157

قد يتصوّر أنّه اُريد بالإنسان الحصّة الخاصّة من الإنسان التي هي مع الحيوان، واُريد بالحيوان الحصّة الخاصّة من الحيوان التي هي مع الإنسان، ولكن ما رأيكم في قولنا: الحرارة والبرودة لا تجتمعان؟ فهل اُريد من الحرارة الحصّة المقترنة للبرودة، ومن البرودة الحصّة المقترنة للحرارة؟! طبعاً لا، بداهة أنّ المقصود: بيان أنّهما لا يقترنان أصلاً، وهذا من أجل أنّ الحرف ليس ابتداءً موضوعاً للتحصيص، بل موضوع للنسبة، والنسبة التي بإزاء حرف العطف لا تحصّص، ومنها أداة الاستثناء كعندي عشرة دراهم إلاّ درهماً، أفهل تحصّص هذه العشرة بالتسعة، مع أنّ التسعة ليست عشرة حتّى يراد تلك الحصّة من العشرة التي هي تسعة؟ فالتحصيص هنا غير معقول، وقولوا نفس الشيء عن حرف الإضراب، كجاء زيد بل عمرو، وحرف التفسير، كهذا عسجد، أي: ذهب، وغير ذلك، وليس كلّ هذا إلاّ لأنّ مفاد الحرف ليس ابتداءً هو التحصيص والضيق، بل مفاده منشأ الضيق، أي: النسبة، والنسبة قد تضيّق وقد لا تضيّق، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. فهذا الوجه لا يمكن تصحيحه إلاّ إذا رجع إلى ما ذكرناه، فيكون نفس مسلك المشهور، وتعبيراً مسامحيّاً عمّا قلناه.

وهناك توجيه دقيق لكلامه دامت بركاته، إلاّ أنّ كلامه لا يفي ببيانه، ولا بإثباته، ولعلّه كان ينظر ارتكازاً إلى ذلك وإن كانت الفكرة غير واضحة ومحدّدة عنده، وهذا التوجيه هو ما نذكره بعنوان:

 

تعميق المسلك الثالث في تصوير المعنى الحرفيّ:

فنقول: إنّ الذي يبدو من ظاهر كلماتهم في بيان هذا المسلك الثالث خصوصاً المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) هو: أنّ النسبة الحرفيّة هي جزء ممّا هو ثابت في الذهن في مثل قولنا: «نار في الموقد» في مقابل ما في الخارج، فكما يوجد في الخارج نار وموقد،

158

وتكون بينهما نسبة، ويكون النار والموقد موجودين في نفسهما والربط مستهلك بينهما، كذلك يوجد في الذهن موازياً لما في الخارج مفهوم النار بإزاء واقع النار الخارجيّ، ومفهوم الموقد بإزاء واقع الموقد الخارجيّ، وربط بين المفهومين بإزاء الربط الخارجيّ. وهذا الربط ليس هو مفهوم الربط، بل حقيقة الربط، ونسبته إلى الربط الخارجيّ نسبة المماثل إلى المماثل، والوجود إلى الوجود مثلاً، ومفهوم النار والموقد موجودان في نفسهما، وهذا الربط موجود لا في نفسه، وليس له تقرّر ماهويّ قبل وجوده.

هذه خلاصة المسلك الثالث، وكأنّه يدّعى فيها: أنّ ما في الذهن مركب من ثلاثة أجزاء، وهي: مفهوم النار، ومفهوم الموقد، والربط بينهما.

إلاّ أنّ الصحيح خلاف هذا. وتوضيح ذلك: أنّه حينما يوجد في الخارج نار في الموقد مثلاً، فهناك اُمور عديدة قد يقال بوجودها في الخارج، منها:

1 ـ النار.

2 ـ الموقد، وهما من الجواهر الموجودة في نفسها.

3 ـ الوجود الرابط الخارجيّ بينهما مثلا وهو موجود لا في نفسه.

4 ـ صفة الظرفيّة للموقد.

5 ـ صفة المظروفيّة للنار، وهما عرضان ومفهومان انتزاعيّان من مقولة الإضافة عندهم، كالاُبوّة والبُنُوّة.

6 ـ ما يدّعونه من وجود هيئة وجوديّة للمكين بلحاظ إحاطة المكان به، وهو مقولة الأين(1).


(1) كان يرى(رحمه الله): أنّ هذه الهيئة المسمّاة بمقولة الأين مجرّد وهم وخيال، وليست أمراً واقعيّاً، وأنّ الظرفيّة والمظروفيّة من اُمور لوح الواقع، لا من موجودات العالم الخارجيّ.

159

وهناك روابط اُخرى في المقام؛ لأنّ كلّ عرض يحتاج إلى رابط بمعروضه، والشيء الموجود لا في نفسه من هذه الاُمور الستّة التي عددناها هو الشيء الثالث.

هذا حال ما في الخارج. وأمّا الذهن حينما يتصوّر ما في الخارج من النار في الموقد فلا إشكال في أنّه لا يحضر في الذهن بنفس هذا التصوّر والحضور مفهوم الظرفيّة، ولا مفهوم المظروفيّة، ولا مفهوم الأين. نعم، بإمكان الذهن أن ينظر نظرة اُخرى غير هذه النظرة إلى ما في الخارج وينتزع منها بمعونة مفهوم النار والموقد هذه المفاهيم الثلاثة، فيقول: الموقد ظرف للنار، والنار مظروفة للموقد ومتّصفة بصفة الأين، إلاّ أنّ هذا كلّه خارج عن تصوّر «نار في الموقد» كما هو واضح، فلم يبق في الذهن من تلك الاُمور الستّة ما عدا الثلاثة الاُولى، فقد يدّعى أنّه يوجد في الذهن موازياً لتلك الاُمور الثلاثة الخارجيّة مفهوم النار ومفهوم الموقد وربط بينهما، فالأوّلان موجودان في أنفسهما، والثالث موجود لا في نفسه.

والصحيح: أنّه لا يوجد في الذهن عند تصوّر «نار في الموقد» مثلاً مفهومان مستقلاّن: أحدهما مفهوم النار والآخر مفهوم الموقد وقد ربط الذهن بينهما، بل يوجد رأساً وجود ذهنيّ واحد في النفس. والبرهان على ذلك: أنّه لو وجد في الذهن عند تصوّر «نار في الموقد» مفهومان مستقلاّن لم يخل الأمر من أحد فرضين:

1 ـ أن لا يوجد رابط بينهما. وهذا لازمه أن يكون المعنى المتصوّر من «نار في الموقد» عين المعنى المتصوّر من «نار، موقد» بلا أيّ فرق في عالم التصوّر. وهذا واضح البطلان.

2 ـ أن يوجد ربط بينهما. وهذا لا يخلو من أحد وجهين:

160

الأوّل: أن يكون الرابط هو مفهوم النسبة والربط. وهذا أيضاً باطل؛ لأنّ هذا كما مضى مفهوم اسميّ وليس ربطاً.

الثاني: أن يكون الرابط هو واقع النسبة. وهذا لا يخلو من أحد وجهين:

1 ـ أن تكون النسبة الموجودة بينهما هي النسبة الظرفيّة، فهي نسبة مماثلة للربط الخارجيّ، فكما أنّ النار في الخارج مظروف والموقد ظرف وبينهما نسبة ظرفيّة، كذلك مفهوم النار في الذهن مظروف ومفهوم الموقد في الذهن ظرف له وبينهما نسبة ظرفيّة. وهذا أيضاً باطل؛ فإنّ النار الذهنيّة والموقد الذهنيّ وكلّ الصور الذهنيّة هي أعراض، وكلّها من مقولات الكيف، وليس بعضها ظرفاً لبعض، بل هي ليست اُموراً مكانيّة، فإنّها مجرّدة، والمجرّد لا يأخذ مكاناً وحيّزاً.

