33

زرارة ثقة مثلاً هو: أنّ نقل زرارة له دلالة ظنّيّة على صحّة ما ينقله، وأنّه يصدق غالباً في نقله، فحينما يكون ما ينقله حكماً من الأحكام فوثاقته تدلّ على أنّه صادق في هذا الحكم بمقدار سبعين بالمائة مثلاً، فهذا من قبيل قولنا: إنّ الأمر ظاهر في الوجوب، أي: يكشف عن الوجوب بمقدار سبعين بالمائة مثلاً، فكما أنّ قاعدة « ظهور الأمر في الوجوب » قاعدة اُصوليّة كذلك قاعدة « أنّ زرارة يصدق غالباً في نقله » تكون قاعدة اُصوليّة. نعم، الصدق الغالبي لزرارة لا يكفي لإثبات الحكم ظاهراً على المكلّف ما لم تضمّ إليه قاعدة حجّيّة خبر الثقة، كما أنّ ظهور الأمر في الوجوب لا يكفي لإثبات الوجوب ظاهراً على المكلّف ما لم تضمّ إليه قاعدة حجّيّة الظهور.

بل بالإمكان أن يدّعى: أنّ علم الاُصول ـ بناءً على هذا التعريف ـ يتّسع بمقدار كلّ ما يوجد في العالَم من قواعد دخيلة في الاستنباط، فمثلاً بالإمكان صياغة قاعدة اُصوليّة توازي قاعدة دلالة الصعيد على التراب أو على وجه الأرض، وذلك بأن يقال: ( متى ما كان الصعيد موضوعاً لحكم ثبت ذلك الحكم على التراب أو على وجه الأرض ) وهذا معناه: أنّ الفرق بين القواعد اللغويّة، أو أيّ قاعدة اُخرى دخيلة في الاستنباط وبين القواعد الاُصوليّة إنّما هو فرق راجع إلى صياغة الكلام من دون وجود فارق جوهريّ، بينما ليس الأمر هكذا.

 

التعريف المختار لعلم الاُصول:

وأمّا التعريف المختار لعلم الاُصول فهو أن يقال: إنّ علم الاُصول هو العلم بالقواعد المشتركة في القياس الاستدلاليّ الفقهيّ. وتوضيح ذلك: أنّ نسبة علم الاُصول إلى علم الفقه كنسبة علم المنطق إلى سائر العلوم، فعلم المنطق يتناول

34

صور الاستدلال المشتركة بين العلوم، وعلم الاُصول يتناول صور الاستدلال المشتركة في الفقه، وبالتحليل ترجع القيود التي نأخذها في تعريف علم الاُصول إلى قيود ثلاثة:

القيد الأوّل: أنّ القواعد الاُصوليّة لا تؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ الفقه، أعني: فعلاً معيناً من أفعال المكلّفين كالصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك(1)، أي: أنّها تكون لا بشرط تجاه هذه الموادّ، كما أنّ القواعد المنطقيّة لا تُؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ العلوم، فهي لا تتكلّم عن الموادّ الفيزيائيّة، ولا الأعداد الرياضيّة، ولا الأدوية الطبّيّة ولا غير ذلك، وإنّما تتناول صورة الاستدلال التي تسري في كلّ هذه العلوم. وبهذا القيد تخرج القواعد اللغويّة البحتة من قبيل دلالة كلمة « صعيد » على التراب أو مطلق وجه الأرض، فإنّها إنّما تفيد في استنباط حكم فعل مضاف إلى التراب أو وجه الأرض، ولا تكون لا بشرط من حيث خصوصيّة الأفعال، وتخرج مسائل علم الحديث، أعني: آحاد الروايات، فإنّ كلّ رواية منها تبيّن حكماً مختصّاً بفعل خاصّ من الأفعال، وتخرج أيضاً القواعد الاستدلاليّة الفقهيّة التي تكون من قبيل قاعدة: إنّ دليل صحّة البيع يدلّ على الضمان مثلاً، فإنّها مختصّة بمادّة معيّنة من الموادّ كمادّة البيع، كما أنّ القواعد الفقهيّة(2) التي هي من


(1) ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث الاستصحاب من الدورة السابقة، أي: الدورة الاُولى أدقّ تعبيراً من التعبير الوارد هنا، وهو: أنّ موادّ الفقه التي لا تؤخذ في القواعد الاُصوليّة هي كلّ عنوان أوّليّ أو ثانويّ متعلق لحكم واقعيّ كالصعيد مثلا الذي هو عنوان أوّليّ، وكالضرر الذي هو عنوان ثانوي.

راجع كتابنا في تقرير أبحاثه(رحمه الله) الجزء الخامس من القسم الثاني، ص 25 بحسب الطبعة الاُولى وفق مطبعة وتجليد إسماعيليان.

(2) وهي خارجة بالقيد الثاني أيضاً.

35

قبيل ( ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ) مختصّة بمادّة معيّنة من الموادّ.

وهذا القيد جامع لجميع المسائل الاُصوليّة، فهي جميعاً لا تتقيّد بمادّة دون اُخرى، سواء كانت من مباحث الحجج والاُصول كحجّيّة خبر الواحد أو الاستصحاب، فإنّها ـ كما ترى ـ غير مشروطة بمادّة معيّنة، أو كانت من مباحث الاستلزامات والامتناعات العقليّة، فإنّها تنفي حكماً أو تثبت حكماً من دون تقيّد ببعض الأفعال دون بعض، وذلك من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، أو كانت من مباحث صغريات الظهور كظهور الأمر في الوجوب، والنهي في الحرمة، فإنّها ـ كما ترى ـ غير مختصّة بمادّة دون اُخرى، فالأمر في ضمن أيّ مادّة كان يدلّ على الوجوب، والنهي في ضمن أيّ مادّة كان يدلّ على الحرمة. نعم، دلالة الأمر على الوجوب مختصّة بحكم من الأحكام وهو الوجوب، ودلالة النهي على الحرمة أيضاً مختصّة بحكم من الأحكام وهي الحرمة، لكنّنا نقصد بعدم تقيّد القاعدة الاُصوليّة بمادّة دون مادّة عدم تقيّدها ببعض موادّ الأفعال دون بعض، لا عدم تقيّدها ببعض الأحكام دون بعض. نعم، دلالة النهي على الفساد مثلاً لا تجري في كلّ الأفعال؛ إذ هي تختصّ بالأفعال التي يتصوّر فيها الصحّة والفساد،لكنّ هذا اختصاص في طول اختصاص الحكم، أي: بما أنّ الفساد لا يتصوّر إلاّ في بعض الأفعال فالقاعدة اختصّت ببعض الأفعال، فالقاعدة بما هي لا تختصّ بفعل معيّن، وإنّما تختصّ بحكم معيّن وهو الفساد، فتسري فيما أمكن سريان الصحّة والفساد فيه.

وبهذا القيد تخرج مباحث الصحيح والأعمّ، ومباحث المشتقّ من علم الاُصول، حيث إنّها مختصّة بمادّة معيّنة من الموادّ، فبحث المشتقّ إنّما يتدخّل في استنباط حكم فعل مضاف إلى مشتقّ من المشتقّات، كوجوب إكرام العالم لا كوجوب الصلاة مثلاً، وبحث الصحيح والأعمّ إنّما يتدخّل في استنباط حكم

36

مضاف إلى فعل يكون فيه الصحيح والأعمّ.

