91

 

لمحة عن الإمام محمّد بن عليّ الجواد(عليه السلام)

 

يمكن أن يجعل من الشواهد التأريخيّة على قوّة الإمام الجواد(عليه السلام)الاجتماعيّة ما سُجّل في التأريخ: من طريقة تعامل المأمون معه(عليه السلام)وإكرامه إيّاه أيّما إكرام، وقصّة تزويجه(عليه السلام) ببنته اُمّ الفضل، وكان الهدف من ذلك تدارك الوهن الذي دخل على مُلكه نتيجة قتله للإمام الرضا(عليه السلام)، ولولا تلك القوّة الاجتماعيّة له(عليه السلام) ـ والتي يراه اُستاذنا الشهيد الصدر حالة في تمام الأئمّة الذين وصفهم بأنّهم أئمّة الدور الثالث ـ لما كان يُظنّ بمأمون أن يتعامل بهذا الشكل مع إمامنا الجواد(عليه السلام).

روى في البحار(1) عن الاحتجاج عن الريّان بن شبيب: «قال: لمّا أراد المأمون أن يزوّج ابنته اُمّ الفضل أبا جعفر محمّد بن عليّ(عليه السلام) بلغ ذلك العبّاسيّين فغلظ عليهم، واستنكروه منه، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا(عليه السلام)، فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك الله يا أميرالمؤمنين: أن تقيم على هذا الأمر الذي عزِمت عليه: من تزويج ابن الرضا، فإنّا نخاف أن


(1) بحار الأنوار 50: 74 ـ 79.

92

يخرج به عنّا أمرٌ قد ملّكناه الله ـ عزّ وجلّ ـ وينزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة(1) من عملك مع الرضا ما عملت، فكفانا الله المهمّ من ذلك، فالله الله أن تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب(2) فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله من قبلي فقد كان قاطعاً للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

وأمّا أبو جعفر محمّد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه(3) على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه، والاُعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلمون أنّ الرأي ما رأيت فيه.

 


(1) الوهلة: الفزعة.

(2) يقصد أولاد الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

(3) برّز تبريزاً: فاق أصحابه فضلاً.

93

فقالوا له: إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه(1) فإنّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه، فامهله ليتأدّب ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم، إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وموادّه وإلهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفتُ لكم من حاله.

قالوا: قد رضينا لك يا أميرالمؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصّة والعامّة سديد رأي أميرالمؤمنين فيه، وإن عجز عن ذلك فقد كُفينا الخطب في معناه.

فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم.

فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة(2) يحيى بن أكثم ـ وهو يومئذ قاضي الزمان ـ على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون وسألوه أن


(1) الهدي: السيرة والهيئة والطريقة.

(2) أي: أن يطلبوا من يحيى بن أكثم أن يسأل الإمام الجواد(عليه السلام) مسألة لا يعرف الجواب فيها.

94

يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.

فاجتمعوا في اليوم الذي اتّفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست(1) ويجعل له فيه مسورتان(2) ففعل ذلك، وخرج أبو جعفر وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهُر فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر(عليه السلام).

فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك فأقبل يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي ـ جعلت فداك ـ في مسألة؟ فقال أبو جعفر(عليه السلام): سل إن شئت.

قال يحيى: ما تقول ـ جعلت فداك ـ في محرم قتل صيداً؟

فقال أبو جعفر(عليه السلام): قتله في حِلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل كان أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من


(1) الدست هنا صدر البيت، وهو معرّب يقال له بالفارسيّة اليوم: «شاه نشين».

(2) المسورة بكسر الميم متّكأً من أدم، أي: من الجلود المدبوغة.

95

غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً؟

فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره.

فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ نظر إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثمّ أقبل على أبي جعفر(عليه السلام) فقال له أتخطب يا أبا جعفر؟ فقال: نعم يا أميرالمؤمنين، فقال له المأمون: اخطب لنفسك ـ جعلت فداك ـ قد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك اُمّ الفضل ابنتي وإن رغم قوم لذلك.

فقال أبوجعفر(عليه السلام): الحمد لله إقراراً بنعمته، ولا إله إلّا الله إخلاصاً لوحدانيّته، وصلّى الله على محمّد سيّد بريّته والأصفياء من عترته: أمّا بعد فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام وقال سبحانه: ﴿وَأَنكِحُوا الاَْيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

ثمّ إنّ محمّد بن عليّ بن موسى يخطب اُمّ الفضل بنت عبدالله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد(صلى الله عليه وآله)، وهو


(1) سورة 24 النور، الآية: 32.

