518

 

إثبات إرادة الحجّيّة بحساب الاحتمال:

ثمّ إنّ هنا كلاماً، وهو: أنّ هذه الطوائف المختلفة البالغة حوالي (150) حديثاً لو فرض إجمال كلّ خبر منها، واحتمال كون المراد منه حجّيّة خبر الواحد لأمكن أن تثبت بذلك بحساب الاحتمالات حجّيّة خبر الواحد بأن يقال: إنّ فرض ثبوتها بنكات متباينة بعيد جدّاً بخلاف فرض وجود نكتة مشتركة، وهي حجّيّة خبر الواحد. ولا أقصد بذلك: أنّ ورود (150) حديثاً في اُمور متباينة بعيد، وإنّما المقصود: أنّ ورود كلّ واحد منها صدفة بلسان يناسب الحجّيّة ولو من باب إجمال الكلام بعيد، إلّا مع فرض النكتة المشتركة، وهي الحجّيّة في الواقع.

وقد يقال: لا يكفي هذا لإثبات حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّ العدد المتواتر لو فرضت دلالة كلّ واحد منها صريحاً على الحجّيّة حصل القطع بالحجّيّة للتواتر عليها، لكن المفروض أنّ كلّ فرد من أفراد هذا العدد المتواتر مجمل، وغاية ما يمكن دعوى حصول القطع به لأجل التواتر الإجماليّ هو صدق بعض هذه الأفراد مع القطع بأنّ بعض هذه الأخبار اُريد منه الحجّيّة؛ لاستبعاد عدم كون بعضها ـ على الأقلّ ـ مسوقاً مساق الحجّيّة، وكون إمكان انطباق الجميع على الحجّيّة من باب مجرّد تجمّع الصدف، لكن كون البعض الصادق هو عين البعض الذي اُريد به الحجّيّة غير معلوم.

وقد يقال في مقابل هذا الكلام: إنّ العدد الموجود فيما نحن فيه ليس هو أدنى مراتب التواتر الإجماليّ، أي: أنّ الأخبار الواردة في المقام بما لها من خصوصيّات لو كانت أقلّ من هذا المقدار بكثير لكان يحصل العلم أيضاً بصدق بعضها. فمثلاً: لو كانت هذه الأخبار بمقدار خمسين لكان يحصل القطع بصدق

519

واحد منها، ولو فرضنا أنّ أقلّ التواتر الإجماليّ هو خمسون مثلاً، فهذا لا يعني أنّنا لا نقطع في ضمن المئة والخمسين إلّا بصدق ثلاثة، بل يحصل القطع بصدق مئة وواحد منها مثلاً الذي هو فوق حدّ التواتر؛ وذلك لأنّ فرض كون الخمسين أقلّ حدّ التواتر يعني أنّ أكبر عدد يحتمل اجتماعهم على الكذب هو تسعة وأربعون، إذن فلو أخبر مئة وخمسون بشيء علمنا بصدق مئة وواحد منهم.

وقد يقال في مواجهة هذا البيان: إنّ استبعاد كذب خمسين من أصل خمسين من المخبرين أكبر من استبعاد كذب خمسين من أصل مئة وخمسين من المخبرين؛ لأنّ احتمال كذب خمسين من أصل خمسين من المخبرين لا يمتلك إلّا صورة واحدة من كثير من الصور، بينما احتمال كذب خمسين من أصل مئة وخمسين من المخبرين يمتلك صوراً كثيرة نسبتها إلى مجموعة الصور المحتملة ضمن فرضيّة مئة وخمسين مخبراً أكبر من نسبة صورة كذب خمسين إلى مجموعة الصور المحتملة ضمن فرضيّة خمسين مخبراً. والخلاصة: أنّ نسبة صور كذب مئة وسبعة وأربعين من أصل مئة وخمسين إلى مجموع الصور تساوي نسبة صور كذب تسعة وأربعين من أصل خمسين إلى مجموع الصور. فكما أنّنا لا نقطع في ضمن الخمسين إلّا بصدق واحد منهم كذلك لا نقطع في ضمن المئة وخمسين إلّا بصدق ثلاثة منهم(1).