ومن امتيازات تعريفنا على التعاريف الماضية أنّه كانت تُؤخذ في التعاريف الماضية قيود لإخراج ما ليس من القواعد الاُصوليّة، ولا مبرّر لتلك القيود عدا أنّ الاُصوليّين عملا قد أخرجوا تلك القواعد عن علم الاُصول من دون أن تبرز نكتة ثبوتيّة لهذا العمل، فيقال مثلاً: إنّ القاعدة الاُصوليّة هي التي تكفي وحدها في مقام الاستنباط، أو هي التي تكون ناظرة إلى الحكم. وقيد الوحدة أو قيد النظر إنّما هو قيد انتزع من الواقع الخارجيّ لعلم الاُصول المدوّن في الكتب من دون أن توجد نكتة من أوّل الأمر في جعل علم الاُصول هي خصوص القواعد التي تكفي وحدها في الاستنباط، أو خصوص القواعد التي تنظر إلى الحكم، فهذه القيود هي تصحّح عمل الاُصوليّين من دون أن توجّهها، ولكن التعريف الذي ذكرناه يصحّح عمل الاُصوليّين ويوجّهه في نفس الوقت؛ لأنّ جميع القيود المأخوذة فيه مشتملة على مناسبة ثبوتيّة ومبرّر واقعيّ لأخذها بعين الاعتبار في علم الاُصول، بحيث لو اُعطي بيدنا تدوين علم الاُصول وتأسيسه من أصله لما أسّسنا ودوّنّا إلاّ بنفس هذا الترتيب المشتمل على هذه القيود.

فبالنسبة للقيد الأوّل وهو كون القاعدة لا بشرط من حيث الموادّ ترى المناسبة واضحة في أخذه بعين الاعتبار، فإنّ علم الاُصول نشأ في أحضان علم الفقه، وتولّد بعد علم الفقه تأريخيّاً تلبية للحاجات الفنّيّة لعلم الفقه، حيث إنّ علم الفقه احتاج في كثير من الأحيان إلى قواعد واستدلالات، وتلك القواعد والاستدلالات بعضها كانت مقيّدة بمادّة معيّنة من قبيل قاعدة ما يضمن المقيّدة بالعقود مثلاً، ومن الواضح: أنّ مثل هذه القاعدة يناسب ذكرها في مبحث تلك المادّة، وبعضها كانت عامّة وغير مقيّدة بمادّة دون مادّة، فكان من المناسب

37

أفرادها بالبحث، فاُفردت تلك القواعد بالبحث، وسمّيت بعلم الاُصول.

القيد الثاني: أن تكون تلك القاعدة: إمّا غير مقيّدة بحكم معيّن من قبيلحجّيّة خبر الثقة المنسجمة مع تمام الأحكام الفقهيّة، أو تكون مقيّدة بحكمسار في أبواب كثيرة من أبواب الفقه من قبيل دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، واقتضاء النهي للفساد ونحو ذلك، فإنّ هذه القواعد وإن اختصّت بحكم معيّن من قبيل الوجوب أو الحرمة أو الفساد، إلاّ أنّ هذه الأحكام ـ كما ترى ـ سيّالة في سائر أبواب الفقه. وبهذا يخرج عن علم الاُصول ما كان من قبيل قاعدة ( أنّ ما دلّ على مطهّريّة شيء فقد دلّ على طهارته )، فإنّ هذه القاعدةوإن لم تكن مقيّدة بفعل من الأفعال، إلاّ أنّها مقيّدة بحكم معيّن غير سيّال في أبواب الفقه وهو الطهارة فمن الواضح: أنّ مثل هذه القاعدة يناسب ذكرها في ذلك الباب الفقهيّ المعيّن، لا إفرادها وجعلها في ضمن القواعد الاُصوليّة المستقلّة عن علم الفقه.

القيد الثالث: أن تكون تلك القاعدة الداخلة في القياس الاستدلاليّ للفقه داخلة في القياس الأخير للاستنباط، وجميع القواعد الاُصوليّة من هذا القبيل، فمبحث الملازمات والامتناعات يدخل في القياس المباشر لاستنباط الحكم نفياً أو إثباتاً، وكذلك مباحث الحجج والاُصول، أو مباحث صغريات الظهور، غاية الأمر أنّ بعض هذه المباحث يدخل في كبرى القياس المباشر للاستنباط من قبيل حجّيّة خبر الثقة، فيقال مثلاً: هذا الحكم ما أخبر به الثقة، وكلّما أخبر به الثقة فهو ثابت تعبّداً، فهذا الحكم ثابت تعبّداً، وبعضها يدخل في صغرى القياس المباشر للاستنباط من قبيل مباحث صغريات الظهور، فيقال مثلاً: هذا الأمر ظاهر في الوجوب، والظهور يثبت الحكم تعبّداً، إذن فالوجوب ثابت تعبّداً.

38

والمناسبة في أخذ هذا القيد في التعريف أيضاً واضحة، فإنّ قواعد العلم إذا كانت مستنبطة من أقيسة مركّبة من مقدّمات، وتلك المقدّمات أيضاً بالتحليل كانت ترجع إلى مقدّمات اُخرى فوقها... وهكذا، فهذه المقدّمات بجميع طبقاتها وإن كانت مقدّمات لذاك العلم، ولكن المقدّمات الفوقيّة مقتضى طبعها أن يعقل دخلها في دائرة أوسع من ذلك العلم، فالمناسب بحسب الذوق العلميّ أن تجعل علماً مستقلاًّ غير مرتبط بعلم المقدّمات المباشرة، فمثلاً علم الاُصول هو علم بمقدّمات دخيلة في القياس المباشر للاستنباط، ولكن حينما تحلّل تلك المقدّمات نرى أنّها ترجع أيضاً إلى مقدّمات اُخرى فوقها وهي المقدّمات المنطقيّة، فلولا القاعدة المنطقيّة القائلة: « إذا كان الأصغر داخلاً في الأوسط الداخل في الأكبر، كان ذلك الأصغر داخلاً في الأكبر » لما أمكن الاستنباط من المقدّمات الاُصوليّة؛ لعدم التأكّد من صحّة صورة القياس المركّب من مقدّمات اُصوليّة، وحينئذ ترى من المناسب أن يكون علم الاُصول منطقاً لعلم الفقه، وأن يكون علم المنطق منطقاً لدائرة أوسع وهي مطلق العلوم، فإنّه يشتمل على مقدّمات فوقيّة ودخيلة في علوم اُخرى، وليس من المناسب بحسب الذوق العلميّ إدخال المقدّمات بجميع طبقاتها في علم واحد.

وقد اتّضح بما ذكرناه نكتة خروج علم الرجال من علم الاُصول أيضاً، فإنّ وثاقة زرارة ليست دخيلة في القياس المباشر للاستنباط، وإنّما هي من مقدّمات قياس سابق، حيث يقال أوّلاً: «هذا خبر زرارة، وزرارة ثقة، فهذا خبر ثقة»، وبعد ذلك يقال: «هذا ما أخبر به الثقة، وكلّما أخبر به الثقة فهو ثابت تعبّداً، فهذا ثابت تعبّداً»، فالقياس الأوّل بكلتا مقدّمتَيه خارج عن علم الاُصول، وأمّا القياس الثاني وهو القياس المباشر، فصغراه خارجة عن علم الاُصول بالقيد الأوّل؛ لتقيّده بمادّة

39

معيّنة ورد فيها ذلك الخبر، وكبراه داخلة في علم الاُصول(1).

 


(1) قد يقال ـ كما مضى في النقاش مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ـ: إنّه لا ينبغي أن يصاغ التعريف بصياغة تؤدّي إلى كون الفرق بين القواعد الاُصوليّة والقواعد الاُخرى الدخيلة في الاستنباط فرقاً في الصياغة، لا فرقاً جوهريّاً، بحيث كان بالإمكان تغيير صياغة تلك القواعد الاُخرى إلى ما يدخلها في علم الاُصول، فكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ خروج مسائل علم الرجال عن الاُصول أصبح أمراً صياغيّاً بحتاً، فلو بدّلنا صياغة المسألة الرجاليّة التي تقول: « زرارة ثقة » إلى قولنا: « كلّ خبر زرارة خبر ثقة » أصبحت هذه المسألة داخلة في علم الاُصول؛ إذ بالإمكان أن نشير إلى خبر من أخبار زرارة دالّ على أحد الأحكام ونقول: «هذا الخبر خبر ثقة، وخبر الثقة يثبت الحكم تعبّداً، إذن فهذا الحكم ثابت تعبّداً»، فقد أصبح كون خبر زرارة خبر ثقة صغرى في القياس المباشر للاستنباط، وهذا سنخ ما مضى من اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في مقام توضيح كون دلالة الأمر على الوجوب مسألة اُصوليّة من أنّنا نقول: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب، والظهور يثبت الحكم تعبّداً، إذن فالوجوب ثابت تعبّداً».

فإن قلت: إنّ قولك: «هذا الخبر خبر ثقة» خاصّ بمادّة من الموادّ، وهي الفعل الذي يحكي عنه هذا الخبر، فهذا خارج بالقيد الأوّل، قلنا: كذلك قولك: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب» خاصّ بالفعل الذي اُمر به في هذا الأمر، فإن جعلنا وقوع تطبيق من تطبيقات « الأمر ظاهر في الوجوب » صغرى للقياس المباشر كافياً في صدق عنوان: أنّ ظهور الأمر في الوجوب الذي لا يختصّ بمادّة من الموادّ وقع صغرى للقياس المباشر، فلنقل كذلك في المقام: إنّ وقوع تطبيق من تطبيقات « كلّ خبر زرارة خبر ثقة » صغرى للقياس المباشر كاف في صدق عنوان: أنّ كون خبر زرارة خبر ثقة الذي لا يختصّ بمادّة من الموادّ وقع صغرى للقياس المباشر.

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بأن يقال: إنّ قولنا: «هذا الخبر خبر ثقة» وإن كان تطبيقاً لقولنا: «كلّ خبر زرارة خبر ثقة»، كما أنّ قولنا: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب» تطبيق لقولنا: «الأمر ظاهر في الوجوب»، ولكن يوجد فرق جوهريّ بين التطبيقين، وهو:

40


أنّ التطبيق في الثاني يكون بمعنى العينيّة بين القضيّتين موضوعاً ومحمولاً، وأنّه لا فرق بينهما إلاّ في الكلّيّة والجزئيّة، وأمّا التطبيق في الأوّل فليس بهذا المعنى، وإنّما هو بمعنى الملازمة، أي: أنّ هذا الخبر مضاف إلى زرارة والوثاقة أيضاً مضافة إلى زرارة، فأصبح المضافان متلاقيين بلحاظ وحدة المضاف إليه، فصار هذا الخبر خبر ثقة، وبكلمة اُخرى: أنّ وثاقة زرارة حيثيّة تعليليّة لكون هذا الخبر خبر ثقة، ولكن ظهور الأمر في الوجوب هو عين ظهور هذا الأمر في الوجوب عينيّة الكلّيّ للمصداق، وليس مجرّد حيثيّة تعليليّة.

نعم، ذات كون هذا الخبر خبر ثقة قد أصبح دخيلاً في القياس المباشر، لكنّ هذا لا يشفع لا لكون ذلك داخلاً في علم الاُصول، ولا لكون قولنا: «كلّ خبر زرارة خبر ثقة» أو قولنا: «زرارة ثقة» داخلاً في علم الاُصول. أمّا الأوّل فلخروجه بالقيد الأوّل؛ لأنّه مختصّ بمادّة الفعل الذي يحكي ذاك الخبر عن حكمه، وأمّا الثاني فلأنّه ليس إلاّ حيثيّة تعليليّة لما دخل في القياس المباشر، لا عينيّة من باب العينيّة الثابتة بين الكلّيّ والمصداق.

ولكنّ الصحيح: أنّنا لو قسنا جملة « هذا الخبر خبر ثقة » إلى جملة « زرارة ثقة » صحّ القول بأنّ صدق الجملة الثانية مجرّد حيثيّة تعليليّة لصدق الجملة الاُولى من دون أن تكون منطبقة عليها انطباق الكلّيّ على المصداق، ولكنّنا لو قسناها إلى جملة « خبر زرارة خبر ثقة » فهذه الجملة عين الجملة الاُولى عينيّة الكلّيّ والمصداق وليست مجرّد حيثيّة تعليليّة لها، فصحيح: أنّنا حينما نجعل الوثاقة صفة لزرارة فارتباطها بهذا الخبر الذي هو خبر زرارة يكون بواسطة اتحاد طرف النسبتين، وهو زرارة، ويكون هذا حيثيّة تعليليّة لتوصيف هذا الخبر بالوثاقة من دون عينيّة بين الجملتين من سنخ عينيّة القضيّة الكلّيّة والقضيّة الجزئيّة التي تكون مصداقاً لها، ولكن حينما نصف خبر زرارة بكونه خبر ثقة، فانطباق هذا الوصف على هذا الخبر الجزئيّ إنّما يكون لأجل كون هذا الخبر مصداقاً لموصوف هذا الوصف، ومتّحداً معه اتّحاد المصداق مع الكلّيّ، وذلك تماماً من قبيل اتّحاد

41


هذا الأمر مع كلّيّ الأمر الذي وصف بأنّه ظاهر في الوجوب، وهذا معنى ما قلناه من أنّه رجع إذن الفرق بين القواعد الاُصوليّة ومسائل علم الرجال إلى الفرق في الصياغة، فلو صغنا المسألة بصياغة « زرارة ثقة » لم تدخل في علم الاُصول، ولو صغناها بصياغة « خبر زرارة خبر ثقة » دخلت في علم الاُصول.

وقد يقال: إنّ نكتة دخول مسألة من المسائل في علم من العلوم يجب أن تكون ثابتة في كلّ مسائل ذاك العلم، وإلاّ لجاز إدخال كلّ مسألة في ذاك العلم، ولكن لا يجب عدم انطباقها على مسائل علم آخر؛ وذلك لأنّه قد تكون مسائل العلم الآخر رغم اشتمالها على نفس النكتة اُفردت بعلم آخر على أساس جامع آخر مهمّ وواسع المصاديق غير موجود في باقي مسائل العلم الأوّل، فاقتضت المناسبة الذوقيّة جمع تلك المصاديق تحت ذاك الجامع الآخر، وأفرادها عن باقي مسائل العلم الأوّل، وإخراجها عن ذاك العلم، والمسائل الرجاليّة بالقياس إلى المسائل الاُصوليّة من هذا القبيل، فهي يجمعها البحث عن أحوال الرجال، وهو بحث واسع الانطباق على المسائل الكثيرة متميّز عن باقي مسائل علم الاُصول ممّا أوجب اقتضاء المناسبة أفرادها في تصنيف العلوم، فلا محيص عن أن يضاف إلى تعريف ذاك العلم قيد الخروج عن القاسم المشترك الموجود في العلم الآخر.

هذا، ولاُستاذنا الشهيد(قدس سره) بيان آخر لإخراج مسائل علم الرجال غير ما ذكره هنا، وهو ما تعرّض له في أوّل بحث خبر الواحد، ونحن قد حذفناه في تقريرنا المطبوع من هناك ونذكره هنا، وهو: أنّ علم الاُصول وإن كان علماً بالقواعد الفارغة عن الموادّ الفقهيّة، والتي هي موجّهة عامّة صوريّة بحت لعمليّة الاستنباط، ومسائل علم الرجال تحمل هذه الصفة، ولكنّها مع ذلك خارجة عن علم الاُصول، فإنّ ما يبحث عنه فيه إنّما هي الموجّهات الصوريّة التي ترجع إلى الشارع، أي: تكون شأناً من شؤون الشارع: إمّا بأن يكون حكماً مجعولاً للشارع كالحكم بحجّيّة خبر الواحد؛ إذ هو حكم مجعول له تأسيساً أو إمضاءً،

42


وكذلك سائر الأحكام التنجيزيّة والتعذيريّة، أو بأن يكون حالة عامّة في الشريعة وإن لم يكن حكماً له، كأن يقال بأنّ الشارع إذا أمر بشيء أمر بمقدّمته، فإنّه وإن كان قد يقام برهان عقليّ على ذلك، لكنّه مع ذلك حالة ترجع إلى الشارع، أو بأن يكون عبارة عن بناء الشارع والتزاماته في مقام المحاورة والمخاطبة كما في الظهورات، والموجّه الحقيقيّ في بحث ظهور صيغة « افعل » في الوجوب إنّما هو ظهور صيغة « افعل » في الوجوب في لسان الشارع لا في لسان العرف، غاية الأمر أنّنا إنّما نتكلّم عن الظهور العرفيّ باعتبار مقدّمة مطويّة، وهي جريان الشارع على طبق الطريقة العرفيّة، ولهذا ترى أنّه في المورد الذي يحتمل فيه وجود مصطلح خاصّ للشرع يقع البحث عن ذلك في الاُصول، ولذا قال البعض في بحثه الاُصوليّ في صيغة « افعل »: إنّها وإن كانت حقيقة في الوجوب لغةً، لكنّها نقلت شرعاً إلى الاستحباب، أو إلى جامع الوجوب والاستحباب.

والخلاصة: أنّ البحث الاُصوليّ يكون بحثاً عمّا يرجع للشارع، ويكون شأناً من شؤونه، فإنّ علم الاُصول فرض علماً شرعيّاً مربوطاً بالشارع، فالموجّهات العامّة الاُصوليّة كلّها تعود إلى شأن من شؤون الشارع من حكم مجعول له، أو حالة تشريعيّة عامّة فيه، أو بناء عامّ من قبله تأسيساً كما في موارد النقل عمّا عليه العرف، أو إمضاءً كما في موارد جريانه على طبق الفهم العرفيّ. وأمّا وثاقة الراوي فليست شأناً من شؤون الشارع، ولا مأخوذة منه، وكذلك كلّ ما كان من هذا القبيل، كتشخيص كمّيّة الشهرة بحسب الخارج، وتشخيص مقدار علم العلماء لمعرفة مقدار أثر الإجماع، ولهذا لا يبحث في علم الاُصول عن أحوال العلماء من ناحية مقدار علمهم وسعة باعهم ودقّتهم، وإنّما يبحث ذلك في علم التأريخ كما يبحث عن الرواة في علم الرجال وإن كان كلّ ذلك من الموجّهات الصوريّة العامّة.

وذكر (رضوان الله عليه) في أوّل بحث الاستصحاب ما يقارب هذا البيان، فقال:

إنّ أبحاث علم الاُصول لا تكون ضيّقة بحيث تؤخذ فيها مادّة من الموادّ الفقهيّة،

43

وعلم الرجال وإن كان صدفة لا ينفع لعلم آخر غير الفقه، كما هو الحال في علم الاُصول، لكنّه خارج عن علم الاُصول؛ لما عرفت من أنّه يتكلّم عن مقدّمات قبليّة، أي: سابقة على المقدّمات المباشرة، والذوق العلميّ يقتضي فصل المقدّمات القبليّة من المقدّمات المباشرة؛ باعتبار أنّ من طبيعتها أن يتعقّل دخلها في دائرة أوسع وإن اتّفق صدفة عدم دخلها في ذلك.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ القيد الأخير يخرج علم المنطق وعلم الرجال.

 


فلا تصبح منطقاً لعلم الفقه، ولا تكون وسيعة بنحو تكون منطقاً لعلوم اُخرى أيضاً، بل اُخذت فيها الموادّ بدرجة سقطت عن قابليّة كونها منطقاً لسائر العلوم، ولكنّها منطق لعلم الفقه ودخيلة في الاستنباط من دون شرط وقوعها كبرى في طريق الاستنباط، والبحث عن وثاقة الراوي وإن كان أيضاً دخيلاً في الاستنباط، ولكن هنا قيد آخر ثابت بالارتكاز المميّز بين علم الاُصول ومثل علم الرجال، وهو: أنّ علم الاُصول يجب أن يكون مربوطاً بالحكم، بمعنى أن يكون هو حكماً ظاهريّاً كحجّيّة خبر الثقة، أو يكون من مقتضيات الحكم في إحدى المراحل الثلاث: الجعل، والإبراز، والتنجيز أو التعذير، فالأوّل كمباحث إمكان الترتّب، والملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، ونحو ذلك من الاُمور التي يقتضيها الحكم بحسب عالم جعله، والثاني كمباحث دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، والمشتقّ على ما انقضى عنه المبدأ أو المتلبّس، ونحو ذلك، والثالث كمباحث منجّزيّة الاحتمال أو معذّريّته عقلاً.

أقول بمناسبة ذكره(رحمه الله) للمشتقّ: وقد يفترض أنّ بحث المشتقّ أو نحوه كبحث الصحيح والأعمّ داخل في بحث الاُصول بخلاف البحث عن معنى مثل كلمة « الصعيد » هل هو التراب أو مطلق ما على وجه الأرض مثلا، والفرق: أنّ القيد في بحثي المشتقّ والصحيح والأعمّ لم يخرجهما عن سريانهما في الاستنباط في كثير من أبواب الفقه، ولكن القيد في مثل تفسير كلمة « الصعيد » أخرجه عن الدخل في الاستنباط في عامّة أبواب الفقه، وخصّه بمسألة التيمّم.

