1

محل الذبح في الحجّ

بسم الله الرحمن الرحيم

تعتبر منى محل ذبح الهدي في حج التمتع، وقد يُستدل على ذلك بوجوه:

1 ـ قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ...﴾(1).

فقد استدلّ السيّد الخوئي (رحمه الله) بهذه الآية المباركة لإثبات أنّ محل ذبح الهدي في الحجّ بمنى؛ تارةً بها وحدها، واُخرى بمعونة ضمّ موثقة زرعة إليها(2).

أمّا تقريب الاستدلال بها وحدها فهو أنّه لا يوجد فقهيّاً في محلّ ذبح الهدي غير احتمالين:

الأوّل: أن يكون محلّه منى.

والثاني: ألاّ يكون له محلّ معيّن.

وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ يرفض الاحتمال الثاني بصريح العبارة، فينحصر الأمر في الاحتمال الأوّل.

أقول: لو لم نحتمل في محلّ الهدي احتمالا ثالثاً حقّاً لتمّ هذا الاستدلال، أمّا لو احتملنا في محل الهدي كونه أوسع من منى ـوهو عنوان الحرم مثلا أو عنوان مكّة وما حواليهاـ فهذا الاستدلال لا يتم.

وأمّا تتميم الاستدلال بالآية بموثقة زرعة فتلك الموثقة عبارة عمّا ورد عنه من قوله: سألته عن رجل اُحصر في الحجّ؟ قال: «فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه، ومحلّه أن يبلغ الهدي محلَّه، ومحله منى يوم النحر إذا كان في الحجّ، وإن كان في عمرة نحر بمكة...»(3).

فهذه الرواية قد فسّرت المقصود بما في الآية الشريفة من بلوغ الهدي محلّه وذكرت أنّ محل الهدي هو منى.

وقد ذكر السيّد الخوئي (رحمه الله) (4) أنّ هذا الدليل ليس له إطلاق لحالات العذر حتى يثبت به سقوط الهدي رأساً عند العجز عن ذبحه بمنى إلى بدل وهو الصوم أو لا إلى بدل؛ فإنّ الآية والرواية ليستا بصدد بيان محلّ الهدي ابتداءً، فغاية ما يثبت بهما أنّ محل الهدي في الحالات الاعتيادية هو منى، أمّا مع العجز فنرجع إلى إطلاقات دليل وجوب الهدي، كقوله تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾(5).


(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) المعتمد، كتاب الحجّ 5: 208.
(3) وسائل الشيعة 13: 182، ب. من الإحصار والصدّ، ح 2، ط ـ آل البيت.
(4) المعتمد، كتاب الحجّ 5: 211.
(5) سورة البقرة، الآية: 196.
2

أقول: لايخفى أنّ الاستدلال بمجموع الآية والرواية يكون في قوّة الاستدلال بالرواية لا الآية، وعلى أيّ حال لم يتّضح لدينا معنى ضمّه (رحمه الله) في المقام الرواية إلى الآية لإثبات أنّ محلّ الذبح هو منى؟! فإنّ الرواية وحدها دالّة على المقصود وضم الآية إليها لايزيد شيئاً في المقام.

2 ـ صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله، في رجل يضلّ هديه فيجده رجل آخر فينحره؟ فقال: «إن كان نحره بمنى فقد أجزأ عن صاحبه الذي ضلّ عنه، وإن كان نحره في غير منى لم يجزئ عن صاحبه»(1).

وقد ذكر السيّد الخوئي (رحمه الله) أنّ الاستدلال بهذا الحديث على أصل المطلب ـوهو كون محل الذبح منىـ تامّ في ذاته، إلّا أنّه أيضاً لا إطلاق له لحال العذر عن الذبح في منى؛ لأنّه لم يكن ابتداءً بصدد بيان محلّ الذبح، فمع العذر نتمسّك أيضاً بإطلاقات الذبح لإثبات وجوب الذبح ولو في مكان آخر(2).

3 ـ رواية إبراهيم الكرخي عن أبي عبد الله، في رجل قدم بهديه مكّة في العشر فقال: «إن كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّا بمنى، وإن كان ليس بواجب فلينحره بمكة إن شاء، وإن كان قد أشعره أو قلّده فلا ينحره إلّا يوم الأضحى»(3).

وقد ناقش السيّد الخوئي في سند الحديث بإبراهيم الكرخي الذي لم يشهد بوثاقته(4).

أقول: وهذا لا يهمّنا؛ لنقل ابن أبي عمير عنه، فبناءً على مسلكنا من كون نقل أحد الثلاثة دالا على التوثيق يتم سند الحديث.

وأمّا فقه الحديث: فالظاهر أنّ الحجّ كان حج قران؛ بقرينة قوله: «قدم بهديه». وأمّا قوله: «في العشر» فالظاهر أنّه إشارة إلى سؤال؛ وهو أنّه ما دام قد قدم بهديه في العشر في داخل ذي الحجة أفلا يجوز له الذبح داخل العشر وقبل الأضحى وقبل الانتقال إلى منى؟ فكأنّ السائل يسأل سؤالين: أحدهما عن مدى جواز ذبحه في مكة وقبل منى، والآخر عن مدى جواز الاستعجال بالذبح قبل الأضحى في العشر الاُولى، فأجاب الإمام عن السؤال الأوّل بقوله: «إن كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّا بمنى، وإن كان ليس بواجب فلينحر بمكة إن شاء»، وكأن المقصود من الهدي الواجب ما اُشعر أو قلّد، ومن غير الواجب ما لم يشعر ولم يقلّد، وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: «وإن كان قد أشعره أو قلّده فلا ينحره إلّا يوم الأضحى».

ولعلّ هذا الالتواء والغموض في الجواب ناتج عن النقل بالمعنى. وعلى أيّة حال فالمعنى الذي استفدناه من هذا الحديث ـبتفسيره بما شرحناهـ قد ورد بصريح العبارة في حديث آخر وهو:

4 ـ صحيحة مسمع عن أبي عبد الله قال: «إذا دخل بهديه في العشر فإن كان أشعره وقلّده فلا ينحره إلّا يوم النحر بمنى، وإن كان لم يقلّده ولم يشعره فلينحره بمكّة إذا قدم في العشر»(5).


(1) وسائل الشيعة 14: 137، ب 28 من الذبح، ح 2.
(2) المعتمد، كتاب الحجّ 5: 211.
(3) وسائل الشيعة 14: 88، ب. من الذبح، ح 1.
(4) المعتمد، كتاب الحجّ 5: 201.
(5) وسائل الشيعة 14: 81 ـ 90، ب. من الذبح، ح 5.
3

ولئن كان سند الحديث السابق معيباً بإبراهيم الكرخي حسب مبنى السيّد الخوئي، فَلِم لم يستدلّ على المقصود بهذا الحديث الذي لا غبار على سنده؟!

نعم، العيب الموجود في كلا الحديثين أنهما واردان في حج القران، في حين أنّ كلامنا في حج التمتع، فيتوقف الاستدلال بهذين الحديثين على دعوى عدم احتمال الفرق فقهياً في محلّ الهدي بين القران والتمتع؛ فإن تمّ هذا كفانا الحديث الثاني، وإن لم يتم لم تتم دلالة الحديث الأوّل أيضاً.

5 ـ حديث عبد الأعلى الذي رواه أبان عنه قال: قال أبو عبد الله: «لاهدي إلّا من الإبل، ولا ذبح إلّا بمنى»(1).

وقد ناقش السيّد الخوئي في سند الحديث بعبد الأعلى؛ لاشتراكه بين العجلي الثقة ومولى آل سام الذي لم تثبت وثاقته، بل نقل أبان عنه قرينة على أنّ المقصود هو مولى آل سام.

أقول: إنّنا لا نهتم بذلك؛ لأنّ عبد الأعلى مولى آل سام ممّن قد روى عنه ابن أبي عمير.

نعم، لدينا نقاش في دلالة الحديث؛ لأنّ وحدة السياق بين نفي الهدي إلّا من الإبل ونفي الذبح إلّا بمنى يبطل الدلالة؛ للقطع باستحباب الأوّل.

6 ـ حديث مسمع عن أبي عبد الله قال: «منى كلُّه منحر، وأفضل المنحر كلّه المسجد»(2).