والتحقيق في المقام: أنّه توجد في مقابل الحساب الذي عرفته نكتة اُخرى لا يصحّ إغفالها، وهي: أنّه كلّما كان التقارب والاشتراك بين تلك الأخبار أزيد كان احتمال تكاثر الكذب بتكاثر الأخبار أضعف، ففيما نحن فيه يحصل القطع بصدق


(1) نعم، بناءً على مذهب القوم من تفسير التواتر باستحالة اجتماع تسعة وأربعين ـ مثلاً ـ على الكذب تكون النتيجة أنّنا نقطع في المئة وخمسين بصدق مئة وواحد منهم.

520

كثرين منهم جدّاً، وهذا هو السرّ في أنّه لو أخبرنا عدد متواتر بخبر معيّن حصل لنا القطع بأنّ كلّهم أو جلّهم صادقون(1).

وإن شئت حساب المطلب فيما نحن فيه بنحو ساذج فنقول: إنّ كلّ واحد من هذه الأخبار يحتمل ـ مثلاً ـ بمقدار نصف اليقين صدقه. وعلى تقدير صدقه يحتمل بمقدار نصف اليقين كون المراد به الحجّيّة، فكلّ واحد منها أمارة بمقدار ربع اليقين على الحجّيّة وبتجمّعها يتقوّى الظنّ بالحجّيّة إلى أن يحصل القطع، أو الاطمئنان بالحجّيّة.

وما ذكرناه باب لطيف لإثبات حجّيّة المجملات في بعض الأحيان، واستفادة الحكم منها بالرغم من إجمالها.

إلّا أنّ الصحيح أنّ هذه الكبرى لا تنطبق على ما نحن فيه؛ لأنّ الغالب في روايات الباب التي لا تتمّ دلالتها على الحجّيّة أنّ عدم تماميّة الدلالة ليس من باب الإجمال، بل هي ظاهرة في كون المقصود بها اُموراً اُخرى غير الحجّيّة، كالثناء على المحدّثين، وجواز النقل بالمعنى، وغير ذلك.


(1) لا يخفى أنّ لحصول القطع في التواتر بصدق كلّهم أو جلّهم سبباً آخر غير السبب الذي أشار إليه الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)، ولذا ترى أنّ هذا القطع موجود في أقلّ درجات التواتر مع أنّ السبب الذي أشار إليه الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) لا يتمّ في أقلّ درجات التواتر، فمثلاً: لو فرضنا أنّ أقلّ درجات التواتر هو خمسون فهذا يعني أنّ احتمال كذب تسعة وأربعين غير مرفوض، ومن الواضح أنّ احتمال كذب تسعة وأربعين من أصل خمسين ليس بأضعف من احتمال كذب تسعة وأربعين من أصل تسعة وأربعين. أمّا السبب في أنّنا نقطع في أقلّ درجات التواتر بصدق الكلّ أو الجلّ فهو أنّه بعد أن ثبت بالتواتر صدق أصل الحادثة كان صدق أصل الحادثة مقوّياً لاحتمالات صدق المخبرين في مقابل احتمالات كذبهم؛ لأنّ توافق الكذب صدفة للواقع بحدّ ذاته بعيد.

521

 

الأخبار التامّة دلالة:

والآن نبدأ ببحث الأخبار الدالّة على المقصود، أعني: حجّيّة خبر الثقة، وهي معدودة جدّاً، وتكون من ناحية الكمّيّة قاصرة عن التواتر. نعم، لو أخبرنا الراوي بلا واسطة عن الإمام(عليه السلام) فلعلّه كان يحصل لنا القطع بأخبار أربعة، أو خمسة مثلاً، لكن هذه الأخبار التي هي حوالي خمسة عشر حديثاً(1) تكون أخباراً مع الواسطة، ولو فرض خمسة عشر حديثاً كلّ منها يكون بأربع وسائط فهي تتنزّل بحسب التدقيق في حساب الاحتمالات إلى حوالي قيمة ثلاثة أخبار بلا واسطة. ولكن النقص الكمّيّ الموجود في أخبار الباب يجبر بالكمال الكيفيّ الثابت فيها، ويحصل للإنسان من مجموعها الجزم، أو الاطمئنان ـ على الأقلّ ـ بحجّيّة خبر الثقة.