44

وأمّا حجّيّة القطع فهي أيضاً خارجة عن علم الاُصول؛ لأنّها غير دخيلة أصلاً في عمليّة الاستنباط في الفقه، ولا تشكّل أيّ مقدّمة في القياس الفقهيّ. وتوضيح ذلك: أنّ الفقيه إنّما يكون هدفه في استنباطه هو الوصول إلى القطع بالحكم، أو ما يقوم مقام القطع من أمارات أو اُصول شرعيّة أو اُصول عقليّة، وبعد تحصيل القطع لا يترقّب ـ بما هو فقيه ـ شيئاً آخر، فمباحث الأمارات والاُصول الشرعيّة والعقليّة وإن كانت من علم الاُصول؛ لأنّها دخيلة في القياس الفقهيّ ولو على مستوى تنجيز الحكم، لكن القطع لا يعتبر داخلاً في القياس الفقهيّ وإن كان هو أيضاً منجّزاً للحكم، وعلم الفقه شأنه شأن كلّ العلوم الاُخرى التي تكون الغاية القصوى فيها هي تحصيل القطع بالنتائج، وبعد تحصيل القطع لا يترقّب شيء آخر.

هذا تمام الكلام في تعريف علم الاُصول.

45

 

 

 

 

 

 

موضوع علم الاُصول

 

الجهة الثانية ـ في موضوع علم الاُصول:

وقد قدّم له الأصحاب اُموراً، وبحثوا فيها عن أشياء مأخوذة على ما يقولون من الحكماء والفلاسفة، في حين أنّه لا يوجد لبعض ما ذكروها عين ولا أثر في كلمات الحكماء والفلاسفة.

ونحن أيضاً هنا ـ تبعاً لهم ـ نتكلّم عن اُمور ثلاثة إجابةً لطلب بعض الأحبّة وإن كنّا نرى أنّه لا جدوى في تلك الأبحاث:

الأوّل: أنّ لكلّ علم موضوعاً.

والثاني: أنّ العلم يبحث عن العوارض الذاتيّة للموضوع.

والثالث: معنى العوارض الذاتيّة.

 

هل إنّ لكلّ علم موضوعاً؟

الأوّل: هل يجب أن يمتاز كلّ علم بموضوع معيّن، أو لا؟ فقد قيل: نعم، لابدّ لكلّ علم من موضوع، وقد يبرهن على ذلك. وفي مقابل ذلك تارةً يقال: لا برهان

46

على ضرورة وجود موضوع معيّن لكلّ علم، واُخرى يقال: إنّ هناك برهاناً على خلاف ذلك:

فنحن هنا تارة نتكلّم حول البرهان على ضرورة وجود موضوع معيّن لكلّ علم، واُخرى حول البرهان على عدم ضرورة ذلك.

أمّا الكلام الأوّل، وهو: أنّه هل هناك برهان على ضرورة وجود موضوع معيّن لكلّ علم أو لا؟ فقد بُرهن على ذلك بمجموع مقدّمتين:

الاُولى: القاعدة الفلسفيّة القائِلة: ( إنّ الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد ) بعد الإيمان بأنّها كما تصدق في الواحد بالشخص فهو لا يصدر إلاّ من واحد بالشخص، كذلك تصدق في الواحد بالنوع، فهو لا يصدر إلاّ من الواحد بالنوع.

الثانية: أنّ كلّ علم يترتّب على جميع مسائله غرض واحد بالنوع.

إذن فيكشف هذا الغرض الواحد المترتّب على المسائل المتشتّتة عن وجود جامع حقيقيّ بينها، وهو موضوع العلم.

وتحقيق الكلام في المقدّمة الثانية هو: أنّه لا ينبغي أن يكون المراد من الغرض الواحد المترتّب على مسائل العلم هو الغرض في مرتبة التدوين والدرس؛ إذ من الواضح: أنّ الأغراض تختلف في ذلك باختلاف الناس، فقد نرى شخصاً لم يتعلّق غرض له بتدوين أو درس علم معيّن إلاّ بمقدار قليل منه، وقد نرى شخصاً تعلّق غرضه بأكثر من ذلك، وشخصاً آخر تعلّق غرضه بتمام العلم، وقد يكون الغرض سنخ غرض لا يتحقّق إلاّ بدراسة علوم عديدة من قبيل غرض تحصيل الاجتهاد مثلاً، فليس هناك غرض واحد مشترك بين تمام مسائل العلم حتّى يكشف عن وحدة الموضوع.

فلا بدّ أن يكون المراد من الغرض هو الأثر المترتّب على ذات العلم الثابت في

47

وعائه المناسب له من لوح الواقع كما في الملازمات والتعليلات، أو من وعاء الجعل كما في قواعد الإعراب، أو أيّ وعاء آخر.

ولتوضيح البحث في ذلك نأخذ مثالاً معيّناً ونتكلّم حوله، وهو علم النحو الذي قالوا عنه: إنّ الغرض المترتّب عليه هو صيانة اللسان عن الخطأ في الكلام، فلا ينبغي أن يكون المقصود من ذلك تشخيص غرض العلم في مرحلة التدوين والدرس، وإلاّ فقد يكون الغرض شيئاً آخر كأخذ المال ممّن وعده بالمال، أو النجاة عن وعيد من أمره بدراسة هذا العلم، ونحو ذلك. بل لا بدّ من أن يكون المقصود هي الفائدة المترتّبة على ذات العلم بغضّ النظر عن تدوينه ودرسه.

ويتبادر هنا إلى الذهن سؤال، وهو: كيف يفرض أنّ هذا الغرض يترتّب على ذات العلم بما له من وجود في الوعاء المناسب له، في حين أنّه لو كان وجود علم النحو في واقعه كافياً لصيانة اللسان من الخطأ لَما أخطأ أحد في الكلام سواء عرف علم النحو أو لم يعرف؟

وللجواب على هذا السؤال صياغتان:

الصياغة الاُولى: أن يقال: إنّ المقصود من ترتّب صيانة اللسان على وجود علم النحو ترتّب التمكّن من الصيانة على وجوده، وبكلمة اُخرى لا نقول: إنّ علم النحو علّة تامّة للصيانة، وإنّما نقول: إنّه جزء العلّة، فحينما ينضمّ إليه سائر الأجزاء من إرادة المتكلّم ومعرفته به ترتّبت على ذلك الصيانة.

وحينئذ نقول: هل المراد من صيانة اللسان عن الخطأ في الكلام واقع الصيانة، أو عنوان الصيانة؟ فإن كان المراد واقع الصيانة، قلنا: لا نسلّم وحدة الغرض المترتّب على المسائل، فإنّ واقع الصيانة في الفاعل مثلاً هو التلفّظ بالرفع، وواقعها في المفعول هو التلفّظ بالنصب، وواقعها في المضاف إليه هو التلفّظ بالجرّ، وهذه اُمور متباينة.

48

وإن كان المراد هو عنوان الصيانة فهو غرض واحد يترتّب على المسائل المتشتّتة لعلم النحو، ويكشف مثلاً عن وجود جامع فيما بينها مؤثّر في تحقّق ذاك الغرض، ولكنّ هذا لا يدلّ على كون ذلك الجامع جامعاً ذاتيّاً يقع موضوعاً للعلم، بل قد يكون ذلك الجامع وصفاً عرضيّاً طرأ على كلّ مسائل العلم، وذلك من قبيل عقلائيّة مسائل علم النحو التي تجعل العارف بها مطبّقاً للقواعد الموجودة فيها على كلامه، لكي يطابق كلامه كلام العقلاء الآخرين الذين يتكلّمون بذاك اللسان.