96

خمس مئة درهم جياداً، فهل زوّجته يا أميرالمؤمنين بها على هذا الصداق المذكور؟ فقال المأمون: نعم، قد زوّجتك يا أبا جعفر اُمَّ الفضل ابنتي على الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح؟ قال أبو جعفر(عليه السلام): قد قبلت ذلك ورضيت به.

فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصّة والعامّة.

قال الريّان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاّحين في محاوراتهم، فإذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من فضّة مشدودة بالحبال من الأبريسم على عجلة مملوّة من الغالية، ثمّ أمر المأمون أن تخضب لحاء الخاصّة من تلك الغالية، ثمّ مدّت إلى دار العامّة فتطيّبوا منها، ووضعت الموائد فأكل الناس، وخرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم.

فلمّا تفرّق الناس وبقي من الخاصّة من بقي قال المأمون لأبي جعفر(عليه السلام): إن رأيت ـ جعلت فداك ـ أن تذكر الفقه الذي فصّلته من وجوه من قتل المحرم; لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفر(عليه السلام): نعم، إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحِلّ وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحلّ فعليه حمل(1) قد


(1) فُسّر الحَمَل بالصغير من أولاد الضأن.

97

فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كانمن الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، وإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة.

وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفاّرة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يُسقط ندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة.

فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر، أحسن الله إليك. فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك. فقال أبو جعفر(عليه السلام) ليحيى: أسألك؟ قال: ذلك إليك ـ جعلت فداك ـ فإن عرفت جواب ما تسألني عنه، وإلّا استفدته منك.

فقال له أبو جعفر(عليه السلام): أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار حلّت له، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا غربت الشمس حرمت عليه، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت

98

له، ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟

فقال له يحيى بن أكثم: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه.

فقال أبو جعفر(عليه السلام): هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبيّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له.

قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدّم من السؤال؟ قالوا: لا والله، إنّ أميرالمؤمنين أعلم وما رأى.

فقال: ويحكم إنّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال.

أما علمتم أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحداً في سنّه غيره، وبايع الحسن والحسين(عليهما السلام)وهما ابنا دون الستّ سنين، ولم يبايع صبيّاً غيرهما، أو لا تعلمون ما اختصّ الله به

99

هؤلاء القوم وإنّهم ذرّيّة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم، فقالوا صدقت يا أميرالمؤمنين، ثمّ نهض القوم.

فلمّا كان من الغد أحضر الناس وحضر أبو جعفر(عليه السلام) وسار القوّاد والحجّاب والخاصّة والعمّال لتهنئة المأمون وأبي جعفر(عليه السلام)، فاُخرجت ثلاث أطباق من الفضّة فيها بنادق مسك وزعفران، معجون في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنيّة وإقطاعات، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصّته، فكان كلّ من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق يده له، ووضعت البدر فنثر ما فيها على القوّاد وغيرهم، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا، وتقدّم مأمون بالصدقة على كافّة المساكين، ولم يزل مُكرماً لأبي جعفر(عليه السلام) معظّماً لقدره مدّة حياته، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته». انتهى الحديث.

وهناك مناظرة اُخرى بين يحيى بن أكثم والإمام الجواد(عليه السلام) طريفة جدّاً أذكرها بالمناسبة:

ورد في البحار(1) عن الاحتجاج قال: «رُوي أنّ المأمون بعد ما زوّج ابنته اُمّ الفضل أبا جعفر(عليه السلام) كان في مجلس وعنده أبو جعفر(عليه السلام)ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة، فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول يا ابن


(1) بحار الأنوار 50: 80 ـ 83.

100

رسول الله في الخبر الذي روي أنّه نزل جبرئيل على رسول الله(صلى الله عليه وآله)وقال: يا محمّد، إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يُقرئك السلام ويقول لك: سل أبابكر هل هو عنّي راض، فإنّي عنه راض؟

فقال أبو جعفر(عليه السلام): لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع: قد كثرت عليّ الكذّابة وستكثر، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي، فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به، وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾(1)، فالله ـ عزّوجلّ ـ خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتّى سأل من مكنون سرّه؟! هذا مستحيل في العقول.