وقد ناقش السيّد الخوئي (رحمه الله) في هذا الحديث سنده مع تسليمه للدلالة، فذكر أنّ دلالة الحديث واضحة ولكنّ السند ضعيف بالحسن اللؤلؤي الذي وقع فيه التعارض بين توثيق النجاشي وتضعيف ابن الوليد له حيث استثنى من روايات محمّد بن أحمد بن يحيى ما كان ينفرد به الحسن بن الحسين اللؤلؤي، على أساس أنّ محمّد بن أحمد بن يحيى وإن كان ثقة في نفسه لكنه يروي عن الضعفاء، وتبعه على ذلك الشيخ الصدوق وأبو العباس بن نوح(3).

أقول: إنّ تماميّة دلالة الرواية موقوفة على ما مضى من دعوى أنّ الاحتمال الفقهي يدور بين أن يكون منى هو المذبح وألاّ يكون أيّ تعيّن لمحل الذبح، فعندئذ يكون قوله: «منى كلّه منحر» دالاًّ على الأوّل. أمّا إذا تردّدنا بين أن يكون المنحر هو منى أو ما هو أوسع من منى كالحرم أو مكة وما حواليها، فالرواية لا تدلّ على اختصاص المنحر بمنى، فإنّها ليست ذات مفهوم، وإنّما هي بصدد بيان أنّ النحر في منى لا يكون في خصوص المسجد؛ لأنّ منى كلّه منحر ولكن المسجد أفضل.

وعلى أيّة حال، فلو تمّ إطلاق لإثبات أنّ الهدي في حج التمتع يجب أن يُذبح في منى، فقد يتصور أنّ من وجد الهدي ولكنه عجز عن ذبحه بمنى يسقط عنه الذبح، إمّا إلى بدل وهو الصوم أو لا إلى بدل.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه حتى لو تمّ إطلاق من هذا القبيل فإنّنا نقيّده بإخراج فرض العجز عن الذبح في منى بأحد وجوه، لو تمّ أيّ واحد منها لثبت أنّ الهدي لا يسقط بالعجز عن ذبحه في منى، وأمّا دليل الانتقال إلى البدل وهو الصوم فإنّما ورد في من لم يجد الهدي، لا في من وجد الهدي ولكن عجز عن ذبحه في منى.


(1) المصدر السابق: ص 90، ح 6.
(2) المصدر السابق: 90، ح 7.
(3) المعتمد، كتاب الحجّ 5: 210.
4

أمّا الوجوه التي قد يمكن الاعتماد على بعضها لإثبات عدم سقوط الهدي بالعجز عن الذبح في منى فهي ما يلي:

الوجه الأوّل ـ دعوى الضرورة الفقهية على ذلك، فلعلّ عدم سقوط التكليف عن المتمتع بمجرّد عجزه عن ذبحه بمنى من المسلّمات. إلّا أنّ هذا الوجه إنّما ينفع لو جزمنا بقيام الضرورة الفقهية على بقاء وجوب الذبح مع سقوط قيد كونه في منى، أمّا لو ادّعينا أنّ الضرورة إنّما قامت على عدم سقوط الهدي بلا بدل فهذا الوجه لو تمّ وحده لورّطنا في مشكلة الجمع بين ذبح الهدي والصوم عملا بالعلم الإجمالي، إلّا إذا ادّعينا احتمال التخيير ورفعنا تعيين أحدهما بالبراءة من التعيين.

الوجه الثاني ـ التمسك بالروايات الواردة في متمتع يجد الثمن ولا يجد الغنم إلى أن يريد الرجوع إلى أهله، كصحيحة حريز عن أبي عبد الله قال: «يخلف الثمن عند بعض أهل مكة ويأمر من يشتري له ويذبح عنه، وهو يجزئ عنه، فإن مضى ذو الحجة أخّر ذلك إلى قابل من ذي الحجة»(1).

فإنّ الظاهر من ذلك أنّ ذاك البعض سيذبحه في مكة، إمّا لأنّه يصعب عليه نقله إلى منى لأجل المنوب عنه ـخصوصاً في تلك الأيّام التي لم تكن فيها وسائل النقل حديثة ومتوفّرة كما هي اليومـ فالشريعة لم تشأ تكليفه بالذبح في منى، وإمّا لأنّ قيد الذبح في منى يختص بأيّام منى ـأعني أيّام التشريقـ وقد انتهت. ومنشأ هذا الظهور سكوته عن إيجاب ذبحه في منى، رغم أنّ وجوب ذلك في هذه الحالة ليس من الواضحات، ففرض جعل الثمن عند بعض أهل مكة ليذبح عنه ظاهره هو الذبح في مكة، وإلّا لنبّه الإمام على ذلك.

فلئن سقط قيد منى بالعجز عنه في أيّام منى فهو المطلوب، ولئن سقط قيد منى بمجرّد صعوبة الالتزام بذلك من قبل النائب فسقوطه بالعجز عنه أولى.

وصحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن النضر بن قراوش (ويكفي في توثيقه نقل أحمد بن محمّد بن أبي نصر عنه) قال: سألت أبا عبد الله عن رجل تمتع بالعمرة إلى الحجّ، فوجب عليه النسك، فطلبه فلم يجده وهو موسر حسن الحال، وهو يضعف عن الصيام، فما ينبغي له أن يصنع؟ قال: «يدفع ثمن النسك إلى من يذبحه بمكة إن كان يريد المضيّ إلى أهله، وليذبح عنه في ذي الحجة»، فقلت: فإنّه دفعه إلى من يذبح عنه، فلم يصب في ذي الحجة نسكاً وأصابه بعد ذلك؟ قال: «لايذبح عنه إلّا في ذي الحجة ولو أخّره إلى قابل»(2).

وهذه الرواية أظهر من الاُولى في الذبح بمكة؛ لمكان قوله: «يدفع ثمن النسك إلى من يذبحه بمكة» فإنّ فرض تعلق «بمكة» بـ«يدفع» أو كونه وصفاً للموصول أي: مَن يكون بمكة، خلاف الظاهر والظاهر، تعلقه بـ«يذبحه».

ولا تعارضها صحيحة أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن رجل تمتع فلم يجد ما يهدي، حتى إذا كان يوم النفر وجد ثمن الشاة، أيذبح أو يصوم؟ قال: «بل يصوم؛ فإنّ أيّام الذبح قد مضت»(3).

وذلك لأنّ احتمال الفرق وارد بين من يجد الثمن لكنه لا يحصل على الحيوان، ومن لا يجد الثمن أصلا.


(1) وسائل الشيعة 14: 176، ب 44 من الذبح، ح 1، ط ـ آل البيت عليهم السلام.
(2) المصدر السابق: ح 2.
(3) المصدر السابق: ص 177، ح. و 4.
5

الوجه الثالث ـ ما ورد بشأن من نسي الذبح في منى حتى زار البيت، وهو صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله، في رجل نسي أن يذبح بمنى حتى زار البيت، فاشترى بمكة ثمّ ذبح؟ قال: «لا بأس؛ قد أجزأ عنه»(1).

ومن الواضح أنّ الشراء بمكة لا خصوصية له حتى ركّز السائل عليه، فيبدو أنّ مقصود السائل هو أنّه حينما نسي في اليوم العاشر الذبح بمنى حتى زار البيت اشترى بمكة وذبح فيها حفاظاً على وقوع الذبح في اليوم العاشر، فقال: «قد أجزأ عنه» فلئن كان حكم النسيان هذا يتعدّى العرف إلى فرض العجز بلا إشكال.

الوجه الرابع ـ قوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾(2).

وتوضيح الاستدلال بهذه الآية المباركة: أنّنا لو كنّا والمعنى اللفظي البحت للآية لقلنا: إنّ محلّ الهدي هو فناء الكعبة؛ لأنّ الكعبة هي البيت العتيق، ولكن لا شكّ أنّ كل مكّة داخل في المقصود، كما ورد ـوسيأتي إن شاء اللهـ في الحديث الصحيح: «إنّ مكّة كلّها منحر»(3)، وهذا التفسير للآية يكون بمناسبة أنّ البيت العتيق في مكة.

