324

الآخر أو لا، والأمر الذي سقط بالامتثال لا مبرّر لعوده مرّة اُخرى.

الاحتمال الثالث: الطريقيّة الصرف، وهو ما حقّقناه ثبوتاً، واخترناه إثباتاً في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة، وهو: أنّ الحكم الظاهريّ لم ينشأ إلّا لأجل الحفاظ على ملاكات الأحكام الواقعيّة بقدر الإمكان مع مراعاة الأهمّ فالأهمّ، وهذا يساوق عدم الإجزاء وعدم التصويب؛ إذ لم يفرض فيه ارتفاع الواقع؛ إذ مقتضى إطلاق دليل الحكم الواقعيّ بقاؤه ووجوب إعادة العمل، ومقتضى إطلاق دليل القضاء وجوب القضاء، ولم يحصل في الوظيفة الظاهريّة استيفاء لملاك الواقع.

الاحتمال الرابع: افتراض مصالح في مؤدّى الأمارة والأصل تحفّظاً على ظهور الأمر في كونها حقيقيّة، بدعوى: أنّه كما أنّ الأمر ظاهر في النفسيّة والعينيّة والتعيينيّة في مقابل الغيريّة والكفائيّة والتخييريّة، كذلك ظاهر في الحقيقيّة، بمعنى نشوئه من مصلحة في متعلّقه في مقابل الطريقيّة، فهذا نحو من السببيّة، ولكنّه لا يلزم منه التصويب ولا الإجزاء؛ إذ لم يفترض بهذا المقدار: أنّ المصلحة من سنخ مصلحة الواقع بحيث تستوفى بها مصلحة الواقع، فيرجع إلى إطلاق دليل الحكم الواقعيّ، وهذا معناه عدم الإجزاء وعدم التصويب.

الاحتمال الخامس: القول بالسببيّة ووجود مصلحة في نفس جعل الحكم الظاهريّ دفعاً لشبهة ابن قبة، من قبح تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، بأن يقال: إنّ التفويت قبيح، إلّا إذا كان لمصحلة في نفس التفويت.

وهذا ما تصوّره بعضهم في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وهذا أيضاً لا يوجب الإجزاء ولا التصويب؛ فإنّ مصلحة الواقع لم يفرض تداركها بشكل من الأشكال، وإنّما افترض تدارك قبح التفويت بمصلحة في التفويت من دون فرض تدارك مافات بشيء.

325

الاحتمال السادس: السببيّة بالنحو الذي سمّي في كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله)بالمصلحة السلوكيّة. وهذا أيضاً لأجل دفع شبهة ابن قبة، إلّا أنّ فرقه عن الاحتمال الخامس: أنّ المصلحة في الاحتمال الخامس كانت في نفس الجعل، وكان يتدارك بها قبح التفويت من دون أن يتدارك بها الفائت، وهنا في عمل المكلف، ويتدارك بها الفائت، ولكنّه ليس في عمل المكلّف بعنوانه الأوّليّ، بل فيه بعنوان ثانويّ، وهو عنوان سلوك طريق الأمارة واتّباعه بالمقدار الذي يكون مفوّتاً لمصلحة الواقع، فيتدارك بذلك المقدار، فإذا ارتفع الجهل في أثناء الوقت، وجبت عليه الإعادة؛ لأنّ الأمارة لم تفوّت عليه أكثر من فضيلة أوّل الوقت، فالتدارك الثابت ببرهان قبح التفويت إنّما هو تدارك فضيلة أوّل الوقت، وأمّا أصل العمل في الوقت، فبإمكانه أن يأتي به، ومقتضى إطلاق دليل الواقع وجوب الإتيان به، وإذا ارتفع الجهل بعد الوقت، فإن قلنا: إنّ القضاء بالأمر السابق، أي: أنّ الأمر السابق ـ في الحقيقة ـ عبارة عن أمرين: أمر بالصلاة، وأمر بإيقاعها في الوقت، فأيضاً من الواضح عدم الإجزاء، فإنّ التدارك إنّما هو بمقدار ما فات، وهو الإيقاع في الوقت لا أصل الصلاة، وأمّا إن قلنا: إنّ القضاء بأمر جديد موضوعه الفوت، فقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّه لا يجب القضاء؛ لأنّه فرع الفوت وخسارة المصلحة، ولا خسارة هنا؛ لأنّ المصلحة متداركة جميعاً بالعمل بالحكم الظاهريّ في داخل الوقت(1).

أقول: تارةً نفترض: أنّنا نستظهر من دليل القضاء أنّه ليس لمصلحة مستقلّة بعد انتهاء مصلحة الصلاة الأدائيّة بانتهاء الوقت، بل هو ـ في الحقيقة ـ بيان لكون مصلحة الصلاة باقية، وإنّما كانت خصوصيّة إيقاعها في الوقت مشتملة على



(1) المحاضرات، ج 2، ص 276 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

326

مصلحة زائدة، وهي التي قد فاتت، وعليه فلا يتمّ هذا الكلام؛ فإنّ المصلحة السلوكيّة إنّما ثبتت ببرهان قبح التفويت بمقدار ما فات، وهو مصلحة قيد الوقت، إلّا أنّ هذا معناه: رجوع الأمر الأوّل بالصلاة ـ بحسب روحه ـ إلى أمرين: أمر بأصل الصلاة، وأمر بإيقاعها في الوقت، فيقال: إنّنا نتكلّم على فرض كون القضاء بأمر جديد وعدم رجوع المطلب ـ بحسب الروح ـ إلى بقاء الأمر الأوّل.

واُخرى نفترض: أنّ دليل القضاء إنّما دلّ على وجوب مستقلّ لمصلحة مستقلّة، وحينئذ نقول: إنّه مع ذلك لا ينبغي الإشكال في كون تشريع القضاء ظاهراً في كونه بعنوان التدارك للمصلحة الفائتة، والمصلحة السلوكيّة إنّما تثبت ببرهان قبح التفويت بمقدار لولاها للزم فوات المصلحة بلا تدارك، إذن فلا يثبت وجود مصلحة سلوكيّة بإزاء أصل مصلحة الصلاة التي قد فاتت؛ لوجود تدارك آخر لها وهو القضاء، فإنّما تثبت المصلحة السلوكيّة بمقدار مصلحة الوقت، فيجب(1)



(1) هذا الكلام غير صحيح؛ إذ معنى كون القضاء بمصلحة مستقلّة هو أنّ فوت الصلاة يولّد حاجة جديدة تسدّ بالقضاء، من دون أن يكون القضاء موجباً لتدارك مصلحة أصل الصلاة؛ إذ لو كان القضاء موجباً لتدارك مصلحة أصل الصلاة، لرجع أيضاً روح الأمر إلى الأمر بأصل الصلاة مع الأمر بإيقاعها في الوقت؛ لأنّ كون القضاء موجباً لتدارك مصلحة أصل الصلاة عبارة اُخرى عن كون جامع الصلاة ذا مرتبة معيّنة من المصلحة، وإيقاعها في الوقت ذا مصلحة اُخرى، غاية الأمر: أنّ فردي الجامع قد تكون مصلحتهما متماثلتين، واُخرى متغايرتين ولا يمكن الجمع بينهما مثلا، ومصلحة الصلاة عندئذ عبارة عن الجامع بين المصلحتين.