فمن الروايات الدالّة على المقصود: ما هو عمدة أحاديث الباب في تحصيل الجزم والاطمئنان، وهو ما رواه الكلينيّ(رحمه الله)في الكافي عن محمّد بن عبدالله، ومحمّد بن يحيى جميعاً، عن عبدالله بن جعفر الحميريّ، قال: «اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو(رحمه الله)عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن


(1) مقصوده(رحمه الله)من حوالي خمسة عشر غير الأخبار التي نقلوها مرسلة، من قبيل ما نقله الشيخ(رحمه الله) في العدّة مرسلاً عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما ورد عنّا فانظروا فيما رووه عن عليّ فاعملوا به» ـ الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، ح 47، ص 64 ـ فإنّه لا يبعد ظهوره في الحجّيّة؛ لأنّه عدّى فيه الورود بعن لا بمن. وقد قلت له(رحمه الله) بعد أن أكمل قراءته لروايات الباب الدالّة على المقصود: إنّ الروايات التي اعترفتم بتماميّة دلالتها لا تبلغ حوالي خمسة عشر حديثاً. فقال: أظنّ أنّ واحداً منها أو قال: بعضها روي بطريقين.

522

الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو، إنّي اُريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاكّ فيما اُريد أن أسألك عنه، فإنّ اعتقاديّ وديني أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إلّا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رفعت الحجّة، واُغلق باب التوبة، فلم يك ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً، فاُولئك أشرار من خلق الله عزّ وجلّ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة. ولكنّي أحببت أن أزداد يقيناً، وإنّ إبراهيم(عليه السلام) سأل ربّه عزّ وجلّ أن يريه كيف يحيي الموتى ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾. وقد أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن(عليه السلام)قال: سألته وقلت: مَن اُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له: العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون. وأخبرني أبو عليّ أنّه سأل أبا محمّد(عليه السلام)عن مثل ذلك، فقال له: العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.

قال: فخرّ أبو عمرو ساجداً وبكى. ثمّ قال: سل حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد(عليه السلام)؟ فقال: إي والله، ورقبته مثل ذا ـ وأومأ بيده ـ فقلت له: فبقيت واحدة. فقال لي: هات. قلت: فالاسم؟ قال: محرّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي فليس لي أن اُحلّل ولا اُحرّم، ولكن عنه(عليه السلام)، فإنّ الأمر عند السلطان أنّ أبا محمّد مضى ولم يخلّف ولداً، وقسّم ميراثه، وأخذه مَن لا حقّ له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتّقوا الله وأمسكوا عن ذلك»(1).


(1) الكافي، ج 1، ب 77 من كتاب الحجّة، ح 1، ص 329 و330. ومحلّ الشاهد موجود في الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 4، ص 100.

523

والكلام تارةً يقع في دلالة الحديث، واُخرى في سنده:

أمّا الأوّل: فتدلّ على المطلوب من هذا الحديث فقرتان:

الاُولى: قوله: «العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون»، ولولا قوله: «فإنّه الثقة المأمون» لكان يقال: إنّ هذا الحديث لا يدلّ على أزيد من حجّيّة خبر ثقة الإمام، لكن التعليل بقوله: «فإنّه الثقة المأمون» يوسّع في دائرة الموضوع، ويجعل الموضوع مطلق الثقة.