2 ـ أن تكون النسبة الموجودة بينهما نسبة اُخرى غير النسبة الظرفيّة، من قبيل نسبة الاقتران الزمانيّ، فهذان المفهومان مقترنان زماناً، فإنّ الصور الذهنيّة وإن لم تكن مكانيّة لكنّها زمانيّة، ووجود نسبة من هذا القبيل لا بأس به، ولكن نسبة من هذا القبيل لا تحكي عن النسبة المكانيّة، فلا تكون صورة «نار في الموقد» حاكية عن نار خارجيّة تكون واقعة بحسب الخارج في مكان، وهو الموقد. وهذا أيضاً واضح البطلان.

فإذا بطلت كلّ الشقوق، انحصر الأمر في أن نقول تعميقاً للمسلك الثالث: إنّ هناك وجوداً واحداً في الذهن لماهية «نار في الموقد»، أي: كما أنّنا نحلّل ماهية الإنسان الخارجيّ إلى الحيوان والناطق، من دون أن يشكّل كلّ منهما جزءاً وجوديّاً للإنسان في عالم الخارج، كذلك نحلّل ماهية هذا الوجود الذهنيّ الواحد إلى أجزاء ثلاثة: النار، والموقد، والنسبة بينهما، من دون أن تشكّل هذه الاُمور أجزاء وجوديّة لذلك في عالم الذهن، فالنسبة الحرفيّة جزء تحليليّ للوجود

161

الذهنيّ، وليست ـ كما يتراءى من عبائرهم خصوصاً المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) ـ جزءاً وجوديّاً له، فالحرف والاسم يتعاونان معاً في إيجاد وجود واحد، وهو وجود «نار في الموقد» في الذهن. وخير تعبير عرفيّ عن هذا الوجود الواحد هو ما جاء على لسان السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من التعبير بالحصّة، وهذا أحد الفوارق الأساسيّة بين نشأة الذهن ونشأة الخارج. فنشأة الخارج تحتفظ بأمرين مستقلّين، وتربط بينهما ربطاً منسجماً مع الموادّ والأجسام، من قبيل: ربط الظرفيّة أو الاستعلائيّة أو نحو ذلك، وأمّا نشأة الذهن فتأخذ المفهومين، وإذا أرادت الاحتفاظ باستقلالهما استحال عليها إيجاد ربط بينهما مواز لتلك النسب الخارجيّة؛ لأنّ صور تلك الأشياء ليست مادّيّةً وجسماً حتّى تقبل النسب المنسجمة مع الأجسام الخارجيّة، وإنّما هي أعراض ومجرّدات، فلكي تجعلها حاكية عمّا في الخارج توحّد بين المفهومين في الوجود الذهني، وتجعل النسبة الموازية للنسبة الخارجيّة جزءاً تحليليّاً لماهية ذلك الوجود الذهنيّ، فكأنّ الخلط بين النسبة التحليليّة والنسبة الواقعيّة صار منشأً للتشويش. وأظنّ أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إنّما ضرب صفحاً عن رأي المشهور؛ لأنّه فهم منه النسبة الواقعيّة، وأنّ في الذهن ثلاثة أشياء: النار والموقد والنسبة، فالأوّلان مستقلاّن، والثالث مستهلك، وحيث إنّه بارتكازه يرى أنّ الأمر ليس هكذا، فأراد تغيير التعبير، فعبّر بتعبيرات غامضة.

فإن قيل: إنّ بالإمكان مناقشة ما ذكرتموه من البرهان على تحليليّة هذه النسب، كنسبة الظرفيّة في الذهن، وذلك باختيار دعوى إيجاد الربط في الذهن بقيام نسبة واقعيّة مكانيّة، لكن لا بين نفس التصوّرين واللحاظين الذهنيّين للنار والموقد، ليقال: إنّهما وجودان ذهنيّان عرضيّان، ولا يعقل قيام نسبة مكانيّة بينهما،

162

بل بين الملحوظين الذهنيّين.

قلنا: إن اُريد بقيام النسبة بين الملحوظين قيامهما بين الملحوظين بالذات، فمن الواضح أنّ الملحوظ بالذات نفس اللحاظ، وبهذا يرجع إلى قيامها بين نفس اللحاظين. وإن اُريد قيامها بين الملحوظين بالعرض بما هما ملحوظان بالعرض، أي: بالمقدار المطابق لما هو الملحوظ بالذات، فمن الواضح أنّ هذا لا يمكن إلاّ مع أخذ ما يكون قابلاً للحكاية عن تلك النسبة في مرتبة الملحوظ بالذات؛ لأنّ الملحوظ بالعرض لا يرى إلاّ بمنظار الملحوظ بالذات، وقد عرفت سابقاً امتناع ذلك. وإن اُريد قيامها بين الملحوظين بالعرض بذاتيهما، لا بما هما ملحوظان، فهذا صحيح، غير أنّه لا ينفع لإيجاد الربط في عالم الذهن الذي هو المطلوب كما هو واضح.

فإن قيل: إنّنا ندّعي أنّ في الذهن وجوداً لحاظيّاً لماهية النار، ووجوداً لحاظيّاً آخر لماهية الموقد، وكما أنّ كلّ واحد من هذين الوجودين رغم كونه وجوداً لماهية النار أو الموقد بحيث يرينا بالنظر التصوّريّ ناراً وموقداً ليس في الحقيقة وبالنظر التصديقيّ ناراً وموقداً، بل صورة ذهنيّة، كذلك نفرض وجوداً ربطيّاً بين ذينك الوجودين الذهنيّين، وهذا الوجود الربطيّ بالنظر التصوّريّ نسبة مكانيّة، كما أنّ طرفيه بالنظر التصوّريّ نار وموقد، ولا ينافي ذلك أن لا يكون بالنظر التصديقيّ نسبة مكانيّة، كما أنّ طرفيه بالنظر التصديقيّ ليس ناراً أو موقداً.

وبكلمة اُخرى: أنّ قيام ما هو نسبة مكانيّة بالنظر التصديقيّ بين الوجودين الذهنيّين للنار والموقد مستحيل، ولكن قيام ما هو نسبة مكانيّة بالنظر التصوّريّ، بينهما ليس مستحيلاً، وهذا يكفي للحصول على رؤية بالنظر التصوّريّ للنار في الموقد بنحو الارتباط.

163

قلنا: إنّ هذا غير متصوّر أيضاً؛ وذلك لأنّ العقل لو كان ينال من النسبة الخارجيّة المكانيّة ماهية على حدّ ما ينال من النار الخارجيّة ماهية النار، ومن الموقد الخارجيّ ماهيته، لأمكن القول بأنّ هذه الماهية التي ينالها العقل من النسبة المكانيّة توجد بوجود ذهنيّ، ويكون هذا الوجود عين النسبة المكانيّة الحقيقيّة بالنظر التصوّريّ، وإن كان غيرها بالنظر التصديقيّ، كما هو الحال في وجود النار الذهنيّ، غير أ نّا برهنّا فيما سبق على أنّ النسبة ليس لها تقرّر ماهويّ، ولا انحفاظ مفهوميّ على حدّ انحفاظ الوجودات المحموليّة في ماهياتها، وأنّ العقل لا يمكن أن ينال من النسب الخارجيّة ماهيتها الحقيقيّة؛ لأنّها متقوّمة بشخص وجود طرفيها في اُفقها، وكلّ ما يناله العقل من النسبة الخارجيّة إنّما هو مفهوم عرضيّ من قبيل مفهوم النسبة المكانيّة، وهو مفهوم اسميّ، ولا يتحقّق به الربط بين الصورتين، وإنّما يتحقّق الربط بإيجاد نسبة واقعيّة في الذهن بينهما، وهذه النسبة إن كانت نسبة مكانيّة فإيجادها بين الصور الذهنيّة مستحيل، وإن كانت نسبة اُخرى، فالحكاية بها عن النسبة المكانيّة الخارجيّة مستحيل، فتعيّن أن تكون تحليليّة.