وعليه، فالاعتراف بظهور دليل القضاء في تدارك مصلحة أصل الصلاة يعني الاعتراف بانحلال الأمر الأوّل في روحه إلى أمرين: أمر بأصل الصلاة، وأمر بإيقاعها في الوقت.

327

عليه القضاء لتحصيل مصلحة أصل الصلاة.

وقد تحصّل: أنّه بناءً على هذا الاحتمال أيضاً لا يلزم الإجزاء ولا التصويب، وأمّا لزوم التصويب بمقدار أنّه لو استمرّ الجهل إلى أن مات فقد تدوركت كلّ المصلحة، فلا دليل على كونه محذوراً.

الاحتمال السابع: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(1) بهدف تحصيل وجه يوجب الإجزاء من دون أن يستلزم التصويب، وهو افتراض الملاك في المؤدّى في



ومن هنا يظهر أيضاً إشكال في ما اشتهر أخيراً بين المحقّقين: من أنّ من شكّ بعد الوقت في فوات الصلاة لم تجرِ بشأنه أصالة الاشتغال؛ لأنّ القضاء بأمر جديد، ولا استصحاب عدم الإتيان؛ لأنّ موضوع الأمر الجديد بالقضاء هو الفوت، وهو عنوان وجوديّ، والإشكال هو: أنّه لو سلّمنا ظهور دليل القضاء في تدارك مصلحة الصلاة، فوجوب أصل الصلاة لا زال وقته باقياً؛ لأنّ إيقاعها في الوقت واجب مستقلّ عن أصل وجوب الصلاة، فقاعدة الاشتغال والاستصحاب يجريان ـ لا محالة ـ لولا قاعدة الحيلولة.

والتحقيق مع ذلك: إمكان تصوير القضاء لأجل تدارك مصلحة أصل الصلاة من دون أن يرجع ذلك إلى انحلال الأمر الأوّل إلى الأمر بأصل الصلاة، والأمر بالإتيان بها في الوقت، وذلك بافتراض مصلحة اُخرى زائداً على مصلحة المتعلّق في جعل الصلاة في الوقت كشيء موحّد على العهدة، وإلزام المكلّف بذلك، فيصحّ ما قالوا من عدم جريان الاستصحاب وأصالة الاشتغال بعد الوقت؛ لكون القضاء بأمر جديد، ولكن لا يصحّ القول بالإجزاء في المقام ما دامت مصلحة المتعلّق الفائتة قابلة للتدارك بالقضاء.

(1) بحوث في الاُصول للشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) ص 121 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

328

عرض ملاك الواقع، أي: أنّه ليس بعنوان تدارك الملاك الفائت، بل إنّ المؤدّى في عرض الواقع مشتمل على الملاك المطلوب، إلّا أنّ هذا الملاك إنّما يكون ثابتاً في المؤدّى لا بعنوانه الأوّليّ، بل بعنوان كونه مؤدّىً بأمارة مخالفة للواقع.

وهذا يوجب الإجزاء بلا إشكال؛ لحصول الغرض لا محالة، ولكن الذي يخطر بالبال لأوّل وهلة أنّه موجب للتصويب؛ إذ يوجب تبدّل الأمر الواقعيّ التعيينيّ بصلاة الظهر مثلا إلى الأمر التخييريّ المتعلّق بالجامع بين الظهر ومفاد الأمارة، وهو الجمعة مثلا؛ لأنّ الملاك لم يكن في خصوص الواقع بعينه، بل فيه وفي مفاد الأمارة.

ويمكن إثبات عدم تبدّل الأمر التعيينيّ إلى الأمر التخييريّ بعدّة بيانات:

الأوّل: أن يقال: إنّه لا يمكن للمولى أن يأمر تخييراً بالجامع بين الواقع والمؤدّى؛ وذلك لأنّ الأمر بالجامع مقيّد بأن يكون مفاد أمارة مخالفة للواقع، فالأمر بالجامع يستحيل أن يصل إلى المكلّف؛ إذ لو لم يعلم أنّ هذه الأمارة مخالفة للواقع، لم يعلم بتوجّه الأمر بالجامع إليه؛ لتعليقه ـ بحسب الفرض ـ على أداء الأمارة إلى خلاف الواقع، ولو علم بأنّها مخالفة للواقع سقطت الأمارة عن الحجّيّة.

ويمكن الجواب عن هذا البيان بأكثر من طريق، ولا أقلّ من أن يقال: إنّ بالإمكان فرض الأمر التخييريّ، مع أخذ قيد الأمارة المخالفة في أحد شقّي الواجب التخييريّ، فالوجوب التخييريّ يكون مطلقاً ثابتاً في حقّ كلّ أحد، وليس مقيّداً بوجود أمارة مخالفة، إلّا أنّ أحد طرفي التخيير هو الواقع، والطرف الآخر هو مؤدّى الأمارة بقيد المخالفة للواقع(1).



(1) ويمكن الجواب أيضاً بعد فرض أخذ قيد الأمارة المخالفة في الوجوب التخييريّ بأنّه يكفي في معقوليّة الأمر بالجامع وصوله الاحتماليّ، وهو ثابت في المقام

329

الثاني: أن يقال: إنّ الجامع بين الواقع ومفاد أمارة مخالفة للواقع ـ بمعنى: كون الأمارة متعلّقة بما يخالف الواقع ـ ليس له تقرّر لولا الأمر بالواقع؛ إذ لولا ذاك الأمر الواقعيّ التعيينيّ، فما معنى الجامع بين الواقع ومؤدّى أمارة متعلّقة بما يخالف الواقع؟!(1).

ويرد عليه: أنّ الجامع له تقرّر ثابت بغضّ النظر عن الأمر التعيينيّ بالواقع؛ إذ من الواضح: أنّنا نتصوّر مفهوماً الجامع بين الواقع ومؤدّى أمارة تعلّقت بما يخالف الواقع سواء تعلّق أمر تعييني بالواقع أو لا(2).

