7

 

 

 

 

شرائط صحّة الإرادة

 

 

وأمّا البحث الثالث ـ وهو البحث عن شرائط صحّة الإرادة ولا نقصد بصحّتها المعنى الوارد في الفقه الغربي، أي عدم العيب الموجب للخيار وحقّ الإبطال بل نقصد بذلك ما يبطل بفقدانه العقد لأنّ الإرادة رغم وجودها تكويناً ليست صحيحة، أي ليست بالشكل الكافي لتصحيح العقد فعدم الغلط في التطبيق مثلا ليس شرطاً لصحّة الإرادة بهذا المعنى.

فنحن نذكر تحت هذا العنوان شرطين فحسب: الرضا والتنجيز.

 

1 ـ الرضا بالنتيجة:

فالشرط الأوّل من شرطي صحّة الإرادة بهذا المعنى هو الرضا بالنتيجة، فبما أنّ إنشاء التمليك مثلا في فقهنا الإسلامي شيء والرضا بحصول النتيجة وهي الملكية مثلا خارجاً بحسب القانون شيء آخر فقد تصورنا كون العقد الذي هو إنشاء للتمليك مثلا مشروطاً في تأثيره قانوناً بالرضا بالنتيجة، وبما أنّه لا يوجد في مفاهيم الفقه الغربي إنشاء للتمليك وليس البيع مثلا عدا إبراز الرضا بالتمليك لم يكن معنى لجعل الرضا شرطاً في تأثير العقد، إذ لو انفقد الرضا فقد انفقد العقد

8

فذكروا إنّ(1) الرضا في مورد الإكراه موجود ولكنّه معيب لقيامه على أساس الإكراه سنخ ما مضى منهم في موارد الغلط من أنّ الرضا موجود ولكنّه معيب لأنّه قائم على أساس الغلط، وقد جعلوا جزاء عيب الرضا بالإكراه قابلية العقد للإبطال(2) وهذا وإن كان أمراً جعله بيد مشرّعهم فلا معنى لفرض الخطأ والصواب فيه إلّا أنّنا نقول: إنّ هذا الجعل لا يناسب الاعتبارات العقلائية فإنّ المقصود بالرضا المفروض وجوده لو كان هو الرضا بإبراز التمليك فأيّ قيمة للرضا بالإبراز لو علم أنّه ليس راضياً بالنتيجة وهي نفس التمليك القانوني؟! وأي نكتة للفرق بين هذا وبين إبراز الرضا الاستهزائي مثلا؟!

ولو كان هو الرضا بإحداث الأثر القانوني خارجاً وبحسب الانطباق على ما في لوح القانون فمن الواضح أنّ المكره ليس راضياً بذلك، وهذا بخلاف الغلطان، فالغلطان راض بالنتيجة رضاً ناتجاً عن الغلط أمّا المكره فهو غير راض بالنتيجة وإنّما هو مكره على إبراز الرضا إبرازاً نعلم عدم مطابقته للواقع ففرق كبير بين البابين.

وعلى أيّة حال فما نقوله من أنّ عقد المكره باطل ولكن بالإمكان تصحيحه بلحوق الرضا مع ما يقوله الفقه الغربي من أنّ بيع المكره قابل للإبطال، وإن اشتركا في أنّ للمكره بعد زوال الإكراه حقّ القبول بالعقد وحقّ الردّ ولكن يختلفان عملا في أنّه على رأينا يصبح بإمكان المتعاقد الآخر أن يتراجع عن العقد قبل لحوق الرضا من طرف المكره فلا يبقى مجال لتصحيح العقد بلحوق الرضا، في حين أنّه


(1) راجع الوسيط 1: 360، الفقرة 188.

(2) راجع الوسيط 1: 361 ـ 363، الفقرة 190.

9

بناء على مسلك الفقه الغربي يتجه القول بأنّه ليس للمتعاقد الآخر ذلك فإنّ العقد قد تمّ من زاويته وإنّما بقى زمام الأمر بيد المكرَه فحسب فمن حقّه أن يطلب إبطال العقد ومن حقّه أن يقرَّه.

الدليل على بطلان عقد المكره:

أمّا الدليل في فقهنا الإسلامي على إبطال الإكراه أو شرط الرضا في العقد فهو إضافة إلى الارتكاز العقلائي المدعم بعدم الردع الدال على الإمضاء أو بأصالةِ الفساد في العقود بعد كون هذا الارتكاز موجباً لانصراف إطلاقات أدلّة العقود هي النصوصُ الواردة في المقام وهي على قسمين:

الأوّل ـ ما دلّ على اشتراط طيب النفس كقوله تعالى:

﴿لاتأكلوا أمـوالكم بينكم بالبـاطل إلّا ان تكـون تجـارة عن تـراض منكم﴾(1) وكحديث منصور بن يونس الوارد في الطلاق(2) بناء على التعدي منه إلى المقام.

وكقوله (عليه السلام) لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيبة نفسه(3).

والثاني ـ ما دلّ على مانعيّة الإكراه كحديث الرفع(4) وكروايات مبطليّة


(1) النساء 4: 29.

(2) الوسائل 15: 332، الباب 38 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه.

(3) الوسائل 3: 424، الباب 3 من أبواب مكان المصليّ، الحديث 1، و 19: 3، الباب 1 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.

(4) الوسائل 11: 295، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1، والجزء 4: 1284، الباب 37 من أبواب القواطع، الحديث 2، و 16: 144، الباب 16 من أبواب الأيمان، الحديث 3، 4 و 5.

10

الإكراه للطلاق(1) وقد استدلّ الشيخ الانصاري (رحمه الله) في مكاسبه بكلا النوعين من الأدلّة(2).

واعترض المحقّق الاصفهاني(رحمه الله)(3) على الاستدلال بأدلّة اشتراط الطيب ببيان حليّ وهو انّ الطيب ليس منحصراً في الطيب الطبعي الناتج من ملاءمة الشيء للقوى الطبعية كملاءمة الصورة الحسنة لقوّة البصر والطعم الشهيّ لقوّة الذوق، أو الرائحة الطيّبة لقوّة الشمّ بل يشمل بالإطلاق الطيب العقلي الناتج من ملاءمة الشيء للقوّة العاقلة، وهذا الطيب موجود في مورد الإكراه لانّ القوّة العاقلة أدركت ان تحمَّل ضرر العقد أهون من تحمّل ما ينتج من عدم الرضوخ للعقد نتيجة لظلم الظالم، وببيان نقضي وهو انّه لولا هذا لانتقض الأمر في المقام بباب الاضطرار الذي لا إشكال في صحّة العقد معه في حين انّ الطيب الطبعي في باب الاضطرار أيضاً غير موجود وإنّما الموجود فيه هو الطيب العقلي.

