133

 

 

 

 

النقطة الخامسة

وهي الحديث عن بعض العلامات التي تميّز بين المتصوّفة

أو العرفاء الكاذبين والعرفاء الحقيقيين

 

فقبل الدخول في صلب البحث نشير إلى أمرين، ثمّ نعقّب بالإشارة إلى بعض تلك العلامات إن شاء الله:

1 ـ يقول بعض: إن الفارق بين التصوّف والعرفان هو: أنّ التصوّف طريق الترقّي وقوّة النفس، والعرفان هو طريق فناء النفس(1).

ويقول بعض آخر: إن العرفاء والمتصوّفة فرقة واحدة، وليسا فرقتين،إلاّأنّه حينما ينظر إليهم من زاوية الجانب الثقافي يسمّون باسم العرفاء، وحينما ينظر إليهم من زاوية الجانب الاجتماعي يسمّون باسم المتصوّفة(2).

2 ـ من الطريف ما جاء نقله في كتاب روح مجرّد(3) وملخّصه ما يلي:

سأل بعض السيّد هاشم الحدّاد: أنّه لقد ثبت أنّ بعض مرتاضي الهند من عبدة البقر يخبرون بحسب حركات البقر وسكناته عن بعض المغيّبات، كوقوع الثورة في كذا مكان من أقصى نقاط الشرق أو الغرب، ثمَّ تنكشف صحّة الخبر، فما علاقة


(1) روح مجرّد: 127.

(2) خدمات متقابل اسلام وايران: 629.

(3) روح مجرّد: 586 ـ 590.

134

ذلك بحركات البقر؟

فأجاب الحدّاد: أنّ ذلك راجع إلى الارتباط الوثيق الثابت فيما بين موجودات العالم، وبما أنّ هذا المرتاض وصل عن طريق الرياضة إلى مستوى كشف وحدة النظام الحاكم على العالم، أصبح باستطاعته الإخبار بواسطة أيّ حركة أو سكون ولو كان بشكل لا تُرى له أهميّة عن جميع التغييرات والتبديلات والحركات والسكنات في العالم. وكما أنّ هذا المرتاض الهندي ارتبط بواسطة الرياضات النفسانيّة بالروح الكلّية للبقر فاستطاع أن يرتبط بذاك النظام الواحد عن طريق أرواح البقر، فأصبح يخبر عن الرموز الخفيّة بواسطة شبكة البقر، كذلك بإمكان أحد أن يصل إلى نفس المستوى بعبادته للطير أو الهِرّ أو النجوم أو الشمس أو القمر وبالرياضة النفسانيّة التي توصله إلى النفوس الكلّية لأحد هذه الاُمور أو غيرها، فيستدل ـ عنذئذ ـ عن طريق ذلك الشيء الذي فنى فيه على ما يحكمه ذاك النظام الوحداني. ولكن بما أنّ الإنسان أشرف المخلوقات لا ينبغي له أن يفني نفسه في نفوس أنزل من نفسه أو فيما يساوي نفسه، فإنّ هذا الفناء مستلزم لسقوط الإنسان وانحطاطه عن درجة الإنسانيّة؛ ولهذا منع الإسلام عن عبادة البقر والنجم والحجر والملائكة والأجنّة وعبادة إنسان آخر وما إلى ذلك. أضف إلى ذلك أنّ الفناء في هذه المعبودات ـ غير الله سبحانه وتعالى ـ لا يوصل الإنسان في التجرد والعلم والإحاطة إلى أكثر من النفوس الحيوانيّة أو الفلكيّة أو الجماديّة، ولا يصل الشخص عن هذه الطرق إلى مستوى العلوم التوحيديّة والإلهيّة. أمّا من يفنى في ذات الله فتصبح علومه علوماً كلّيّة بتمام معنى الكلمة، وتجرّده تجرّداً غير متناه، ويصل إلى حقائق التوحيد والعرفان انتهى الكلام ملخّصاً.

ومن الطريف أن ما جاء في كلام الحدّاد هنا ـ إن صحّ نقل مصنف كتاب (روح مجرّد) ـ من مسألة الارتباط بالنفوس الكلّية للبقر أو الطير أو النجوم أو ما إلى

135

ذلك يذكّرنا بعقليّة الكلّيّ الهمداني.

وعلى أيّة حال فقد كان هدفي من نقل هذا الكلام أن يُعرف اعترافهم بأنّ مجرّد تقوية الروح في مقابل البدن شيء، والتقرّب إلى الله ـ تعالى ـ شيء آخر. فالأوّل يكون حتّى لدى الملحدين والمشركين، فكما أنّ هناك أُناساً يقوّون أجسامهم بالرياضات البدنيّة ولا فرق في ذلك بين المشرك والموحّد، كذلك يوجد هناك أُناس يقوّون أرواحهم بالرياضات الروحيّة ولو كانوا مشركين، فلو رأى أحد بعض التصرّفات الدالّة على قوّة الروح لدى من يدّعي العرفان لا يكون مجرّد ذلك كافياً في الاستدلال على كون طريقه صحيحاً في نظر الشرع، وكونه متقرّباً إلى الله سبحانه.

وأيضاً قال بعضهم: إنّ المكاشفات الروحيّة تحصل قبل الوصول إلى عالم التوحيد وعالم الله، وتكون مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا يدلّ ثبوتها على الكمال، ولا عدم ثبوتها على نفي الكمال(1).

أقول: وقد يتوهّم بعض: أنّ بعض الغرائب التي تصدر من الشخص نتيجة لتقوية الروح يعتبر أمراً من سنخ المعاجز، غاية ما هناك أنّها لا تسمّى معاجز؛ لأنّها لم تقترن بدعوى النبوّة أو الإِمامة، فهي كرامات لأولياء الله، في حين أنّ هذه الغرائب تصدر حتى من المرتاضين الملحدين أو المشركين.

وحلّ ذلك هو: أنّ الإعجاز يكون خرقاً لقوانين الطبيعة والذي لا يكون إلاّ من قبل خالق الطبيعة، أو من يكون حقّاً مَظْهراً للخالق من نبيّ أو إمام أو وليّ من أولياء الله، وفي الثالث يسمّى بالكرامة لا بالإعجاز. وأمّا الخوارق التي تصدر من المرتاضين والمتصوفين وما إلى ذلك فهي: وإن كانت خوارق لما اعتاد عليه الناس، ولكنّها ليست خوارق لقوانين الطبيعة، بل تكون هي نتيجة المشي على


(1) راجع تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني على الرسالة المنسوبة إلى بحر العلوم: 160.

136

بعض قوانين الطبيعة، ويصل إليها كلّ إنسان يلتزم بسلوك ذاك الطريق الطبيعي من دون فرق بين أن يكون مسلماً أو ملحداً أو مشركاً أو نحو ذلك.