نعم، تحقّق أحد فردي الجامع خارجاً موقوف على تعلّق الأمر التعيينيّ والإرادة التعيينيّة بالواقع؛ إذ لولا ذلك لم يتحقّق عمل مخالف للواقع يكون مؤدّىً لأمارة تعلّقت بما يخالف الواقع، فيكون تعلّق الإرادة التعيينيّة بالواقع ذا مصلحة؛ إذ به يتمكّن العبد من الفرد الثاني من فردي الجامع، وقد حقّقنا في محلّه: أنّ الإرادة يتسحيل أن تنبثق من مصلحة في نفسها، بل يجب دائماً أن تنبثق من مصلحة في المتعلّق، وهنا لا مصلحة في متعلّق الإرادة التعيينيّة بالخصوص؛ لأنّ الملاك يكون في الجامع حسب الفرض.



بمجرّد احتمال مخالفة الأمارة للواقع، خاصّة وأنّ هذا الاحتمال يولّد في المقام العلم الإجماليّ بوجوب مفاد الأمارة: إمّا تعييناً باعتبارها مطابقة للواقع مثلا، أو تخييراً باعتبارها مخالفة للواقع.

(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 405 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) راجع نفس المصدر، تحت الخطّ، وهو تعليق للشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) على كتابه نهاية الدراية، وراجع أيضاً (بحوث في الاُصول) لنفس المؤلّف، ص 121 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

330

الثالث: أن يقال: إنّ تحقّق الملاك في الجامع إنّما هو متولّد من الأمر بالواقع تعييناً؛ إذ لولا ذلك لم يكن جامع بين الواقع ومؤدّى الأمارة المخالفة حتّى يتحقّق فيه الملاك، فلا يمكن أن يوجب ذلك انقلاب الأمر التعيينيّ إلى الأمر التخييريّ؛ فإنّ الشيء يستحيل أن ينفي علّته، وبالتالي ينفي نفسه.

ويرد عليه:

أوّلا: النقض بأنّ الوصول إلى هذه النتيجة المستحيلة، وهي لزوم نفي الشيء لعلّته، وبالتالي لنفسه كان من أثر مجموع أمرين: أحدهما: افتراض تولّد ملاك في الجامع من الأمر التعيينيّ بالواقع، والثاني: افتراض أنّه إذا صار الملاك في الجامع، انتفى الأمر التعيينيّ بالواقع، وتبدّل إلى الأمر التخييريّ، فلماذا يكون فساد النتيجة برهاناً على بطلان الأمر الثاني، فليكن برهاناً على بطلان الأمر الأوّل؟!(1).

وثانياً: الحلّ بأنّ كون الملاك في الجامع ليس وليداً لتعلّق الأمر التعيينيّ بالواقع، وإنّما إمكانيّة الإتيان بالفرد الثاني من هذا الجامع خارجاً، وهو العمل بما يخالف الواقع باعتباره مؤدّى أمارة مخالفة للواقع، هو الوليد لتعلّق الأمر بالواقع. هذا.

وقد تلخّص بكلّ ما ذكرناه: أنّ الإجزاء والتصويب في الحكم الظاهريّ متلازمان، ففي الاحتمالين الأوّلين يثبت الإجزاء والتصويب معاً، وفي ما بعدهما من الاحتمالات الأربعة لا إجزاء ولا تصويب، والاحتمال السابع غير معقول في نفسه.



(1) بل هذا ـ أي: كونه برهاناً على بطلان الأمر الأوّل ـ هو المتعيّن؛ لأنّ كون الشيء علّة لما يقتضي إفناءه محال، لا أنّ هذا ممكن، ولكن استحالة إفناء الشيء لعلّته توجب عدم فناء العلّة، فإنّ نفس كون الشيء علّة لما يقتضي إفناءه يعني اقتضاء الشيء لفناء نفسه، وهذا محال، وبهذا البيان يصبح هذا الجواب حلّيّاً، لا نقضيّاً.

331

إلّا أنّ ما قلناه: من الملازمة بين الإجزاء والتصويب إنّما هي في الإجزاء بملاك الاستيفاء، وأمّا الإجزاء بملاك التعذّر، فبالإمكان افتراض تحقّقه من دون تحقّق التصويب، وذلك كما لو فرض: أنّ مصلحة الحكم الظاهريّ هي مصلحة في مقابل مصلحة الواقع، ومضادّة لها في الوجود، أي: لا يمكن تحصيلهما معاً، فمع تحصيل أحدهما تتعذّر الاُخرى، فحينئذ يثبت الإجزاء لا محالة؛ إذ بعد العمل بالحكم الظاهريّ لا يمكن استيفاء ملاك الحكم الواقعيّ، لكن لا يلزم التصويب، وتبدّل الوجوب التعيينيّ للظهر مثلا إلى الوجوب التخييريّ بين الظهر والجمعة (فيما لو فرض: أنّ الحكم الواقعيّ هو وجوب الظهر، والحكم الظاهريّ هو وجوب الجمعة)؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهريّ وهو وجوب الجمعة لا نفترض وجدانه لمصلحة الواقع حتّى يلزم تعلّق الأمر بالجامع وعلى سبيل التخيير، بل نفترض وجدانه لمصلحة اُخرى في مقابل مصلحة الواقع غير قابلة للجمع مع مصلحة الواقع.

نعم، يوجد في هذا الفرض إشكال في دعوى عدم لزوم التصويب، وذلك بأن يقال: إنّه إمّا أن تفرض مصلحة الواقع مع مصلحة الحكم الظاهريّ متساويتين، أو يفرض أنّ مصلحة الحكم الظاهريّ أنزل بمراتب من مصلحة الواقع، فمع فرض التساوي ينقلب ـ لا محالة ـ الحكم من الإيجاب التعيينيّ إلى الإيجاب التخييريّ؛ إذ لا ترجيح لإحدى المصلحتين على الاُخرى، ولا يمكن استيفاؤهما معاً، ومع فرض كون مصلحة الحكم الظاهريّ أنزل بمراتب من مصلحة الواقع لا معنى لأن يأمر المولى بالحكم الظاهريّ، فإنّه أمرٌ بما يفوّت المصلحة الأقوى.