أقول: بناء على هذا النسق من الكلام كان المفروض النقض بكل موارد العقود أو جلّها لا بخصوص باب الاضطرار فانّ العقد عادة ليس ممّا يلتذّ به الطبع بذاته من قبيل التذاذ البصر بالصور الجميلة أو الذائقة بالطعم الشهيّ وانّما هو شيء يدرك نفعه بقوّة العقل.


(1) راجع الوسائل 15: 331، الباب 37 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، وروايات الحلف بالطلاق والعتاق مكرهاً والتي يحتمل حملها على المعنى النافع للمقام بعضها وارد في هذا الباب وبعضها وارد في 16: 134 ـ 137، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان.

(2) راجع المكاسب 1: 118، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(3) راجع تعليقته على المكاسب 1: 121.

11

وقد أورد السيد الإمام (رحمه الله)(1) على كلام المحقّق الاصفهاني (رحمه الله)بانّ الطيب والشوق العقلي لا معنى له فانّ العقل شأنه الادراك فحسب لا الالتذاذ بشيء تفترض ملاءمته له كالتذاذ العين ببعض المبصرات والذائقة ببعض المطعومات والشوق وإن كان أحد مبادئ الإرادة ولكن ليس تحقّق الإرادة منحصراً بفرض ثبوت أساس الشوق له فقد تتحقّق على أساس الشوق وقد تتحقّق على أساس ادراك العقل لكون الفعل الفلاني دافعاً للضرر مثلا من دون افتراض شوق إلى الفعل والتذاذ به.

أمّا النقض الذي ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) في المقام وهو النقض بالاضطرار فلم يتعرّض السيّد الإمام (رحمه الله) للجواب عليه ولعلّه لهذا النقض نرى انّه (رحمه الله) يفسّر طيب النفس والرضا بنفس عدم الإكراه(2) ويرى عدم الإكراه كافياً في صحّة العقد فلا يبقى موضوع للنقض.

أقول: وقد يجاب على النقض بالاضطرار بانّ المستفاد من أدلّة اشتراط الطيب حسب الارتكاز هو كونه قاعدة مضروبة لحفظ مصلحة المُلاّك، ومن الواضح انّ البطلان انّما يكون في صالح المالك في باب الإكراه دون الاضطرار وهذا سنخ ما قيل في التفريق بين رفع الإكراه ورفع الاضطرار حيث يستدل بالأوّل على بطلان عقد المكره ولا يستدل بالثاني على بطلان عقد المضطر من انّ امتنانية حديث الرفع هي التي توجب التفريق في المقام بين الفقرتين.

وعلى أيّة حال فعدم كون قوّة العقل كقوّة البصر والذوق والشم ونحو ذلك


(1) راجع كتاب البيع 2: 56.

(2) راجع كتاب البيع 2: 67 ـ 68.

12

ممّا يلتذّ بإدراك الملائم وإن كان صحيحاً خلافاً لما يستفاد من ظاهر كلام المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) ولكن لا إشكال في انّ هناك نوعاً من الاشتياق للنفس إلى الشيء حينما ترجّحه على الترك نتيجة لإدراك منافعه أو دفعه للمضارّ بالعقل والارادة دائماً تكون قائمة على أساس الشوق فللمحقّق الاصفهاني (رحمه الله) ان يسمّي هذا بالشوق العقلي الذي يختلف عن الالتذاذ الحسّي ويقول: إنّ طيب النفس والرضا صادق بمجرّد هذا الشوق.

هذا. وطريقة تفكير السيد الخوئي في المقام تختلف عن طريقة تفكير المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) فكأنّه يرى انّ الطيب والرضا عبارة عن نوع من انشراح النفس للشي وارتياحه به مفقود لدى الإكراه. وهذا النمط من التفكير لا ينصدم بالبيان الحليّ الذي ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) لكنّه ينصدم بالبيان النقضي له حيث يقال: إنّ هذا الانشراح والارتياح غير موجودين في مورد الاضطرار أيضاً.

وقد ورد عن السيّد الخوئي في المحاضرات(1) الجواب على هذا النقض بانّ اختيار العقد الناتج من الاعتقاد بفائدة العقد تارة يكون على أساس فائدة إيجابية في ذاتِ الفعل، وهنا الرضا وطيب النفس حاصل، واُخرى يكون على أساس دفع العقد للضرر وعلى الثاني تارة يكون مكمن الضرر شيئاً آخر غير عدم العقد ويكون العقد دافعاً له فهنا يكون الرضا والطيب أيضاً حاصلا كما لو باع بيته لتحصيل المال لمعالجة ابنه به كي ينجيه من الموت مثلا، أو باعه لتحصيل القدرة على دفع الضريبة التي أجبره الظالم عليها لكي يدفع بذلك خطر الظالم عن نفسه،


(1) المحاضرات 2: 244.

13

واُخرى يكون مكمن الضرر نفس عدم العقد كما لو هدّده الظالم بالقتل على تقدير عدم بيعه للبيت وهنا لا يكون الرضا وطيب النفس حاصلا، فهنا لا يبرز الحمد والشكر على توفيقه لبيع البيت بخلاف المورد الثاني الذي هو مورد الاضطرار فانّه يشكر ربّه على بيعه للبيت الذي ادّى إلى تحصيل المال لمعالجة ابنه.

أقول: إنّ هذا المقدار من البيان لا يوضّح لنا الفرق بين مورد الإكراه ومورد الاضطرار، فالانبساط وانشراح الصدر أو الارتياح والابتهاج بالبيع بمعنى من المعاني غير حاصل في كلا الموردين، أي انّه سواء باع بيته عن إكراه أو عن اضطرار سوف يحوقل ويتأوّه ويتألّم على بيعه للبيت، وبمعنى آخر يفرح في كلا الموردين بتوفيقه لدفع الضرر عن نفسه بواسطة بيع البيت سواء كان الضرر عبارة عن وفاة ابنه أو قتل الظالم إيّاه على تقدير عدم بيع البيت فمجرّد ان مكمن الضرر تارة يكون نفس ترك العقد واُخرى شيئاً آخر لم يعرف ما هو أثره في المقام؟! بل بالإمكان ان يقال في مورد الإكراه أيضاً: إنّ مكمن الضرر ليس هو ترك العقد بل هو ضرب الظالم إيّاه بالسيف والعقد مانع عن ذلك كما هو مانع عن وفاة ابنه على أساس ترك العلاج.

فان قلت: إنّ الموت مسبب عن ضرب الظالم وضرب الظالم مسبّب عن ترك العقد فترك العقد هو السبب للضرر ولو بالواسطة قلنا: إنّ موت الابن أيضاً مسبّب عن ترك العلاج المسبّب عن فقدان المال المسبّب عن عدم بيع البيت، فترك العقد هنا أيضاً أصبح سبباً للضرر ولو بالواسطة.