وما عن علماء العربيّة: من أنّ اللام في مثل هذا المورد للكمال، فمعنى ذلك أنّه الكامل في الوثاقة والأمان ليس حجّة لنا، فإنّه ليس ذلك نقلاً منهم عن العرب، وإنّما هو اجتهاد منهم؛ إذ لا يحتمل أنّ اللام موضوع بوضع خاصّ للكمال، وإنّما المقصود استفادة الكمال بمناسبة المعنى الأصليّ للاّم. ونحن نقول: إنّ الظاهر الأنسب لمعناه الأصليّ إنّما هو الكمال بحسب عالم الإثبات لا الثبوت.

فإنّ اللام هنا يتضمّن معنى العهد وليس لام الجنس صرفاً، وليس هناك معهود معيّن، فينبغي أن يكون لعهد الجنس، ومن هنا يستفيدون منه الكمال الثبوتيّ. لكن الظاهر الأنسب هو الكمال الإثباتيّ، فكأنّ العمريّ من شدّة وضوح كونه فرداً لجنس الثقة يكون معهوداً بنفس معهوديّة الجنس، والمعهوديّة مرتبطة بالظهور والوضوح بحسب عالم الإثبات، لا الكمال بحسب عالم الثبوت.

والحديث مطلق يشمل الرواية والفتوى، وقوله: «فاسمع له وأطع» ليس قرينة على الاختصاص بالفتوى، فإنّه حتّى لو حمل على الفتوى فليس المقصود إيجاب الإطاعة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة؛ إذ ذلك لا يكون إلّا في باب الحكم، أمّا الفتوى فهو أيضاً إخبار عن الواقع كالرواية، إلّا أنّه بالحدس والاجتهاد والاستظهار لا الحسّ، فالمقصود بإطاعته في الفتوى ليس في الحقيقة إلّا إطاعته بلحاظ ذلك

524

الواقع، وهو في الحقيقة إطاعة الواقع، ولا فرق في ذلك بين الرواية والفتوى، وليس المقصود إنكار شمول هذا الحديث للحكم، فإنّه بإطلاقه شامل له، وإنّما المقصود أنّه ناظر إلى غير الحكم أيضاً يقيناً، وكيف يمكن حمل مثل قوله: «مَن اُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول مَن أقبل؟» على خصوص الحكم؟

وكذلك قوله: «ما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول» شاهد لما ذكرناه.

ثمّ الوثاقة والأمانة في كلّ شيء بحسبه، فالوثاقة في الرواية والأمانة فيها هو كونه صادق اللهجة، وفي الفتوى هي كونه عارفاً خبيراً بالأدلّة وكيفيّة الاستنباط والاستظهار وبلحن الكتاب والسنّة، وفي اُصول الدين معرفته بها، وفي الحكم معرفته بمواقع الحكم، وهكذا. وهذا الحديث دلّ على كون العمريّ ثقة ومأموناً بقول مطلق، ويرجع إليه في جميع الاُمور، كالفتوى، والحكم، والرواية، وتفسير القرآن، واُصول الدين. وظاهره لا محالة هو الانحلال، ففي حجّيّة الرواية لا تشترط الوثاقة في كلّ شيء، بل الشرط في كلّ شيء الوثاقة بالقياس إلى ذلك الشيء، فقد دلّ هذا الحديث على حجّيّة خبر مطلق الثقة.

الثانية: قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان». وهذه الفقرة أظهر من الفقرة الاُولى في المقصود، ولو فرض إجمال في الفقرة الاُولى ـ ولا إجمال فيها ـ فلا يسري إجمالها إلى هذه الفقرة، فإنّها كلام مستقلّ صدر عن إمام آخر في مجلس آخر، ولا علاقة له بالمجلس الأوّل، واللام في قوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان» يدلّ ـ كما عرفت ـ على الكمال الإثباتيّ لا الثبوتيّ، فلا يضرّ بالمقصود، خصوصاً مع مسبوقيّته بقوله: «العمريّ وابنه ثقتان» المفرّع عليه قوله: «فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» الظاهر في أنّ ملاك هذا التفريع هو مطلق الوثاقة،