والجواب: أنّه بالإمكان أن نختار كلاًّ من الشقّين، ومع ذلك ندفع الإشكال:

فتارةً نختار الشقّ الأوّل، وهو: أنّ المصلحتين متساويتان، ولكن كلّ من المصلحتين هي مصلحة تعيينيّة، بحيث لو أمكن استيفاؤهما معاً، وجب ذلك، إلّا

332

أنّ النقص في قدرة المكلّف، فيقع التزاحم بين المصلحتين، والتزاحم إنّما يوجب رفع اليد عن الأمر التعيينيّ بكلّ منهما عند وصول الحكمين، أمّا إذا وصل أحد الحكمين دون الآخر، فلا تزاحم بينهما، ولا موجب لرفع اليد عن الأمر التعيينيّ، وفي ما نحن فيه لا يصل الحكمان معاً؛ إذ مع وصول الأمر الواقعيّ لا حكم ظاهريّ، وفرض وصول الحكم الظاهريّ هو فرض عدم وصول الحكم الواقعيّ، إذن فالمقتضي للأمر التعيينيّ وهي المصلحة التعيينيّة موجود، والمانع وهو المزاحم للأمر التعيينيّ مفقود؛ لأنّ التزاحم بين أمرين فرع وصولهما، وهذا أحد الفوارق بين باب التعارض وباب التزاحم؛ حيث إنّ قوام التزاحم بالوصول؛ إذ مع عدم وصول أحدهما لا يقع المكلّف في ضيق، بينما التعارض بين حكمين يثبت سواء وصل كلا الحكمين أو لا.

واُخرى نختار الشقّ الثاني، وهو عدم اشتمال الحكم الظاهريّ على مصلحة توازي مصلحة الواقع، وإشكال لزوم التفويت هو إشكال ابن قبة المعروف في باب الأحكام الظاهريّة، وليس إشكالا جديداً، والمفروض الإجابة عليه: إمّا بأنّ الفوت شيء لابدّ منه على كلّ حال، وهو الجواب بناءً على مبنى الطريقيّة المحض، وإمّا بجواب من قبيل دعوى: وجود مصلحة في التفويت.

هذا تمام الكلام في فرض انكشاف الخلاف بالجزم واليقين، وقد تحصّل ضعف القول بالإجزاء بكلا تقريبيه.

وأمّا إذا فرض انكشاف الخلاف تعبّداً، فإمّا أن يكون الانكشاف بأمارة مثبتة لجميع اللوازم، أو يكون بأصل من الاُصول:

أمّا إذا كان انكشاف الخلاف بأمارة كما لو بنى على وجوب صلاة الجمعة بالاستصحاب، ثُمّ عثر على رواية تامّة الجهات تدلّ على وجوب الظهر، فالصحيح هنا أيضاً عدم الإجزاء، ولزوم الإعادة والقضاء؛ وذلك لأنّه حتّى لو

333

فرض كون الحجّة المخالفة قد تكوّنت حجّيّتها من الآن ولو من باب فرض: أنّ الرواية لم تكن واردة قبلئذ، ووردت الآن، يكون مفادها الذي هي حجّة فيه ناظراً إلى كلّ الأزمنة: من الماضي والحال والاستقبال، فتدلّ على أنّ الواجب كان هو الظهر ولم يأتِ به، فتجب الإعادة، ويجب القضاء، من دون فرق بين كون القضاء بالأمر السابق أو بأمر جديد، ولا بين كون موضوع وجوب القضاء هو الفوت أو عدم الإتيان، فعلى كلّ تقدير يجب القضاء مادامت مثبتات الأمارة حجّة.

وأمّا إذا انكشف الخلاف بأصل من الاُصول، فلتحقيق الحال في ذلك نستعرض صوراً عديدة للمطلب، مع بيان الحال في كلّ واحدة منها:

الصورة الاُولى: أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة، بأن يفرض مثلا: أنّه شكّ في أثناء وضوئه في جزء من الأجزاء بعد التجاوز إلى جزء آخر، فتمسّك بقاعدة التجاوز غافلا عن خروج الوضوء منها بالتخصيص وصلّى، ثُمّ اطّلع على خروج الوضوء عن قاعدة التجاوز، فجرى في حقّه استصحاب عدم الإتيان بذلك الجزء، فإذا كان ذلك في أثناء الوقت، فلا إشكال في وجوب الإعادة؛ لأنّه قد ثبت عدم الإتيان بالمطلوب بحكم الاستصحاب، مضافاً إلى قاعدة اقتضاء الاشتغال اليقينيّ الفراغ اليقينيّ، وإن كان بعد الوقت، فإن قلنا بأنّ القضاء بنفس الأمر السابق ولو بأن نستكشف ذلك من دليل القضاء، فقد أصبح حاله حال الأداء، فلا إشكال في وجوب القضاء بنفس البيان، وإن قلنا بأنّ القضاء بأمر جديد، فإن قلنا: إنّ موضوعه هو عدم الإتيان، فهذا الموضوع يثبت بالاستصحاب، ويجب القضاء، وإن قلنا: إنّ موضوعه هو الفوت والخسارة الملازم لعدم الإتيان، فهنا يرد على فرض وجوب القضاء إشكال صاحب الكفاية (رحمه الله)(1):



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 135 بحسب طبعة المشكينيّ.

334

من أنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت لوازمه، فلا يثبت وجوب القضاء، بل نرجع إلى البراءة عنه(1).

وهذا كلام في نفسه موافق للصناعة، إلّا أنّ فيه إشكالا فقهيّاً واحداً، وهو: أنّه لو تمّت هذه الصناعة في موارد الاستصحاب الجاري بعد الوقت، بمعنى تكوّن موضوعه بعد الوقت، أو تنجّزه على المكلّف بعد الوقت، لتمّت أيضاً في موارد الاستصحاب الجاري في الوقت، فمثلا لو شكّ في أثناء الوقت: أنّه هل صلّى أو لا، فاستصحب عدم الصلاة، ومع ذلك قصّر، فلم يصلِّ إلى أن فات الوقت، فيقال: إنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت، فلا يجب عليه القضاء مع أنّ هذا ممّا لا يظنّ بفقيه أن يلتزم به.

ويمكن حلّ هذا الإشكال ببيان: أنّ الاستصحاب إذا جرى وتنجّز في أثناء الوقت، فقد وجبت عليه الصلاة ظاهراً، ويصبح هذا الوجوب الظاهريّ موضوعاً لقوله: «اقضِ مافات كما فات»، فلو ترك وجب عليه القضاء، بينما لو كان الاستصحاب جارياً بعد الوقت لا قبله، لم يفته واجب ظاهريّ في الوقت، ولا يمكن إثبات فوت الواقع باستصحاب عدم الإتيان، كما أنّ الاستصحاب لو فرض جارياً في أثناء الوقت، ولكنّه لم يكن واصلا إليه ومنجّزاً عليه، لم يصدق أيضاً الفوت والخسارة؛ فإنّ الحكم الظاهريّ ليس كالحكم الواقعيّ الذي يصدق بتركه الخسارة ولو لم يتنجّز عليه، فإنّ الحكم الظاهريّ روحه التنجيز، فمع عدم التنجّز لا تصدق خسارة.