ولعلّه لهذا جاء بيان المطلب عن السيّد الخوئي (رحمه الله) في المصباح بشكل آخر وهو: انّ منشأ اختيار العقد إن كان هو الفائدة في الفعل فالرضا والطيب حاصل، وإن كان هو دفع الضرر بالعقد فإن كان الضرر لأجل قضاء الضرورة من غير ناحية

14

ظلم الظالم بلحاظ نفس المعاملة مباشرة كما لو باع داره لمداواة ابنه أو لدفع الضريبة المجبر عليها من قِبَل الظالم فالرضا والطيب أيضاً حاصل، وإن كان الضرر ناشئاً من ظلم الظالم بلحاظ ترك نفس المعاملة فهنا لا يوجد رضا وطيب النفس، ففرق مثلا بين الاضطرار إلى قطع الاصبع ـ لمرض فيه قال عنه الطبيب: لو لم يقطع لسرى المرض إلى سائر البدن ممّا يؤدّي إلى الموت ـ وإكراه الظالم إيّاه لقطع اصبعه مهدّداً له بالقتل على تقدير ترك القطع ففي الثاني لا يكون طيّب الخاطر على قطع الاصبع في حين انّه في الأوّل يكون طيّب الخاطر على قطعه(1).

أقول: إنّ هذا البيان وإن لم يرد عليه ما أوردناه أخيراً على البيان السابق من أنّ مكمن الضرر في كلا الموردين شيء آخر وان ترك العقد في كلا الموردين سبب بالواسطة للضرر إلّا انّه لا يكون هذا البيان انجح من البيان الأوّل في توضيح الفرق بين الفرضين فهنا أيضاً نرى انّه سواء كان الظالم هو الذي أجبره مباشرة على العقد، أو كان العقد لأجل الاضطرار إلى تحصيل المال لعلاج ولده ففي كلا الحالين سيتأوّه ويتحسّر على بيع الدار ولا يكون منبسطاً نفسيّاً تجاه البيع، وفي كلا الحالين يكون بمعنى من المعاني فرحاً بالبيع الذي انجاه من وفاة ابنه أو من قتل نفسه ولا يحسّ بأيّ فرق نفسي في مثال قطع الاصبع بين ما لو كان ذلك على أساس مرض في الاصبع يؤدّي إلى موته لو لا القطع، أو كان على أساس تهديد الظالم إيّاه بالقتل على تقدير عدم القطع عدا أنّه في الثاني سيحسّ بالغيظ والحقد والغضب على الظالم، بخلافه في الأوّل الذي لا يوجد فيه ظالم ظلمه أمّا بلحاظ نفس عملية القطع فلا فرق بين الموردين من ناحية الإحساس النفسي.


(1) مصباح الفقاهة 3: 289 ـ 290.

15

وحقيقة الأمر في المقام ان المقصود بالرضا وطيب النفس هو مطلق الشوق ولو كان ناشئاً من التفكير العقلي إلّا انّه ليس المقصود بذلك هو الرضا بإنشاء العقد أو إبراز إرادة النتيجة وانّما المقصود بذلك هو الرضا بحصول النتيجة وفقاً للوح القانون فانّ التجارة انّما تعتبر تجارة بهذا اللحاظ، والنتيجة المهتم بها عقلائياً هي التثبيت القانوني لذلك والارتكاز العقلائي يصرف أدلّة اشتراط الرضا والطيب إلى ذلك، وإذا وضّحنا مصبّ الرضا والطيب بهذا الشكل كان الفرق بين مورد الإكراه ومورد الاضطرار من أوضح الواضحات، فانّ المكره لا يرضى بالنتيجة ولو اُخبر ببطلان العقد لفرح بذلك، ولكن المضطر راض بالنتيجة ولو اُخبر ببطلان العقد لأصبحت مصيبته أكبر من مصيبة فقدانه للمتاع الذي فقده على تقدير صحّة العقد وبالالتفات إلى هذا الأمر لا يبقى مجال للبيان الحليّ للمحقّق الاصفهاني (رحمه الله) في المقام ولا لبيانه النقضي.

حكم الإكراه بحقّ:

هذا. ولا إشكال في انّ الإكراه بحق لا يوجب بطلان العقد، وقد استدلّ على ذلك السيّد الخوئي بانّ الإكراه بحقّ لو كان مبطلا للعقد للغي الإكراه(1)، وأضاف في المحاضرات: انّه «ولما كان إكراه على المعاملة وانّما كان الإكراه على مجرّد اللفظ».

أقول: كأنّ المقصود تقديم دليل حقّ الإكراه على دليل شرط الرضا، أو مبطلية الإكراه في الحقّ بمثل الأخصيّة باعتبار انّه لو عكس لغى دليل حقّ الإكراه لعدم تصوّر أثر عندئذ لهذا الإكراه، أو عدم تصوّر الإكراه عندئذ على المعاملة، ولكن هذا البيان انّما يتصوّر في ما إذا كان دليل حقّانية الإكراه أخصّ مورداً من


(1) راجع المحاضرات 2: 245 ـ 246، ومصباح الفقاهة 3: 294.

16

دليل شرط الرضا أو مانعية الإكراه في العقد، ولا يأتي في الأدلّة اللفظية الواردة في بعض الولايات التي هي أعمّ من الولاية على العقد أو على الإكراه عليه كما لو وجدنا إطلاقاً لفظياً من هذا القبيل في ولاية الأب على الأولاد غير البالغين وكدليل ولاية الفقيه.

وهناك بيان أعمق من هذا البيان يشمل أدلّة الولايات مطلقاً، وهو دعوى انّ دليل الولاية حاكمٌ على دليل اشتراط رضا المالك أو عدم إكراهه، لانّ دليل الولاية ينزّل الوليّ منزلة المولّى عليه ويكون ناظراً إلى الأحكام الأوليّة لتصرفات المولّى عليه فيصبح رضا الوليّ بمنزلة رضا المولّى عليه.

بل يمكن ان يقال بانّ المفهوم من أوّل الأمر من أدلّة مانعية الإكراه أو شرط الرضا ليس أكثر من الجامع بين رضاه أو رضا وليّه، فانّ الدليل على ذلك إن كان هو الارتكاز العقلائي فمن الواضح انّ الارتكاز انّما يكون قائماً على ما قلناه لا على خصوص رضا المالك ولو كان مولّى عليه وإن كانت هي الأدلّة اللفظيّة فهي منصرفة إلى ذلك بسبب ذاك الارتكاز.

