514

التصوّر الرابع: أنّ الأمر الغيريّ يتعلّق بمجموع المقدّمات التي لا تنفكّ عن ذي المقدّمة، لا بمعنى: أنّ عنوان (لا ينفكّ عن ذي المقدّمة) مأخوذ في متعلّق الأمر، بل الأمر تعلّق بواقع ما لا ينفكّ عن ذلك، فلنفرض: أنّ مجموع المقدّمات التي لو وجدت لوجد ذو المقدّمة اُمور عشرة، فالأمر متعلّق بمجموع تلك الاُمور، وعنوان (ما لا ينفكّ) عنوان مشير لا أكثر، والأمر بكلّ واحد من تلك الاُمور العشرة أمر ضمني.

وهذا هو التصوير الصحيح للقول بالمقدّمة الموصلة.

إلّا أنّه قد اعترض عليه، أو يمكن الاعتراض عليه بعدّة اعتراضات، وكلّها مدفوعة:

الأوّل: أن يقال: إنّ هذه المجموعة لا تتصوّر إلّا في المقدّمات السببيّة، كما في الإحراق الذي مقدّمته الإلقاء في النار، فيقال: إنّ الوجوب المقدّمي متعلّق بمجموع المقدّمات التي آخرها الإلقاء في النار، وهو لا ينفكّ عن الإحراق، ولكن في الواجبات التي ليست لها مقدّمة سببيّة من هذا القبيل كالصلاة التي يمكن تركها بعد الإتيان بكلّ المقدّمات لا يتمّ ذلك(1).

والجواب: أنّه في ذلك نُدخِل في مجموع المقدّمات الإرادة والجزم والعزم، فإذا دخلت الإرادة لم ينفكّ عن ذي المقدّمة، ومن هنا قد يصعّد الإشكال إلى الاعتراض الثاني:

الثاني: أنّه إذا اُدخلت الإرادة في المقدّمات، لزم التكليف بأمر غير اختياريّ؛ لأنّ الإرادة ليست إراديّة، وإلّا لتسلسل(2).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 185 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكينيّ.

(2) نفس المصدر، ص 186.

515

وهذا الإشكال لا يرد على مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله) القائل بأنّ الاختيار عبارة عن هجمة النفس، وإعمال القدرة الذي هو عمل نفسانيّ، فإنّه يقال: إنّ نفس هجمة النفس وإعمال القدرة عمل اختياريّ بذاته، واختياريّة باقي الأعمال به.

نعم، يوجد لهذا الإشكال مجال على مسلك صاحب الكفاية القائل بأنّ الاختيار عبارة عن الإرادة والشوق، فيقال: إنّ الإرادة ليست إراديّة، وإلّا لتسلسل(1).

وقد يجاب على هذا المسلك أيضاً بأنّ الإرادة يمكن نشوؤها من الإرادة بالتفكير في فوائد الشيء ونحو ذلك. نعم، لابدّ من الانتهاء إلى إرادة غير اختياريّة، لكن تكفي اختياريّة الإرادة الاُولى.

وهذا الجواب قد ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2).

ولكنّه يرد عليه: أنّه في الحالات الاعتياديّة لا يعقل تعلّق الإرادة بأن يريد، والنكتة في ذلك: أنّ تعلّق الإرادة بشيء لا يكون جزافاً، بل يكون بلحاظ المصلحة في المتعلّق، فلو فرض: أنّ شخصاً يريد أن يريد الصلاة من دون أن يكون بالفعل مريداً للصلاة، فهذه الإرادة الفعليّة المتعلّقة بالإرادة لابدّ أن تكون ناشئة من مصلحة في المتعلّق، وهي إرادة الصلاة، وفي الحالات الاعتياديّة لا توجد مصلحة في إرادة الصلاة، أو إرادة أيّ فعل آخر، إلّا المصلحة الطريقيّة



(1) الفرق بين المسلكين الموجب لعدم ورود هذا الإشكال على مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، واختصاصه بمسلك صاحب الكفاية هو: أنّ هجمة النفس لم تفترض في مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله) مقهورة لشيء سابق، ولكنّ الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد تفترض في مسلك صاحب الكفاية مقهورة لمقدّمات الشوق.

(2) نهاية الدراية، ج 2، ص 141 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

516

التي مرجعها إلى المصلحة النفسيّة القائمة بذات المراد، وإلّا فالإرادة بما هي إرادة، أيّ مصلحة فيها ما لم نفرض فروضاً استثنائيّة؟!

وعندئذ نقول: إنّ تلك المصلحة النفسيّة القائمة بذات الفعل: إمّا أن تكون كافية في محرّكيّة المكلّف نحو الفعل، وقدح شوقه نحوه، إذن توجد في نفسه إرادة الصلاة ابتداءً، وإن لم تكن كافية لذلك، فكيف يعقل أن تكون المصلحة الطريقيّة القائمة بإرادة الفعل محرّكة نحو إرادة الإرادة؟

إذن، ففرضيّة: أنّه يريد أن يريد الصلاة من دون أن يريد الصلاة بالفعل فرضيّة غير معقولة عادةً، فهذا الجواب غير صحيح.

والصحيح في الجواب: أنّ الوجوب الغيريّ لا محذور في تعلّقه بالإرادة وإن فرض كونها أمراً غير اختياريّ؛ وذلك؛ لأنّ التكليف بغير الاختياريّ إنّما نقول باستحالته لمحذورين:

1 ـ إنّ التكليف يكون بداعي الباعثيّة والمحرّكيّة التي هي غير معقولة في غير الاختياريّ.

2 ـ إنّ التكليف بغير المقدور إحراج للمكلّف، وإلجاء له إلى الوقوع في المعصيّة والعقاب، وهو قبيح.

وكلا هذين المحذورين غير موجود في المقام:

أمّا الأوّل، فلأنّ الوجوب الغيريّ وجوب تبعيّ قهريّ، وليس وجوباً مجعولا من قبل المولى بداعي البعث والتحريك.

وأمّا الثاني، فلأنّه لا يلزم في المقام إحراج: إمّا لأنّ الوجوب الغيريّ لا ثواب ولا عقاب عليه بما هو هو على ما مضى، وإمّا لأنّ الوجدان قاض بأنّ التكليف بإرادة الصلاة ليس فيه أيّ إحراج زائد على التكليف بالصلاة.

الثالث: أنّ مجموع المقدّمات حتّى مع ضمّ الإرادة ليس مقدّمة موصلة على

517

ما ذكرناه في بحث الجبر والاختيار: من أنّ الفعل الاختياريّ لا يخرج بالإرادة والشوق الأكيد من الإمكان إلى الوجوب، والوجدان قاض بأنّه برغم هذا الشوق يمكنه أن يعاكس شوقه، ولا يأتي بما اشتاق إليه، وقد مضى: أنّ قاعدة: (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) لا تنطبق على الأفعال الاختياريّة للإنسان.