(1) إلّا أنّ هذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ، وإنّما هذا مرجعه إلى أنّ الحكم الواقعيّ الأدائيّ مقطوع السقوط: إمّا بالامتثال، أو بانقضاء الوقت، والحكم الواقعيّ القضائيّ مشكوك الحدوث؛ للشكّ في حدوث موضوعه، وهو الفوت.

335

ويمكن النقاش في هذا الحلّ بأن يقال: إنّ ظاهر دليل القضاء بعد فرضه واجباً مستقلاًّ أنّه وجوب واقعيّ، كما هو الحال في ما هو الظاهر من كلّ أمر من الأوامر، من قبيل: (صلِّ) و(صم) وغير ذلك؛ إذ المفروض: أنّه ليس بقاءً للأمر الأوّل حتّى يقال: إنّه يتبعه في الواقعيّة والظاهريّة، من قبيل: (الميسور لا يسقط بالمعسور) الذي يتبع فيه حكم الميسور في الواقعيّة والظاهريّة، وفي الوجوب والاستحباب حكم المعسور، وإذا كان وجوب القضاء وجوباً واقعيّاً، قلنا: هل موضوع هذا الوجوب خصوص فوت الواجب الواقعيّ، أو موضوعه فوت الصلاة الواجبة سواء كانت واجبة بالوجوب الواقعيّ، أو الظاهريّ؟

فإن فرض الأوّل قلنا: لا سبيل إلى إثبات فوت الواقع ولو جرى الاستصحاب وتنجّز في أثناء الوقت؛ لأنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت والخسارة إلّا بالملازمة العقليّة، إذن فلا يجب القضاء حتّى على من جرى في حقّه الاستصحاب في أثناء الوقت وتنجّز، وهذا ما قلنا: إنّه لا يظنّ بفقيه أن يقول به.

وإن فرض الثاني لزم من ذلك: أنّ من جرى في حقّه استصحاب عدم الإتيان في الأثناء وتنجّز عليه، ثُمّ ترك إلى أن فات الوقت، كان القضاء واجباً واقعيّاً عليه، بحيث حتّى لو كان في علم الله قد صلّى في الوقت يجب عليه القضاء، فلو تذكّر صدفة بعد انتهاء الوقت أنّه قد صلّى، فمع ذلك يجب عليه القضاء، وهذا أيضاً ممّا لا يظنّ بفقيه أن يلتزم به.

إلّا أنّ الصحيح: أنّ هذا النقاش يمكن حلّه بأن يقال: إنّ دليل القضاء حيث إنّه يكون بلسان التدارك، فلا ينبغي قياسه بالأوامر الابتدائيّة الصرف، ولا يبعد استظهار كونه تبعاً للشيء المتدارك، فإن كان المتدارك واجباً فهذا واجب، وإن كان مستحبّاً فهذا مستحبّ، وإن كان واقعيّاً فهذا واقعيّ، وإن كان ظاهريّاً فهذا ظاهريّ، كلّ هذا بنكتة ظهور الأمر بالقضاء في كونه تداركيّاً، وإذا كان الأمر

336

كذلك، قلنا: إنّه لو جرى الاستصحاب في الوقت وتنجز عليه، فقد وجبت عليه ظاهراً الصلاة، وهذا الوجوب مشمول لقوله: «اقضِ ما فات كما فات»، فلو لم يمتثله إلى أن انتهى الوقت، وجب عليه القضاء وجوباً ظاهريّاً، بينما لو جرى الاستصحاب بعد الوقت، لا يوجد هنا فوت وخسارة بلحاظ الحكم الظاهريّ في داخل الوقت، ولم يثبت فوت بلحاظ الواقع؛ لأنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت، فلا يثبت عليه وجوب القضاء.

الصورة الثانية: أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب في الشبهة الحكميّة، كما لو فرض: أنّ صلاة الجمعة مستصحبة الوجوب، وهو كان يرى حاكماً على هذا الاستصحاب، ثُمّ عدل عن هذا الرأي، فأخذ يستصحب وجوب صلاة الجمعة، وحينئذ فإن انكشف له ذلك في أثناء الوقت، فلا إشكال في وجوب الإعادة، ولو لم يعد إلى أن انقضى الوقت فعليه القضاء. وطبعاً قضاء كلّ شيء بحسبه، وقضاء صلاة الجمعة يكون بالإتيان بالظهر(1).

والوجه في وجوب القضاء ـ مع فرض كون القضاء بأمر جديد ـ ما مضى في الصورة الاُولى: من استظهار الأمر بقضاء ما فات على حدّ الأمر الذي كان ثابتاً لما فات من أمر واقعيّ أو ظاهريّ، أمّا مع فرض كون القضاء بالأمر الأوّل، فوجوب القضاء في غاية الوضوح.

وإن انكشف له ذلك بعد انتهاء الوقت، فإن قلنا: إنّ القضاء بالأمر السابق، وجب القضاء، وإن قلنا: إنّه بأمر جديد، وقلنا: إنّ موضوعه عدم الإتيان، وجب القضاء أيضاً؛ فإنّ الموضوع مركّب من جزءين: من عدم الإتيان بشيء وهو ثابت



(1) بل بهذا الاستصحاب ثبت: أنّه وجبت عليه الظهر بعد انتهاء وقت الجمعة، فعليه قضاؤها؛ لأنّها فاتت.

337

بالوجدان، وكون ذلك الشيء واجباً وهو ثابت بالاستصحاب، وإن قلنا: إنّ موضوعه الفوت، لم يثبت القضاء؛ لأنّ إثبات الفوت بالاستصحاب تمسّك بالأصل المثبت، كما في الصورة الاُولى(1).

وقد يتخيّل هنا إمكان إثبات الموضوع بالاستصحاب وإن لم يمكن ذلك في الصورة الاُولى؛ وذلك لأنّ الموضوع هنا مركّب من فوت شيء، وكون ذلك الشيء واجباً، وفوت شيء ثابت بالوجدان؛ فإنّه قد فاتته الجمعة حتماً، وكونه واجباً ثابت بالاستصحاب.

