54

البحث عن الأسباب القصوى للوجود ». فليكن بعض العلوم يبحث عنأسباب الغرض، وليكن الغرض هو الموضوع والمحور، كما أنّ علم الطبّ يبحث عن الصحّة وعللها وموانعها وقواطعها، فليكن موضوع علم الطبّ هو الصحّةمثلاً.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل، وهو: أنّ كلّ علم له موضوع واحد.

بقي الكلام في الأمر الثاني، وهو: أنّ كلّ علم يبحث عن العوارض الذاتيّة لموضوعه، وفي الأمر الثالث وهو تفسير العوارض الذاتيّة. ولعلّ المعروف بين المتقدّمين في تفسير العوارض الذاتيّة هو: أنّ ما يعرض بلا واسطة، أو بواسطة أمر مساو داخلي وهو الفصل، أو مساو خارجيّ فهو عارض ذاتيّ، وما يعرض بواسطة أمر أخصّ، أو أعمّ داخليّ وهو الجنس، أو أعمّ خارجيّ، أو بواسطة أمر مباين فهو عارض غريب.

وقد وقعت المناقشة في مجموع هذين الأمرين حول ثلاث نقاط:

1 ـ هل العارض الذاتيّ معناه هو هذا الذي ذكر، أو شيء آخر؟

2 ـ هل إنّ العلم بحثه يقتصر على العارض الذاتيّ للموضوع، وإنّه ليس من حقّه البحث عن العارض الغريب، أو لا؟

3 ـ كيف يمكن تطبيق ذلك على سائر العلوم؟

 

معنى العارض الذاتيّ:

أمّا النقطة الاُولى: وهي أنّه هل من الصحيح ما ذكر في تعريف العارض الذاتيّ، أو لا؟

فقد ناقش في ذلك المحقّق العراقيّ(قدس سره) وغيره، إلاّ أنّنا نقتصر على ذكر كلام

55

المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) الذي هو ألطف ما اُفيد في المقام، ثُمّ نناقشه، فنقول:

قد أفاد المحقّق العراقيّ في المقام: أنّ العرض: إمّا ذاتيّ بمعنى الذاتيّ المذكور في كتاب الكلّيّات، أي: الجنس أو الفصل أو النوع(2)، أو خارج لازم لا يحتاج إلى سبب كالحرارة بالنسبة إلى النار، أو خارج يحتاج إلى واسطة. وعلى الثالث: فإمّا أن تكون تلك الواسطة حيثيّة تعليليّة، أي: ليست هي المعروضة للعرض، وإنّما هي علّة لعروض العرض(3) على المعروض، أو حيثيّة تقييديّة، أي: أنّها هي المعروضة حقيقة للعرض. فالأقسام الثلاثة الاُولى ينبغي الاعتراف بذاتيّتها؛ إذ هي تعرض على الموضوع حقيقة، أمّا الأوّل فهو ثابت للشيء بأعلى مراتب الثبوت، فإنّه من ذاتيّاته، وأمّا الثاني فهو ثابت للشيء لازم له، ولا واسطة بينه وبين المعروض، وأمّا الثالث فأيضاً هو عارض حقيقة على الشيء؛ لأنّ الواسطة إنّما هي واسطة تعليليّة، ولا يفرّق في ذلك بين ما ذكروه من أقسام الواسطة من كونها مبايناً أو أخصّ أو مساوياً داخليّاً أو خارجيّاً أو أعمّ داخليّاً أو خارجيّاً،


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 5 ـ 7 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف الأشرف. أمّا بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم فراجع: ج 1، ص 39 ـ 47، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 13 ـ 17.

(2) إن أخذنا بحاقّ المصطلح الوارد في كتاب الكلّيّات، فالمقصود هنا أوسع من ذلك؛ حيث يشمل ذاتيّات غير الجنس والفصل والنوع، كما مثّل له المحقّق العراقيّ(رحمه الله)بالأبيضيّة والموجوديّة المنتزعتين من البياض والوجود.

والخلاصة: أنّ المقياس هو كون العرض منتزعاً من مقام ذات الشيء، سواء كان ذلك الشيء جنساً أو فصلا أو نوعاً، أو لم يكن كذلك.

(3) كالمجاورة للنار الموجبة لعروض الحرارة على الماء. راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 13، والمقالات، ج 1، ص 40 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

56

فإنّه ـ على أيّ حال ـ قد فرضت الواسطة تعليليّة، وهذا معناه: أنّ العارض قد عرض حقيقة على الشيء، وإنّما الواسطة واسطة تعليليّة.

وأمّا الرابع وهو ما إذا كانت الواسطة حيثيّة تقييديّة، أي: أنّها هي محطّ العرض، فهو على أربعة أقسام:

الأوّل: أن يكون ذو الواسطة جزءاً تحليليّاً من الواسطة، كما إذا كانت الواسطة عبارة عن النوع، وذو الواسطة عبارة عن الجنس، فالجنس معروض ضمنيّ والنوع معروض استقلاليّ.

الثاني: عكس الأوّل، أي: أنّ الواسطة جزء تحليليّ للموضوع كعروض العرض على النوع بواسطة الجنس(1).

الثالث: أن يكون ذو الواسطة مع الواسطة متباينين ذاتاً، ولكنّهما اتّحدا في الوجود كما في الجنس والفصل(2).

الرابع: أن يكونا متباينين ذاتاً ووجوداً، كقولنا: الجسم بطيء أو سريع، مع أنّ البطء والسرعة يعرضان حقيقةً على الحركة التي هي مباينة ذاتاً ووجوداً مع الجسم(3).

ويقول(قدس سره): إنّ المناط في ذاتيّة العرض إمّا هو عالم الحمل أو عالم العروض، فبلحاظ الحمل تكون كلّ الأقسام ذاتيّة إلاّ الأخير؛ لأنّ ملاك صحّة الحمل حقيقة


(1) الظاهر: أنّ هذا القسم غير موجود لا في المقالات ولا في نهاية الأفكار.

(2) وهذا ما ذكره في المقالات، ج 1، ص 40 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقوله: «وذلك مثل الخواصّ العارضة على الفصل بالنسبة إلى جنسه، مثل المُدركيّة العارضة للنفس الناطقة....»، وذكره أيضاً في نهاية الأفكار المجلّد المشار إليه ص 14.

(3) وهذا ما ذكره في المقالات في المجلّد نفسه من الطبعة نفسها، ص 41 بقوله: «وذلك مثل السرعة والبطء العارضين للحركة العارضة للجسم...»، وذكره أيضاً في نهاية الأفكار المجلّد المشار إليه ص 14.