ولولا نصوص وجوب الذبح بمنى لكنّا نقول بمقتضى هذه الآية: إنّ محل ذبح الهدي هو مكة، كما أنّ تلك النصوص لا يمكن أن تؤدي إلى سلخ جملة ﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ من معناها نهائياً، فمقتضى الجمع بين مفاد الآية المباركة وتلك النصوص: أن يكون المقصود مكة بما حواليها إلى حدود منى، فيدخل منى في دائرة البيت العتيق بمعنى واسع. وعندئذ هل يتعامل مع الآية وتلك النصوص معاملة المطلق والمقيّد المعروفة في علم الاُصول؛ أي أنّ المقصود هو الذبح بمنى الذي يكون بمعنى واسع ذبحاً بالبيت العتيق ويكون في نفس الوقت ذبحاً بمنى، أو يكون التنصيص في الآية المباركة على حدّ البيت العتيق ـرغم دلالة تلك النصوص على الحدّ الثاني وهو منىـ دالاًّ عرفاً على أنّ الحد الأوّل ـبما هوـ مطلوب وإن كان يجب مع الإمكان مراعاة كلا الحدّين؟

والوجه الرابع هذا متوقف على استظهار هذا الأمر الأخير؛ أي أنّ التنصيص في الآية على البيت العتيق يعطي ركنيّة لهذا الحدّ، فيفهم أنّه وإن كان يجب الأخذ بالحدّ الخاص وهو منى لدى الإمكان، ولكن لدى العجز عن الحدّ الخاص تبقى حديّة البيت العتيق ويجب الذبح بمكة وما حواليها.

فلو قبلنا هذا الاستظهار فقد تمّ لنا هذا الوجه الرابع لإثبات المقصود؛ وهو أنّ الذبح لا يسقط بالعجز عن إيقاعه في منى، بل لابدّ من تحقق الذبح ولو في مكّة.

ولو لم نقبل هذا الاستظهار فالآية الكريمة تفيدنا ـعلى أيّة حالـ فائدة اُخرى في المقام.

وتوضيح ذلك: أنّه بعد تسليم عدم سقوط الذبح إلى بدل وهو الصوم ولا من دون بدل، تبقى مسألة اُخرى هامّة أيضاً؛ وهي أنّه هل يجوز ذبح الهدي بعد العجز عن إيقاعه في منى في أيّ مكان شئنا، أو يجب اختيار مكة أو ما حواليها للذبح؟


(1) المصدر السابق: ص 156، ب 39 من الذبح، ح 5، و: ص 159، ح 11.
(2) سورة الحجّ، الآية: 33.
(3) وسائل الشيعة 14: 88، ب. من الذبح، ح 2.
6

لا شكّ أنّ بعض الوجوه التي ذكرناها لنفي سقوط الذبح يثبت الثاني وهو الوجه الرابع بالخصوص؛ فإنّه بعد حمل الآية وما ضمّ إليها للتقييد، وهي أدلة تعيّن منى على تعدد المطلوب، لو سقط المطلوب الثاني بالعجز ـوهو الذبح في منىـ لم يسقط المطلوب الأوّل وهو كون محلّها البيت العتيق.

أمّا لو لم نقبل هذا الوجه لعدم استظهار تعدد المطلوب، فإثبات خصوصية لمكة أو ما حواليها بعد العجز عن الذبح بمنى بباقي الوجوه، مشكل.

أمّا ما اختاره السيّد الخوئي (رحمه الله) ـمن أنّ دليل التقييد بمنى ليس له إطلاق لفرض العجز، فنرجع لدى العجز عن الذبح بمنى إلى إطلاقات أصل وجوب الهديـ فالأمر واضح؛ فإنّ أصل وجوب الهدي لا يدلّ على ضرورة كون الذبح في مكة أو ما حواليها.

ولهذا أفتى السيّد الخوئي (رحمه الله) بأنّه لو حصل العجز عن الذبح بمنى ذبح في أيّ مكان شاء.

وأمّا دعوى الضرورة الفقهية، فثبوتها على أولوية مكان دون مكان بعد فرض العجز عن الذبح بمنى غير واضح.

وأمّا روايات إخلاف الثمن عند بعض أهل مكة، فلا تدلّ على عدم جواز الذبح في بلد الحاج مثلا؛ لأنّه يحتمل ـعلى أساس تباعد الطرق وعدم توفر الوسائل الحديثة للنقل والسفر وقتئذـ أنّه إنّما أمر بإخلاف الثمن في مكة؛ لأنّه لو لم يفعل ذلك لفاته الذبح في ذي الحجة على أساس ما لديه من طول السفر، فكان الحل المعقول هو أن يخلف الثمن عند أمين في مكة.

وأمّا ذبح الناسي بمكة بعد زيارة البيت، فمن الواضح أنّ فرض الذبح بمكة كان من قبل السائل وأجابه الإمام بالإجزاء، وهذا لا يدلّ على وجوب الذبح بمكة مثلا، كما هو واضح.

وأمّا الوجه الرابع وهو الآية الشريفة: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ فقد فرضنا عدم تماميته؛ لتقيّد الآية بأدلّة شرط الذبح في منى، وعدم استظهار تعدد المطلوب ولو في خصوص فرض العجز.

وعليه فقد يقال: لو عجزنا عن الذبح بمنى كفى الذبح في أيّ مكان آخر.

ولكنّني اُريد أن أقول هنا: إنّ الآية الشريفة تكفي لإثبات أولوية البيت العتيق للذبح.

7

وتوضيح ذلك: أننا وإن فرضنا أنّ الآية بعد تقييدها بالذبح بمنى لم تدلّ على المطلوبية المستقلة للذبح في البيت العتيق ـأي المطلوبية التي لا تسقط بالعجز عن الذبح في منىـ لكنّنا لو قبلنا بعض الوجوه الماضية لإثبات عدم سقوط الذبح بالعجز عن إيقاعه في منى غير الوجه الأخير ـوهو إثبات تعدد المطلوب من نفس الآيةـ فلا أقلّ من أنّ ذلك الوجه قد قيّد إطلاق المقيّد للآية بقيد الذبح في منى، فإذا بطل إطلاق المقيّد لدى العجز بما كان تقيّداً له اُحيي مرة اُخرى إطلاق الآية، وبذلك ثبت وجوب كون الهدي محله البيت العتيق.

نعم، أصل الوجه الرابع هذا مع ما شرحناه الآن ـمن أنّه لا أقلّ من إثبات أولوية البيت العتيق للذبح في حج التمتع من الأمكنة الاُخرى لدى العجز عن إيقاعه في منىـ متوقف على عدم احتمال الفرق بين هدي القران وهدي المتعة في هذا الحكم؛ لأنّ الآية المباركة واردة في فرض القران ولا إطلاق لفظي لها للمتعة؛ لأنّ الآية تقول: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾(1).

ومن الواضح أنّ ثبوت منافع للحاجّ إلى أجل مسمّى إنّما يكون في من صحب الهدي معه.

وكان البعض يستشهد ـفي هذه السنة الفائتة التي عيّنت الحكومة فيها وادي معيصم للذبح لترجيح مكة على وادي معيصمـ بصحيحة معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله: إنّ أهل مكة أنكروا عليك أنّك ذبحت هديك في منزلك بمكة، فقال: «إنّ مكة كلّها منحر»(2).

ولا إشكال في أنّ ما يدلّ عليه هذا الحديث من ذبح الإمام بمنزله في مكة إنّما كان في العمرة لا في الحجّ، وإلّا لشاع وذاع نقل هذا العمل منه، الذي كان خلاف عمل المسلمين قاطبة في كلّ سنة، وقوله: «إنّ مكة كلّها منحر» كان في مقابل ما تخيّله بعض من أنّ المنحر في مكة هو فناء الكعبة أو ما بين الصفا والمروة، باعتبار أنّ هذا كان هو المتعارف ولعله المستحب كما تشهد له صحيحة معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد الله: «من ساق هدياً وهو معتمر نحر هديه في المنحر وهو بين الصفا والمروة؛ وهي بالحزورة»(3)، وموثقة إسحاق بن عمار: أنّ عبّاداً البصري جاء إلى أبي عبد الله وقد دخل مكة بعمرة مبتولة، وأهدى هدياً، فأمر به فنحر في منزله بمكة، فقال له عبّاد: نحرت الهدي في منزلك وتركت أن تنحره بفناء الكعبة وأنت رجل يؤخذ منك؟! فقال له: «ألم تعلم أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) نحر هديه بمنى في المنحر وأمر الناس فنحروا في منازلهم وكان ذلك موسّعاً عليهم؟! فكذلك هو موسّع على من ينحر الهدي بمكة في منزله إذا كان معتمراً»(4).