وفي الحقيقة قد جعلنا هذه الصورة في مقابل الصورة الاُولى؛ لامتيازها عنها بهذه الشبهة، فأردنا ذكرها مع جوابها.

والجواب: أنّ الموضوعات حتّى ما كان منها بظاهر صورتها تقييديّة وإن كنّا ندّعي رجوعها عرفاً إلى التركيب، لكن في خصوص الفوت نقول: إنّ الفوت ليس منتزعاً من مجرّد عدم الإتيان حتّى يفرض: أنّ الموضوع مركّب من الفوت ومن وجوب الفائت، وإنّما الفوت منتزع من خصوص عدم إتيان ما فيه مزيّة، فمن ترك بالنهار صلاة ثلاث ركعات مثلا ـ وهي غير مشروعة ـ لا يقال عنه: إنّه فاتته في هذا النهار صلاة ثلاث ركعات، فالفوت عنوان تقييديّ منتزع من مجموع عدم الإتيان، وكون ما لم يأتِ به ممّا لابدّ من الإتيان به، فكما لو كان الشكّ في الجزء الأوّل من منشأ الانتزاع، وهو عدم الإتيان، لم يكفِ استصحاب هذا العدم في إثبات هذا العنوان الانتزاعيّ وهو الفوت، كذلك لو كان الشكّ في الجزء الثانيمن ذلك وهو اللابديّة، لم يكفِ استصحابُها في إثبات هذا العنوان الانتزاعيّ.



(1) إلّا أنّ هذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ كما أشرنا إليه آنفاً في الاستصحاب الموضوعيّ.

338

الصورة الثالثة: ما إذا انكشف الخلاف بالعلم الإجماليّ، كما لو فرض: أنّه يعلم إجمالا في يوم الجمعة: إمّا بوجوب صلاة الظهر، أو الجمعة، لكنّه كان يرى انحلال هذا العلم الإجماليّ بقيام دليل شرعيّ تعبّديّ على وجوب الجمعة مثلا، ثُمّ انكشف له عدم دليل شرعيّ تعبّديّ على ذلك، وهذا الانكشاف لو كان قبل أن يصلّي صلاة، فلا إشكال في أنّه لابدّ له أن يعمل وفق هذا العلم الإجماليّ، وإنّما يقع الكلام في فرضيّتين:

الاُولى: أنّه لو حصل هذا الانكشاف قبل الصلاة، ثُمّ صلّى الجمعة وترك الظهر إلى أن انتهى الوقت، خلافاً لما هي وظيفته من العمل بالعلم الإجماليّ، فهل يجب عليه القضاء، أو لا؟

والثانية: أنّه لو حصل هذا الانكشاف بعد أن صلّى الجمعة، فهل يجب عليه الظهر أداءً إن كان في الوقت، أو قضاءً إن كان في خارج الوقت، أو لا؟

أمّا في الفرضيّة الاُولى: فلا يخلو إثبات وجوب القضاء فيها من صعوبة ثابتة في كلّ ما لو علمنا إجمالا في الوقت بأحد الواجبين ممّا له القضاء كالصلاة سواء اعتقد أوّلا وجود ما يحكم على العلم الإجماليّ ويحلّه، ثُمّ انكشف الخلاف، أو لم يعتقد ذلك من البدء، فإنّه ـ على أيّ حال ـ يقال: إنّ الواجب الأدائيّ قد سقط حتماً: إمّا بالامتثال أو بانتهاء الوقت، ووجوب القضاء عليه غير معلوم، لأنّه فرع كون الواجب هو ما تركه، وهو غير ثابت، فكيف يتنجّز عليه وجوب القضاء؟!(1).



(1) ولكن لو قلنا بعدم وجوب القضاء عليه، فهذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الواقع، وكيف لا والمفروض انكشاف الخلاف له قبل أن يعمل شيئاً أصلا، أو المفروض عدم قيام حكم ظاهريّ له منذ البدء حالٍّ للعلم الإجماليّ.

339

ويمكن إثبات وجوب القضاء عليه بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أن يؤتى هنا بنفس الجواب الذي أتينا به في الصورتين السابقتين: من أنّ الأمر بالقضاء ليس دائماً واقعيّاً، بل هو يدور مدار مافات، ومادام أنّه كان يجب عليه أن يأتي بصلاة الظهر في الوقت ـ ولو للعلم الإجماليّ ـ يجب عليه القضاء في خارج الوقت.

وهذا الوجه تماميّته هنا أصعب منها في الصورتين السابقتين؛ وذلك لأنّه كان يكفي في الصورتين السابقتين أن يدّعى: أنّ قوله: «اقض مافات كما فات» ناظر إلى كلّ الوجوبات الشرعيّة والخطابات المجعولة له تعالى، واقعيّة كانت أو ظاهريّة، فهو ـ تعالى ـ يأمر بقضاء مافات من أوامر أمراً واقعيّاً فيما لو فاته أمر واقعيّ، وظاهريّاً فيما لو فاته أمر ظاهريّ، وأمّا في المقام، فلم يثبت فوت أمر إلهيّ منه، وإنّما القدر المتيقّن فوت شيء كان منجّزاً عليه من قبل العقل بالعلم الإجماليّ، فلكي يشمله دليل القضاء يجب أن يفرض: أنّ هذا الدليل أرحب صدراً من قبول الواجبات الشرعيّة فقط، فيشمل حتّى الوظائف التي كانت لأجل حكم العقل بالتنجيز من دون ثبوت كونها شرعيّة، فيُثبت دليل القضاء في ذلك وجوباً ظاهريّاً للقضاء.

الوجه الثاني: استصحاب عدم الإتيان بالواجب بناءً على أنّ موضوع القضاء هو عدم الإتيان، لا الفوت.

وهذا الوجه غير صحيح؛ إذ ليس الشكّ في إتيان شيء وعدم الإتيان به، بل هو يقطع بأنّه أتى بالجمعة، وبأنّه لم يأتِ بالظهر، وإنّما الشكّ في أنّ أيّاً منهما هو الواجب، فلا معنى لاستصحاب عدم الإتيان بالواجب.

ومن هنا يتّضح: أنّ ثبوت الإشكال في وجوب القضاء هنا لا يفرّق فيه بين فرض كون الموضوع لوجوب القضاء ـ بناءً على كونه بأمر جديد ـ هو الفوت، أو عدم الإتيان.

340

الوجه الثالث: أنّه من أوّل الأمر يعلم إجمالا بأنّه إمّا تجب عليه الجمعة فعلا، أو يجب عليه قضاء الظهر بعد الوقت لو لم يأتِ به حين الوقت، فيكون من العلم الإجماليّ في التدريجيات، ويكون منجّزاً.

