22

وأمّا الفرض الثاني، وهو أن يفرض: أنّ عدم مقتضي الضدّ هو جزء المؤثّر فيوجود ضدّه، لا أنّ مقتضيه هو المانع عنه، فهذا يمكن نفيه بحساب الاحتمالات؛ وذلك لأنّنا قد شاهدنا بحسب الخارج دائماً أنّه متى ما تمّ اقتضاء المقتضي لأحد الضدّين، بلا ابتلاء بأيّ مزاحم غير مقتضي ضدّه، وأصبح أقوى من مقتضي الآخر، أو مساوياً له، امتنع الضدّ الآخر، ومتى ما لم يكن كذلك لم يمتنع الضدّ الآخر من هذه الناحية، فإذا كان هذا مستنداً إلى اقتضائه للضدّ من باب امتناع اجتماع ذاك الضدّ مع هذا الضدّ ـ فما يكون مقتضياً لهذا الضدّ يكون قهراً مانعاً عن الضدّ الآخر بقدر اقتضائه لهذا الضدّ ـ لم يلزم منه تجمّع صدف كثيرة، وأمّا إذا كان مستنداً إلى أنّ عدم تماميّة اقتضاء هذا المقتضي جزء المؤثّر في وجود ذلك الضدّ، لزم من ذلك تجمّع صدف كثيرة؛ إذ متى ما ينعدم هذا الاقتضاء أو يبتلى بموانع عن التأثير، يبطل امتناع الضدّ الآخر، بينما هذا الانعدام له أقسام شتّى، فقد يكون انعداماً للجزء الفلانيّ من المقتضي، واُخرى انعداماً لجزئه الآخر، وثالثة انعداماً لجزئه الثالث، ورابعة ابتلاءً بالمانع الفلانيّ، وخامسة ابتلاءً بالمانع الآخر، وهكذا. فإذا كانت معاصرة هذه الأعدام جميعاً لزوال امتناع الضدّ ـ الآتي من قِبَل وجود مقتضي ضدّه ـ على أساس كون مقتضي الضدّ مانعاً قهريّاً عن الضدّ الآخر، لما بين الضدّين من تعاند في الوجود، كان ذلك نكتة واحدة مشتركة بين كلّ هذه الأعدام، مفسّرة لهذه التعاصرات على كثرتها في شتّى أنحاء العالم والأضداد بتفسير واحد، وأمّا إذا كانت على أساس تأثير نفس هذه الأعدام، فهذه صدف كثيرة مجتمعة بلا توصّل إلى نكتة مشتركة، وهذا منفيّ بحساب الاحتمالات(1).

 


(1) يمكن أن يورد على هذا البرهان الذي أفاده(رحمه الله) لإبطال اقتضاء عدم الضدّ للضدّ

23

البرهان الثاني: أنّ عدم أحد الضدّين لو كان مقدّمة للضدّ الآخر، فمقدّميّته له: إمّا تكون من باب تأثير العدم في الوجود، أو من باب تأثير الوجود في الوجود تأثيراً معاكساً كما مضى هذا التشقيق آنفاً. وكلا الشقّين باطل:

أمّا الشقّ الأوّل، فلوضوح استحالة تأثير العدم في الوجود، وبذلك يبرهن في الفلسفة على وجود الله، حيث إنّه لا يعقل افتراض أن يكون المؤثّر في وجود هذا



الآخر بأن يقال: إنّ ما مضى لإثبات كون مقتضي السواد مثلا مقتضياً لعدم البياض، بعد حمله ـ بما عرفته من حساب الاحتمالات، أو بوجدانيّة عدم تأثير العدم في الوجود ـ على أنّ مقتضي السواد مانع عن البياض، لا أنّ عدمه شرط أو مقتض له، لم يكن يثبت فعليّة المانعيّة التي لا تكون إلاّ مع تماميّة المقتضي والشرط، وإنّما كان يثبت قوّة المانعيّة، أي: اقتضاء المنع في نفسه بغضّ النظر عن أنّه لو لم يتمّ المقتضي لم تصل النوبة إلى المنع. وهذه القوّة ثابتة حتّى مع فقد المقتضي، كيف وقد يتّفق بلا إشكال أنّ مقتضي البياض مثلا غير موجود، فهل مقتضي السواد حينئذ يسقط عن اقتضاء عدم البياض نهائيّاً؟ ولو كان كذلك، قلنا مثلا: إنّ اقتضاءه للسواد هل هو مطلق من ناحية البياض، أو مقيّد بعدمه؟ وكلاهما باطل كما مضى، إذن فلا محيص عن أن يقال في مثل ذلك بالاقتضاء الشأنيّ لعدم البياض، والمانعيّة الشأنيّة للبياض بمعنى قوّة المنع. وإن شئت فقل: إنّ مقتضي السواد الأقوى من مقتضي البياض والمؤثّر فعلا إنّما يقتضي بالفعل سواداً لا بياض معه، لكي لا يلزم مثلا كون الاقتضاء بالقياس إلى البياض مطلقاً أو مقيّداً بالعدم، وهذا لا يعني اقتضاءه لعدم البياض، بمعنى منعه الفعليّ للبياض، بمعنى ضرورة تماميّة مقتضي البياض وشرائطه، إذن فأيّ مانع من افتراض: أنّ عدم السواد شرط، أو جزء المقتضي للبياض؟ فإنّ غاية ما يلزم من ذلك هو رفع اليد عن فعليّة منع مقتضي السواد عن البياض؛ لأنّ البياض منتف بانتفاء شرطه أو مقتضيه، فلا معنى للمانعيّة الفعليّة لمقتضي السواد عن البياض، لكن هذا لا ينافي المانعيّة الشأنيّة بمعنى قوّة المنع ذاتاً.

24

العالم عدم عالم آخر مثلا.

وأمّا الشقّ الثاني، وهو كون أحد الضدّين مانعاً عن ضدّه على حدّ تأثير الوجود في الوجود تأثيراً معاكساً، فلأنّه متى يمنع الضدّ عن ضدّه الآخر؟ هل حين عدمه، أو حين وجوده؟ أمّا حين عدمه، فهو غير معقول؛ إذ يلزم تأثير المعدوم في الموجود، وأمّا حين وجوده، فأيضاً غير معقول؛ لأنّه إذا فرض أنّ عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر، إذن فوجود هذا الضدّ معناه الفراغ في المرتبة السابقة عن عدم الضدّ الآخر، إذن فما معنى دفع هذا الضدّ لذاك الضدّ وإعدامه إيّاه؟!(1).

البرهان الثالث: أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين: إن فرضت بمعنى تأثير العدم في الوجود، فتأثير العدم في الوجود من المستحيلات كما هو واضح، وإن فرضت بمعنى منع الوجود عن الوجود، قلنا: إنّ وجود أحد الضدّين متى يمنع عن وجود الآخر؟ هل عند عدمه أو عند وجوده؟ أمّا عند عدمه، فيلزم تأثير المعدوم في الموجود والذي هو محال، وأمّا عند وجوده، فلا يعقل تأثيره في رفع وجود الآخر؛ لأنّ اجتماع الضدّين محال بالذات(2)، أي: أنّ ماهيّة الشيء بذاتها تضيق وتمتنع عن أن توجد عند وجود ضدّها، فلا يعقل أن يكون وجود ضدّها في هذا الحال مانعاً عن وجودها؛ لأنّ المستحيل بالذات لا يعقل أن يكون له مانع، كما لا يعقل أن يكون له مقتض؛ وذلك: إمّا بالبداهة، وإمّا ببيان(3): أنّ أجزاء العلّة


(1) وهذا البرهان يبطل حتّى المانعيّة الشأنيّة؛ إذ الشيء لا يعقل أن تكون له شأنيّة إيجاد ما فرغنا سابقاً عن وجوده، أي: شأنيّة تحصيل الحاصل.