وحاصل مفاد جواب الإمام الذي أراد به تقريب المطلب إلى ذهن عبّاد البصري الذي هو من العامّة: أنّه كما أنّ في منى يوجد منحر لذبح هدي الحجّ وهو فناء مسجد الخيف وذبَح رسول الله (صلى الله عليه و آله) هديه في ذاك المنحر الخاص ـوإن كان منى كله منحراًـ فأمَر المسلمين فذبحوا في منازلهم، كذلك في مكة رغم وجود منحر خاص فيها في العمرة، وهو فناء الكعبة أو ما بين الصفا والمروة؛ تكون مكّة كلّها منحراً، فكان من حقّي أن أذبح في منزلي كما ذبح المسلمون في منى في منازلهم.


(1) سورة الحجّ، الآية: 33.
(2) وسائل الشيعة 14: 88، ب. من الذبح، ح 2.
(3) المصدر السابق: ص 89، ب. من الذبح، ح 4.
(4) المصدر السابق 13: 99، ب 52 من كفارات الصيد، ح 1.
8

ورغم كل هذا، تبقى صورة للاستدلال على أولوية مكة بقوله: «إنّ مكة كلّها منحر» وذلك بأن يقال: إنّ المورد لا يخصص الوارد، فإطلاق هذه الجملة ـلولا علمنا باختصاص النحر في الحجّ بمنى لدى الإمكانـ يدل على أنّ مكة كلها منحر من دون فرق بين الحجّ والعمرة، لكن خرج من الإطلاق فرض إمكان الذبح بمنى في الحجّ وبقي تحته فرض العجز عن الذبح في منى.

إلّا أنّ هذا مضافاً إلى أنّه لا ينسجم مع ما شرحناه في علم الاُصول ـمن عدم تمامية الإطلاق في المحمول في مثل قوله مثلا: التمر نافع، فهذا لا يدل على ثبوت جميع أقسام النفع للتمر، ويكفي في صدق هذه الجملة بإطلاقها ثبوت نفع ما للتمر، ففي المقام أيضاً يكفي كون مكة منحراً في العمرةـ لايتم في المقام؛ لأنّ أصل اشتهار أنّ منى كان هو المنحر في الحجّ والذبح في مكة كان مألوفاً في العمرة وأنّ عمل الإمام أيضاً كان في العمرة، يؤدّي إلى انصراف الكلام إلى العمرة.

وعليه فالأولى في إثبات أولوية مكة أو هي وما حواليها للذبح لدى العجز عن الذبح في منى سلوك الطريق الذي نحن سلكناه، وهو التمسك بالآية المباركة: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾، فبعد سقوط قيد منى بالعجز يبقى إطلاق ﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ محكماً.

إلّا أنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على استظهار أنّ المرجع للضمير في قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ وقوله: ﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ هو الهدي، وذلك إمّا بإرجاع الضمير إلى ﴿بَهِيْمَة الأنْعَام﴾ الوارد ذكرها في الآية (28)، وقد يستبعد ذلك بالفاصل الموجودبين الآيتين، أو بإرجاعه إلى ﴿شَعَائِرَ الله﴾ الوارد ذكرها في الآية (32) ولا فاصل بين الآيتين، وعندئذ يتوقف استظهار المعنى المقصود على أنّ ﴿شَعَائِرَ الله﴾ في الآية مطبّقة على الهدي، كما قال الله تعالى في الآية (36): ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾.

وتوضيح ذلك: أنّ أئمّة التفسير ذكروا في تفسير قوله تعالى: ﴿شَعَائِرِ اللَّه﴾ احتمالات ثلاثة:

1 ـ أن يكون المقصود كل الشعائر الواردة في الدين الإسلامي.

2 ـ أو يكون المقصود فرائض الحجّ ونسكه.

3 ـ أو يكون المقصود الهدايا؛ لأنّها من معالم الحجّ.

قيل: والثالث أوفق؛ لظاهر ما بعده من قوله: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ﴾(1).

أقـول: ينبغي أن يحمل تفسير «شعائر الله» بمعالم الحجّ أو الهدايا على معنى أنّ المصداق الذي قصد بالخصوص في الآية من باب تطبيق المطلق على مصداقه هو ذلك من دون أن يضرّ بإطلاق «شعائر الله» وإلّا فتفسير المطلق بالمورد بمعنى استعماله في خصوص ذاك المصداق، خلاف الظاهر.


(1) كنز الدقائق 9: 83.
9

فإن قلنا: إنّ المصداق الملحوظ من «شعائر الله» في الآية كمورد ـرغم الاعتراف بالإطلاقـ هو الهدايا التي هي من معالم الحجّ وإنّ الضمير راجع إلى هذا المصداق، فمعنى الآية ـوالله العالمـ هو: ﴿لَكُمْ فِيهَا﴾: أي في الهدايا ﴿مَنَافِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى﴾: أي حين الذبح ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾: أي منتهى أمرها هو الكعبة. وهذا هو التفسير الذي استظهرناه، وبه يثبت المطلوب.

ولكن في مقابل ذلك يوجد تفسيران آخران(1):

الأوّل: أنّ الضمير راجع إلى مطلق شعائر الله، فيكون معنى الآية: لكم في الشعائر الإسلامية عموماً منافع إلى أجل مسمّى؛ أي نهاية الدنيا أو إلى الموت، وتلك الشعائر تنتهي إلى الله سبحانه الخالق للبيت العتيق. ولا أظنّ التمحّل في هذا التفسير خافياً عليك.

والثاني: أنّ الضمير راجع إلى مصداق من مصاديق شعائر الله، كما هو كذلك في التفسير المختار، إلّا أنّه يفترض أنّ المصداق هنا ليس هو خصوص الهدايا كما فسّرنا، بل مطلق فرائض الحجّ ونسكه، ويكون المعنى: لكم في فرائض الحجّ ونسكه منافع إلى أجل مسمّى وهو نهاية الحجّ أو نهاية الدنيا، ومحلّ تلك الأعمال إلى البيت العتيق؛ أي أنّ نهايتها تقع في البيت العتيق.

وهذا التفسير وإن كان أهون تمحّلا من التفسير الأوّل لكنّه أيضاً لا يخلو من تمحّل.

ويؤيّد التفسير الذي اخترناه للآية المباركة التفسير الوارد عن أهل البيت (عليهم السلام)، وإنّما جعلنا ذلك مؤيداً لا دليلا لما فيه من الضعف السندي.

ففي رواية الكليني (رحمه الله) (2) عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله، وكذلك رواية الصدوق (رحمه الله) (3) عن أبي بصير عن أبي عبد الله في قومل الله عزوجل: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى﴾ قال: «إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير أن يعنف عليها، وإن كان لها لبن حلبها حلاباً لا ينهكها».

وقد يستغرب فرض كون الضمير راجعاً إلى الهدي؛ لأنّ معنى الآية عندئذ سيكون: محل الهدي هو البيت العتيق، في حين أنّ محل الهدي في الحجّ هو منى، وتفسير كون محلّها البيت العتيق بمعنى قرب البيت العتيق الشامل لمنى، يفترض أنّه غريب.


(1) تفسير نمونه 14: 100، الهامش.
(2) الكافي 4: 492 ـ 493، كتاب الحجّ، باب الهدي ينتج أو يحلب أو يركب، ح 1، بحسب طبعة الآخوندي.
(3) من لايحضره الفقيه 2: 300، كتاب الحجّ، باب نتاج البدنة وحلابها وركوبها، ح 4. النص بكلا سندي الكليني والصدوق موجود في وسائل الشيعة 4: 117، ب 34 من الذبح، ح 5، بحسب طبعة الآخوندي.
10

ولعلّه يكفي لكسر الغرابة ذكر شبيه لذلك من الفقه، وهو أنّ الله تبارك وتعالى قال في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ...﴾(1) فلئن شككنا في تفسير محلها البيت العتيق، هل يقصد به أنّ محل هدي الحجّ إلى البيت العتيق أو يقصد محل مطلق الشعائر أو أعمال الحجّ إلى البيت العتيق، فلا شك في قوله تعالى: ﴿هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ أنّ المقصود كفّارة الصيد وأنّ محلها الكعبة، مع أنّه لا إشكال نصّاً(2) وفتوى في أنّ محلّ ذبح الكفارة للصيد في احرام الحجّ هو منى. نعم محلّ ذبحها للصيد في إحرام العمرة هو مكة.