اشتراط الرضا أو مانعيّة الإكراه:

بقي الكلام في انّ العقد هل يكون الرضا شرطاً في صحّته، أو يكون الإكراه مانعاً عن صحّته حيث انّه من الواضح ان كون العقد عن إكراه اخصُّ من كونه لا عن رضا؟ فقد يكون صدور العقد من الشخص نتيجة تخيّله للإكراه من دون وجود مكرِه حقيقةً، أو لأجل مداراة الأهل مثلا كما فرض في ما مضت الإشارة إليه من حديث منصور بن يونس في الطلاق(1) ففي أمثال هذه الموارد لا يكون الإكراه صادقاً ولكنّ الرضا أيضاً غير موجود.


(1) الوسائل 15: 332، الباب 38 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

17

فإن كان دليلنا في المقام مثل حديث الرفع فقط فهو انّما يدلّ على مانعيّة الإكراه أمّا على ما عرفته من صحّة الاستدلال أيضاً بنصوص الرضا والطيب فقد ثبت ما هو أوسع من مانعيّة الإكراه وهو شرط الرضا وقد مضى عن السيّد الإمام (رحمه الله) تفسير الطيب وعدم الرضا بنفس عدم الإكراه وأنّه متى ما كان الرضا بمعنى عدم الإكراه صادقاً صحّ العقد(1) ولازم ذلك ان يفتي بصحّة العقد في ما أشرنا إليه من موارد الافتراق لعدم صدق الإكراه فيها، ولا أظنّ به ولا بغيره ان يلتزم بذلك، ومن الواضح عرفاً عدم صدق الطيب والرضا وكأنّ الذي دعاه إلى هذا التفسير للطيب والرضا هو التخلّص من النقض بموارد الاضطرار وقد مضى منّا حلّ هذا النقض.

بل قد يقال: إنّ أدلّة مانعيّة الإكراه هي التي ينبغي إرجاعها إلى شرطيّة الرضا وذلك إخضاعاً لها للارتكازات العقلائية، إذ من الواضح انّ الارتكاز العقلائي يرى شرطية الرضا ولا يكتفي بعدم الإكراه وانّما يحكم العقلاء بمبطليّة الإكراه لنكتة فقدان الرضا فيه فأدلّة مبطليّة الإكراه تحمل على ذلك كما يشهد لذلك ان إحدى روايات الإكراه(2) في الطلاق اشتملت أيضاً على ذكر شرط كونه مريداً للطلاق ولكنّها ضعيفة سنداً.

إلّا انّ هذا البيان وإن كان يتمّ في مثل روايات طلاق المكره لكنّه لا يتمّ في حديث الرفع فانّ حديث الرفع لم يكن خاصّاً بالعقود كي يفهم منه عقلائياً انّ رفع الإكراه يكون بنكتة عدم الرضا ويشمل أمثال ارتكاب المحرّم عن إكراه فيرتفع به


(1) راجع كتاب البيع 2: 67 ـ 68.

(2) الوسائل 15: 331، الباب 37 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه، الحديث 4.

18

مثل الحدّ والعقاب، فالمفهوم عرفاً منه ان رفع الإكراه في هذا الحديث بنكتة اُخرى غير فقدان الرضا وهي نكتة ضعف القدرة فكأنّ الإكراه ملحق بالانجبار والعجز عن التفصّي.

وعلى أيّة حال فقد اتّضح بكل ما ذكرناه حتى الآن ان كلتا النكتتين أعني نكتة المانعيّة الإكراه لضعف القدرة ونكتة شرطيّة الرضا ثابتتان في المقام فالنتيجة مع شرطيّة الرضا.

ثمرة الخلاف عند وجود المندوحة:

ومن الثمرات التي تترتب على ذلك هي انّه لو كان المكرَه قادراً على التفصّي بما لا يوجب عليه المشقّة أو الحرج فالإكراه على العقد غير صادق ولكن الرضا أيضاً غير ثابت، فإن قلنا بمانعيّة الإكراه فحسب صحّ العقد وإن قلنا بشرطيّة الرضا والطيب بطل العقد.

ولكن السيّد الخوئي (رحمه الله) ذكر(1) انّه مع وجود المندوحة من دون ضرر أو مشقّة يكون العقد صحيحاً لانّ طيب النفس والرضا موجود وذلك لانّ المفروض عدم الخوف من الضرر فالثابت في المقام هو الرضا لا الإكراه ولو لم يكن راضياً لما فعل.

وهذا الكلام كما ترى لا أساس له، فانّ الإكراه وإن لم يكن ثابتاً في المقام لعدم صدق الخوف من الضرر لدى ترك العقد ما دام قادراً على التفصّي بدون ضرر أو حرج، ولكنّ هذا لا يساوق الرضا وطيب النفس إذ قد يصدر منه العقد تكاسلا من الخروج من الغرفة التي وجد فيها العدو إلى الغرفة الاُخرى التي يوجد فيها من


(1) راجع المحاضرات 2: 249، ومصباح الفقاهة 3: 304.

19

يحميه عن العدوّ مثلا، ويكفيه هذا التكاسل كدافع إلى العقد بعد علمه بانّ العقد إذا لم يكن عن رضا لم يكن له أثر.

نعم قد يتّفق إثباتاً وجود ظهور حالي على الرضا كما لو كان التفصّي بالانتصار خالياً عن أي مؤونة عرفيّة كما لو اتّفق انّ الذي يحميه عن الظالم كان موجوداً في نفس الغرفة ولم تكن حمايته تتوقّف على شيء عدا مجرّد الإشارة إليه مثلا ومع ذلك لم يشر إليه وأوقع العقد، وعلى أيّة حال فهذا خارج عن محل البحث فانّه ليس عدا أمر إثباتي قد يتحقّق وقد لا يتحقّق أمّا بلحاظ البحث الثبوتي فلا ينبغي الإشكال في انّ وجود المندوحة بلا مشقّة وضرر يمنع عن صدق الإكراه ولا يمنع عن عدم صدق الرضا والطيب.

وللشيخ الاصفهاني (رحمه الله) تقريب لدعوى صدق الإكراه عند وجود المندوحة(1) ولم يظهر من عبارته انّه هل يتبنّاه أو لا، وهو انّه ان فرضنا ان اتصاف صدور الفعل بوصف الإكراه إن كان متوقّفاً على القضيّة الإيجابية، وهي كون الإكراه هو السبب للفعل، فالعقد هنا غير مكره عليه لانّ الإكراه ليس سبباً لخصوص العقد وانّما هو سبب للجامع بين العقد والمندوحة فخصوصية العقد نشأت من سبب آخر، فالعقد إذن لم يكن لسبب الإكراه بل كان لمجموع الإكراه وعدم الداعي إلى التفصّي بالمندوحة أو الداعي إلى عدم التفصّي. ولا يقال: إنّ عدم الضد ليس مقدّمة للضد فانّه يقال: نعم ولكن عدم سبب الضد المساوي أو الأقوى من سبب الضد الآخر مقدّمة للضد لمكان التزاحم بين السببين في التأثير، فعدم سبب التفصيّ له دخل في سبب حصول العقد وليس العقد مسبباً محضاً من


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 121.