ثُمّ إنّه وإن تلخّص من كلّ ما ذكرناه: أنّ الحرف وضع للنسبة التحليليّة، لا للنسبة الواقعيّة الذهنيّة فضلاً عن النسبة الواقعيّة الخارجيّة، إلاّ أنّ هذا كلّه في النسب الأوّليّة دون النسب الثانويّة.

وتوضيح المقصود: أنّه كما تنقسم المفاهيم الاسميّة إلى معقولات أوّليّة، وهي المفاهيم الموازية لما في الخارج، كالإنسان والناطق والحيوان والبياض وما إلى ذلك، وإلى معقولات ثانويّة، وهي المفاهيم المتحصّلة والمتعقّلة بحسب الاُفق الذهنيّ للمعقولات الأوّليّة، وليس لها ما بإزاء خارجيّ من قبيل مفهوم النوع والجنس والفصل، حيث إنّه بعد أن نتصوّر الإنسان والحيوان والناطق نقول: إنّ

164

الإنسان نوع، والحيوان جنس، والناطق فصل، من دون أن يكون لهذه العناوين ما بإزاء خارجيّ، كذلك تنقسم النسب الحرفيّة بتقسيم شبيه بهذا التقسيم، وذلك بأن يقال: إنّ هذه النسب قد تكون أوّليّة، وهي النسب التي توازي ما في الخارج، كالنسبة بين مفهوم النار والموقد في الذهن، وقد تكون ثانويّة، وهي النسب التي ليس تَحَصُّلها وانتزاعها من الخارج، بل من نفس اُفق عقد القضيّة في الذهن، من قبيل النسبة الإضرابيّة والنسبة الاستثنائيّة والنسبة التوكيديّة والنسبة التحقيقيّة وكثير من النسب. ولنأخذ من باب المثال النسبة الإضرابيّة، فكلمة «بل» مثلاً تدلّ على الإضراب (وطبعاً لا تدلّ على مفهوم الإضراب، وإنّما تدلّ على نسبة قائمة بين المضرب عنه والمضرب إليه) وهي نسبة ثانويّة، وليست من قبيل النسبة الظرفيّة، فبينما حاقّ منبت النسبة الظرفيّة وموطنها هو الخارج يكون حاقّ موطن هذه النسبة هو الذهن، ولولا متصوّر ومُضرِب لم توجد نسبة إضرابيّة.

وما برهنّا عليه من أنّ مفاد الحرف هو النسبة التحليليّة إنّما هو في القسم الأوّل من قبيل: «في» و«من» و«عن» و«على» و«إلى» ونحو ذلك من النسب التي أصل موطنها هو الخارج، ويكون الذهن فيها طفيليّاً على الخارج، وأمّا في النسب الثانويّة كالنسبة الإضرابيّة في قولنا: «جاء زيد بل عمرو»، فالموضوع له الحرف هو النسبة الواقعيّة الذهنيّة، وليس في الذهن وجود واحد لزيد وعمرو معاً، وليس هنا تحصيص أصلاً، وإنّما يوجد هنا وجود ذهنيّ للمضرب عنه وهو زيد، ووجود ذهني للمضرب إليه وهو عمرو، وبينهما نسبة واقعيّة فنائيّة واندكاكيّة، ولا يأتي هنا ما ذكرناه من البرهان؛ لأنّ النسبة الإضرابيّة واقعاً يمكن أن توجد بين وجودين ذهنيّين؛ لأنّ موطنها هو الذهن، وليست من قبيل النسبة المكانيّة، وبهذه النسبة يرتبط أحدهما بالآخر نحو ارتباط بحيث ينتزع ببركة هذا الارتباط مفهومان

165

متضايفان، فيقال: «زيد معدول عنه» و«عمرو معدول إليه» كما وينتزع ببركة النسبة الظرفيّة مظروف وظرف، ومع فرض طرفين متغايرين في الذهن يمكن النسبة بينهما؛ لأنّ حاقّ هذه النسبة أمر ذهنيّ، ومنبته هو الذهن، وطبعاً لا أقول: إنّ النسبة الإضرابيّة تقع بين وجودين ذهنيّين بما هما ذهنيّان، بل تقع بينهما بما هما حاكيان عن الخارج. وأمّا مثل النسبة الظرفيّة فيستحيل وقوعها بين وجودين ذهنيّين بما هما ذهنيّان، ولا بينهما بما هما حاكيان عن الخارج.

وقد تلخّص من كلّ ما ذكرناه: أنّ الحروف موضوعة لواقع النسب(1)، وأنّها على قسمين:

الأوّل: ما وضع بإزاء النسب التحليليّة من قبيل: «في».

والثاني: ما وضع بإزاء النسبة الواقعيّة، من قبيل أدوات الإضراب.

وميزان القسمين هو: أنّه متى ما كانت النسب التي بإزائها الحروف موطنها الأصليّ هو الخارج والذهن انعكاس لها، فالنسب تحليليّة لا واقعيّة، كالنسبة الظرفيّة والابتدائيّة والانتهائيّة ونحو ذلك، فإنّه ينطبق عليها جميعاً ما ذكرناه من البرهان على كونها تحليليّة لا واقعيّة، ومتى ما كانت تلك النسب موطنها الأصليّ ومحلّ نشأتها الأصليّة هو الذهن، فهي مدلولة للحرف بما هي نسب واقعيّة


(1) جاء في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 1، ص 257 نقلاً عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ ما قلناه من أنّ الحروف موضوعة للنسبة التي تستدعي تعدّد الأطراف حقيقة تارةً، وتحليلاً اُخرى إنّما هو الأمر الغالب، ولكن قد يتّفق أن يكون مفاد الحرف خصوصيّة في المعنى الاسميّ، فليست حرفيّتها باعتبار كونها نسبة بين طرفين، بل باعتبار كونها خصوصيّة في الصورة الذهنيّة التي تكون بإزاء المدخول، كما في اللام الدالّة على التعيين بأحد أنحائه من الجنسيّ وغيره، كما في قولنا: «العالم» فإنّ اللام تستوفي مدلولها الحرفيّ هنا بطرف واحد، ولو كان مدلولها نسبة بين شيئين لما كانت كذلك.

166

لا تحليليّة، من قبيل النسبة الإضرابيّة(1). هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

 