57

هو الاتّحاد في الوجود، وهذا ثابت فيما عدا الأخير، وبلحاظ العروض تكون الأقسام الثلاثة الأخيرة عوارض غريبة(1)؛ لأنّها في الحقيقة عرضت على الواسطة التي هي حيثيّة تقييديّة، كما أنّ الأقسام الثلاثة الاُولى كانت عوارض ذاتيّة، وأمّا الرابع وهو عروض العارض على الجنس بواسطة النوع فهذا عروض ضمنيّ للعرض على الشيء؛ لأنّ الجنس موجود في ضمن النوع فما يعرض على النوع يكون عارضاً ضمناً على الجنس، فإن قلنا بكفاية العروض الضمنيّ في الذاتيّة كان هذا عارضاً ذاتيّاً، وإن قلنا باشتراط الاستقلاليّة في العروض كان هذا عارضاً غريباً.

ثُمّ استظهر(قدس سره) من كلمات الفلاسفة أنّ الملحوظ هو عالم العروض لا عالم الحمل، وأنّ العروض يجب أن يكون استقلاليّاً لا ضمنيّاً، إذن فالعرض الذاتيّ هو الأقسام الثلاثة الاُولى والباقي كلّه غريب حتّى القسم الرابع وهو ما يعرض على الجنس بواسطة النوع، وإلاّ للزم أن يبحث في علم الحيوان عن عوارض الإنسان، وفي علم الطبيعي الذي موضوعه الجسم عن الطبّ.

وقد نقل المحقّق العراقيّ عن المحقّق الخواجة نصير الدين الطوسيّ(قدس سره) في شرح الإشارات أنّه إذا كان عندنا موضوعان: أحدهما أخصّ والآخر أعمّ، فالبحث عن


(1) وهذا الكلام لا ينطبق على القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة الأخيرة، وهو عروض العرض على النوع بواسطة الجنس كعروض الألم على الإنسان بواسطة الروح الحيوانيّة؛ فإنّ الألم يعرض حقيقةً على الإنسان.

والواقع: أنّ الحقّ مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله) الذي قلنا: إنّه حذف هذا القسم، فهو غير مذكور لا في المقالات ولا في نهاية الأفكار؛ وذلك لأنّ الروح الحيوانيّة حيثيّة تعليليّة لعروض الألم على الإنسان، وبكلمة اُخرى: إنّ عروض العرض على النوع بواسطة الجنس لا يعقل أن يكون إلاّ لكون الجنس حيثيّة تعليليّة، فيدخل ذلك في قسم الحيثيّة التعليليّة، ولا يوجد لدينا هذا القسم في فرض كون الواسطة حيثيّة تقييديّة.

58

عوارض الأخصّ يكون تحت البحث عن عوارض الأعمّ، ومن هنا استظهر المحقّق العراقيّ(قدس سره) أنّ الملحوظ للفلاسفة هو العروض الاستقلاليّ، حيث فهم من هذا التعبير أنّ البحث عن عوارض الأخصّ خارج عن البحث عن عوارض الأعمّ.

ويرد على المحقّق العراقيّ(قدس سره) ثلاثة إشكالات:

الإشكال الأوّل: أنّ استظهاره من كلام المحقّق الطوسيّ(قدس سره) لكون الملحوظ العروض الاستقلاليّ في غير محلّه، فإنّ المحقّق الطوسيّ وإن ذكر: أنّ البحث عن الأخصّ يكون تحت البحث عن الأعمّ ولكنّه ليس المقصود من التحتيّة خروجه عن بحث الأعمّ، بل مقصوده منها ما ينسجم مع خروجه عنه وينسجم مع اندراجه فيه، والدليل على ذلك هو الجزء الأخير من كلامه حيث يقول بعد ذلك: إنّ ذلك الخاصّ لو كانت نسبته إلى العامّ نسبة النوع إلى الجنس، أي: أنّ الخاصّ إنّما صار أخصّ بضمّ فصل إليه يفصله عن باقي أفراد الجنس، وذلك كما في الإنسان والحيوان، فالبحث عن الخاصّ يكون تحت البحث عن العامّ وجزءاً منه، وأمّا لو كانت نسبته إلى العامّ نسبة المقيّد إلى المطلق، أي: أنّه إنّما صار أخصّ بضمّ قيد خارجيّ إليه من قبيل الإنسان والإنسان العراقيّ، فالبحث عن الخاصّ يكون تحت البحث عن العامّ ولا يكون جزءاً منه. فكأنّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) لم يقرأ هذا الجزء من كلام المحقّق الطوسيّ الصريح في خلاف ما يستظهره، ومثل هذا التصريح موجود في كلام الشيخ الرئيس في منطق الشفاء أيضاً، فلو كان الملحوظ عندهم هو العروض الاستقلاليّ فكيف أصبح عارض النوع ذاتيّاً لجنسه بصريح كلماتهم؟

الإشكال الثاني: أنّه لا يعقل التفصيل بين الحمل والعروض بالنحو الذي ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره)وليست دائرة الحمل أوسع من دائرة العروض كما تخيّل.

وتوضيح ذلك: أنّ الواقع له مرتبتان: مرتبة الوجود الخارجيّ، ومرتبة التحليل،

59

فإذا لاحظنا مرتبة الوجود الخارجيّ، فمتى ما صدق الحمل صدق العروض وبالعكس، فالأقسام الستّة(1)، أعني: ما عدا القسم الأخير من الأقسام التي ذكرها المحقّق العراقيّ(قدس سره) يكون الحمل والعروض معاً فيها ذاتيّاً، فإدراك الكلّيّات إذا فرض عارضاً على النوع أو الفصل فهو محمول وعارض حقيقة على الجنس في مرتبة الوجود الخارجيّ، وأمّا إذا لاحظنا مرتبة التحليل فالجنس شيء والفصل شيء آخر مباين له، وفي تلك المرتبة عوارض الفصل وكذا النوع لا تحمل على الجنس وكذا العكس، فكما لم يصدق العروض لم يصدق الحمل، إذن فلو اُريد التفصيل وجب أن يفصل بين مرتبة الوجود ومرتبة التحليل، لا بين الحمل والعروض.

الإشكال الثالث الذي به تتّضح حقيقة الحال هو: أنّ مراد الحكماء من العرض الذاتيّ ليس هو الذاتيّ عروضاً أو حملاً بلحاظ مرتبة التحليل فقط، وإلاّ لكان عارض النوع غريباً عن الجنس، فإنّ ما يعرض على الكلّ بما هو كلّ ليس بحسب الدقّة عارضاً على جزئه التحليليّ بوجه من الوجوه، في حين نراهم يجعلون عارض النوع ذاتيّاً للجنس. وليس مرادهم أيضاً من العرض الذاتيّ الذاتيّة عروضاً أو حملاً بلحاظ مرتبة الوجود، فإنّهم اتّفقوا على أنّ العرض الذي يعرض على الشيء بواسطة أمر أعمّ خارجيّ أو بواسطة أمر أخصّ خارجيّ ليس ذاتيّاً، مع أنّه في مرتبة الوجود عارض ومحمول على ذلك الشيء. بل المراد من الذاتيّة هي الذاتيّة بلحاظ منشَأيّة موضوع المسألة لمحمولها.