والجواب: أنّه لو قصدنا بالمقدّمة الموصلة ما يستحيل انفكاك ذي المقدّمة عنه، جاء هذا الإشكال، لكن ليس هذا هو المقصود، فإنّ الاستحالة ليست دخيلة في برهان المقدّمة الموصلة، وإنّما المقصود: المقدّمة التي يضمن معها ترتّب الغرض ـ أعني: ذا المقدّمة ـ عليه، ولا يحتمل أحد من الموالي أنّ العبد إذا تمّت في حقّه كلّ المقدّمات مع الشوق الأكيد، والإرادة نحو شيء، وله قدرة تامّة عليه، ولا مزاحم له في إعمال قدرته، ولا يوجد أيّ محذور في إقدامه عليه، فمع ذلك لا يفعل ذلك الفعل.

الرابع: أن يقال: إنّ الإرادة لا يمكن أن يجعل عليها الوجوب الغيريّ وإن كانت مقدّمة؛ لأنّ فيها نكتة تميّزها عن باقي المقدّمات، وهي: أنّ الأمر بذي المقدّمة الذي معناه: إيجاد الباعث والمحرّك نحو الصلاة لو حلّلناه، لوجدنا أنّه بالمباشرة دعوة نحو إرادة الصلاة؛ لأنّ الأمر بالصلاة مرجعه إلى الباعثيّة والتحريك نحو الصلاة، ومعنى ذلك: إيجاد الداعي في نفس المكلّف، وهذا معناه: إيجاد الإرادة، فكلّ تكليف نفسيّ بشيء يحرّك في الواقع مباشرة نحو إرادة ذلك الفعل، ولكنّه لا يحرّك مباشرة نحو سائر المقدّمات، فمن هنا أمكن إيجاد محرّك آخر نحو سائر المقدّمات كالوضوء، بخلاف الإرادة.

وجواب ذلك اتّضح ممّا مضى، فإنّ الوجوب الغيريّ ليس وجوباً مجعولا بداعي المحرّكيّة والباعثيّة حتّى يقال: لم يبقَ مجال لذلك، بل لو كان مجعولاً

518

بداعي المحرّكيّة والباعثيّة، لأشكل الأمر في باقي المقدّمات أيضاً؛ لأنّ الأمر النفسيّ بالفعل وإن لم يكن محرّكاً نحوها بالمباشرة، لكنّه محرّك نحوها تسبيباً، والوجوب الغيريّ لا يوجد له أيّ تحريك جديد، وتأكيد للمحرّكيّة السابقة.

الخامس: أنّ إيجاب الإرادة معناه: إيجاد المحرّك نحو الإرادة، وإيجاد المحرّك نحو الإرادة معناه: إيجاد الإرادة للإرادة، فكما أنّ الوجوب النفسيّ المتعلّق بأصل الصلاة يقتضي إرادة الصلاة، كذلك الوجوب الغيريّ المتعلّق بإرادة الصلاة يقتضي إرادة إرادة الصلاة، مع أنّ إرادة إرادة الصلاة ليس لها أيّ مقدّميّة نحو الصلاة، فليس كلّ من يصلّي يريد أن يريد، ثمّ يريد، ثمّ يصلّي، بل أكثر المصلّين عادةً يريد الصلاة ابتداءً.

وهذا الكلام ـ بغضّ النظر عن المناقشة التي مضت: من أنّ الوجوب الغيريّ ليس للتحريك، وإنّما هو وجوب قهريّ ـ يرد عليه: أنّ هذا الكلام بنفسه يجري في سائر المقدّمات، فإنّ الأمر بنصب السلّم معناه: إيجاد إرادة نصب السلّم، مع أنّه كثيراً ما يتحقّق نصب السلّم من دون إرادة.

وحلّ المطلب: أنّ إرادة الإرادة مثلا، أو إرادة نصب السلّم مقدّمة للتحصيل لا للحصول، فقد يتّفق أنّ المقصود يوجد صدفة بلا إرادة، فحصول الواجب النفسيّ لا يتوقّف على إرادته فضلا عن إرادة إرادته، ولكن تحصيله من قبل المولى يكون طريقه منحصراً بقدح الإرادة في نفس العبد عن طريق الأمر، لا أن يجلس المولى في بيته ويقول: لعلّه يتحقّق نصب السلّم صدفة، فهذا كأنّه خلط بين التحصيل الذي يكون بالإرادة التشريعيّة للمولى والحصول الذي يكون بالإرادة التكوينيّة، وانتظار الصدفة خلف التحصيل، فلو لم يكلّف المولى العبد بإرادة شيء معناه: أنّه لم يحصّل ذلك الشيء.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الحقّ هو كون الوجوب مخصوصاً بالمقدّمة

519

الموصلة، حيث أقمنا البرهان على ذلك، وصوّرنا المقدّمة الموصلة بتصوير لا يردعليه إشكال.

وقد نقل عن صاحب الفصول (رحمه الله) وجوه لإثبات القول بالمقدّمة الموصلة:

الأوّل: دعوى الوجدان القاضي بأنّ من يريد شيئاً يريد مقدّمته الموصلة دون مطلق المقدّمة ولو كانت غير موصلة(1).

وهذا الوجدان وإن كان صحيحاً عندنا لكنّه لا يفيد في مقابل المنكرين للمقدّمة الموصلة الذين ادّعوا أيضاً شهادة الوجدان والبداهة على مختارهم، وهذه من المسائل التي تقابل فيها دعوى الوجدان من الخصمين ممّا ينبغي أن نعتبر به في عدم التسرّع في دعوى البداهة والوجدان.

الثاني: دعوى الوجدان على أنّ المولى لو صرّح بأ نّي لا اُريد المقدّمة التي لا توصل إلى مقصودي، وإنّما اُريد خصوص الحصّة التي يترتّب عليها المقصود، كان هذا الكلام مسموعاً منه، مقبولا عند العقلاء، وصحيحاً، ولا يعدّ مجازفاً(2).

وهذا ـ في الحقيقة ـ يرجع روحه إلى الوجه الأوّل، ولا فرق بينهما، عدا أنّه في الوجه الأوّل لوحظ في الوجدان المدّعى مقام الثبوت، وفي هذا الوجه لوحظ مقام الإثبات والإخبار، فهذان الوجهان لا يؤكّد أحدهما الآخر. نعم، قد يكون أحدهما منبّهاً للآخر.

الثالث: شهادة الوجدان بإمكان تحريم غير الموصل من المقدّمة، كما لو قال صاحب الأرض الواقعة على ساحل البحر الذي غرق فيه مؤمن: انقذوا الغريق، ولا تمرّوا على أرضي مروراً غير موصل إلى الإنقاذ.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 188 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) راجع نفس المصدر، ص 187.

520

وهذا وجه نسبه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ على ما في تقرير بحثه(1) ـ إلى صاحب الفصول، لكنّه حُكي: أنّ هذا غير موجود في كلام صاحب الفصول، وقد نسبه في تقرير بحث السيّد الاُستاذ إلى صاحب العروة(2).

وعلى أيّ حال، فهذا الكلام: إن اُريد به البرهنة على اختصاص الوجوب بالحصّة الموصلة، فلا يكون برهاناً على ذلك؛ إذ لعلّ صحّة تحريم الحصّة غير الموصلة، واختصاص الوجوب بالموصلة عندئذ يكون لأجل أنّ الوجوب المقدّميّ لا يشمل الحصّة المحرّمة، ولذا ترى أنّ الوجوب المقدّميّ لا يشمل الفرد الحرام من الموصلة أيضاً، فلو وجب الحجّ، لم يشمل وجوب ركوب الدابّة الذي هو مقدّمة للحجّ ركوب دابّة مغصوبة ولو فرض موصلا إلى الحجّ، والمدّعى في المقام اختصاص الوجوب بالموصل، وعدم شموله لغير الموصل؛ لأنّه غير موصل، لا لأنّه حرام، وهذا لا يتبرهن بشهادة الوجدان بإمكان تحريم غير الموصل.