(1) لا يخفى: أنّ دعوى: أنّ النسب متى ما كان موطنها الأصليّ هو الخارج، وكان الذهن فيها طفيليّاً على الخارج، فهي في الذهن نسب تحليليّة لا واقعيّة أمر صحيح؛ لأنّ البرهان ساقنا إليه، وهو: أنّ نفس تلك النسب يستحيل انتقالها من الخارج إلى الذهن، كما هو الحال في كلّ الاُمور الخارجيّة، سواء كانت نسبيّة أو عينيّة أو عرضيّة، ومثل تلك النسب يستحيل وجودها في الذهن؛ لأنّ الذهن ليس فيما بين تصوّراته ظرفيّة مثلاً أو صدوريّة أو نحو ذلك. وشبيه تلك النسب لو وجد في الذهن استحال حكايته عن الخارج، ومفهوم تلك النسب لو وجد في الذهن لم يخلق الربط بين المعاني الاسميّة في الذهن، لأنّ مفهومها بنفسه اسم يحتاج إلى ربط، فإذا استحالت كلّ الشقوق الأربعة لم يبق شيء عدا افتراض النسب التحليليّة، ولكن دعوى أنّ النسب متى ما كان مولدها وموطنها الأصليّ هو الذهن، إذن فهي واقعيّة لا تحليليّة دعوىً لا برهان عليه. فصحيح: أنّ البرهان الذي ذكر لتحليليّة القسم الأوّل لا يأتي في القسم الثاني، ولكن هذا لا يعني ضرورة كون القسم الثاني دائماً واقعيّاً لا تحليليّاً، بل يمكن أن يكون واقعيّاً ويمكن أن يكون تحليليّاً، وبهذا نستطيع أن نفسّر الفرق بين نسبة الإضافة ونسبة التوصيف. فنسبة الإضافة كما في «غلام زيد» تحليليّة وتحصيصيّة، والموطن الأصليّ لهذه النسبة هو الخارج؛ لأنّه توجد في الخارج الاثنينيّة بين الطرفين، وهما غلام وزيد، ويوجد ربط بينهما، بينما النسبة الوصفيّة كما في «زيد العالم»، أو «الرجل العالم» وإن كانت أيضاً تحليليّة وتحصيصيّة؛ لأنّها نسبة ناقصة، ولكنّها ليست نسبة مأخوذة من الخارج، بل يكون موطنها الأصليّ هو الذهن؛ لأنّ وجود النسبة الواقعيّة في أيّ صقع فرع الاثنينيّة والتعدّديّة بين الطرفين في ذاك الصقع، ولا يوجد في عالم الخارج تعدّد بين زيد والعالم، أو بين الرجل والعالم. وهذا هو عين البرهان الذي سيأتي ـ إن شاء الله ـ من قبل اُستاذنا على واقعيّة النسبة بين المبتدأ والخبر. وأمّا ما ورد في كتاب السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 1، ص 270 في نسبة الوصف والموصوف، فلو كان المقصود منه ما قد توحي إليه عبارته من أنّ النسبة الوصفيّة إنّما صارت تحليليّة لأنّها تحكي عن النسبة التصادقيّة الذهنيّة، ولعلّه لهذا قالوا: إنّ الأوصاف

167

هيئات الجمل:

المقام الثاني: في تحقيق حال هيئات الجمل، سواء كانت الجملة تامّة من قبيل «زيد عالم»، أو ناقصة من قبيل «زيد العالم».

ويوجد في مفاد هيئة الجملة مسلكان:

المسلك الأوّل: ما نسب إلى المشهور، وهو: أنّ مفاد هيئة الجملة في مثل «زيد عالم» هو النسبة بين الموضوع والمحمول، وفي مثل «زيد العالم» هو النسبة بين الوصف والموصوف ونحو ذلك، وهيئة الجملة التامّة موضوعة للنسبة التامّة، وهيئة الجملة الناقصة موضوعة للنسبة الناقصة، فكأنّ النسبة لها سنخان: تامّة وناقصة، فالجملة حينما تكون هيئتها موضوعة للتامّة، صحّ السكوت عليها، وحينما تكون هيئتها موضوعة للناقصة لم يصحّ السكوت عليها.

 


قبل العلم بها أخبار، وإنّ الجملة الوصفيّة متأخّرة رتبة عن الجملة التامّة، إذن فللنسبة الوصفيّة منبتٌ خارجيّ وإن كان خارجه هو الذهن، فنسبة الجملة الوصفيّة إلى الجملة التصادقيّة كنسبة «نار في الموقد» إلى الخارج، فهذا غير صحيح؛ لأنّ الواصف ينتزع النسبة الوصفيّة بالمعنى المعقول من الانتزاع في عرض النسبة التصادقيّة، وقد لا تخطر بباله أصلاً النسبة التصادقيّة، ولكنّه يأتي بالجملة الوصفيّة، فمن أين تأتي الطوليّة؟!

وبكلمة اُخرى: أنّ الذهن قد ينتزع من الوجود الوحدانيّ في الخارج الذي هو زيد وعالم مثلاً صورتين منفصلتين: وهما صورة زيد وصورة عالم، ويخلق بينهما النسبة التصادقيّة، فتكون النسبة عندئذ واقعيّة، واُخرى ينتزع من أوّل الأمر من ذاك الوجود الوحدانيّ صورة واحدة على شكل الحصّة، وهي صورة زيد العالم، فتكون النسبة لا محالة تحليليّة، أمّا إذا كانت النسبة خارجيّة المولد، فلا يمكن للذهن إذا أراد احتفاظ النسبة إلاّ انتزاع صورة الحصّة.

168

المسلك الثاني: ما ذهب إليه السيّد الاُستاذ دامت بركاته(1)، حيث قال: لا يعقل كون الجمل موضوعة للنسب، ولا يتمّ التقسيم إلى النسبة التامّة والنسبة الناقصة، وإنّما الجملة التامّة موضوعة لأمر نفسانيّ، وهو قصد الحكاية عن ثبوت شيء أو نفيه، والجملة الناقصة موضوعة لتحصيص المعاني الاسميّة وتضييقها، كما اختار هو ذلك في الحروف.

هذا هو البيان البدائيّ للمسلكين، وسوف يتّضح حاقّ كلا المسلكين مع ما هو الحقّ منهما من خلال بيان اعتراضات السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على مسلك المشهور مع مناقشتها، فإنّ السيّد الاُستاذ اعترض على مسلك المشهور باعتراضات أربعة، جعلها برهاناً على تماميّة مسلكه هو:

الاعتراض الأوّل: أنّه كيف تكون الجملة موضوعة للنسبة مع أنّه في بعض موارد الجملة لا تتعقّل النسبة، كما هو الحال في مثل «شريك الباري ممتنع»، أو «العنقاء ممكن»(2)؛ لأنّ تحقّق النسبة خارجاً بين طرفين فرع تحقّق طرفيها خارجاً، وشريك الباري أو العنقاء غير موجود خارجاً، فيعرف: أنّ مفاد الجملة ليس هو النسبة؛ لعدم وجودها في بعض الموارد، ويجب أن يكون مفادها ما يوجد في تمام الموارد، وإنّما هو قصد الحكاية.


(1) راجع أجود التقريرات، تحت الخطّ، ص 24 ـ 27، والمحاضرات، ج 1، ص 85 ـ 89 بحسب طبعة دار الهاديّ للمطبوعات بقم، و ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 94 ـ 99.

(2) هذا الاعتراض الأوّل مذكور في أجود التقريرات، ج 1، ص 24 تحت الخطّ، وبدلاً عن التمثيل بـ «العنقاء ممكن أو غير موجود» ورد فيه التمثيل بـ «الإنسان ممكن أو موجود». وبعض هذه الأمثلة يشتمل على الغفلة عن لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الخارج.

169

أقول: إنّ السيّد الاُستاذ قد نسب إلى المشهور أنّهم يقولون بوضع الجملة للنسبة الخارجيّة، وهذا شبيه بما ذكره في المقام الأوّل، حيث فسّر كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) بأنّ الحرف موضوع للرابط الخارجيّ، وبناءً على كون مراد المشهور هو وضع هيئة الجملة للنسبة الخارجيّة لا ينبغي تخصيص النقض على ذلك بمثل «شريك الباري ممتنع»، بل الإشكال يأتي في كلّ القضايا الخارجيّة المبنيّة على الهوهويّة، فلا نسبة خارجيّة في مثل «زيد عالم» مثلاً بين زيد وعالم، فإنّ عالم هو وصف اشتقاقيّ متّحد مع زيد خارجاً على ما يأتي توضيحه ـ إن شاء الله ـ في المشتقّ، ولا اثنينيّة خارجيّة بينهما، والنسبة الخارجيّة فرع الاثنينيّة الخارجيّة، فقد تكون هناك نسبة خارجيّة بين زيد والعلم، ولكن لا تعقل ولا تتصوّر بين زيد وعالم أيّة نسبة خارجيّة، فتخصيصه للإشكال بمثل «شريك الباري ممتنع» في غير محلّه.