وعلى أيّة حال، فلو لم يقبل ـبعد كل ما شرحناهـ هذا التفسير أو نوقش في الاستدلال بالآية بحج التمتع بحجة ورودها في القران وادّعي احتمال الفرق، لم يبقَ لدينا ما يدلّ على خصوصية لمكة أو ما حواليها بعد فرض العجز عن الذبح بمنى، إلّا ما مضى من صحيحة حريز(3) ومعتبرة النضر ابن قرواش(4)، الآمرتين بإيداع الثمن لدى بعض أهل مكة لمن وجد الثمن ولم يجد الهدي.

وما مضى منّا من الاعتراض على ذلك بإبداء احتمال أنّ الأمر بإيداع الثمن لدى بعض أهل مكة لعلّه كان خوفاً من عدم التمكن من الذبح في بلد الحاج في ذي الحجة لإمكان تأخّر الوصول إلى البلد بأسباب السفر آنئذ إلى أن ينسلخ ذو الحجة.

قابلٌ للجواب؛ بالتمسك بإطلاق الحديثين لأهل البلاد القريبة من مكة كالمدينة التي لم يكن يستغرق الوصول اليها أكثر من أيّام.

أمّا لو لم نقبل كل هذا، فلا يبقى إلّا أن يقال ـبعد فرض العجز عن الذبح بمنى وكذلك فرض العجز عن الذبح بوادي محسّرـ بجواز الذبح في أيّ مكان آخر بعد ضرورة عدم سقوط أصل الهدي بلا بدل، ومع احتمال بدلية الصوم نجري البراءة عن احتمال تعين الصوم بعد اختصاص نصوص الصوم بمن لم يجد هدياً.

بقي الكلام في اُمور هامّة:

الأمر الأوّل ـ ذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الموجز في الحجّ: «وإذا ضاقت منى بالناس وتعذّر إنجاز الواجبات فيها، اتسعت رقعة منى شرعاً فشملت وادي محسّر...»(5).

أقـول: إنّ مستنده (رحمه الله) لهذا الحكم هو موثقة سماعة قال: قلت لأبي عبد الله: إذا كثر الناس بمنى وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ فقال: «يرتفعون إلى وادي محسّر». قلتُ: فإذا كثروا بجمع وضاقت بالموقف كيف يصنعون؟ فقال: «يرتفعون إلى المأزمين». قلتُ: فإذا كانوا بالموقف وكثروا وضاق عليهم كيف يصنعون؟ فقال: «يرتفعون إلى الجبل»(6).


(1) سورة المائدة، الآية: 95.
(2) وسائل الشيعة 13: 95 ـ 96، ب 49 من كفارات الصيد، ح 1، 2، 3، 4.
(3) المصدر السابق 14: 176، ب 44 من الذبح، ح 1.
(4) المصدر السابق: ص 176، ب 44 من الذبح، ح 2.
(5) موجز أحكام الحجّ: 156.
(6) وسائل الشيعة 13: 535، ب 11 من إحرام الحجّ والوقوف بعرفة، ح 4.
11

ومن المعلوم أنّه ليس المقصود بذلك أنّ من كان ضمن كثرة الناس منزله في داخل منى صدفة ـأي لم يكن من الذين ارتفعوا نتيجة ضيق المكان إلى وادي محسّرـ جاز له الذبح والحلق في وادي محسّر، بل إنّ هذا الحكم يختص بمن ارتفع سكناه نتيجة الضيق إلى وادي محسّر.

نعم، لا يبعد التعدّي العرفي من الضيق إلى أيّ عذر مانع من الأعمال في داخل منى، فلو أنّ الحكومة منعت عن الذبح في منى جاز الذبح في وادي محسّر، ولكنّه يرجع للحلق إلى منى.

وقد اتضح من جميع ما مضى أنّه عند منع الحكومة الذبح في منى تصل النوبة أوّلا إلى الذبح في وادي محسّر، وثانياً إلى الذبح في مكة وما حواليها.

الأمر الثاني ـ لو كان منع الحكومة خاصّاً ببعض أيّام التشريق مثلا، فدار الأمر بين تأخير الذبح إلى أن ينتهي المنع أو تقديمه في اليوم العاشر مع ذبحه في وادي محسّر أو مكة، فأيّهما أولى؟

وكذلك لو لم نؤمن بترجيح مكة أو ما حواليها فدار الأمر بين تأخير الذبح لكي يقع في منى أو تقديمه في اليوم العاشر مع الذبح في أيّ مكان آخر، فأيّهما أولى؟

لا إشكال في أنّ موثقة سماعة التي مضت بشأن وادي محسّر قد دلّت على أنّ وادي محسّر قد أصبح لدى ضيق المكان بحكم منى، وبعد فرض التعدي إلى العجز تكون النتيجة أنّ وادي محسّر في ساعة العجز محكومٌ بحكم منى، فلو تم منع الحكومة عن الذبح في منى في اليوم العاشر صحّ الذبح في وادي محسّر، فلا داعي للتأجيل إلى يوم آخر يرتفع فيه المنع.

وكذلك لو آمنّا بالاستدلال بصحيحة معاوية بن عمار(1) ومعتبرة النضر ابن قرواش(2) الواردتين في من نسي الذبح حتى زار البيت فذبحه في مكة، فهذا أيضاً يدلّ ـبعد فرض التعدّي إلى العجزـ على أنّ العجز عن الذبح في منى في اليوم العاشر كاف للذبح في ذلك اليوم في مكة، ولا حاجة إلى تأجيل الذبح إلى يوم يرتفع فيه العجز، فالاحتياط الوارد في التقيد مع الإمكان بالذبح في اليوم العاشر يوجب في هذين الفرضين أولوية تقديم الذبح.

ولكن بما أنّ السّيد الخوئي (رحمه الله) لم يلتفت إلى شيء من هاتين الروايتين فقد أفتى بضرورة تأجيل الذبح إلى يوم يرتفع فيه المنع، وأنّه يحلّ بالحلق ويؤخّر الذبح إلى حين التمكن ولو كان آخر أيّام التشريق، بل وحتى آخر أيّام ذي الحجة(3).


(1) المصدر السابق 14: 176، ب 44 من الذبح، ح 1.
(2) المصدر السابق: ح 2.
(3) المعتمد، كتاب الحجّ 5: 213.
12

والذي قد يقف أمام هذا الكلام أمران:

أحدهما: دعوى وجوب إيقاع الذبح في اليوم العاشر وأنّ استمرار أيّام الاُضحية إلى اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر لا ينافي وجوب إيقاعه في اليوم العاشر؛ فإنّ هذا الاستمرار قد يكون بمعنى صحة الذبح في باقي الأيّام للمعذور من الذبح في اليوم العاشر، أو قل: حتى للعامد الذي عصى بالتأخير، وإذاً فقد دار الأمر لدى منع السلطة عن الذبح في منى في اليوم العاشر بين سقوط قيد منى فيذبحه في مكان آخر، وسقوط قيد اليوم فيؤجّله، فما الذي رجّح الثاني على الأوّل؟!

وثانيهما: دعوى أنّ الحلق يكون بعد الذبح، فلو أجّل الذبح كيف أفتى (رحمه الله) بالتحلل بالحلق قبل الذبح؟

فهاتان مشكلتان تتبادران إلى الذهن في فتوى السيّد الخوئي (رحمه الله).