525

وبعد هذا لا يعدّ عرفاً قوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان» إلّا تكراراً لقوله: «العمريّ وابنه ثقتان» لا تقييداً لإطلاقه(1)، ولا يحمل السؤال والجواب على السؤال والجواب عن النائب، فكأنّه يقول: مَن هو نائبك؟ فإنّ العمريّ وإن كان نائباً للإمام(عليه السلام)آنذاك، ولكن ابنه لم يكن وقتئذ نائباً له(عليه السلام)، وإنّما صار بعد ذلك نائباً للحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

وأمّا الثاني: فسند هذه الرواية إن لم يكن قطعيّاً فلا أقلّ من كونه اطمئنانيّاً. وتوضيح ذلك ما يلي:

إنّ أوّل مَن في سند هذا الحديث هو محمّد بن يعقوب الكلينيّ(رحمه الله)، وهذا الخبر موجود في الكافي الواصل إلينا بالتواتر، فصدوره من الكلينيّ قطعيّ.

واحتمال اختلاف في النسخ يضرّ بالمقصود، ممّا يقطع أو يطمئنّ بعدمه؛ إذ لو كان كذلك لكانت تصل إلينا النسخة المخالفة لتحفّظهم على النسخ المختلفة، ولما تطابقت النسخ الموجودة اليوم من دون أن يشار في بعضها إلى اختلاف النسخ.

هذا مضافاً إلى وجود هذا الحديث بعين تلك النسخة في غير كتاب الكافي، فالشيخ(قدس سره) قد رواه عن الكلينيّ بمتن مطابق مع ما في الكافي. هذا حال صدور هذا الحديث عن الكلينيّ(رحمه الله).

وأمّا الكلينيّ نفسه فمن اطّلع على حال الكلينيّ وما ذكره معاصروه، والمتأخّرون عنه، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسيّ، والنجاشيّ، حتّى أنّ الشيخ


(1) بل حتّى لو حمل اللام على معنى الكمال الثبوتيّ لا يوجب تقييد إطلاق الصدر، فالصدر ظاهر في علّيّة طبيعيّ الوثاقة، والذيل تعليل بالوثاقة بالدرجة العالية. وهذا القيد هو من سنخ الوثاقة، وتعليل المعلول بالفرد الكامل من العلّة رغم أنّ العلّة هو الجامع بين الكامل وغيره أمر مألوف ومتعارف، فليس هذا قرينة على تقييد الصدر.

526

الطوسيّ قال: «ما ألّف شخص كتاباً في الإسلام أضبط وأثبت من كتاب الكافي الذي ألّفه محمّد بن يعقوب الكلينيّ»(1)، وغير ذلك من أقوال الكبار من العلماء بشأنه، وأنّ كتابه ورواياته هي أساس استنباط الفقهاء الذين جاؤوا بعده، ومحور الفقه والاستنباط، وأنّه لم يذكره أحد من العصابة إلّا بالمدح، ولم يقدح فيه أحد بوجه من الوجوه، وأجمعت العصابة على كونه ثقة، وغير ذلك من الاُمور، عرف أنّه لا يحتمل في كلامه تعمّد الكذب ولو احتمالاً عقليّاً. وأمّا الخطأ فالكلينيّ ليس معصوماً، ولكن احتمال الخطأ بالنسبة له عندنا أضعف من احتمال خطأ أنفسنا في قضايانا الاعتياديّة بعد الاطّلاع على مقدار تثبّته وضبطه للحديث، ومقدار ما كان يصرف من جهد في جمع الروايات وتدقيقها، وما ينسب إليه من أحواله ممّا يتعلّق بهذا المطلب. ومن هنا يحصل للإنسان الاطمئنان القويّ جدّاً بعدم خطئه في ذلك إلى حدّ يكون احتمال الخطأ كالمعدوم في المقام، خصوصاً أنّه سمع الحديث من شخصين: محمّد بن عبدالله، ومحمّد بن يحيى، وهو يبعّد احتمال الخطأ على الخصوص لو فرض ذلك في مجلسين. والخلاصة: أنّ الكلينيّ كأنّه ملغى عن الوسطيّة وسماعه سماعنا.