وعلى أيّ حال، فالصحيح: أنّ المشهور لا يقولون بوضع هيئة الجمل للنسبة الخارجيّة.

هذا كلّه لو كان مقصوده ـ دامت بركاته ـ من النسبة النسبة الخارجيّة، كما هو صريح كلامه، وأمّا لو كان مقصوده النسبة الذهنيّة بين المفهومين، فسوف يتّضح في الجواب على الاعتراض الرابع وجودها في مثل «شريك الباري ممتنع» كما هي موجودة أيضاً في مثل «زيد عالم».

الاعتراض الثاني(1): كأنّه بناه على مسلكه في باب الوضع، وهو التعهّد، وهو:


(1) هذا الاعتراض وارد في المحاضرات، ج 1، ص 85 ـ 86 بحسب طبعة دار الهاديّ للمطبوعات بقم. أمّا بحسب طبعة موسوعة الإمام الخوئيّ ففي ج 43 من تلك الموسوعة، ص 95.

170

أنّ التعهّد لا يتعلّق إلاّ بما يدخل تحت الاختيار، والنسبة بين زيد وعالم ليست تحت اختياري أنا الواضع أو المستعمل حتّى أكون متعهّداً بها، فلا أستطيع أن أجعل زيداً عالماً، فلا يمكنني أن أقول: إنّني متى ما قلت: «زيد عالم» فأنا متعهّد بأنّ النسبة واقعة بين زيد وعالم، وإنّما الذي يكون تحت الاختيار هو قصد الحكاية عن علم زيد. فهذا هو مفاد هيئة الجملة.

وهذا الاعتراض أغرب من الاعتراض السابق؛ وذلك لأنّنا إذا جارينا هذا الطرز من التعبير، فماذا نقول عن الحروف مثلاً التي قال السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ عنها: إنّها موضوعة لتحصيص المفاهيم الاسميّة، فإذا قال: «الإنسان في السماء ممكن» فهل تحت اختياره تحقّق «الإنسان في السماء»؟ وماذا نقول في المفردات؟ فحينما يقول: «زيد» مثلاً وهو اسم لابن خالد مثلاً، فما معنى تعهّده بابن خالد؟ وهل ابن خالد تحت اختياره؟!

وحلّ المغالطة هو: أنّه لا إشكال في أنّ المتعهّد به أمر نفسانيّ، وهو قصد إخطار صورة زيد مثلاً في ذهن السامع، فحينما نقول: إنّ كلمة زيد مثلاً موضوعة لابن خالد نعني بذلك بناء على مسلك التعهّد أنّنا تعهّدنا قصد إخطار صورة ذاك المعنى في ذهن السامع، وكذا في الحروف تعهّدنا قصد إخطار صورة التحصيص في ذهن السامع، وعندئذ نقول في مثل «زيد عالم»: إنّ كونه مجعولاً للنسبة لا ينافي مسلك التعهّد، ومعنى التعهّد هنا التعهّد بقصد إخطار صورة النسبة، فهذا الإشكال لا يقتضي إبطال المسلك الأوّل، وتعيين المسلك الثاني، وغاية ما يقتضيه: أنّ المتعهَّد به يجب أن يكون أمراً نفسانيّاً، وهذا الأمر النفسانيّ، عند المشهور عبارة عن قصد إخطار صورة النسبة، وعند السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ عبارة عن قصد الحكاية، فهذا الاختلاف لا ربط له بمسألة التعهّد.

171

الاعتراض الثالث(1): كأنّه أيضاً مبنيّ على أصل موضوعيّ، وحاصله: أنّ جملة «زيد عالم» تختلف عن الكلمات الأفراديّة، فالكلمات الأفراديّة ليست لها دلالة تصديقيّة، وإنّما لها دلالة تصوّريّة. وأمّا «زيد عالم» فلها دلالة تصديقيّة، أي: توجب ولو اقتضاءً وشأناً التصديق بأنّ زيداً عالم. وبعد هذا الأصل الموضوعيّ نقول: إنّه إن كان مفاد الجملة هو النسبة كما يقوله المشهور لزم عدم الدلالة التصديقيّة؛ إذ مجرّد صدور هذا الكلام وكونه موضوعاً للنسبة لا يقتضي كون متكلّمه صادقاً فيما يقول؛ إذ لا يصدّق على تقدير الكذب بالنسبة. وأمّا إذا قلنا: إنّ مفاد الجملة قصد الحكاية فمقتضى الطبع الأوّليّ للكلام هو تحقّق قصد الحكاية، سواء كان صادقاً أو كاذباً، فتثبت الدلالة التصديقيّة، وحيث إنّنا فرضنا في الأصل الموضوعيّ ثبوت الدلالة التصديقيّة تعيّن كون مفاد الجملة قصد الحكاية.

وهذا الاعتراض أيضاً لا يمكن المساعدة عليه. وتوضيح ذلك: أنّنا إن قلنا في باب


(1) هذا الاعتراض موجود في أجود التقريرات، ج 1، ص 24 ـ 25 تحت الخطّ، والمحاضرات، ج 1، ص 85 بحسب طبعة دار الهاديّ للمطبوعات بقم، وكذلك في ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 95.

وهذا الأصل الموضوعيّ الذي افترضه اُستاذنا الشهيد(قدس سره) لهذا الاعتراض، وهو تخصيص الدلالة التصديقيّة بالجمل التامّة دون المفردات كأنّه مستنبط من عدم إمكان توجيه هذا الاعتراض إلاّ بتفسير الدلالة التصديقيّة بوجه لا يأتي في المفردات، وهو الوجه المذكور هنا في المتن في بيان هذا الاعتراض، لا أنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله)يؤمن حقّاً باختصاص الدلالة التصديقيّة بالجملة، فإنّه مضى في بحث التعهّد في مقام شرح كلام السيّد الخوئيّ أنّ مبنى التعهّد يعني اشتمال الدلالة الوضعيّة على المعنى التصديقيّ دائماً، وقد ورد التصريح من السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في المقام في مصابيح الاُصول، مباحث الألفاظ، تأليف علاء الدين بحر العلوم تقريراً لبحث السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ص 59 بثبوت الدلالة التصديقيّة في المفردات أيضاً.

172

الوضع بغير مسلك التعهّد، من قبيل مسلك الاعتبار، فقد عرفت: أنّ الدلالة الوضعيّة إنّما هي دلالة تصوّريّة تنشأ من الوضع، وإن سمع من اصطكاك حجر، ولا توجد دلالة تصديقيّة بالوضع، لا في المفرد ولا في الجملة الناقصة ولا في الجملة التامّة، فكما أنّ كلمة نار لا تدلّ بالوضع إلاّ على صورة النار كذلك «زيد عالم» لا تدلّ بالوضع إلاّ على صورة زيد عالم، ولا نتعقّل على غير مسلك التعهّد دلالة تصديقيّة بالوضع، وإنّما الدلالة التصديقيّة دائماً تنشأ من ظهورات حاليّة وسياقيّة وأمارات نوعيّة، غير باب الأوضاع على ما يأتي إن شاء الله؛ ولذا تتأثّر باختلاف الحالات، هذا إذا قلنا في باب الوضع بغير مسلك التعهّد. وأمّا إذا قلنا فيه بمسلك التعهّد فتثبت الدلالة التصديقيّة بالوضع حتّى في المفردات بالرغم من عدم وجود قصد الحكاية في المفردات، فحينما يقول: «زيد» يدلّ بالتعهّد على قصد إخطار معناه، وحينما يقول: «زيد عالم» يدلّ أيضاً بالتعهّد على قصد نفسانيّ، مع خلاف بين مقتضى مسلك المشهور ومسلك السيّد الاُستاذ في حقيقة هذا القصد النفسانيّ، هل هو قصد إخطار النسبة أو قصد الحكاية، فلا دخل للدلالة التصديقيّة في تعيين مفاد الجملة في قصد الحكاية دون النسبة.