20

الإكراه، أمّا ان فرضنا انّه تكفي في اتّصاف الفعل بالإكراه القضيّة السلبيّة وهي انّه لولا الإكراه لما فعل إذن فالعقد في المقام متّصف بالإكراه، فانّ الإكراه وإن لم يكن سبباً لخصوص العقد وانّما كان سبباً للجامع بين العقد والمندوحة لكنّه على أي حال لولاه لما صدر العقدُ إذ بانتفائه ينتفي الجامع بكلا فرديه.

أقول: من الواضح انّ المفهوم العرفي للإكراه هو ذاك الجانب الإيجابي لا مجرّد هذا الجانب السلبيّ البحت.

حكم المندوحة بالتورية عند الإكراه:

وللشيخ الاصفهاني (رحمه الله) بيان آخر(1) لاستفادة البطلان من حديث رفع الإكراه رغم وجود المندوحة في خصوص ما إذا كانت المندوحة عبارة عن التورية فحسب وهو أنّ العقد بمعناه الحقيقي وإن لم يكن مكرهاً عليه لتمكّنه من التورية وعدم إرادة المعنى الحقيقي لكن جامع اللفظ بقطع النظر عن المعنى الذي يقصده مكره عليه فيسقط اللفظ عن التأثير ولا إشكال في انّ اللفظ جزء العلّة لحصول النتيجة فبرفع الحكم عنه وبسقوطه عن التأثير تنتفي النتيجة أي انّ العقد يصبح باطلا.

وأجاب عليه بان رفع الأثر كان للامتنان ولا امتنان في إسقاط جزء السبب عن التأثير بعد أن كان قد قصد البيع الحقيقي بخصوصية طبعيَّة لا بسبب الإكراه.

أقول: هذا المقدار من الجواب لا يكفي لردّ ذاك البيان إذ لقائل ان يقول: إذا قصد المعنى الحقيقي بعد أن كان مكرهاً على أصل اللفظ لا لرغبة في حصول النتيجة بل لاعتقاده بأنّ ذاك الإكراه كاف في المنع عن حصول النتيجة مثلا فهنا رفع الأثر امتنانيّ فلماذا لا يرفع؟!

 


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 121 ـ 122.

21

والجواب الصحيح في المقام ان يقال: إنّ المفهوم عرفاً من حديث الرفع وفق الارتكاز العقلائي هو النظر إلى نكتة كون الإكراه كأنَّه مضعِّف للقدرة والاختيار فيكون ترتّب الحكم على ما صدر منه بمنزلة ثبوت الحكم على العاجز الذي لا يستطيع الفرار عنه بترك السبب، وهذا الوصف غير صادق لدى الإكراه على جزء السبب إذ باستطاعته التفصّي عن النتيجة بترك الجزء الآخر، فمثلا لو كان الحرام مؤلَّفاً من جزءين بحيث لو فعل أحدهما لم يكن حراماً وكان الجزءان عَرضيين من حيث الزمان ففعل أحدهما إكراهاً وضمّ الآخر إليه اختياراً فهل بالإمكان القول بارتفاع الحرمة والعقاب بسبب كون أحد الجزءين مكرَهاً عليه؟! ومن الواضح انّه في هذا الفرض لا يأتي ما ذكره من الجواب بامتنانية الرفع فان رفع الحرمة والعقاب فيه امتنان على كل حال.

وذكر الشيخ الانصاري (رحمه الله)(1): انّ التمكّن من التورية لا يمنع عن صدق الإكراه والتمكّن من التفصّي بوجه آخر من قبيل الخروج من الغرفة إلى غرفة اُخرى يستطيع فيها ان يحتمي بمَن يمنعه عن ظلم الظالم يمنع عن صدق الإكراه (والعقد رغم هذا يكون باطلا في رأيه (رحمه الله) لأجل فقدان الرضا وطيب النفس) والوجه في هذا الفرق هو انّ المقياس في صدق الإكراه هو حصول التخوّف من بطش المكرِه على تقدير علمه بعصيان المكرَه إيّاه لا مطلقاً إذ من الواضح انّ المكرِه انّما يبطش بالمكرَه لو علم بعصيانه إيّاه دون ما لو اعتقد طاعته له وهذا البطش على تقدير العلم ثابت لدى التفصّي بالتورية إذ لو علم المكرِه، بانّ المكرَه قد ورَّى لبطش به وغير ثابت لدى التفصّي بمثل الخروج من الغرفة والاحتماء


(1) في المكاسب 1: 120، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

22

بحماته إذ لو علم المكرِه بذلك لما استطاع ان يصنع شيئاً لانّ حماة ذاك الشخص سيمنعون المكرِه عن البطش به، والحاصل انّ المقياس هو التخوّف عن البطش على تقدير العلم لا مطلقاً وهذا التخوّف على تقدير العلم في باب التورية صادق، وان علم بعدم البطش على أساس عدم علم المكرِه وفي سائر موارد التفصّي غير صادق.

وقد أجاب السيد الخوئي على ذلك بمنع تقوّم الإكراه بتلك القضيّة الشرطيّة وإنّما هو متقوّم بخوف البطش بنحو القضيّة الفعليّة وهو منتف في كلا الموردين أي في مورد إمكان التفصّي بالتورية وفي مورد إمكان التفصّي بوجه آخر فلا وجه لهذا التفصيل(1).

أقول: إنّ النكتة التي أبداها الشيخ الانصاري (رحمه الله) للمصير إلى تلك القضيّة الشرطيّة وهي وضوح انّ البطش من قِبَل المكرِه انّما يترتّب على تقدير علمه بعصيان المكرَه إيّاه دون ما لو اعتقد عدم عصيانه لم يأتِ في المنقول عن السيد الخوئي الجواب عليها، والجواب هو انّ المدَّعى ليس هو تقوّم الإكراه بالتخوّف من بطش المكرِه مطلقاً، وعلى كلّ تقدير وانّما هو تقوّمه بالتخوّف من البطش الفعلي والفعلية غير الإطلاق إذ قد يكون الشيء فعليّاً لتحقّق شرطه لا لإطلاقه وعدم تقيّده بذاك الشرط، وما ذكره من وضوح انّ البطش مختصٌّ بفرض علم المكرِه مثلا بالحال دون فرض اعتقاده بخلاف الحال انّما يمنع عن الإطلاق لا عن الفعليّة أي انّما يمنع عن تقوّم الإكراه بتخوّف البطش على كل تقدير، إذ لو كان كذلك لما تحقّق إكراه أبداً إذ البطش على تقدير الاعتقاد بالعدم لا يتحقّق ولا يمنع


(1) راجع المحاضرات 2: 250.