نعم، إن اُريد به الردّ على اُولئك الذين قالوا: إنّ اختصاص الوجوب بالموصل غير معقول للدور، أو التسلسل، أو نحو ذلك، كان لهذا الكلام وجاهة، حيث يقال: إذن، ماذا تصنعون في مورد تحريم الحصّة غير الموصلة مع شهادة الوجدان بصحّة ذلك؟ فإن قلتم: إنّ الوجوب شامل لها، فهو غير معقول؛ لأنّ المفروض حرمتها، والوجوب المقدّميّ لا يمتدّ إلى الحصّة المحرّمة، وإن قلتم: إنّ الوجوب غير شامل لها، وإنّه مختصّ بالموصل، وقعتم فيما تزعمونه: من لزوم الدور، أو التسلسل، أو نحو ذلك.



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 238 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 292 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) ورد في المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 2، ص 420 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف قوله: وهذا الاستدلال منسوب إلى السيّد الطباطبائيّ صاحب العروة(قدس سره).

521

إلّا أنّ صاحب الكفاية (رحمه الله) علّق على هذا الوجه بإنكار شهادة الوجدان على صحّة تحريم الحصّة غير الموصلة، بل ادّعى البرهان على امتناع ذلك، بتقريب: أنّ هذا يستلزم تحصيل الحاصل في طرف الأمر بذي المقدّمة؛ لأنّ الأمر بإنقاذ الغريق مثلا مشروط بالقدرة عقلا وشرعاً. ويقصد بالقدرة العقليّة فاعليّة العضلات، وبالقدرة الشرعيّة عدم حرمة الشيء، أو مقدّمته، وإذا كان المولى قد حرّم غير الموصل، إذن فإباحة المقدّمة مشروطة بالإيصال، وعليه فوجوب ذي المقدّمة مشروط بالقدرة الشرعيّة المتوقّفة على إباحة المقدّمة المتوقّفة على الإيصال الذي معناه: الإتيان بذي المقدّمة، وهذا معناه: كون وجوب ذي المقدّمة موقوفاً على الإتيان به، وهذا ما قلناه من لزوم تحصيل الحاصل(1).

وقد أبرز المحقّق النائينيّ (رحمه الله) نقطة الاشتباه في ذلك، ببيان: أنّ قيد التوصّل ليس قيداً للإباحة، بأن يفرض: أنّه مع عدم التوصّل لا إباحة للمقدّمة، وإنّما هو قيد للمباح، فحتّى مع عدم التوصّل تكون الإباحة ثابتة على الحصّة الموصلة، أي: أنّ قيد الإيصال من قبيل قيد الواجب، لا من قبيل قيد الوجوب، إذن فوجوب ذي المقدّمة وإن كان موقوفاً على القدرة الشرعيّة الموقوفة على إباحة المقدّمة، لكن إباحة المقدّمة ليست موقوفة على الإيصال، فلا يلزم تحصيل الحاصل(2).

وهذا الكلام في غاية المتانة، إلّا أنّنا نضيف إليه: أنّه لو كان التوصّل قيداً للإباحة، لم يلزم المحذور أيضاً، فإنّ وجوب الإنقاذ لا يتوقّف على إباحة الاجتياز، وإنّما يتوقّف على أن لا تكون مقدّمته محرّمة بحرمة مطلقة؛ إذ لو كانت



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 189 ـ 190 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 240 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

522

محرّمة بحرمة مقيّدة بعدم الإنقاذ، كان الإنقاذ رافعاً لموضوعها، فيعقل اجتماعوجوب الإنقاذ مع حرمة الاجتياز المقيّدة بعدم الإنقاذ، ولا يقع تعارض أو تزاحم بينهما، بينما لا يعقل اجتماع وجوب الإنقاذ مع الحرمة المطلقة للاجتياز.

وبتعبير آخر: أنّ وجوب الإنقاذ موقوف على القدرة الشرعيّة على المقدّمة، والقدرة الشرعيّة عليها ليست موقوفة على إباحة المقدّمة بالفعل، بل يكفي فيها القدرة على الإتيان بذي المقدّمة من دون أن يقع في حرام من ناحيتها، أو من ناحية مقدّمتها، وهو قادر على ذلك؛ إذ بإمكانه أن يأتي بالمقدّمة مع ذيها، وعندئذ لم يقع في محرّم؛ لتحقّق شرط إباحة المقدّمة.

الرابع: أنّ الغرض من الواجب الغيريّ إنّما هو التوصّل إلى الواجب النفسيّ، فلا محالة يختصّ الوجوب بالموصل؛ لأنّ الغرض بهذا المقدار(1).

وهذا برهان متين بعد إدخال التشقيقات السابقة؛ لأجل إبطال سائر الشقوق المتصوّرة في المقام، وبذلك يرجع إلى البرهان الذي اخترناه.

تنبيهان:

بقي في المقام تنبيهان:

حرمة المقدّمة وفرض تقديم وجوب ذيها:

التنبيه الأوّل: لو كانت المقدّمة محرّمة، ولكن فرض تقديم جانب وجوب ذي المقدّمة، فطبعاً لابدّ من ارتفاع الحرمة عن المقدّمة في الجملة؛ إذ لا يمكن امتثال



(1) ورد نقل ذلك عن الفصول في الكفاية، ج 1، ص 187 ـ 188 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات الشيخ المشكينيّ (رحمه الله).

523

أمر ذي المقدّمة مع فرض ترك المقدّمة لحرمتها، وهذا واضح، إلّا أنّه يقع الكلام في مقامين:

أحدهما: أنّه هل الحرمة ترتفع عن خصوص الحصّة الموصلة، أو عن كلتا الحصّتين: الموصلة وغيرها؟

والثاني: أنّه على تقدير اختصاص ارتفاع الحرمة بالموصلة، فهل يختصّ بالموصلة التي أتى بها بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، أو لا؟

أمّا المقام الأوّل: فتحقيق الكلام في ذلك: أنّ حرمة المقدّمة يوجد في مقابلها أمران متنافيان لها:

أحدهما: وجوب ذي المقدّمة.

وهذه المنافاة ـ بغضّ النظر عن المنافاة الثانية ـ بابها باب التزاحم؛ لأنّهما حكمان على موضوعين تعذّر على العبد امتثالهما معاً.

والآخر: وجوب المقدّمة بناءً على الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته:

وهذه المنافاة بابها باب التعارض؛ لأنّهما حكمان على موضوع واحد.