الاعتراض الرابع: هو أوجه تلك الاعتراضات وأمتنها وإن لم يذكر في كتابات كلماته دامت بركاته، وحاصله: أنّه لو كانت الجملة موضوعة للنسبة، استحال الفرق بين الجملة التامّة والناقصة، فالمشهور وإن كانوا يفرّقون بين جملة «زيد عالم» وجملة «زيد العالم» بأنّ الاُولى موضوعة للنسبة التامّة والثانية موضوعة للنسبة الناقصة، لكن هذا الفرق لا محصّل له؛ لأنّ النسبة أمر بسيط لا يتصوّر فيها زيادة ونقصان، وليست لها أجزاء وعناصر متعدّدة حتّى تشتمل تارة على كلّ العناصر الفلانيّة مثلاً، فتسمّى بالنسبة التامّة، واُخرى تفقد بعض تلك العناصر، فتسمّى بالنسبة الناقصة، إذن فما هو معنى كون النسبة تارة تامّة واُخرى ناقصة؟

173

فالمشهور يعجزون عن إعطاء فرق معقول بين الجملة التامّة والناقصة. فالصحيح في الفرق بينهما: أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة للتحصيص كالحروف، وتكون دالّة على التحصيص دلالة تصوّريّة، والجملة التامّة موضوعة للدلالة التصديقيّة التي هي في مثل «زيد عالم» عبارة عن قصد الحكاية، فبهذا يتّضح الفرق بين مثل «زيد عالم» و«زيد العالم» حيث إنّ الأوّل مشتمل على دلالة تصديقيّة وهي قصد الحكاية والثاني لا يدلّ إلاّ على دلالة تصوّريّة(1).

أقول: التحقيق: أنّ التماميّة والنقصان من شؤون النسبة بما هي هي في المرتبة السابقة على طروّ التصديق أو النفي، أو أيّ حالة نفسانيّة عليها، وممّا يشهد لذلك: أنّنا لو أدخلنا أداة الاستفهام على جملة «زيد عالم» فقلنا: «هل زيد عالم؟»، فمن المعلوم أنّ مدخول أداة الاستفهام هنا ليست له دلالة تصديقيّة على قصد الحكاية؛ لأنّه بصدد الاستفهام عن ذلك، فكيف يقصد الحكاية؟ ولا يعقل الاستفهام عن المطلب التصديقيّ، وإنّما يعقل عن المطلب التصوّريّ، فالمستفهم عنه ليس إلاّ أمراً تصوّريّاً محضاً، بينما نحن نرى في هذا المثال بالذات أنّه لو بدّلنا جملة «زيد عالم» التي هي جملة تامّة إلى جملة «زيد العالم» التي هي ناقصة، وقلنا: «هل زيد العالم»، أصبح الاستفهام ناقصاً، ويحتاج إلى تتمّة، كَأن يقال: «هل زيد العالم موجود؟» أو «هل زيد العالم نائم؟» ونحو ذلك مع أنّ كلا المدخولين متمحّض في المطلب التصوّريّ» وليس في أحدهما قصد الحكاية، فهذا شاهد على وجود فرق في حاقّ النسبة التامّة والناقصة في عالم التصوّر المحض قبل أن نصل إلى مرحلة


(1) هذا التعبير لا ينسجم مع ما مضى عن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في حقيقة الدلالة الوضعيّة، من أنّها دلالة تصديقيّة، وكان بالإمكان تتميم المطلب مع حذف فرضيّة كون دلالة المركّب الناقص تصوّريّة.

174

التصديق.

وأمّا تصوير هذا الفرق فهو وإن لم تف بذلك كلمات المشهور فيما أعلم، إلاّ أنّ التحقيق في ذلك هو: أنّ النسبة الناقصة في مثل «زيد العالم» نسبة تحليليّة، كما هو الحال في بعض الحروف، من قبيل: «في»، وليست موجودة في صقع الوجود الذهنيّ، وإنّما الموجود في صقع الذهن وجود ذهنيّ واحد، وليس هناك وجودان مع حبل بينهما. نعم، هذا الوجود الواحد وجود لمركّب تحليليّ يكون له بالتحليل أجزاء، وأحد أجزائه هو النسبة، فهذه النسبة طبعاً ناقصة لا يصحّ السكوت عليها؛ لأنّها لا ترى في عالم الذهن، وإنّما هي تحليليّة، فلا يُرى إفادةً واستفادةً إلاّ شيء واحد، فكأنّه ألقيت كلمة مفردة، فكما لا يصحّ السكوت على المفرد كذلك لا يصحّ السكوت على «زيد العالم». وأمّا النسبة التامّة في «زيد عالم» فهي من قبيل القسم الآخر من النسب الحرفيّة، كالنسبة الإضرابيّة، أعني: أنّها نسبة واقعيّة موجودة في صقع الذهن، فتوجد في الذهن صورتان مستقلّتان لزيد ولعالم، وبينهما نسبة التصادق. ولأجل التشبيه والتوضيح نقول: إنّ حال الذهن هو حال المرآة، فقد ينعكس شيء واحد في مرآتين، فتوجد في عالم المرايا صورتان مستقلّتان وبينهما نسبة أشدّ من نسبة التماثل الموجود فيما لو كانت الصورتان لشيئين متماثلين، وهي نسبة التصادق، أي: أنّهما انعكاسان لشيء واحد، وحكايتان عن شيء واحد، فعلى رغم أنّه توجد في عالم المرايا صورتان مستقلّتان بينهما نسبة لا يوجد في عالم المحكيّ والخارج إلاّ شيء واحد، فنحن نشبّه الرؤية الذهنيّة بالمرايا، حيث إنّها تأخذ من عالم الخارج أو أيّ عالم آخر صوراً، وقد تأخذ صورتين عن شيء واحد، فمثلاً تأخذ من عالم الخارج صورة زيد وصورة عالم بما هما حاكيان عن موجود واحد في الخارج، وتكون بينهما نسبة التصادق،

175

وعلى هذا الأساس صحّ السكوت على هذه النسبة، فإنّه يُرى في عالم الذهن شيئان وبينهما حبل، بينما في موارد النسبة الناقصة لم يكن يُرى إلاّ شيء واحد، وبهذا ظهر السرّ في أنّه: لماذا يصحّ «هل زيد عالم؟»، ولا يصحّ «هل زيد العالم؟»، فإنّ الاستفهام يكون دائماً عن النسبة، وفي قولنا: «هل زيد عالم» توجد في مدخول «هل» نسبة واقعيّة موجودة في صقع النفس، ويستفهم عنها، أي: عن مدى تطابقها لما في الخارج. وأمّا في قولنا: «هل زيد العالم» فالنسبة تحليليّة، لا واقعيّة، ففي عالم الذهن لا يرى شيئان مع نسبة حتّى يستفهم عنها، وإنّما يرى شيء واحد، فقولنا: «هل زيد العالم» يكون من قبيل قولنا: «هل زيد»، فكما لا يصحّ هذا لا يصحّ ذلك.

فإن قلت: إذا كان السرّ في التماميّة وصحّة السكوت عليه في مثل «زيد عالم» هو كون النسبة واقعيّة، فلماذا لا يصحّ السكوت على مثل النسبة الإضرابيّة، مع أنّها أيضاً نسبة واقعيّة، ففي مثل قولنا: «جاء زيد، بل عمرو» لو حذفنا كلمة جاء، وقلنا: «زيد بل عمرو» كان الكلام ناقصاً كما هو واضح.