وبعد هذا ننتقل إلى ذكر بعض المميّزات التي يكون العثور على واحد منها فيمن يدّعي العرفان كذباً كافياً في التمييز بينه وبين العرفاء الحقيقيّين. وذلك بما يلي:

1 ـ ارتكاب محرّمات الشريعة. وأذكر هنا لذلك أمثلة:

الأوّل: تجويز تركيز النظر على فتاة جميلة محرّمة مقدّمةً للحصول على قدرة جمع الحواسّ على نقطة واحدة كي ينتهي السالك ـ بعدئذ ـ إلى التركيز على ذات الله تبارك وتعالى. وهنا نتبرّك بنقل كلام سيّد العرفاء الحقيقيّين ـ والمرجع الديني العظيم، ومؤسّس وقائد الثورة الإسلاميّة الإِمام الخمينيّ قدّس الله روحه الزكيّة ـ الوارد في كتابه المبارك (الأربعون حديثاً)، وأنقل النصّ عن الترجمة التي كتبها السيّد محمّد الغروي حفظه الله(1)، وذلك ما يلي:

«ومن التصرّفات الخبيثة للشيطان إضلال القلب وإزاغته عن الصراط المستقيم، وتوجيهه نحو فاتنة(2) أو شيخ مرشد. ومن إبداع الشيطان الموسوس في صدور الناس الفريد من نوعه وهو: أنّه مع بيان عذب أو مليح وأعمال مغرية قد يعلق بعض المشايخ بشحمه أُذن فاتنة(3) جميلة، ويبرّر هذه المعصية الكبيرة، بل هذا الشرك لدى العرفاء(4) بأنّ القلب إذا كان متعلقاً بشيء واحد استطاع أن يقطع علاقاته مع الآخرين بصورة أسرع، فيركز كلَّ توجيهه أوّلاً على الفتاة الجميلة بحجّة أنّ القلب ينصرف عن غيرها، وأنّه منتبه إلى شيء واحد، ثمّ يقطع


(1) الأربعون حديثاً: ص473.

(2) تعبير المتن الأصلي الفارسي في كتاب چهل حديث: 532 «بصورت شوخى يا شيخى»، وكلمة (شوخ) تناسب الفاتن أيضاً ولا تختصّ بالفاتنة.

(3) في الأصل الفارسي: 532 «شوخى دلبر».

(4) في الأصل الفارسي: 532 «بلكه اين شرك عرفانى را».

137

هذا الارتباط الوحيد، ويركز قلبه على الحقِّ المتعالي. وقد يدفع الشيطان بإنسان أبله(1) «نحو إنسان أبله»(2) نحو محيّا مرشد مكّار وحش(3) بل شيطان قاطع للطريق، ويلتجئ في تبرير هذا الشرك الجليّ إلى أنّ هذا المرشد هو الإنسان الكامل، وأنّه لا سبيل للإنسان في الوصول إلى مقام الغيب المطلق إلاّ بواسطة الإنسان الكامل المتجسّد في المرآة الأحديّة للمرشد، ويلتحق كلّ منهما بعالم الجنّ والشياطين، ذاك المرشد بالتفكير في جمال معشوقه ومفاتنه إلى نهاية عمره، وهذا الإنسان البسيط بالانتباه الدائم إلى محيّا مرشده المنكوس حتّى آخر حياته، فلا تنسلخ العلقة الحيوانيّة عن المرشد، ولا يبلغ الإنسان الأبله الأعمى إلى منشوده ومبتغاه».

والثاني: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجّة استلزامهما لتكدّر الذهن المانع عن الوصول.

لاحِظ بهذا الصدد ما نقله صاحب كتاب روح مجرّد(4) عن الحدّاد، وحاصله ما يلي:

حوِّل النجاسة إلى غيرك لا إلى نفسك، فلو رأيت ـ مثلاً ـ أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدّيان بك إلى حالة الغضب، وتكدّر الفكر، وانكسار صفاء الذهن، وهذا أضرّ عليك ممّا يوجبه ارتكاب الجرم والحرام من الضرر على ذاك الفاعل، فاتركه على حاله، واحتفظ أنت بصفاء نفسك. انتهى ملخّصاً.

انظر إلى هذه التوصية للوصول إلى مدارج كمال النفس وتحصيل صفائها بترك


(1) في التعبير الفارسي: 532 «بعض شوخ چشمان ابله را».

(2) هذه الجملة كأنّها زيادة من القلم، فإنّها غير موجودة في المتن الأصلي الفارسي.

(3) ورد في الأصل الفارسي (ديوسيرت).

(4) روح مجرّد: 596.

138

واجب من الواجبات؟!

والثالث: ما اشتهر عن الصوفيّة وعن محافلهم من الرقص والسماع تحصيلاً لما يسمّى بالحال أو الوجد حتّى أنّه نُقل عن الشيخ أبي سعيد أبي الخير: أنّه كان ذات يوم في ضيافة محمّد القائيني، وانشغل هو وجماعته بالسماع والوجد والرقص والصياح، وإذا بصاحب البيت وهو محمّد القائيني أبلغهم حضور وقت الصلاة فأجاب الشيخ نحن في الصلاة، فبقوا مستمرين في رقصهم وسماعهم، وانصرف صاحب البيت إلى الصلاة(1).

ولنعم ما قيل:

ألا خيل التصوّف شرّ خيل
لقد جئتم بشيء مستحيل
أفي القرآن قال لكم إله
كلوا مثل البهائم وارقصوا لي
اگر مرد خدا آن مرد چرخى است
يقين دان كاسيا معروف كرخى است
وگر كف بر دهن عرش است معراج
يقين ميدان شتر منصور حلاج(2)

والرابع: ارتكاب المحرّمات بهدف السقوط عن أعين الناس؛ كي يسلم هذا المرتكب من آفات الجاه والرياء. وأقتصر هنا على ما رواه المحدّث القمّي (رحمه الله)في سفينة البحار(3) عن كتاب ابن الجوزي الذي ألّفه في الردّ على الصوفيّة باسم (تلبيس إبليس)، والنصّ ما يلي:

«وقد تسمّى قوم من الصوفية بالملامتيّة، فاقتحموا الذنوب فقالوا: مقصودنا: أن نسقط من أعين الناس، فنسلم من آفات الجاه والمرائين. وهؤلاء مثلهم كمثل رجل زنى بامرأة فأحبلها، فقيل له: لم لا تعزل؟ فقال: بلغني أنّ العزل مكروه، فقيل


(1) جلوه حقّ لآية الله مكارم: 189 ـ 190 نقلاً عن كتاب أسرار التوحيد: 186.

(2) سفينة البحار 5/210، وسيأتي إن شاء الله التشكيك في كون المعروف الكرخي منهم.

(3) سفينة البحار 5/209.

139

له: وما بلغك أن الزنى حرام؟!».

وفي ختام الحديث عن إرتكابهم لمحرمات الشريعة أنقل لكم ـ أيضاً ـ عن سفينة البحار(1) ما رواه عن كتاب (تلبيس إبليس) لابن الجوزي بشأن الغزالي، والنصُّ ما يلي:

«قال في كتاب (تلبيس إبليس) ص 597 وقد حكى أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء قال: كان بعض الشيوخ في بداية إرادته يكسل عن القيام، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل؛ لتسمح نفسه بالقيام عن طوع. قال: وعالج بعضهم حبّ المال: بأن باع جميع ماله ورماه في البحر، إذا خاف من تفرقته على الناس رعونة الجود ورياء البذل. قال: وكان بعضهم يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس؛ ليعوّد نفسه الحلم. قال: وكان آخر يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الموج ليصير شجاعاً.