وتوضيح ذلك: أنّ موضوع المسألة يتصوّر له نسبتان إلى محمولها:


(1) بل الخمسة؛ لما عرفت من أنّ الخامس ـ حسب ترتيب اُستاذنا(قدس سره) ـ لا وجود له، ولم يذكره المحقّق العراقىّ.

60

الاُولى: نسبة المحلّيّة والمعروضيّة على حدّ محلّيّة الجسم للبياض والحركة، وهذه النسبة هي التي لاحظها المحقّق العراقيّ(قدس سره)، والذاتيّة بهذا اللحاظ معناها ما قاله المحقّق العراقيّ(قدس سره) وهو العروض حقيقةً ولو بواسطة تعليليّة.

والثانية: نسبة المنشَأيّة، أي: كون الموضوع منشأً وعلّةً في إيجاد العرض، والنسبة المنشَأيّة بالقياس إلى النسبة المحلّيّة بينهما عموم من وجه، فقد تجتمعان كما في الحرارة بالنسبة إلى النار، فالنار محلّ لها ومنشأ لها في وقت واحد، وقد تفترقان كما في الحرارة التي عرضت على الماء بواسطة مجاورته للنار، فلو قسنا هذه الحرارة إلى الماء كانت نسبتها إليه نسبة المحلّيّة دون نسبة المنشَأيّة، ولو قسناها إلى مجاورة النار كانت نسبتها إليها نسبة المنشَأيّة دون المحلّيّة. ومقصود الحكماء ليست هي الذاتيّة المحلّيّة، لا بلحاظ مرتبة التحليل، وإلاّ لزم غرابة عرض النوع على الجنس، ولا بلحاظ الوجود، وإلاّ لزم كون الأقسام السبعة(1)التي تُذكر كلّها ذاتيّة ما عدا قسم واحد وهو ما كان بواسطة أمر مباين، وإنّما مقصودهم هي الذاتيّة المنشَأيّة، أي: أن يكون الموضوع منشأً للعرض ولو بالواسطة.

وبهذا التفسير للذاتيّة يتّضح السرّ فيما اعترفوا به ـ كما صرّح المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ـ من أنّ ما يعرض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو داخليّ أو خارجيّ فهو ذاتيّ، وما يعرض بواسطة أمر أعمّ أو أخصّ فهو غير ذاتيّ.

وشرحه: أنّ هذا الكلام مشتمل على دعاوي أربع:

الدعوى الاُولى: أنّ ما يعرض على الشيء بلا واسطة فهو عرض ذاتيّ، وهذا واضح؛ إذ مع فرض عدم وجود واسطة يكون الموضوع وحده منشأً للمحمول


(1) بل الستّة كما مضى.

61

وكافياً في وجوده، ولا نقصد من الذاتيّة إلاّ هذا.

الدعوى الثانية: أنّ ما يعرض على الشيء بواسطة أمر مساو خارجيّ أو داخليّ فهو أيضاً عرض ذاتيّ، والبرهان على ذلك ـ على ضوء تفسيرنا للذاتيّة ـ هو أنّه إذا وجدت واسطة مساوية كانت هي المنشأ للمحمول، نقلنا الكلام إلى تلك الواسطة لنرى أنّها هل تعرض على الموضوع بواسطة أمر أعمّ، أو أخصّ، أو بلا واسطة، أو بواسطة أمر مساو؟ أمّا فرض كونها تعرض عليه بواسطة أمر أعمّ فغير معقول؛ إذ لو كانت تعرض عليه بواسطة أمر أعمّ لكانت أعمّ، وهو خلف، وأمّا فرض كونها تعرض عليه بواسطة أمر أخصّ فأيضاً غير معقول؛ إذ لو كانت تعرض عليه بواسطة أمر أخصّ لكانت أخصّ، وهو خلف، وأمّا فرض كونها تعرض عليه بلا واسطة فهو يثبت المطلوب؛ لأنّ الواسطة حينئذ تكون عرضاً ذاتيّاً للموضوع، وبالتالي يكون العرض الذي عرض بواسطتها ذاتيّاً له أيضاً؛ لأنّ الموضوع يكون بالأخرة منشأً لهذا العرض ولو بالواسطة، وأمّا إذا فرض كون الواسطة عارضة على الموضوع بواسطة أمر مساو فحينئذ ننقل الكلام إلى ذلك الأمر المساوي، وهكذا إلى أن ننتهي لدفع التسلسل إلى واسطة عرضت على الموضوع بلا واسطة، فتكون ذاتيّة للموضوع، فتصبح كلّ هذه الأعراض المتسلسلة ذاتيّة له.

الدعوى الثالثة: أنّ ما يعرض على الشيء بواسطة أمر أعمّ سواء كان داخليّاً كالجنس أو غير داخليّ ليس ذاتيّاً، والنكتة في ذلك: أنّ الخصوصيّة التي زاد بهاالموضوع عن الواسطة الأعمّ خارجة عن المنشَأيّة، ويكون ضمّها إلى الأعمّ في منشأيّته لهذا العرض ضمّاً للحجر إلى جنب الإنسان، فالمنشَأيّة للموضوع بحدّه غير محفوظة.

الدعوى الرابعة: أنّ ما يعرض على الشيء بواسطة أمر أخصّ فهو غير ذاتيّ،

62

فما يعرض للحيوان بواسطة الضاحكيّة أو التعجّب ليس عرضاً ذاتيّاً للحيوان، والنكتة في ذلك: أنّ المنشَأيّة غير محفوظة؛ إذ هذه الوساطة تعني: أنّ الحيوانيّة وحدها لا تكفي لإيجاد الضحك، بل الضحك يحتاج إلى أمر آخر أخصّ، فيكون هذا برهاناً على غرابة العارض الذي يعرض على الشيء بواسطة أمر أخصّ.