والكلينيّ ـ كما عرفت ـ يروي هذه الرواية عن شخصين في عرض واحد:

أحدهما: محمّد بن يحيى العطّار، وهو ثقة جليل ممدوح مشهود له بالوثاقة من


(1) لم أرَ ذلك للشيخ الطوسيّ(رحمه الله)، وقد نقل المحدّث النوريّ في المستدرك جزء 3 في الفائدة الرابعة من الخاتمة، عن الشيخ المفيد في شرح عقائد الصدوق: أنّه قال بشأن الكافي: «وهو أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة»، وعن المحقّق الكركي أنّه قال: «لم يعمل مثله»، وعن الشهيد أنّه قال: «لم يعمل للإماميّة مثله»، وعن المولى محمّد أمين الإستراباديّ في فوائده المدنيّة أنّه قال: «وقد سمعنا عن مشايخنا وعلمائنا أنّه لم يصنَّف كتاب يوازيه أو يدانيه».

527

قِبَل الشيخ الطوسيّ والنجاشيّ، ولم يعلّق عليه بغمز ولا بقدح حتّى من قبل القادحين بوجه من الوجوه، وعبّر عنه في كلمات النجاشيّ وغيره بأنّه شيخ أصحابنا في عصره. ومثل هذا الشخص لا يحتمل فيه تعمّد الكذب، ولو فرض مثل هذا الاحتمال فهو سفسطة بمقتضى حساب الاحتمالات. وكيف يحتمل الكذب في من هو شيخ أصحاب الشيعة بشهادة مثل النجاشيّ وغيره في زمان كان أصحاب الشيعة كلّهم أو كثير منهم من المتّقين والمؤمنين العدول، وكان مستوى التديّن في ذاك الزمان أكثر بكثير من مستواه في زماننا وما قبله، ومتديّن هذا الزمان لعلّه لم يكن يعتبر متديّناً في ذاك الزمان بهذا المعنى. إذن ففي عصر يوجد فيه اُولئك الأبرار الذين يواجهون الأئمّة ويمدحون من قِبَل الأئمّة بمثل هذا المدح الموجود في هذا الحديث إذا وصل شخص إلى مرتبة يعبّر عنه بشيخ أصحابنا، فلا إشكال في أنّه في أعلى مراتب العدالة والورع والتقوى بحيث لا يحتمل فيه تعمّد الكذب عادةً.

وثانيهما: محمّد بن عبدالله الحميريّ، وهو من الثقات الكبار الأجلّة، ومشهود بوثاقته من قِبَل النجاشيّ وغيره من أصحابنا دون أيّ غمز أو لمز من قِبَل شخص من الغامزين واللامزين، والذي كانت له مراسلات مع الإمام صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه، وخرج إليه توقيع في أيّام الغيبة، والذي يظهر(1) من الشيخ الطوسيّ أنّ التوقيع من قِبَل الإمام كان تمييزاً مهمّاً للثقات في ذلك العصر، ولم يكن يصدر لأيّ إنسان، ولم يكن حال مثل هذه التوقيعات حال السؤال والجواب في عصر الأئمّة السابقين، وكانت لا ترد إلّا إلى الأوحديّ من الشيعة الذي تناط به الآمال، ويعقد عليه الرجاء في مسائل الحلال والحرام. وما ظنّك بخبر ينقله مثل محمّد بن يحيى العطّار، ويعاضده نقل مثل محمّد بن عبدالله الحميريّ في عرضه،


(1) سيأتي النقاش في هذا الكلام.