قال المصنف (أي صاحب تلبيس إبليس): أعجبُ من جميع هؤلاء عندي أبو حامد كيف حكى هذه الأشياء ولم ينكرها؟! وكيف ينكرها وقد أتى بها في معرض التعليم؟! وقال قبل أن يورد هذه الحكايات: ينبغي للشيخ أن ينظر إلى حالة المبتدئ، فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر حاجته أخذه وصرفه في الخير، وفرّغ قلبه منه حتّى لا يلتفت إليه، وإن رأى الكبرياء قد غلب عليه أمره أن يخرج إلى السوق للكدّ، ويكلّفه السؤال والمواظبة على ذلك، وإن رأى الغالب عليه البطالة استخدمه في بيت الماء وتنظيفه، وكنس المواضع القذرة، وملازمة المطبخ ومواضع الدخان، وإن رأى شره الطعام غالباً عليه ألزمه الصوم، وإن رآه عزباً ولم تنكسر شهوته بالصوم أمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز، وليلة على الخبز دون الماء، ويمنعه اللحم رأساً. قلت (يعني ابن الجوزي): وإنّي لأتعجّب من أبي


(1) سفينة البحار 6 / 625 ـ 626.

140

حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة، وكيف يحلّ القيام على الرأس طول الليل، فينعكس الدم إلى وجهه ويورثه ذلك مرضاً شديداً؟! وكيف يحل رمي المال في البحر وقد نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن إضاعة المال؟! وهل يحلّ سبّ مسلم بلا سبب؟! وهل يجوز للمسلم أن يستأجر على ذلك؟! وكيف يجوز ركوب البحر زمان اضطرابه، وذلك زمان قد سقط فيه الخطاب بأداء الحج(1) ؟!وكيف يحل السؤال لمن يقدر أن يكتسب؟! فما أرخص ما باع أبو حامد الغزالي الفقه بالتصوّف».

وقال أيضاً في ص 379 (أي من كتاب تلبيس إبليس) «وحكى أبو حامد الغزالي عن ابن الكريني: أنّه قال: نزلت في محلّة فعرفت فيه بالصلاح، فدخلت في الحمّام، وعيّنت على ثياب فاخرة، فسرقتها ولبستها، ثُمّ لبست مرقعتي فوقها، فخرجتُ فجعلتُ أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني فنزعوا مرقعتي، وأخذوا الثياب، وصفّعوني، فصرت بعد ذلك اُعرف بلصّ الحمام، فسكنت نفسي. قال أبو حامد: فهكذا كانوا يروّضون أنفسهم حتّى يخلّصهم الله من النظر إلى الخلق، ثُمّ من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال، ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه(2) مهما رأوا صلاح قلوبهم، ثُمّ يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمام.

قلت ( يعني ابن الجوزي ): سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء، فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل، والعجب أنّه يحكيه


(1) هذا راجع إلى الأزمنة السالفة التي كان ينحصر فيها طريق الحج من بلد يفصله البحر عن الحج في ركوب السفينة.

(2) يناسب المقام هذا البيت: من ديوان حافظ، حرف اللام:

حلاّج بر سردار اين نكته خوش سرايد
از شافعى نپرسند امثال اين مسائل
141

ويستحسنه، ويسمّي أصحابه أرباب الأحوال، وأيّ حالة أقبح وأشدّ من حال من يخالف الشرع، ويرى المصلحة في المنهيّ عنه وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي، أوَقد عدم في الشريعة ما يصلح قلبه حتّى يستعمل ما لا يحلّ فيها ؟ ! وكيف يحلّ للمسلم أن يعرّض نفسه لأن يقال عنه: سارق؟! وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ومحو ذلك عند شهداء الله في الأرض؟! ثُمّ كيف يجوز التصرف في مال الغير بغير إذنه؟! ثُمّ في نصّ مذهب أحمد والشافعي: أن من سرق في الحمّام ثياباً عليها حافظ وجب قطع يده، فعجبي من هذا الفقيه المستلب عنه الفقه بالتصوّف أكثر من تعجّبي من هذا المستلب الثياب» انتهى.

2 ـ دعوى ما يكذّبه الوجدان، وهو الضمير الذي أنعم الله ـ تعالى ـ به على الإنسان والذي لا يخطأ، والمفروض بالعرفان الصادق أن يذكي الضمير ويجلّيه، وينفض عنه الغبار، لا أن يعكّر صفاءه، ويسمّم أجواءه، وإن شئت فأدخل هذا البند فيما سيأتي إن شاء الله من قسم الخرافات، كقول من يقول: يصل السالك إلى مقام لا يعرف إلاّ ربّه، بل الربّ هو الذي يعرف نفسه(1).

وهذا الكلام له أحد منشأين: فإمّا أنّ صاحبه يعتقد بوحدة الوجود، بمعنى: إنكار أي وجود آخر غير وجود الله حتّى الوجود التعلقي.

وقد أجابوا في الفلسفة عن ذلك بما مضى حديث مختصر عنه في الحلقة الأُولى من هذا الكتاب من توضيح: أنّ وجود المخلوقين وجود تعلقي، وبالإضافة الإشراقيّة لا المقوليّة التي تتطلب استقلال أحد الوجودين عن الآخر مع وجود رابط بينهما بل هو عين الربط، وهذا بالدقّة غير دعوى نفي الوجود نهائيّاً عن المخلوق.

وعلى أيّ حال، فنحن هنا نكتفي بدلالة الوجدان والضمير على وجود ضالٍّ


(1) راجع لبّ اللباب: 162.

142

أراد الله أن يهديه بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ولو كان الربّ هو الذي يعرف نفسه وليس غيره فما معنى إرسال الرسل وإنزال الكتب ؟ ! وما معنى ما يدّعيه صاحب هذا الكلام من تربية النفس بالعرفان، وأيّ نفس يربّيها ؟ وهل يريد بتربية نفسه تربية العدم المحض المتمثّل في التعيّنات الماهويّة، أو تربية الله سبحانه وتعالى؟!

وإمّا أنّ صاحبه يعتقد أنّه وإن كان هو غير الله إلاّ أنّه بالتربية والرياضة والعرفان والسلوك يفنى في الله بالوصول إليه بخرق الحُجب، فلا يبقى غير الله، فيكون الربّ هو الذي يعرف نفسه(1).

والخطأ الفلسفي في هذا الكلام كما مضى هو: أنّ التجرد عن البدن والجوانب المادّية لو تمّ بمعنى الكلمة فالجانب المجرّد من النفس لم يكن نقصه وحدّه مخصوصاً بما كان معه من البدن والمادّة وبنقائصهما وأعراضهما، بل نفس إمكانه وحدوثه وفقره بما هو، ومحدوديّةُ ذاته والتي كلّها تكون علائم تدلّ على النقص الذاتي الذي يمنع عن وصوله إلى مقام الربّ تعالى أُمورٌ ذاتيّة له، فلا يمكنه التجرّد عنها، وذاتيّةُ النقص في الممكن المخلوق ـ أيضاً ـ أمرٌ وجداني.