نعم، هذا البرهان لا يأتي في عروض الفصل على الجنس. وتوضيح ذلك: أنّ الناطقيّة مثلاً بحسب الدقّة تعرض على الحيوان بواسطة أمر أخصّ، وهو أنّ بعض الحيوان ناطق، وبعض الحيوان أخصّ من طبيعي الحيوان، ولكن مع ذلك الناطقيّة عرض ذاتيّ للحيوان؛ وذلك لأنّ عروض الناطقيّة على الحيوان لم يكن بواسطة ضمّ أمر آخر خارج عن حقيقة الحيوانيّة إلى الحيوان حتّى يقال: إذن لم تكن الحيوانيّة هي المنشأ التامّ للناطقيّة، فتصبح الناطقيّة عرضاً غريباً للحيوان، فإنّه لم يضمّ أمر إلى الحيوانيّة قبل النطق، وإلاّ لتفصّل الحيوان قبل هذا الفصل، وكان الفصل الحقيقيّ هو ذاك الأمر، وكانت الناطقيّة من الأعراض الخاصّة، وهذا خلف، فالناطقيّة إنّما عرضت على ذات الحيوان، أي: أنّ ذات الحيوان بلا ضمّ أيّ شيء آخر إليه هو المنشأ للناطقيّة. نعم، ليس كلّ حيوان منشأً للناطقيّة، وإنّما هو حيوان خاصّ، لكن هذه الخصوصيّة ليست عبارة عن ضمّ أمر زائد عليه، بل هي عبارة عمّا به الامتياز المتّحد مع ما به الاشتراك بناءً على معقوليّة ما يسمّونه بالتشكيك الخاصّيّ.

وطبعاً نحن نتكلّم هنا بناءً على مباني الفلاسفة من القول بالتشكيك الخاصّيّ، وأنّ عروض الفصل على بعض أفراد الجنس ليس على أساس اختيار فاعل مختار، وإنّما على أساس ذات الجنس، وأمّا تحقيق حال هذه المباني وأمثالها فليس هنا محلّه.

وإذا عرفت أنّ عروض الفصل على الجنس عروض ذاتيّ، اتّضح بذلك: أنّ الأعراض الذاتيّة للفصل أعراض ذاتيّة للجنس؛ لأنّ العرض الذاتيّ للعرض

63

الذاتيّ للشيء عرض ذاتيّ لذلك الشيء؛ لأنّ معلول المعلول معلول. وبهذا يعرف أيضاً أنّ عرض النوع ذاتيّ للجنس، فإنّه وإن كان النوع أخصّ من الجنس ولكن هذه الأخصّيّة إنّما هي بسبب الفصل الذي لا يسبِّب دخله في ثبوت العرض كون العرض غريباً على الجنس، وبهذا اتّضح السرّ فيما مضى عن شرح الإشارات من أنّ الخاصّ لو كانت نسبته إلى العامّ نسبة النوع إلى الجنس، فالبحث عن الخاصّ داخل في البحث عن العامّ وجزء منه، ولو كانت نسبته إليه نسبة المقيّد إلى المطلق، فالبحث عن الخاصّ ليس جزءاً من البحث عن العامّ.

وقد ظهر أيضاً بما ذكرناه الخلل فيما ذكره جملة من المحقّقين كالمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(1)، حيث قالوا في مقام بيان الضابط لذاتيّة العرض وعدم ذاتيّته حينما يكون عارضاً على الشيء بواسطة أخصّ: إنّه متى ما كانت الواسطة مع العرض مجعولين بجعل واحد كان العرض ذاتيّاً، ومتى ما كان كلّ منهما مجعولاً بجعل مستقلّ كان العرض غريباً، فمثلاً العوارض التي تعرض على الإنسان بواسطة كونه عراقيّاً من قبيل أمزجة خاصّة أو عادات خاصّة تكون عوارض غريبة للإنسان؛ لأنّها مجعولة بجعل مستقلّ غير جعل العراقيّة، ولكن الجسميّة العارضة على الوجود بواسطة كونه جوهراً عارض ذاتيّ للوجود؛ لأنّ الجسميّة مع الجوهريّة مجعولتان بجعل واحد.

أقول: قد تمكن دعوى: أنّ اتّخاذ الواسطة مع العرض في الجعل يكون نكتة في كون العرض أوّليّاً، حيث إنّ الواسطة ليس لها جعل زائد على العرض، فكأنّما عرض العرض رأساً على الشيء بلا واسطة، ولكنّ العارض الذاتيّ أعمّ من


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 22 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

64

العارض الأوّلي، ولا يشترط فيه عدم الواسطة، فإنّ الذاتيّة تكون بمعنى الذاتيّة المنشَأيّة بأن يكون المعروض منشأً لوجود العارض ولو بألف واسطة.

وعلى أيّ حال، فقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ حمل الذاتيّة في كلمات الحكماء على الذاتيّة المنشَأيّة هو الذي يفسّر لنا مجموع هذه الاُمور الموجودة في كلماتهم.

 

تنبيهات:

بقي التنبيه على عدّة اُمور:

الأوّل: أنّ الاُصوليّين قد ذكروا في المقام العرض الذي يعرض بواسطة أمر مباين، وجعلوه عرضاً غريباً(1)، وهذا القسم هو من إضافات علماء الاُصول، وليس موجوداً في التقسيم الأصليّ.

وتوضيح النكتة في ذلك: أنّ علماء الاُصول قصدوا من الأخصّيّة والأعمّيّة والتساوي الأخصّيّة في الصدق والانطباق، والأعمّيّة أو التساوي فيه، فمعنى كون شيء أخصّ من شيء أنّه يصدق على بعض أفراده لا تمامها، ومعنى كونه أعمّ منه


(1) لعلّ توضيح المقصود مايلي:

قصدوا بالعروض العروض المحلّيّ، فمتى ما فرضت واسطة خارجيّة بين العرض ومحلّه، فهذا يعني أنّ العرض عرض على تلك الواسطة، و تلك الواسطة عرضت على المحلّ، وكانت النسبة التصادقيّة بين تلك الواسطة والمحلّ هي التباين، وكان العرض عرضاً غريباً على المحلّ، ومثاله: تعمّق النوم الذي يكون عارضاً على النوم ويكون النوم عارضاً على الإنسان الذي هو المحلّ، ويكون النوم مبايناً في النسبة التصادقيّة مع الإنسان، فيكون عمق النوم عرضاً غريباً للإنسان، في حين أنّنا لو أخذنا النسبة المورديّة بين النوم والإنسان فالنسبة بينهما هي أعمّيّه النوم من الإنسان؛ لأنّ مورده الإنسان وكثير من الحيوانات الاُخرى، ولا نجد مثالاً للتباين.

