة من هيئة الجملة، وهي نسبة بين ذات مّا وزيد، أو بين الضرب وزيد، على ما عرفت تفصيله، والاُخرى: نسبة ناقصة دلّت عليها هيئة الفعل، فهيئة الفعل تدلّ على نسبة ناقصة للمبدأ، وهو الضرب مثلاً مقيّدة بكون طرفها الآخر عبارة عن ذات مّا، فتدلّ بالتبع على ذات مّا من باب دلالة المقيّد على قيده. وهذا التعبير منّا مجاراة مع ما يقال عادة في مثل الحروف الدالّة على النسب الناقصة من أنّها موضوعة بإزاء نفس النسبة، فكلمة «في» في مثل: «نار في الموقد» موضوع للنسبة الظرفيّة الناقصة. وأمّا بعد أن عرفت من أنّ النسبة الناقصة هي جزء تحليليّ من ماهية وجود ذهنيّ واحد، وليست نسبة واقعيّة، فالتعبير الدقيق هو أن يقال: إنّ «نار في الموقد» بتمامه موضوع لإفهام ذاك المعنى الواحد، وإنّ «ضرب» موضوع بمادّته وهيئته لإفهام معنىً واحد، وهو معنىً يرجع بالتحليل الماهويّ إلى الضرب، وذات مّا، ونسبة ناقصة بينهما، لا أنّ المادّة تدلّ على الضرب، والهيئة تدلّ بالمطابقة على النسبة المقيّدة، وبالتبع على قيدها، وهو ذات مّا.

ثُمّ إنّ ما ذكرناه ليس تمام الكلام في مفاد هيئة الفعل، بل هناك نكات اُخرى لعلّنا نذكرها في بحث المشتقّ(1).

 

هيئة الجملة الإنشائيّة:

بقي الكلام في الجملة التامّة الإنشائيّة، فنقول:

إنّ حال الجملة الإنشائيّة عند السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ هو حال الجملة


(1) الظاهر: أنّه لم يرد في بحث المشتقّ حديث عن هيئة الفعل، ولكن يوجد في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله (ج 1، ص 306 ـ 314) حديث مفصّل عن هيئة الفعل، فراجع.

191

الخبريّة عنده من حيث إنّها موضوعة لأمر نفسانيّ تدلّ عليه دلالة تصديقيّة، وإنّما الفرق في ذلك الأمر النفسانيّ. فالجملة الخبريّة موضوعة لإبراز قصد الحكاية، والجملة الاستفهاميّة كـ «هل زيد عالم» موضوعة لإبراز أمر نفسانيّ آخر، وهو طلب الفهم، أي: أنّها تكشف عن فرد جزئيّ من طلب الفهم قائم في نفس المتكلّم، وجملة التمنّي مثل «ليت النبيّ(صلى الله عليه وآله) حيّاً» موضوعة لإبراز أمر نفسانيّ ثالث، وهو التمنّي، فتدلّ على وجود تمنّ جزئيّ في نفس المتكلّم ... وهكذا.

وهذه الدلالات التصديقيّة من إبراز قصد الحكاية في الخبر، وطلب الفهم، أو التمنّي، أو غير ذلك في الإنشاء كلّها مقبولة عندنا وعند المشهور، لكنّها ليست وضعيّة، بل ناشئة من قرائن سياقيّة، وظهور حال المتكلّم، وما يكشفه من ملابسات؛ لما عرفت بالبرهان من أنّه لا يمكن أن يكون الوضع وافياً بالدلالات التصديقيّة، فلابدّ في مرتبة سابقة على هذه الدلالات التصديقيّة من تصوّر دلالة تصوّريّة لتكون هي المدلول الوضعيّ، وهي محفوظة حتّى لو سمع اللفظ من اصطكاك حجرين، فبهذا تعيّن المصير إلى مسلك المشهور.

وتحقيق الحال في المقام: أنّ الجمل الإنشائيّة تنقسم إلى قسمين:

إحداهما: ما تكون مشتركة بين الإخبار والإنشاء، فقد تستعمل في الإخبار، واُخرى في الإنشاء، من قبيل: «أنت طالق» أو «بعتك هذا الكتاب بدينار».

والاُخرى: ما تكون متمحّضة في الإنشاء كـ «هل زيد قائم؟».

أمّا القسم الأوّل: فمدلوله التصوّريّ الوضعيّ هو عين ما شخّصناه سابقاً في الجملة الخبريّة، ولا فرق عند المشهور في المدلول التصوّريّ الوضعيّ بين «أنت طالق» الإنشائيّ و«أنت طالق» الأخباريّ. وقد حقّقنا في الإخبار أنّ مدلوله هو النسبة التامّة التصادقيّة، وأمّا الإنشائيّة والإخباريّة فهي من الدلالات التصديقيّة،

192

وهذا الكلام حينما يصدر عن إنسان عاقل مختار لابدّ أن يكون في نفسه شيء دفعه إلى إيجاد هذه الدلالة التصوّريّة، فإن كان هو قصد الإخبار، صار خبراً، وإن كان هو اعتبار وقوع الطلاق، صار إنشاءً.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو الجمل التي تختصّ بالإنشاء ـ: فلنشرح الكلام فيه بالحديث عن مثل «هل زيد عالم؟»، فنقول: إنّ مدخول «هل» وهو «زيد عالم» قد عرفت أنّ مدلوله التصوّريّ الوضعيّ هو النسبة التصادقيّة التامّة. وأمّا مدلول «هل» فطبعاً ليس هو مفهوم الاستفهام، فإنّه مفهوم اسميّ استقلاليّ، ولكن لا إشكال في أنّه يُفهم الاستفهام من الكلام، فكيف نتصوّر هذا الاستفهام؟