وفي مقابل المشكلة الاُولى وهي دعوى وجوب الذبح في اليوم العاشر، قد يقال: لا دليل على وجوب الذبح في اليوم العاشر عدا ما دلّ على أنّ الحلق يكون موضعه بعد الذبح منضماً إلى القول بأنّ الحلق يجب أن يكون في اليوم العاشر، فإنّ الجمع بين الأمرين لا يكون إلّا بالذبح في اليوم العاشر، فلو سلّمنا الأمر الثاني ـأعني أنّ الحلق يجب أن يكون في اليوم العاشرـ تركّزت المشكلة الاُولى في أنّ الحلق موضعه بعد الذبح.

وبهذا البيان تصبح ركيزة كلتا المشكلتين في فتوى السيّد الخوئي (رحمه الله) عبارة عن ضرورة كون الحلق بعد الذبح.

ومن هنا عالج السيّد الخوئي (رحمه الله) كلتا المشكلتين بمنع الإطلاق في دليل وجوب تأخير الحلق عن الذبح، فإنّ الدليل على ذلك إنّما هو عبارة عن الخطابات التي كانت متوجهة إلى القادرين على الذبح الصحيح في اليوم العاشر والتي أمرتهم بالحلق بعد الذبح، من قبيل: صحيحة عمر بن يزيد: «إذا ذبحت اُضحيتك فاحلق رأسك...»(1)، وصحيحة سعيد الأعرج في النساء اللاتي يرمين العقبة بالليل: «ثمّ أفض بهنّ حتى تأتي الجمرة العظمى فيرمين الجمرة، فإن لم يكن عليهنّ الذبح فليأخذن من شعورهنّ...»(2)، ومفهومها أنّه إن كان عليهنّ الذبح فليقصّرن بعد الذبح.

وكلا هذين النصين ـكماترىـ لا إطلاق لهما؛ لفرض العجز عن الذبح بمنى في اليوم العاشر.

وأيضاً قد يستدل على وجوب تأخير الحلق عن الذبح بصحيحة جميل بن درّاج(3) عن أبي عبد الله «أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) أتاه اُناس يوم النحر، فقال بعضهم: يا رسول الله، إنّي حلقت قبل أن أذبح، وقال بعضهم: حلقت قبل أن أرمي، فلم يتركوا شيئاً كان ينبغي لهم أن يقدّموه إلّا أخّروه، ولا شيئاً كان ينبغي أن يؤخّروه إلّا قدّموه، فقال: لاحرج»(4). وهذا أيضاً ـكماترىـ ليس له إطلاق لمحل البحث؛ فإنّه لم يكن في ذاته بصدد بيان الترتيب.

وأيضاً قد يستدل على وجوب تأخير الحلق عن الذبح بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله، قال: سألته عن رجل حلق رأسه قبل أن يضحّي، قال: «لا بأس، وليس عليه شيء، ولايعودنّ»(5). إلّا أنّ هذا أيضاً لا إطلاق له؛ لأنّ الرجل المفروض في السؤال كان قادراً على أن يضحّي في اليوم العاشر كما هو المفروض يومئذ، وإنّما النقص المفروض في عمله هو أنّه حلق قبل الذبح.


(1) وسائل الشيعة 14: 211، ب. من الحلق والتقصير، ح 1.
(2) المصدر السابق: ص 53، ب. من رمي جمرة العقبة، ح 1، و: ص 155، ب 39 من الذبح، ح 2.
(3) المعتمد، كتاب الحجّ 5: 212 ـ 213 و 306 ـ 307.
(4) وسائل الشيعة 14: 155، ب 39 من الذبح، ح 4.
(5) المصدر السابق 14: 158، ب 39 من الذبح، ح 10.
13

وأيضاً قد يُستدل على وجوب تأخير الحلق برواية عمار الساباطي التامّة سنداً على مسلك السيّد الخوئي القائل بوثاقة ابن أبي جيد، قال: سألت أبا عبد الله عن رجل حلق قبل أن يذبح، قال: «يذبح ويعيد الموسى؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾(1)»(2).

فيستفاد من قوله: «ويعيد الموسى» وجوب تأخير الذبح عن الحلق، إلّا أنّ جملة «ويعيد الموسى» محمولة على الاستحباب؛ بقرينة ما مضى من صحيح عبد الله بن سنان الذي قال: «لا بأس».

وأمّا خبر موسى بن القاسم عن عليّ: «لا يحلق رأسه ولا يزور حتى يضحّي»(3) فهو غير منته إلى المعصوم، ولا يبعد أن يكون المقصود بعليّ: عليّ بن أبي حمزة.

وعلى أيّة حال، فقد اتضح لنا من كل هذا البحث: أنّه لو أمكننا الذبح في وادي محسّر في اليوم الأوّل لم نحتج إلى سلوك هذا الطريق الطويل في الحديث، بل نقول: نفس العجز عن الذبح في منى في اليوم الأوّل يسوّغ لنا الذبح في نفس اليوم في وادي محسّر؛ بدليل موثقة سماعة(4)، ولو لم يمكن ذلك ولكن أمكننا الذبح في مكّة وما حواليها إلى مقدار نحتمل دخوله في عنوان «محله إلى البيت العتيق» بمعناه الواسع جاز لنا الذبح في مكة وما حواليها في نفس اليوم الأوّل؛ بدليل صحيح معاوية بن عمّار الوارد بشأن الناسي.

أمّا لو لم يمكن هذا ولا ذاك، فعندئذ تصل النوبة إلى التحلّل بالحلق في نفس اليوم الأوّل بالبيان الذي شرحناه في تفسير علاج السيّد الخوئي (رحمه الله) للموقف في المقام.

وأمّا الذبح فنؤجله إلى يوم الإمكان من أيّام التشريق، والأحوط اختيار اليومين الأوّلين منه إن أمكن، وإذا انتهت أيّام التشريق فإلى آخر ذي الحجة. ولا يبعد اختصاص لزوم التقيد بأيّام التشريق بخصوص فرض الذبح في منى، أمّا لو علمنا ببقاء المنع عن الذبح في منى ووادي محسّر إلى آخر أيّام التشريق، فلا دليل على خصوصية لذلك بعد تلك الأيّام، فيكفي الذبح في مكة، ولو لم يمكن الذبح في مكة وحواليها أيضاً إلى آخر ذي الحجة اُجّل إلى السنة المقبلة، ولو فرض سلب الإمكان بلحاظ جميع السنين ذَبَح في أيّ مكان شاء، فلو تجدّد الإمكان في سنة مقبلة جدّد الذبح في تلك السنة.

الأمر الثالث ـ يُنسب إلى سماحة الشيخ ناصر مكارم ـحفظه اللهـ القول بسقوط الذبح في تلك المنطقة في أيّامنا هذه والتي لا يمكن فيها إطعام الأضاحي لمستحقيها، والاحتياط يقتضي الذبح أيّام ذي الحجة في أيّ مكان آخر ولو كان نفس بلد الحاج، والأولى التفاهم بين الحاج ومتعلقيه على الذبح في نفس اليوم العاشر قبل بقية الأعمال، ولا نوجب ذلك؛ للزوم العسر والحرج على كثير من الحجّاج.


(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) وسائل الشيعة 14: 158، باب 39 من أبواب الذبح، ح 8.
(3) المصدر السابق: ح 9.
(4) وسائل الشيعة 13: 535، ب 11 من إحرام الحجّ والوقوف بعرفة، ح 4.
14

والمنقول عنه كدليل على هذه الفتوى ـفي كتيّب باسم «الاُضحية في عصرنا» ومؤلّفه أحمد القدسي، بعنوان تقرير لبحث سماحة الشيخ ناصر مكارم حفظه اللهـ وجوه أربعة:

الوجه الأوّل: إنّ ظاهر القرآن الكريم هو أنّ الذبح والإطعام واجبان ارتباطيان؛ أي أنّ شرط الهدي هو الإطعام، وليس الإطعام واجباً مستقلا لو سقط بالعجز، بقي الواجب الأوّل وهو الهدي، قال الله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾(1).

وقال عزّوجل: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجّ عَمِيق* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّام مَّعْلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ اَلاْنْعامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾(2).

فإن قلت: ما الدليل على ارتباطية الذبح والإطعام ووحدة المطلوب، فلعلّ كل واحد منهما واجب مستقل؛ إذا سقط الثاني بالعجز لم يسقط الأوّل؟

قلنا: إنّ تعدّد المطلوب هو الذي يحتاج إلى قرينة، فإنّ الظاهر الأوّلي للأمر هو وحدة المطلوب، إضافة إلى أنّ القرينة هنا قائمة على وحدة المطلوب؛ وهي فاء التفريع.