ثمّ قال يحيى بن أكثم: وقد روي أنّ مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء.

فقال(عليه السلام): وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه; لأنّ جبرئيل وميكائيل ملكان مقرّبان لم يعصيا الله قطّ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله ـ عزّ وجلّ ـ وإن أسلما بعد الشرك، وكان أكثر أيّامهما في


(1) سورة 50 ق، الآية: 16.

101

الشرك بالله، فمحال أن يشبّههما بهما.

قال يحيى: وقد روي أيضاً أنّهما سيّدا كهول أهل الجنّة، فما تقول فيه؟

فقال(عليه السلام): وهذا الخبر محال أيضاً; لأنّ أهل الجنّة كلّهم يكونون شباباً، ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو اُميّة لمضادّة الخبر الذي قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الحسن والحسين بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة.

فقال يحيى بن أكثم: وروي أنّ عمر بن الخطّاب سراج أهل الجنّة.

فقال(عليه السلام): وهذا أيضاً محال; لأنّ في الجنّة ملائكة الله المقرّبين وآدم ومحمّد(صلى الله عليه وآله) وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضيئ بأنوارهم حتّى تُضيئ بنور عمر؟!

فقال يحيى: وقد روي أنّ السكينة تنطق على لسان عمر. فقال(عليه السلام): لست بمنكر فضائل عمر ولكن أبابكر أفضل من عمر، فقال على رأس المنبر: إنّ لي شيطاناً يعتريني فإذا ملتُ فسدّدوني.

فقال يحيى: قد روي أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: لو لم اُبعث لبعث عمر.

فقال(عليه السلام): كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوح...﴾(1)، فقد أخذ الله


(1) سورة 33 الأحزاب، الآية: 7.

102

ميثاق النبيّين، فكيف يمكن أن يبدّل ميثاقه؟! وكان الأنبياء(عليه السلام) لميشركوا طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوّة من أشرك وكان أكثر أيّامه مع الشرك بالله، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): نُبّئت وآدم بين الروح والجسد.

فقال يحيى بن أكثم: وقد روي أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: ما احتبس الوحي عنّي قطّ إلّا ظننته قد نزل على آل الخطّاب.

فقال(عليه السلام): وهذا محال أيضاً; لأنّه لا يجوز أن يشكّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) في نبوّته، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَـلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس...﴾(1)، فكيف يمكن أن تنتقل النبوّة ممّن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به؟!

قال يحيى بن أكثم: روي أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: لو نزل العذاب لما نجى منه إلّا عمر.

فقال(عليه السلام): وهذا محال أيضاً، إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾(2)، فأخبر سبحانه أن لا يعذّب أحداً مادام فيهم رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وماداموا يستغفرون الله تعالى».

وأخيراً أختم الحديث هنا ـ قبل انتقالنا إلى كلمة لاُستاذنا الشهيد


(1) سورة 22 الحجّ، الآية: 75.

(2) سورة 8 الأنفال، الآية: 33.

103

عن الإمام الجواد (صلوات الله وسلامه عليه) ـ بالإشارة إلى اختلاف الروايات في كيفيّة وفاته(1)، وأنا أقتصر هنا على ذكر رواية واحدة نقلها المجلسي في البحار(2) عن كتاب (عيون المعجزات)، ونصّ الحديث ما يلي: «ثمّ إنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر(عليه السلام)، وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه; لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر(عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه; لتفضيله اُمّ أبي الحسن ابنه عليها; ولأنّه لم يرزق منها ولد، فأجابته إلى ذلك وجعلت سمَّـاً في عنب رازقيّ، ووضعته بين يديه، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي، فقال: ما بكاؤك؟ والله ليضربنّك الله بعقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر، فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناصوراً...».

بقي علينا التعرّض لحديث اُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله) عن الإمام الجواد(عليه السلام):

ورد في كتاب (أئمّة أهل البيت)(3) ـ الذي هو تجميع لمحاضرات اُستاذنا الشهيد في الأئمّة(عليهم السلام) ـ بحثٌ عُنوِن بعنوان الإمامة المبكّرة،


(1) راجع روايات وفاته(عليه السلام) في البحار50: 11 وما بعدها.

(2) بحار الأنوار 50: 17.

(3) ص 399 ـ 406.

