158

أدعيتهم وكلماتهم المضيئة والتي أشرنا إلى نزر منها في النقطة الرابعة، فكان لا بدّ للشيطان أن يفتح دكّاناً في مقابل الأئمّة(عليهم السلام) باسم التصوّف، وكان خير مناخ لتأسيس هذا الدكّان هو مناخ غير الشيعة؛ لأنّ الشيعة غالباً كانوا مكتفين بالأضواء الحقيقيّة التي تشع من أئمّتهم(عليهم السلام)، ولهذا لا ترى أثراً من هذا الدكّان لدى الشيعة في أوائل الأمر، وإنّما انحدر هذا الطريق إليهم واستهوى بعضهم بعد ما تمّ تأسيسه وتشييد بناءه لدى غيرهم.

وبودّي أن اُشير إلى أنّ ما فرضه صاحب كتاب لبّ اللباب من انتهاء بعض سلسلة الصوفيّة إلى معروف الكرخي صاحب الإِمام الرضا(عليه السلام) لم نرَ عليه شاهداً في ترجمته إلاّ ادّعاء الصوفيّة أنفسهم لذلك من دون ذكر سند ودليل.

فقد ادّعوا أنّ بعض سلاسلهم تنتهي إلى معروف الكرخي، ومنه إلى الإِمام الرضا (عليه السلام)، ومنه إلى آبائه(عليهم السلام) إلى عليّ(عليه السلام)، ويسمّون هذه السلسلة بالسلسلة الذهبيّة، ونحن لا نعلم هل حقّاً كان معروف الكرخي من الصوفيّة أو لا ؟

نعم، رُوِيَ عنه: أنّه قال للإِمام الصادق(عليه السلام): «أوصني يابن رسول الله، فقال: أقلل معارفك، قال: زدني قال: انكر من عرفت منهم»(1).

وهذا الحديث يناسب ذوق المتصوّفة، إلاّ أنّ ذلك لا ينسجم مع ما ورد في ترجمته: من أنّه أسلم في صباه على يد الإِمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام).

فقد روى السيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه(2) عن ابن شهرآشوب في المناقب الجزء الرابع باب إمامة أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) أنّه قال: ذكر ابن الشهرزوري في مناقب الأبرار: أنّ معروف الكرخي كان من موالي عليّ ابن موسى الرضا(عليه السلام)، وكان أبواه نصرانيين، فسلّما معروفاً إلى المعلّم وهو صبيّ، وكان


(1) مجمع البحرين في ذيل مادة (عرف).

(2) في معجم الرجال 18/231. راجع ـ أيضاً ـ تنقيح المقال 3/228.

159

المعلم يقول له: قل ثالث ثلاثة، وهو يقول: بل هو الواحد، فضربه المعلم ضرباً مبرحاً، فهرب ومضى إلى الرضا(عليه السلام)، وأسلم على يده، ثُمّ إنّه أتى داره فدقّ الباب، فقال أبوه: مَنْ بالباب؟ فقال: معروف، فقال: على أيّ دين؟ قال: على ديني الحنيفي، فأسلم أبوه(1) ببركات الرضا(عليه السلام). قال معروف: فعشت زماناً. ثمّ تركت كلما كنت فيه إلاّ خدمة مولاي عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام). وعن ابن خلكان وغيره نظير ذلك.

وعلى أيّة حال، فتصوّف معروف الكرخي غير ثابت لدينا، كما أنّ كونه من خدّام الإِمام الرضا(عليه السلام) ليس قطعيّاً عندنا، فإنّ خلوّ كتبنا الرجاليّة طرّاً عن ذكره وعلى الخصوص خلوّ كتاب عيون أخبار الرضا(عليه السلام) عن نقل رواية عنه(عليه السلام)بواسطته ممّا يريب الفطن في اختصاصه بالرضا(عليه السلام).

وقبره في عصرنا الحاضر في بغداد لا يزوره عادة إلاّ السُنّة، وهم يمجّدون به. وتفترض الصوفيّة أنّه كان من أكابرهم، ويقول الشيخ المامقاني(رحمه الله): لم يُنقَل عنه ما يقضي بالتصوّف، وإنّما نسب المتصوّفون إليه التصوّف رواجاً لطريقتهم الفاسدة، وهذه عادة أهل المذاهب الفاسدة ينسبون إلى مؤمن تقيّ مذهبهم كذباً وبهتاناً؛ لترويج مذهبهم الفاسد، أليس ينسبون التصوّف إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)البريء منهم ومن مسلكهم؟!(2).

ثُمّ إنّنا لا نستبعد أن يكون انتماء كثير من السُنّة إلى سلك التصوّف نتيجةً لتعطّشهم إلى الجانب الروحي، وعدم إمتلاكهم المعين الصافي للقضايا الروحيّة الذي كانت الشيعة تمتلكه، وهو: معين أئمّتهم سلام الله عليهم؛ ولذا ربّما لا ترى


(1) هكذا ورد فيما عندي من نسخة معجم رجال الحديث، ولكن ورد في تنقيح المقال: أسلم أبواه.

(2) تنقيح المقال 3/229.

160

بلحاظ عصر حضور الأئمّة(عليهم السلام)؛ أيَّ رواج لسلك التصوّف لدى الشيعة، وإنّما بدأ ذلك ببداية عصر الغيبة. وأظنّ أنّ أوّل شيعي أو متشيّع أظهر هذا الأمر وبدأ يدعو الناس إليه هو: حسين بن منصور الحلاّج. ويعدّه المتصوّفون من أنفسهم، وكان إضافة إلى هذه الحالة يدّعي البابيّة للإمام صاحب الزمان ـ عجَّل الله فرجه ـ على ما رواه الشيخ الطوسي(رحمه الله) في كتاب الغيبة بسنده إلى الحسين بن عليّ بن الحسين أخي الشيخ الصدوق(رحمه الله): من أنّ حسين بن منصور الحلاّج كتب رسالة إلى قرابة أبي الحسن ـ والد الصدوق ـ يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً، ويقول: أنا رسول الإِمام ووكيله، قال: فلمّا وقعت المكاتبة في يد أبي(رضي الله عنه) خرقها، وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات ! ...(1).

ولعلّ أوّل من سُمِّي باسم التصوّف أو من أوائلهم الحسن البصري المتولّد سنة (22)، والمتوفّى سنة (110) هجريّة.

وقال الشيخ المطهّري(رحمه الله): إنّ الحسن البصري لم يكن يُسمّى في عصره صوفيّاً، وإنّما سُمِّيَ بعد ذلك بهذا الاسم؛ أوّلاً: بسبب كتاب أ لّفه باسم (رعاية حقوق الله) والذي يمكن أن يُفترَض أوّل كتاب للتصوّف؛ وثانياً: بسبب أنّ العرفاء ينهون بعض سلاسل طريقتهم إِليه، ومنه إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، من قبيل سلسلة مشايخ أبي سعيد أبي الخير...(2).