ويقول بعض(2): إنّ التجرّد الكامل ومن جميع الجهات لا يحصل إلاّ بعد


(1) أُنظر الفارق الكبير بين تفسير خرق الحُجُب والفناء الكامل بمعنى أنّه لم يبق شيء غير الربّ، والربّ هو الذي يعرف نفسه، وبين ما يقوله آية الله جوادي آملي (حفظه الله) في تقدمته لكتاب سرّ الصلاة في الصفحة الثامنة عشر: من أنّ الخرق النهائي عبارة عن أن لا يرى الإنسان نفسه، وليس عبارة عن الانعدام، فإنّ الانعدام ليس كمالاً، وإنّما الكمال هو عدم الرؤية، والسالك يصل في مقام الفناء التامّ إلى مستوى أنّه لا يرى شيئاً غير الله، فلا يرى نفسه، ولا غيره ولا عدم رؤيته للغير، ولا رؤيته للحقّ...

(2) راجع تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني على الرسالة المنسوبة لبحر العلوم: 39 ـ 40، والرسالة تسمّى سير وسلوك.

143

الموت؛ وذلك لأنّه في هذا العالم نرى أنّه لو دخل السالك إلى عالم اللاهوت، وفنى في جميع الأسماء بما فيها اسم (أحد)، وحصل له البقاء بعد الفناء، وهو البقاء بالمعبود، فعندئذ وإن كان قد حصل له التجرد بقدر الاستعداد الإمكاني، ولكنّه لم يحصل له التجرد الكامل ومن جميع الجهات حتّى عن الاستعداد الإمكاني؛ وذلك لأنّه ـ برغم أنّ علمه عندئذ علم إلهي، ويكون مع كلِّ موجود، ويكون مطلعاً على الماضي والمستقبل ـ تكون له علاقة إجماليّة بتدبير البدن، وهذا يمنعه عن حصول التجرّد التامّ فيما فوق الإمكان. نعم، بعد الموت تنقطع علاقته بالمرّة عن البدن، فيحصل له التجرّد التامّ اللاهوتي.

ثمّ ينقل صاحب هذا الكلام عمّن يسمّيه بالشيخ وليّ الله الدهلوي: أنّه قال في كتاب الهمعات: أَفْهَموني أنّ قطع علاقة الروح عن البدن يتمّ بعد خمس مئة سنة من الموت.

أقول: إنّ إمكان الإنسان وحدوثه ذاتيّان للإنسان، فلا معنى لانفصالهما عن الإنسان حتّى بعد الموت، فحتّى التجرّد بعد الموت لا يعني الفناء الحقيقي في الله.

وخلاصة الكلام: أنّ الانمحاء والاضمحلال بمعنى انشغال الذهن بالله وحده، أو عدم رؤية شيء غير الله بعين البصيرة شيء قد يحصل بالرياضة، أمّا الاندكاك الواقعي لواقع الروح أو لواقع الجسم والروح من باب أنّ العالم بأجمعه تجلٍّ من تجلّيات الربّ فهذا أمر سابق على كلّ الرياضات، وليس أمراً يحصل بالرياضة. وأمّا الاندكاك بمعنى ارتفاع الحدود الإمكانيّة والماهويّة والنقائص التابعة لذلك جسماً أو روحاً، أو جسماً وروحاً فهذا من المستحيلات؛ لأنّها أُمور ذاتيّة للممكن الذي لابدّ من افتراض وجود تعلّقي له، فلا معنى لانفكاكها عن السالك ووصول السالك إلى الربّ.

3 ـ الاحتيال والمخادعة بما قد ينطلي على بعض السذّج. وعلى سبيل المثال أُشير

144

إلى قصّتين مرويّتين في كتاب روح مجرّد عن الحدّاد:

الاُولى(1): كان الحدّاد يسافر مع خمسة آخرين من كربلاء إلى الكاظميّة، فطالبهم السائق أو صانعه بأُجرته، وقال: كم نفر أنتم؟ فقال الحدّاد: خمسة، وقال السائق: بل أنتم ستّة، فحسب الحدّاد الركّاب وقال مرّة أُخرى: نحن خمسة، وكرّر الصانع مرّة أُخرى: أنتم ستّة، قال الحدّاد: (خوي ما تشوف؟! هاي(2) واحد أُوهاي اثنين أُوهاي ثلاثة أُوهاي أربعة أُوهاي خمسة بعد شتگول أنت).

فقال له: (يا سيّد أنت ما تحاسب(3) نفسك). وقد قال الركّاب: من الغريب أنّ الحدّاد كان قد فقد نفسه إلى حدّ لم يلتفت إلى نفسه حتّى بعد قول صانع السائق: (أنت ما تحاسب نفسك)، فقد كان الحدّاد غارقاً في عالم التوحيد، ومنصرفاً عن الكثرة إلى مستوى لم يكن يمكنه برغم كلّ هذا الالتفات إلى بدنه وحسابه في زمرة الركّاب.

يقول مؤلّف الكتاب ( أي كتاب روح مجرّد ): إنّ حضرة السيّد الحدّاد ذكر لي بنفسه أنّه في تلك الحالة كان عاجزاً تماماً عن عدّ نفسه. وأخيراً قال له الركّاب: (أنت احسب نفسك) وإنّ الحقّ مع الصانع، فأعطيتُه أُجرة ستّة أنفار لا للعلم بصحّة كلامه، بل تعبّداً برأي الرفقاء.

أقول: لا أدري: أنّ عدم عدّ نفسه على رغم أنّه كان يعدّ الآخرين ويحسبهم هل كان نتيجة أنّ البدن كان مضمحلاً وفانياً ومنعدماً حقيقة؟ فهذا خلاف ما يمكن أن يفترض الوصول إليه بالرياضة، فإنّ ما يمكن أن يفترض الوصول إليه بالرياضة


(1) روح مجرّد: 75.

(2) يبدو أنّ كلمة (هاي) استعملت هنا بدلاً عن كلمة (هذا) من باب جهل مؤلّف الكتاب باللغة العربيّة الدارجة.

(3) وهذا خطأ آخر من المصنّف نتيجة الجهل باللغة، فهو يقصد: ما تحسب.

145

هو: ذوبان النفس في الله تعالى مثلاً. لا ذوبان البدن وفناءه حقيقة، أو كان نتيجة أنّ ذوبانه في ذات الله وانغماسه في عالم التوحيد أنساه الكثرة أو أعجزه عن رؤية الكثرة؟! فعندئذ كان المفروض به أن يقول: لا أحد في السيارة، فلا معنى لمطالبة الاُجرة، أمّا عدّ الآخرين مع عدم عدّ نفسه، ونسيان نفسه من دون نسيان الآخرين فلم يعرف وجهه.

وأمّا لو كان المقصود: أنّه لا وجود حقيقي إلاّ لله فالمفروض ـ أيضاً ـ إنكار أصل الأجرة والمؤجر والمستأجر.

الثانية (1): سافر الحدّاد إلى إيران، وكان من البلاد التي زارها همدان، وكان الرفقاء قد استأجروا له بستاناً في خارج البلد، فكان يقضي النهار في ذاك البستان، ويعود بالليل إلى همدان في بيت الحاج محمّد حسن البياتي، وزار يوماً من الأيّام المقبرة الواقعة في بهار همدان، وزار فيها قبر المرحوم الشيخ محمّد البهاري، يقول مؤلف الكتاب: قال لي حضرة السيّد: إنّي كنت سامعاً أن المرحوم الأنصاري كان يزور كثيراً قبر المرحوم الحاج الشيخ محمّد البهاري، وقد كان يأتي أحياناً من همدان إلى هذا المقصد مشياً على الأقدام رغم فاصل فرسخين، وقد تبيّن لي الآن: أنّ هذا لم يكن لأجل الاستمداد من روح هذا المرحوم وروحانيّته، وأنّ هذا المرحوم لم يكن له ذلك المقام الذي يستمدّ منه المرحوم الأنصاري ويلقى لديه ضالّته، بل المرحوم الأنصاري كان يفحص عنّي، ويستشمّ رائحتي على أساس مجيئي بعد ذلك في هذه الساعة إلى هذا المكان.