(2) هذا البرهان أيضاً يبطل المانعيّة الشأنيّة، كما يبطل المانعيّة الفعليّة؛ لأنّ الممتنع بالذات لا مانع له ولو شأناً، وذلك لو تمسّكنا في ذلك بالبداهة.

(3) هذا البيان إنّما يبطل المانعيّة الفعليّة لا الشأنيّة، بخلاف فرض البداهة.

25

شغلها إخراج الماهيّة من عالم الإمكان إلى عالم الوجوب، فالماهيّة التي لا إمكان فيها، والتي تكون ممتنعة أو واجبة لا معنى لافتراض شيء له دخل في إخراجها من عالم الإمكان إلى وجوب الوجود، أو وجوب العدم.

يبقى الكلام في أنّه كيف عرفنا: أنّ اجتماع الضدّين مستحيل بالذات؟

فنقول: إنّ معرفتنا لذلك ترجع إلى إحدى دعاوى وجدانيّة لو أنّ أحداً لم يحسّ بها في وجدانه، لم يتمّ له هذا البرهان.

الاُولى: أن ندّعي ابتداءً وجدانيّة كون اجتماع الضدّين مستحيلا بالذات، وأنّ الماهيّة تضيق وتمتنع عن وجودها التوأم مع وجود ضدّها.

الثانية: أن ندّعي بالوجدان أنّ استحالة اجتماع الضدّين أبده وأوضح من استحالة وجود الشيء بلا علّة؛ ولذا وجد تيّارٌ فكريّ ينكر استحالة الثاني، ولا يجرأ على إنكار استحالة الأوّل.

نعم، لو تعقّلنا مانعيّة وجود عن وجود، بمعنى كونه خالقاً لفنائه وإعدامه، لا بمعنى مزاحمته لمقتضي وجوده، لم يتمّ هذا الشاهد؛ إذ بالإمكان أن يقال عندئذ: إنّ استحالة اجتماع الضدّين استحالة بالغير على أساس أنّ وجود أحد الضدّين مُفن ابتداءً للضدّ الآخر، وأوضحيّة استحالته من استحالة وجود الشيء بلا علّة تنشأ من أوضحيّة استحالة وجود الشيء مع فرض وجود مُفنيه من استحالة وجود الشيء من دون وجود موجد له.

الثالثة: أن ندّعي أنّنا نحسّ بالوجدان باستحالة اجتماع الضدّين ولو فرض الضدّان واجبين، في حين أنّه على تقدير وجوب الضدّ لا معنى لمانعيّة ضدّه عنه؛ لأنّ واجب الوجود لا يتصوّر له مانع.

البرهان الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو مؤتلف من مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ مانعيّة المانع إنّما تعقل في الرتبة المتأخّرة عن المقتضي

26

والشرط، أمّا قبلهما فلا معنى للمانعيّة؛ وذلك لأنّ المقتضي وظيفته إفاضة المعلول، والشرط وظيفته تحصيص المقتضي إلى حصّة كاملة الاقتضاء، والمانع وظيفته مزاحمة المقتضي ودفعه عن التأثير، فلو لم يوجد مقتض كامل الاقتضاء في نفسه، فالمانع يزاحم أيّ شيء؟! ويمنع أيّ شيء؟!

المقدّمة الثانية: أنّ منع أحد الضدّين للضدّ الآخر يعني افتراض وجود مقتضيي كلا الضدّين: أمّا وجود مقتضيه، فلأنّ منعه فرع وجوده، ووجوده فرع وجود مقتضيه، وأمّا وجود مقتضي ضدّه، فلما قلنا: من أنّ مانعيّة المانع إنّما هي في طول وجود المقتضي، ولكن وجود مقتضيي كلا الضدّين محال؛ لأنّ معنى ذلك وجود مقتض لاجتماع الضدّين، واجتماع الضدّين محال، ومقتضي المحال محال، إذن فالضدّ متى يمنع عن ضدّه؟ هل عند عدمه، أو عند وجوده؟ أمّا الأوّل، فغير معقول، وأمّا الثاني، فمعنى وجوده ومانعيّته: تكوّن مقتضي المحال، وهو محال، فمنع أحد الضدّين عن المحال غير معقول إطلاقاً(1).

وقد أورد السيّد الاُستاذ(رحمه الله) على ذلك بأنّ اجتماع مقتضيي كلا الضدّين ليس محالا، فإنّ ذلك لا يرجع إلى مقتضي اجتماع الضدّين الذي هو محال حتّى يقال: إنّ مقتضي المحال محال، وإنّما الواقع: أنّ هناك مقتضيين كلّ منهما يقتضي أمراً غير محال(2).


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 307 ـ 308 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 255 ـ 256 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 255 ـ 256، تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، والمحاضرات للفيّاض، ج 3، ص 14 بحسب طبعة مطبعة النجف.

27

أقول: يمكن إصلاح برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من ناحية هذا الإشكال الذي أورده السيّد الاُستاذ دامت بركاته، وذلك بأن يقال: إنّ مقتضي أحد الضدّين: إمّا أن يقتضيه اقتضاءً مطلقاً من ناحية وجود الضدّ الآخر وعدمه، أو يقتضيه اقتضاءً مقيّداً بعدم الضدّ الآخر، أو أنّه بنفسه يقتضي عدم الضدّ الآخر.

والثالث هو الصحيح، وهو مختار المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وقد جَعَل ذلك برهاناً آخر على استحالة مانعيّة أحد الضدّين للآخر، وهو أنّ مقتضي الضدّ مانع عن ضدّه، فلا مجال لمانعيّة الضدّ عنه(1). وهذا مرجعه إلى البرهان الأوّل الذي ذكرناه من دون الإلفات إلى مسألة الطوليّة، أي: كون الضدّ في طول مقتضيه، وقد عرفت أنّ هذه الطوليّة هي التي تكمّل البرهان، ولولاها لأمكن افتراض كون الضدّ أيضاً مانعاً من باب اجتماع مانعين على ممنوع واحد.