65

أنّه يصدق على تمام أفراده وزيادة، ومعنى التساوي هو التساوي في الصدق والانطباق، أي: كلّ منهما يصدق على ما يصدق عليه الآخر دون غيره، فاضطرّوا إلى جعل عنوان في مقابل هذه العناوين وهو المباين، في حين ليس مراد الحكماء من الأعمّيّة والأخصّيّة والتساوي ذلك، بل مرادهم منها هو الأعمّيّة والأخصّيّة والتساوي في المورد، سواء كان منطبقاً عليه أو لا. وهذا هو الذي ينبغي أن يراد؛ لأنّ الميزان في ذاتيّة العرض مع الواسطة وعدم ذاتيّته هو كون الواسطة مساوية بالمعنى الثاني وعدمه، فلو أنّ عارضاً عرض على جوهر بواسطة عرض آخر ذاتيّ له، فهذه الواسطة وإن كانت مباينة للجوهر بالمعنى الأوّل ولكن مع ذلك يعتبر عرضها عرضاً ذاتيّاً للجوهر قد عرض عليه بواسطة أمر مساو، والسرّ في ذلك ما مضى من أنّ معلول المعلول معلولٌ، وأنّ ما يعرض ذاتاً على شيء عارض على شيء آخر بالذات عارض ذاتيّ له، ولذا صرّح المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات بأنّ العرض الذي يعرض على الشيء بواسطة أمر مساو من قبيل ما يعرض عليه بواسطة فصله، أو بواسطة عرض آخر مساو له يكون ذاتيّاً له. وعلى هذا الأساس فالمباين يرجع إلى أحد هذه الأقسام، أي: إلى الأعمّ أو الأخصّ أو المساوي.

الثاني: قد عرفت أنّ الملحوظ للحكماء هو الذاتيّة المنشَأيّة، لا الذاتيّة المحلّيّة، إلاّ أنّه قد يقال: إنّ المحل ـ وهو حامل العرض ـ أيضاً يكون منشأً وعلّة للعرض؛ وذلك لأنّه مادّة له، فهو أحد العلل الأربع عند الحكماء، حيث قالوا: إنّ الشيء بحاجة إلى أربع علل: العلّة الفاعليّة، والعلّة المادّيّة، والعلّة الصوريّة، والعلّة الغائيّة. إذن فالمحلّ يعدّ علّة للعرض؛ لأنّه علّة مادّيّة له.

ولكن مع ذلك نقول: إنّ العرض لا يعتبر ذاتيّاً بالذاتيّة المنشَأيّة لمحلّه؛ والنكتة

66

في ذلك: أنّ المحلّ ليس علّة تامّة للعرض حتّى يستتبعه، فالخشبيّة مثلاً لا تكفي لتحقّق السريريّة حتّى تكون السريريّة ذاتيّة لها، فالعرض الذاتيّ للشيء هو الذي يكون ذلك الشيء مستتبعاً له وكافياً في تحقّقه، والمحلّ لا يلزم أن يكون كذلك بالنسبة إلى العرض. نعم، قد يتّفق أنّ المادّة سنخ مادّة فرضها يساوق فرض الفاعل والغاية كمادّة النبات التي تعرض لها أعراض من النموّ وطبع التغذية والحياة والموت، فمثل هذه الأعراض تعتبر ذاتيّة لمحلّها وإن كان فاعلها فوق الطبيعة، وليست نفس المادّة فاعلة لها؛ وذلك لأنّ الفاعل لا قصور فيه كالغاية، وإنّما ينتظر استعداد المادّة، فالمادّة تستتبع العرض لتماميّة باقي العلل، ولا نعني بالذاتيّة إلاّ أنّ فرض الشيء مساوق لاستتباعه للعرض، وعدمه مساوق لعدمه.

الثالث: أنّ العلّة الغائيّة حينما تكون باقي العلل مفروغاً عن ثبوتها تستتبع لا محالة ذا الغاية، فالغاية وإن كانت من ناحية معلولة لذي الغاية لكنّها من ناحية اُخرى تعدّ علّة ومنشأً لذي الغاية، وعلى هذا الأساس يصحّ أن يكون موضوع العلم عبارة عن الغاية، ويكون العلم باحثاً عن أسبابها، وذلك من قبيل علم الطبّ حيث يجعل موضوعه الصحّة، وهو يبحث عن حالات الإنسان والحركات والقوى الموجودة في جسم الإنسان إلى غير ذلك، حيث إنّه تفرض الصحّة غاية لكلّ تلك الاُمور، وقد ذهب الفلاسفة إلى أنّه كلّما يوجد شيء فهو بحاجة إلى علّة غائيّة، لا أنّ العلّة الغائيّة مرتبطة بفرض الاختيار في العمل، فالعلّة الغائيّة للأفعال والقوى والحركات في الجسم هي الصحّة، فتقع الصحّة موضوعاً لعلم الطبّ، ويتكلّم فيه عن أسبابها ومقدّماتها وموانعها أيضاً.

هذا تمام الكلام في النقطة الاُولى، وبحسب الحقيقة قد ظهرت ممّا ذكرناه نكات حلّ الإشكال في النقطة الثانية والثالثة أيضاً.

67

انحصار البحث في كلّ علم بالعارض الذاتيّ لموضوعه:

وأمّا النقطة الثانية، وهي: أنّه لماذا لا يحقّ للعلم أن يبحث عن غير العرض الذاتيّ لموضوعه؟

فقد جاء في كلمات جملة من الأعلام الاستشكال في ذلك، فذكر المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره): أنّه لا وجه لحصر أبحاث العلم في البحث عن العوارض الذاتيّة(1). وذكر السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) أيضاً: أنّه ليس من الضروري حصر البحث في مسائل العلم في البحث عن العارض الذاتيّ لموضوع العلم، بل ولا في البحث عن العارض الذاتيّ لموضوع المسألة، فيمكن عقد مسألة لها موضوع، ويبحث عن العوارض الغريبة لذلك الموضوع(2).

أقول: إنّ نكتة تخصيص الفلاسفة لأبحاث العلوم بالبحث عن العوارض الذاتيّة للموضوع تظهر ـ حسب مبانيهم ـ بعد الالتفات إلى مقدّمتين موضّحتين لمقصودهم في المقام:

الاُولى: ما مضى من أنّ المقصود من الذاتيّة إنّما هي الذاتيّة بلحاظ النسبة المنشَأيّة، لا الذاتيّة بلحاظ النسبة المحلّيّة.

والثانية: أنّهم إنّما اشترطوا كون البحث عن العوارض الذاتيّة في خصوص البحث البرهانيّ دون غيره كالجدل والخطابة والسفسطة، والعلم الحقّ في نظرهم إنّما هو العلم البرهانيّ.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 26، بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 5 ـ 7، تحت الخطّ بحسب الطبعة المعلّق عليها من قبل السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وراجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 1، ص 24 بحسب الطبعة الثالثة لنشر دار الهاديّ للمطبوعات بقم.