528

فلو وجد احتمال عقليّ للكذب في أحدهما فهو يزول بالاعتضاد بالآخر، وكمايكون هذا هو الحال بالنسبة إلى احتمال تعمّد الكذب، كذلك يضعف احتمال الخطأ جدّاً في المقام بعد فرض أنّهما معاً نقلا هذه الرواية، فلو فرض أنّهما نقلا في مجلسين فكيف يفرض أنّهما يخطآن بخطأ واحد، أي: يتطابقان في الخطأ الذي يصدر منهما؟ وإن فرض أنّهما نقلا الحديث في مجلس واحد للكلينيّ فكيف أخطأ أحدهما، ولم ينبّهه الآخر، وأخطأ هو أيضاً كخطئه؟

ثمّ إنّ أحد هذين الشخصين وهو محمّد بن عبدالله ابن الشخص الثالث الذي يرويان عنه، وكذب الابن على أبيه في نفسه مستبعد في غير ما يرجع إلى كماله، كما نحن فيه، فإنّ هذه القضيّة إنّما ترجع إلى كمال العمريّ لا إلى كمال عبد الله الحميريّ، فكيف يحتمل أنّ هذا الابن اتّفق مع شخص من الأجلّة على أن يكذبا على أبيه.

فإلى هنا لا يوجد احتمال الكذب، ويكون احتمال الخطأ في غاية الوهن جدّاً.

وهذان الثقتان نقلا عن عبدالله بن جعفر الحميريّ، وهو شخص مشهود بوثاقته وضبطه من قِبَل علماء الرجال دون غمز ولا لمز، وهو بصريح كلام النجاشيّ شيخ أصحابنا في قم، أي: في بلدة كانت هي أرقى وأوعى وأزكى مدرسة لأهل البيت(عليهم السلام)وقتئذ، وأصحابنا في قم هم اُولئك الذين كانوا يدقّقون في كلّ مسألة من المسائل، وكان الثقات منهم نوعاً يتحرّزون من الرواية عن الضعيف، فكيف يتصوّر أنّ شيخهم لا يكون في المرتبة العالية من الورع والتقوى والعدالة، على أنّ هذا الشخص ممّن راسله الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)، وكتب إليه وخرجت التوقيعات باسمه، وهذا ـ على ما يظهر من الشيخ الطوسيّ في كتاب الغيبة(1) ـ من أجلّ الاُمور التي كان


(1) الموجود في كتاب الغيبة ما يلي:

«وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قِبَل

529

يعرف بها الثقات. هذا من ناحية احتمال الكذب. وأمّا من ناحية احتمال الخطأ،فهذا الاحتمال موجود، ولكن عبدالله بن جعفر الحميريّ نقل هذه الرواية عن أحمد بن إسحاق أمامه، فلو فرض أنّه كان قد أخطأ عليه لكان مقتضى القاعدة التنبيه من قِبَل أحمد بن إسحاق، إلّا أن يفرض أنّه لم يخطأ حينما نقل أمامه لكنّه أخطأ في نقله الثاني، أي: حينما نقل لمحمّد بن يحيى العطّار، ومحمّد بن عبدالله الحميريّ. وهذا أيضاً بعيد، فإنّ احتمال الخطأ في النقل الثاني بعد أن نقل مرّة سابقة بلا خطأ أبعد منه في النقل الأوّل. والخلاصة: أنّ احتمال الخطأ لا يمكن نفيه في المقام ولكنّه موهون جدّاً.

وعبد الله بن جعفر الحميريّ قد نقل هذا الحديث(1) عن أحمد بن إسحاق، وهو من خاصّة الإمام العسكريّ(عليه السلام)وحواريه، فليس هو مجرّد ثقة، بل هو ثقة الإمام، وهو مكاتب من قبل الحجّة عجّل الله فرجه، ومثل هذا الشخص أيضاً احتمال تعمّد الكذب فيه غير عقلائيّ، واحتمال خطئه موهون جدّاً.

 


المنصوبين للسفارة من الأصل ...». وقد يتبادر إلى الذهن من هذه العبارة أنّ المقصود ورود التوقيعات إلى الثقات، ولكن مراجعة باقي عبارة الشيخ توضّح أنّ المقصود هو ورود التوقيعات الحاكية عن شأنهم والدالّة على وثاقتهم لا ورودها إليهم؛ لأنّه(رحمه الله)يذكر بعد هذه العبارة مباشرة بعض المصاديق لهذه العبارة بعنوان (منهم ومنهم)، وكلّ ما ذكره إنّما هو من هذا القبيل لا من ذاك القبيل، فراجع.