أقول: لو كان المرحوم الأنصاري يهدف إلى استشمام رائحة الحدّاد الذي سيأتي في المستقبل إلى هذا المكان أفلم يكن يدرك أنّه لا حاجة له إلى إتيان هذه المقبرة لهذا الهدف؛ إذ كان الأفضل له أن يأتي إلى البستان الذي استوجر له في


(1) روح مجرّد: 155 ـ 157.

146

خارج همدان، وقضى فيه أياماً، أو إلى بيت الحاج محمّد حسن البياتي الذي قضى فيه الحدّاد ليالي؟!

4 ـ صدور الخرافات ممن يدّعي السلوك والعرفان غير الحقيقي. وأذكر لذلك بعض الأمثلة:

أ ـ يُروى عن الحدّاد: أنّه كان يفرّق بين البصاق والنخامة: بكراهة إلقاء الأوّل في بيت الخلاء، وعدم كراهة إلقاء الثاني فيه؛ بدليل أنّ البصاق من أجزاء بدن المؤمن، فلا ينبغي أن يختلط بالقاذورات، والنخامة من أجزاء بدنه، وهي ـ أيضاً ـ من الفضلات كما هو الحال في القاذورات، فلا بأس باختلاطها معها(1).

ب ـ يُروى عن الحدّاد(2): أنّه كان يتعجّب من بكاء الناس وحزنهم في أيّام عاشوراء، وهو ـ أيضاً ـ كان يبكي، ولكنّه كان يبكي بكاء شوق وليس بكاء حزن؛ وذلك لأنّه كان يرى هذه الأيّام أيّام فرح وسرور؛ لأنّها أيّام ظفر أهل البيت، وورودهم في حريم الله وحرم الأمن والأمان، وطيّهم الدرجات والمراتب، ووصولهم إلى أعلى درجات ذروة الحياة الأبديّة.

ثُمّ يحاول صاحب كتاب (روح مجرّد) الراوي لهذه القِصّة توجيه هذا الكلام من قبل الحدّاد: بأنّ هذا الكلام صدر منه في أيّام طيّه لعوالم الكثرات، ووصوله إلى الفناء المطلق في الله، وبكلمة أُخرى في أيّام انتهائه من السفر إلى الله، وانشغاله بالسفر الثاني، وهو: السفر في الله، أمّا بعد أن انتهى من الأسفار الأربعة وآخرها البقاء بالله فتشكل بأشكال عوالم الكثرة والوحدة في وقت واحد، وأدّى حقّ كلّ عالَم من العوالم بالذي ينبغي ويناسب ذاك العالم، فعندئذ كان يُرى في أواخر عمره أنّه يبكي في مجالس الحسين(عليه السلام) بكاء حزن وحرقة قلب حيث كان


(1) روح مجرّد: 112.

(2) روح مجرّد: 84 ـ 92.

147

متّصفاً بالصفات الخَلْقيّة في عين اتِّصافه بصفات الوحدة الربوبيّة، كما أنّ الحسين(عليه السلام) كان كذلك، فمن ناحية كان من خصائصه هو وبعض مَن معه أنّه تشرق ألوانهم بتلك المصائب، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت، ومن ناحية أُخرى كان يقول لبنته سكينة: لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام منّي الروح في جثماني.

أقول: ليكن السالك الذي يسافر إلى الله ثمّ يفنى في الله تنكشف لديه الحقائق التي لم تكن تنكشف بالعقل، ولكن هذا لا يعني أن يفقد الانكشافات الحاصلة بالعقل قبل السلوك إلى أن يرجع مرّة أُخرى إلى عالم الكثرة، والعقل يعرف قبل السلوك أن قضيّة عاشوراء عملة ذات وجهين: فمن أحد الوجهين بطولة وعزّ ومقام وفخر واعتزاز، ومن الوجه الآخر مصيبة ورزيّة وفجيعة عظمى، وليس من لوازم السلوك الحقيقي والعرفان الإلهي فقدان منكشفات العقل بالأخص المنكشفات الدينيّة والايمانيّة والعرفانية كأوجه عُملة عاشوراء الحسين (عليه السلام).

ولعلّ قائلاً يقول: إنّ الحدّاد كان غارقاً في عالم الفناء غافلاً عن عالم الكثرة، وعُملة عاشوراء إنّما تكون مصيبة ورزيّة بوجهها الخَلقِي وبلحاظ الكثرة؛ ولذا لم يكن يدرك هذا الجانب من العُملة، ولكنّني لا أدري أنّه لو كان الأمر كذلك كيف أدرك أساساً كون قِصّة عاشوراء تعتبر مصيبة عند الناس، ويبكون لأجلها بكاء الحزن؟! ولِمَ لم يغفل عن ذلك؟! فمثلاً مَنْ يغرق في الله، ويخشع له لدى الصلاة، ويفنى فيه لا يلتفت إلى الناس وإلى غير الله، لا أنّه يلتفت إليهم ويتعجب من انشغالهم بغير الله.

ج ـ روى صاحب كتاب (نشان از بى نشانها) المسمّى بعلي المقدادي الإصفهاني قِصّة بشأن أبيه الحاج الشيخ حسن عليّ الإصفهاني والذي يعتبره من العرفاء الكبار، والقِصَّة يرويها عن السيّد أبي الحسن المرتضوي: إنّه كان يقول:

148

كنت في مشهد الرضا(عليه السلام) بخدمة الحاج الشيخ حسن عليّ إذ جاءه رجل وقال: كنت اقرأ الفاتحة على مزار الشيخ الطبرسي وإذا بعقرب لسعتني في يدي، فسأله الشيخ: اين صار العقرب؟ فقال: دخل في ثقب. قال الشيخ: إنّ هذه العقرب قد ضلّت عن بيتها اذهَبْ إلى ذاك المكان، واجعل فمك قريباً من ذاك الثقب، وقل: أمر الحاج الشيخ حسن عليّ بأن تخرجي من الثقب، فإذا خرجت من الثقب احملها برفق، وضعها في باطن كفّك، واذهب بها إلى المقبرة الفلانيّة، واتركها قريباً من الثقب الفلاني؛ كي تُشفى يدك، ثمّ ارجع واخبرنا عن عملك.

قال الذي حكى هذه القِصّة: إنني كنت بخدمة الشيخ إذ رجع ذاك الرجل، وأخبر أنّه فعل ما أمره الشيخ به، وشفيت يده(1).

د ـ روي في كتاب (روح مجرّد)(2) عن الحدّاد: أنّه سُئِل ذات يوم عن اللعن الكثير الشديد الوارد في زيارة عاشوراء ودعاء علقمة ونحو ذلك كيف يلتئم مع روح الإِمام المعصوم الذي هو منبع الرحمة والمحبّة؟!