قلت: السرّ في نقصان ذلك هو: أنّ النسبة الإضرابيّة وإن كانت نسبة واقعيّة، لكنّها نسبة بين ثلاثة اُمور، لا بين أمرين، فإذا حذف أحد الاُمور الثلاثة كان من الطبيعيّ أن يصبح الكلام ناقصاً، فإنّ النسبة الإضرابيّة تحتاج إلى مضرب عنه وهو زيد، ومضرب إليه وهو عمرو، ومضرب فيه وهو الحكم بالمجيء بقوله: جاء؛ فإنّ الإضراب من زيد إلى عمرو لا معنى له إلاّ في حكم من الأحكام، كالحكم بالمجيء.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ الاعتراضات الأربعة غير واردة على المسلك المشهور، وأنّ مسلك المشهور مطلب معقول متصوّر في نفسه، بل نقول: إنّ

176

المسلك الثاني في نفسه غير صحيح؛ لأنّه مورد لإشكالين: إشكال مبنائيّ وإشكال آخر:

أمّا الإشكال الأوّل: فهو أنّه ماذا يقصد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بقوله: إنّ «زيد عالم» يدلّ على قصد الحكاية؟ فإن أراد أنّه يدلّ على قصد الحكاية دلالة تصوّريّة، أي ينقش في ذهن السامع تصوّراً صورة مفهوم (قصد الحكاية) فهذا بديهيّ البطلان؛ إذ معنى ذلك كون «زيد عالم» مرادفاً لقصد الحكاية، وهذا واضح البطلان، وإن أراد ـ وهو صريح كلامه ـ أنّه يدلّ على قصد الحكاية دلالة تصديقيّة، بمعنى الكشف عن قصد نفسانيّ جزئيّ في نفس المتكلّم، فهذه الدلالة مسلّمة، والمشهور لا ينكرونها، إلاّ أنّها ليست بالوضع، بل بقرائن حاليّة كما أشرنا إلى ذلك، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في تنبيه تبعيّة الدلالة للإرادة. والبرهان على عدم كونها بالوضع: أنّنا بيّنّا في بحث الوضع: أنّ مبنى السيّد الاُستاذ وهو كون الوضع عبارة عن التعهّد غير صحيح، وأنّ من ثمرات الخلاف في حقيقة الوضع: أنّ الدلالة الوضعيّة على مبنى التعهّد تصديقيّة، وعلى سائر المباني تصوّريّة، ولا يمكن أن تكون تصديقيّة.

وأمّا الإشكال الثاني: فهو أنّ الوجدان يشهد بأنّ جملة «زيد عالم» ينبغي أن يكون لها سنخ معنىً واحد محفوظ في تمام موارد استعمالاتها، وهذا الشيء ثابت بناءً على رأي المشهور من كون هذه الجملة موضوعة للنسبة التامّة. فنقول: إنّ «زيد عالم» تفيد بالدلالة التصوّريّة النسبة التصادقيّة، وهذه النسبة في مرحلة الدلالة التصديقيّة تارة تُحكى كما في قولنا: «زيد عالم» واُخرى يستفهم عنها كما إذا دخلت عليها أداة الاستفهام، فقلنا: «هل زيد عالم؟» وثالثة يتمنّى كما في قولنا: «ليت زيداً عالم» ورابعة يترجّى كما في قولنا: «لعلّ زيداً عالم» وما إلى ذلك.

177

وأمّا على مسلكه ـ دامت بركاته ـ من دلالة «زيد عالم» على قصد الحكاية، فمن الواضح: أنّ هذه الجملة حينما تصبح مدخولة لمثل الاستفهام لا تدلّ على قصد الحكاية؛ فإنّ المتكلّم لا يستفهم عن قصد الحكاية، وإنّما يستفهم عن الواقع، إذن فيتّضح: أنّ مسلك المشهور هو الصحيح دون هذا المسلك. ولو أنكرنا شهادة الوجدان بوحدة المعنى في «زيد عالم» في تمام موارد استعمالاتها، فلا أقلّ من وجوب الاعتراف بمسلك المشهور في مثل هذه الموارد التي أصبحت هذه الجملة مدخولة لأمثال هذه الحروف لعدم إمكان الالتزام بقصد الحكاية في ذلك، أي: يجب على السيّد الاُستاذ أن يعترف بمسلك المشهور ولو في الجملة.

وقد أوردتُ عليه ـ دامت بركاته ـ النقض بـ «هل زيد عالم؟» فأجاب عن الإشكال بأنّنا نلتزم بأنّ «هل» مع مدخوله قد وضع مجموعاً لقصد الاستفهام عن شيء.

فأوردتُ عليه بأمرين:

أحدهما: أنّنا نبدّل مثال: «هل زيد عالم؟» بقولنا: «أحكي لك: أنّ زيداً عالم»، حيث إنّ جملة الفعل مع مفعولها لها وضع نوعيّ مطّرد في سائر الموارد، ويبعد افتراض وضع خصوص مثل «أحكي لك: أنّ زيداً عالم» لمعنىً خاصّ.

وثانيهما: أنّه حينما يقول المتكلّم: «هل زيد عالم؟» يصحّ للمخاطب أن يجيب بقوله: نعم. وكلمة «نعم» تكون بمنزلة تكرار الكلام الذي استفهم عنه، لكي تكون دلالته التصديقيّة هي التصديق بوقوعه، ولو كانت جملة «هل زيد عالم؟» بمجموعها موضوعة لمعنىً، ومدخول «هل» ليس له معنىً، فلا معنى لتصديقه بنعم.

فأجاب ـ دامت بركاته ـ عن ذلك بأنّ كلمة «نعم» تكون بمنزلة التكرار للّفظ المدخول دون معناه، ولا ضير في أن يكون المدخول حينما يستعمل مع «هل»

178

لا معنى له مستقلّ، وحينما يكرّر بكلمة «نعم» يفيد قصد الحكاية.

فقلت له: إنّ كلمة «نعم» تكون بحكم تكرار المعنى، وليست بحكم تكرار اللفظ فقط، ولهذا ترى: أنّه لو سأل سائل مثلاً: هل جاء المولى؟ وقصد بكلمة المولى العبد، لا يصحّ أن يقال في جوابه: نعم، ويقصد بذلك: أنّه نعم جاء السيّد(1).

 

هيئة الجملة الفعليّة:

ثُمّ إنّنا إلى هنا وضّحنا مفاد هيئة الجملة الخبريّة التي حمل فيها اسم على اسم، من قبيل «زيد عالم». وأمّا الجملة الخبريّة التي اسند فيها فعل إلى اسم، من قبيل «ضرب زيد» فالصحيح: أنّها أيضاً تدلّ على النسبة التصادقيّة تماماً كالنسبة التصادقيّة في «زيد عالم»، أو على ما يشبهها.

وتوضيح ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ جملة «ضرب زيد» تدلّ على نسبة تامّة، ولهذا يصحّ السكوت عليها، كما لا إشكال في أنّها تدلّ على النسبة الصدوريّة، ولهذا نعرف: أنّ الضرب قد صدر من زيد، والنسبة الصدوريّة نسبة تحليليّة ناقصة، لا واقعيّة؛ لأنّ النسبة الصدوريّة موطنها الأصليّ هو الخارج، وليست صورة الضرب تصدر في عالم الذهن من صورة اُخرى، وقد عرفت فيما سبق: أنّ كلّ نسبة يكون موطنها الأصليّ هو الخارج لا الذهن يستحيل أن تكون في الذهن واقعيّة، بل لابدّ أن تكون تحليليّة وناقصة، ومن هنا يعرف: أنّ جملة «ضرب زيد» مشتملة على نسبتين: نسبة صدوريّة ونسبة تامّة، ولا يمكن افتراض كون النسبة


(1) كان بإمكان السيّد الخوئيّ(رحمه الله) أن يجيب على ذلك بأنّ كلمة «نعم» بمنزلة تكرار المعنى الذي كان يقصده المتكلّم من مدخول الاستفهام لولا دخول الاستفهام عليه.