23

عن تقوّم الإكراه بتخوّف البطش الفعلي، وهذا التخوُّف منتف في كلا الموردين أيفي التورية وفي باقي أنحاء التفصّي.

وقد أورد السيد الخوئي أيضاً النقض على الشيخ الانصاري(رحمه الله)(1) بأ نَّه لو اُكره أحد على شرب الخمر مع تمكّنه من هراقته في جيبه حرم عليه شربها جزماً مع انّه لو علم المكرِه بذلك لبطش به أفهل يقال إنّ الإكراه صادق في المقام وإن حديث الرفع يرفع الحرمة عنه؟! وبانّه لو أكره الجائر أحداً على ارتكاب محرّم أو ترك واجب ثم غاب عنه بحيث لا يلتفت إلى حاله أفهل يتوهّم أحد صدق الإكراه هنا لانّ الجائر لو علم بمخالفة المكرَه إيّاه لبطش به فيجوز ارتكاب الحرام أو ترك الواجب؟!

وذكر الشيخ الاصفهاني (رحمه الله)(2) في مقام الردّ على مقالة الشيخ الانصاري (رضوان الله عليه): انّه صحيح ما ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله) من انّ الضرر مترتّب على الامتناع على تقدير اعتقاد المكرِه واكتشافه لواقع الحال لا مطلقاً ولكن هذا ينتج عكس مقصود الشيخ أي يثبت في المقام عدم صدق الإكراه وذلك لانّ الضرر إذا كان مترتباً على الامتناع الاعتقادي لا مطلق الامتناع، إذن هو مكرَه على ترك الامتناع الاعتقادي لا مطلق الامتناع فانّ المكره عليه انّما هو ترك ما يجلب الضرر لا ترك شيء آخر، والذي يجلب الضرر في مورد القدرة على التورية انّما هو عدم إجراء العقد لا حقيقة ولا على نحو التورية فانّه الذي يكشفه المكرِه ويعلم به أمّا ترك العقد الحقيقي الذي يتحقّق ضمن التورية فلا يجلب الضرر فلا إكراه عليه.


(1) في مصباح الفقاهة 3: 306.

(2) في تعليقته على المكاسب 1: 123.

24

أقول: إنّ هذا الكلام في نفسه وإن كان صحيحاً ولكن الظاهر انّ خطأ الشيخ الانصاري (رحمه الله) يكمن في الخلط بين القضيّة المطلقة والقضيّة الفعليّة فحلّ إشكاله في المقام يكون بإلفات النظر إلى الفرق بينهما كما مضى منّا.

ثم انّ الشيخ الانصاري (رحمه الله) ذكر أيضاً في المقام: انّه حتى لو قلنا: إنّ مقتضى القواعد اعتبار العجز عن التورية وانّه مع القدرة عليها لا يثبت الإكراه فقد ثبت بالتعبّد بحكم الروايات عدم اعتبار العجز عنها وانّ القادر على التورية ملحق حكماً بالمكرَه، لانّ حمل عموم رفع الإكراه وخصوص النصوص الواردة في طلاق المكره وعتقه والأخبار الكثيرة المجوّزة للحلف كاذباً عند الخوف والإكراه على فرض العجز عن التورية لجهل أو دهشة حمل على فرد نادر مع انّ العجز عنها لو كان معتبراً لاشير إليه في تلك الروايات خصوصاً في قضيّة عمّار وأبويه حيث اكرهوا على الكفر فأبى أبواه فقُتلا وأظهر لهم عمّار ما أرادوا فجاء باكياً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)فنزلت الآية ﴿مَن كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾(1) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان عادوا عليك فعد ولم ينبّهه على التورية فان التنبيه في المقام وإن لم يكن واجباً إلّا انّه لا شك في رجحانه خصوصاً من النبيّ (صلى الله عليه وآله) باعتبار شفقته على عمّار وعلمه بكراهة تكلّم عمّار بألفاظ الكفر من دون تورية كما لا يخفى(2).

وأورد على ذلك السيد الخوئي(3) بانّ التمسّك بأدلّة رفع الإكراه العامّة أو


(1) النحل: 106.

(2) راجع المكاسب 1: 119 ـ 120، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(3) راجع المحاضرات 2: 251، ومصباح الفقاهة 3: 306.

25

الخاصّة لعدم اشتراط العجز عن التورية رغم فرض دخل العجز عنها في صدق الإكراه عجيب ولا علاقة لهذا بلزوم حمل العام على الفرد النادر، فان حمل العام على الفرد النادر الذي هو مستهجن يعني صرف العام عن عمومه إلى النادر من أفراده أمّا إذا فرض انّ نفس عنوان العام لا يشمل إلّا الأفراد النادرة فليس هذا من باب ما يقال من حمل العام على الفرد النادر.

وكذلك أورد السيد الخوئي(1) على استدلال الشيخ بحديث عمّار: أوّلا ـ بانّ جلالة قدر عمّار تقتضي انّه ورّى في ذلك ولم يقصد الكفر والتبرّي من النبي (صلى الله عليه وآله)ودينه.

وثانياً ـ بأنَّ التورية في إظهار الكفر ليست فراراً عن الحرام كي يترقّب تنبيه النبي (صلى الله عليه وآله) على ذلك فان نفس إظهار الكفر والتبرّي هتك لله سبحانه وتجاسر لعظمته وهو حرام وذلك سنخ حرمة السب وهتك المؤمن التي لا تنتفي بالتورية.

أقول: إنّ كلّ هذه المناقشات يمكن الجواب عليها: أمّا ثبوت حرمة إظهار الكفر ولو تورية لما فيه من الهتك والتجاسر فهو وإن كان مسلماً لكن تبقى في المقام حرمة اُخرى قد يقال بانّها تختصّ بفرض عدم التورية وهي حرمة الكذب. وأمّا كون عمّار اجلّ شأناً من أن يكون قد كفر حقيقة فهذا ممّا لا غبار عليه، إلّا انّ هذا لا يعني انّه قد ورّى فالمقصود بالتورية أن يكون مستعملا للفظ في غير ظاهره من الكفر، ولنفترض انّه لم يورِّ ولو غفلة أو ذهولا، أو لعدم الاعتقاد بوجود فائدة في التورية فاستعمل اللفظ في معناه الظاهر، لكن استعمال اللفظ في معناه خوفاً من العذاب لدى الغفلة عن التورية أو اعتقاد عدم فائدة فيها شيء وأن يكون قد


(1) راجع المحاضرات 2: 251 ـ 252، ومصباح الفقاهة 3: 306 ـ 307.