والخلاصة: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)جعل الشقّ الثالث برهاناً آخر على المقصود. فلو تنزّل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) عن برهانه الآخر ـ بتنزّله عن الشقّ الثالث ـ أمكنه أن يبرهن على استحالة المانعيّة بأن يقول ـ بعد فرض انحصار الأمر في الشقّين الأوّلين ـ: إنّ الضدّ متى يمنع عن ضدّه؟ هل عند عدمه؟ وهذا غير معقول، أو عند وجوده؟ وهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّ هذا الضدّ الموجود هل يفرض منعه عن ضدّ ليس له مقتض، أو يفرض منعه عن ضدّ يكون اقتضاء مقتضيه مقيّداً بعدم الضدّ الآخر، أو يفرض منعه عن ضدّ يكون اقتضاء مقتضيه ثابتاً على الإطلاق؟

أمّا الأوّل، فهو خلف ما مضى: من أنّ المانعيّة إنّما تعقل بعد فرض وجود المقتضي.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 257 ـ 258 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

28

وأمّا الثاني، فأيضاً هو خلف ما مضى: من كون المانعيّة في طول وجود المقتضي؛ إذ إنّ اقتضاء مقتضي الضدّ المعدوم مقيّد بعدم الضدّ الموجود، فعند وجود هذا الضدّ لا مقتضي لذاك الضدّ، فلا معنى للمانعيّة؛ لأنّ المانعيّة في طول وجود المقتضي.

وأمّا الثالث، فهو باطل؛ لأنّ اقتضاء مقتضي الضدّ إذا كان مطلقاً يشمل فرض وجود الضدّ الآخر، كان معنى ذلك أنّ ذاك المقتضي مقتض للمحال بإطلاق اقتضائه؛ لأنّ وجود هذا الضدّ في فرض وجود الضدّ الآخر محال.

والذي ينبغي أن يعلّق به على هذا البرهان ـ بعد إصلاحه بما عرفت ـ هو أن يقال: إنّ دعوى استحالة اجتماع مقتضي الضدّين لاستحالة مقتضي المحال تستبطن الاعتراف السابق بأنّ اجتماع الضدّين محال، وعندئذ نسأل: أنّ اجتماع الضدّين هل هو محال بالذات أو محال بالغير؟ فإن فرض كونه محالا بالغير، قلنا: لا استحالة في كون شيئاً مقتضياً لما هو المحال بالغير، وإنّما المستحيل هو اقتضاء المحال بالذات، وإن فرض كونه محالا بالذات فلا حاجة إلى هذا التطويل في المسافة، بأن يقال: إنّ المانعيّة إنّما هي في طول المقتضي، ومقتضي المحال محال، بل رأساً يقال: إنّ المانع عن المحال بالذات محال، فإنّه كما يكون مقتضي المحال بالذات محالا، كذلك المانع عنه محال بنفس نكتة استحالة المقتضي له، كما مضى بيانه في البرهان الثالث قبل صفحات.

البرهان الخامس: تلخّص من كلام السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في مقام تفسير عبارة لصاحب الكفاية(رحمه الله) حيث جاءت في الكفاية عبارة(1) اختلف في


(1) عبارة صاحب الكفاية وردت في الجزء الأوّل، ص 206 ـ 207 بحسب الطبعة

29

تفسيرها المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ دامت بركاته، وكلّ من التفسيرين يصلح أن يكون برهاناً مستقلاًّ على عدم مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر، فنحن نغضّ النظر عن كونهما تفسيراً لكلام صاحب الكفاية، ونذكر كلّ واحد منهما كبرهان مستقلّ على المقصود، فهنا نذكر ما ذكره السيّد الاُستاذ، وهو: أنّه لو كان عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر، إذن لكان عدم أحدهما في الرتبة السابقة على وجود الآخر، في حين أنّنا نبرهن على أنّ عدم أحد الضدّين يكون في رتبة الضدّ الآخر؛ وذلك لأنّ أحد الضدّين يستحيل أن يكون في مرتبة الضدّ الآخر؛ لأنّه كما يستحيل اجتماع الضدّين في زمان واحد كذلك يستحيل اجتماعهما في رتبة واحدة، فإذا لم يكن أحد الضدّين في رتبة ضدّه، إذن فعدمه يكون في رتبة ضدّه حتّى لا يلزم ارتفاع النقيضين(1).

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على هذا البرهان بأنّ التضادّ والتنافي إنّما هو من شؤون عالم الخارج، وليس من شؤون عالم الرُتَب، ولذا ليس من الوحدات المشروطة في اجتماع الضدّين وحدة الرتبة، فيستحيل أن يجتمع السواد مثلا مع البياض ولو فرض معلولا للبياض، مع أنّهما في فرض العلّيّة



المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكينيّ، والعبارة مايلي: «وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم اجتماعهما في التحقّق، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله، بل بينهما كمال الملاءمة، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر...».

(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 3، ص 20 ـ 21 بحسب طبعة مطبعة النجف.

30

والمعلوليّة في رتبتين، لا في رتبة واحدة. هذا ما جاء في تقرير بحث السيّد الاُستاذ(1).

ولكن لا يمكننا المساعدة على هذا الردّ، ولا على أصل البرهان.

أمّا الردّ، فيرد عليه: أنّ عدم اشتراط وحدة الرتبة في استحالة اجتماع الضدّين غير مرتبط بمسألة استحالة اجتماع الضدّين في رتبة واحدة، فإنّ هنا مسألتين لا ينبغي خلط إحداهما بالاُخرى.

الاُولى: دعوى اشتراط وحدة الرتبة في استحالة اجتماع الضدّين، وهذا معناه تضييق دائرة الاستحالة، بدعوى: أنّ الضدّين يجتمعان في زمان واحد إذا كانا في رتبتين.

والثانية: دعوى توسعة دائرة الاستحالة بمعنى: أنّ مصبّ الاستحالة ليس هو عالم الخارج فحسب، بل عالم الرُتَب أيضاً مصبّ لاستحالة اجتماع الضدّين اللذين حفظت فيهما الوحدات المشترطة في المنطق، ومقصود المستدلّ هو الدعوى الثانية، والنقض باستحالة اجتماع السواد والبياض في زمان ومكان واحد ـ ولو في مرتبتين ـ إنّما هو نقض على الدعوى الاُولى.

يبقى: أنّ التضادّ والتنافي إنّما هو من شؤون عالم الخارج، وليس من شؤون عالم الرُتَب. وهذه الدعوى غير صحيحة، فالعلّة والمعلول مثلا يستحيل اجتماعهما في رتبة واحدة، ويوجد بينهما تناف وتضادّ راجع إلى شؤون عالم الرتب.

وأمّا أصل البرهان، فهو أيضاً غير صحيح. وتوضيح ذلك: أنّه إن قصد باستحالة اجتماع الضدّين في رتبة واحدة: استحالة كونهما معلولين لشيء واحد، فهذا


(1) راجع المصدر السابق، ص 25 ـ 26.

31

صحيح، ولكن عدم ثبوت أحد الضدّين في رتبة الآخر لا يعني ثبوت عدمه في رتبته بدعوى استحالة ارتفاع النقيضين؛ فإنّ نقيض ثبوت أحد الضدّين في رتبة الآخر إنّما هو عدم هذا الثبوت المقيّد بكونه في رتبة الآخر، لا عدمه المقيّد بذلك، وفرق كبير بين عدم المقيّد والعدم المقيّد.