104

وحاصله ما يلي:

قدّر الله تعالى أن يكون نفسُ وجود الإمام الجواد(عليه السلام) على خطّ حياة أهل البيت(عليه السلام) دليلاً وبرهاناً على صحّة العقيدة التي نؤمن بها نحن بالنسبة إلى أئمّة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام; لأنّ الظاهرة التي وجدت مع هذا الإمام ـ وهي ظاهرة تولّي الشخص للإمامة وهو بعدُ في سنّ الطفولة ـ تعني: تولّي زعامة الطائفة الشيعيّة روحيّاً ودينيّاً وعمليّاً وفكريّاً من قبل طفل من الأطفال.

وهذه الظاهرة التي ظهرت لأوّل مرّة في حياة الأئمّة في الإمام الجواد(عليه السلام) لو درسناها بحساب الاحتمالات لوجدنا أنّها وحدها كافية للاقتناع بحقّانيّة هذا الخطّ الذي كان يمثّله الإمام الجواد(عليه السلام); إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الإمامة الواقعيّة في شخص من هذا النمط؟!

فالفرضيّات التي يمكن أن تفترض غير حقّانيّة الإمامة وأنّها من قبل الله تعالى لا تخلو عن عدد من الفروض، وكلّها باطلة:

الأوّل: أن يفترض أنّ الطائفة لم يتكشّف لديها بوضوح هذا الصبيّ.

وهذا باطل; لأنّ زعامة الإمام في أهل البيت(عليهم السلام) لم تكن زعامة محوّطة بالشرطة والجيش واُبّهة المُلك والسلطان الذي يحجب بين الزعيم ورعيّته، ولم تكن زعامة دعوة سرّيّة من قبيل الدعوات

105

الصوفيّة أو الفاطميّة التي تحجب بين رأس الدعوة وبين قواعد هذه الدعوة، لكي يفترض أنّ هذا الرأس كان محجوباً عن رعيّته مع إيمان الرعيّة به، وإمام أهل البيت(عليه السلام) كان مكشوفاً أمام الطائفة، وكانت الطائفة بكلّ طبقاتها تتفاعل معه مباشرة في مسائلها الدينيّة وفي قضاياها الروحيّة والأخلاقيّة، والإمام الجواد(عليه السلام)نفسه أصرّ على المأمون حينما استقدمه إلى بغداد في أن يسمح له بالرجوع إلى المدينة، وسمح له بذلك، «وقضى بقيّة عمره قبل إشخاصه في أواخر حياته إلى الخليفة في المدينة»(1).

إذن، فقد قضى الإمام الجواد(عليه السلام) أكثر عمره أو كلّ عمره وهو على المسرح، وهو مكشوف أمام المسلمين بمختلف طبقاتهم بما فيهم الشيعة، خصوصاً أنّ الإمام الجواد(عليه السلام) قد سلّطت عليه أضواء خاصّة من قبل الخليفة المأمون.

والثاني: أن يفترض أنّ المستوى العلميّ والفكريّ للطائفة وقتئذ كان يَعْبُر عليه هذا الموضوع، فكان بالإمكان أن تصدّق هذه الطائفة بإمامة طفل، وهو ليس بإمام.

وهذا أيضاً يكذّبه الواقع التأريخيّ لهذه الطائفة وما وصلت إليه من


(1) هذا المقطع خرّجه محقّق الكتاب من المستجاد من الإرشاد: 458 ـ 459، وتاج المواليد للطبرسي: 129 من المجموعة النفيسة.

106

مستوى علميّ وفقهيّ، فإنّ هذه الطائفة قد خلّفها الإمام الباقر والإمام الصادق(عليهما السلام)، وفيها أكبر مدرسة للفكر الإسلاميّ في العالم الإسلاميّ على الإطلاق، المدرسة التي تكوّنت من الجيلين المتعاقبين: جيل تلامذة الإمام الصادق والكاظم(عليهما السلام)، وجيل تلامذة تلامذة الإمام الصادق والكاظم، وهذان الجيلان كانا على رأس هذه الطائفة في ميادين الفقه والتفسير والكلام والحديث والأخلاق وكلّ جوانب المعرفة الإسلاميّة.

إذن، فلا يمكن أن نفترض أنّ المستوى الفكريّ والعلميّ لهذه الطائفة كان يَعْبرُ عليه مثل هذا.