هناك وجهان لتفسير مفاد أداة الاستفهام بنحو ينسجم مع مسلك المشهور، نذكرهما تباعاً بعد إلفات النظر إلى أنّ حالة الاستفهام لها أركان ثلاثة: المستفهِم، والمستفهَم عنه، ونفس الاستفهام:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من أنّ مفاد أداة الاستفهام(1) هو نسبة بين الاستفهام والنسبة الموجودة بين زيد وعالم، والطرف الثاني مذكور في الكلام. وأمّا الطرف الأوّل وهو الاستفهام فمأخوذ قيداً في نفس مدلول «هل»، أي: أنّ «هل» تدلّ على نسبة الاستفهام، فمدلولها المطابقيّ هو النسبة، وهي مقيّدة


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 99 ـ 100 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، والحديث في الكتاب وارد عن حروف التمنّي والترجّي، ولكنهما مع الاستفهام فيما هو محل الكلام من واد واحد.

وعلى أيّ حال، فالعبارة غير دالّة على ما نسب إليه اُستاذنا(رحمه الله) في المقام.

وعلى كلّ حال، نقول: لو كان هذا مقصوداً للمحقّق العراقيّ(رحمه الله) يرد عليه: أنّ مفهوم الاستفهام مفهوم اسميّ منتزع في طول تحقّق النسبة الاستفهاميّة، فلا معنى لفرضه طرفاً لتلك النسبة.

193

بالاستفهام. وهذا من قبيل ما ذكرناه نحن في هيئة الفعل، من أنّها تدلّ على النسبة الصدوريّة المقيّدة بالذات التي هي مفهوم اسميّ.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) وحاصله: أنّ الاستفهام الذي هو حالة قائمة بين المستفهِم والمستفهَم عنه ينتزع عنها مفهوم اسميّ، وهو مفهوم الاستفهام، وفي طول هذه الحالة ينشأ ربط مخصوص بين المستفهِم والنسبة المستفهَم عنها، فإذا كان زيد يستفهم عن أنّ عمرواً عالم أو لا، فلا محالة يوجد هناك ربط بين زيد وتلك الجملة، لا يوجد بين شخص آخر وتلك الجملة، ولا بين زيد وغير تلك الجملة. وكما ينتزع من تلك الحالة مفهوم اسميّ، وهو الاستفهام كذلك ينتزع من هذا الربط معنىً حرفيّ، وهو معنى «هل»، فيكون مفاد «هل» نسبة بين المستفهِم والقضيّة(1).

وهذا الوجه يختلف عن الوجه السابق:

أوّلاً: في أطراف النسبة، حيث إنّ الوجه الأوّل يرى أنّ النسبة بين الاستفهام والمستفهم عنه، وهذا الوجه يرى أنّ النسبة بين المستفهِم والمستفهَم عنه. وهذه


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 30 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم، وج 1، ص 62 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

والعبارة غير دالّة على ما نسبه إليه اُستاذنا(رحمه الله) في المقام من وجود نسبتين: إحداهما: النسبة الواردة في المدخول بين الطرفين، والاُخرى: نسبة بين تلك النسبة والمستفهم، بل هي ظاهرة في دعوى وجود نسبة واحدة ثلاثيّة الأطراف، أي: بين طرفي المدخول مع نفس المستفهم.

وإليك نصّ تعبيره الذي ذكره بشأن صيغة الأمر، لا بشأن الاستفهام، وهو مايلي: «وذلك لأنّ صيغة «اضرب» مثلاً مفادها بعث المخاطب نحو الضرب، لكن لا بما هو بعث ملحوظ بذاته، بل بما هو نسبة بين المتكلّم والمخاطب والمادّة».

194

النسبة موازية للاستفهام، حيث إنّ الاستفهام مفهوم اسميّ منتزع من تلك الحالة القائمة بين المستفهم والمستفهم عنه، وهذه النسبة معنىً حرفيّ منتزع ممّا يكون بإزاء تلك الحالة من ربط بين المستفهِم والمستفهَم عنه.

وثانياً: في شيء يترتّب على الفرق الأوّل، وهو: أنّ نفس مفهوم الاستفهام ـ بناءً على هذا الوجه ـ خارج عن حريم مدلول «هل» بالمرّة، وليس مأخوذاً فيه حتّى بنحو القيديّة. وبناءً على الوجه الأوّل كان مأخوذاً فيه بنحو القيديّة، فلفظة «هل» على هذا الوجه تدلّ تصوّراً بالمطابقة على ذلك الربط المخصوص، وتدلّ تصوّراً بالالتزام على الاستفهام، بينما على الوجه الأوّل كانت تدلّ على الاستفهام دلالة ضمنيّة تبعيّة.

والغريب: أنّ مقرّر بحث المحقّق العراقيّ(1) ذكر الوجه الثاني، بينما هذا الوجه للمحقّق الإصفهانيّ، ولم يذكر الوجه الأوّل الذي هو الموجود في مقالاته، والتمييز بينهما لا يخلو عن دقّة.