فأجاب الحدّاد: أنّ كلَّ لعن من هذا القبيل يكون من الرحمة على الملعون، وطلب الخير له؛ لأنّه بقدر ما تطول حياته وتكثر نعمه وقدراته تزداد معاصيه، ويشتدّ عذابه، ويوجب الإضرار بغيره ـ أيضاً ـ عن طريق الإجرام فسلب هذه النعم أو القدرات أو الحياة عنه خير له ولغيره.

أقول: لا أدري كيف ينسجم هذا الكلام مع آيات من القرآن من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنفُسِهِم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾(3).


(1) نشان از بى نشانها: 70 ـ 71.

(2) روح مجرّد: 113 ـ 115.

(3) السورة 3، آل عمران، الآية: 178.

149

2 ـ ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾(1).

3 ـ ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾(2).

فيا ترى هل إن الله تعالى يـملي لهم ليزدادوا إثماً ولكن المعصوم يلعنهم كي لا يزدادوا إثماً؟!

هـ ـ ورد عن ناسخ الرسالة المنسوبة إلى بحر العلوم(3) في مقام بيان الطريق الذي سلكه هو من الأذكار من أجل سلوك مدارج العرفان: أنّه كان يتوسّل أحياناً بنجمة عطارد؛ لأنّ هذه النجمة تمدّ من روحانيتها أهل الأسرار، وينبغي للسالك في بداية أمره حينما ينظر إليها بعد غروب الشمس أو قبل طلوعها لدى إمكانية رؤيتها أن يسلّم عليها، ويؤخّر خطوة ويقول:

عطارد أيم الله طال ترقبي
صباحاً مساءً كي أراك فأغنما

ثمّ يؤخّر خطوة أُخرى ويقول:

وها أنا فامنحني قوىً أُدرك المنى
بها والعلوم الغامضات تكرّما

ثُمّ يؤخّر خطوة أُخرى ويقول:

وها أنا جدلي الخير والسعد كلّه
بأمر مليك خالق الأرض والسما

وينبغي تكرار هذا العمل في بوادئ السلوك.

أقول: لو فرض التوسل بعطارد بما هو فهذا شرك صريح. ولو فرض التوسل بهذا الجماد بما هو مظهر من مظاهر الربّ فهذا ـ أيضاً ـ يذكّرنا بمشركي قريش الذين


(1) السورة 7، الأعراف، الآيتان: 182 ـ 183.

(2) السورة 68، القلم، الآيتان: 44 ـ 45.

(3) ص 208 ـ 209، حسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني.

150

نقل الله سبحانه وتعالى عنهم أنّهم كانوا يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ...﴾(1). ولكنّنا لا نعرف من هو هذا الناسخ.

و ـ ويذكر في الرسالة المنسوبة إلى بحر العلوم(2):

أنّ من آثار السلوك حصول أنوار في القلب، ويكون بدء حصول النور في القلب على شكل السراج، وبعده على شكل الشعلة، وبعده على شكل الكوكب، وبعده على شكل القمر، وبعده على شكل الشمس، وبعده يغمر القلب، ويعرى عن اللون والشكل، وكثيراً مّا يكون على شكل البرق، وأحياناً على شكل المشكاة والقنديل. ويستشهد ببعض الروايات من قبيل ما في أُصول الكافي(3) عن الباقر (عليه السلام) قال: «إنّ القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهر أجرد. فقلت: ما الأزهر؟ قال: فيه السراج، فأمّا المطبوع فقلب المنافق، وأمّا الأزهر فقلب المؤمن، إن أعطاه شكر، وإن ابتلاه صبر...».

أقول: انظر إلى هذا الجاهل ـ وحاشا أن يكون السيّد بحر العلوم(رحمه الله) ـ كيف يتخيّل كون نور قلب المؤمن على هيئة الأنوار المادّيّة، ولا أدري كيف يفسّر هذا الرجل الفقرة الواردة في دعاء الندبة بشأن الأئمّة(عليهم السلام): «أين الشموس الطالعة، أين الأقمار المنيرة، أين الأنجم الزاهرة» فيا تُرى هل يعتقد أنّ أئمّتنا(عليهم السلام) كانوا على شكل الشموس والأقمار والأنجم بمعانيها المادّيّة؟!

ز ـ ويذكر ـ أيضاً ـ في تلك الرسالة(4): أنّ من آثار السلوك حدوث الصوت في القلب، ويكون في أوائل الأمر كصوت الطير، ثُمَّ كصوت وقوع حصاة في الطاس، ثُمّ على شكل همهمة كهمهمة الذباب الذي يجلس على خيط الأبريسم.


(1) السورة 39، الزمر، الآية: 3.

(2) ص 194، حسب الطبعة التي أشرنا إليها.

(3) أُصول الكافي 2/422 ـ 423.

(4) ص 197، حسب الطبعة المشار إليها سابقاً.

151

أقول: إنّ نسبة كلّ هذه الخرافات إلى هذا السيّد الجليل العظيم القدر، أمرٌ لا يحتمل صحّته، فإنّ السيّد مهدي بحر العلوم (رضوان الله عليه) من العلماء الأعلام العظام صاحب الزهد والتقوى والعرفان الصحيح، وقد ورد عنه كثير من الأُمور الدالّة على جلالة قدره، وأذكر منها هنا قصّتين:

الأُولى: ما رُوِيَ عن تلميذه المولى زين العابدين السلماسي(رحمه الله): أنّه قال: إنّ السيّد مهدي بحر العلوم كان يمشي في الليالي في أزقّة النجف، وكان يعطي لبيوت الفقراء الخبز ونحوه، ثُمّ ترك التدريس فترة من الأيّام، فشفّعني الطلبة لديه؛ كي يعود إلى التدريس، فأبلغته ذلك، فامتنع عن العودة إلى التدريس، ثُمَّ طلب منّي الطلبة مرّة أُخرى أن أسأله عن سبب ترك الدرس، فسألته عن ذلك؟ فقال: أنا لا أسمع من بيوت الطلبة حينما أمشي في أزقّة النجف في جوف الليل صوت المناجاة والتضرّع، وأنا لا أرى هكذا طلبة مستحقّين لإلقاء الدروس عليهم، فلمّا سمع الطلبة بذلك انشغلوا في جوف الليالي بالبكاء والمناجاة، فعاد السيّد إلى التدريس(1).

والثانية: ما رُوِيَ ـ أيضاً ـ عن السيّد بحر العلوم(رحمه الله)، قال ذات ليلة: إنّي لا أشتهي العشاء، ثُمَّ أمر بصبّ غذاء كثير في ظرف من الظروف، وأخذه وذهب به إلى أزقّة النجف حتّى انتهى إلى باب دار كان صاحبها حديث عهد بالعرس، وكان هو وزوجته في تلك الليلة لا يمتلكان طعاماً، وكانا يعيشان الجوع، فدقّ السيّد(رحمه الله)الباب، فخرج الزوج لفتح الباب، وقال السيّد (رحمه الله): الآن قد جعت أنا أيضاً، فقسموا الطعام إلى ثلاثة أقسام، واُعطيت قسمة للعروس، وأكل الباقي السيّد بحر العلوم مع الزوج(2).


(1) قصص العلماء: 173.

(2) المصدر السابق: 171.

152

ح ـ قال بعض: إنّ الجنّة والنار وجودان صوريّان نفسيّان، وليستا خارجيّتين(1)، وإنّ الجنّة وما فيها من حور وقصور وأنهار، والنار بكلّ ما فيها من غسلين وزمهرير ما هي إلاّ ذات من حلّ فيها، والخارج مقولة جوفاء(2).