وهذا الوجه إنّما يتمّ لو كان قبل إتيانه بالجمعة عازماً على ترك الظهر، فهو يعلم أنّه لا يأتي بالظهر، وبالتالي يعلم بأنّه: إمّا تجب عليه الجمعة الآن، أو يجب عليه قضاء الظهر بعد الوقت، أمّا إذا كان يحتمل أنّه سيأتي بالظهر، فليس جميع أطراف علمه الإجماليّ فعليّة في ظرفها؛ فإنّه لا يعلم بأنّه: إمّا يجب عليه الجمعة الآن، أو يجب عليه قضاء الظهر وجوباً فعليّاً فيما بعد انقضاء الوقت؛ إذ يحتمل أنّه سيصلّي الظهر، فأحد طرفي العلم الإجماليّ عبارة عن التكليف على تقدير، لا التكليف الفعليّ في ظرفه، وعلم إجماليّ من هذا القبيل لا يكون منجّزاً، فإذا صلّى الجمعة ثُمّ تمّ عزمه على ترك الظهر، فقد حصل له العلم الإجماليّ: إمّا بوجوب الجمعة، أو وجوب قضاء الظهر بعد الوقت، ولكن أحد طرفي هذا العلم الإجماليّ خارج عن محلّ ابتلائه بالامتثال، وهو صلاة الجمعة، فلا يؤثّر هذا العلم الإجماليّ أيضاً.

الوجه الرابع: مبنيّ على كون القضاء بالأمر الأوّل، بأن يكون من أوّل الأمر قد توجّه إليه أمران: أمر بجامع الصلاة في الوقت أو خارجه، وأمر بإيقاعها في الوقت، وعليه فهو من أوّل الأمر تكوّن عنده علمان إجماليّان: علم بوجوب الجمعة أو إيقاع الظهر في الوقت، وعلم بوجوب الجمعة أو جامع الظهر في الوقت أو خارجه، وكلاهما علمان منجّزان؛ لكونهما علماً بتكليف فعليّ على كلّ تقدير، إذن فجامع الظهر قد تنجّز عليه، فيجب عليه الإتيان به ولو خارج الوقت.

وهذا الوجه غير صحيح من ناحية بطلان المبنى؛ حيث إنّنا لا نقول بكون القضاء بالأمر الأوّل.

الوجه الخامس: أن يقال: إنّه يعلم إجمالا: إمّا بوجوب صلاة الظهر عليه الآن

341

ولو كانت قضاءً، أو وجوب صلاة الجمعة عليه في الاُسبوع الآتي؛ إذ لو كانت وظيفته الجمعة، ففي كلّ اُسبوع تكون وظيفته ذلك، ففي الاُسبوع الآتي تجب عليه الجمعة، ولو كانت وظيفته الظهر، فالآن تجب عليه صلاة الظهر ولو كانت قضاءً، وهذا علم بتكليف فعليّ في ظرفه على كلّ تقدير، فيكون منجّزاً.

وهذا الوجه تامّ، إلّا أنّه يختصّ بالواجب الذي يتكرّر من قبيل صلاة الظهر والجمعة، أمّا لو فرض مثلا أنّه علم إجمالا بالقصر أو التمام في حالة من الحالات التي يشكّ فيها أنّ الوظيفة هل هي القصر أو التمام، ولم يعلم بأنّ هذه الحالة سوف تتكرّر له، فلا يأتي هذا الجواب.

فقد تحصّل: أنّه في الواجبات التكراريّة لا إشكال في وجوب القضاء اعتماداً على الوجه الخامس، وأمّا في غير ما يثبت تكراره، فلا نفتي بوجوب القضاء، لكنّنا نحتاط فيه احتياطاً وجوبيّاً لأجل الوجه الأوّل(1).

وأمّا في الفرضيّة الثانية: فالوجه الأوّل لا يتأتّى فيها، سواء التفت في خارج الوقت أو في داخله.

أمّا الأوّل فواضح؛ إذ لم يتنجّز عليه الظهر في داخل الوقت حتّى تطبّق عليه قاعدة (اقضِ مافات كما فات) لإثبات وجوب القضاء الظاهريّ(2). وأمّا الثاني فلأنّ علمه الإجماليّ في داخل الوقت علم بوجوب الجمعة أو الظهر، والطرف



(1) ولو لم نحتط في ذلك احتياطاً وجوبيّاً، ولا أفتينا بوجوب القضاء، فقد عرفت: أنّ المسألة بالدقّة لا علاقة لها بإجزاء الحكم الظاهريّ عن الواقع.

(2) إلّا أنّ هذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الواقع، بل إنّ الواقع الأدائيّ ساقط يقيناً: إمّا بالامتثال، أو بانتهاء الوقت، والواقع القضائيّ مشكوك الحدوث؛ للشكّ في الفوت.

342

الأوّل قد خرج عن محلّ ابتلائه بالامتثال، فلا أثر لهذا العلم الإجماليّ، فلا يجب عليه الأداء(1) فضلا عن القضاء.

وأمّا الوجه الثاني، وهو الاستصحاب، فلو تمّ في الصورة السابقة يأتي هنا أيضاً خصوصاً بالنسبة إلى الأداء؛ إذ لا تأتي فيه شبهة كون موضوع الحكم هو الفوت، لا عدم الإتيان.

وأمّا الوجه الثالث والرابع، فلا يأتيان هنا؛ لأنّ الطرف الأوّل للعلم الإجماليّ ـ وهو وجوب الجمعة ـ قد خرج عن محلّ ابتلائه بالامتثال قبل تكوّن العلم الإجماليّ.

وأمّا الوجه الخامس، فهو يأتي في المقام حرفاً بحرف، فهو يعلم الآن بأنّه: إمّا يجب عليه الظهر أداءً أو قضاءً، أو تجب عليه الجمعة في الاُسبوع الآتي.