فلو بقينا نحن والمنافاة الاُولى، فهي لا تقتضي إلّا ارتفاع الحرمة من الحصّة الموصلة؛ إذ بذلك يرتفع التزاحم؛ لأنّ العبد يصبح قادراً على امتثال حرمة المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة معاً؛ إذ حرمة المقدّمة اختصّت بغير الموصلة، وبإمكانه أن يأتي بالموصلة، فيكون قد اجتنب بذلك عن الحصّة المحرّمة وأتى بذي المقدّمة الواجب، إذن، فالحصّة غير الموصلة تبقى على حرمتها؛ لوجود المقتضي، وهو إطلاق دليل حرمة المقدّمة، وعدم المانع؛ لارتفاع التزاحم بإمكان امتثال كلا الحكمين.

وأمّا المنافاة الثانية، فلو اخترنا اختصاص وجوب المقدّمة بالحصّة الموصلة،

524

فمن الواضح: أنّ هذه المنافاة أيضاً لا توجب ارتفاع الحرمة إلّا من المقدّمة الموصلة(1).

أمّا لو اخترنا كون وجوب المقدّمة ثابتاً على الجامع بين الحصّتين، فإن كان اختيار ذلك لمجرّد أنّه لا مقتضي لاختصاص الوجوب بإحدى الحصّتين، فقد وجد المقتضي لذلك في المقام، وهو التحفّظ على حرمة المقدّمة بقدر الإمكان، فيقتصر في مقام رفع اليد عن حرمة المقدّمة على رفع اليد عنها في المقدّمة الموصلة(2) التي تكون حرمتها مزاحمةً بوجوب ذي المقدّمة، وأمّا إن ادّعي: أنّه مضافاً إلى ذلك يكون اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة مستحيلا؛ للزوم الدور، أو التسلسل، أو نحو ذلك، فيكون الوجوب ثابتاً على الجامع، فالنتيجة: أنّه يكون وجوب الجامع طرفاً للمعارضة مع حرمة المقدّمة، ولا يمكن حلّ المعارضة بتخصيص الوجوب بخصوص الحصّة الموصلة، والالتزام بالحرمة في خصوص غير الموصلة؛ لأنّ اختصاص الوجوب بالموصلة مستحيل بحسب الفرض، فإذا استحكم التعارض بهذا الترتيب بين وجوب المقدّمة وحرمتها، سرى هذا التعارض ـ لا محالة ـ إلى وجوب ذي المقدّمة؛ لأنّ المفروض كونه مستلزماً لوجوب جامع المقدّمة المتعارض مع حرمتها، ووجوب المقدّمة ـ على تقدير وجوب ذيها ـ دليله قطعيّ لا يمكن أن يعارض بدليل حرمة المقدّمة، فما يقع طرفاً



(1) ويرجع ذلك ـ في الحقيقة ـ إلى التزاحم، لا التعارض بلحاظ عالم الجعل؛ وذلك لأنّه كما يقال في المتزاحمين بتقيّد المهمّ ارتكازاً بعدم صرف القدرة في الأهمّ، وبهذا يخرج عن التعارض، كذلك يقال في المقام: إنّ حرمة المقدّمة منصرفة عن فرض صرف قدرته في الحصّة الموصلة إلى الأهمّ.

(2) وأيضاً رجع الأمر إلى التزاحم، لا التعارض.

525

للمعارضة مع دليل حرمة المقدّمة إنّما هو دليل وجوب ذي المقدّمة، ولو قدّم وجوب ذي المقدّمة، ارتفعت حرمة المقدّمة حتّى عن الحصّة غير الموصلة، وهذه نتيجة غريبة تثبت على القول بعدم اختصاص الوجوب بالموصلة من باب استحالة اختصاصه بها؛ إذ من الواضح: أنّ العقلاء يستنكرون على من يجتاز مثلا الأرض المغصوبة من دون أن يأتي بذي المقدّمة، وهو إنقاذ الغريق، ويرونه قد ارتكب محرّمين: ترك الإنقاذ، واجتياز الأرض المغصوبة، ويرون أنّ حاله أشدّ ممّن لا يجتازها، ولا ينقذه.

وأمّا المقام الثاني: فبعد فرض اختصاص ارتفاع الحرمة بالحصّة الموصلة يقع الكلام في أنّه: هل يختصّ بالموصلة التي قصد بها التوصّل، أو لا؟

والكلام في ذلك بلحاظ المنافاة الاُولى يكون كما يلي:

قد يقال: إنّ نفس البيان السابق في تخصيص ارتفاع الحرمة بالموصلة يجري في هذا المقام أيضاً؛ إذ المزاحمة توجب رفع اليد عن الحرمة بمقدار ترتفع به المزاحمة، والحرمة إذا ثبتت على ما قصد به التوصّل، بقي التزاحم؛ إذ خطاب (انقذ الغريق) مثلا لا يمكنه حينئذ أن يحرّك نحو المقدّمة؛ إذ لو حرّك نحوها لزم الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل، وأمّا غير ما يقصد به التوصّل، فالمقتضي لحرمته موجود، وهو إطلاق دليل حرمة الغصب، والمانع مفقود لارتفاع المزاحمة؛ لأنّ مقصودنا بارتفاع المزاحمة قدرة المكلّف على امتثالهما معاً، والمكلّف قادر على امتثالهما بأن يأتي بالمقدّمة الموصلة بقصد التوصّل.

إلّا أنّ هذا البيان هنا غير خال من الإشكال، وذلك؛ لأنّ تحريم الحصّة الموصلة التي لا يقصد بها التوصّل ليس له أيّ دخل في تقريب المولى نحو أغراضه المولويّة؛ إذ لو كان المقصود بذلك هو الجمع بين الغرضين، أعني: اجتناب مفسدة الغصب، وتحقيق مصلحة الإنقاذ، فالمفروض: أنّه غير معقول؛ إذ الإنقاذ

526

موقوف على الاجتياز من هذا المكان المغصوب، ولو كان المقصود: أن لا يفوتكلا الغرضين معاً، فهذا حاصل من دون حاجة إلى تحريم الحصّة التي لا يقصد بها التوصّل، فإنّ فرض الحصّة الموصلة دائماً هو فرض حصول أحد الغرضين، بل أقواهما؛ إذ معنى كونها موصلة: أنّه يحصل الإنقاذ، فلا يبقى لتحريم تلك الحصّة أثر إلّا إلزام المكلّف بقصد التوصّل، مع أنّ من الواضح: أنّ هذا ليس واجباً شرعاً، وليس فيه غرض لزوميّ، ولذا لم يلتزم بوجوبه في غير المقام، وإنّما الغرض هو إيجاد مصلحة الإنقاذ، واجتناب مفسدة الغصب، وبلحاظهما لا أثر لهذا التحريم، وهذا بخلاف تحريم الحصّة غير الموصولة في المقام الأوّل، فإنّ ذاك التحريم كان يصون المولى من أن يخسر كلا الغرضين في بعض الأوقات، وذلك كما لو كان العبد بانياً على عدم إنقاذ الغريق، فإنّه حينئذ لولا تحريم الحصّة غير الموصلة قد يتمشّى في الأرض بلا إنقاذ.