ولئن أمكن لشخص أن يتصوّر أنّ رجلاً عالماً كبيراً محيطاً مطّلعاً بلغ الخمسين أو الستّين يستطيع أن يُقنع مجموعة من الناس بإمامته بسبب اتّصافه بدرجة كبيرة من العلم والمعرفة والذكاء والاطّلاع وهو ليس بإمام، فليس بالإمكان أن نفترض ذلك في شخص لم يبلغ العاشرة من عمره، وكيف يعمّي الطفل كذبه في دعوى الإمامة على مدرسة فكريّة من أضخم المدارس الفكريّة التي وجدت في العالم الإسلاميّ يومئذ، مدرسة كان يوجد بعض قطّاعاتها في الكوفة، وبعضها في قم، وبعضها في المدينة، وكانت موزّعة في حواضر العالم الإسلاميّ والتي كانت كلّها على صلة مباشرة بالإمام الجواد(عليه السلام)، تستفتيه وتسأله وتنقل إليه الأموال من مختلف الأطراف من

107

شيعته(1)، فمثل هذه المدرسة لا يمكن أن نتصوّر فيها أن تغفل عن حقيقة طفل لا يكون إماماً.

والثالث: أن يفترض أنّ الطائفة لم يكن عندها مفهوم الإمام والإمامة واضحاً بالمعنى الذي نقوله، وكانت تتصوّر أنّ الإمامة مجرّد تسلسل نسبيّ ووراثيّ، ولم تكن تعرف ما هو الإمام، وما هي قيمته، وما هي شروطه.

وهذا الإفتراض أيضاً يكذّبه واقع التراث المتواتر المستفيض من أميرالمؤمنين إلى الإمام الرضا(عليهما السلام) عن شروط الإمام، ومحصول الإمام، وعلامات الإمام.

فالتشيّع قام أساساً على المفهوم الإلهيّ المعمّق للإمامة، وهذا هو أوضح وأبده وأوّل مفهوم من مفاهيم التشيّع، وهو: أنّ الإمام إنسان فذّ فريد في معارفه وأخلاقه وقوله وعمله، وقد بشّرت بهذا المفهوم آلاف النصوص من عهد أميرالمؤمنين(عليه السلام)إلى عهد الرضا(عليه السلام)، وكلّ الخصوصيّات وكلّ التفاصيل أصبحت بالتدريج واضحة في ارتكاز الطائفة وذهنيّتها حتّى بعض التفاصيل الثانويّة.

يقول الراوي في مناسبة قصّة الإمام الجواد(عليه السلام): دخلت المدينة بعد


(1) اُنظر بحار الأنوار 50، ب 3 و4 و5 من حياة الإمام الجواد(عليه السلام)، الصفحة: 37 وما بعدها.

108

وفاة الرضا(عليه السلام) أسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا(عليه السلام)، فقيل: إنّ الخليفة في قرية قريبة من المدينة، فخرجت إلى تلك القرية ودخلت داخل القرية ـ وكان فيها بيت للإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) انتقل بالوراثة إلى أولاده وأحفاده ـ فرأيت البيت غاصّاً بالناس، ورأيت أحد إخوة الإمام الرضا(عليه السلام) كان جالساً يتصدّر المجلس إلّا أنّ الناس يقولون فيما بينهم: إنّ هذا ليس هو الإمام بعد الإمام الرضا; لأنّنا سمعنا من الأئمّة(عليهم السلام) أنّ الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين(1)، فكلّ التفاصيل وكلّ الخصوصيّات النسبيّة والمعنويّة كانت واضحة ومحدّدة عندهم.

والرابع: أن يفترض أن يكون هذا تبانياً على الزور والباطل من قبل هذه الطائفة.

وهذا أيضاً ممّا لا يكذّبه إيماننا الشخصيّ فحسب بورع هذه الطائفة وقدسيّتها، بل يكذّبه ـ إضافةً إلى ذلك ـ الظرف الموضوعيّ لهذه الطائفة، إذ لم يكن التشيّع في يوم من الأيّام في حياة هذه الطائفة طريقاً إلى الأمجاد والمال والجاه والسلطان والمقامات العالية.

إنّ التشيّع طيلة هذه المدّة كان طريقاً إلى التعذيب، وإلى السجون والحرمان، وإلى الويل والدمار، وكان طريقاً إلى أن يعيش الإنسان


(1) اُنظر بحار الأنوار 25، كتاب الإمامة، ب 8: ص 250 ـ 252.