وعلى أيّ حال، فالتحقيق: أنّ كلا هذين الوجهين غير صحيح، وأنّه لابدّ من المصير إلى وجه ثالث؛ وذلك لأنّ النسبة التي تفرض بين مفاد الجملة والاستفهام


(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 57 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

والعبارة في هذا التقرير غير دالّة على ما نسبه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إلى تقرير بحثه، ولعلّه(رحمه الله) ناظر إلى تقرير الشيخ الآمليّ، وهو غير موجود عندي.

والظاهر: أنّ المراد ممّا جاء في نهاية الأفكار، وما جاء في المقالات واحد، وهو: أنّ الجملة التامّة الدالّة ـ بحسب تعبيره(رحمه الله) ـ على النسبة الإيقاعيّة إن كانت خبريّة، فهي دالّة على النسبة الإيقاعيّة الناظرة إلى واقع خارجيّ تطابقه، أو لا تطابقه، ولهذا تتّصف بالصدق والكذب، في حين أنّها في الإنشاء ليست ناظرة إلى الواقع الخارجيّ كي تطابقه أو لا تُطابقه؛ ولهذا لا تتّصف بالصدق والكذب.

195

أو المستفهِم: إمّا نسبة واقعيّة تامّة، أو تحليليّة ناقصة، فإن فرضت نسبة واقعيّة وتامّة(1)، فهذا غير معقول؛ لأنّ هذه النسبة تحاول أن تعطي انعكاساً عن ربط خارج حدود التصوّر الذهنيّ بين الاستفهام والجملة، أو بين المستفهِم والجملة(2)،


(1) لا يخفى: أنّ هذا الكلام إنّما هو بلحاظ ما هو الصحيح من معنى النسبة التامّة والنسبة الناقصة. وأمّا المحقّق العراقيّ(قدس سره) فهو يفسّر النسبة التامّة والناقصة بتفسير آخر، وهو: أنّ النسبة في فرض النقصان تلحظ وقوعيّة، وفي فرض التمام تلحظ إيقاعيّة، فمثلاً النسبة الواقعة بين نار وموقد في قولنا: «نار في الموقد» كأنّها نسبة مفروغ عن وقوعها جاءت في هذه الجملة، ولكن النسبة في قولنا: «النار في الموقد» على نحو المبتدأ والخبر كأنّها نسبة يوقِعُها المتكلّم؛ ولذا يقول: إنّ النسبة الناقصة في طول النسبة التامّة، حيث إنّه يتحقّق إيقاع فوقوع(1).

وهذا التفسير ـ كما ترى ـ لا محصّل له، فإنّه إن لوحظ عالم الذهن بما هو، فكلتا النسبتين إيقاعيّة؛ فإنّ الذهن هو الموجد لهذه النسبة. وإن لوحظ أنّ الذهن في الجملة الناقصة كأنّه متوجّه إلى عالم آخر وراء الذهن؛ ولهذا تسمّى إيقاعيّة، ففي الجمل التامّة أيضاً كذلك.

(2) هذا الكلام مبنيّ على فرض النسبة التي هي بين المستفهِم والجملة عبارة عن معنىً حرفيّ منتزع من الربط الموجود بين المستفهِم والنسبة التامّة الكامنة في جملة المدخول موازياً لانتزاع مفهوم الاستفهام من حالة الاستفهام. فلا محالة تكون هذه النسبة ناقصة؛ لأنّ الذهن فيها متطفّل على واقع النسبة الاستفهاميّة الموجودة بين شخص المستفهِم والنسبة الكامنة في جملة المدخول، وقد مضى البرهان على أنّه متى ما كان الذهن متطفّلاً على ما في الخارج فيما توجد فيه من نسبة، فهي نسبة تحليليّة ناقصة، لا واقعيّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع المقالات، ج 1، ص 95 ـ 96 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 55 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وفي نهاية الأفكار قد أشار إلى إمكانيّة الفرق بين النسبتين بوجه آخر أيضاً فراجع.

196


إلاّ أنّ الظاهر: أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ وذلك لأنّ واقع طرفَي النسبة هنا من موجودات عالم النفس الحضوريّة؛ إذ إنّ أحدهما عبارة عن النسبة التامّة الكامنة في جملة المدخول، وهي النسبة التصادقيّة، والتي مضى: أنّها ليست خارجيّة، بل هي من مخلوقات عالم الذهن؛ لأنّ الموجود في الخارج إنّما هو الاتّحاد، لا التصادق، ومن الواضح: أنّ جميع مخلوقات عالم الذهن موجودة بالوجود الحضوريّ لدى النفس. وثانيهما عبارة عن نفس المستفهِم، ومن الواضح: أنّ النفس موجودة لدى النفس بالوجود الحضوريّ. نعم، بإمكان النفس أن تصوّر نفسها بواسطة الذهن، فيكون لها وجود حصوليّ أيضاً، ولكن النفس ـ على أيّ حال ـ حاضرة لدى نفسها بالوجود الحضوريّ، وإذا كان كلا طرفي النسبة موجودين بالوجود الحضوريّ لدى النفس، فبإمكان النفس ـ لا محالة ـ أن تخلق نسبة بينهما، وهي النسبة الاستفهاميّة، فالبرهان الذي مضت إقامته على تحليليّة النسب المأخوذة من الخارج لا يأتي هنا؛ فإنّ ذاك البرهان يمكن أن يبيّن ببيان: أنّ النسبة الذهنيّة التي تريد أن تحاكي الخارج لو كانت واقعيّة، لما كان يخلو أمرها من إحدى صور ثلاث: إمّا أنّها هي نفس النسبة الواقعيّة الأصليّة، أو صورة عنها (وبتعبير مشهور الفلاسفة: انتقلت ماهيتها من دون وجودها الخارجيّ إلى الذهن)، أو مماثلة لها.