وإن قصد باستحالة اجتماع الضدّين في رتبة واحدة: ضرورة كون أحدهما مقدّماً على الآخر، أو مؤخّراً عنه، بأن يكون أحدهما واقعاً في سلسلة علل الآخر أو معلولاته، فهو باطل؛ فإنّ صيرورة أحد الضدّين علّة للآخر محال، وليس عدم تقدّم أحدهما على الآخر أو تأخّره عنه يعني كونهما في رتبة واحدة بالمعنى الذي يكون ظرفاً تحليليّاً يستحيل اجتماع الضدّين فيه، غاية ما هناك أن يُسمّى كونهما في سلسلتين مختلفتين بأنّهما في رتبة واحدة، ولكن مجرّد التسمية لا يوجب الاستحالة.

البرهان السادس: برهان الدور وللدور. في المقام عدّة تقريبات:

التقريب الأوّل: أن يفرض: أنّ القائل بمقدّميّة ترك أحد الضدّين يدّعي مانعيّة أحد الضدّين للآخر، فيكون عدم الضدّ المانع مقدّمة للشيء، فيقال: إنّ هذه المانعيّة تستبطن الدور؛ وذلك لأنّ المانعيّة ثابتة من الطرفين، فالسواد مانع عن البياض، والبياض أيضاً مانع عن السواد، وكلتا المانعيّتين داخلتان في المدلول المطابقيّ لمدّعى الخصم، ويلزم منهما الدور؛ لأنّ السواد إنّما يمنع عن البياض حال وجوده، بينما فرض وجوده يستبطن سابقاً فرض عدم البياض؛ لمانعيّة البياض عنه، فما فرض سابقاً على السواد عدمه، كيف يفرض أنّ السواد يمنع عنه ويعدمه؟!

وهذا بيان لاستلزام المدلول المطابقيّ لمدّعى الخصم للدور، بلا حاجة إلى ضمّ مقدّمة اُخرى لازمة لمدّعى الخصم.

وهذا البيان إنّما يبطل دعوى المانعيّة، أمّا لو ادّعى الخصم: أنّ عدم أحد

32

الضدّين هو جزء المؤثّر لوجود الضدّ الآخر، فهذه الدعوى لا تستلزم دوراً ما لم تضمّ إليها مقدّمة اُخرى تدّعى كونها لازمة لكلام الخصم؛ لأنّه على هذا الفرض يكون الضدّ بعدمه مؤثّراً في الوجود، وليس بوجوده مؤثراً في المنع حتّى يقال: إنّ وجوده كيف يمنع ما فرض عدمه قبل فرض هذا الوجود. وهذا التقريب ليس هو التقريب المعروف للدور(1) في المقام، وإنّما هو عبارة عن الشقّ الثاني من برهاننا الثاني الذي أتممناه بشقّه الأوّل، وهو دعوى استحالة تأثير العدم في الوجود.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ القائل بمقدّميّة ترك الضدّ يقول بالمدلول المطابقيّ لمدّعاه: إنّ عدم الضدّ مكمّل لقابليّة المحلّ للضدّ الآخر، فعدم البياض مثلا مكمّل لقابليّة المحلّ للسواد، فيكون مقدّمة للسواد، ويضاف إلى هذه الدعوى مقدّمة اُخرى تفرض أنّها لازمة لهذه الدعوى، وهي: أنّ وجود الضدّ أيضاً مكمّل لقابليّة المحلّ لعدم الضدّ الآخر، فيكون عدم البياض مقدّمة للسواد، والسواد مقدّمة لعدم البياض، وهذا دور.

وأوضح ما يورد على هذا: أنّه لا دليل على الملازمة بين ما يدّعيه الخصم من مكمّليّة عدم الضدّ لقابليّة المحلّ للضدّ الآخر، وما فرض لازماً لدعواه من مكمّليّة وجود الضدّ لقابليّة المحلّ لعدم الضدّ الآخر.

التقريب الثالث: أن يقال: إنّ الخصم يدّعي: أنّ عدم الضدّ جزء العلّة لوجود الضدّ الآخر، سواء كان ذلك على أساس مؤثّريّة العدم في الوجود، أو على أساس مانعيّة الوجود عن الوجود، وتضاف إلى هذه الدعوى مقدّمة اُخرى لازمة لها،


(1) لا يخفى: أنّ الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في تعليقته على نهاية الدراية جعل هذا التقريب هو التقريب المعروف للدور. راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 184، تحت الخطّ، بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

33

وهي أنّ وجود أحد الضدّين علّة لعدم الآخر. والبرهان على الملازمة هي القاعدة المعروفة القائلة: إنّ نقيض العلّة علّة للنقيض، فإذا ضمّت دعوى الخصم إلى هذا اللازم، لزم الدور؛ إذ معنى ذلك أنّ عدم أحد الضدّين علّة للضدّ الآخر، والضدّ الآخر أيضاً علّة لعدم ذاك الضدّ.

وقد اُورد على هذا التقريب بإيرادين:

الإيراد الأوّل: ما نقل عن المحقّق الخونساريّ(رحمه الله)(1)، وهو مؤتلف من مقدّمتين:

1 ـ إنّ منع المانع إنّما يكون بعد فرض وجود المقتضي. وهذا عين المقدّمة الاُولى من برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على عدم المقدّميّة.

2 ـ إنّه عند وجود الضدّ يستحيل وجود مقتضي ضدّه. والبرهان على ذلك قد نقل في الكفاية بشكل، وفي تقريرات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بشكل آخر، فالمذكور في تقرير المحقّق النائينيّ(رحمه الله)البرهنة عليه بأنّ اجتماع مقتضيي الضدّين محال؛ لأنّه يقتضي اجتماع الضدّين الذي هو محال، ومقتضي المحال محال(2). وهذا عين المقدّمة الثانية من مقدّمتي برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فما جعله المحقّق النائينيّ(رحمه الله)برهاناً على عدم المقدّميّة قد جعل هنا دفاعاً عن المقدّميّة بإبطال الدور، بدعوى: أنّ هذا يبطل فعليّة المانعيّة، فيصبح وجود الضدّ غير مؤثّر في نفي ضدّه، ولكن مع ذلك يكون الضدّ متوقّفاً على عدم ضدّه لمانعيّته الشأنيّة، فقد أمكن القول بالمقدّميّة من دون لزوم دور.

والمذكور في الكفاية هو: أنّه لعلّ وجود مقتضي الضدّ محال؛ لأجل انتهاء عدم


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 257 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 308 ـ 310 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) المصدر السابق.

34

وجود أحد الضدّين مع وجود الآخر إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به، وتعلّقها بالآخر؛ حيث إنّه لابدّ وأن يرجع كلّ شيء إلى الإرادة الأزليّة(1).

وهذا التقريب جوابه واضح؛ فإنّ الإرادة الأزليّة ليست دائماً هي السبب المباشر للشيء، وإنّما ينتهي الشيء إليها في نهاية السلسلة، فقد يكون عدم وجود شيء لا لعدم تعلّق الإرادة الأزليّة بوجود مقتضيه، بل لتعلّقها بوجود مانعه مع فرض وجود مقتضيه المباشر، فالبرهان المذكور في تقرير المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على المقدّمة الثانية أمتن(2).

وعلى أيّ حال، فقد اُجيب عن كلام المحقّق الخونساريّ(رحمه الله) بجوابين:

أحدهما: ما جاء في تقرير المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ إنكار المانعيّة يساوق إنكار المقدّميّة، حيث إنّ المقدّميّة إنّما كانت على أساس فرض المانعيّة(3).