الصياغة الثانية: أن يقال: إنّنا لا نقصد من صيانة اللسان عن الخطأ جعل الإنسان يتكلّم بالنحو الصحيح حتّى يقال: إنّ هذا لا يترتّب على واقع القواعد العربيّة، وإنّما يترتّب على العلم بها مثلاً، بل نقصد من ذلك: أنّ هذه القواعد تجعل بعض الكلمات والجمل صحيحة سواء تكلّم بها شخص أو لا، فمثلاً قاعدة ( كلّ فاعل مرفوع ) تجعل جملة ( ضرب زيدٌ ) صحيحة سواء تفوّهنا خارجاً بهذا القول بالنحو الصحيح أو لم نتفوّه به أصلاً، أو تفوّهنا بنصب الفاعل، وكذلك قاعدة ( إنّ المفعول منصوب ) تجعل جملة ( ضربت زيداً ) صحيحة سواء نصبنا نحن المفعول في كلامنا أو رفعناه، أو لم نتفوّه به أصلاً، وهكذا. والعلم بوجوده الواقعيّ علّة تامّة لهذا الغرض بهذا المعنى، في حين أنّه لم يكن علّة تامّة له بالمعنى الأوّل. والصيانة بهذا المعنى ترجع إلى نسبة التطابق بين جُمَل من الكلام والقواعد العربيّة، وهي في الحقيقة عبارة عن نسب عديدة باعتبار تعدّد طرفيها من الجُمَل والقواعد.

وحينئذ نقول: لا معنى لافتراض جعل وجود جامع بين هذه النِسب دليلاً على وحدة موضوع العلم على أساس: أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد؛ لأنّ هذه النِسب إنّما هي اُمور انتزاعيّة تنتزع من الطرفين لا مسبّبات حقيقيّة للعلم، وهي في وجود الجامع وعدمه تتبع طرفيها ثبوتاً وإثباتاً، فلو فرضنا بقطع النظر عن هذه الانتزاعات

49

وجود الجامع بين مسائل العلم فقد فرغنا عن وحدة الموضوع قبل هذا البرهان، ولو فرضنا التباين في الموضوعات والمحمولات كانت النِسب لا محالة متباينة.

وهناك برهان آخر على أنّ لكلّ علم موضوعاً واحداً، وهو: أنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الموضوعات، فلابدّ أن يكون لكلّ علم موضوع على حدة لا محالة.

وقد أورد صاحب الكفاية(قدس سره) على القول بكون تمايز العلوم بالموضوعات: أنّه لو كان تعدّد الموضوع هو الذي يعدّد العلوم لكان كلّ باب، بل كلّ مسألة علماً على حدة(1).

إلاّ أنّ هذا الإشكال بالإمكان دفعه؛ لأنّهم يقولون: إنّ موضوع العلم هو الذي يبحث عن عوارضه الذاتيّة، ويقولون: إنّ العارض الذاتيّ لشيء إذا كان عارضاً ذاتيّاً لما هو أعمّ منه كان موضوع العلم هو ذاك الشيء الأعمّ، إذن فبالإمكان أن يقال ـ حسب وجهة نظرهم ـ: إنّ موضوع العلم الذي يمتاز به العلوم هو ذاك الشيء الذي تعرض عليه العوارض الذاتيّة الموجودة في ذلك العلم من دون أن تعرض على ما هو أعمّ منه.

ولكنّ أصل هذا البرهان على وحدة الموضوع لكلّ علم في غير محلّه، فإنّنا إنّما نؤمن بكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات لو آمنّا منذ البدء بأنّ لكلّ علم موضوعاً واحداً، وإلاّ فكون تمايزها بتمايز الموضوعات أوّل الكلام.

نعم، لو فرض ورود دليل تعبّديّ من آية أو رواية على أنّ تمايز العلوم بالموضوعات لكشفنا بنحو الإنّ عن أنّ كلّ علم له موضوع واحد.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 53 بحسب الطبعة المحقّقة بتحقيق الشيخ سامي الخفاجيّ حفظه الله.

50

وأمّا الكلام الثاني ـ وهو البرهان على أنّه لا يمكن فرض موضوع واحد للعلم دائماً ـ: فيستفاد من كلمات السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) برهانان على ذلك:

البرهان الأوّل: برهان طُبّق على علم الفقه، وذلك بأن يقال: لا يمكن افتراض جامع حقيقيّ بين مسائل علم الفقه وذلك بأن يكون الموضوع في ذلك الجامع جامعاً بين موضوعات العلم، والمحمول فيه جامعاً بين محمولاته؛ وذلك لأنّ محمولات علم الفقه عبارة عن الأحكام، والأحكام هي اُمور اعتباريّة لا اُمور حقيقيّة، فالجامع بينها لا يكون إلاّ مجرّد أمر اعتباريّ لا جامعاً حقيقيّاً(1).

ويرد عليه: أنّ الشيء المُعتبر في باب الاعتبارات وإن كان أمراً اعتباريّاً ليس له وجود حقيقيّ، لكنّ نفس الاعتبار له وجود حقيقيّ لا محالة، فالشارع حقيقةً اعتبر الوجوب أو الحرمة أو غير ذلك، وهذا الاعتبار له وجود حقيقيّ موجود في نفس المولى قائم على أساس المصالح والملاكات، فيفرض الجامع الحقيقيّ بين هذه الاعتبارات الموجودة حقيقةً(2).

البرهان الثاني: أيضاً طبّق على الفقه، وذلك بأن يقال: إنّ موضوعات علم الفقه هي من مقولات شتّى لا جامع بينها، فمنها ما يكون جوهراً كالدم في الحكم بنجاسة الدم، ومنها ما يكون من مقولة الكيف المسموع كالقراءة في الحكم بوجوب القراءة، ومنها ما يكون من مقولة الوضع كالركوع في الحكم بوجوب الركوع، ومنها ما هي اُمور عدميّة كتروك الصوم أو الإحرام مثلاً، فهل هناك جامع


(1) راجع محاضرات الفيّاض، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 17.

(2) على أنّه لو كانت المحمولات اعتباريّة فليكن الجامع بينها أيضاً اعتباريّاً، ويكفينا الجامع الحقيقيّ بين الموضوعات.

51

بين الوجود والعدم؟(1).

ويرد عليه: أنّ مقصود الفلاسفة من فرض موضوع للعلم ليس هو خصوص ما يكون جامعاً بين موضوعات المسائل حسب صياغاتها اللفظيّة، ونفس هؤلاء المستشكلين قد اعترفوا بصحّة دعوى وجود الموضوع بالنسبة إلى خصوص الفلسفة العالية، وقالوا: إنّ موضوعها هو الوجود، في حين أنّ الوجود في مسائل الفلسفة العالية حسب صياغتها اللفظيّة يكون محمولاً، فيقال مثلاً: الجوهر موجود، العرض موجود، النفس موجودة، الواجب موجود، العقل موجود، الفلك موجود... وهكذا.