والشقّ الأوّل باطل؛ لأنّ ما في الخارج يستحيل أن ينتقل بوجوده الخارجيّ إلى الذهن.

والشقّ الثاني باطل؛ لأنّ النسبة ليس لها تقرّر ماهوي قبل وجودها المندكّ في وجود الطرفين، أو قل: قبل وجود الطرفين، فكيف يصوّرها الذهن باستقلالها، أو تنتقل الماهية إليه؟! على أنّ أثر النسبة وهو إلصاق أحد الطرفين بالآخر وإبطال التفكّك إنّما هو لواقع النسبة، لا لصورتها.

والشقّ الثالث باطل؛ لأنّ نشأة الذهن تباين نشأة الخارج، فيستحيل لها أن تخلق المماثل لما في الخارج من دون أخذ الصورة، أو انتقال الماهية.

197


فإذا بطلت كلّ الشقوق الثلاثة انحصر الأمر في تصوير الذهن لمجموع ما في الخارج من النسبة والطرفين، فتصبح النسبة في الذهن ـ لا محالة ـ جزءاً تحليليّاً، لا واقعيّاً. وهذا معنى نقصانها.

وهذا البرهان ـ كما ترى ـ لا ينطبق على المقام، فإنّ الصادق في المقام من تلك الشقوق الثلاثة هو الشقّ الأوّل، وهو: أنّ نفس النسبة الواقعيّة الأصليّة حاضرة لدى النفس، لا بانتقال من الخارج إليها، بل بحضور واقع الطرفين الأصليّين لديها، وهما: النفس والنسبة التامّة الكامنة في المدخول.

فإن قلت: إنّ هذا البيان يتمّ في المتكلّم، ولا يتمّ في السامع، فلا ريب أنّ السامع يفهم من المتكلّم المستفهِم كلاماً تامّاً في حين أنّ تلك النسبة الأصليّة الاستفهاميّة ليست حاضرة لدى نفس السامع؛ لأنّ نفس المستفهِم التي هي طرف لهذه النسبة ليست من الموجودات الحضوريّة لدى نفس السامع، وعليه يعود ما يشبه البرهان الماضي على تحليليّة النسبة في نفس السامع؛ لأنّها لو كانت نسبة واقعيّة لما كان يخلو أمرها من أحد الشقوق الثلاثة الماضية. والأوّل منها باطل لعدم حضور نفس تلك النسبة لدى نفس السامع، والثاني منها باطل؛ لأنّ تلك النسبة التي كانت في نفس المتكلّم لم يكن لها تقرّر ماهوي قبل الوجود حتّى توجد الماهية، أو صورة عن تلك النسبة في ذهن السامع، والثالث منها باطل؛ لأنّ ذهن غير المستفهم لا يستطيع أن يخلق نسبة استفهاميّة حقيقيّة بين شخص آخر غير نفسه والمستفهَم عنه.

قلت: تماميّة الكلام لدى السامع لا معنى لها هنا، إلاّ أخذ صورة عن كلام تامّ، ومن ثمّ التماميّة بلحاظ المدلول التصديقيّ أيضاً. وتوضيحه: أنّ النسبة الاستفهاميّة في نفس المستفهِم كانت واقعيّة لا تحليليّة كما مضى بيانه، فكلام المستفهم دلّ على مطلب تامّ تصوّراً، ودلّ أيضاً في مستوى الإرادة الجدّيّة على الاستفهام الواقعيّ، أو قل: النسبة الاستفهاميّة الواقعيّة لا التحليليّة، والسامع يأخذ هذه النسبة مع طرفيها بتصوير واحد في

198


ذهنه على مستوى الدلالة التصوّريّة، فتكون النسبة هنا تحليليّة، ولكن بما أنّ هذه الصورة الوحدانيّة صورة منتزعة من كلام مشتمل على النسبة التامّة، فالسامع ـ لا محالة ـ يتصوّر ويصدّق بوجود ذاك الكلام التامّ في نفس المتكلّم، فالفرق بين وضع السامع هنا ومن يتصوّر مثل «نار في الموقد» هو: أنّ الثاني لم يكن صورة منتزعة ممّا يشتمل على نسبة تامّة؛ إذ لا معنى للتماميّة والنقصان في النسبة الخارجيّة، وإنّما هما من صفات النسبة في النفس، ولو سمع أحد كلمة «نار في الموقد» من متكلّم، فانتزع صورة عمّا في نفس المتكلّم، فالموجود في نفس المتكلّم لم يكن نسبة تامّة كي ينتزع السامع صورة عن كلام مشتمل على النسبة التامّة. أمّا في المقام، فقد كانت النسبة واقعها عبارة عن نسبة تامّة في نفس المستفهم، والسامع انتزع بذهنه صورة عمّا في نفس المتكلّم من كلام مشتمل على نسبة تامّة، فستكون الدلالة التصوّريّة والتصديقيّة لدى السامع متعلّقة بالكلام التامّ لا محالة.