أقول: وبهذه المناسبة أذكر بعض ما ورد في رواياتنا عن أهل البيت(عليهم السلام)بشأن الحسن البصري:


(1) راجع البحار: 51/370.

(2) خدمات متقابل اسلام وايران: 644 ـ 645 بحسب طبعة انتشارات صدرا التي هي الطبعة الثامنة.

161

1 ـ ورد في الوسائل(1) عن عبدالله بن سليمان قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام)وعنده رجل من أهل البصرة، وهو يقول: إنّ الحسن البصري يزعم أنّ الذين يكتمون العلم تُؤذي ريح بطونهم أهل النار، فقال أبو جعفر(عليه السلام): فهلك إذن مؤمن آل فرعون، مازال العلم مكتوماً منذ بعث الله نوحاً، فليذهب الحسن يميناً وشمالاً فوالله ما يوجد العلم إلاّ هاهنا».

2 ـ رُوِيَ أنّ عليّ بن الحسين(عليه السلام) رأى يوماً الحسن البصري وهو يقصّ عند الحجر الأسود، فقال له(عليه السلام): «أترضى يا حسن نفسك للموت؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال: فثمّ دار للعمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فلله في أرضه معاذٌ غير هذا البيت؟ قال: لا، قال: فلِمَ تشغل الناس عن الطواف»(2).

3 ـ وقيل لعليّ بن الحسين(عليه السلام) يوماً: «إنّ الحسن البصري قال: ليس العجب ممّن هلك كيف هلك؟ وإنّما العجب ممّن نجا كيف نجا.

فقال(عليه السلام): أنا أقول: ليس العجب ممّن نجا كيف نجا، وأمّا العجب ممّن هلك كيف هلك مع سِعة رحمة الله»(3).

وقد يقال: إنّ أوّل من سُمّي باسم الصوفي أو بذر مسلك التصوّف بين المسلمين هو: أبو هاشم الكوفي(4).

وقد رُوِيَ عن الإمام العسكري(عليه السلام) عن الصادق(عليه السلام): بشأن أبي هاشم الكوفي: إنّه كان فاسد العقيدة جدّاً، وهو الذي ابتدع مذهباً يقال له: التصوّف(5).

وممّن اشتهر بكونه من الصوفيّة: سفيان الثوري. وقيل: إنّه تلميذ لأبي هاشم


(1) الوسائل 27/18 ـ 19، الباب 3 من صفات القاضي، الحديث 6.

(2) البحار 78 / 153.

(3) المصدر السابق.

(4) راجع خدمات متقابل اسلام وايران: 643، وجلوه حقّ لآية الله مكارم: 19.

(5) سفينة البحار 5/198.

162

الصوفي(1).

وكذلك ممّن اشتهر بذلك امرأة اسمها رابعة العدويّة، ويبالغون فيها وفي قداستها وعظمتها وكشفها وشهودها وما إلى ذلك: وقيل إنّ سفيان الثوري كان يطرح عليها مسائله، وكان يتعظ بمواعظها.

وقيل ـ أيضاً ـ: إنّه حينما توفّي عنها زوجها أراد الحسن البصري أن يتزوج بها، فطرحت رابعة اسئلة على حسن البصري، وعجز الحسن عن الجواب، فحينما رأت رابعة خلوَّ الحسن البصري عن تلك المعارف امتنعت من قبول طلبه، وأرسلت إِليه الأبيات التالية:

راحتي يا إخوتي في خلوتي
وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجده عن هواه عوضاً
وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنتُ أُشاهدْ حسنه
فهو محرابي إليه قبلتي
إنْ أمتْ وجداً وما ثمّ رضا
واعَنائي في الورى واشقوتي
يا طبيبَ القلبِ يا كلَّ المنى
جدْ بوصل منكَ يشفي مُهْجتي
يا سُروري وحياتي دائماً
نشأتي منكَ وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلقَ جَمْعاً أرتجي
منكَ وصْلاً فهو أقصى مُنيتي

وقيل ـ أيضاً ـ: إنّه قال لها ذات يوم سفيان الثوري: صفي لي درجة إيمانك واعتقادك بالله جلَّ وعلا، فقالت رابعة: إنّي لا أعبد الله شوقاً إلى الجنّة، ولا خوفاً من جهنم، وإنّما أعبده لكمال شوقي إليه، ولأداء شرائط العبوديّة. وبعد ذلك أنشأت هذه المناجاة:

 

اُحبّك حبّين حبَّ الهوى
وحبّاً لأنّك أهلٌ لذاك
فأمّا الذي هو حبُّ الهوى
فشغلي بذكراك عمّن سواك


(1) راجع خدمات متقابل اسلام وايران: 646.

163

وأمّا الذي أنت أهلٌ له
فحبٌّ شُغِلتُ به عن سواك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاك(1)

ولنعم ما قال الشيخ ذبيح الله المحلاّتي في كتاب (رياحين الشريعة)(2) تعليقاً على هذه المطالب المنقولة عن رابعة العدويّة، وهو: أنّ هذه الامرأة عاصرت ثلاثة أئمّة: الإمام زين العابدين(عليه السلام) والإمام الباقر(عليه السلام) والإمام الصادق(عليه السلام)، ولا يوجد ـ برغم هذا ـ في كلماتها اسم ولا رسم عن أهل البيت(عليهم السلام) الذين هم أحد الثقلين. والوليّ الحقيقي لله سبحانه هو الذي يتراود مع آل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) لا مع سفيان الثوري وحسن البصري.

وهذا الاستغراب من قبل الشيخ المحلاّتي واكتشافه لعدم واقعيّة وضع رابعة العدويّة صحيح. فلئن كانت رابعة العدويّة سيّدة زمانها في تزكية النفس وتصفية الباطن أفلم تكن سامعةً بوضع الإمام زين العابدين(عليه السلام)وكذلك الإمامين الآخَرين؟! فهب أنّها لم تكن تؤمن بإمامتهم ولكن ألم تكن سامعة بصفاء باطنهم وعرفانهم الإلهي المشتهر بين الناس حتّى ملأ الخافقين، فهلاّ اهتمّت بالتشرّف بخدمة أحدهم والاستضاءة بروحانيّته في أقلّ تقدير؟!

ومن الذين ترى الصوفيّة أنّه من أركانهم عبدالقادر الجيلاني. وسلسلة القادريّة تُنهي نفسها إليه. وقد نقلت عنه دعاوى كبيرة في مراتب العرفان والكشوف. وقد مات في سنة (560) أو سنة (561)(3).

وعلى أيّة حال، فلا شكّ لدى الشيعة في أنّ عبدالقادر الجيلاني أحد أئمّة الضلال وأركانهم. وكان منصوباً في مقابل أئمّتنا المعصومين(عليهم السلام).


(1) رياحين الشريعة 4/250 ـ 252.

(2) المصدر السابق 4/252.

(3) خدمات متقابل اسلام وايران: 654 بحسب الطبعة المذكورة آنفاً.