فإن قلت: إنّ هذا يؤدّي إلى سقوط الذبح لا إلى جعله في البلد أو في أيّ مكان آخر، فإنّ المشروط يسقط بالعجز عن شرطه.

قلنا: هذا الكلام وارد بحسب صناعة الفقه، ولكن مقتضى الاحتياط هو الالتزام بالذبح في مكان آخر يمكن فيه الإطعام، خصوصاً بعد ملاحظة عدم إسقاط الشارع الأقدس الهدي في مورد من الموارد، وحتى بالنسبة إلى من لم يجد ثمن الهدي لم يسقط عنه الهدي بلا بدل، بل أوجب عليه الصوم، وبالنسبة إلى المصدود أوجب عليه الذبح في محلّه وليس في منى(3)، وبالنسبة إلى من عطب هديه في الطريق في موضع لا يجد من يتصدّق به عليه ورد الأمر بنحره أو ذبحه في مكانه مع إرفاقه بكتاب يجعل عليه يتضمن أنّه هدي؛ ليعلم من يمرّ به أنّه صدقة ويأكل من لحمه إن أراد(4).

فإن قلت: دار الأمر بين رفع اليد عن قيد الذبح في منى فيذبحه الحاجّ في بلده مثلا، ورفعِ اليد عن قيد الإطعام، فما هو الدليل على أولوية رفع اليد عن قيد الذبح في منى؟!

قلنا: ليس القيدان على حدّ سواء؛ فإنّ قيد الإطعام في نظر العرف وأهل الشرع مقوّم للهدي، ويستبعد جدّاً أن تكون لمجرّد إراقة الدم موضوعية وإنّما هي مقدمة الإطعام. ويشهد لذلك ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): «إنّما جعل الله هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحم، فأطعموهم»(5)، وهذا الحديث وإن رواه صاحب الوسائل في باب الاُضحية المستحبة لكلّ أحد، لكن مفاده عامّ يشمل هدي الحجّ الواجب.


(1) سورة الحجّ، الآية: 36.
(2) سورة الحجّ، الآية: 27 ـ 28.
(3) وسائل الشيعة 13: 186 ـ 187، ب. من الإحصار والصدّ.
(4) المصدر السابق 14: 141 ـ 143، ب 31 من الذبح.
(5) المصدر السابق: ص 205، ب 60 من الذبح، ح 4، وهو مرسلة الصدوق. و: ص 206، ح 10، عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو ضعيف بالنوفلي. وروى المرسلة أيضاً في المجلد نفسه: ص 167، ب. من الذبح، ح 22.
15

الوجه الثاني: إنّ عدم إمكانية الإطعام في منى في عصر النصوص يعتبر فرداً نادراً أو معدوماً، فهو غير مشمول للإطلاق، ولهذا نحن نستشكل في إطلاق مثل ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(1) للعقود المستحدثة كعقد التأمين، ولا نستطيع أن نفتي بصحتها إلّا من باب التعدي إن ثبت قطع العرف بإلغاء الخصوصية، وفيما نحن فيه يكون احتمال الخصوصية لذبح يعقبه الإطعام في مقابل ذبح نعجز عن إطعامه واضحاً.

الوجه الثالث: إنّ مذابح اليوم خارجة عن منى، ولا دليل على وجوب ملاحظة الأقرب فالأقرب أو مكة أو الحرم أو وادي محسّر، وأمّا موثقة سماعة: قلت لأبي عبد الله: إذا كثر الناس بمنى وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ فقال: «يرتفعون إلى وادي محسّر»(2) فلا علاقة لها بالذبح، وإنّما هي واردة بشأن الوقوف في منى لا مطلق ما يُؤتى به في منى، وقياس الاُضحية على الوقوف قياس مع الفارق؛ فإنّ الوقوف قائم بمنى نفسه ولا معنى للوقوف في غيره، فعند التعذر يرتفع الحاج ـبمقتضى هذه الروايةـ إلى وادي محسّر، وأين هذا من الاُضحية التي قد عرفت أنّها قد تتفق في غير منى أيضاً؟!

وعلى أيّة حال، فلا إشكال في أنّ الذبح في منى شرط في هدي الحجّ، فإن قلنا بأنّه شرط في ذلك على الإطلاق ـأي حتى مع التعذرـ فالنتيجة سقوط الهدي نهائياً لدى العجز عن ذلك، وإن قلنا بأنّه شرط مخصوص بحال الاختيار، جاز الذبح لدى العجز عن ذلك في أي مكان.

ولو فرض التوسّع في مكان الذبح لمطلق مكة، فإنّ هذا أيضاً متعذّر اليوم، فإن أمكن ذلك للنادر من الحاج فمن الواضح أنّ الجهات المسؤولة لا تسمح للعموم بذلك، فلا يمكن حل الإشكال عن طريق التوسع.

الوجه الرابـع: حرمة الإسراف والتبذير؛ قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(3) و ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾(4) و ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾(5) و ﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾(6) و ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾(7) و ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾(8).

وبعد فرض تسليم الإطلاق لدليل الاُضحية بالنسبة للمصاديق الفعلية مما يدفن أو يحرق، يجب أن نرى النسبة بين دليل وجوب الاُضحية ودليل حرمة الإسراف والتبذير:

فإن قلنا: إنّ النسبة بينهما نسبة التعارض بالعموم من وجه، قُدّم دليل حرمة الإسراف والتبذير بأقوائية الدلالة؛ فإنّ اُضحية كهذه المألوفة اليوم من أبرز مصاديق الإسراف والتبذير، في حين أنّها من أخفى مصاديق الاُضحية الواجبة؛ لما قلنا من أنّها كانت فرداً نادراً أو معدوماً في عصر النصوص.

ولو فرض التساوي في القوّة والتساقط، رجعنا إلى البراءة من تعيين مكان معيّن للذبح.

وإن قلنا: إنّ النسبة بينهما نسبة التزاحم، فملاك الاُضحية موجود في المقام وملاك الإسراف أيضاً موجود في المقام، فلابدّ من تقديم أقوى الملاكين وهو ملاك الإسراف.


(1) سورة المائدة، الآية: 1.
(2) وسائل الشيعة 13: 535، ب 11 من إحرام الحجّ والوقوف بعرفة، ح 4.
(3) سورة الأنعام، الآية: 141.
(4) سورة غافر، الآية: 43.
(5) سورة غافر، الآية: 28.
(6) سورة الأنبياء، الآية: 9.
(7) سورة الفرقان، الآية: 67.
(8) سورة الإسراء، الآية: 26 ـ 27.
16

والإنصاف أنّ المقام داخل في التعارض لا التزاحم؛ لأنّ ملاك الاُضحية غير محرز أصلا.

فإن قيل: إنّ ملاك الإسراف أيضاً غير محرز، فهذا يعني الشك في وجود أحد الملاكين إجمالا، وهذا اعتراف بخروج المقام عن بحث التزاحم ودخوله في مسألة التعارض، فيعود الكلام السابق فيه.

هذه خلاصة بياناته ـحفظه اللهـ المنقولة في تقرير بحثه.

ثمّ يذكر الجواب عن عدّة من الأسئلة وجّهت إلى سماحته، نختار منها هنا سؤالين:

الأوّل: أليس فتوى الذبح في غير محلّ الذبح في منى خلاف إجماع المسلمين؟!

الجواب: انّ المسألة من المسائل المستحدثة التي برزت في القرن الأخير، وقد كانت لحوم الأضاحي تُصرف في السابق في مواردها، ولهذا السبب لا تجد رواية ولا فتوى واحدة في الكتب السالفة عن حكم إتلاف الأضاحي.

والثاني: لئن كان الذبح واجباً مقدّمياً والإطعام واجباً نفسياً لم يجب على الحجّاج ذبح الهدي أصلا، بل يمكنهم شراء ما يعادل الذبيحة من اللحم من اللحّام وتوزيعه على المحتاجين.

الجواب: إنّ كلاّ من الذبح والصرف واجب، إلّا أنّ أحدهما مقدمة للآخر كما في الوضوء والطواف، وكما أنّه لو أصبح الطواف غير ممكن لشخص سقط عنه الوضوء، كذلك في المقام لو أصبح الإطعام مما يذبح هناك غيرَ ممكن سقط وجوب الذبح هناك.