109

حياة الخوف والذلّ والتقيّة في كلّ حركاته وسكناته، فلا معنى للتباني من قبل هذه الطائفة على إمامة كاذبة في سبيل مطمع من المطامع.

ولو أنّ هؤلاء الوجهاء والعلماء والأعلام تركوا هذه الطريقة واتّبعوا الطريق الرسميّ المكشوف وقتئذ والمتّبع من قبل سائر المسلمين لكانوا في طليعة سائر المسلمين.

فالظروف الموضوعيّة بنفسها تشهد على أنّ هذا التباني لا يمكن أن يكون ناشئاً إلّا عن اعتقاد حقّ بهذه الإمامة.

فلم تبق فرضيّة معقولة إلّا الفرض الوحيد المطابق للواقع، وهو: أن يكون الإمام الجواد(عليه السلام)إماماً حقّاً.

 

110

 

 

لمحة عن الإمام عليّ بن محمّد الهادي(عليه السلام)

 

يا أيّهذا الرائحُ الغادي
عرّجْ على سيّدِنا الهادي
واخلعْ إذا شارفتَ ذاك الثرى
فعل كليم الله في الوادي
وقبّلِ الأرضَ وسُف(۱) تربةً
فيها العلى والشرفُ العادي(۲)
وقلْ سلامُ اللهِ وقفٌ على
مستخرَج من صلبِ أجوادِ

* * *

يا آلَ طه أنتمُ عُدَّتي
ووصفكم بين الورى عادي(۳)
وشكركم دأبي وذكري لكم
همّي وتسبيحي وأورادي

* * *


(1) من ساف بمعنى اشتمّ.
(2) أي: القديم.
(3) أي: قديم.
111

ولي أمانٌ فيكمُ جمّةٌ(۱)
تقضي بإقبالي وإسعادي
وواجبٌ في شرعِ إحسانكم
إنالتي الخيرَ وإمدادي
لا زال قلبي لكمُ مسكناً
في حالتي قُرب وإبعادي(۲)
يُروى أنّ الإمام عليّ بن محمّد الهادي(عليه السلام) كان في سني إمامته بقيّة ملك المعتصم ثمّ الواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتزّ، وفي آخر مُلك المعتمد استشهد مسموماً، وقال ابن بابويه: «وسمّه المعتمد»(3).

وقال عادل الأديب (حفظه الله) في كتابه (الأئمّة الاثنا عشر)(4): عاش الإمام الهادي(عليه السلام) بعد استشهاد أبيه ظروفاً صعبة وقاسية، وقد عاصر حكم المتوكّل الذي عرف بحقده على الإمام(عليه السلام)وملاحقته لأصحابه وقواعده التي كانت تتّسع يوماً بعد يوم، هذا التوسّع الذي


(1) الجمّة: الكثرة.
(2) كشف الغمّة 3:195 ـ 196.
(3) بحار الأنوار 50:114 نقلاً عن مناقب آل أبي طالب.
(4) ص 226.
112

انعكس على واقع الجهاز الحاكم حتّى شعر المتوكّل بخطورة الموقف وحرجه، فحاول تفادي المضاعفات بطريقتين متلازمتين في آن واحد معاً:

1 ـ شنّ حملة مطاردة واضطهاد لقواعد الإمام(عليه السلام) وأصحابه وتدمير كلّ أثر شيعيّ لهم، زيادةً في إرهابهم، وإمعاناً في إذلالهم «حتّى أنّه كرب قبر الحسين وعفى آثاره»(1).

2 ـ عزل الإمام(عليه السلام) عن قواعده، تمهيداً لشرذمتها، وتمييع قضيّتها، وتأييسها من الانتصار.

أقول: وإنّني أقتصر هنا على ذكر عدد من الروايات من البحار ممّا توضّح هيبة الإمام عليّ الهادي(عليه السلام) وعظمته الاجتماعيّة:

1 ـ روى في البحار(2) عن مروج الذهب للمسعودي، عن يحيى بن هرثمة قال: «وجّهني المتوكّل إلى المدينة لإشخاص عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى(عليه السلام) لشيء بلغه عنه، فلمّا صرت إليها ضجّ أهلها، وعجّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله، فجعلت اُسكّنهم وأحلف أنّي لم اُؤمَر فيه بمكروه، وفتّشت منزله فلم اُصب فيه إلّا مصاحف ودعاء وما أشبه ذلك، فأشخصته وتولّيت خدمته وأحسنت عشرته...».