26

كفر حقيقة في قرارات قلبه شيء آخر، وعظمة عمّار انّما تنفي الثاني دون الأوّل.

وأمّا ما أورده من انّ التمسّك بأدلّة رفع الإكراه العامّة والخاصّة في غير محله لفرض دخل العجز عن التورية في صدق الإكراه فقد يجاب عليه بلحاظ الأدلّة الخاصّة ان المقصود بالإكراه ليس هو الإكراه على الطلاق الحقيقي مثلا.

وذلك لانّ عدم تجاوز إحاطة المكرِه لدائرة اللفظ والظاهر إلى ما في القلب قرينة عرفيّة على انّ المقصود بالروايات هو الإكراه على اللفظ وإظهار الطلاق سواء حصل صدفة الإكراه على واقع الطلاق لعجز الشخص عن التورية أو لا، وعند ذلك يقال: إنّ حمل هذه الأدلّة على الإكراه على الطلاق الحقيقي للعجز عن التورية حمل على النادر أو خلاف الإطلاق.

ونفس هذا البيان يأتي في الآية الشريفة: ﴿إلّا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾نعم هذا البيان لا يأتي في الرفع العام وهو حديث رفع الإكراه الذي يكون في كثير من موارده كالإكراه على المحرّمات إكراهاً على الواقع حينما لا يمكن للمكرِه الاحتيال بإظهار خلاف الواقع بإدارةِ الخمر في جيبه مثلا. هذا. وخصوص قضيّة عمّار ان ثبتت سنداً لا مبرّر لحملها على فرض العجز عن التورية لانّ قوله (صلى الله عليه وآله): «إن عادوا عليك فعُد» مطلق يشمل فرض ما لو قدر على التورية، وهذا بنفسه دليل على انّ المقصود بالإكراه في الآية الشريفة الواردة في تلك القصّة هو الإكراه على إظهار الكفر الشامل لفرض التورية.

على انّ هذا الإشكال لو تمّ في روايات الإكراه على الطلاق والعتاق لا يرد في روايات الحلف كاذباً(1) فانّه لم تفترض فيها إرادة الظالم للإكراه على الحلف


(1) الوسائل 16: 134 ـ 137، الباب 12 من أبواب الأيمان.

27

الكاذب حتى يقال انّها لا تشمل فرض القدرة على التورية وانّما افترضت فيها إرادته للإكراه على شيء آخر كدفع العُشر فجوّز له الإمام (عليه السلام)التخلّص من هذا الإكراه بالحلف الكاذب، وهذا يشمل بإطلاقه فرض القدرة على التورية وذلك من قبيل ما عن زرارة بسند تام قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام)نمرّ بالمال على العشّار فيطلبون منّا ان نحلف لهم ويخلّون سبيلنا ولا يرضون منّا إلّا بذلك قال: فاحلف لهم فهو أحلّ من التمر والزبد(1).

فانّه من الواضح انّ مقصود العشّار ليس هو بالذات الإكراه على الحلف كي يفترض ان نستظهر من الحديث الإكراه على الحلف الكاذب دون التورية، وانّما مقصوده بالذات هو أخذ العشر من أمواله إن كانت معه أموال، ويرى الحلف أمارة على المال، فالحديث مطلق لغرض القدرة على التورية وعدمها.

ونحو هذه الروايات روايات جواز الكذب في الإصلاح فانّها تشمل بإطلاقها فرض القدرة على التورية(2) من قبيل ما ورد عن معاوية بن عمّار بسند تام عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: المصلح ليس بكذّاب(3). نعم يرد على الاستدلال بروايات الحلف كاذباً أو روايات الكذب للإصلاح ان فرض حليّة الحلف كاذباً، أو الكذب للإصلاح رغم القدرة على التورية ليس دليلا على بطلان بيع المكره إذا قصد المعنى الحقيقي رغم القدرة على التورية، فإنّ هذا قياس خاصّة إذا قلنا إنّ جواز الحلف كاذباً أمام الظالم رغم القدرة على التورية ثابت بمقتضى القواعد بلا حاجة إلى التعبّد بهذه الروايات.

 


(1) الوسائل 16: 137، الباب 12 من أبواب الأيمان، الحديث 6.

(2) راجع الوسائل 8: 578 ـ 580، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة.

(3) الوسائل 8: 578، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

28

والوجه في جواز ذلك بمقتضى القواعد أمران:

الأوّل ـ ان يقال: إنّ التورية كذب فلا معنى للتفصّي عن الكذب بالتورية وتوضيح الحال في ذلك: انّ الكلام توجد له عادة دلالة على إرادات ثلاث:

1 ـ إرادة استعمال اللفظ في المعنى.

2 ـ إرادة اخطار المعنى لذهن السامع.

3 ـ إرادة المدلول الجدّي من قصد الحكاية أو غير ذلك.

وشرح ذلك موكول إلى محله من علم الاُصول، إلّا انّ هدفي من الإشارة إلى ذلك توضيح انّ الإرادة الاستعمالية هي غير إرادة اخطار المعنى لذهن السامع، خلافاً لما تعارف لدى الأصحاب، ووفاقاً لما عن استاذنا الشهيد (رحمه الله) في تقرير السيد الهاشمي (حفظه الله)(1) بدليل انّه قد يستعمل اللفظ في المعنى من دون إرادة اخطار ذاك المعنى كما في موارد استعمال اللفظ في أحد معانيه المشتركة مع تعمّد إخفائه عن فهم المخاطب بعدم إقامة القرينة عليه فهو بينه وبين نفسه قد قصد معنىً معيناً من اللفظ ولكنه لم يقصد اخطاره إلى ذهن المخاطب، بل قد يقصد إخطار معنى آخر إلى ذهن المخاطب غير ما استعمل اللفظ فيه كما هو الحال في كثير من موارد التورية، إذن فاستعمال اللفظ في المعنى ليس عبارة عن قصد الاخطار وانّما هو عبارة عن نوع فعّالية للنفس بقدرة مودعة فيها من قبل الله تعالى وهي نوع إشارة باللفظ إلى المعنى شبيهة بالإشارة بالاصبع مثلا.

وما عن استاذنا الشهيد (رحمه الله) في تقرير السيد الهاشمي بعد توضيح انّ الإرادة الاستعمالية ليست هي إرادة تفهيم المعنى واخطاره باللفظ من: انّ (الإرادة


(1) بحوث في علم الاُصول 1: 132.