فالمقصود من ثبوت الموضوع الواحد للعلم هو وجود نقطة محوريّة تدور حولها مسائل العلم وإن فرض أنّ تلك النقطة المحوريّة وقعت محمولاً في المسائل حسب مناسبات صياغة اللفظ، فكأنّما ترجع مسائل الفلسفة ـ لو أردنا أن نجعل الوجود موضوعاً ـ إلى قولنا: الوجود متعيّن بوجود جوهريّ، أو الوجود متعيّن بوجود عرضيّ، وهكذا، لكن مناسبات صياغة الكلام اقتضت أن نقول: الجوهر موجود، العرض موجود... إلى آخره. فليكن موضوع علم الفقه أيضاً هو الحكم وإن كان يقع الحكم محمولاً في المسائل بحسب الصياغة اللفظيّة، حيث يقال: الدم نجس، والخمر حرام، والصلاة واجبة... ونحو ذلك، فكأنّها ترجع إلى قولنا: الحكم متعيّن ومتحصّص بحصّة نجاسة الدم، أو حرمة الخمر، أو وجوب الصلاة... وهكذا، وكما يقال: إنّ موضوع علم الفقه هو أفعال المكلّفين مع أنّ الدم في قولنا: الدم نجس، ونحو ذلك ليس فعلاً من أفعال المكلّفين، وإنّما من الأعيان الخارجيّة.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1 المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ص 4، تحت الخط، ومحاضرات الفيّاض، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 18.

52

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّ كلّ علم له نوع وحدة بين مسائله حتماً، وهذا واضح لا غبار عليه، كما أنّه من الواضح: أنّ هذه الوحدة ثابتة لذات العلم بغضّ النظر عن تدوين المدوّن وكتبه في الكتاب. وهذه الوحدة: إمّا وحدة في الموضوع، أو في المحمول، أو في النسبة بينهما، أو في الغرض.

فإذا كانت وحدة في الموضوع فقد ثبت المطلوب. وإذا كانت وحدة في المحمول جعلنا ذلك المحمول الواحد موضوعاً للعلم؛ لما عرفت من أنّ موضوع العلم ليس معناه الجامع بين ما جعل بحسب صياغة اللفظ موضوعاً للمسائل، وإنّما معناه: النقطة التي يدور حولها جميع مسائل العلم وإن فرضت محمولاً في المسائل. وإذا كانت وحدة في النسب فالنسب معاني حرفيّة لا يتصوّر جامع بينها إلاّ بتبع طرفيها، فرجعنا إلى الوحدة في الموضوع والمحمول، وإذا كانت وحدة في الغرض، فإن فرض الغرض عبارة عن النِسَب كما في التفسير الثاني من الغرض(1)، فوحدتها راجعة إلى وحدة الموضوع أو المحمول، أي: أنّ وحدة العلم نبعت من الموضوع أو المحمول، فقد رجعنا أيضاً إلى الفرضين السابقين، وإن فرض الغرض عبارة عن آثار حقيقيّة مسبّبة عن قواعد العلم، فليكن ذاك الغرض الواحد هو موضوع العلم، ويكون العلم باحثاً عن أسبابه، لما عرفت من أنّ موضوع العلم هو النقطة المحوريّة التي تدور حولها مسائل العلم، والبحث عن أسباب الشيء بحث عن العوارض الذاتيّة للشيء على ما سيأتي بيانه إن شاء الله، كما أنّ الموضوع في الفلسفة العالية هو الوجود مع أنّهم يبحثون فيه عن المبادئ القصوى للوجود، أي: عن سبب الوجود.


(1) أي: الأثر المترتّب على ذات العلم الثابت في وعائه المناسب له.

53

وقد ذكر الرئيس ابن سينا في برهان منطق الشفاء: أنّ العلم تارةً يكون له موضوع واحد كعلم الحساب حيث إنّ موضوعه هو العدد، واُخرى له موضوعات متعدّدة لكن يجمعها جنس واحد كالخطّ والسطح والجسم حيث يجمعها المقدار، وقد لا يجمعها جنس واحد لكن تجمعها مناسبة واحدة، وذلك كما إذا أضفنا إلى الخطّ والسطح والجسم النقطة، فإنّ النقطة لا تدخل في جنس الخطّ والسطح والجسم لكن تجمعها معها مناسبة واحدة، حيث إنّ نسبة النقطة إلى الخطّ كنسبة الخطّ إلى السطح، ونسبة الخطّ إلى السطح كنسبة السطح إلى الجسم، وقد لا تجمعها مناسبة واحدة أيضاً، ويكون الجامع بين مسائل العلم هو الغرض، وذلك من قبيل علم الطبّ، فإنّ له موضوعات مختلفة من المزاج والأفعال والقوى والأركان لكن الغرض واحد، وهو الصحّة، حيث إنّ الطبّ يتكلّم عن أسباب الصحّة.

والخلاصة: أنّ من يطالع كلمات الفلاسفة الذين جعلوا للعلم موضوعاً واحداً يرى أنّ مقصودهم لم يكن هذا المعنى الذي أخذه منهم الاُصوليّون، ثُمّ وقعوا في بحث ونقاش، وفي إشكالات وحيص وبيص، وإنّما قصدوا معنىً لا غبار على صحّته، وهو: أنّ كلّ علم لابدّ له من نقطة محوريّة تدور مسائل العلم حولها. وقد نتج خفاء وجود موضوع واحد لكلّ علم من مجموع أمرين:

أحدهما: تخيّل أنّ المقصود هو فرض جامع بين موضوعات المسائل المرتّبة حسب الترتيب الذي تطلّبته المناسبات اللغويّة أو غيرها.

والثاني: تخيّل أنّ البحث عن أسباب الشيء ليس بحثاً عن العوارض الذاتيّة، في حين أنّنا نرى أنّ الموضوع في الفلسفة العالية هو الوجود الذي هو جامع بين المحمولات، ونرى أنّه قد بحث في الفلسفة العالية عن المبادئ القصوى للوجود. وقد ذكر الشيخ الرئيس في كتاب الشفاء: « أنّ أهمّ مباحث الفلسفة العالية هو

54

البحث عن الأسباب القصوى للوجود ». فليكن بعض العلوم يبحث عنأسباب الغرض، وليكن الغرض هو الموضوع والمحور، كما أنّ علم الطبّ يبحث عن الصحّة وعللها وموانعها وقواطعها، فليكن موضوع علم الطبّ هو الصحّةمثلاً.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل، وهو: أنّ كلّ علم له موضوع واحد.

بقي الكلام في الأمر الثاني، وهو: أنّ كلّ علم يبحث عن العوارض الذاتيّة لموضوعه، وفي الأمر الثالث وهو تفسير العوارض الذاتيّة. ولعلّ المعروف بين المتقدّمين في تفسير العوارض الذاتيّة هو: أنّ ما يعرض بلا واسطة، أو بواسطة أمر مساو داخلي وهو الفصل، أو مساو خارجيّ فهو عارض ذاتيّ، وما يعرض بواسطة أمر أخصّ، أو أعمّ داخليّ وهو الجنس، أو أعمّ خارجيّ، أو بواسطة أمر مباين فهو عارض غريب.