أقـول: إنّ أغرب ما في هذا الحديث دليله الرابع على سقوط الذبح هناك، وهو دليل حرمة الإسراف والتبذير.

ونحن بدورنا نسأل: هل المقصود تسجيل إشكال الإسراف والتبذير على الحرق والدفن والإتلاف وترك الأضاحي إلى أن تجيف وما إلى ذلك مما هو إشكال على الحكومة؛ فهذا لا كلام فيه ولا علاقة له ببحثنا، أو المقصود تسجيل الإشكال على نفس الذبح؛ لأنّنا نعلم أنّه ينتهي إلى التلف من دون فائدة فيصبح الذبح إسرافاً وتبذيراً؟ والمفروض أن يكون هذا هو المقصود، فعندئذ نقول: إنّ النسبة بين دليل وجوب التضحية ودليل حرمة الإسراف والتبذير ليست هي التعارض ولا التزاحم ـوكأنّ مقصوده هو التزاحم الملاكي لا التزاحم المعروف عن مدرسة الشيخ النائيني (رحمه الله) ـ بل النسبة هي الورود؛ فإنّنا لو افترضنا دليلا على وجوب هذا الذبح ارتفع بذلك تكويناً موضوع الإسراف والتبذير، ولو افترضنا عدم تمامية الدليل على هذا الذبح لبعض الوجوه السابقة لم يكن هذا الوجه الرابع وجهاً مستقلا في مقابل تلك الوجوه.

نعم، لو أثبت أوّلا عدم وجوب الذبح بأحد الوجوه الثلاثة الاُولى، فاشتهى أحدٌ الذبح هناك رغم عدم الوجوب وعدم الإجزاء، كان من الصحيح أن يقال له بحرمة هذا العمل بدليل كونه إسرافاً وتبذيراً.

17

وأمّا ما ذكره من الوجه الثالث؛ وهو أنّ الذبح في الوقت الحاضر لا يمكن أن يكون في منى، وعندئذ فلا دليل على خصوصية لمكان آخر فيجوز له الذبح ولو في بلده، فهذا ليس كلاماً مختصّاً به ولا راجعاً إلى الفتوى التي اشتهر بها وهي سقوط الذبح هناك؛ لعدم إمكان الإطعام، وهذا ما يقول به الكل من أنّه مع تعذر الذبح هناك في أيّ دائرة قلنا بها للذبح ـمن منى أو مكة وما حواليها أو غير ذلكـ جاز الذبح في كلّ مكان.

نعم، قد يكون الخلاف معه في دائرة جواز الذبح هناك ولو لدى الضرورة؛ هل يجزئ مثلا الذبح في مكة أو في وادي محسّر؛ فلا تصل النوبة مع إمكان ذلك إلى التخيير في الذبح في كل مكان، أو لا؟ وقد مضى رأينا في ذلك.

أمّا قوله بأنّ موثقة سماعة التي تقول: «يرتفعون إلى وادي محسّر» لا تدل على جواز الإتيان بالأعمال في وادي محسّر وإنّما هي واردة بشأن الوقوف ـوكأنّ مقصوده بالوقوف البيتوتةـ فهو غير صحيح؛ فإنّ الكون في منى طيلة الأيّام الثلاثة أو ضرب الخيام هناك أو الإقامة بالسكن هناك ليس هو الواجب، فيكون معنى «يرتفعون إلى وادي محسّر» أنّهم يقيمون رحلهم أو يسكنون في وادي محسّر؛ كي يأتوا بالأعمال هناك من بيتوتة أو ذبح أو حلق.

وأمّا ما ذكره من الوجه الثاني ـمن عدم وجود هذا الفرد من الذبح أو ندرته في زمن النصوصـ فلا أظنّ أن يخفى عليك أنّ الحق المحقّق لدى المحققين المتأخرين في بحث الإطلاق والانصراف عدم قبول الانصراف لمجرد ندرة الفرد أو عدم وجوده في عصر النص، ودليل الوفاء بالعقد يشمل بإطلاقه العقود المستجدة، ولا نحتاج في إثباتها إلى تعدي العرف بالقطع بعدم الفرق.

وأمّا ما ذكره من الوجه الأوّل فلا يقبل نقاشاً فنّياً؛ إذ لم يذكر نقطةً لاستظهاره من الأمر وحدة المطلوب عدا فاء التفريع، ولم يذكر نقطةً لاستظهار كون الفاء فاء التفريع ولا دليلا على أنّ التفريع يثبت وحدة المطلوب. ولعلّ خير ما يمكن أن يذكر لإثبات وحدة المطلوب هو دعوى أنّ المركوز عرفاً: أنّ الذبح لا ملاك نفسي فيه وإنّما ملاكه مقدمي باعتباره مقدمة للإطعام والصرف، كما أشار هو إلى ذلك في مقام ترجيح رفع اليد عن قيد منى على رفع اليد عن قيد الإطعام. ولئن كان هذا هو الدليل على وحدة المطلوب فقد تركز الإشكال الذي اُورد على الشيخ من أنّه بناءً على مقدمية الذبح للإطعام فلنقتصر على شراء اللحوم من القصابين واللحّامين بقدر الذبيحة ونعطيها للفقراء.

ومن الغريب جوابه على ذلك: بأنّ كلاّ من الذبح والإطعام واجب كوجوب الوضوء والطواف، إلّا أنّ الأوّل منهما مقدمة للثاني؛ فالذبح مقدمة للإطعام والوضوء مقدمة للطواف، وكما أنّه حينما يسقط الطواف يسقط الوضوء، كذلك حينما يسقط الإطعام يسقط الذبح.

18

وقد فاته ـ حفظه الله ـ أنّ مقدمية الوضوء للطواف شرعية، في حين أنّ مقدمية الذبح للإطعام عقلية، ففي الطواف لا يمكن تبديل الوضوء بشيء آخر، لكن الذبح ـبعد اعتبار مقدميته فرضاً بحتاًـ يمكن تبديله بشراء اللحم من اللحّام، فلعلّه في زمان النص لم يكن اللحامون قادرين على تلبية حاجات تمام الحجاج من اللحم بقدر الذبائح، فكانت الطريقة المعقولة أن يهيّئ كلّ حاجّ حيواناً للذبح، أمّا اليوم فبالإمكان تحصيل الهدف بشراء اللحوم من اللحامين.

وأيضاً لو كان الذبح مقدمة للإطعام بلا ملاك نفسي فيه، فلماذا يذبح في منى لدى القدرة؟! وأيّ عيب في الذبح قبل منى أو قبل مكة وتأجيل الإطعام به إلى منى؟!

فكلّ هذا يعني أنّ هناك ملاكاً نفسياً في الذبح، وبعد فرض ثبوت الملاك النفسي في الذبح لا أدري ما هو الذي يُثبت لنا وحدة المطلوب؟! إلّا بمعنى وحدة المطلوب بلحاظ كل أعمال الحجّ التي هي مركب واحد ارتباطي.

ولو نظرنا إلى هذا الجانب لكان معناه سقوط أصل الحجّ، ولو قطعنا النظر عن ذلك فالأصل لدى تعدد الأمر هو الانحلال؛ لأنّ الارتباط هو القيد الزائد والمؤونة الزائدة في الكلام.

وأمّا استشهاده لمقومية الإطعام للهدي بخلاف قيد منى برواية: «إنّما جعل الله هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحوم»(1)، فقد اعترض هو على نفسه في ذلك ـكما مضىـ: بأنّ المقصود به الاُضحية المستحبة لكلّ أحد، وأجاب على ذلك: بأنّ الإطلاق شامل لاُضحية الحجّ.

أقـول: إنّ اُضحية الحجّ مصداق لمطلق الاُضحية وداخل في جعل الأضحى على العموم، وعليه جعلٌ آخر وجوبي وضمني في الحجّ، وليكن الملاك في الجعل الأوّل منحصراً في إشباع المساكين، ولكن لا يدلّ ذلك على انحصار ملاك الجعل الثاني أيضاً فيه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين


(1) وسائل الشيعة 14: 167، ب. من الذبح، ح 11.