ويمكن تنقيح ذلك، بأن يقال: إنّ الصلاة التي هي ضدّ للإزالة الواجبة مثلا لها


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 207 ـ 208 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات المشكينيّ.

(2) لا يخفى: أنّ البرهان على المقدّمة الثانية بأنّ مقتضي المحال محال، يرد عليه إشكال السيّد الخوئيّ(رحمه الله): من أنّ كلاًّ من المقتضيين إنّما اقتضى أحد الضدّين، والجمع بين المقتضيين غير اقتضاء الجمع، ولئن أمكن توجيه كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) حينما استعان بهذا البرهان لنفي المقدّميّة، بأنّه قد يقصد الاستفادة من هذا البرهان بعد التنزّل عمّا هو دليل آخر على نفي المقدّميّة، وهو اقتضاء كلّ من المقتضيين لنفي الضدّ الآخر أيضاً، فبعد التنزّل عن هذا ودوران الأمر بين إطلاق الاقتضاء وتقييده تمّ هذا البرهان، لئن أمكن هذا التوجيه هناك، فهو غير ممكن هنا دفاعاً عن المحقّق الخونساريّ(رحمه الله)؛ لأنّ المفروض: أنّه يريد أن يدافع عن المقدّميّة، فلا معنى لذلك التنزّل.

(3) فوائد الاُصول، ج 1، ص 309 ـ 310 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

35

حصّتان من الوجود: الاُولى: وجودها المقارن لمقتضي الإزالة، والثانية: وجودها المقارن لعدم مقتضي الإزالة، والاُولى مانعة عن الإزالة، لكن صدورها من المكلّف مستحيل بحسب الفرض(1)، فلا معنى لأن نبحث عن حرمتها وعدم حرمتها، ولا شغل للفقيه بكون هذه الحصّة مبغوضة أو غير مبغوضة، والثانية لا تمنع عن الإزالة؛ لأنّ المفروض عدم مقتضي الإزالة، وعندئذ فوجود هذه الحصّة وعدمها سيّان(2)، فما معنى كون عدمها مقدّمة للواجب وواجباً؟!

والثاني: ما جاء في الكفاية من استحالة أن يكون الشيء الصالح لأن يكون موقوفاً عليه الشيء موقوفاً عليه(3)، ومقصوده من هذا الكلام إبطال المانعيّة الشأنيّة التي على أساسها ادّعى المحقّق الخونساريّ(رحمه الله)مقدّميّة ترك الضدّ لضدّه، فتنهار بذلك المقدّميّة. وتنقيح ذلك أن يقال:

إنّ مانعيّة الضدّ الموجود توجب الدور، فهي محال ذاتاً، والقول بأنّ هذه المانعيّة غير فعليّة ـ لأجل عدم المقتضي ـ في غير محلّه، فإنّ هذا معناه: أنّ هذه المانعيّة في نفسها ممكنة، ولذا صارت ممتنعة بالغير، أي: بعدم مقتضي الممنوع، فإنّ الامتناع بالغير يستبطن الإمكان بالذات، بينما الدور محال بالذات.


(1) لأنّ الصلاة موجودة، فمقتضي ضدّها، أعني: مقتضي الإزالة محال؛ لما فرض في المقدّمة الثانية من مقدّمتي المحقّق الخونساريّ(رحمه الله) من أنّه عند وجود الضدّ يستحيل وجود مقتضي ضدّه.

(2) لا يخفى: أنّ هذا الكلام من سنخ إنكار وجوب المقدّمة غير الموصلة، ولا بأس به، إلاّ أنّه لا يصلح توجيهاً لكلام المحقّق النائينيّ الذي لا يرى التفصيل بين الموصل وغير الموصل صحيحاً.

(3) راجع الكفاية، ج 1، ص 208 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق الشيخ المشكينيّ.

36

وبكلمة اُخرى: ليس المحال فقط فعليّة الدور حتّى يقال: إنّ الدور ليس فعليّاً؛ لعدم فعليّة المنع، بل إمكان الدور أيضاً محال، فالمانعيّة الشأنيّة أيضاً غير معقولة، فإنّه حتّى لو كان مقتضي الضدّ ـ على فرض المحال ـ موجوداً، لكانت هذه المانعيّة مستحيلة؛ للزوم الدور، فبذلك تنهار المقدّميّة التي فرضت على أساس المانعيّة.

الإيراد الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): من أنّ عدم أحد الضدّين إذا كان علّة للضدّ الآخر، لم يلزم من ذلك كون أحد الضدّين علّة لعدم الضدّ الآخر حتّى يلزم الدور، فإنّه وإن صحّ القول بأنّ نقيض العلّة علّة للنقيض، لكن نقيض عدم الضدّ هو عدم عدم الضدّ، لا الضدّ، إذن فأحد الضدّين يتوقّف على عدم الضدّ الآخر، ولكن عدم أحد الضدّين لا يتوقّف على ضدّه، وإنّما يتوقّف على ما يلازم ضدّه، وهو عدم عدم الضدّ، فلا دور، وعدم عدم الضدّ ليس هو عين وجود الضدّ، بداهة استحالة عينيّة الأمر العدميّ للأمر الوجوديّ(1).

ويرد على ذلك:

أوّلا: أنّ ما هو الثابت من أنّ نقيض العلّة علّة النقيض لا يراد بالنقيض فيه مجرّد الرفع، بل يراد به أحد الطرفين: من العدم والوجود، أعني: أنّ نقيض الرفع هو المرفوع، لا رفع الرفع كما مضى فيما سبق.

وثانياً: أنّ هذا الإيراد لا يتمّ بناءً على افتراض كون مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر على أساس مانعيّة الضدّ للضدّ؛ فإنّه بناء على هذا نقول: إنّ محطّ المانعيّة ومحطّ العلّيّة للعدم شيء واحد، ومن الواضح: أنّ نفس وجود الضدّ يفرض مانعاً عن ضدّه، ولا يحوّل محطّ المانعيّة من وجود الضدّ إلى عدم عدمه؛ لأنّ ملاك


(1) نهاية الدراية، ج 2 ص 184 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

37

المانعيّة هو التضادّ، وتضادّ وجود السواد مع البياض بديهيّ، إذن فيكون محطّ العليّة للعدم أيضاً هو نفس وجود الضدّ، فيلزم الدور. نعم، هذا يرجع إلى التقريب الأوّل من تقريبات الدور، ولكن مع ذلك يصحّ تسجيله إشكالا على المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)؛ لأنّه لم يكن قد قسّم تقريب الدور إلى تقريبات حتّى يقال: إنّه يفرض غضّ النظر عن التقريب الأوّل، ويريد إبطال التقريب الثالث بعد التنازل عن محذوريّة التقريب الأوّل(1).

وثالثاً: أنّ عدم عدم الوجود معلول للوجود على حدّ معلوليّة العنوان الانتزاعيّ لمنشأ انتزاعه، فيعود الدور؛ إذ بالتالي يتوقّف عدم الضدّ على وجود ضدّه ولو بتوسّط توقّفه على عدم عدم ضدّه.