فإن قلت: إنّ النسبة الاستفهاميّة الواقعة بين النفس الحاضرة لدى نفس المستفهم ونسبة المدخول الحاضرة لديها أيضاً يستحيل أن تكون تامّة وواقعيّة؛ لأنّ هذا يساوق فرض الاثنينيّة بين طرفيها، في حين أنّ النفس بكلّ ما لديها من الاُمور الحاضرة أمر وحدانيّ بسيط، إذن فالنسبة التامّة لا تتعقّل إلاّ في عالم الذهن؛ لأنّ الذهن يصوّر صورتين مختلفتين عمّا في الخارج، ويخلق نسبة بينهما مع حفظ تعدّد الصورتين.

قلت: إن كان المقصود بهذا الكلام: أنّ الصور التي يلتقطها الذهن من طرفي النسبة متعدّدة حقيقة، فهذا غفلة عن أنّ ذاك الذهن أيضاً متّحد مع ما يأخذها من الصور، وهو أيضاً بسيط، فكيف يخلق النسبة فيما بين تلك الصور؟! فكما يقال في باب الذهن: إنّ بساطته لا تنافي نوع كثرة في عين الوحدة والبساطة، كذلك نقول في النفس: إنّ بساطتها لا تنافي نوع كثرة فيما بين الاُمور الحاضرة لديها في عين الوحدة، وليس الذهن الذي يصوّر الأشياء إلاّ مرتبة من مراتب النفس أيضاً.

199


وإن كان المقصود: أنّه في موارد تصوير الذهن يكون ذو الصورة الخارجيّ متعدّداً حقيقة، وبما أنّ الذهن يرى الصورة المنطبعة فيها من الخارج خارجيّة، فلهذا يراها متعدّدة، ويخلق النسبة فيما بينها، قلنا: إنّنا إمّا أن ننقل الكلام إلى الصور المتعدّدة التي يصوّرها الذهن من النفس التي لا شكّ في بساطتها، من قبيل ما لو انتزع الذهن في النفس صورة أنا، وقال: أنا محبّ لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، في حين أنّ صفة حبّه لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) متّحدة مع النفس فلسفيّاً، وإمّا أن نقول في جميع موارد النسب التصادقيّة التي تكون بمعنى انطباق عناوين متعدّدة على معنون واحد خارجاً، كما في «زيد قائم»: إنّ الصور برغم تعدّدها بمعنىً من المعاني منتزعة من أمر خارجيّ واحد، وفي الخارج لا يوجد التعدّد بينهما، بل يوجد الاتّحاد، فرجعنا مرّة اُخرى إلى كثرة الصور في عين الاتّحاد مع الذهن وبساطة الذهن.

ثُمّ إنّ الذي رجّحناه في المقام من كون مثل: «هل زيد قائم» مشتملاً على نسبتين: نسبة تصادقيّة في مدخول «هل»، ونسبة استفهاميّة تامّة بين المستفهِم والنسبة المستفهم عنها أولى ممّا رجّحه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من اشتماله على نسبة واحدة، وهي النسبة التصادقيّة في وعاء الاستفهام؛ وذلك لما نحسّ به بالوجدان من أنّ حالة الاستفهام، أو التمنّي، أو الترجّي تتعلّق بالنسبة التصادقيّة، فهي في طول النسبة التصادقيّة، لا أنّها أوعية لتلك النسبة، وقصد الحكاية أيضاً يتعلّق بالنسبة التصادقيّة، فكأنّما الواضع وضع أدوات الاستفهام والتمنّي والترجّي لدلالة تصوّريّة على تلك الحالات أو النسب، واستغنى بذلك عن وضع شيء للدلالة التصوّريّة على قصد الحكاية، فبقيت دلالة الجملة الخبريّة على قصد الحكاية متمحّضة في مستوى التصديق.

وما ندّعيه من دلالة الوجدان على الطوليّة بين الاستفهام والنسبة التصادقيّة يكون أوضح جلاءً فيما يسمّى بالاستفهام التصوّريّ الذي يكون جوابه بتعيين الفرد، لا بنعم أو لا، كما في قولنا: «أزيد قائم أم عمرو»؛ إذ من الواضح هنا: أنّ أصل النسبة التصادقيّة ←

200

وقد برهنّا فيما سبق على أنّ النسب التي لها موطن أصليّ وراء عالم اللحاظ لا يمكن أن تكون واقعيّة وتامّة. وإن فرضت نسبة تحليليّة وناقصة، فهذا أيضاً غير معقول؛ وذلك لأنّ طرفي النسبة التحليليّة مع نفس النسبة تكون وجوداً واحداً، تنحلّ ماهيته إلى هذه الأجزاء الثلاثة، كما عرفت، وذاك الوجود الواحد هو المقيّد أو الحصّة، وأجزاؤه الثلاثة عبارة عن ذات المقيّد والقيد والتقيّد، وعندئذ: إمّا أن يفرض أنّ النسبة الموجودة بين زيد وعالم في مثل «هل زيد عالم؟» هو المقيّد، والطرف الآخر الذي هو معنىً اسميّ، وهو الاستفهام أو المستفهِم هو القيد، أو يفرض العكس. والأوّل غير معقول؛ لأنّ هذا الوجود الوحدانيّ المعبّر عنه بالمقيّد أو الحصّة: إن كان وجوداً ربطيّاً واندكاكيّاً، فلا يمكن أن يكون المفهوم الاسميّ جزءاً من ماهيته، وإن كان وجوداً استقلاليّاً، فهو خلف كونه وجود للنسبة. والثاني يستلزم كون «هل زيد عالم؟» كلاماً ناقصاً، لا يصحّ السكوت عليه؛ لأنّ النسبة


مفروغ عنها، ويتعلّق السؤال بتعيين أحد الفردين من النسبتين التصادقيّتين.