29

الاستعمالية عبارة عن إرادة التلفّظ باللفظ ولكن لا بما انّه صوت مخصوص بل بما انّه دال بحسب طبعه وصالح في ذاته لإيجاد صورة المعنى في الذهن) ان رجع إلى ما قلناه وهو ما سمّيناه بالإشارة إلى المعنى باللفظ فهو صحيح وإلّا لم نفهم المقصود منه فان كون دلالته بالطبع على المعنى المستعمل فيه هي الحيثية التي تعنون بها إرادة التلفّظ لو لم يرجع إلى ما قلناه لا نفهم له محصلا عدا كون هذه الحيثية هي التي دعت إلى إرادة التلفّظ، وهذه الحيثية لا تدعو إلى ذلك إلّا حينما تكون الغاية من التلفّظ إفهام ذاك المعنى وإخطار إلى ذهن السامع، وهذا رجوع مرة اُخرى إلى الإرادة الإخطارية.

إذا عرفت هذه الإرادات الثلاث قلنا: إنّ فرق التورية عن الكذب الذي لا تورية فيه ليس في المعنى الذي يخطره إلى ذهن السامع، ولا في الدلالة التصديقيّة الجدّيّة التي يريد إفهامها للسامع فلو قال للمخاطب الذي يطالبه بالمال مثلا: (والله انّ يدي خالية) قاصداً بذلك صرفه عن مطالبته المال بتخيّل كونه صفر اليدين من المال لم يكن فرق بين ان يقصد كذباً عدم امتلاكه للمال وان يقصد تورية خلو يده من وجود عين مقبوضة في انّه أراد ان يخطر في ذهن السامع المعنى الأوّل، وأن يفهّمه حكاية المعنى الأوّل، وانّما الفرق بينهما في الإرادة الاستعمالية حيث قد يجعل اللفظ بينه وبين نفسه إشارة إلى المعنى الأوّل، وقد يجعله إشارة إلى المعنى الثاني، ولكنّه على كلا التقديرين يريد إظهار المعنى الأوّل للمخاطب إذ من الواضح ان فائدة التورية هي ان يفهم المخاطب غير المعنى الذي قصده المتكلّم باستعماله، أمّا لو فهم المخاطب نفس المعنى المقصود حقيقة فقد فسدت التورية وانتقض الفرض كما هو واضح.

وعندئذ يجب ان نرى انّ المقياس في الكذب ما هو؟ هل هو مخالفة

30

المدلول الجدّي، وهو الحكاية للواقع أو كون الدلالة الإخطارية أو الإرادة الاستعمالية غير منسجمة وغير متناسبة لدلالة جدّية مطابقة للواقع؟

لا شك ولا ريب في انّ مجرّد عدم انسجام الدّلالة الاخطارية أو الإرادة الاستعمالية لدلالة جدّية مطابقة للواقع لا يكفي في صدق عنوان الكذب، فلو استعمل اللفظ في معنى وقصد إخطاره إلى ذهن المخاطب في مجال المزاح لا في مجال الجدّ وكانت القرينة الحالية على ذلك مثلا واضحة فمن الواضح انّ عنوان الكذب لا يصدق في المقام، إذن فمخالفة الإرادة الحكائية للواقع لها ركنيّة في صدق عنوان الكذب حتماً وعندئذ لا يبقى مجال لدعوى خروج التورية عن تحت عنوان الكذب، إلّا بان يدّعى انّ مخالفة الإرادة الحكائية للواقع وإن كانت ركناً وشرطاً في صدق عنوان الكذب ولكن عدم انسجام الإرادة الاستعمالية لإرادة جدّية مطابقة للواقع أيضاً شرط في صدق عنوان الكذب، فتخلّف أحد الأمرين كاف في الخروج عن عنوان الكذب والتورية، وإن كانت لا تختلف عن الكذب في الدّلالة الجدّية لكنها تختلف عنه في الإرادة الاستعمالية، وهذا كاف في نفي عنوان الكذب وذلك بدعوى انّ المتبادر من عنوان الكذب ما اجتمع فيه الشرطان.

إلّا انّنا وإن كنّا لا نملك برهاناً على رفض هذه الدعوى فانّ التبادر أمر وجداني لا يمكن نفيه بالبرهان، لكنّنا لا يتبادر إلى ذهننا من عنوان الكذب عدا مخالفة الإرادة الجدّية الحكائية للواقع.

الثاني ـ انّنا لو لم نقبل ما مضى في البيان الأوّل من انّ مقياس الكذب في مدلوله العرفي انّما هو عدم مطابقة ما اريد تفهيمه من الحكاية للمخاطب للواقع دون دخل شيء آخر فيه، فلا أقلّ من ان المفهوم عرفاً بمناسبات الحكم

31

والموضوع من أدلّة حرمة الكذب انّها تنظر إلى هذا الجانب فحسب، فانّ الكذب كما يحمل حرمة شرعية كذلك يحمل حرمة عقلائية مرتكزة في أذهان العقلاء، ومن الواضح انّه لا قيمة للإرادة الاستعمالية نفياً وإثباتاً في حساب هذا الأمر الارتكازي، وانّما المهم فيه كون الحكاية مضللة للمخاطب وحكايةً لأمر مخالف للواقع، والارتكازات العقلائية لها تأثيرها الكبير على مداليل الألفاظ في الأدلّة اللفظية، فالمنصرف من أدلّة حرمة الكذب انّما هو النظر إلى جانب الإرادة الحكائية فحسب، سواء فرض انّ المدلول اللغوي للكذب يشمل التورية أو لا.

نعم التضليل عن غير طريق الحكاية حينما لا يكون مضرّاً بالأهداف المحلَّلة للآخرين لا يحمل حرمة في ارتكاز العقلاء من قبيل الإنشاء كما لو قال: (بعت) بقصد إبراز الإنشاء في حين انّه لم يكن يقصد الجدّ في ذلك، وكما لو أشعل الكهرباء في بيته الذي سيتركه فارغاً كي تكون لوجود النور في البيت دلالة طبعية لا حكائية على وجود إنسان في البيت كي يؤدّي ذلك إلى امتناع السرّاق عن التخطيط لسرقة ما في البيت، فثبوت مثل هذه الدلالة لغير السرّاق أيضاً لا يكون حراماً في مرتكز العقلاء ما دامت الدلالة طبعية لا حكائية، لا انّه يكون حراماً عقلائياً في ذاته وترتفع الحرمة بالتزاحم مع مصلحة دفع السرّاق مثلا.

والحاصل انّ مقتضى القواعد انّه لا فرق بين التورية والكذب، إمّا لدخول التورية في الكذب موضوعاً كما مضى في الوجه الأول، أو لالتحاقها به حكماً كما عرفته في الوجه الثاني.

نعم لا نمنع عن رجحان الالتزام بالتورية في كل مورد جاز فيه الكذب على أساس أمر تربوي، وهو بقاء ملكة التحرّز عن الكذب في النفس وعدم تعوّد النفس على التهاون بالكذب، فصحيح انّ التورية هي كذب في واقعها حقيقة أو