68

وبعد أن اتّضح مقصودهم في المقام يمكن توجيه كلامهم ببيان: أنّ العلم بثبوت المحمول للموضوع على قسمين:

الأوّل: أن يكون مجرّد علم بالثبوت من دون العلم بالضرورة واستحالة العدم، كالعلم بفقر زيد مع إمكان غناه، وهذا العلم عندهم ليس برهانيّاً، وهو قابل للزوال؛ لعدم ضرورة الثبوت، وما لم يكن الثبوت ضروريّاً أمكن التشكيك فيه.

والثاني: هو العلم بالثبوت على أساس الضرورة واستحالة العدم، كالعلم بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين، وهذا هو العلم البرهانيّ عندهم. ومن الواضح أنّ ثبوت المحمول للموضوع بالضرورة لا يكون إلاّ في العارض الذاتيّ بالمعنى الذي نحن بيّنّاه من الذاتيّة، فإنّما يكون المحمول ذاتيّاً وضروريّاً للموضوع إذا كان الموضوع هو المنشأ للمحمول بلا واسطة، أو كان منشأً للأوسط وكان الأوسط منشأً للمحمول، فالإشكال عليهم في هذه النقطة ينشأ من الغفلة عن مجموع ما ذكرناهما من المقدّمتين.

 

تطبيق فكرة العرض الذاتيّ على سائر العلوم:

وأمّا النقطة الثالثة: فقد ذكروا في المقام إشكالاً وحاروا في جوابه، وهو: أنّ كثيراً من مسائل العلوم تكون موضوعاتها أخصّ من موضوع العلم، فموضوع العلم مثلاً هو الجنس، وموضوع المسألة هو النوع، والعارض بواسطة أخصّ يعتبر عارضاً غريباً.

والجواب: ما عرفته من أنّ قاعدة كون العارض بواسطة أخصّ عارضاً غريباً يستثنى منها ـ بالبرهان ـ عروض الفصل على الجنس مع كلّ ما يعرض على الجنس بتبع عروض الفصل عليه.

69

هذا، وقد اتّضح بما ذكرناه إلى الآن:

أوّلاً: أنّ لكلّ علم موضوعاً.

وثانياً: أنّ العلم يبحث عن العوارض الذاتيّة للموضوع إذا كان المطلوب هو اليقين البرهانيّ بالمعنى الذي يقوله الحكماء.

وثالثاً: أنّ العارض الذاتيّ ما يعرض بلا واسطة أو بواسطة مساو، والعارض الغريب ما يعرض بواسطة أعمّ أو واسطة أخصّ إلاّ الفصل أو ما يعرض على الجنس بتبع الفصل، فقد عرفت دخول ذلك في العارض الذاتيّ.

كما ظهر أيضاً من مجموع ما ذكرناه الحال في الخلاف المعروف بينهم من أنّ تمايز العلوم هل هو بتمايز الموضوعات أو بتمايز الأغراض؟ فإنّ هذا التقابل بين الموضوع والغرض مبنيّ على التفسير المشهور للعرض الذاتيّ، وهو الذاتيّة المحلّيّة، وأنّ المقصود بالموضوع هو محطّ الأعراض والمحمولات. وأمّا بناءً على إرادة الذاتيّة المنشَأيّة فلا تقابل بين الموضوع والغرض؛ إذ قد يكون نفس الغرض موضوعاً واحداً له المنشَأيّة لما يبحث عنه في العلم على حدّ منشَأيّة العلّة الغائيّة لمعلولها، فتمايز العلوم يكون دائماً بتمايز الموضوعات إلاّ أنّ الموضوع قد يكون هو الغرض نفسه.

هذا تمام ما أردنا بيانه فيما تكلّموا عنه مقدّمةً لبيان موضوع علم الاُصول.

 

تشخيص موضوع علم الاُصول

وأمّا موضوع علم الاُصول، فقد ذكر القدماء أنّه هو الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، أو بما هي هي.

وقد ناقش المتأخّرون في كلا الوجهين. وخلاصة المناقشات: أنّ موضوع

70

العلم يجب أن يكون منطبقاً على موضوعات مسائله. وكلا هذين الوجهين في تعريف الموضوع لا تتوفّر فيهما هذه النكتة، فترى أنّ موضوع الاُصول العمليّة هو الشكّ، وليس الشكّ داخلاً في الأدلّة الأربعة، وأبحاث الاستلزامات من قبيل بحث الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته موضوعها هو التكليف، وليس التكليف من مصاديق الأدلّة الأربعة، فكلّ هذه الأبحاث لا يكون موضوعها داخلاً في موضوع علم الاُصول بحسب هذا التعريف بكلا وجهيه. وأمّا مسائل الحجج فبعضها لا ينطبق عليه شيء من الوجهين أيضاً من قبيل مبحث حجّيّة الشهرة، فإنّ الشهرة ليست من مصاديق الأدلّة الأربعة، وبعضها لا ينطبق عليه الوجه الأوّل وينطبق عليه الوجه الثاني من قبيل حجّيّة ظواهر الكتاب مثلاً، فلو كان الموضوع هي الأدلّة بما هي أدلّة لزم خروج هذا البحث عن علم الاُصول؛ لأنّ دليليّة الدليل وحجّيّته اُخذت جزءاً أو قيداً في الموضوع، فيجب أن تكون مفروغاً عنها في العلم، ولا يبحث عن موضوع العلم في نفس العلم، ولو كان الموضوع هي الأدلّة بما هي كان ذلك منطبقاً على هذا البحث؛ لأنّ ظواهر الكتاب داخلة في الكتاب. وأمّا حجّيّة خبر الواحد فقد يقال: إنّها خارجة عن كلا الوجهين؛ لأنّ خبر الواحد ليس كتاباً ولا عقلاً ولا إجماعاً ولا سنّة؛ لأنّ السنّة إنّما هي نفس قول المعصوم وفعله وتقريره، لا الخبر الحاكي عنه، وقد يقال: إنّها خارجة عن الوجه الأوّل فقط؛ لأنّ البحث فيها عن دليليّة الدليل، ولكن الوجه الثاني ينطبق عليها؛ وذلك ببركة إحدى عنايات يذكرونها، لعلّ أسهلها هو توسيع نطاق السنّة للخبر الحاكي.

فتحصّل: أنّ علم الاُصول بناءً على هذين الوجهين لتعريف موضوعه يخرج عنه كثير من أبحاثه. نعم، قد تدخل فيه مباحث الألفاظ من قبيل دلالة صيغة الأمر للوجوب، فإذا فرض أنّ موضوع مسألة دلالة الأمر على الوجوب مثلاً هو الأمر

71

الوارد في الكتاب والسنّة، انطبق عليه عنوان الأدلّة الأربعة.

ولأجل هذه الإشكالات ذهب بعض إلى أنّ علم الاُصول ليس له موضوع معيّن، وذهب بعض إلى أنّ موضوعه شيء غامض نشير إليه بعنوان إجماليّ كعنوان ما ينطبق على موضوعات مسائله، إلاّ أنّ هذه الإشكالات كأكثر الإشكالات السابقة نشأت من الجمود على الألفاظ والعناوين، وعدم الالتفات إلى روح المطلب.