وقد ظهر من خلال كلامنا اندفاع توهّم آخر في المقام؛ إذ قد يخطر بالبال لتوجيه حرمة ما لا يقصد به التوصّل: أنّ هذا له دخل في أغراض المولى، فإنّ الغصب الموصل إذا أتى به لا بقصد التوصّل خسر أحد الغرضين بتمامه وإن تمّ الإنقاذ، ولكن حصل الغصب، وأمّا إذا أتى به بقصد التوصّل، فحيث إنّ قصد التوصّل حسن، فبهذا الحسن تتدارك مفسدة الغصب، أو شيء منها، فكأنّ غرض عدم الغصب لم يفت، أو فات بعضه، لا تمامه.

والجواب: أنّ هذا البيان إنّما يكون صحيحاً لو كان حسن قصد التوصّل وملاكه بمرتبة لزوميّة في نفسه، فيقع الكسر والانكسار بينه وبين مفسده الغصب، فمثلا لا يبقى حسن ولا مفسدة، ولكن بعد فرض عدم حسن لزوميّ في نفسه ـ وإلّا لوجب في سائر الموارد ـ لا يتمّ هذا البيان؛ إذ ليس تدارك مفسدة الغصب بقصد

527

التوصّل بمقدار لزوميّ(1)، حتّى يجب قصد التوصّل، ويحرم ـ بكلمة اُخرى ـ الإتيان بالمقدّمة بلا قصد التوصّل.

فإن قلت: إنّ تحريم ما لا يقصد به التوصّل بعد فرض اختصاص ارتفاع الحرمة بالحصّة الموصلة وإن كان لا معنى له؛ إذ لا يقرّب المولى إلى مقاصده المولويّة، ولكن يبقى احتمال أن يخصّص ارتفاع الحرمة بما يقصد به التوصّل بدلا عن تخصيصه بالموصلة.

وتوضيح ذلك: أنّ المولى لو لم يحرّم المقدّمة التي توقّف عليها الواجب أصلا، كان ذلك إخلالا بغرضه؛ إذ بإمكان المولى التحفّظ على غرض ترك الغصب بمقدار لا يضرّ بغرض إنقاذ الغريق، وذلك عن طريق تحريم المقدّمة في الجملة، وعليه فلابدّ من تحريم المقدّمة تحريماً مقيّداً طبعاً؛ إذ التحريم المطلق لا ينسجم مع وجوب الواجب المتوقّف عليها، وهذا التحريم المقيّد يتصوّر بشكلين:

أحدهما: تحريم الحصّة غير الموصلة، وفائدة ذلك: أنّ من لا يريد الإتيان بذي المقدّمة، قد يمتثل هذا التحريم، فيترك المقدّمة المحرّمة.

والآخر: تحريم الحصّة التي لم يرد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة، وهذا أيضاً يفيد نفس الفائدة.

نعم، لو فرغنا عن تحريم الحصّة غير الموصلة، يبقى تحريم ما لم يرد بها التوصّل غير مؤثّر في تقريب المولى نحو المقصود، وكذلك العكس، إذن فما هو المعيّن لكون التحريم بالنحو الأوّل، لا بالنحو الثاني؟!



(1) أو قل: لا يوجد غرض لزوميّ آخر إلّا مسألة قبح التجرّي وحسن الانقياد، والمفروض: أنّ نفس النهي عن الغصب والأمر بالانقياد يدعوان إلى الانقياد وعدم التجرّي، ولم يكن أمر إلزاميّ آخر بالانقياد أو نهي عن التجرّي.

528

قلت:

أوّلا: إنّه بعد أن كان خروج الحصّة الموصلة التي قصد بها التوصّل عن التحريم متيقّناً، ودار الأمر بين أن تكون الموصلة التي لم يقصد بها التوصّل أيضاً غير حرام، ويكون غير الموصل الذي قصد به التوصّل حراماً، أو بالعكس، فالترجيح للأوّل على الثاني؛ لأنّ الثاني يستبطن الإلزام بقصد التوصّل دون الأوّل، وقد قلنا: إنّ المولى لا يريد الإلزام بقصد التوصّل(1).

وثانياً: إنّه لو فرض: أنّ المولى حرّم المقدّمة التي لم يقصد بها التوصّل دون المقدّمة غير الموصلة، لزم من ذلك أنّه لو علم العبد بأنّه بعد إتيانه بهذه المقدّمة سوف يأتي بذي المقدّمة، لكنّه لم يقصد التوصّل بهذه المقدّمة، كان إتيانه بهذه المقدّمة حراماً، مع أنّ هذا التحريم لا يقرّب المولى إلى أغراضه عدا أنّه يوجب إلزام العبد بقصد التوصّل الذي قلنا: إنّه لا يريده المولى(2).

وثالثاً: إنّ هناك قرينة ارتكازيّة متّصلة تقيّد كلّ تكليف بعدم الاشتغال بمزاحم مساو أو أهمّ، وهذا ـ لا محالة ـ يقيّد حرمة المقدّمة بعدم الاشتغال بذي المقدّمة الأهمّ حسب الفرض، وهذا يعني اختصاص الحرمة بغير الموصل، فليست القضيّة قضيّة تخصيص مردّد أمره بين تخصيصين: فإمّا أن يخرج الموصل أو يخرج ما



(1) المولى وإن كان لا يريد الإلزام بقصد التوصّل، لكنّه لا يضرّه ذلك أيضاً، فالمهمّ: أنّه لمّا كان لا يريد الإلزام بقصد التوصّل، كان تحريم المقدّمة التي لم يقصد بها التوصّل في فرض علم العبد بأنّه بعد إتيانه بالمقدّمة سيأتي بذي المقدّمة تحريماً بلا غرض؛ لأنّه لا يقرّب المولى إلى أغراضه عدا هذا الإلزام الذي لا يريده، وهذا رجوع إلى الوجه الثاني.

(2) بل إنّ هذا التحريم قد يكون دعوة للعبد إلى ما يضرّ المولى، وذلك حينما يكون الإنقاذ أهمّ، فتكون مصلحة المولى في فرض الموصليّة ـ برغم عدم قصد التوصّل حين الاجتياز ـ مقتضية للاجتياز، لا لعدم الاجتياز.

529

قصد به التوصّل، حتّى يقال: إنّه ليس الأوّل أولى من الثاني.

فتحصّل: أنّ المتعيّن اختصاص الحرمة بغير الموصل.

نعم، يبقى كلام آخر، وهو: أنّه هل يخرج من تحت الحكم بالحرمة مطلق الموصل، أو خصوص الموصل الذي علم بإيصاله من أوّل الأمر، حتّى يحرم عليه الإتيان بالمقدّمة عندما يشكّ في أنّه: هل سوف ينقدح عنده الداعي إلى الإتيان بذي المقدّمة بعدها، أو لا؟

والصحيح هو الثاني؛ لكفاية هذا المقدار من التخصيص في رفع التزاحم(1)، وهو بحث سيّال في جميع موارد باب التزاحم.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ المنافاة الاُولى توجب سقوط الحرمة من الحصّة الموصلة ولو لم يقصد بها التوصّل، وبهذا لم يبقَ مجال للكلام في المنافاة الثانية.