وقد وقعت المناقشة في مجموع هذين الأمرين حول ثلاث نقاط:

1 ـ هل العارض الذاتيّ معناه هو هذا الذي ذكر، أو شيء آخر؟

2 ـ هل إنّ العلم بحثه يقتصر على العارض الذاتيّ للموضوع، وإنّه ليس من حقّه البحث عن العارض الغريب، أو لا؟

3 ـ كيف يمكن تطبيق ذلك على سائر العلوم؟

 

معنى العارض الذاتيّ:

أمّا النقطة الاُولى: وهي أنّه هل من الصحيح ما ذكر في تعريف العارض الذاتيّ، أو لا؟

فقد ناقش في ذلك المحقّق العراقيّ(قدس سره) وغيره، إلاّ أنّنا نقتصر على ذكر كلام

55

المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) الذي هو ألطف ما اُفيد في المقام، ثُمّ نناقشه، فنقول:

قد أفاد المحقّق العراقيّ في المقام: أنّ العرض: إمّا ذاتيّ بمعنى الذاتيّ المذكور في كتاب الكلّيّات، أي: الجنس أو الفصل أو النوع(2)، أو خارج لازم لا يحتاج إلى سبب كالحرارة بالنسبة إلى النار، أو خارج يحتاج إلى واسطة. وعلى الثالث: فإمّا أن تكون تلك الواسطة حيثيّة تعليليّة، أي: ليست هي المعروضة للعرض، وإنّما هي علّة لعروض العرض(3) على المعروض، أو حيثيّة تقييديّة، أي: أنّها هي المعروضة حقيقة للعرض. فالأقسام الثلاثة الاُولى ينبغي الاعتراف بذاتيّتها؛ إذ هي تعرض على الموضوع حقيقة، أمّا الأوّل فهو ثابت للشيء بأعلى مراتب الثبوت، فإنّه من ذاتيّاته، وأمّا الثاني فهو ثابت للشيء لازم له، ولا واسطة بينه وبين المعروض، وأمّا الثالث فأيضاً هو عارض حقيقة على الشيء؛ لأنّ الواسطة إنّما هي واسطة تعليليّة، ولا يفرّق في ذلك بين ما ذكروه من أقسام الواسطة من كونها مبايناً أو أخصّ أو مساوياً داخليّاً أو خارجيّاً أو أعمّ داخليّاً أو خارجيّاً،


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 5 ـ 7 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف الأشرف. أمّا بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم فراجع: ج 1، ص 39 ـ 47، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 13 ـ 17.

(2) إن أخذنا بحاقّ المصطلح الوارد في كتاب الكلّيّات، فالمقصود هنا أوسع من ذلك؛ حيث يشمل ذاتيّات غير الجنس والفصل والنوع، كما مثّل له المحقّق العراقيّ(رحمه الله)بالأبيضيّة والموجوديّة المنتزعتين من البياض والوجود.

والخلاصة: أنّ المقياس هو كون العرض منتزعاً من مقام ذات الشيء، سواء كان ذلك الشيء جنساً أو فصلا أو نوعاً، أو لم يكن كذلك.

(3) كالمجاورة للنار الموجبة لعروض الحرارة على الماء. راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 13، والمقالات، ج 1، ص 40 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

56

فإنّه ـ على أيّ حال ـ قد فرضت الواسطة تعليليّة، وهذا معناه: أنّ العارض قد عرض حقيقة على الشيء، وإنّما الواسطة واسطة تعليليّة.

وأمّا الرابع وهو ما إذا كانت الواسطة حيثيّة تقييديّة، أي: أنّها هي محطّ العرض، فهو على أربعة أقسام:

الأوّل: أن يكون ذو الواسطة جزءاً تحليليّاً من الواسطة، كما إذا كانت الواسطة عبارة عن النوع، وذو الواسطة عبارة عن الجنس، فالجنس معروض ضمنيّ والنوع معروض استقلاليّ.

الثاني: عكس الأوّل، أي: أنّ الواسطة جزء تحليليّ للموضوع كعروض العرض على النوع بواسطة الجنس(1).

الثالث: أن يكون ذو الواسطة مع الواسطة متباينين ذاتاً، ولكنّهما اتّحدا في الوجود كما في الجنس والفصل(2).

الرابع: أن يكونا متباينين ذاتاً ووجوداً، كقولنا: الجسم بطيء أو سريع، مع أنّ البطء والسرعة يعرضان حقيقةً على الحركة التي هي مباينة ذاتاً ووجوداً مع الجسم(3).

ويقول(قدس سره): إنّ المناط في ذاتيّة العرض إمّا هو عالم الحمل أو عالم العروض، فبلحاظ الحمل تكون كلّ الأقسام ذاتيّة إلاّ الأخير؛ لأنّ ملاك صحّة الحمل حقيقة


(1) الظاهر: أنّ هذا القسم غير موجود لا في المقالات ولا في نهاية الأفكار.

(2) وهذا ما ذكره في المقالات، ج 1، ص 40 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقوله: «وذلك مثل الخواصّ العارضة على الفصل بالنسبة إلى جنسه، مثل المُدركيّة العارضة للنفس الناطقة....»، وذكره أيضاً في نهاية الأفكار المجلّد المشار إليه ص 14.

(3) وهذا ما ذكره في المقالات في المجلّد نفسه من الطبعة نفسها، ص 41 بقوله: «وذلك مثل السرعة والبطء العارضين للحركة العارضة للجسم...»، وذكره أيضاً في نهاية الأفكار المجلّد المشار إليه ص 14.

57

هو الاتّحاد في الوجود، وهذا ثابت فيما عدا الأخير، وبلحاظ العروض تكون الأقسام الثلاثة الأخيرة عوارض غريبة(1)؛ لأنّها في الحقيقة عرضت على الواسطة التي هي حيثيّة تقييديّة، كما أنّ الأقسام الثلاثة الاُولى كانت عوارض ذاتيّة، وأمّا الرابع وهو عروض العارض على الجنس بواسطة النوع فهذا عروض ضمنيّ للعرض على الشيء؛ لأنّ الجنس موجود في ضمن النوع فما يعرض على النوع يكون عارضاً ضمناً على الجنس، فإن قلنا بكفاية العروض الضمنيّ في الذاتيّة كان هذا عارضاً ذاتيّاً، وإن قلنا باشتراط الاستقلاليّة في العروض كان هذا عارضاً غريباً.

ثُمّ استظهر(قدس سره) من كلمات الفلاسفة أنّ الملحوظ هو عالم العروض لا عالم الحمل، وأنّ العروض يجب أن يكون استقلاليّاً لا ضمنيّاً، إذن فالعرض الذاتيّ هو الأقسام الثلاثة الاُولى والباقي كلّه غريب حتّى القسم الرابع وهو ما يعرض على الجنس بواسطة النوع، وإلاّ للزم أن يبحث في علم الحيوان عن عوارض الإنسان، وفي علم الطبيعي الذي موضوعه الجسم عن الطبّ.

وقد نقل المحقّق العراقيّ عن المحقّق الخواجة نصير الدين الطوسيّ(قدس سره) في شرح الإشارات أنّه إذا كان عندنا موضوعان: أحدهما أخصّ والآخر أعمّ، فالبحث عن


(1) وهذا الكلام لا ينطبق على القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة الأخيرة، وهو عروض العرض على النوع بواسطة الجنس كعروض الألم على الإنسان بواسطة الروح الحيوانيّة؛ فإنّ الألم يعرض حقيقةً على الإنسان.

والواقع: أنّ الحقّ مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله) الذي قلنا: إنّه حذف هذا القسم، فهو غير مذكور لا في المقالات ولا في نهاية الأفكار؛ وذلك لأنّ الروح الحيوانيّة حيثيّة تعليليّة لعروض الألم على الإنسان، وبكلمة اُخرى: إنّ عروض العرض على النوع بواسطة الجنس لا يعقل أن يكون إلاّ لكون الجنس حيثيّة تعليليّة، فيدخل ذلك في قسم الحيثيّة التعليليّة، ولا يوجد لدينا هذا القسم في فرض كون الواسطة حيثيّة تقييديّة.