وتوضيح عدم ورود هذه الإشكالات يكون ببيان عدّة اُمور تقدّم أكثرها:

الأوّل: أنّ الميزان في موضوع العلم ليس هو الاقتناص من موضوعات المسألة حسب تدوينها، وإلاّ لم ينطبق على الفلسفة العالية أيضاً، بل الميزان هو الاقتناص من روح العلم على ما تقدّم توضيحه.

الثاني: أنّ العلم وإن كان يبحث عن عوارض الموضوع لكن ليس المقصود من ذلك كون نسبة الموضوع إلى المحمولات نسبة المحلّ إلى العرض، بل المراد: العروض بلحاظ المنشَأيّة والاستتباع، ففي البحث عن النور مثلاً يُتكلّم عن آثاره ونتائجه ولو لم تكن أحوالاً ثابتة لنفس النور(1). وهذا أيضاً قد اتّضح ممّا سبق.

 


(1) لا يخفى: أنّ الحديث عن آثار النور ونتائجه إنّما يعتبر حديثاً عن النور وعلماً موضوعه النور حينما يكون الملحوظ في الحديث حيثيّة منشَأيّة النور لها، وهذه المنشَأيّة عارضة على النور عروض العرض على المحلّ.

صحيح: أنّ المقصود بالذاتيّة هو النشوء، لا كون نسبة الموضوع إلى المحمول نسبة المحلّ إلى العرض، لكنّ أصل فرض كون نسبة الموضوع إلى المحمول نسبة المحلّ إلى العرض يجب أن يكون مفروغاً عنه، وتزاد عليه الذاتيّة بمعنى المنشَأيّة، وإلاّ كانت الأدلّة الأربعة موضوعاً للفقه أيضاً كما فرضت موضوعاً للاُصول؛ لأنّها أيضاً منشأ لمسائل الفقه،

72

الثالث: أنّ مسائل الاُصول ـ كما بيّنّا في التعريف ـ عبارة عن القواعد المشتركة في القياس الفقهيّ، أي: ذلك القياس الذي ينجّز أو يعذّر عن الواقع، فالقواعد الاُصوليّة ليست عبارة عن نفس حجّيّة خبر الواحد أو البراءة أو الاستصحاب ونحو ذلك بوجودها الواقعيّ؛ لأنّها بوجودها الواقعيّ لا تنجّز ولا تعذّر، وإنّما القواعد الاُصوليّة عبارة عن إثباتات هذه العناوين، فإنّها إنّما تقع في قياس الاستنباط بوجودها الواصل لا بثبوتها في اللوح المحفوظ.

وبهذا يتّضح: أنّ كون موضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة في غاية الوجاهة، فإنّ تلك القواعد المشتركة التي تثبت في علم الاُصول لا تثبت طبعاً بنفس تلك القواعد؛ فإنّ هذا خلف، بل تثبت بمرجع فوقانيّ ثابتة حجّيّته قبل العلم، فيكون هو المصدر لإثبات القواعد المشتركة: إمّا مباشرة أو بالواسطة، وكان ذلك المصدر الفوقانيّ في نظرهم عبارة عن الأدلّة الأربعة، وإن كنّا نحن لا نقبل ذلك فعلاً في الإجماع، ونقول: إنّ حجّيّته ليست مفروغاً عنها قبل علم الاُصول، وإنّما هي من أبحاث علم الاُصول. وقد بيّنّا أنّ المحمول لا يلزم أن تكون نسبته إلى الموضوع نسبة الحال إلى المحلّ، بل قد تكون نسبة المعلول إلى العلّة، وهذه الأدلّة هي العلّة لإثبات القواعد المشتركة التي يتكلّم عنها في علم الاُصول، فكما يقال في


ولكان الله تعالى موضوعاً لكلّ العلوم التي تتحدّث عن أيّ شيء في العالم؛ لأنّ الله تعالى منشأٌ لها جميعاً.

وعليه، فالصحيح هو جعل موضوع علم الاُصول العناصر المشتركة للاستنباط كما ورد في الحلقات الثلاث لاُستاذنا الشهيد(قدس سره) لا خصوص الأدلّة الأربعة أو الثلاثة، فإنّ جميع ما في علم الاُصول هو بحث عن العوارض المشتركة.

73

المنطق: إنّ موضوعه المعلوم التصوّريّ أو التصديقيّ من حيث إنّه يوصل إلى المجهول التصوّريّ أو التصديقيّ، أي: أنّ المنطقيّ يبحث عن شؤون المعلوم التصوّريّ والتصديقيّ الراجعة إلى الجوانب الصوريّة المشتركة لإيصاله إلى المجهول التصوّريّ والتصديقيّ، لا الشؤون الاُخرى من قبيل كون المعلوم التصوّريّ والتصديقيّ أمراً معنويّاً مجرّداً عن المادّة مثلاً، كذلك نقول: إنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعة أو الثلاثة ـ أي: باستثناء الإجماع ـ من حيث إنّها توصل إلى معرفة الأحكام، أي: أنّ الاُصوليّ يبحث عن شؤونها الراجعة إلى الجوانب الصوريّة المشتركة لإيصاله إلى معرفة الحكم، لا شؤونها الاُخرى ككون الكتاب معجزةً أو العقل مجرّداً عن المادّة مثلاً.

والظاهر: أنّ قولهم: « بما هي أدلّة » إشارة إلى هذه النكتة، أي: كون البحث عن الشؤون الراجعة إلى الإيصال إلى الحكم، لا الشؤون الاُخرى.

 

75

 

 

 

 

 

 

تقسيم الأبحاث الاُصوليّة

 

الجهة الثالثة ـ في تقسيم مباحث علم الاُصول:

ذكر السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) أنّ قواعد الاُصول تنقسم إلى أربعة أقسام:

1 ـ القواعد التي تؤدّي إلى العلم الوجدانيّ بثبوت الحكم، وهي أبحاث الاستلزامات كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه.

2 ـ القواعد التي توجب العلم التعبّديّ بالحكم، ويدخل تحتها صنفان:

الأوّل: ما يكون البحث فيه عن صغرى الحجّة، كدلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، وظهور العامّ المخصّص في تمام الباقي.

والثاني: ما يكون البحث فيه عن كبرى الحجّيّة، كحجّيّة ظهور الكتاب أو الشهرة أو خبر الواحد ونحو ذلك.

3 ـ القواعد التي تقرّر الوظائف العمليّة الشرعيّة التي يرجع إليها الفقيه بعد العجز عن القسمين الأوّلين، كالبراءة الشرعيّة والاحتياط الشرعيّ.