وكنت أُريد أن أعترض على صاحب هذا الكلام: بأنّه لِمَ لم يلتزم بهذه المثاليّة في دار الدنيا؟! فلئن كان الثبات دليلاً على الواقع الخارجي، وبه يمتاز عالم اليقظة عن عالم النوم الذي لا ثبات في الأحلام التي تقع فيه، فهذا الثبات موجود في عالم الآخرة أيضاً، فيجب الالتزام بواقعيّتها، ورفض خياليّتها ومثاليّتها. ثمّ التفتّ إلى أنّ صاحب هذا الكلام قد التزم بالمثاليّة حتّى بلحاظ دار الدنيا، فهو يقول: وكلّ ما يتراءى لنا من الصور الطبيعيّة والدنيويّة ما هي إلاّ مظاهر نفسانيّة غير خارجة عن قوانا الإدراكيّة(3).

أقول: إنّ إبطال المثاليّة له مجال آخر غير هذا الكتاب، ولكنّي أُشير إلى أنّ اُستاذنا الشهيد(قدس سره) قد أوضح بطلانها عن طريق حساب الاحتمالات في كتابه القيّم: (الأُسس المنطقيّة للاستقراء)(4).

ط ـ رُوِيَ في كتاب الإسراء والمعراج(5) عمّن يسمّونه بالشيخ الأكبر، وهو ابن العربي: أنّه قال في كتاب الفتوحات(6): «إنّ أهل العذاب الذين يخلدون في النار بالنيّات يأخذ الألم جزاء العقوبة موازياً لمدّة العمر في الشرك في الدنيا، فإذا فرغ الأمد حصل لهم نعيم في الدار التي يخلدون فيها، بحيث إنّهم لو دخلوا الجنّة


(1) راجع الإسراء والمعراج: 117.

(2) المصدر السابق: 121.

(3) راجع الإسراء والمعراج: 120.

(4) راجع كتاب الأُسس المنطقية للاستقراء: 452 ـ 470.

(5) الإسراء والمعراج: 126 ـ 127.

(6) 3/463.

153

تألّموا؛ لعدم موافقة الطبع الذي جُبلوا عليه، فهم يتلذذون بما فيها من نار وزمهرير، وما فيها من لدغ الحيّات والعقارب كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال والنور ولثم الحسان من الحور؛ لأنّ طبائعهم تقتضي ذلك... ومن الشاهد أنّ الواحد منّا إذا لامس بدنه الماء الساخن نفر منه ولم يستسمجه، ثمّ بعد ذلك يلائمه ويستعذبه...

إلى أن قال: وبقي أهل هذه الدار الأُخرى فيها، فغلِّقت الأبواب واُطبقت النار، ووقع اليأس من الخروج، فحينئذ تعمّ الراحة أهلها؛ لأنّهم قد يأسوا من الخروج منها، فإنّهم كانوا يخافون الخروج منها لما رأوا إخراج أرحم الراحمين... فيستعذبون العذاب... ولهذا سمّي عذاباً؛ لأنّ المئآل استعذابه لمن قام به كمن يستحلي للجرب من يحكه».

أقول: ما أجرأهم على تأويل كلمات الله ورسوله(صلى الله عليه وآله).

5 ـ حالة الاعتزال عن العمل السياسي الاجتماعي بتخيّل أو بدعوى توقّف تهذيب النفس على ذلك، في حين أنّه عن طريق العمل الاجتماعي يتمّ علاج ضيق النفس، ويتحقّق ذبح النفس بيد صاحبها لا بيد شخص آخر. وقد مرّ تفصيل ذلك في النقطة الرابعة فلا نعيد.

6 ـ معرفة أصل هؤلاء وسندهم ونسبهم. ونذكر هنا ترجمة نصّ الكلام الوارد في كتاب لبّ اللّباب حيث قال(1):

«حقيقة العرفان مأخوذة من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، والطرق التي


(1) لبّ اللباب: 154 ـ 158.

ولا يخفى أن صاحب لب اللباب قد نسب في مقدّمة كتابه صفحة 20 ـ 21 مطالب الكتاب إلى المرحوم العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله) صاحب كتاب الميزان بعنوان كونه تقريراً لدرسه مع تنقيحات وإضافات.

أقول: مجرّد اعترافه بوجود تنقيحات وإضافات من قبله كاف في أن لا تجوز لنا نسبة ما فيه من بعض الأخطاء إلى المرحوم العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله).

154

نشرت هذه الحقيقة وإن جاوزت المئة أخيراً، ولكن أُصول طوائف التصوّف لا تزيد على خمس وعشرين سلسلة، وهذه السلاسل تنتهي جميعاً بعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، وفرقتان أو ثلاث فرق منهم شيعة وباقي الفرق جميعاً سنّة، وبعضهم تنتهي سلسلته إلى معروف الكرخي، ومنه إلى الإِمام الرضا(عليه السلام)، ولكن طريقتنا وهي نفس طريقة المرحوم الآخوند لا تنتهي إلى شيء من هذه السلاسل.

وإجمال المطلب: أنّه قبل حوالي أكثر من مئة سنة كان في تُستر عالِم جليل القدر، وكان مصدراً للقضاء ومراجعات عامّة الناس، وكان يسمّى بالسيد عليّ التُستري، وكان كسائر العلماء متصدّياً للأُمور العامة والتدريس والقضاء والمرجعية، وإذا بيوم من الأيّام دقّ أحد باب بيته، فقال له: من أنت؟ فيقول: افتح الباب، فإنّ شخصاً مّا يطلبك في شغل له معك، فحينما فتح السيّد عليّ الباب رأى رجلاً حائكاً على الباب، وقال له: ماذا تريد؟ فقال له: ما أصدرته من الحكم وفق شهادة الشهود بأنّ فلاناً مالِكٌ للشيء الفلاني غير صحيح، وإنّما ذاك ملك طفل صغير يتيم، وسنده مدفون في المحلّ الفلاني، وهذا الطريق الذي أنت تسلكه غير صحيح، وطريقك سبيلٌ آخر غير هذا.

فقال آية الله التُستري: أفأخطأت أنا؟ فقال له الحائك: الحقيقة ما بيّنته لك. ثمّ ينصرف الحائك ويبقى آية الله التُستري حائراً في فكره من هو هذا الرجل؟! وماذا قال؟! ثُمّ يحقّق عن مسألة سند الملك، فيحصل عليه مدفوناً في نفس المكان الذي أشار إليه ذاك الرجل، فيغور في الخوف والخشية، ويقول: أخشى أن يكون كثير ممّا أصدرته من الأحكام من هذا القبيل(1). وفي الليلة الآتية يأتيه في نفس


(1) كأنّ ناقل القِصّة يتعقّل فرضيّة أنّ عالماً جليلاً من علماء الشيعة حينما يظهر له الخطأ الواقعي في قضاء له كان تامّاً على وفق مقاييس البيّنات والأيمان لا يفهم أنّ هذا كان هو شأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما قال في الخبر الصحيح السند: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار».. الوسائل 27 / 232، الباب 2 من كيفيّة الحكم، الحديث 1.