164

ويعجبني أن أذكر هنا عن عبد القادر الجيلاني قِصَّتين مع شيء ممّا علّق عليهما الشيخ العلاّمة الأميني(رحمه الله)(1):

الاُولى: ما ورد في مرآة الجنان(2) كالتالي:

روى الشيخ الإمام الفقيه العالم المقري أبو الحسن عليّ بن يوسف بن جرير بن معاضد الشافعي اللخمي في مناقب الشيخ عبدالقادر بسنده من خمس طرق، وعن جماعة من الشيوخ الجلّة أعلام الهدى العارفين المقتنين للاقتداء، قالوا: جاءت امرأة بولدها إلى الشيخ عبدالقادر، فقالت له: يا سيّدي إنّي رأيت قلب ابني هذا شديد التعلّق بك، وقد خرجتُ عن حقّي فيه لله عزّ وجلّ ولك، فقبله الشيخ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق. فدخلت أُمّه عليه يوماً فوجدته نحيلاً مصفرّاً من آثار الجوع والسهر، ووجدته يأكل قُرْصاً من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناءً فيه عِظام دجاجة مسلوقة قد أكلها، فقالت: يا سيّدي، تأكل لحم الدجاج، ويأكل ابني خبز الشعير؟! فوضع يده على تلك العِظام، وقال: قومي بإذن الله تعالى الذي يحيي العِظام وهي رميم، فقامت الدجاجة سويّة وصاحت، فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء.

قال الشيخ العلامة الأميني(رحمه الله) فيما قال تعليقاً على هذه القِصّة: هل لأكل خبز الشعير وما جَشِبَ من الطعام بمحضه أن يوصل السالك إلى مرتبة يحيي الموتى، وإن كان المولى ـ سبحانه ـ يعلم أنّه متى بلغ هذه المرتبة ألهاه أكل الدجاجة المسلوقة أكلاً لمّا؟! وهل الرياضة شرط في حدوث القوّة في النفس والملكات الفاضلة، وليست شرطاً في بقائها...؟!


(1) راجع الغدير 11/170 ـ 172.

(2) مرآة الجنان 3 / 356 بحسب تخريجة الغدير 11/170.

165

الثانية: ذكر الشعراني في الطبقات الكبرى(1) قال: كان الشيخ عبدالقادر الجيلاني(رضي الله عنه) يقول: أقمت في صحراء العراق وخرائبه خمساً وعشرين سنة مجرّداً سائحاً لا أعرف الخَلْق ولا يعرفوني، يأتيني طوائف من رجال الغيب والجانّ أُعلّمهم الطريق إلى الله عزّ وجلّ، ورافقني الخضر(عليه السلام) في أوّل دخولي العراق، وما كنت عرفته، وشرط أن لا أُخالفه، وقال لي: اقعد هنا، فجلست في الموضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين يأتيني كلّ سنّة مرّة، ويقول لي: مكانك حتّى آتيك، قال: ومكثت سنة في خرائب المدائن آخذ نفسي بطريق المجاهدات، فآكل المنبوذ ولا أشرب الماء، ومكثت فيها سنة أشرب الماء ولا آكل المنبوذ، وسنة لا آكل ولا أشرب ولا أنام، ونمت مرّة بإيوان كِسرى في ليلة باردة، فاحتلمت، فقمت وذهبت إلى الشطّ، واغتسلت، ثُمّ نمت فاحتلمت، فذهبت إلى الشط، واغتسلت، فوقع لي ذلك في تلك الليلة أربعين مرّة وأنا أغتسل، ثُمّ صعدت إلى الإيوان خوف النوم.

قال الشيخ الأميني(رحمه الله)تعليقاً على هذه القِصّة: اقرأه بإمعان وتبصّر في شأن هذا العارف معلّم طوائف من رجال الغيب والجانّ الذي اتَّخذوه الطريق إلى الله، وكان رفيق الخضر(عليه السلام)، وأعجب من إنسان لم يأكل سنة، ولم يشرب أُخرى، ويتركهما ثالثة، ولم تخرّ قواه حتّى يحتلم في ليلة شاتية أربعين مرّة، ويعبث به الشيطان بهذا العدد الجمّ وهو فان في الله، ولو كان اتَّفق له ذلك خلال تلكم الأيّام التي كان يأكل فيها الدجاجة المسلوقة، ويحيي عِظامها كما مرّ لكان يُعدّ بعيداً عن الطبيعة البشريّة، وما أطول تلك الليلة حتّى وسعت أربعين نومة ذات احتلام وأغسالاً بعدها على عدد الأحلام المتخلّلة بالذهاب إلى الشط والإياب إلى مقرّه ومنامه، وبعد ذلك كلّه تبقى منها برهة يصعد الشيخ إلى الإيوان خوفاً من النوم، ولعلَّه لو نام بعد نومته المتمّمة للأربعين لبلغ العدد الأربع مئة أو أكثر، ولم يكن الشيطان يفارق


(1) الطبقات الكبرى 1 / 110 بحسب تخريجة كتاب الغدير 11 / 171.

166

ذلك الهيكل القدسي واللعب به مهما امتدّت ليلته، وليس إحياؤه عظام الدجاجة بأعظم من هذه الكرامة، وإن هي إلاّ أحلام نائم نسجتها أيدي العرونة(1) غلوّاً في الفضائل. انتهى كلام الشيخ الأميني(رحمه الله).

وعلى أيّة حال، فنحن لا نهدف هنا إلى ذكر أعمدتهم وأركانهم، وإنّما كان هدفنا الإشارة إلى أنّ مدرسةً فُتِحت في أحضان أبناء العامّة، ثمّ سرت في وقت متأخّر ـ وفي أغلب الظنّ بعد غيبة الإمام(عليه السلام) ـ إلى الشيعة يكون أمرها مُريباً لنا؛ لأنّه لا يتحقّق هذا الوضع إلاّ لسببين: فتح مدرسة في مقابل مدرسة الأئمّة(عليهم السلام)، وإرواء العطش الروحي لدى السُنّة الذي لم يكن يُحَسّ به لدى الشيعة؛ وذلك لارتوائهم من معين الأئمّة المعصومين(عليهم السلام).

وهذا شبيه تماماً بما وقع في علم الأُصول من حُجيّة القياس والاستحسان والمصالح المرسلة لدى السُنّة دون الشيعة فهي عبارة عن مدرسة الرأي ـ في مقابل مدرسة الأئمّة(عليهم السلام) التي هي مدرسة النص ـ التجأ إليها السُنّة لفقرهم في مدارك تحصيل الأحكام، بينما لم تكن الشيعة تحسّ بهذا الفقر؛ وذلك لامتداد عصر النصّ عندهم بامتداد الأئمّة(عليهم السلام).

وأُؤكّد ـ هنا أيضاً ـ أ نّني لا أثِق بأنّ كلَّ من طرحته الصوفيّة بعنوان أنّه منهم أو من اركانهم فهو كذلك.

وختاماً أُشير إلى أنّ هناك نمطاً آخر ممّن تفترضهم الصوفيّة من أركانهم ودعائمهم يختلف عن نمط الأسماء التي مضى ذكرها، وهو عبارة عن أُناس سجَّل لهم التأريخ نوعاً من الورع والتقوى، ونوعَ تعاطف مع أئمّتنا(عليهم السلام) ممّا يشهد على أنّهم لم يكونوا أعداءً للأئمّة برغم عدم اعترافهم بإمامتهم(عليهم السلام)، ولا ندري هل كانوا حقّاً منتمين إلى مدرسة التصوّف ولو إرواءً لعطشهم الروحي، بعد عدم اعترافهم


(1) لعلّ الصحيح: الرعونة.

167

بإمامة الأئمّة، أو إنّ الصوفيّة لمّا رأوا أنّ التأريخ سجّل لهم الورع والتقوى اشتهوا أن ينتحلوهم؛ لكي يقووا بهم، أو لكي ينهوا سلاسلهم اِلى أُناس متقين. وأذكر هنا على سبيل المثال ثلاثة أسماء:

الأوّل: شقيق البلخي الذي يقال عنه: إنّه كان صوفيّاً، وكان تلميذاً لإبراهيم الأدهم(1). وقد سجّل له التأريخ(2) أنّه كان في بداية أمره صاحب ثروة ومكنة كبيرة، وكان يُكثر الأسفار للتجارة، فسافر في بعض السنين إلى بلاد الترك إلى بلد كان أهله وثنيين، فقال لأحد أكابرهم: إنّ عبادتكم لهذه الأصنام باطلة، فهي ليست بآلهة، وللمخلوق خالق سميع عليم لا يشبهه شيء، وهو الرازق لكلّ حيّ، فقال له ذاك الوثني:

إنّ قولك يخالف فعلك، قال شقيق: وكيف ذلك؟ فقال له الوثني: أنت ترى أنّ لك خالقاً يرزق المخلوقين وبرغم هذا الاعتقاد تتحمل عناء ومشقة السفر إلى هذه البلاد لطلب الرزق. فتنبّه شقيق على أثر هذه الكلمة، ورجع إلى بلده، وتصدّق بكلِّ ما يملك، ولازم العلماء والزهّاد إلى آخر حياته.

وهو وإن لم يذكر بشأنه الاهتداء إلى خطّ الإمامة الثابت لدى الشيعة، ولكن رُويت عنه قِصَّة طريفة مع الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، وهي القِصّة المرويّة في كتاب كشف الغُمّة لعليّ بن عيسى الإرْبِليِّ: من أنّ شقيقاً قال: «خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومئة، فنزلت القادسيّة، فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم فنظرت إلى فتىً حسن الوجه، شديد السُمرة، ضعيف، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة، في رجليه نعلان، وقد جلس منفرداً، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفيّة يريد أن يكون كَلاًّ على الناس في طريقهم، والله لأمضين إليه،


(1) خدمات متقابل اسلام وايران: ص 646.

(2) راجع منتهى الآمال: 2/207.

168

ولأُوبّخنّه، فدنوت منه فلمّا رآني مقبلاً قال:

يا شقيق، اجتنبوا كثيراً من الظنّ؛ إنّ بعض الظنّ إثم، ثمّ تركني ومضى. فقلت في نفسي: إنّ هذا الأمر عظيم، قد تكلّم بما في نفسي، ونطق باسمي، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنّه ولأسألنّه أن يحلّلني، فأسرعت في أَثَره، فلم ألحقه، وغاب عن عيني. فلمّا نزلنا واقصة وإذا به يصلّي، واعضاؤه تضطرب، ودموعه تجري، قلت: هذا صاحبي أمضي إليه واستحلّه، فصبرت حتّى جلس، وأقبلت نحوه، فلمّا رآني مقبلاً قال: يا شقيق، اتل ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾(1)ثمّ تركني ومضى. فقلت: إنّ هذا الفتى لمن الأبدال، لقد تكلّم على سرّي مرتين، فلمّا نزلنا زُبالة إذا بالفتى قائم على البئر، وبيده رَكوة يريد أن يستقي ماءً، فسقطت الرَّكوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه، فرأيته قد رمق السماء، وسمعته يقول:

أنْتَ ربّيْ إذا ظمئتُ إلى الماءِ
وقوتيْ إذا أردتُ الطعاما

اللهمّ سيّدي مالي غيرها فلا تعدمنيها.

قال شقيق: فو الله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها، فمدّ يده، وأخذ الرَّكوة وملأها ماءً، فتوضّأ وصلّى أربع ركعات، ثمّ مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الرَّكوة، ويحرّكه ويشرب، فأقبلت إليه، وسلّمت عليه، فردّ عليّ، فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك؟

فقال: يا شقيق، لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة، فأحسن ظنّك بربّك، ثُمّ ناولني الرَّكوة، فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر، فوالله ما شَرِبت قطّ ألذّ منه، وأطيب ريحاً، فشَبِعت ورَوِيت، وأقمت أيّاماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً، ثُمّ لم أرَه حتّى دخلنا مكّة، فرأيته ليلةً إلى جنب قبّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتّى ذهب الليل، فلمّا رأى الفجر جلس في


(1) السورة 20، طه، الآية: 82.

169

مصلاّه يسبّح، ثمّ قام فصلى الغداة، وطاف بالبيت أُسبوعاً، وخرج، فتبعته وإذا له غاشيةٌ وأموال، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه، فقلت لبعض من رأيته يقرب منه: من هذا الفتى؟ فقال هذا موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام) فقلت: قد عجبت أن يكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيّد».

وقد قيل بهذا الصدد:

سلْ شقيقَ البلخي عنه وماعا
ينَ منه وما الذي كان أبصر
قالَ لمّا حججتُ عاينتُ شخصاً
شاحبَ اللونِ ناحلَ الجسمِ أسمر
سائراً وحدَه وليس له زا
دٌ فما زلتُ دائماً أتفكر
وتوهمّت أنّه يسأل الناسَ
ولم أدرِ أنّه الحج الأكبر
ثمّ عاينته ونحن نزولٌ
دونَ قيد على الكثيب الأحمر
يضع الرملَ في الإناء ويشرَ
به فناديته وعقلي محيّر
أسقني شربة فناولني منه
فعاينته سويقاً وسكّر
فسألت الحجيج مَنْ يكْ هذا
قيل هذا الإمام موسى بن جعفر(1)

ولنعم ما قيل باللغة الفارسيّة:

به راه كعبه شخصى را بديدم
نزار و زرد رنگ و ناتوان بود
به تنهائى بدون توشه مى رفت
كه از تنهائيش دل بدگمان بود
گمانم آمد از اهل سؤال است
ندانستم كه جان كعبه آن بود
چو بنشستيم در نزديك چاهى
در آنجا تلّ سرخى هم عيان بود
به من از آب وخاكش شربتى داد
كه شهد سكّرم در كام جان بود
چو پرسيدم ز حالش قائلى گفت
امام هفتمين شيعيان بود
 


(1) البحار 48/80 ـ 82، وراجع أيضاً منتهى الآمال: 2/205 ـ 206.