ثمرة بحث المقدّمة الموصلة:

التنبيه الثاني: في ثمرة بحث المقدّمة الموصلة زائداً على ما يظهر ممّا مضى في التنبيه الأوّل، ويأتي توضيحه في ثمرة بحث المقدّمة:

قد يقال: إنّه تظهر ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة وإنكارها فيما لو توقّف



(1) بل الصحيح هو الأوّل؛ لأنّ تحريم الموصل الذي لم يعلم بإيصاله منذ البدء لا يقرّب المولى إلى غرضه؛ لأنّ أحد الغرضين ـ وهو الأهمّ ـ حاصل في علم الله؛ لأنّ المفروض: أنّه سيوصل المقدّمة إلى ذيها، وحصول كلا الغرضين غير ممكن، بل إنّ هذا التحريم قد يكون دعوة للعبد إلى ما يضرّ المولى، وذلك حينما يكون الإنقاذ أهمّ، فتكون مصلحة المولى في فرض الموصليّة من دون العلم بها في وقت الاجتياز مقتضية للاجتياز، لا لعدمه.

530

الواجب على ترك عبادة بناءً على توقّف أحد الضدّين على ترك الآخر، فترك ذلك الواجب وأتى بتلك العبادة، فيمكن أن يقال: إنّه بناءً على المقدّمة الموصلة لا تبطل عبادته، وبناءً على وجوب مطلق المقدّمة تبطل عبادته على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، وأنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

وهذه الثمرة قد بيّنها في الكفاية بعبارة تحتمل أحد تفسيرين(1):

التفسير الأوّل: أن يقال: إنّ أيّ قيد اُخذ في أحد النقيضين ينبغي أخذه في النقيض الآخر حفظاً للتناقض، فمثلا نقيض الصوم في يوم الجمعة هو ترك الصوم في يوم الجمعة، وعليه فالواجب إذا كان هو ترك الصلاة مثلاً مطلقاً، ففعلها حرام، فتبطل، وأمّا إذا كان الواجب هو ترك الصلاة المقيّد بترتّب الإزالة مثلا، فنقيضه هو الصلاة المقيّدة أيضاً بترتّب الإزالة، ومن الواضح: أنّه لو صلّى لم تترتّب الإزالة لفرض التضادّ بينهما، فلا تكون هذه الصلاة محرّمة، فلا تكون باطلة.

وهذا التقريب للثمرة واضح البطلان، بداهة أنّ أخذ قيد ترتّب الإزالة في طرف ترك الصلاة لا يوجب أخذه في طرف الصلاة، فإنّه ليس القيد المأخوذ في أحد النقيضين يؤخذ في عدمه، بمعنى كون نقيضه عدمه المقيّد بذلك القيد، وإنّما القيد المأخوذ في أحد النقيضين يؤخذ فيما يضاف إليه عدمه، أي: أنّ الوجود المقيّد بقيد يكون نقيضه هو عدم المقيّد، لا العدم المقيّد، وكم فرق بينهما.

التفسير الثاني: أن يقال: إنّه إذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، فترك الصلاة يجب على الإطلاق، ففعلها يحرم على الإطلاق، فيقع باطلا. أمّا إذا قلنا بوجوب خصوص الموصلة، فمعنى ذلك: أنّ الوجوب مشروط بترتّب الإزالة، إذن فكلّ



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 192 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

531

ترك لو فرضناه الآن واقعاً لكان موصلا يكون هو الواجب، وأمّا الترك الذي لو فرضناه الآن واقعاً لما كان موصلا، فهو غير واجب، وحيث إنّ هذا الشخص الذي اشتغل بالصلاة يوجد له صارف نفسانيّ عن الإزالة استثقالا للإزالة مثلا، فصلاته غير محرّمة عليه؛ لأنّ تركه للصلاة غير واجب عليه؛ لأنّ هذا الترك لو فرض واقعاً الآن لما كان موصلا، إذن فصلاته صحيحة.

وهذا التقريب للثمرة أيضاً واضح البطلان؛ بداهة أنّ معنى اختصاص الوجوب بالموصلة ليس هو أخذ الإيصال قيداً في الوجوب، وإنّما معناه: أخذه قيداً في الواجب، فهذا بالفعل يجب عليه الترك، أي: الترك الموصل بالرغم من أنّه لو صدر منه الترك الآن لما كان موصلا، فالصلاة التي يأتي بها يكون من المطلوب تركها تركاً موصلا، فيقال مثلا: إنّ هذه الصلاة أصبحت محرّمة فتبطل.

وهناك تقريب ثالث للثمرة هو الذي ينبغي أن يقع موضعاً للبحث إثباتاً ونفياً(1)، ولعلّه هو المراد الحقيقيّ لصاحب الكفاية بالرغم من أنّ عبارته لا تساعد على ذلك، وهو أن يقال: إنّه إذا فرض أنّ فعل أحد الضدّين متوقّف على ترك الضدّ الآخر، وكان ضدّ الواجب عبادة، فقد أصبح فعل الواجب ـ وهو الإزالة مثلا ـ موقوفاً على ترك الضدّ وهو الصلاة، فإذا كان الواجب مطلق المقدّمة، فقد وجب ترك الصلاة، وبناءً على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، تصبح الصلاة منهيّاً عنها، فبناءً على فساد العبادة بالنهي عنها تبطل الصلاة، وأمّا إذا كان الواجب خصوص الموصل، فالواجب هو ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة، و هذا ليس نقيضه فعل الصلاة؛ إذ قد يرتفعان، بأن يأتي بترك غير موصل، والنقيضان



(1) وهو الذي فسّر به الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) كلام اُستاذه الأخوند. راجع نهاية الدراية، ج. بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 150.

532

لا يمكن ارتفاعهما، وإنّما نقيضه رفع الترك الموصل الذي قد يقترن بالصلاة، واُخرى بالترك غير الموصل، ولا موجب لسراية الحرمة من رفع الترك الموصل إلى ما قد يقترن معه وهو الصلاة، إذن فتقع الصلاة صحيحة.

ويمكن المناقشة في هذه الثمرة بالرغم من بيانها بهذا التقريب بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّنا لو سلّمنا كلّ الاُصول الموضوعيّة لهذه الثمرة: من أنّ الضدّ موقوف على ترك ضدّه، وأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، وأنّ هذا النهي يوجب الفساد في العبادة، قلنا: إنّ هذه الاُصول الموضوعيّة بنفسها تستبطن: أنّ فعل أحد الضدّين أيضاً مقدّمة لترك الآخر، فإنّ منشأ مقدّميّة ترك أحدهما لفعل الآخر هو التمانع، وإذا صحّ التمانع، فكما أنّ عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر من باب مقدّميّة عدم المانع لوجود الشيء، كذلك وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر من باب: أنّ وجود المانع أحد أسباب انتفاء الشيء، وحينئذ نقول: إنّ الإزالة واجبة، فتركها حرام؛ لما فرض: من أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، وفعل الصلاة مقدّمة موصلة لهذا الحرام، فهي حرام؛ لأنّ فعل الصلاة لا ينفكّ أبداً عن ترك الإزالة، فهو مقدّمة تستتبع فعل الحرام، وإذا كانت مقدّمة الواجب واجبة، فمقدّمة الحرام التي تكون علّة تامّة لتحقّق الحرام أيضاً تكون محرّمة، فالصلاة إذن حرام حتّى ولو قلنا بالمقدّمة الموصلة، غاية الأمر: أنّه إن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة لا المقدّمة الموصلة، اتّصفت الصلاة بالحرمة الغيريّة باعتبارها نقيض الواجب، وإن قلنا بالمقدّمة الموصلة، لم تتّصف الصلاة بالحرمة الغيريّة باعتبارها نقيض الواجب، ولكنّها تتّصف بالحرمة الغيريّة باعتبارها مقدّمة مستتبعة حتماً للحرام، فمن حيث النتيجة لا يبقي فرق بين القولين.