لا يقال: إنّ عدم عدم الشيء علّته هي عدم عدم علّة الشيء، وعدم عدم علّة الشيء علّته هي عدم عدم علّة تلك العلّة، وهكذا، وليس عدم عدم الشيء منتزعاً من وجود الشيء.

فإنّه يقال ـ بغضّ النظر عن شهادة الوجدان بكون عدم عدم الشيء منتزعاً عن وجوده ـ: إنّه ماذا تقول حينما نصل إلى واجب الوجود، فما هي علّة عدم عدمه؟!

فإن قلت: إنّ علّة عدم عدمه هي نفس وجود الواجب، فلنقل بذلك في سائر المراتب أيضاً، فعدم عدم الشيء دائماً معلول لنفس وجود ذلك الشيء على حدّ معلوليّة العنوان الانتزاعيّ لمنشأ انتزاعه، كما قلنا.


(1) لا يخفى: أنّ الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) فرّق ـ في تعليقته على نهاية الدراية ـ بين تقريب الدور بنكتة كون نقيض العلّة علّة النقيض، وتقريبه بنكتة كون الضدّ على تقدير التمانع سبباً لانتفاء الضدّ. راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 184، تحت الخطّ، بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

38

وان قلت: إنّ عدم عدمه عين وجوده، فلنقل بذلك في سائر المراتب.

وإن قلت: إنّ عدم عدمه هو واجب الوجود، أو ينتهي إلى واجب الوجود غير هذا الواجب الذي نتكلّم عن عدم عدمه، لزم تعدّد واجب الوجود مع الملازمة بينهما؛ إذ من الواضح إنّ عدم عدم الشيء مع وجوده متلازمان، بينما التلازم بين واجبي الوجود مستحيل؛ لأنّ التلازم لا يكون بين شيئين إلاّ بأن يكون أحدهما معلولا للآخر، أو بأن يكونا معلولين لشيء ثالث(1).

ورابعاً: أنّ عدم عدم الشيء يستحيل أن يكون له دخل أو تأثير في العالم الخارجيّ.

وذلك لأنّه إن فرض أنّ المقصود بالعدم المضاف إليه واقع العدم، فالعدم لا يضاف إلى العدم على ما قالوا: من أنّ الوجود والعدم إنّما يضافان إلى الماهيّة، ولا يضاف أحدهما إلى الآخر ولا إلى نفسه.

وإن فرض أنّ المقصود به مفهوم العدم الذي هو أمر ذهنيّ، فالاُمور الذهنيّة بوجودها أو بعدمها لا تؤثّر في العالم الخارجيّ.

وخامساً: أنّنا لو فرضنا أنّ عدم عدم السواد مثلا علّة لعدم البياض، وإنّ عدم البياض علّة للسواد، كان معنى ذلك: أنّ عدم عدم السواد علّة للسواد ولو بالواسطة، بينما لا يُعقل أن يكون نفي عدم الشيء علّة لوجوده؛ لأنّ هذا التأثير في طول تحقّق هذا النفي ومقيّد به، في حين أنّه يكون ثبوت النقيض في الظرف المقيّد بنفي نقيضه ـ بما هو كذلك ـ ضروريّاً؛ لبداهة استحالة ارتقاع العدم والوجود.


(1) قد يقال: إنّ تلازم الوجود لعدم العدم نشأ من تعانده مع ما يكون عدم العدم نقيضاً له، وهو العدم، وهذا الملاك للتلازم ثابت حتّى في واجبي الوجود، ولا نعني بالملازمة إلاّ المصاحبة التي لابدّ منها، والتي ليست مجرّد صدفة.

39

وبكلمة اُخرى: إنّ السواد في الظرف المقيّد بنفي عدم السواد واجب، وليس فيه جهة إمكان حتّى تفرض له علّة مقيّدة بهذا الظرف.

بل من هنا ينفتح باب لبرهان سابع على نفي المقدّميّة؛ لأنّ الضدّين اللذين لا ثالث لهما يشبهان النقيضين في استحالة ارتفاعهما، فنقول:

البرهان السابع: أنّه إذا كان الضدّان لا ثالث لهما ـ كما مثّلوا لذلك بالحركة والسكون ـ لم يعقل كون عدم أحدهما علّة للآخر؛ لأنّ تأثير هذه العليّة في طول تحقّق هذا العدم ومقيّد به، إذن ففعليّة معلوليّة أحدهما لعدم الآخر تكون في الظرف المقيّد بعدم الآخر، بينما في الظرف المقيّد بعدم أحدهما ـ بما هو كذلك ـ يكون الآخر واجباً، وليست فيه جهة إمكان حتّى يكون عدم ضدّه علّة له.

هذا حال الضدّين اللذين لا ثالث لهما، ويُتعدّى من ذلك إلى سائر الأضداد بأحد بيانين:

الأوّل: أن يدّعى بداهة عدم الفرق بين ضدّ وضدّ في مقدّميّة عدمه لوجود ضدّه، أو عدم مقدّميّته لذلك.

الثاني: أن يتعدّى إلى الأضداد العديدة، كأضداد ثلاثة لا رابع لها، أو أربعة لا خامس لها، وهكذا، ويقال بلحاظ مجموع أضداد الواجب التي يدّعي الخصم طبعاً حرمتها جميعاً: إنّ عدمها لا يمكن أن يكون مقدّمة للواجب؛ لأنّه في الظرف المقيّد بعدمها جميعاً يكون الواجب ضروريّاً. نعم، التعدّي بهذا البيان لا يسري إلى ضدّين أو أضداد يمكن عدمهما أو عدمها جميعاً بلا حلول ضدٍّ وجوديّ مكانها، كما قد يمثّل لذلك بالحبّ والبغض، فيقال: إنّهما ضدّان يكون ثالثهما عدمهما جميعاً من دون ضدٍّ وجوديّ آخر.

البرهان الثامن: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) كتفسير لعبارة صاحب الكفاية(رحمه الله) التي فسّرها السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بما مضى في البرهان

40

الخامس، وهو مؤتلف من مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ النقيضين في رتبة واحدة؛ لأنّ النقيض بديل لنقيضه، والبديل يجب أن يحلّ محلّ مُبدَله ويأخذ رتبته.

والمقدّمة الثانية: أنّ المقارن للمتقدّم متقدّم، والمقارن للمساوي مساو، والمقارن للمتأخّر متأخّر، كلّ ذلك قضايا قياساتها معها.

فبناءً على هاتين المقدّمتين نقول: إنّ عدم البياض في رتبة البياض بحكم المقدّمة الاُولى، فإذا كان عدم البياض مقدّماً على السواد ـ لأجل مقدّميّة عدم أحد الضدّين لضدّه ـ لكان البياض مقدّماً على السواد؛ لأنّ ما مع المتقدّم متقدّم بحكم المقدّمة الثانية. وبنفس البيان أيضاً نثبت أنّ السواد مقدّم على البياض؛ لأنّ السواد في رتبة عدم السواد الذي هو مقدّم على البياض، فلزم أن يكون كلّ من السواد والبياض مقدّماً على الآخر، وهذا تهافت غير معقول. هذا ما يستفاد من كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله).