أفهل يفترض أنّ العالم الجليل الشيعي يغور في الخوف خشية أن يكون كثير من أحكامه ـ برغم موافقته للمقاييس التي يجب اتِّباعها ـ على خلاف الواقع، وهو يعلم أنّ هذا ما حذّر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)المترافع الذي يعلم بنفسه أنّه ليس على الحقِّ، ولكنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)يحكم لصالحه على وفق المقاييس الظاهريّة، أم كان هذا العالم الجليل يريد القضاء على وفق الواقع بينما لم يكن ذلك لرسول الله رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله).

155

الساعة الرجل الحائك ويقول له: أيّها السيّد عليّ التُستري ليس الطريق ما تسلكه . وفي الليلة الثالثة تتكرر نفس الواقعة، ويقول له الحائك: بيعوا البيت، واجمعوا فوراً أثاث البيت، وانتقلوا إلى النجف الأشرف، وبعد ستة أشهر انتظروني في وادي السلام. وعلى هذا الأساس انشغل المرحوم التُستري فوراً بتنفيذ ما قاله له هذا الحائك، وباع البيت وجمع الأثاث، وجهّز للسفر إلى النجف الأشرف، وبمجرد وروده إلى النجف الأشرف رأى في وقت طلوع الشمس الرجل الحائك في وداي السلام وكأنه نبت من الأرض، وحضر أمامه، وأعطاه الأوامر اللازمة واختفى(1). ودخل المرحوم التُستري النجف الأشرف، وعمل بأوامر الحائك إلى أن وصل إلى المرتبة والمقام الذي لا يوصف ولا يذكر رضوان الله عليه وسلام الله عليه، وأخذ يحضر المرحوم السيّد عليّ التُستري بحث المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري احتراماً له فقهاً وأُصولاً، وكان يحضر الشيخ بالأُسبوع مرّة بحث السيّد في الأخلاق، وبعد أن توفّي الشيخ(رحمه الله) جلس السيّد التُستري(قدس سره) في مسند تدريس الشيخ، وأخذ يدرّس من النقطة التي انتهى إليها الشيخ، ولكن لم يطل عمره بعد


(1) كأنّ ناقل القِصّة يفترض أنّ عالماً جليلاً شيعيّاً ينفّذ أوامر شخص مجهول، بل شخص لم يعرف أنّه إنس أو جنّ، أو ملك أو شيطان.

156

ذلك أكثر من ستّة أشهر، وارتحل بعد ذلك إلى رحمة الله الأبديّة. وفي خلال هذه الأشهر الستّة كتب المرحوم التُستري رسالة إلى أحد مبرّزي طلاّب المرحوم الشيخ الأنصاري، وهو: الآخوند المولى حسين قلي الدرجزيني الهمداني، وقد كانت منذ سنين عديدة في زمان حياة المرحوم الشيخ الأنصاري رابطة الأُلفة قائمة بين الآخوند والسيّد التُستري، وكان الآخوند يستفيد الأخلاق والعرفان من السيّد التُستري، وكان الآخوند بعد وفاة الشيخ الأنصاري مصمّماً على التدريس، وكان بانياً على تكميل بحث الشيخ الذي كان قد كتبه هو ـ أيضاً ـ بعنوان التقريرات، وإذا برسالة السيّد التُستري تصل إلى الآخوند الهمداني ويقول له فيها:

هذا الطريق غير صحيح لك، ولابدّ لك أن تدرك مقامات عالية أُخرى... إلى أن يؤثّر السيّد في الآخوند، ويقلبه إلى وادي الحقّ والحقيقة، وأخيراً أصبح الآخوند في المعارف الإلهيّة فوق الأقران، وكان من عجائب الدهر وهو ـ أيضاً ـ ربّى تلاميذ على هذا الخط أصبح كلّ واحد منهم أُسطوانة للمعرفة والتوحيد وآية عظيمة. ومن أبرزهم: المرحوم الحاج ميرزا جواد آقا الملكي التبريزي، والمرحوم السيّد أحمد الكربلائي الطهراني، والمرحوم السيّد محمّد سعيد الحبوبي، والمرحوم الحاج الشيخ محمّد البهاري.

وكان الأُستاذ الكبير والعارف بلا بديل المرحوم الحاج عليّ آقا القاضي التبريزي رضوان الله عليه من تلاميذ مدرسة السيّد أحمد الكربلائي. هذه هي سلسلة اساتيذنا المنتهية إلى المرحوم التُستري ومن ثمّ إلى ذاك الشخص الحائك، ولم يُعلم من هو هذا الرجل الحائك، وبمن كان مرتبطاً، ومن أين أتى بهذه المعارف، وبأيّ وسيلة حصل عليها؟» انتهى.

أقول: إنّني لا اُريد أن أتّهم الأفاضل الأعلام الموجودة أسماءهم في القِصّة التي قصّها صاحب كتاب لبّ اللباب إلى ارتباطهم برجل حائك لم يعرف هل هو إنس

157

أو مَلَك أو جنّ، ولا أعرف مدى صدق القِصّة، وإنّما أُريد مناقشة أصل الكلام الوارد في هذا الكتاب.

فأقول: لا شكّ أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) هو سيّد العارفين وكهفهم وملاذهم وإمامهم وإمام المؤمنين، وأقصد بذلك العرفان بالمعنى الوارد في قوله (عليه السلام)في دعاء كميل: «يا غاية آمال العارفين» لا بالمعنى الذي ناقشناه حتّى الآن، وأتساءل أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)لو كان على رأس نحو من خمس وعشرين سلسلة للصوفيّة على ما ورد في لبّ اللباب فلماذا انتخب(عليه السلام) أكثرهم من السُنّة حسب ما مضى من قوله في لبّ اللباب: (أن فرقتين أو ثلاثاً منهم شيعة والباقي سنّة) وهلاّ علّم(عليه السلام) هذا الطريق ميثم التمار وصعصعة بن صوحان العبدي ورشيد الهجري(1) وكميل بن زياد وأصبغ بن نباتة والحجر بن عديّ الكندي(2) وأمثالهم من أعاظم أصحابه رحمهم الله.

إنّ الحقيقة ليست هكذا، بل الحقيقة: أنّ التصوّف دكّان فتحه أعداء عليّ وأعداء الأئمّة(عليهم السلام) في مقابل أئمّتنا المعصومين؛ ذلك أنّ الشيطان لا يستطيع أن يُغري ـ ابتداءً ـ كلَّ أحد عن طريق الخمور أو النساء أو الملاهي أو ما إلى ذلك، فلربّ إنسان لا يأنس إلاّ بالمسجد، فطريق حرفه عن الحقِّ هو بناء مسجد ضرار، ولربّ إنسان لا يستذوق إلاّ العرفان، فطريق حرفه عن جادّة الحقِّ هو اختلاق العرفان الكاذب. ومن نقاط القوّة في أئمّتنا(عليهم السلام) الجاذبة للنفوس الطيّبة كان هو العرفان الإلهيّ الشامخ المضيء الذي يشعّ شيء يسير منه فيما وصلنا من اليسير من


(1) روى الكشي: أنّه كان أُلقي إليه علم المنايا والبلايا. راجع معجم رجال الحديث 7/192.

(2) روى الشيخ الطوسي(رحمه الله): أنّه كان من الأبدال، راجع معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي(رحمه الله): 4 / 237.