ويصعب توجيه ذلك بافتراض النسبة التصادقيّة في وعاء الاستفهام، إلاّ بإرجاع ذلك إلى سؤالين كالتالي: هل زيد قائم؟ هل عمرو قائم؟ في حين أنّه من الواضح: أنّ هذا السؤال ليس منحلاًّ إلى سؤالين، بل هو سؤال واحد فرضت فيه أصل النسبة التصادقيّة في وعاء التحقّق مثلاً مفروغاً عنها، وتعلّق السؤال بتعيين إحدى المفردتين من تلك النسبة.

وأوضح من ذلك في عدم الانحلال مثل قولنا: «مَن القائم؟» حيث دُمج طرف النسبة التصادقيّة مع الاستفهام في كلمة واحدة وهي «مَن».

أمّا توجيه: أنّ كلمة واحدة، وهي كلمة «مَن» كيف دلّت على معنىً اسميّ ومعنىً حرفيّ في وقت واحد؟ فيكون بالافتراض التالي:

وهو: أنّ كلمة «مَن» الاستفهاميّة وضعت للمعنى الاسميّ المتّصف بوقوعه طرفاً لنسبة مستفهم عن تعيينها، فدلّت بالملازمة على تلك النسبة.

201

التامّة الموجودة فيه صارت قيداً تحصيصيّاً للاستفهام أو المستفهِم، والمقيَّد هو الاستفهام أو المستفهِم، وهو بحاجة إلى أن يقع طرفاً لنسبة تامّة حتّى يكون هو مع الطرف الآخر والنسبة كلاماً تامّاً.

وحلّ المطلب هو: أنّ هذين الوجهين يشتركان في أنّ مفاد «هل» نسبة مغايرة لنسبة «زيد عالم» التصادقيّة، فعندنا نسبتان: إحداهما النسبة الموجودةالتي دخل عليها «هل»، والثانية: نسبة اُخرى تكون إحدى طرفيها تلك النسبة الاُولى التي كانت مفاد الجملة، بينما هذا بلا موجب؛ فإنّ هذا مبنيّ علىتخيّل أنّ النسبة بين زيد وعالم في قولنا «زيد عالم» لها طرفان: أحدهما زيد والآخر عالم، مع الغفلة عن مقوّم ثالث لها. وتوضيح ذلك: أنّ زيد وعالم في عالم الذهن مفهومان متغايران، ولا معنى للنسبة التصادقيّة بينهما إلاّ بلحاظ وعاءآخر، أي: أنّ الذهن يتصوّر صورة زيد وصورة عالِم متصادقتين ومتّحدتين في عالَم من العوالم، فالذهن كأنّ له توجّهاً إلى وعاء من الأوعية الخارجة عنالذهن، وبلحاظ ذاك الوعاء يرى نسبة تصادقيّة بين زيد وعالم، إذن فالطرف الثالث لتلك النسبة هو ذاك الوعاء، وذاك الوعاء في «زيد عالم» الإخباريّة هو وعاء التحقّق، وفي «هل زيد عالم؟» هو وعاء الاستفهام، أي: أنّ التصادق محفوظ في هذا المثال في وعاء الاستفهام، لا في وعاء التحقّق، وفي «ليت زيداًعالم» هو وعاء التمنّي وهكذا. وتمييز هذه الأوعية في لغة العرب يكون بأنّ وعاء التحقّق لا يحتاج إلى أداة مستقلّة، أي يستفاد من التجرّد من الأدوات، وسائر الأوعية لها أدواتها الخاصّة، ولعلّ في بعض اللغات يحتاج وعاء التحقّق أيضاًإلى أداة.

هذا، وليس المقصود: فرض كون أحد هذه الأوعية طرفاً اسميّاً للنسبة

202

التصادقيّة على حدّ طرفيّة زيد وعالم بأن تكون عندنا ثلاثة مفاهيم اسميّة أصبحت طرفاً للنسبة، بل المقصود: أنّ النسبة التصادقيّة بين زيد وعالم لها حصص إحداها: النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء التحقّق، والاُخرى: النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء الاستفهام، والثالثة: النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء التمنّي وهكذا. فإن شئت فقل: إنّ النسبة التصادقيّة لها طرفان، وتتعيّن إحدى حصصها بالأداة الداخلة على الجملة، أو بتجرّدها عن الأداة.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ الفرق بين الجمل الخبريّة والجمل الإنشائيّة: تارة يكون في عالم التصديق فقط، كما هو الحال في الجمل الإنشائيّة التي لا تكون متمحّضة في الإنشاء، بل تستعمل تارة في الإنشاء واُخرى في الإخبار من قبيل: «أنتِ طالق»، فالمدلول التصوّريّ الوضعيّ لذلك إنّما هو النسبة التصادقيّة بين «أنت» و«طالق» في وعاء التحقّق، إلاّ أنّ هذا بحسب عالم التصديق قد يكون ناشئاً من داعي قصد الحكاية، واُخرى ناشئاً من داعي اعتبار تحقّق الطلاق. واُخرى يكون في نفس عالم التصوّر بلحاظ الوعاء، كما هو الحال في مثل: «زيد عالم» و «هل زيد عالم؟».