 


(1) اُنظر مقاتل الطالبيّين: 395.

(2) بحار الأنوار 50:207.

113

فانظُر إلى قوّته(عليه السلام) الاجتماعيّة التي أوجبت هذا الضجيج والعجيج في المدينة والتي أجبرت يحيى بن هرثمة على ذاك التسكين والحلف.

ولا تنافي بين ما ورد في هذا الحديث من تفتيش منزله(عليه السلام) وما سننقله الآن ـ إن شاء الله ـ من الرواية الثانية التي تقول: إنّ إشخاصه(عليه السلام)إلى سامرّاء كان بطلب من نفس الإمام(عليه السلام) من المتوكّل أو ـ على الأقلّ ـ بتفاهم بينهما.

2 ـ ورد في البحار(1) نقلاً عن كتاب الإرشاد ما يلي:

«كان سبب شخوص أبي الحسن(عليه السلام) من المدينة إلى سرّ من رأى أنّ عبدالله بن محمّد كان يتولّى الحرب والصلاة في مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله)، فسعى بأبي الحسن إلى المتوكّل وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن(عليه السلام)سعايته به، فكتب إلى المتوكّل يذكر تحامل عبد الله بن محمّد عليه وكذبه فيما يسعى به، فتقدّم المتوكّل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر(2) على جميل من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب، وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد: فإنّ أميرالمؤمنين عارف بقدرك، راع لقرابتك، موجب لحقّك، مؤثر من الاُمور فيك وفي أهل بيتك ما


(1) بحار الأنوار 50:200 ـ 203.

(2) يعني: سرّ من رأى.

114

يصلح الله به حالك وحالهم، ويثبّت به عزّك وعزّهم، ويدخل الأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضا ربّه وأداء ما فرض عليه فيك وفيهم، فقد رأى أميرالمؤمنين صرف عبدالله بن محمّد عمّا كان يتولّى من الحرب والصلاة بمدينة الرسول إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك، واستخفافه بقدرك، وعند ما قرفك(1) به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أميرالمؤمنين براءتك منه، وصدق نيّتك في برّك وقولك، وأنّك لم تؤهّل نفسك لما قُرِفت(2) بطلبه.

وقد ولّى أميرالمؤمنين ما كان يلي من ذلك محمّد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرّب إلى الله وإلى أميرالمؤمنين بذلك، وأميرالمؤمنين مشتاق إليك يحبّ إحداث العهد بك والنظر إلى وجهك.

فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت، فإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أميرالمؤمنين ومن معه من الجند يرحلون برحيلك ويسيرون بمسيرك فالأمر في ذلك إليك، وقد تقدّمنا إليه بطاعتك.

 


(1) أي: اتّهمك.

(2) أي: اتّهمتَ.

115

فاستخر الله(1) حتّى توافي أميرالمؤمنين، فما أحد من إخوته ووُلده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة، ولا أحمد له إثرة(2)، ولا هو لهم أنظر، وعليهم أشفق، وبهم أبرّ، وإليهم أسكن منه إليك».

أقول: إنّ هذا الاُسلوب من الكلام يبدو أنّه هو نفس ما مضى من سياسة مأمون في تبجيله للرضا والجواد(عليهما السلام)، وهذا يؤيّد ما يقوله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ الإمام الهادي هو ثالث أئمّة الدور الثالث.

ومع ذلك حاول المتوكّل إهانة الإمام(عليه السلام) ليوم واحد قبل لقائه به، وذلك بجعله في خان الصعاليك بحسب ما يبدو من تتمّة الرواية، وهي ما يلي:

«فلمّا وصل الكتاب إلى أبي الحسن(عليه السلام) تجهّز للرحيل وخرج معه يحيى بن هرثمة حتّى وصل سرّ من رأى، فلمّا وصل إليها تقدّم المتوكّل بأن يحجب عنه في يومه، فنزل في خان يقال له خان الصعاليك، وأقام به يومه، ثمّ تقدَّم المتوكّل بإفراد دار له فانتقل إليها».

وروي عن صالح بن سعيد قال: «دخلت على أبي الحسن(عليه السلام) يوم وروده، فقلت له: جعلت فداك في كلّ الاُمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتّى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصعاليك.

 


(1) أي: اطلُب الخير من الله.

(2) أي: إكراماً.