4 ـ الاُصول العمليّة العقليّة التي ينتهي الفقيه إليها بعد العجز عن القسم الثالث

76

أيضاً، كقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» وأصالة الاشتغال العقليّ(1).

أقول: إنّنا نتصوّر للتقسيم لحاظين:

اللحاظ الأوّل: هو لحاظ مراتب عمليّة الاستنباط بأن يقال: إنّ علميّة الاستنباط لها مراتب طوليّة لا تصل النوبة إلى بعضها مع التمكّن ممّا قبلها، فالقسم الأوّل عبارة عمّا يكون دخيلاً في المرتبة الاُولى من الاستنباط، والقسم الثاني عبارة عمّا يكون دخيلاً في المرتبة الثانية من الاستنباط، وهكذا.

فإن كان نظر السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) إلى هذا اللحاظ كما لعلّه الظاهر من كلامه ورد عليه:

أوّلاً: عدم الترتّب في عمليّة الاستنباط بين القسمين الأوّلين بناءً على ما هو المشهور المنصور من أنّ حجّيّة الأمارات غير مشروطة بانسداد باب العلم. نعم، هذا الإشكال الأوّل لا يرد لو كان المراد الترتّب لا بلحاظ ما ذكرناه من عمليّة الاستنباط المشتملة على الفحص، بل بلحاظ الوصول إلى بعض المراتب بالفعل، فإنّه مع الوصول إلى العلم الوجدانيّ لا تصل النوبة إلى العلم التعبّديّ.

وثانياً: أنّه إذا كان الملحوظ الترتّب الطوليّ لمراتب عمليّة الاستنباط، وجب أن تجعل العلوم التعبّديّة التي جعلت قسماً ثانياً ذات مراتب أيضاً؛ لأنّ بعضها مترتّب على بعض آخر، فمثلاً التعبّد في جانب الدلالة مع قطعيّة السند مقدّم على التعبّد بالسند عندنا وعند السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

وثالثاً: أنّ الاستصحاب هو في طول الأمارات، وقبل الاُصول، فلماذا جعل مع


(1) محاضرات الشيخ الفيّاض، ج 1، ص 6 ـ 8 بحسب الطبعة الثالثة لدار الهادىّ بقم، وكذلك ج 43 من موسوعة الإمام الخوئىّ، ص 1 ـ 4.

77

الاُصول؟

ورابعاً: أنّ كون الاُصول العقليّة بعد الاُصول الشرعيّة ليس صحيحاً على الإطلاق، بل يختلف ذلك باختلاف الاُصول، فحكم العقل بالاشتغال في أطراف العلم الإجماليّ حكماً تعليقيّاً ـ أي معلّقاً على عدم الترخيص ـ يكون في طول البراءة الشرعيّة، فإذا سقطت البراءة في الأطراف صار هذا الحكم فعليّاً، لكن أصالة البراءة تكون في طول حكم العقل بالاشتغال حكماً تنجيزيّاً، أي: أنّها مشروطة بعدمه، فلو حكم العقل بالاشتغال حكماً تنجيزيّاً لم يكن بالإمكان جريان البراءة الشرعيّة؛ لأنّها تُناقِض حكم العقل عندئذ.

اللحاظ الثاني: هو أن تلحظ في التقسيم المناسبات البحثيّة في نفسها بغضّ النظر عن عمليّة استنباط الفقيه، أي: أنّ كلّ فئة من قواعد الاُصول تحتاج إلى مبادئ تصوّريّة وتصديقيّة تمتاز بها عن الفئات الاُخرى تجعل قسماً مستقلاًّ، فإن فرض أنّ هذا هو الملحوظ في التقسيم، قلنا: من الواضح أنّه لم يتّبع هذا اللحاظ في هذا التقسيم، ولم يبيّن كيف يمتاز بعض الأقسام عن بعض بذلك، ولو أردنا أن نقسّم أبحاث الاُصول بهذا اللحاظ فالذي ينبغي أن يقال هو:

إنّ البحث في علم الاُصول إمّا عن ذات الحجّة، أو عن الحجّيّة، والبحث عن ذات الحجّة تحته ثلاثة أصناف:

1 ـ البحث عن ذات الحجج والأدلّة التي تكون دلالتها دلالة لفظيّة، كدلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، وظهور العامّ المخصّص في تمام الباقي، وما إلى ذلك. وهذا القسم يمتاز بمبادئ تصوّريّة وتصديقيّة معيّنة من قبيل: معنى الوضع، والدلالة، والظهور، وعلامة الحقيقة والمجاز، وما يميّز به الظاهر عن غيره، ولا يحتاج إلى هذه المبادئ سائر المباحث، كمبحث حجّيّة خبر الواحد أو

78

الاستلزامات العقليّة ونحو ذلك.

2 ـ البحث عن الحجج والأدلّة التي تكون دلالتها عقليّة برهانيّة، كالبحث عن الملازمات من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، وهذا القسم يمتاز بمبادئ تصوّريّة وتصديقيّة معيّنة لا يحتاج إليها سائر الأقسام من قبيل: معرفة معنى الحكم ومبادئه وحقيقته، وهل هناك تضادّ بين الأحكام أو لا، أو تماثل بينها أو لا؟

3 ـ البحث عن الحجج والأدلّة التي دلالتها ليست لفظيّة ولا عقليّة برهانيّة، بل من باب تراكم الاحتمالات والقرائن، كالبحث عن السيرة أو الإجماع، وهذا أيضاً له مبادئه التصوّريّة والتصديقيّة الخاصّة، كمعرفة: أنّ الاحتمالات كيف تتراكم؟ ومتى تتراكم؟ وما هي موانع تراكمها ومقتضياتها؟ وإن كان الأصحاب لم يبحثوها.

وأمّا البحث عن الحجّيّة فنجعله قسماً رابعاً في مقابل الأقسام الثلاثة السابقة، فإنّه بحاجة إلى مبادئ اُخرى لا يحتاجها سائر الأقسام من قبيل: تصوّر معنى الحجّيّة، والتنجيز والتعذير، والألسنة الممكنة للتنجيز والتعذير، وإمكان جعل الحكم الظاهريّ بنحو يجتمع مع الحكم الواقعيّ وعدمه. وهذا القسم يشمل البحث عن حجّيّة جميع الحجج على اختلافها وبكلا مرتبتيها: الأمارة والأصل.

فهذا هو تقسيم مباحث علم الاُصول على أساس مناسبات الحكم والموضوع البحثيّة، باعتبار امتياز كلِّ قسم بما يحتاج إليه كلّ واحد من أبحاثه من مبادئ معيّنة كلاًّ أو جلاًّ.