وما مضى منّا من أنّ معنى «زيد عالم» سواء دخل عليه «هل» أو لم يدخل واحد؛ ولذا يجاب بنعم إنّما نقصد بذلك فرض الغضّ عن الوعاء، ويكون «نعم» بمنزلة تكرار المعنى من جميع الجهات، إلاّ من جهة الوعاء، أي: بمنزلة تكرار المعنى مع تبديل وعاء الاستفهام بوعاء التحقّق، وإلاّ لما كان للجواب فائدة.

وبكلمة اُخرى: أنّ كلمة «نعم» تكون في قوّة الإتيان بمعنىً مماثل لمعنى الجملة المستفهم عنها في كلّ النواحي عدا ناحية الوعاء، فوعاء معنى تلك الجملة هو وعاء الاستفهام؛ لدخول أداة الاستفهام عليها، ووعاء معنى «نعم» هو وعاء

203

التحقّق؛ لتجرّده عن الأدوات.

هذا، وقد يمكن تأويل كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) حيث ذهب إلى أنّ «هل» تدلّ على النسبة بين مفاد الجملة والاستفهام بأن يكون مقصوده هو ما قلناه من أنّ مفاد الجملة وهو النسبة التصادقيّة لوحظ بلحاظ وعاء الاستفهام، لا أن يقصد بالاستفهام معنىً اسميّ وقع طرفاً للنسبة مع مفاد الجملة، إلاّ أنّ تعبيره(رحمه الله) قاصر عن إفادة المقصود.

فإن قلت: لماذا تقسّم الجمل الإنشائيّة إلى قسمين، فبعضها يختلف عن الإخبار في عالم التصديق فقط، وبعضها يختلف عن الإخبار في عالم التصوّر بلحاظ الوعاء، فلتكن كلّ الجمل الإنشائيّة مختلفة عن الإخبار بلحاظ الوعاء، حتّى ما يكون مشتركاً بين الإخبار والإنشاء، من قبيل «أنتِ طالق»، أو «المصلّي يعيد صلاته»، فتكون النسبة التصادقيّة في «أنتِ طالق» الإنشائيّة بلحاظ وعاء الاعتبار، وفي «أنتِ طالق» الإخباريّة بلحاظ وعاء التحقّق؟

قلت: الصحيح: وجود فرق ثبوتيّ وإثباتيّ بين القسمين:

أمّا الفرق الثبوتيّ فهو: أنّ وعاء الاعتبار في «أنتِ طالق»، ووعاء الطلب في «المصلّي يعيد» ليس في عرض وعاء التحقّق على حدّ عرضيّة وعاء الاستفهام لوعاء التحقّق. أمّا وعاء الاعتبار، فلأنّ الاعتبار في أمثال «أنتِ طالق» إنّما يتعلّق بالنسبة التصادقيّة التحقّقيّة، بمعنى: أنّ المعتبر مفهوماً هو النسبة في الخارج(1).


(1) لا يخفى: أنّ مثل هذا البيان يمكن ذكره في القسم الآخر من الإنشاء أيضاً الذي ليست ضمن صيغة مشتركة بين الإنشاء والإخبار، وذلك بأن يقال: إنّ «هل زيد قائم؟» استفهام عن النسبة التصادقيّة في وعاء التحقّق، فهو لا يستفهم عن النسبة التصادقيّة

204


بلحاظ وعاء الاستفهام، ولا عن النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء الترجّي مثلاً، ولا عن ذات الموضوع أو المحمول، وإنّما يستفهم عن النسبة التصادقيّة بين الموضوع والمحمول بلحاظ وعاء التحقّق، فإنّها هي المشكوكة لديه، والنسبة التصادقيّة ليست لها حصص أو أوعية مختلفة، بل وعاؤها دائماً عبارة عن وعاء التحقّق، فتارة يحكى عنها، واُخرى يسأل عنها، أو تتمنّى، أو تترجّى مثلاً.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّ خير ما يمكن أن يقال في الإنشاءات غير المشتركة مع الإخبار في الصيغة: إنّ حرف الإنشاء من قبيل: «هل» أو «ليت» أو «لعلّ» مفاده نسبة استفهاميّة، أو نسبة التمنّي، أو الترجّي مثلاً بين النسبة الموجودة في المدخول وبين الشخص المستفهم، أو المتمنّي، أو المترجّي، وهي نسبة تامّة؛ لأنّ موطنها الذهن، فإنّها نسبته متقوّمة بطرفين: أحدهما ذهنيّ بحت، وهي النسبة الموجودة في المدخول، والآخر نفس المستفهم، أو المتمنّي، أو المترجّي الثابتة في ذهنه بالوجود الحضوريّ.

هذا في مثل الاستفهام، وأمّا في مثل الأمر، فأفضل ما يمكن أن يقال في المقام ما قلناه في تعليق سابق عن المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من وجود نسبة تامّة بعثيّة ثلاثيّة الأطراف بين الأمر والمأمور والفعل، وكذلك في النهي نقول: إنّه توجد نسبة زجريّة تامّة ذات ثلاثة أطراف. ففرّق بين الصيغ الإنشائيّة غير المشتركة مع الإخبار التي يكون فرقها عن الإخبار بمجرّد دخول أداة عليها كأداة الاستفهام أو التمنّي، أو غير ذلك، فتلك الأداة تدلّ فيها على نسبة جديدة، وتكون نسبة المدخول طرفاً من طرفيها، وبين الصيغ الإنشائيّة التي يكون فرقها عن الإخبار في الهيئة، كالأمر والنهي، فلا توجد فيها نسبتان تامّتان، بل توجد فيها نسبة تامّة واحدة ذات أطراف ثلاثة.