170

ومن الروايات الطريفة ما ورد في روضات الجنّات(1) من أنّ شقيق البلخي سأله(2) جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) يوماً عن الفتوّة؟ فقال: «ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إن أُعطينا شكرنا، وإن مُنِعنا صبرنا. فقال الصادق(عليه السلام): الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل! فقال شقيق: يابن رسول الله ما الفتوّة عندكم؟ فقال: إن أُعطينا آثرنا، وإن مُنِعنا شكرنا».

والثاني: الفضيل بن عياض، وقد مضى فيما سبق في حديثنا عن النقطة الثانية ذكر قِصّة توبته لدى سماعه لقارئ يقرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾(3). فقال ياربّ قد آن. وقد ذكر النجاشي(رحمه الله) عنه أنّه عاميّ ثقة، وأنّ له نسخة يرويها عن الإمام الصادق(عليه السلام)(4).

وقد نقل المحدّث القمّي(رحمه الله) عن المحدّث النوري(رحمه الله) أنّه ذكر في المستدرك في شرح حال كتاب مصباح الشريعة: لا أستبعد أن يكون المصباح هو النسخة التي رواها الفضيل، وهو على مذاقه ومسلكه، والذي أعتقده أنّه جمعه من ملتقطات كلماته(عليه السلام) في مجالس وعظه ونصيحته، ولو فُرِضَ فيه شيء يخالف مضمونه بعض ما في غيره وتعذّر تأويله، فهو منه على حسب مذهبه، لا من فريته وكذبه، فإنّه ينافي وثاقته انتهى(5).

ومن الحكايات التي لها صلة بالفضيل بن عياض ما ورد في عيون أخبار


(1) روضات الجنّات 4/108.

(2) هكذا ورد فيما عندي من نسخة روضات الجنّات، وأظنّ أنّ الصحيح: سأل (يعني شقيق) جعفر بن محمّد(عليه السلام).

(3) السورة 57، الحديد، الآية: 16.

(4) راجع معجم رجال الحديث 13/331.

(5) راجع سفينة البحار 7/103.

171

الرضا(1) في الاحتجاج بين الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) وهارون الرشيد حيث وضّح الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)لهارون الرشيد: أنّهم(عليهم السلام) هم ورثة النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون بني العبّاس؛ وذلك أنّه ادَّعى هارون الرشيد أنّ بني العبّاس أولى بالإرث؛ لأنّ أبا طالب(عليه السلام) كان قد مات في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)والعبّاس بقي حيّاً إلى ما بعد الرسول، فحجب عليّاً(عليه السلام) عن الإرث؛ لأنّ العمّ يحجب ابن العمّ عن الإرث. فأجابه الإمام(عليه السلام) بأنّه قال عليّ(عليه السلام): «إنّه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو اُنثى لأحد سهم إلاّ للأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعمّ مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب إذن ففاطمة(عليها السلام) حجبت العبّاس عن الميراث» إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني أُميّة قالوا: العمّ والد رأياً منهم بلا حقيقة، ولا أثَر عن الرسول(صلى الله عليه وآله)، ومن قال بقول عليّ(عليه السلام) من العلماء فقضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول عليّ(عليه السلام)، وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين (يعني هارون الرشيد) المصرين الكوفة والبصرة، وقد قضى به ... فأمر هارون الرشيد بإحضار نوح بن دراج، وإحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثوري، وإبراهيم المدني، والفضيل بن عياض، فشهدوا أنّه قول عليّ(عليه السلام)في هذه المسألة، فقال لهم: فيما أبلغني بعض العلماء من الحجاز (يعني موسى بن جعفر(عليه السلام)) فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن دراج؟! فقالوا جسر نوح وجبنّا.

والثالث: بشر الحافي وقد جعلوه ـ أيضاً ـ من مشاهير العرفاء(2) وقد ثبّت التأريخ عنه توبته عن معاصيه على يد الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، وإن لم يثبّت له رجوعه إلى التشيّع وإلى إمامة الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)وقصته ما يلي:

روى العلاّمة الحلّي(رحمه الله) في منهاج الكرامة أنّه مرّ الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)ذات


(1) عيون أخبار الرضا 1/82 ـ 83 .

(2) راجع خدمات متقابل اسلام وايران: 647.

172

يوم في طريقه على باب بشر فسمع من البيت صوت الملاهي والأغاني والرقص، وخرجت من البيت جارية تحمل الوساخات التي تجمع من البيت بالمكنسة، فصبّتها في خارج البيت، فقال لها الإمام(عليه السلام) يا جارية هل صاحب هذا البيت حرّ أو عبد؟ فقالت: بل حرّ، فقال(عليه السلام): صدقتِ لو كان عبداً لكان يخشى مولاه. فلمّا رجعت الجارية إلى البيت كان سيّدها بشر جالساً على مائدة الخمر، فسألها عن سبب تأخيرها، فقصّت الجارية له ما جرى بينها وبين الإمام من الحديث لدى الباب، فأثّر ذلك في نفس بشر، وخرج حافياً إلى الإمام(عليه السلام)، وبكى واعتذر وتاب على يده(عليه السلام)(1).

وعلى أيّة حال، فلو ثبت أنّ بعض هؤلاء كانوا من الصوفيّة ومع ذلك كانوا يحبّون الإمام المعصوم(عليه السلام) أو يستفيدون من معينه بعض الفوائد، فهذا لا يبرّر صحّة طريقهم، فإنّ الإمام(عليه السلام) لا يبخل حتّى بهداية المنحرفين الذين لا يقبلون رفض انحرافهم من الأساس، ولكنّهم يقبلون ببعض الإرشادات الصحيحة.

 

النتيجة:

والذي نستنتجه من مجموع ما ذكرناه في النقطتين الرابعة والخامسة ما يلي:

إنّنا لا نقبل بما يسمّى بالعرفان ويكون مليئاً بالخُرافات، والذي يرادف التصوّف، أو يُفتَرض مرتبة أعلى من التصوّف، ولكنّنا في نفس الوقت لا نقبل بأنّ أمر الشريعة مقتصر على القشر الذي يكتفي به جَمْع ممن يُسمّون بالمقدّسين: من صلاة ظاهريّة، وصوم جافّ وما إلى ذلك « وَكم مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلاَّ الجُوعُ والظّمأ، وَكَم مِنْ قَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلاَّ السَّهَرُ والعَنَاءُ، حَبَّذا نَوْمُ الأكْيَاسِ


(1) راجع منتهى الآمال 2/190.

173

وإِفطارُهُمْ »(1).