الصورة الرابعة: ما إذا تنجّز عليه التكليف بأصالة الاشتغال من باب الدوران بين الأقلّ والأكثر بناءً على أصالة الاشتغال فيه، وحينئذ لو كنّا نقول بأصالة الاشتغال على أساس العلم الإجماليّ بوجوب الأقلّ لا بشرط، أو وجوب الأكثر، ودعوى أنّ هذا دوران بين المتباينين، إذن رجعت هذه الصورة إلى الصورة الثالثة، فالكلام الكلام، ولو كنّا نقول بأصالة الاشتغال على أساس الشكّ في حصول الغرض، فالكلام فيه هو الكلام في الصورة الثالثة من حيث الوجوه الأربعة الاُولى، ولكن الوجه الخامس لا يأتي هنا؛ إذ لا يمكن أن يقال بأنّه يعلم إجمالا:



(1) يمكن ربط ذلك بمسألة إجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الواقع؛ لأنّ امتثاله للحكم الظاهريّ الذي كان له قبلا هو الذي أخرج أحد طرفي العلم الإجماليّ عن محل ابتلائه، كما يمكن أيضاً فرض ذلك أجنبيّاً عن مسألة امتثال الحكم الظاهريّ؛ لأنّ كون حكمه السابق الذي امتثله ظاهريّاً ليس هو الدخيل في خروج أحد طرفي العلم الإجماليّ عن محلّ ابتلائه، بل حتّى لو كان وهميّاً وخياليّاً، لكان يؤثّر امتثاله نفس التأثير.

343

إمّا بوجوب الأكثر عليه الآن، أو وجوب الأقلّ عليه في يوم آخر؛ فإنّ الأقلّ واجب عليه في يوم آخر حتماً: إمّا وحده، أو في ضمن الأكثر. هذا.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّه متى ما كان لدليل الأمر الواقعيّ إطلاق، فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء بنحو الفتوى في غالب الفروض، وبنحو الاحتياط الوجوبيّ في فرض نادر(1) ما لم يرد مخصّص خارجيّ لذلك الإطلاق من قبيل حديث (لا تعاد) في غير الأركان في الصلاة.

هذا هو البحث الاُصوليّ في المقام.

يبقى أنّه في بعض الموارد قد يقال بالإجزاء: إمّا بدعوى عدم الإطلاق لدليل الأمر الواقعيّ، أو بدعوى تخصيصه، وذلك من قبيل إجزاء الفتوى السابقة للأعمال السابقة عند رجوع المقلّد إلى تقليد فتوىً اُخرى، أو من قبيل ما لو كان الخلل بغير الأركان في الصلاة.

وتشخيص هذه الموارد وتحقيق الكلام فيها موكول إلى علم الفقه. هذا.

وإذا كان مقتضى القاعدة في الأمر الظاهريّ هو عدم الإجزاء، ففي الأمر الخياليّ بطريق أولى، وإنّما قلنا بطريق أولى لأنّ الوجهين الماضيين للإجزاء في الأمر الظاهريّ لا يأتيان في الأمر الخياليّ الوهميّ؛ إذ لا حكم ظاهريّ حتّى تفرض حكومته على الحكم الواقعيّ، أو تفرض السببيّة فيه، غاية ما هناك: أنّه تخيّل العبد الأمر بشكل معيّن فامتثله، ثُمّ انكشف الخلاف.

هذا تمام الكلام في بحث الإجزاء.



(1) لو سمّينا عدم القول بوجوب الاحتياط في ذلك الفرض النادر بإجزاء الحكم الظاهريّ عن الواقع، فتسمية الفرض الأخير، أعني: آخر شقّ من شقوق فرضيّة العلم الإجماليّ بهذا الإسم أولى. والأمر سهل، فإنّ هذا شبيه بمجرّد النقاش اللفظيّ.

345

الفصل الرابع. الأوامر

وجوب مقدّمة الواجب

* تقسيمات المقدّمة.

شرط الوجوب.

شرط الواجب.

الشرط المتقدّم.

* تقسيمات الواجب.

المطلق والمشروط.

المعلّق والمنجّز.

النفسيّ والغيريّ.

347

إنّ موضوع هذا البحث ليست هي المقدّمة الوجوبيّة، بل هي المقدّمة الوجوديّة. والفرق بينهما من حيث عالم الجعل: أنّ الوجوب مقيّد ومشروط بالاُولى دون الثانية، ومن حيث عالم الملاك: أنّ الاُولى لها دخل في أصل كون الفعل ذا مصلحة واحتياج الإنسان إليه، بينما الثانية يكون دخلها في تحصيل المصلحة وإشباع حاجة الإنسان، فمثلا مجيء أيّام البرد مقدّمة وجوبيّة للحكم بالتدفئة بالنار؛ إذ قبلها لا مصلحة في التدفئة ولا حاجة للإنسان إليها بينما سدّ المنافذ المانعة عن الدفء مقدّمة وجوديّة للتدفئة بالنار؛ إذ به يتمّ تحصيل المصلحة وتشبع حاجة الإنسان، ووجوب التدفئة مثلا مشروط بمجيء أيّام البرد، وليس مشروطاً بسدّ المنافذ، وبما أنّ الوجوب مقيّد ومشروط بالمقدّمة الوجوبيّة فمن الواضح: أنّه لا يترشّح الوجوب على نفس المقدّمة والشرط، فإنّه لولاها لما كان العبد ملزماً بشيء، فالبحث إنّما هو حول المقدّمة الوجوديّة.

هذا حال موضوع البحث.

وأمّا محموله، فليس عبارة عن اللابدّيّة التكوينيّة للمقدّمة في مقام الحصول على ذي المقدّمة، فإنّ هذه هي معنى المقدّميّة، ولا عبارة عن اللابدّيّة العقليّة، بمعنى عدم صحّة الاعتذار عن ترك ذي المقدّمة بعدم المقدّمة، فيقول: أنا ما صلّيت لأ نّني لم أتوضّأ؛ فإنّ ذلك واضح بالضرورة، وليس فيه أيّ نقاش أو خلاف، ولا عبارة عن الوجوب المولويّ المجعول بالجعل الفعليّ؛ فإنّه موقوف على

348

الالتفات إلى المقدّمة، بينما قد يكون الآمر بشيء غير ملتفت إلى المقدّمة، وغير مطّلع أصلا على احتياج المأمور به إلى تلك المقدّمة، وإنّما هو عبارة عن الوجوب المولويّ المجعول ارتكازاً وشأ ناً، بحيث لو التفت إليه لطلبه.

هذا حال محمول البحث.

وأمّا النسبة المدّعاة بين هذا المحمول وذاك الموضوع فهي نسبة الملازمة العقليّة، لا الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة التي هي أخصّ من الملازمة العقليّة، حيث لا تكون إلّا إذا كانت الملازمة بيّنة؛ إذ لا مبرّر لقصر النزاع على هذا الأخصّ بعد أن كانت الآثار المطلوبة من الوجوب الغيريّ تترتّب ـ لو ثبت الوجوب ـ بالملازمة العقليّة ولو لم تكن بيّنة.

وبعد أن عرفت ذلك يقع البحث عن مقدّمة الواجب، وتحقيق الحال فيها في ضمن بحثين: