332

أنّ النقص في قدرة المكلّف، فيقع التزاحم بين المصلحتين، والتزاحم إنّما يوجب رفع اليد عن الأمر التعيينيّ بكلّ منهما عند وصول الحكمين، أمّا إذا وصل أحد الحكمين دون الآخر، فلا تزاحم بينهما، ولا موجب لرفع اليد عن الأمر التعيينيّ، وفي ما نحن فيه لا يصل الحكمان معاً؛ إذ مع وصول الأمر الواقعيّ لا حكم ظاهريّ، وفرض وصول الحكم الظاهريّ هو فرض عدم وصول الحكم الواقعيّ، إذن فالمقتضي للأمر التعيينيّ وهي المصلحة التعيينيّة موجود، والمانع وهو المزاحم للأمر التعيينيّ مفقود؛ لأنّ التزاحم بين أمرين فرع وصولهما، وهذا أحد الفوارق بين باب التعارض وباب التزاحم؛ حيث إنّ قوام التزاحم بالوصول؛ إذ مع عدم وصول أحدهما لا يقع المكلّف في ضيق، بينما التعارض بين حكمين يثبت سواء وصل كلا الحكمين أو لا.

واُخرى نختار الشقّ الثاني، وهو عدم اشتمال الحكم الظاهريّ على مصلحة توازي مصلحة الواقع، وإشكال لزوم التفويت هو إشكال ابن قبة المعروف في باب الأحكام الظاهريّة، وليس إشكالا جديداً، والمفروض الإجابة عليه: إمّا بأنّ الفوت شيء لابدّ منه على كلّ حال، وهو الجواب بناءً على مبنى الطريقيّة المحض، وإمّا بجواب من قبيل دعوى: وجود مصلحة في التفويت.

هذا تمام الكلام في فرض انكشاف الخلاف بالجزم واليقين، وقد تحصّل ضعف القول بالإجزاء بكلا تقريبيه.

وأمّا إذا فرض انكشاف الخلاف تعبّداً، فإمّا أن يكون الانكشاف بأمارة مثبتة لجميع اللوازم، أو يكون بأصل من الاُصول:

أمّا إذا كان انكشاف الخلاف بأمارة كما لو بنى على وجوب صلاة الجمعة بالاستصحاب، ثُمّ عثر على رواية تامّة الجهات تدلّ على وجوب الظهر، فالصحيح هنا أيضاً عدم الإجزاء، ولزوم الإعادة والقضاء؛ وذلك لأنّه حتّى لو

333

فرض كون الحجّة المخالفة قد تكوّنت حجّيّتها من الآن ولو من باب فرض: أنّ الرواية لم تكن واردة قبلئذ، ووردت الآن، يكون مفادها الذي هي حجّة فيه ناظراً إلى كلّ الأزمنة: من الماضي والحال والاستقبال، فتدلّ على أنّ الواجب كان هو الظهر ولم يأتِ به، فتجب الإعادة، ويجب القضاء، من دون فرق بين كون القضاء بالأمر السابق أو بأمر جديد، ولا بين كون موضوع وجوب القضاء هو الفوت أو عدم الإتيان، فعلى كلّ تقدير يجب القضاء مادامت مثبتات الأمارة حجّة.

وأمّا إذا انكشف الخلاف بأصل من الاُصول، فلتحقيق الحال في ذلك نستعرض صوراً عديدة للمطلب، مع بيان الحال في كلّ واحدة منها:

الصورة الاُولى: أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة، بأن يفرض مثلا: أنّه شكّ في أثناء وضوئه في جزء من الأجزاء بعد التجاوز إلى جزء آخر، فتمسّك بقاعدة التجاوز غافلا عن خروج الوضوء منها بالتخصيص وصلّى، ثُمّ اطّلع على خروج الوضوء عن قاعدة التجاوز، فجرى في حقّه استصحاب عدم الإتيان بذلك الجزء، فإذا كان ذلك في أثناء الوقت، فلا إشكال في وجوب الإعادة؛ لأنّه قد ثبت عدم الإتيان بالمطلوب بحكم الاستصحاب، مضافاً إلى قاعدة اقتضاء الاشتغال اليقينيّ الفراغ اليقينيّ، وإن كان بعد الوقت، فإن قلنا بأنّ القضاء بنفس الأمر السابق ولو بأن نستكشف ذلك من دليل القضاء، فقد أصبح حاله حال الأداء، فلا إشكال في وجوب القضاء بنفس البيان، وإن قلنا بأنّ القضاء بأمر جديد، فإن قلنا: إنّ موضوعه هو عدم الإتيان، فهذا الموضوع يثبت بالاستصحاب، ويجب القضاء، وإن قلنا: إنّ موضوعه هو الفوت والخسارة الملازم لعدم الإتيان، فهنا يرد على فرض وجوب القضاء إشكال صاحب الكفاية (رحمه الله)(1):



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 135 بحسب طبعة المشكينيّ.

334

من أنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت لوازمه، فلا يثبت وجوب القضاء، بل نرجع إلى البراءة عنه(1).

وهذا كلام في نفسه موافق للصناعة، إلّا أنّ فيه إشكالا فقهيّاً واحداً، وهو: أنّه لو تمّت هذه الصناعة في موارد الاستصحاب الجاري بعد الوقت، بمعنى تكوّن موضوعه بعد الوقت، أو تنجّزه على المكلّف بعد الوقت، لتمّت أيضاً في موارد الاستصحاب الجاري في الوقت، فمثلا لو شكّ في أثناء الوقت: أنّه هل صلّى أو لا، فاستصحب عدم الصلاة، ومع ذلك قصّر، فلم يصلِّ إلى أن فات الوقت، فيقال: إنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت، فلا يجب عليه القضاء مع أنّ هذا ممّا لا يظنّ بفقيه أن يلتزم به.

ويمكن حلّ هذا الإشكال ببيان: أنّ الاستصحاب إذا جرى وتنجّز في أثناء الوقت، فقد وجبت عليه الصلاة ظاهراً، ويصبح هذا الوجوب الظاهريّ موضوعاً لقوله: «اقضِ مافات كما فات»، فلو ترك وجب عليه القضاء، بينما لو كان الاستصحاب جارياً بعد الوقت لا قبله، لم يفته واجب ظاهريّ في الوقت، ولا يمكن إثبات فوت الواقع باستصحاب عدم الإتيان، كما أنّ الاستصحاب لو فرض جارياً في أثناء الوقت، ولكنّه لم يكن واصلا إليه ومنجّزاً عليه، لم يصدق أيضاً الفوت والخسارة؛ فإنّ الحكم الظاهريّ ليس كالحكم الواقعيّ الذي يصدق بتركه الخسارة ولو لم يتنجّز عليه، فإنّ الحكم الظاهريّ روحه التنجيز، فمع عدم التنجّز لا تصدق خسارة.



(1) إلّا أنّ هذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ، وإنّما هذا مرجعه إلى أنّ الحكم الواقعيّ الأدائيّ مقطوع السقوط: إمّا بالامتثال، أو بانقضاء الوقت، والحكم الواقعيّ القضائيّ مشكوك الحدوث؛ للشكّ في حدوث موضوعه، وهو الفوت.

335

ويمكن النقاش في هذا الحلّ بأن يقال: إنّ ظاهر دليل القضاء بعد فرضه واجباً مستقلاًّ أنّه وجوب واقعيّ، كما هو الحال في ما هو الظاهر من كلّ أمر من الأوامر، من قبيل: (صلِّ) و(صم) وغير ذلك؛ إذ المفروض: أنّه ليس بقاءً للأمر الأوّل حتّى يقال: إنّه يتبعه في الواقعيّة والظاهريّة، من قبيل: (الميسور لا يسقط بالمعسور) الذي يتبع فيه حكم الميسور في الواقعيّة والظاهريّة، وفي الوجوب والاستحباب حكم المعسور، وإذا كان وجوب القضاء وجوباً واقعيّاً، قلنا: هل موضوع هذا الوجوب خصوص فوت الواجب الواقعيّ، أو موضوعه فوت الصلاة الواجبة سواء كانت واجبة بالوجوب الواقعيّ، أو الظاهريّ؟

فإن فرض الأوّل قلنا: لا سبيل إلى إثبات فوت الواقع ولو جرى الاستصحاب وتنجّز في أثناء الوقت؛ لأنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت والخسارة إلّا بالملازمة العقليّة، إذن فلا يجب القضاء حتّى على من جرى في حقّه الاستصحاب في أثناء الوقت وتنجّز، وهذا ما قلنا: إنّه لا يظنّ بفقيه أن يقول به.

وإن فرض الثاني لزم من ذلك: أنّ من جرى في حقّه استصحاب عدم الإتيان في الأثناء وتنجّز عليه، ثُمّ ترك إلى أن فات الوقت، كان القضاء واجباً واقعيّاً عليه، بحيث حتّى لو كان في علم الله قد صلّى في الوقت يجب عليه القضاء، فلو تذكّر صدفة بعد انتهاء الوقت أنّه قد صلّى، فمع ذلك يجب عليه القضاء، وهذا أيضاً ممّا لا يظنّ بفقيه أن يلتزم به.

إلّا أنّ الصحيح: أنّ هذا النقاش يمكن حلّه بأن يقال: إنّ دليل القضاء حيث إنّه يكون بلسان التدارك، فلا ينبغي قياسه بالأوامر الابتدائيّة الصرف، ولا يبعد استظهار كونه تبعاً للشيء المتدارك، فإن كان المتدارك واجباً فهذا واجب، وإن كان مستحبّاً فهذا مستحبّ، وإن كان واقعيّاً فهذا واقعيّ، وإن كان ظاهريّاً فهذا ظاهريّ، كلّ هذا بنكتة ظهور الأمر بالقضاء في كونه تداركيّاً، وإذا كان الأمر

336

كذلك، قلنا: إنّه لو جرى الاستصحاب في الوقت وتنجز عليه، فقد وجبت عليه ظاهراً الصلاة، وهذا الوجوب مشمول لقوله: «اقضِ ما فات كما فات»، فلو لم يمتثله إلى أن انتهى الوقت، وجب عليه القضاء وجوباً ظاهريّاً، بينما لو جرى الاستصحاب بعد الوقت، لا يوجد هنا فوت وخسارة بلحاظ الحكم الظاهريّ في داخل الوقت، ولم يثبت فوت بلحاظ الواقع؛ لأنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت، فلا يثبت عليه وجوب القضاء.

الصورة الثانية: أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب في الشبهة الحكميّة، كما لو فرض: أنّ صلاة الجمعة مستصحبة الوجوب، وهو كان يرى حاكماً على هذا الاستصحاب، ثُمّ عدل عن هذا الرأي، فأخذ يستصحب وجوب صلاة الجمعة، وحينئذ فإن انكشف له ذلك في أثناء الوقت، فلا إشكال في وجوب الإعادة، ولو لم يعد إلى أن انقضى الوقت فعليه القضاء. وطبعاً قضاء كلّ شيء بحسبه، وقضاء صلاة الجمعة يكون بالإتيان بالظهر(1).

والوجه في وجوب القضاء ـ مع فرض كون القضاء بأمر جديد ـ ما مضى في الصورة الاُولى: من استظهار الأمر بقضاء ما فات على حدّ الأمر الذي كان ثابتاً لما فات من أمر واقعيّ أو ظاهريّ، أمّا مع فرض كون القضاء بالأمر الأوّل، فوجوب القضاء في غاية الوضوح.

وإن انكشف له ذلك بعد انتهاء الوقت، فإن قلنا: إنّ القضاء بالأمر السابق، وجب القضاء، وإن قلنا: إنّه بأمر جديد، وقلنا: إنّ موضوعه عدم الإتيان، وجب القضاء أيضاً؛ فإنّ الموضوع مركّب من جزءين: من عدم الإتيان بشيء وهو ثابت



(1) بل بهذا الاستصحاب ثبت: أنّه وجبت عليه الظهر بعد انتهاء وقت الجمعة، فعليه قضاؤها؛ لأنّها فاتت.

337

بالوجدان، وكون ذلك الشيء واجباً وهو ثابت بالاستصحاب، وإن قلنا: إنّ موضوعه الفوت، لم يثبت القضاء؛ لأنّ إثبات الفوت بالاستصحاب تمسّك بالأصل المثبت، كما في الصورة الاُولى(1).

وقد يتخيّل هنا إمكان إثبات الموضوع بالاستصحاب وإن لم يمكن ذلك في الصورة الاُولى؛ وذلك لأنّ الموضوع هنا مركّب من فوت شيء، وكون ذلك الشيء واجباً، وفوت شيء ثابت بالوجدان؛ فإنّه قد فاتته الجمعة حتماً، وكونه واجباً ثابت بالاستصحاب.

وفي الحقيقة قد جعلنا هذه الصورة في مقابل الصورة الاُولى؛ لامتيازها عنها بهذه الشبهة، فأردنا ذكرها مع جوابها.

والجواب: أنّ الموضوعات حتّى ما كان منها بظاهر صورتها تقييديّة وإن كنّا ندّعي رجوعها عرفاً إلى التركيب، لكن في خصوص الفوت نقول: إنّ الفوت ليس منتزعاً من مجرّد عدم الإتيان حتّى يفرض: أنّ الموضوع مركّب من الفوت ومن وجوب الفائت، وإنّما الفوت منتزع من خصوص عدم إتيان ما فيه مزيّة، فمن ترك بالنهار صلاة ثلاث ركعات مثلا ـ وهي غير مشروعة ـ لا يقال عنه: إنّه فاتته في هذا النهار صلاة ثلاث ركعات، فالفوت عنوان تقييديّ منتزع من مجموع عدم الإتيان، وكون ما لم يأتِ به ممّا لابدّ من الإتيان به، فكما لو كان الشكّ في الجزء الأوّل من منشأ الانتزاع، وهو عدم الإتيان، لم يكفِ استصحاب هذا العدم في إثبات هذا العنوان الانتزاعيّ وهو الفوت، كذلك لو كان الشكّ في الجزء الثانيمن ذلك وهو اللابديّة، لم يكفِ استصحابُها في إثبات هذا العنوان الانتزاعيّ.



(1) إلّا أنّ هذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ كما أشرنا إليه آنفاً في الاستصحاب الموضوعيّ.

338

الصورة الثالثة: ما إذا انكشف الخلاف بالعلم الإجماليّ، كما لو فرض: أنّه يعلم إجمالا في يوم الجمعة: إمّا بوجوب صلاة الظهر، أو الجمعة، لكنّه كان يرى انحلال هذا العلم الإجماليّ بقيام دليل شرعيّ تعبّديّ على وجوب الجمعة مثلا، ثُمّ انكشف له عدم دليل شرعيّ تعبّديّ على ذلك، وهذا الانكشاف لو كان قبل أن يصلّي صلاة، فلا إشكال في أنّه لابدّ له أن يعمل وفق هذا العلم الإجماليّ، وإنّما يقع الكلام في فرضيّتين:

الاُولى: أنّه لو حصل هذا الانكشاف قبل الصلاة، ثُمّ صلّى الجمعة وترك الظهر إلى أن انتهى الوقت، خلافاً لما هي وظيفته من العمل بالعلم الإجماليّ، فهل يجب عليه القضاء، أو لا؟

والثانية: أنّه لو حصل هذا الانكشاف بعد أن صلّى الجمعة، فهل يجب عليه الظهر أداءً إن كان في الوقت، أو قضاءً إن كان في خارج الوقت، أو لا؟

أمّا في الفرضيّة الاُولى: فلا يخلو إثبات وجوب القضاء فيها من صعوبة ثابتة في كلّ ما لو علمنا إجمالا في الوقت بأحد الواجبين ممّا له القضاء كالصلاة سواء اعتقد أوّلا وجود ما يحكم على العلم الإجماليّ ويحلّه، ثُمّ انكشف الخلاف، أو لم يعتقد ذلك من البدء، فإنّه ـ على أيّ حال ـ يقال: إنّ الواجب الأدائيّ قد سقط حتماً: إمّا بالامتثال أو بانتهاء الوقت، ووجوب القضاء عليه غير معلوم، لأنّه فرع كون الواجب هو ما تركه، وهو غير ثابت، فكيف يتنجّز عليه وجوب القضاء؟!(1).



(1) ولكن لو قلنا بعدم وجوب القضاء عليه، فهذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الواقع، وكيف لا والمفروض انكشاف الخلاف له قبل أن يعمل شيئاً أصلا، أو المفروض عدم قيام حكم ظاهريّ له منذ البدء حالٍّ للعلم الإجماليّ.

339

ويمكن إثبات وجوب القضاء عليه بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أن يؤتى هنا بنفس الجواب الذي أتينا به في الصورتين السابقتين: من أنّ الأمر بالقضاء ليس دائماً واقعيّاً، بل هو يدور مدار مافات، ومادام أنّه كان يجب عليه أن يأتي بصلاة الظهر في الوقت ـ ولو للعلم الإجماليّ ـ يجب عليه القضاء في خارج الوقت.

وهذا الوجه تماميّته هنا أصعب منها في الصورتين السابقتين؛ وذلك لأنّه كان يكفي في الصورتين السابقتين أن يدّعى: أنّ قوله: «اقض مافات كما فات» ناظر إلى كلّ الوجوبات الشرعيّة والخطابات المجعولة له تعالى، واقعيّة كانت أو ظاهريّة، فهو ـ تعالى ـ يأمر بقضاء مافات من أوامر أمراً واقعيّاً فيما لو فاته أمر واقعيّ، وظاهريّاً فيما لو فاته أمر ظاهريّ، وأمّا في المقام، فلم يثبت فوت أمر إلهيّ منه، وإنّما القدر المتيقّن فوت شيء كان منجّزاً عليه من قبل العقل بالعلم الإجماليّ، فلكي يشمله دليل القضاء يجب أن يفرض: أنّ هذا الدليل أرحب صدراً من قبول الواجبات الشرعيّة فقط، فيشمل حتّى الوظائف التي كانت لأجل حكم العقل بالتنجيز من دون ثبوت كونها شرعيّة، فيُثبت دليل القضاء في ذلك وجوباً ظاهريّاً للقضاء.

الوجه الثاني: استصحاب عدم الإتيان بالواجب بناءً على أنّ موضوع القضاء هو عدم الإتيان، لا الفوت.

وهذا الوجه غير صحيح؛ إذ ليس الشكّ في إتيان شيء وعدم الإتيان به، بل هو يقطع بأنّه أتى بالجمعة، وبأنّه لم يأتِ بالظهر، وإنّما الشكّ في أنّ أيّاً منهما هو الواجب، فلا معنى لاستصحاب عدم الإتيان بالواجب.

ومن هنا يتّضح: أنّ ثبوت الإشكال في وجوب القضاء هنا لا يفرّق فيه بين فرض كون الموضوع لوجوب القضاء ـ بناءً على كونه بأمر جديد ـ هو الفوت، أو عدم الإتيان.

340

الوجه الثالث: أنّه من أوّل الأمر يعلم إجمالا بأنّه إمّا تجب عليه الجمعة فعلا، أو يجب عليه قضاء الظهر بعد الوقت لو لم يأتِ به حين الوقت، فيكون من العلم الإجماليّ في التدريجيات، ويكون منجّزاً.

وهذا الوجه إنّما يتمّ لو كان قبل إتيانه بالجمعة عازماً على ترك الظهر، فهو يعلم أنّه لا يأتي بالظهر، وبالتالي يعلم بأنّه: إمّا تجب عليه الجمعة الآن، أو يجب عليه قضاء الظهر بعد الوقت، أمّا إذا كان يحتمل أنّه سيأتي بالظهر، فليس جميع أطراف علمه الإجماليّ فعليّة في ظرفها؛ فإنّه لا يعلم بأنّه: إمّا يجب عليه الجمعة الآن، أو يجب عليه قضاء الظهر وجوباً فعليّاً فيما بعد انقضاء الوقت؛ إذ يحتمل أنّه سيصلّي الظهر، فأحد طرفي العلم الإجماليّ عبارة عن التكليف على تقدير، لا التكليف الفعليّ في ظرفه، وعلم إجماليّ من هذا القبيل لا يكون منجّزاً، فإذا صلّى الجمعة ثُمّ تمّ عزمه على ترك الظهر، فقد حصل له العلم الإجماليّ: إمّا بوجوب الجمعة، أو وجوب قضاء الظهر بعد الوقت، ولكن أحد طرفي هذا العلم الإجماليّ خارج عن محلّ ابتلائه بالامتثال، وهو صلاة الجمعة، فلا يؤثّر هذا العلم الإجماليّ أيضاً.

الوجه الرابع: مبنيّ على كون القضاء بالأمر الأوّل، بأن يكون من أوّل الأمر قد توجّه إليه أمران: أمر بجامع الصلاة في الوقت أو خارجه، وأمر بإيقاعها في الوقت، وعليه فهو من أوّل الأمر تكوّن عنده علمان إجماليّان: علم بوجوب الجمعة أو إيقاع الظهر في الوقت، وعلم بوجوب الجمعة أو جامع الظهر في الوقت أو خارجه، وكلاهما علمان منجّزان؛ لكونهما علماً بتكليف فعليّ على كلّ تقدير، إذن فجامع الظهر قد تنجّز عليه، فيجب عليه الإتيان به ولو خارج الوقت.

وهذا الوجه غير صحيح من ناحية بطلان المبنى؛ حيث إنّنا لا نقول بكون القضاء بالأمر الأوّل.

الوجه الخامس: أن يقال: إنّه يعلم إجمالا: إمّا بوجوب صلاة الظهر عليه الآن

341

ولو كانت قضاءً، أو وجوب صلاة الجمعة عليه في الاُسبوع الآتي؛ إذ لو كانت وظيفته الجمعة، ففي كلّ اُسبوع تكون وظيفته ذلك، ففي الاُسبوع الآتي تجب عليه الجمعة، ولو كانت وظيفته الظهر، فالآن تجب عليه صلاة الظهر ولو كانت قضاءً، وهذا علم بتكليف فعليّ في ظرفه على كلّ تقدير، فيكون منجّزاً.

وهذا الوجه تامّ، إلّا أنّه يختصّ بالواجب الذي يتكرّر من قبيل صلاة الظهر والجمعة، أمّا لو فرض مثلا أنّه علم إجمالا بالقصر أو التمام في حالة من الحالات التي يشكّ فيها أنّ الوظيفة هل هي القصر أو التمام، ولم يعلم بأنّ هذه الحالة سوف تتكرّر له، فلا يأتي هذا الجواب.

فقد تحصّل: أنّه في الواجبات التكراريّة لا إشكال في وجوب القضاء اعتماداً على الوجه الخامس، وأمّا في غير ما يثبت تكراره، فلا نفتي بوجوب القضاء، لكنّنا نحتاط فيه احتياطاً وجوبيّاً لأجل الوجه الأوّل(1).

وأمّا في الفرضيّة الثانية: فالوجه الأوّل لا يتأتّى فيها، سواء التفت في خارج الوقت أو في داخله.

أمّا الأوّل فواضح؛ إذ لم يتنجّز عليه الظهر في داخل الوقت حتّى تطبّق عليه قاعدة (اقضِ مافات كما فات) لإثبات وجوب القضاء الظاهريّ(2). وأمّا الثاني فلأنّ علمه الإجماليّ في داخل الوقت علم بوجوب الجمعة أو الظهر، والطرف



(1) ولو لم نحتط في ذلك احتياطاً وجوبيّاً، ولا أفتينا بوجوب القضاء، فقد عرفت: أنّ المسألة بالدقّة لا علاقة لها بإجزاء الحكم الظاهريّ عن الواقع.

(2) إلّا أنّ هذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الواقع، بل إنّ الواقع الأدائيّ ساقط يقيناً: إمّا بالامتثال، أو بانتهاء الوقت، والواقع القضائيّ مشكوك الحدوث؛ للشكّ في الفوت.

342

الأوّل قد خرج عن محلّ ابتلائه بالامتثال، فلا أثر لهذا العلم الإجماليّ، فلا يجب عليه الأداء(1) فضلا عن القضاء.

وأمّا الوجه الثاني، وهو الاستصحاب، فلو تمّ في الصورة السابقة يأتي هنا أيضاً خصوصاً بالنسبة إلى الأداء؛ إذ لا تأتي فيه شبهة كون موضوع الحكم هو الفوت، لا عدم الإتيان.

وأمّا الوجه الثالث والرابع، فلا يأتيان هنا؛ لأنّ الطرف الأوّل للعلم الإجماليّ ـ وهو وجوب الجمعة ـ قد خرج عن محلّ ابتلائه بالامتثال قبل تكوّن العلم الإجماليّ.

وأمّا الوجه الخامس، فهو يأتي في المقام حرفاً بحرف، فهو يعلم الآن بأنّه: إمّا يجب عليه الظهر أداءً أو قضاءً، أو تجب عليه الجمعة في الاُسبوع الآتي.

الصورة الرابعة: ما إذا تنجّز عليه التكليف بأصالة الاشتغال من باب الدوران بين الأقلّ والأكثر بناءً على أصالة الاشتغال فيه، وحينئذ لو كنّا نقول بأصالة الاشتغال على أساس العلم الإجماليّ بوجوب الأقلّ لا بشرط، أو وجوب الأكثر، ودعوى أنّ هذا دوران بين المتباينين، إذن رجعت هذه الصورة إلى الصورة الثالثة، فالكلام الكلام، ولو كنّا نقول بأصالة الاشتغال على أساس الشكّ في حصول الغرض، فالكلام فيه هو الكلام في الصورة الثالثة من حيث الوجوه الأربعة الاُولى، ولكن الوجه الخامس لا يأتي هنا؛ إذ لا يمكن أن يقال بأنّه يعلم إجمالا:



(1) يمكن ربط ذلك بمسألة إجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الواقع؛ لأنّ امتثاله للحكم الظاهريّ الذي كان له قبلا هو الذي أخرج أحد طرفي العلم الإجماليّ عن محل ابتلائه، كما يمكن أيضاً فرض ذلك أجنبيّاً عن مسألة امتثال الحكم الظاهريّ؛ لأنّ كون حكمه السابق الذي امتثله ظاهريّاً ليس هو الدخيل في خروج أحد طرفي العلم الإجماليّ عن محلّ ابتلائه، بل حتّى لو كان وهميّاً وخياليّاً، لكان يؤثّر امتثاله نفس التأثير.

343

إمّا بوجوب الأكثر عليه الآن، أو وجوب الأقلّ عليه في يوم آخر؛ فإنّ الأقلّ واجب عليه في يوم آخر حتماً: إمّا وحده، أو في ضمن الأكثر. هذا.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّه متى ما كان لدليل الأمر الواقعيّ إطلاق، فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء بنحو الفتوى في غالب الفروض، وبنحو الاحتياط الوجوبيّ في فرض نادر(1) ما لم يرد مخصّص خارجيّ لذلك الإطلاق من قبيل حديث (لا تعاد) في غير الأركان في الصلاة.

هذا هو البحث الاُصوليّ في المقام.

يبقى أنّه في بعض الموارد قد يقال بالإجزاء: إمّا بدعوى عدم الإطلاق لدليل الأمر الواقعيّ، أو بدعوى تخصيصه، وذلك من قبيل إجزاء الفتوى السابقة للأعمال السابقة عند رجوع المقلّد إلى تقليد فتوىً اُخرى، أو من قبيل ما لو كان الخلل بغير الأركان في الصلاة.

وتشخيص هذه الموارد وتحقيق الكلام فيها موكول إلى علم الفقه. هذا.

وإذا كان مقتضى القاعدة في الأمر الظاهريّ هو عدم الإجزاء، ففي الأمر الخياليّ بطريق أولى، وإنّما قلنا بطريق أولى لأنّ الوجهين الماضيين للإجزاء في الأمر الظاهريّ لا يأتيان في الأمر الخياليّ الوهميّ؛ إذ لا حكم ظاهريّ حتّى تفرض حكومته على الحكم الواقعيّ، أو تفرض السببيّة فيه، غاية ما هناك: أنّه تخيّل العبد الأمر بشكل معيّن فامتثله، ثُمّ انكشف الخلاف.

هذا تمام الكلام في بحث الإجزاء.



(1) لو سمّينا عدم القول بوجوب الاحتياط في ذلك الفرض النادر بإجزاء الحكم الظاهريّ عن الواقع، فتسمية الفرض الأخير، أعني: آخر شقّ من شقوق فرضيّة العلم الإجماليّ بهذا الإسم أولى. والأمر سهل، فإنّ هذا شبيه بمجرّد النقاش اللفظيّ.

345

الفصل الرابع. الأوامر

وجوب مقدّمة الواجب

* تقسيمات المقدّمة.

شرط الوجوب.

شرط الواجب.

الشرط المتقدّم.

* تقسيمات الواجب.

المطلق والمشروط.

المعلّق والمنجّز.

النفسيّ والغيريّ.

347

إنّ موضوع هذا البحث ليست هي المقدّمة الوجوبيّة، بل هي المقدّمة الوجوديّة. والفرق بينهما من حيث عالم الجعل: أنّ الوجوب مقيّد ومشروط بالاُولى دون الثانية، ومن حيث عالم الملاك: أنّ الاُولى لها دخل في أصل كون الفعل ذا مصلحة واحتياج الإنسان إليه، بينما الثانية يكون دخلها في تحصيل المصلحة وإشباع حاجة الإنسان، فمثلا مجيء أيّام البرد مقدّمة وجوبيّة للحكم بالتدفئة بالنار؛ إذ قبلها لا مصلحة في التدفئة ولا حاجة للإنسان إليها بينما سدّ المنافذ المانعة عن الدفء مقدّمة وجوديّة للتدفئة بالنار؛ إذ به يتمّ تحصيل المصلحة وتشبع حاجة الإنسان، ووجوب التدفئة مثلا مشروط بمجيء أيّام البرد، وليس مشروطاً بسدّ المنافذ، وبما أنّ الوجوب مقيّد ومشروط بالمقدّمة الوجوبيّة فمن الواضح: أنّه لا يترشّح الوجوب على نفس المقدّمة والشرط، فإنّه لولاها لما كان العبد ملزماً بشيء، فالبحث إنّما هو حول المقدّمة الوجوديّة.

هذا حال موضوع البحث.

وأمّا محموله، فليس عبارة عن اللابدّيّة التكوينيّة للمقدّمة في مقام الحصول على ذي المقدّمة، فإنّ هذه هي معنى المقدّميّة، ولا عبارة عن اللابدّيّة العقليّة، بمعنى عدم صحّة الاعتذار عن ترك ذي المقدّمة بعدم المقدّمة، فيقول: أنا ما صلّيت لأ نّني لم أتوضّأ؛ فإنّ ذلك واضح بالضرورة، وليس فيه أيّ نقاش أو خلاف، ولا عبارة عن الوجوب المولويّ المجعول بالجعل الفعليّ؛ فإنّه موقوف على

348

الالتفات إلى المقدّمة، بينما قد يكون الآمر بشيء غير ملتفت إلى المقدّمة، وغير مطّلع أصلا على احتياج المأمور به إلى تلك المقدّمة، وإنّما هو عبارة عن الوجوب المولويّ المجعول ارتكازاً وشأ ناً، بحيث لو التفت إليه لطلبه.

هذا حال محمول البحث.

وأمّا النسبة المدّعاة بين هذا المحمول وذاك الموضوع فهي نسبة الملازمة العقليّة، لا الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة التي هي أخصّ من الملازمة العقليّة، حيث لا تكون إلّا إذا كانت الملازمة بيّنة؛ إذ لا مبرّر لقصر النزاع على هذا الأخصّ بعد أن كانت الآثار المطلوبة من الوجوب الغيريّ تترتّب ـ لو ثبت الوجوب ـ بالملازمة العقليّة ولو لم تكن بيّنة.

وبعد أن عرفت ذلك يقع البحث عن مقدّمة الواجب، وتحقيق الحال فيها في ضمن بحثين:

349

البحث الأوّل. وجوب مقدّمة الواجب

تقسيمات المقدّمة

* شرط الوجوب.

* شرط الواجب.

* الشرط المتقدّم.

351

قد قسّمت المقدّمة إلى مقدّمة وجوبيّة ومقدّمة وجوديّة، وهذا ما قد مضى في مستهلّ البحث، ولا حاجة إلى تكراره.

وقد قسّمت المقدّمة بتقسيمات اُخرى لا حاجة إليها؛ إذ لا يترتّب عليها محصول من ناحية ما هو المقصود في المقام، وهو وجوب المقدّمة، وذلك من قبيل التقسيم إلى كون المقدّمة عقليّة أو شرعيّة أو عاديّة، أو التقسيم إلى كونها مقدّمة الوجود أو مقدّمة الصحّة، أو التقسيم إلى مقدّمة داخليّة أو خارجيّة، ونحو ذلك، فمتى ما تحقّقت المقدّميّة جاء النزاع سواء كانت ذاتيّة وهي المسمّاة بالعقليّة، أو شرعيّة عرضيّة نشأت من تقييد الواجب بفعل كالوضوء، فيصبح المقيّد بما هو مقيّد متوقّفاً على القيد، وهكذا سائر التقسيمات يتّضح بالتأمّل عدم الحاجة إليها، وإنّما الذي يستحقّ التعرّض له هو آخر تلك التقسيمات التي جاءت في الكفاية، وهو تقسيم المقدّمة إلى الشرط المقارن والمتقدّم والمتأخّر، فيذكر هذا التقسيم تمهيداً للدخول في إشكال الشرط المتأخّر المعروف.

وأمتن صيغ ذاك الإشكال أن يقال: إنّ الشرط المتأخّر: إمّا أن يؤثّر في مشروطه، أو لا، والثاني خلف؛ إذ لا نتعقّل للشرطيّة معنىً إلّا التأثير الضمنيّ في المشروط، وكونه جزءاً من أجزاء العلّة المولّدة للمشروط.

وعلى الأوّل: فهل ظرف التأثير هو ظرف المشروط، أو ظرف الشرط؟

فعلى الأوّل، يلزم تأثير المعدوم لعدم الشرط وقتئذ، وهو باطل بالبداهة، وعلى

352

الثاني، يلزم التأثير في الماضي مع أنّ الماضي قد وقع، والواقع لا ينقلب عمّا وقع عليه.

والكلام في كيفيّة التخلّص عن إشكال الشرط المتأخّر يقع في عدّة مقامات:

1 ـ في شرط الحكم والوجوب.

2 ـ في شرط الواجب.

3 ـ فيما ألحقه صاحب الكفاية بالشرط المتأخّر، وهو الشرط المتقدّم.

شرط الوجوب:

أمّا المقام الأوّل: وهو شرط الوجوب، كما لو أوجب المولى الصيام في النهار على من سوف يفعل عملا معيّناً في الليلة الآتية مثلا، فقد ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): أنّ الشرط ـ في الحقيقة ـ هو الوجود اللحاظيّ المقارن، لا الوجود الخارجيّ للشرط، فإنّ الحكم حقيقة قائمة في نفس المولى، فهو يحكم مثلا بأنّ من سوف يفعل الفعل الفلانيّ في الليلة الآتية يجب عليه الصوم في هذا اليوم، وهذا الحكم من قبله لا يكون متوقّفاً على أن يفعل أحد ذلك الفعل في الليلة الآتية، وإنّما يكون متوقّفاً على تصوّر المولى ولحاظه لهذا الشرط حتّى يستطيع أن يحكم بحكم مقيّد به، وهذا التصوّر واللحاظ مقارن لزمان الحكم(1).

وأوردت على ذلك مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بأنّ هذا خلط بين الجعل والمجعول، فهذا الكلام إنّما يناسب عالم الجعل، فإنّ الجعل مرجعه إلى قضيّة شرطيّة وتقديريّة تجعل ولو لم يوجد الشرط خارجاً، فجعلها لا يتوقّف على أزيد



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 146 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليق المشكينيّ.

353

من التصوّر واللحاظ، وأمّا في المجعول، وهو ثبوت الحكم والوجوب على شخص معيّن بالذات، وخروج الجزاء بشأنه من التقديريّة إلى الفعليّة، فهو ـ لا محالة ـ متوقّف على فعليّة الشرط في حقّه، والمؤثّر هنا إنّما هو الشرط الخارجيّ، فالوجوب وليد أمر لم يولد، وهذا هو إشكال الشرط المتأخّر(1).

وتحقيق الكلام في هذا المقام: أنّ الإشكال في الشرط المتأخّر للوجوب يكون في ثلاثة مواقع:

الأوّل: في مقام الجعل وتشريع الحكم على موضوعه بنحو القضيّة الحقيقيّة، والإشكال فيه يكون بأحد تقريبين:

1 ـ ما مضى، وحاصله: لزوم تأثير المتأخّر في المتقدّم، وتأثير المعدوم، وهو محال.

وهذا جوابه ما ذكره صاحب الكفاية: من أنّ الجعل والتشريع يكفي فيه لحاظ ذلك الشرط، وهو مقارن للجعل، ولا يكون للشرط بوجوده الخارجيّ أثر في ذلك.

2 ـ ما يظهر من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في الإشكال في الشرط المتأخّر ـ على ما في تقرير بحثه(2) ـ من لزوم التهافت في عالم لحاظ المولى.

وتوضيحه: أنّ المولى إذا أراد أن يوجب على العبد مثلا صوم يوم السبت على



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 224 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 278 ـ 279 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، والمحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 312 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 226 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 280 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

354

تقدير أن يصلّي صلاة الليل في ليلة الأحد، فلابدّ له من تقدير ولحاظ صدور صلاة الليل منه في ليلة الأحد، بينما هذا التقدير هو تقدير انتهاء يوم السبت، فكيف يمكنه أن يوجب على هذا التقدير صوم يوم السبت؟!

والجواب: أنّ تقدير صلاة الليل في ليلة الأحد لا ينحصر في تقديرها ماضيةً وفي الزمان السابق، بل قد تقدّر صلاة الليل مستقبلة، أي: أنّ المولى يقدّر أنّ هذا العبد سوف يصلّي صلاة الليل في ليلة الأحد، ويوجب عليه الصوم على هذا التقدير، لا أنّه يقدّر أنّه قد صلّى صلاة الليل في ليلة الأحد، ويوجب عليه الصوم على هذا التقدير.

والحاصل: أنّ تحديد ظرف المقدَّر من حيث فرضه مستقبلا أو ماضياً يكون بيد نفس المقدِّر، وليس معنى تقدير شيء في زمان لكي يرتّب على ذلك التقدير الحكم تقدير تحقّقه ومضيّه، بل قد يقدّر أنّه سوف يتحقّق، وهذا اللحاظ لا ينافي لحاظ يوم سابق لإيجاب الصوم فيه، فلا تهافت في اللحاظ.

الثاني: في مقام المجعول.

وتقريب الإشكال هو التقريب الأوّل الذي مضى، وجوابه؛ إنكار وجود شيء وحكم حقيقةً اسمُه المجعول وراء الجعل، وإنّما هو أمر خياليّ، وسيأتي توضيح ذلك ـ إن شاء الله ـ في بحث الواجب المطلق والمشروط، وحاصله: أنّ المجعول الذي يفرض تحقّقه بعد الجعل حين فعليّة الموضوع هل نسبته إلى الجعل هي أنّه مجعولُ ذلك الجعل، أو هي نسبة المسبّب إلى السبب، والمقتضى إلى المقتضي؟

فإن قيل بالأوّل، فهو غير معقول؛ لأنّ المجعول والجعل حالهما حال الإيجاد والوجود، فإنّ الجعل إيجاد، والمجعول وجود، والتغاير بين الإيجاد والوجود اعتباريّ لا حقيقيّ، وإن قيل بالثاني بدعوى: أنّ المقتضى كثيراً ما يتأخّر عن مقتضيه إلى أن يستكمل شروطه، قلنا: إنّ هذا المجعول الذي هو المسبّب

355

والمقتضى هل يحدث خارج نفس المولى والجاعل، أو يحدث في عالم نفس الجاعل؟

أمّا الأوّل فباطل؛ لوضوح: أنّ الحكم ليس من الاُمور الخارجيّة كالسواد والبياض، والحرارة والبرودة، وأمّا الثاني فأيضاً باطل؛ لوضوح: أنّه يكفي في فعليّة الحكم تحقّق موضوعه خارجاً سواء التفت إلى ذلك المولى أو لم يلتفت إليه، أو اعتقد خطأً عدمه.

إذن فالمجعول إنّما هو مجرّد خيال وتصوّر للجاعل، فهو حينما يتصوّر المستطيع مثلا ويجعل له وجوب الحجّ، فهو بنظره التصوّريّ يرى كأنّه قذف هذا الوجوب إلى البعيد، وإلى مستطيع قد يكون غير مولود بعدُ الآن، نعم فاعليّة الحكم ومحركيّته عقلا إنّما تكون مع انطباق عنوان الموضوع على شخص في الخارج، فإذا انطبق على هذا الشخص عنوان: أنّه سيصلّي في ليلة الأحد صلاة الليل، حكم العقل عليه بلزوم إطاعة الأمر بصوم السبت، لكن انطباق هذا العنوان عليه ليس بابه باب التأثير والتأثّر، وإنّما بابه باب الانتزاع، وحتّى لو لم يكن حكم من الأحكام مجعول من قبل المولى قد يقال: زيد سيصلّي صلاة الليل، فينتزع من هذا الشخص عنوان (سيصلّي صلاة الليل)، أفهل هذا معناه: تأثير المتأخّر في المتقدّم، بينما لا حكم و لا شرط متأخّر للحكم؟!

ففي مورد الحكم أيضاً لا يكون شيء أزيد من ذلك، أعني: انتزاع عنوان (أنّه سيصلّي صلاة الليل).

الثالث: في مقام الملاك، حيث قلنا: إنّ المقدّمة الوجوبيّة دخيلة في كون الفعل ذا ملاك، واحتياج الإنسان إلى ذلك الفعل، فنقول مثلا: إنّ هذا الإنسان الذي سيصلّي صلاة الليل في ليلة الأحد هل هو محتاج في نهار السبت إلى الصوم، أو لا؟ فإن قيل: لا، فلا معنى لإيجاب الصوم عليه في نهار السبت، وإن قيل: نعم، هو

356

محتاج، قلنا: هل هذا الاحتياج متولّد ممّا سوف يقوم به من صلاة الليل، ومرتبط بذلك، أو لا؟ فإن قيل: لا، لزم وجوب الصوم على كلّ أحد؛ إذ صلاة الليل لا دخل لها في ملاك الحكم حسب الفرض، وإن قيل: نعم، قلنا: هذا معناه تأثير المتأخّر في المتقدّم؛ إذ معنى ذلك: أنّه أثّرت صلاة الليل التي هي في ليلة الأحد في الاحتياج يوم السبت إلى الصوم، والاحتياج إلى الصوم أمر تكوينيّ خارجيّ ثابت بقطع النظر عن الحكم، وفي المرتبة السابقة عليه ـ على ما هو مذهب العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ فقد أثّرت صلاة الليل في أمر خارجيّ سابق عليها زماناً، وهو محال.

والإشكال في هذا المقام أقوى متانةً من الإشكال في عالم الجعل أو المجعول، وهو الإشكال المركّز في شرائط الوجوب.

وجوابه: أنّنا نفترض: أنّ صلاة الليل دخيلة في احتياجه إلى الصوم، لكن لا في احتياجه يوم السبت الذي انتهى إلى الصوم حتّى يلزم تأثير المتأخّر في المتقدّم، بل في احتياجه حين الصلاة، وفي ليلة الأحد إلى الصوم، واحتياجه حين الصلاة إلى الصوم يتصوّر بأحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ احتياجه في ذلك الحين إلى الصوم في ذلك الحين، أو في وقت متأخّر، وهذا يناسب الشرط المقارن أو المتقدّم.

2 ـ احتياجه في ذلك الحين إلى الصوم في اليوم السابق، إلّا أنّه حين الاحتياج يكون عاجزاً عن تحصيل ما يحتاجه إليه، فلا محالة يوجب المولى عليه تحصيل ذلك في اليوم السابق، فيتمّ الشرط المتأخّر بلا إشكال، سنخ ما لو رأى المولى أنّ عبده سيحتاج في الشتاء إلى شراء الفحم بشرط بقائه حيّاً إلى ذلك الوقت، إلّا أنّه لا يمكنه شراء الفحم إذا جاء الشتاء، فيوجب عليه شراء الفحم في الصيف شريطة حياته في الشتاء.