وطبعاً نحن نسلّم أنّ الصلاة والصيام وسائر العبادات والأعمال لو اشتملت على الشرائط الفقهيّة صحّت وأجزأت، ولكنّنا نقول: إنّ روح الشريعة وأهدافها المقدّسة لا تقتصر على هذا القشر، وتلك الروح نسبتها إلى هذا القشر نسبة اللُّحمة إلى السُّدى، أو البطانة إلى الوجه، وكلاهما يشكّلان ثوباً واحداً، وهو: ثوب التقوى. قال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾(2) ودليلنا على وجود لبّ لهذا القشر، أو بطانة لهذا الوجه، أو لُحمة لهذا السُّدى أمران:

الأمر الأوّل: أحوال المعصومين(عليهم السلام) من بكائهم وتضرّعهم ومناجاتهم وخشيتهم وتوبتهم وما إلى ذلك، فياتُرى هل يُحتَمل بشأن المعصوم أن يتورّط في ترك هذه الصلاة الظاهريّة أو الصوم أو الحج أو في شرب الخمر أو الزنا نعوذ بالله أو الكذب أو النميمة أو ما إلى ذلك من المعاصي؟!

أفهل يعقل أن يكون سفير الله إلى عباده غير عارف بعظمة الله، أو غير مكتشف لحقيقة المعصية، وما تشتمل عليه من رجاسة ونجاسة؟! أم هل يعقل صدور المعصية ممّن وصل إلى عظمة الله، أو عَرف حقيقة المعصية وقبحها ودناءتها؟!

أتَرى أنّ إثبات عصمة المعصومين يتوقّف على براهين من قبيل: لولا عصمتهم لما أمكن الاعتماد على ما أبلغوه من الرسالة. أو إنّ عصمتهم أوضح من ذلك بداهة عدم تعقّل صدور المعصية ممّن ذاق حلاوة الاتّصال بالله، أو عرف حقائق المعاصي، فلا يُعقَل أن يفكّر أحدهم في معصية، كما لا يُعقَل أن يفكر أحدنا في أكل القاذورات مثلاً.


(1) نهج البلاغة: 684، رقم الحكمة: 145.

(2) السورة 7، الأعراف، الآية: 26.

174

وبعد أن كان الأمر كذلك بلاشك، قلْ لي بالله: ما معنى توبة المعصومين واستغفارهم؟! وما معنى قوله سبحانه وتعالى مخاطباً لأشرف المخلوقين(صلى الله عليه وآله): ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ...﴾(1)، وكذلك قوله عزّوجلّ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ...﴾؟!(2).

ثمّ قلْ لي: ما معنى ما قد يتراءى في بادئ الأمر من القسوة على نبيّ من الأنبياء في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(3). فالله الذي هو أرحم الراحمين، ويغفر الكبائر لأصحاب الكبائر والجرائم لأصحاب الجرائم لمن يشاء ما لم يكن شركاً، بل وحتّى الشرك للتائب ما معنى قسوته على نبيّ صدر منه الغضب لله على الأُمّة الكافرة، فدعا عليهم، فيؤدّبه على هذا العمل الذي يكون أشدّ تعبير عنه هو أن نفترضه تركاً للأولى، ويكون التعبير اللطيف عنه هو أن ندخله تحت عنوان حسنات الأبرار سيّئات المقربين، ويكون تأديبه بسجنه في بطن الحوت، ثُمّ يقسو عليه لولا كونه من المسبّحين بفرض اللبث في هذا السجن إلى يوم يبعثون؟!

ثُمّ قلْ لي: ما معنى بكاء إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) على ذنوبه، وبثّه وشكواه وقوله: «إلهي اُفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثُمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي...» إلى أن أنعم في البكاء، فلم يسمع أبو الدرداء له حساً ولا حركةً، قال: «... فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنّا لله وإنا إليه راجعون، مات والله عليّ بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة(عليها السلام): يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قِصّته؟


(1) السورة 40، غافر، الآية: 55.

(2) السورة 47، محمّد(صلى الله عليه وآله)، الآية: 19.

(3) السورة 37، الصافات، الآيتان: 143 ـ 144.

175

فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله ... »(1). أفهل كان عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه يُحتَمل بشأنه التورّط في الذنوب بالمعنى الذي نحن نفهمه للذنب: من كذب أو نميمة أو سرقة أو ما إلى ذلك؟!!

ثُمّ قل لي بالله عليك: ماهي خطايا إمامنا زين العابدين وسيّد الساجدين(عليه السلام)التي كان يقول عنها: «ويلي كلّما طال عُمُرِي كثرت خطاياي ولم أتب أما آن لي أن أستحي من ربّي ... » إلى أن قال طاووس: «ثُمّ خرّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه، وشلت برأسه، ووضعته على ركبتي، وبكيت حتّى جرت دموعي على خدّه، فاستوى جالساً وقال: من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟! فقلت: أنا طاووس يا بن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟! ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا، ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ، وأُمّك فاطمة الزهراء، وجدّك رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟! قال: فالتفت إليَّ وقال: هيهات هيهات يا طاووس دَع عنّي حديث أبي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى:﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ﴾(2)، والله لاينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدّمها من عمل صالح»(3).

وكذلك هلمَّ معي لنقف وقفةً قصيرة تجاه أحوال إمامنا موسى بن جعفر(عليه السلام)، فمن أيّ شيء كان يخاف على نفسه؟! وقد رُوِيَ عن حفص أنّه قال: ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر(عليه السلام)، ولا أرجى للناس منه، وكانت


(1) البحار 41/12.

(2) السورة 23، المؤمنون، الآية: 101.

(3) البحار 46/81 ـ 82 .

176

قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً(1) وما ذنبه بأبي هو وأُمي حينما كان يقول: «عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك» وكان يقول: «اللّهمَّ إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب» ويكرّر ذلك، وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضّل لحيته بالدموع(2) وفي نقل آخر كان يقول في سجوده: «قَبُحَ الذنب من عبدك، فليحسن العفو والتجاوز من عندك»(3).

آباؤنا وأُمهاتنا وأنفسنا فداءٌ لذنوبك يا أبا الحسن يا موسى بن جعفر(عليه السلام)، وليتنا كنّا نعقل ماهي ذنوبك كي نزيّن أنفسنا بها، ويكون ذلك لنا فخراً واعتزازاً، وبأمل أن نصبح بذلك من الأبرار؛ لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقربين(4).


(1) البحار 48/111.

(2) البحار 48/101.

(3) البحار 48/108.

(4) البحار 25 / 205. أمّا تفسير هذه العبارة: فنحن مشينا في هذا الكتاب على تفسير (حسنات الأبرار سيّئات المقربين) بمعنى: الصالح والأصلح، أو الحسن والأحسن، ولكن مقصود أهل العرفان هو: أنّ شيئاً ما حسن من اُناس واصلين إلى مستوى من العرفان، ولكنّه سيء من أناس واصلين إلى مستوى أعلى، فمثلاً يُدَّعى أنّ الفناء في بعض أسماء الله يكون حسناً لأُناس يرقّيهم هذا الفناء من مرتبتهم الفعليّة النازلة إلى أن يصلوا إلى مستوى يجب أن يرتقوا اِلى الفناء في ذات الله، ويصبح الاسم عندئذ ـ حجاباً ـ وكذلك التأسّف على الذنوب، والبكاء عليها، وجعلها نصب العين، وتأنيب النفس عليها، حسن في مقام تطهير النفس، وتخليصها من مفاسد تلك الذنوب، ثمّ بعد ذلك يصل العارف إلى مستوىً يصبح جعل الذنوب نصب العين والاستمرار على تأنيب النفس معكّراً لجو الحبِّ والأُلفة مع الله الذي يكون المفروض بالعارف الفناء فيه، فيصبح حجابا مانعاً عن الرقّي، فلا بدَّ من تركه.