وقد اتّضح بهذا البيان: أنّه لا حاجة إلى فرض وجدان أو برهان يدلّ على أنّ الضدّين في رتبة واحدة ـ كما يظهر من كلام السيّد الاُستاذ دامت بركاته ـ بأن يقال مثلا: إنّ النقيضين في رتبة واحدة، والضدّين أيضاً في رتبة واحدة، فعدم البياض في رتبة البياض، والبياض في رتبة السواد، فصار عدم البياض في رتبة السواد؛ لأنّ مانع المساوي مساو، فلا يعقل أن يكون مقدّماً عليه(1).

 


(1) عبارة السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ المنقولة في المحاضرات، ج 3، ص 21 بحسب طبعة مطبعة النجف ـ تشعر بأنّ تفسير اُستاذه الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) لعبارة اُستاذه صاحب الكفاية يعني: أنّ الضدّين في رتبة واحدة، والنقيضين أيضاً في رتبة واحدة، فنقيض أحد

41



الضدّين في رتبة الضدّ الآخر، بناءً على قياس المساواة، وهو: أنّ مانع المقارن مقارن.

ولكن ما طرحه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا يعني: أنّ تفسير الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) لا يشتمل على افتراض كون الضدّين في رتبة واحدة، بل يكتفى بدعوى كون النقيضين في رتبة واحدة مع قياس المساواة؛ لأنّ نقيض أحد الضدّين إن كان في رتبة الضدّ لزم تقدّم كلّ من الضدّين على ضدّه بناءً على قاعدة المساواة، لأنّ نقيض كلّ واحد منهما مقدّم على الآخر بحسب رأي القائل بمقدّميّة عدم الضدّ، فكلّ واحد منهما مقدّم على الآخر؛ لمساواته في الرتبة مع نقيضه.

أقول: أصل عدم الحاجة في المقام إلى افتراض كون الضدّين في رتبة واحدة وإن كان صحيحاً ـ كما أوضحه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ ولكن عبارة الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) ـ في نهاية الدراية وفي تعليقه على نهاية الدراية وفي كتاب الاُصول على النهج الحديث ـ ظاهرة فيما يبدو أنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) فهمه من عبارته، بإضافة نكتة احتمال أن يكون المقصود بوحدة الرتبة: مجرّد المعنى السلبيّ، أي: عدم التقدّم والتأخّر، واحتمال أن يكون المقصود: المعنى الإيجابيّ، أي: التقارن، فقد صرّح بالاحتمالين في تعليقه على نهاية الدراية، ولكن صرّح بتعيين الاحتمال الأوّل، أي: مجرّد نفي التقدّم والتأخّر في الاُصول على النهج الحديث.

ثُمّ إنّه يوجد في عبارة الكفاية احتمال آخر غير التفسير الذي مضى عن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لعبارة الكفاية في البرهان الخامس، من الاستفادة من نكتة استحالة اجتماع الضدّين وارتفاع النقيضين في عالم الرُتَب، كما في عالم الخارج، وغير التفسير الذي عرفته هنا من الاستفادة من نكتة قياس المساواة، وهو الاستفادة من نكتة أنّ كمال الملائمة الموجود بين الضدّ ونقيض ضدّه دليل على أنّهما في مرتبة واحدة، أو على أنّهما

42

فإنّنا إذا آمنّا بكون النقيضين في رتبة واحدة، وآمنّا بأنّ ما مع المساوي أو المتقدّم أو المتأخّر مساو أو متقدّم أو متأخّر، تمّ البرهان بلا حاجة إلى فرض كون الضدّين في مرتبة واحدة.

وعلى أيّ حال فيرد على هذا البرهان إيرادان:

الأوّل: أنّ كون نقيض الشيء بديلا عن الشيء لا يعني كونه في رتبته، فإنّ نقيض الشيء بديل عنه، يحلّ محلّه بحسب لوح الواقع، دون لوح الرتبة أو الزمان أو المكان، فإنّ الشيء المقيّد برتبة أو زمان أو مكان، نقيضه عدم المقيّد بذلك القيد



ليسا في رتبتين.

وقد نفى الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) هذا الاحتمال في تعليقه على نهاية الدراية وفي الاُصول على النهج الحديث؛ بوضوح أنّ كمال الملائمة لا يدلّ على وحدة الرُتَب أو عدم تعدّدها، فإنّ المعلول والعلّة لا شكّ فيما بينهما من كمال الملائمة، مع وضوح تعدّد الرتبتين فيهما. راجع لكلّ هذه الاُمور نهاية الدراية، ج 2، ص 180 مع ما تحت الخطّ من تعليقه على نهاية الدراية بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، والاُصول على النهج الحديث، ص 85 ـ 86 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

ويوجد في عبارة الكفاية احتمال رابع، وهو: أن لا يكون مقصوده أصلا البرهنة على عدم مقدّميّة عدم الضدّ لضدّه، بل يكون مقصوده إبطال برهان الخصم القائل بأنّ المضادّة والمعاندة بين الوجودين تقتضي الممانعة بينهما، وعدم المانع يعتبر من المقدّمات، فأجاب على ذلك بأن المضادّة والمعاندة والمنافرة بين شيئين لا تقتضي إلاّ عدم الاجتماع، ولا تبرهن على الممانعة، وبما أنّ الضدّ مع عدم ضدّه لا تنافي بينهما، بل بينهما كمال الملائمة أمكن اجتماع أحد الضدّين مع عدم الضدّ الآخر، من دون أن يلزم من ذلك التوقّف وتعدّد الرتبة، فبالإمكان أن يكونا في رتبة واحدة.

43

لا العدم المقيّد به، فالقيام في بيت زيد ـ مثلا ـ نقيضه عدم هذا القيام، لا العدم المقيّد بكونه في بيت زيد، وإلاّ لأمكن ارتفاعهما بعدم البيت رأساً.

الثاني: أنّه ماذا يقصد بالمقارنة في قوله: إنّ مقارن المتقدّم أو المساوي أو المتأخّر متقدّم أو مساو أو متأخّر؟ هل يقصد بذلك: التقارن بالمعنى السلبيّ، أعني: عدم كون أحدها علّة للآخر ومقدّماً عليه، ولا معلولا له ومتأخّراً عنه؟ أو يقصد به: التقارن بالمعنى الإيجابيّ، أعني: كونهما معلولين لعلّة واحدة؟

فإن قصد الأوّل، فصحيح أنّ نقيض أحد الضدّين مقارن لنقيضه وفي رتبته ـ لأنّ أحد النقيضين لا يعقل أن يكون علّة أو معلولا لنقيضه ـ ولكن لا يلزم من عدم تقدّم شيء على آخر وعدم تأخّره، أنّه إذا كان أحد الشيئين مقدّماً على شيء ثالث كان الشيء الآخر أيضاً كذلك؛ فإنّ ملاك تقدّم أحد الشيئين على شيء ثالث هو كونه علّة له مثلا، بينما ليس من اللازم أن يكون الشيء الآخر أيضاً علّة له(1).

وإن قصد الثاني ورد عليه: أنّ النقيضين يستحيل أن يكونا في رتبة واحدة بهذا المعنى؛ فإنّ النقيضين لا يمكن أن يكونا معلولين لشيء واحد.