الوجه الثاني: أنّه حتّى على القول بالمقدّمة الموصلة تثبت حرمة الصلاة باعتبارها نقيضاً للواجب، وتوضيحه ببيان أمرين:

533

الأوّل: أنّ وجوب المقدّمة ـ بناءً على القول بالمقدّمة الموصلة ـ وجوب غيريّ تعلّق بمركّب ارتباطيّ، أحد أجزائه ذات المقدّمة، والجزء الآخر الإيصال، أو إرادة ذي المقدّمة، أو سائر المقدّمات مثلا.

الثاني: أنّه كما أنّ الحبّ النفسيّ الاستقلاليّ يلازم بغض نقيضه، كذلك الحبّ الضمنيّ المتعلّق بالجزء يلازم بغض نقيضه؛ إذ نحن نرى بالوجدان عدم الفرق بين الحبّ الضمنيّ والحبّ الاستقلاليّ في أنّه يسبّب بغض نقيضه، والحبّ الضمنيّ يتعلّق بذات الجزء لا الجزء المقيّد، وإلّا لتركّب الواجب أيضاً من جزء وتقيّد، فبالأخرة ننتهي إلى حبّ ضمنيّ متعلّق بذات الجزء، وهو يستلزم بغض النقيض، ولكن بغض النقيض ليس ضمنيّاً؛ لأنّ حبّ الجزء إنّما صار ضمنيّاً لأجل أنّ ملاكه ترتّب الفائدة، وهي لا تترتّب إلّا على المجموع، فيكون الحبّ ضمنيّاً، وأمّا بغض النقيض، فملاكه فوات الفائدة، وهو يترتّب على ترك كلّ جزء مستقلاًّ، فلا محالة يصبح البغض استقلاليّاً، وبهذا تثبت حرمة الصلاة حتّى على المقدّمة الموصلة؛ لأنّ الواجب الاستقلاليّ ـ على القول بالمقدّمة الموصلة ـ وإن كان هو الترك الموصل، لكن الترك يصبح محبوباً ضمنيّاً، فنقيضه ـ وهو الصلاة ـ يصبح مبغوضاً بالبغض الاستقلاليّ.

الوجه الثالث: ما جاء في تقرير بحث الشيخ الأعظم (رحمه الله). والعبارة التي يذكرها في الكفاية لا تخلو من تشويش، ولم نراجع تقرير الشيخ لنرى ما هو المستظهر منه.

وعلى أيّ حال، فيمكن بيان هذا الإشكال ببيانين:

البيان الأوّل: أنّ نقيض كلّ شيء رفعه، فالفعل ليس هو النقيض، سواء قلنا بالمقدّمة الموصلة أو لا، فالوجوب المتعلّق بالترك يستدعي حرمة نقيضه الذي هو رفع الترك، وحرمة رفع الترك تستدعي حرمة ملازمه، وهو الفعل بناءً على وجوب مطلق المقدّمة، وأمّا بناءً على وجوب المقدّمة الموصلة، فوجوب الترك الموصل

534

يستدعي حرمة رفع الترك الموصل، وهذه حرمة ثابتة لرفع الترك الموصل بنحو مطلق الوجود والانحلال، أي: أنّه تحرم ـ لا محالة ـ كلتا حصّتي هذا الرفع، وهما: الرفع الذي يتحقّق في ضمن الفعل، والرفع الذي يتحقّق في ضمن الترك غير الموصل، وإذا حرمت كلتا الحصّتين، حرم ما يلازم كلّ واحدة منهما، فالفعل الذي هو ملازم لإحدى الحصّتين أصبح حراماً.

فتحصّل: أنّ الصلاة تحرم على كلا الرأيين، لا لكونها نقيض الواجب، بل لكونها ملازم النقيض، إذن فالثمرة منتفية.

وبهذا التقريب لا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية بأنّه لا ملازمة بين نقيض الموصل والصلاة؛ لإمكان أن يثبت النقيض في ضمن الترك غير الموصل، فهذا الكلام ـ كما ترى ـ كأنّه ينظر إلى جامع رفع الترك الموصل، بينما هذا الجامع حرام بحرمة انحلاليّة على تمام الحصص، فملازم كلّ من الحصّتين حرام.

نعم، يرد عليه: أنّ الحرمة لا تسري إلى الملازم، لكن فرض عدم السراية إلى الملازم فرض عدم الثمرة أيضاً.

فإلى هنا استحكم الإشكال على هذه الثمرة، بأن يقال: إنّ الفعل ليس نقيضاً للترك، وإنّما هو ملازم للنقيض، أو لإحدى حصّتي النقيض، فإن قلنا بحرمة ملازم الحرام، حرمت الصلاة على كلا الرأيين، وإلّا لم تحرم على كلا الرأيين.

البيان الثاني: لكلام الشيخ أن يقال: إنّ نقيض كلّ شيء رفعه، ويدّعى: أنّ الفعل مصداق للنقيض وإن لم يكن هو النقيض، ولا إشكال في سراية الحرمة من الطبيعة إلى المصاديق وإن أنكرنا السراية إلى الملازم، وفعل الصلاة هو المصداق الوحيد للنقيض بناءً على وجوب مطلق المقدّمة؛ إذ مطلق الترك نقيضه هو رفع الترك الذي لا يتمثّل إلّا في الفعل، وهوأحد المصداقين للنقيض بناءً على وجوب المقدّمة الموصلة؛ لأنّ الترك الموصل نقيضه رفع الترك الموصل المتمثّل: تارةً في الفعل،

535

واُخرى في الترك غير الموصل، فعلى كلا الرأيين ليس الفعل بعنوانه هو النقيض،وعلى كليهما يكون الفعل مصداقاً للنقيض، وحراماً.

ويتلخّص من كلام صاحب الكفاية الجواب على ذلك بالتفصيل، بأنّ الفعل هو مصداق لرفع الترك المطلق، وليس مصداقاً لرفع الترك الموصل.

فإن كان مراده هو هذا، فليس له وجه مفهوم لدينا؛ لأنّ نكتة دعوى المصداقيّة واحدة فيهما، وهي دعوى الحمل، فيقال: هذا الفعل رفع للترك أو رفع للترك الموصل، فإن صحّ الحمل، وكانت صحّة الحمل بالحمل الشايع دليلا على المصداقيّة، ثبتت المصداقيّة على كلا القولين، وإلّا لم تثبت على كليهما، فكأنّ هذا الإشكال إلى هنا مستحكم.

وكلا هذين البيانين للإشكال لهما أصل موضوعيّ مشترك، وهو دعوى: أنّ الفعل ليس هو النقيض، وهذا كأنّه مأخوذ من المصطلح المشهور، وهو أنّ نقيض كلّ شيء رفعه.

والمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) ناقش في هذا الأصل الموضوعيّ، وفسّر المصطلح بأنّ المقصود من الرفع ما يعمّ الرفع الفاعليّ والرفع المفعوليّ، أي: الرافعيّة والمرفوعيّة، والفعل مرفوع بالترك، فهو نقيض للترك(1).



(1) راجع نهاية الدراية، ج. بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 154 ـ 155.

والشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) ـ برغم ذكره لهذا الكلام ـ لم يصل إلى نتيجة صحّة ثمرة الآخوند (رحمه الله)، بل انتهى إلى عدم صحّة تلك الثمرة؛ وذلك لالتفاته إلى ما مضى من اُستاذنا (رحمه الله) في الوجه الثاني من وجوه الإشكالات على ثمرة الآخوند (رحمه الله): من أنّ كلاًّ من جزئي المقدّمة الموصلة له نقيض، وذات المقدّمة ـ وهو الترك ـ نقيضه الفعل، فيحرم، إلّا أنّه غفل عمّا أفاده اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من كون هذه الحرمة حرمة استقلاليّة لا ضمنيّة، ففرض: أنّ الحرمة الاستقلاليّة هي حرمة مجموع نقيضي الجزئين، وانتهى إلى نتيجة

حرمة الفعل، وهي الصلاة مثلا، باعتبار أنّه إذا صلّى فقد تحقّق مجموع نقيضي الترك وإرادة ذي المقدّمة، فإنّ من أتى بالصلاة فقد أفنى الترك، وإرادة ذي المقدّمة، فصارت الصلاة جزء الحرام المستقلّ. راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 150 ـ 151 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

536

وتحقيق الكلام في هذا المقام؛ أنّه لا ينبغي أن نرجع إلى معنى هذا المصطلح، أو تفسير النقيض، وإنّما يجب أن نرجع إلى مسألة: أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ الذي هو منشأ القول بالثمرة؛ لنرى: أنّه ما هي حدود ما يقتضي الأمر بالشيء النهي عنه، فلعلّه يكون أوسع من مصطلح النقيض، أو أضيق، فيجب أن نلاحظ النكتة التي فُصّل بها بين الضدّ العامّ والخاصّ؛ لنرى: أنّه بلحاظ تلك النكتة هل يدخل الفعل في الضدّ العامّ للترك المطلق، أو للترك الموصل، أو لا؟

وعليه نقول: يمكن أن يعبّر عن الضدّ العامّ بتعبيرين، كلاهما يمكن أن يطابق الوجدان القائل بالتفصيل بين الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ.

الأوّل: أنّ الضدّ العامّ هو المعاند للشيء تعانداً ذاتيّاً، أي: لا يحتاج في تعانده إلى تعاند أسبق، كما هو الحال في تعاند الوجود لعدمه، والعدم لمعدومه، فإنّهما متعاندان ذاتيّاً، وبلا افتراض أيّ تعاند آخر سابق، والضدّ الخاصّ هو الذي ليس تعانده للشيء تعانداً ذاتيّاً، أي: أنّ تعانده يكون على أساس تعاند آخر، وذلك كالوجودين المتضادّين، ولا نقصد بعدم التعاند الذاتيّ عدم التمانع الذاتيّ، وإنّما نقصد: أنّه ـ بالرغم من وجود التمانع بينهما ـ يمكن أن يوجدا معاً لو أمكن اجتماع الوجود مع العدم، فإنّ أحد الوجودين لو كان بالإمكان عدمه في نفس الوقت، لأمكن تحقّق الوجود الآخر في نفس الوقت، فمثلا المتّجه إلى الشرق لو أمكن أن

537

يكون في نفس الوقت غير متّجه إليه، لأمكن اتّجاهه نحو الغرب أيضاً؛ إذ لا يزاحم ذلك اتّجاهه نحو الشرق؛ لأنّه قد فرض عدمه في نفس الوقت. فإنّ غاية ما تتطلّبه المنافرة بين شيئين أن لا يوجد أحدهما إلّا إذا اُعدم الآخر ولم يوجد، والمفروض في المقام ـ بالرغم من وجود الآخر ـ أنّه قد اُعدم الآخر ولم يوجد.

الثاني: أنّ الضدّ العامّ للشيء هو ما يوجد ضيق ذاتيّ في عالم النفس عن اجتماع حبّه مع حبّ ذلك الشيء ذاتاً، بخلاف الضدّ الخاصّ، فالوجودان المتضادّان لا يوجد في عالم النفس بما هو ضيق عن اجتماع حبّهما ذاتاً، بل بالإمكان أن يحبّ كلاًّ منهما بعنوانه، إلّا أنّه عاجز عن الجمع بينهما، ولكن الوجود مع عدمه، أو العدم مع معدومه ليسا كذلك، فإنّ اُفق النفس بما هو أضيق من أن يجتمع فيه حبّ كلّ من الوجود والعدم بعنوانه.

نعم، قد يجتمع حبّ أحدهما مع حبّ الآخر بعنوان آخر، كأن يكون هذا الشيء وجوده محبوباً لنا، وعدمه موجباً لسرور صديقنا، فيكون أيضاً محبوباً لدينا، لكن بعنوان: أنّه يسرّ صديقنا، لا بعنوانه الأوّليّ.

وهذا التعبير الثاني عن الضدّ العامّ هو التعبير الأقرب إلى الذوق الاُصوليّ، بل التعبير الأوّل لا يوضّح ابتداءً نكتة حكم الوجدان بالتفصيل بين الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الأوّل دون الثاني، وإنّما يصلح أن يكون التعاند الذاتيّ وعدمه نكتةً لما فرض في التعبير الثاني من ضيق اُفق النفس عن حبّهما معاً ذاتاً، وعدمه الذي هو بدوره يصلح أن يكون نكتةً لتفصيل الوجدان بين الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ.

وعلى أيّ حال، فكلا هذين التعبيرين متساويان في التصادق، وكلاهما ينتج: أنّ الفعل يدخل في الضدّ العامّ للترك المطلق وللترك الموصل؛ إذ هما متعاندان تعانداً ذاتيّاً، ويضيق اُفق النفس عن حبّهما معاً ذاتاً، فبهذا البيان تبطل الثمرة للقول

538

بالمقدّمة الموصلة وعدمه، فإنّ نكتة الوجدان الاُصوليّ القائل بالفرق بين الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ ليست هي: أنّ الضدّ العامّ لا يمكن أن يرتفع مع المأمور به، والخاصّ يمكن أن يرتفع معه، حتّى يقال: إنّ الفعل مع الترك المطلق لا يرتفعان، لكن الفعل مع الترك الموصل يرتفعان. ولو كانت نكتة الفرق الوجدانيّ بين الضدّين ذلك، لحرمت الأضداد الخاصّة، بتقريب: أنّ الفعل مع جامع نقائضه لا يمكن ارتفاعهما، فإذا وجب الفعل، حرم جامع النقائض، وبالتالي حرم كلّ مصاديق ذلك الجامع، وإنّما نكتة ذلك الوجدان ما عرفته: من ضيق اُفق النفس عن حبّهما ذاتاً وعدمه، وهذه النكتة تقتضي جعل الفعل ضدّاً عامّاً للترك، سواء اُريد به الترك المطلق أو الترك الموصل.