ونحن بما أنّنا نرى أنّ هذه في أغلب الموارد تلفيقات من قبلَ الصوفيّة ومن تبعهم في ذلك غفلةً، ولم تُؤثَر عن أئمّتنا(عليهم السلام) الذين هم أعرف بطرق تهذيب النفس وترقيتها في سلم العرفان، ولا دلّ عليها في أغلب مواردها العقلُ، عدلنا عن استعمال هذه الجملة بذاك المعنى إلى المعنى الذي عرفت.

177

ثُمّ يا ليتنا كنّا نفهم ماهو مدى التذاذكَ بمناجاة الربِّ وعبادته حيث قلت في سجن فضل بن الربيع: «اللَّهمَّ إنّك تعلم انّني كنتُ أسألك أن تفرغني لعبادتكَ، اللَّهمَّ وقد فعلتَ، فلكَ الحمد»(1).

فنحن نعلم أنّك أنت وآباءكَ الطيبين وأبناءك الطاهرين كنتم تتعشّقون العمل الاجتماعي في سبيل الإسلام وإن أدّى ذلك إلى التضحية بالنفس حتّى أصبح القتل لكم عادةً وكرامتكم من الله الشهادة، فما هي لذّة المناجاة عندكَ التي ضاهت لذّة العمل الاجتماعي في سبيل المبدأ والعقيدة، فطلبت من الله أن يفرّغكَ لها؟!

ثُمّ يا ليتنا نعرف ماذا كنت تعاني في السجن حينما تبدّلت موجة دُعائك هذه المرّة من طلب الفراغ للعبادة إلى طلب الخلاص من السجن، فكنت تقول: «يا مُخلِّص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مُخلِّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مُخلِّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مُخلِّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مُخلِّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يدي هارون»(2).

وأيضاً ممّا ورد في توصيف مناجاته وتضرّعه وبكائه ما جاء في زيارة له(عليه السلام)حليفِ السجدة الطويلة، والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضراعات المتصلة ...(3).

ولا غرو أنّ تُؤثّر حالة عرفانه سلام الله عليه في تلك الجارية التي أرسلها هارون الرشيد إلى السجن بعنوان أن تخدم الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) فيتقلب حالها إلى حالة الانمحاء في عبادة الله. وفي أغلب الظنّ أنّ هارون كان قد بعثها إلى الإمام(عليه السلام) بتخيّل أن يفتنه بها، فانقلب السحر على الساحر.


(1) البحار: 48/107 ـ 108.

(2) البحار 48/219.

(3) منتهى الآمال 2/223.

178

والقِصّة على ما ورد في التأريخ ما يلي: قال العامري: «إنّ هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية خصيفةً لها جمال وضّاءة؛ لتخدمه في السجن، فقال(عليه السلام): قل له: ﴿ ... بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾(1) لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها. قال: فاستطار هارون غضباً وقال: ارجع إليه، وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف، قال: فمضى ورجع، ثُمّ قام هارون عن مجلسه، وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها، فرآها ساجدةً لربّها، لا ترفع رأسها، تقول: قُدّوس سبحانَك سبحانَك. فقال هارون: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأُتي بها وهي ترعد شاخصةً نحو السماء بصرها، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني الشأن البديع، إنّي كنت عنده واقفةً وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلمّا انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبّح الله ويقدّسه، قلت: يا سيّدي هل لك حاجةٌ أُعطيكها؟ قال: وما حاجتي إليك؟ قلت: إنّي أُدخلت عليك لحوائجك، قال: فما بال هؤلاء؟ قالت: فالتفتُّ فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أوّلها بنظري ولا أوّلها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصائِف لم أرَ مثل وجوههم حُسْناً، ولا مثل لباسهم لباساً، عليهم الحرير الأخضر والأكاليل والدرّ والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كلِّ الطعام، فخررت ساجدةً حتى أقامني هذا الخادم، فرأيت نفسي حيث كنت. قال: فقال هارون: يا خبيثة لعلّك سجدت فنمت، فرأيت هذا في منامك؟ قالت: لا والله يا سيّدي إلاّ قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك، فقال الرشيد: اقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا منها أحد، فأقبلت في الصلاة، فإذا قيل لها في ذلك؟ قالت: هكذا رأيت العبد الصالح(عليه السلام)، فسئلت عن قولها؟ قالت: إنّي لمّا عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد


(1) السورة 27، النمل، الآية: 36.

179

الصالح حتى ندخل عليه، فنحن له دونكِ. فما زالت كذلكَ حتّى ماتت، وذلك قبل موت موسى(عليه السلام) بأيّام يسيرة»(1).

وأقول أيضاً: بماذا تُفسّر وقفة الإمام المعصوم الحسين(عليه السلام) عشيّة عرفة حينما خرج من خيمته في عرفات بغاية التذلّل والخشوع، ووقف في مسيرة الجبل، وتوجّه إلى جهة الكعبة، ورفع يده حذاء وجهه كالسائل المسكين، وقال في جملة ما قال: «أنا الذي أسأت، أنا الذي أخطأت، أنا الذي هممت، أنا الذي جهلت، أنا الذي غفلت، أنا الذي سهوت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذي تعمّدت، أنا الذي وعدت، وأنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت، أنا الذي أقررت، أنا الذي اعترفت بنعمتك عليّ وعندي وأبوء بذنوبي فاغفرها لي...» وفي أواخر الحديث يقول الراوي: «ثُمّ رفع رأسه (يعني الحسين(عليه السلام)) ونظر إلى السماء وعيناه تقطران دموعاً كأنّهما سقاءان يجري منهما الماء، ونادى بأعلى صوته: يا أسمع السامعين، يا أبصر الناظرين...» إلى آخر الدعاء. قال: «وقد صغى كلّ من كان في محضره(عليه السلام) لدعائه، واكتفوا بقولهم آمين، ثُمّ ارتفعت أصواتهم بالبكاء معه(عليه السلام)حتّى غربت الشمس...»(2).

وبودّي أن أقف وقفةً قصيرةً على قوله(عليه السلام): «أنا الذي وعدت، وأنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت» فقل لي بالله عليك: من الذي يكون أوفى بالوعد والعهد من الإمام الحسين(عليه السلام)؟!

وهنا يناسب ذكر هذه القِصّة الطريفة:

ينقل(3) عن المرحوم السيّد ضياء الدين الدرّي أحد خطباء طهران البارعين:


(1) البحار 48/238 ـ 239.

(2) راجع المنتخب الحسني: 910 ـ 922.

(3) راجع كتاب روح مجرّد: 455 ـ 457.