مضافاً إلى أنّه لو فرض إمكان ذلك فمجرّد كون شيئين معلولين لعلّة واحدة، لا يقتضي أن يتقدّم أحدهما على ما يتقدّم عليه الآخر؛ إذ لو كان أحدهما علّة لشيء لم يلزم أن يكون الآخر أيضاً علّة له، حتّى يكون مقدّماً عليه، كما تقدّم ذاك عليه. نعم، في التقدّم والتأخّر الزمانيّ يصحّ القول بأنّ المقارن للمتقدّم متقدّم، فإذا كان زيد متقدّماً علينا ـ لكون وجوده قبل الف سنة ـ وكان عمروٌ مقارناً لزيد، كان عمرو أيضاً متقدّماً علينا، لا لأنّه مقارن لزيد، بل لنفس النكتة التي بها صار زيد متقدّماً علينا، وهي وجوده قبل الف سنة. أمّا في التقدّم الرتبيّ فلا يلزم كون نكتة


(1) بل في النقيضين هذا غير معقول.

44

تقدّم أحد المتقارنين على شيء ـ وهي العلّيّة ـ ثابتة في مقارنه، كما أوضح ذلك أيضاً الحكماء، وإن كان قد يتراءى من عبارة الشيخ الرئيس صحّة قاعدة: ما مع المتقدّم متقدّم في عالم الرُتَب.

هذه هي ما قيل أو يمكن أن يقال من البراهين على عدم مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر، وقد صحّ منها عدّة براهين، وهي: البرهان الأوّل والثاني والثالث والسادس والسابع.

 

الكلام في التفصيل بين الضدّ الموجود والضدّ المفقود:

بقي هنا تفصيل، وهو: التفصيل بين الضدّ الموجود والضدّ المفقود، فيقال: إنّ الضدّ الموجود يكون عدم بقائه مقدّمة لحدوث الضدّ الآخر، ولكن ليس عدم حدوث الضدّ المعدوم مقدّمة لضده.

وهذا لا يرد عليه برهان الدور، سواءً كان بصياغته المشهورة، أو بصياغة برهاننا الثاني، كما هو واضح.

نعم، يرد عليه البرهان الثالث والسابع، حيث يقال: إنّه في ظرف بقاء الضدّ الموجود بما هو كذلك، يكون حدوث الضدّ المعدوم مستحيلا بالذات، فلا يعقل كون هذا البقاء علّة لعدم حدوثه. أو يقال: إنّه في مورد الضدّين اللذين لا ثالث لهما يكون ثبوت أحد الضدّين ضروريّاً في ظرف انعدام ما وجد من الضدّ الآخر، ولم تبق فيه جهة إمكان حتّى يبدّل إلى الوجوب بسبب عدم هذا الضدّ.

وأمّا البرهان الأوّل الذي حاصله هو: أنّ وجود الضدّ يكون في طول مقتضيه، وذلك المقتضي قد منع سابقاً عن وجود الضدّ الآخر، فلا تصل النوبة إلى منع هذا الضدّ عن ذلك، فجريانه في المقام مبنيّ على القول بأنّ بقاء الشيء ـ كحدوثه ـ يحتاج إلى مقتض، فيقال أيضاً: إنّ بقاء الضدّ الموجود يكون في طول مقتضيه

45

الذي قد منع الضدّ الآخر عن الوجود، فلا يبقى مجال لمانعيّة بقاء هذا الضدّ.

أمّا إذا قلنا بإمكان خلوّ البقاء من المقتضي، وأنّه ليس كالحدوث، فالبرهان الأوّل لا يأتي هنا؛ لأنّ بقاء هذا الضدّ لا يحتاج إلى مقتض حتّى يقال: إنّ ذاك المقتضي قد منع سابقاً عن وجود الضدّ الآخر. فالبرهان الأوّل إذا اُريد إسراؤه إلى المقام يجب أن تضمّ إليه مسألة: أنّ البقاء كالحدوث في الاحتياج إلى العلّة.

 

الضدّ البديل والضدّ التوأم:

بقي في المقام شيء، وهو: أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين للآخر إذا فُرضت على أساس مانعيّة وجود أحدهما عن الآخر، بأن فُرض وجود السواد مثلا مانعاً عن البياض، فهنا يأتي تشقيقٌ؛ وذلك لأنّ وجود البياض مثلا يمكن أن تُفرض له حصّتان:

1 ـ وجوده بديلا عن السواد.

2 ـ وجوده التوأم مع السواد.

والمدّعى: أنّ السواد حينما يوجد تكون مانعيّته عن كلّ من الحصّتين محالا، وأغلب البراهين التي اخترناها تبطل كلتا المانعيّتين، فمثلا كنّا نقول في البرهان الثالث: إنّه في ظرف وجود السواد يكون البياض مستحيلا بالذات، فلا معنى لمنع السواد عنه، وهذا ـ كماترى ـ يشمل كلتا حصّتي البياض؛ فإنّ كلتيهما مستحيلة بالذات عند وجود السواد، بنفس القرائن التي ذكرناها في البرهان الثالث.

ولكنّ البرهان الأوّل لا يبطل إلاّ الشقّ الأوّل؛ فإنّ خلاصة ذلك البرهان هي: أنّ وجود السواد في طول وجود مقتضيه، ومقتضيه يمنع عن البياض، فلا تصل النوبة إلى مانعيّة السواد عنه. وهنا نقول: إنّ مقتضي السواد لا شكّ أنّه يمنع عن وجود البياض البديل عن السواد، أمّا وجود البياض التوأم مع السواد فإنّما يثبت

46

بهذا البرهان عدم منع السواد عنه لو ثبت أنّ مقتضي البياض يمنع عنه سابقاً، ولكن منع مقتضي البياض عنه إنّما هو في طول استحالة اجتماع السواد والبياض؛ لأنّ مقتضي السواد إنّما يتضايق عن وجود البياض؛ لأنّه يرى أنّ البياض يزاحم السواد، وإذا حلّ في المكان حلّ كبديل عمّا يقتضيه هذا المقتضي.

أمّا لو فرض محالا أنّ الضدّين يمكن اجتماعهما، وأنّ البياض إذا حلّ في المكان يحلّ توأماً مع السواد، فمقتضي السواد لا يوجد لديه مانع(1) عن حصول البياض الذي هو ضدّ للسواد، وإنّما غاية همّه إيجاد السواد. وعليه فلابدّ من فرض استحالة اجتماع الضدّين في المرتبة السابقة على مانعيّة مقتضي السواد عن البياض، وهذه الاستحالة التي يجب ثبوتها في المرتبة السابقة، أمرها مردّد بين ما ينسجم مع مدّعانا، وهو كونها استحالة ذاتيّة، وما ينسجم مع مدّعى الخصم، وهو كونها استحالةٌ بملاك كون أحد الضدّين مانعاً عن الضدّ الآخر، إذن فهذا النوع من المانعيّة يجب أن يبطل ببيان آخر، كاستلزامها للدور أو غير ذلك(2).

 


(1) ينبغي ذكر هذا بعنوان الاحتمال؛ إذ لا برهان ولا وجدان على طبقه.

(2) لا يخفى: أنّ هذه الملاحظة إنّما تأتي على ما مضى من البرهان الأوّل، ببيانه الثاني الماضي، لا ببيانه الأوّل.