هذا، والذي اخترناه هنا من كون صيغة الأمر أو النهي دالّة على نسبة تامّة بعثيّة أو زجريّة ثلاثيّة الأطراف أولى من الاحتمالات الآتية، وهي ما يلي:

1 ـ أن يختار ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فيما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في صيغة الأمر،

205

وأمّا وعاء الطلب فلأنّ إبراز الطلب بمثل «المصلّي يعيد» إنّما هو بعناية: أنّ إبراز تحقّق الشيء نحو استطراق إلى تفهيم كونه مطلوباً، أو بعناية: أنّ إبراز تحقّق الشيء من العبد المفروض كونه منقاداً وممتثلاً يلازم كونه مطلوباً.

 


من أنّ صيغة الأمر تدلّ على نسبة بعثيّة ناقصة بين المادّة وذات مّا، وهيئة الجملة تدلّ على النسبة التصادقيّة بين ذات مّا وزيد مثلاً.

وهذا مبنيّ على افتراض النسبة البعثيّة محاكاة للبعث التكوينيّ باليد مثلاً، فلها منشأ خارجيّ، فتصبح ناقصة، لكن الظاهر أنّ النسبة البعثيّة في الذهن أمر مستقلّ، وموطنها الأصليّ هو الذهن، ولا نحسّ بالمحاكاة عن بعث خارجيّ، وقد مضى أنّ كلّ نسبة يكون مولدها وموطنها الأصليّ هو الذهن لا الخارج تكون نسبة تامّة.

2 ـ أن يختار مثل ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الاستفهام من دلالة الجملة الاستفهاميّة بمعونة أداة الاستفهام على النسبة التصادقيّة في ظرف الاستفهام، فكذلك نقول في جملة الأمر مثلاً: إنّها تدلّ على النسبة التصادقيّة في ظرف الطلب.

وهذا عيبه: أنّ الاستفهام استفهام عن النسبة التصادقيّة بلحاظ وعاء الخارجالتي هي محلّ شكّ المستفهم، وليس بلحاظ وعاء الاستفهام تصادق بين الموضوع والمحمول.

3 ـ أن يختار مثل ما اخترناه في الاستفهام من أنّه يدلّ على نسبة استفهاميّة تامّة بين طرفين: أحدهما المستفهِم، والآخر النسبة التصادقيّة الموجودة في الجملة المستفهم عنها، فيقال في الأمر أيضاً: إنّه يدلّ على نسبة بعثيّة تامّة بين طرفين: أحدهما الأمر، والآخر النسبة التصادقيّة الموجودة بين المادّة والفاعل التي ليست بمعنى وحدة المعنون، بل بمعنى وحدة المركز.

وهذا عيبه: أنّنا نحسّ بوجداننا بأنّ المأمور ركن مباشر في نسبة الأمر، وكذلك المأمور به، وهذا بخلاف باب الاستفهام الذي يكون الركن المباشر للاستفهام فيه عبارة عن المستفهم عنه، لا عن خصوص موضوع المستفهم عنه، أو محموله، وليس المستفهم عنه إلاّ عبارة عن النسبة التصادقيّة المفروضة بين الموضوع والمحمول.

206

وعلى كلّ حال، فالتحقّق ملحوظ أوّلاً في أمثال هذه الموارد، وهذا بخلاف القسم الثاني من الإنشاء.

وأمّا الفرق الإثباتيّ، فهو عدم وجود الأداة المستقلّة التي تساعد علىافتراض وعاء آخر غير وعاء التحقّق الذي يقتضيه نفس التجرّد كما عرفت، في حين أنّها موجودة في القسم الثاني من الإنشاء الذي يختصّ بتعبير متمحّض في الإنشائيّة.

 

الأدوات الإنشائيّة التي لا تدخل على جملة تامّة:

بقي الكلام في الأدوات الإنشائيّة التي لا تدخل على جملة تامّة، بل قد يتصوّر أنّه تكون الجملة تامّة بها، كما في قولنا: «يا زيد»، فإنّ ما سبق في الجمل الإنشائيّة لا يمكن تطبيقه بدون عناية على جملة النداء؛ إذ لا توجد فيها بقطع النظر عن حرف النداء نسبة تصادقيّة، فنقول:

إنّ تصوير مفاد الجملة الندائيّة يمكن أن يكون: إمّا بتقريب إرجاعها إلى جملة فعليّة، بحيث يكون قولنا: «يا زيد» في قوّة قولنا: «أدعو زيداً» ـ طبعاً بداعي الإنشاء لا الإخبار(1) ـ فيطبّق عليه ما ذكرناه في الجملة الفعليّة. وإمّا بتقريب آخر، حاصله: أنّ حرف النداء باعتباره منبّهاً تكوينيّاً على حدّ المنبّهيّة التكوينيّة لكلّ صوت، فإطلاقه إيجاد لما هو المنبّه تكويناً، لا لما هو حاك ودالٍّ عليه بالدلالة اللفظيّة، ولكن حيث إنّ المنبّهيّة التكوينيّة لحرف النداء نسبتها إلى زيد


(1) مع فرض فرق بين كلمة «يا» وكلمة «أدعو»، وهو أخذ الدلالة في «يا» على ما في النفس من الإنشاء على مستوى الدلالة التصوّريّة في الموضوع له؛ ولذا لم يكن مشتركاً بين الإنشاء والإخبار.