180

أنّه خطب في آخر سنة من سني عمره في عشرة العاشور في طهران، وفي ليلة من الليالي (الثامنة أو التاسعة) سأله شابّ قبل الخطاب: ماهو المراد من هذا البيت (وهو موجود في ديوان الشاعر الفارسي المعروف حافظ):

مريد پير مغانم زمن مرنج اى شيخ
چرا كه وعده تو كردى واو بجا آورد

يعني: يا شيخ لا تنزعج منّي على أثر تخصّص إخلاصي بشيخ آخر غيرك؛ لأنّك أنت الذي وعدت، وهو الذي وفى.

فقال السيّد الدرّي سأجيب عن هذا السؤال على منبر الخطاب؛ كي يكون نفعه عامّاً. ثمّ ذكر على المنبر في خطابه: أنّ المقصود بالشيخ الأوّل هو: آدم(عليه السلام)الذي وعد بترك شجرة الحنطة وأخلف. والمراد بالشيخ الثاني هو: أمير المؤمنين(عليه السلام)الذي ترك الحنطة ولم يكن يشبع من الشعير.

ومات السيّد الدرّي في تلك السنة، ورأى ذلك الشاب السائل في عالم الرؤيا في السنة الثانية في نفس ليلة السؤال السيّد الدرّي، فقال له السيّد: أنت سألتني في السنة السابقة في مثل هذه الليلة عن تفسير البيت الفلاني، فأجبتك بهذا الجواب، ولكنّني الآن في هذا العالم لديّ جواب آخر، وهو: أنّ المقصود بالشيخ الأوّل إبراهيم(عليه السلام)الذي وعد بذبح ابنه. والمراد بالشيخ الثاني الحسين(عليه السلام)الذي وفى بتقديم ابنه عليّ الأكبر(عليه السلام) قرباناً في سبيل الله.

أقول: إن كان لابدّ أن يُحمَل البيت الفارسي الذي أشرنا إليه على معنىً حقّانيّ ومعقول، فهو منحصر في التفسير الأوّل الذي ذكره السيّد الدرّي في حال حياته. وأمّا التفسير الذي نقله ذاك الشاب عن عالم رؤياه فلا قيمة له؛ وذلك لأنّ سيّدنا إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام لا يستحقّ اللوم المفهوم من هذا البيت؛ فإنّه وإن كان لم يفعل ما أُمِر به من ذبح ولده، ولكن لم يكن في ذلك لا الخُلف ولا أقلّ توان في الامتثال، ولم يكن نسخ الله ـ عزّ وجلّ ـ لأمره تماشياً

181

لضعف نفسي في إبراهيم(عليه السلام) ونقص عرفاني فيه، بل قال الله تعالى بشأنه: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ...﴾(1) وقال ـ أيضاً ـ سبحانه عزّ وجلّ بشأن إبراهيم: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾(2) وقال جلّ وعلا ـ أيضاً ـ بشأنه: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ ...﴾(3).

نعم، مقام إمامنا الحسين(عليه السلام) ومستوى عرفانه سلام الله عليه مقام لا يضاهى، ومستوىً لا يدانى، وهل تعلمون أحداً أوفى بعهده ووعده من الحسين(عليه السلام) الذي جعل فاتحة شهداء الهاشميين ـ على أحد النقلين(4) ـ ابنه علياً الأكبر(عليه السلام)، وخاتمتهم في حدود فترة ما قبل وقوعه(عليه السلام) على الأرض ابنه عليّاً الأصغر(عليه السلام)وعندئذ قال: «هوّن عليّ مانزل بي أنّه بعين الله»(5). فمن أوفى بعهده مع الله من الحسين(عليه السلام)؟!

إذن فما معنى قوله(عليه السلام): «أنا الذي وعدت، وأنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت» ؟!

أفلا تستكشف معي ـ بعد هذا التطواف السريع في حالات المعصومين(عليهم السلام)من كلِّ ما أشرنا إليها من الأُمور ومن أشباهها الكثيرة الكثيرة التي تركنا ذكرها ـ أنّ للإسلام ظاهراً أُمِرَ به الجميع، وأنّ له روحاً شفّافاً لم يكن بالإمكان أن يؤمر به الجميع؛ إذ لو أُمِروا جميعاً بذلك لما نجى أحد إلاّ المعصومون وأولياء الله المخلَصون. فبقي ذلك المستوى من الروح والحقيقة مطمحاً للأنظار ومضماراً للسباق يصل بعض إلى بعض درجاته، والآخر إلى درجة أقوى أو أخفّ. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وكانت ذنوبهم صلَّى الله عليهم وعلى آلهم راجعة إلى تلك الدرجات.


(1) السورة 37، الصافات، الآية: 105.

(2) السورة 53، النجم، الآية: 37.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 124.

(4) راجع البحار 45/45.

(5) البحار 45/46 و 65.

182

وقد اقتفى كثير من علمائنا الأبرار بأئمّتنا الأطهار فيما أشرنا إليه من التضرّع والبكاء والوجد والشوق والخوف، وأذكر هنا لذلك نموذجين:

أوّلا: ما جاء في تكملة أمل الآمل(1) عن السيّد صدر الدين محمّد بن صالح بن محمّد بن إبراهيم أحد أجداد اُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله) ـ وكان عالماً عظيماً ـ نقلاً عن العالم الجليل الشيخ عبدالعالي الإصفهاني النجفي قال: كنت ليلة من ليالي شهر رمضان في حرم أمير المؤمنين(عليه السلام)، فجاء السيّد صدرالدين إلى الحرم، ولمّا فرغ من الزيارة جلس خلف الضريح المقدّس، فكنت قريباً منه، فشرع في دُعاء السحر الذي رواه أبو حمزة، فوالله مازاد على قوله: «إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك» وكرّرها وهو يبكي حتّى أُغمي عليه، وحملوه من الحرم وهو مغمىً عليه.

ثمّ قال صاحب تكملة أمل الآمل: كان(قدس سره) غزير الدمعة كثير المناجاة، ورأيت له أبياتاً في المناجاة يقول فيها:

رضاك رضاك لا جنّات عدن
وهل عدن تطيبُ بلا رضاكا

ثانياً: جاء في كتاب قصص العلماء(2) في ترجمة المرحوم الحاج السيّد محمّد باقر الشفتي المعروف بحجّة الإسلام، وكان هذا ـ أيضاً ـ من العلماء الكبار: أنّه كان يبدأ من نصف الليل بالبكاء والتضرّع والمناجاة إلى الصباح، وكان يدور في صحن مكتبته شبه المجنون محيياً ساعاته بالدعاء والمناجاة، لاطماً على رأسه وصدره، وكان حنينه وأنينه مستمراً بلا اختيار إلى الصباح.

وذكر ـ أيضاً ـ في ذاك الكتاب(3) نقلاً عن الحاج سليمان خان قاجار حاكم سبزوار: أنّ أحد أولاد السلاطين كان ساكناً في إصفهان، وقد حكى له ـ أي للحاج


(1) تكملة أمل الآمل: 239.

(2) قصص العلماء: 137.

(3) المصدر السابق: 138.