179

التامّة هي نفس النسبة الصدوريّة، فيتبرهن بهذا وجود نسبتين في هذه الجملة: إحداهما: نسبة مستفادة من هيئة الفعل التي هي خارجة عن محلّ الكلام؛ لأنّنا نتكلّم في هيئات الجملة، والاُخرى: نسبة مستفادة من هيئة الجملة. وإذا كان الأمر هكذا، فلابدّ أن تكون النسبة الصدوريّة هي المستفادة من الفعل، والنسبة التامّة هي المستفادة من الجملة، ببرهان: أنّه من نفس كلمة «ضرب» يستفاد معنى صدور الضرب، إذن فهيئة «ضرب» تدلّ على النسبة الصدوريّة بين الضرب وبين فاعل ما، وبالتالي تدلّ كلمة «ضرب» بالتبع على فاعل ما، فكان المستفاد من كلمة «ضرب» مركّباً بالتحليل العقليّ من الضرب وذات ما والنسبة الصدوريّة بينهما، وذلك: إمّا بأن يفرض الركن الأصليّ هو الذات، فكأنّما قال: «ذات له الضرب»، أو يفرض الركن الأصليّ هو الضرب، فكأنّما قال: «ضَرْبُ ذات»، والظاهر: أنّ كلمة «ضرب» تنسجم مع كلا الفرضين، أي: افتراض كون الركن الأصليّ هو الذات، وافتراض كونه هو الضرب. ثُمّ يأتي دور هيئة الجملة المتحقّقة بضمّ الفاعل إلى الفعل، حيث يقال: «ضرب زيد» وهذه الهيئة تدلّ على النسبة التامّة بين ضرب وزيد، وهذه النسبة التامّة يمكن تفسيرها بأحد شكلين: فإمّا أن يفرض أنّها تماماً كالنسبة التصادقيّة بين زيد وعالم في قولنا: «زيد عالم». وإذا كان الأمر كذلك تعيّن بعد ذكر كلمة زيد: أنّ مقصود المتكلّم من «ضرب» كان هو المعنى الأوّل، أعني: أنّ الركن الأصليّ في تلك الماهية التي ترجع بالتحليل العقليّ إلى الضرب وذات ما ونسبة صدوريّة هو الذات، فكأنّما قال: «ذات له الضرب زيد» ومن الواضح عندئذ وجود النسبة التصادقيّة (بمعنى تصادق عنوانين على معنون واحد) بين تلك الذات وزيد.

وإمّا أن يفرض أنّها عبارة عن النسبة التصادقيّة بين الضرب وزيد، فكأنّما

180

جعل الركن الأصليّ في مفاد «ضرب» هو الضرب، إلاّ أنّ المقصود من النسبة التصادقيّة هنا هو التصادق على مركز واحد، حيث إنّ هناك فرقاً بين أن يفرض الضرب منسوباً بنسبة تحليليّة إلى ذات، ويفرض زيد متّحداً مع ذات اُخرى، أو يفرض الضرب منسوباً بنسبة تحليليّة إلى ذات، ويفرض زيد متّحداً مع تلك الذات؛ فإنّه توجد في الفرض الثاني نسبة والتصاقٌ بين الضرب وزيد غير موجودين بينهما في الفرض الأوّل، وهي نسبة تصادق المنتزعين على مركز واحد، لا التصادق على معنون واحد، فيقال: إنّ هيئة «ضرب زيد» تدلّ على هذه النسبة والالتصاق، أو التصادق في المركز، لا في المعنون(1).

 


(1) هذا البحث الذي أفاده اُستاذنا الشهيد(قدس سره) هنا يتّضح به الجواب على إشكال ينجم قهراً عن الطريقة التي اتّبعها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في فهم معنى هيئة الجملة التامّة، وهيئة الجملة الناقصة، وحقيقة النسبة التامّة والناقصة، والإشكال ما يلي:

بعد أن ساقنا البرهان إلى أنّ النسبة متى ما كان الذهن فيها طفيليّاً على الخارج فهي تحليليّة، ومتى ما كانت تحليليّة فمرجع الأمر إلى التحصيص، ومتى ما رجع الأمر إلى التحصيص كانت النسبة ناقصة، ولم يصحّ السكوت عليه، أمّا في جملة المبتدأ والخبر مثل: «زيد قائم» فالنسبة غير مأخوذة من الخارج؛ إذ لا اثنينيّة في الخارج بين زيد وقائم حتّى تكون بينهما نسبة في الخارج، فهي نسبة ذهنيّة واقعيّة يصحّ السكوت عليها، نرى: أنّ هذا الأمر الذي انتهينا إليه يخلق لنا مشكلةً في الجملة الفعليّة مثل «ضرب زيد» وهي: أنّه لا شكّ في أنّ جملة «ضرب زيد» جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، في حين أنّه لا شكّ في أنّ النسبة بين ضرب وزيد، وهي ـ على ما اشتهر ـ نسبة صدوريّة موطنها الأصليّ هو الخارج، والذهن فيها متطفّل على الخارج، فإنّ الضرب لا يصدر عن زيد في الذهن، وإنّما يصدر عنه في الخارج، إذن فالبرهان السابق يجرّنا إلى القول بأنّ هذه النسبة تحليليّة تحصيصيّة ناقصة. وهذا البرهان يناقض الوجدان القائل بأنّ النسبة في «ضرب

181


زيد» نسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

والجواب يكون من أحد وجهين:

الوجه الأوّل: ما جاء في المتن، من أنّ هذا الإشكال نتج من تخيّل وجود حرف واحد دالّ على النسبة في «ضرب زيد»، في حين أنّ هذا البرهان مع ذاك الوجدان يبرهنان لنا وجود نسبتين مفهومتين بهيئتين: إحداهما: نسبة ناقصة مفهومة من هيئة الفعل؛ وذلك قضاءً لحقّ النسبة الصدوريّة المفهومة من كلمة «ضَرَب»، والاُخرى: نسبة تامّة مفهومة من هيئة الجملة الفعليّة، وهي «ضرب زيد»، وذلك قضاءً لحقّ كون «ضرب زيد» جملة تامّة.

ولهذه النسبة أحد تفسيرين تبعاً لمحتملي معنى «ضرب»:

التفسير الأوّل: كونها نسبة تصادقيّة بين الموضوع والمحمول، تماماً من سنخ النسبة في «زيد قائم»، وهذا بتبع فرض الركن الأصليّ في الماهية التحليليّة لـ «ضَرَب» هو الذات، فكأنّما قال: «ذات ضاربة زيد».

والتفسير الثاني: كونها نسبة تصادقيّة بلحاظ المركز، وهذا بتبع فرض الركن الأصليّ في الماهية التحليليّة لـ «ضَرَب» هو الضرب، فيكون المقصود بالنسبة التصادقيّة هنا هو التصادق بلحاظ المركز، باعتبار أنّ مركز عنوان الضرب متّحد خارجاً مع مركز عنوان زيد في مجموع مركّب من عرض ومحلّ.

الوجه الثاني: ما جاء نقله عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في كتاب السيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ في الجزء الأوّل ص 310 ـ 311 بعنوان فرضيّة ثانية لتشخيص مدلول الفعل، وكأنّه من إضافته(رحمه الله) في وقت طبع الكتاب، وهو: أن يفترض في المقام وجود حرف واحد، وهو هيئة الفعل، لا وجود حرفين، وأنّ هيئة الفعل تدلّ على تلك النسبة التصادقيّة (ويقصد بها التفسير الثاني من التفسيرين الماضيين، أعني: التصادق بلحاظ المركز). وأمّا النسبة الصدوريّة فهي مأخوذة ضمن مادّة الفعل دون هيئة، ولا دلالة لهيئة الجملة الفعليّة في