(1) وممّا يؤيّد سند هذا الحديث ما ذكره الكلينيّ(رحمه الله) من قوله: «وحدّثني شيخ من أصحابنا ـ ذهب عنّي اسمه ـ: أنّ أبا عمرو سأل أحمد بن إسحاق عن مثل هذا، فأجاب بمثل هذا».

530

فهذه الرواية من حيث مقدار الوسائط وكيفيّتها بنحو لو وجدت فيها ثغرة فهي باعتبار ذبذبة النفس من حيث احتمال الخطأ في بعض هؤلاء، وهي ذبذبة لا تمنع عن حصول الاطمئنان الفعليّ على خلافه، فمثل هذه الرواية يحصل للإنسان اطمئنان فعليّ شخصيّ بصدورها من المعصوم(عليه السلام).

وتدعم هذه الرواية وتسندها الروايات الاُخرى الدالّة على المقصود التي يختصّ بعضها بامتيازات كيفيّة، وإن لم تبلغ إلى هذه الدرجة.

ومنها: حديث عبدالله ابن أبي يعفور، وقد روي بسندين إلى أحمد بن محمّد بن عيسى: أحدهما: ما رواه الكشّي في رجاله، عن محمّد بن قولويه قال: «حدّثني سعد بن عبد الله ابن أبي خلف القمّيّ، قال: حدّثني أحمد بن محمّد بن عيسى». والثاني: ما رواه المفيد في الاختصاص(1) قال: «حدّثنا محمّد بن الحسن، عن


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّه لا دليل على كون الاختصاص للشيخ المفيد(قدس سره)عدا كونه من الكتب التي اشتهرت عنه.

أقول: بناءً على كون الاختصاص للمفيد(رحمه الله) فالذي يبدو أنّه هو الجزء الأوّل من كتاب العيون والمحاسن للشيخ المفيد مستخرج من الاختصاص للشيخ أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران، أو أنّ كتاب العيون والمحاسن يسمّى كلّه بكتاب الاختصاص بمناسبة أوّل أجزائه المستخرج من كتاب الاختصاص لأبي علي. راجع الذريعة، ج 1، ص 358 إلى 360، ورقم الكتاب 1890.

وعلى أيّ حال، فهذا الحديث قد ورد سنده في كتاب الاختصاص المنسوب إلى الشيخ المفيد(رحمه الله) هكذا: «حدّثنا محمّد بن الحسن عن محمّد بن الحسن الصفّار و سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عبدالله بن محمّد الحجّال عن العلاء بن رزين، عن عبدالله ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) ...». ومن البعيد جدّاً افتراض كون

531

محمّد بن الحسن الصفّار و سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى».

ثمّ إنّ أحمد بن محمّد بن عيسى يروي هذا الحديث عن عبد الله بن محمّد الحجّال عن العلاء بن رزين عن عبد الله ابن أبي يعفور، قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه. فقال: ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً»(1). وفي نسخة الاختصاص «مرضيّاً»(2).

والظاهر أنّ هذا الحديث يدلّ على حجّيّة خبر مطلق الثقة، فإنّ المستظهر من لفظ المرضيّ أو الوجيه هو الوثاقة.

وهذا الحديث من الأحاديث المختصّة بامتيازات كيفيّة، فالسند إلى سعد بن عبدالله سندان أحدهما يعضد الآخر، وفي أحدهما يكون في عرض سعد محمّد بن الحسن الصفّار، وهما ينقلان الحديث عن أحمد بن محمّد بن عيسى إلى آخر السند. وجميع الرجال


القائل لعبارة: «حدّثنا محمّد بن الحسن ...» هو الشيخ المفيد(رحمه الله)؛ لأنّ محمّد بن الحسن بن الوليد توفّي بسنة ثلاثمئة وثلاث وأربعين بحسب نقل النجاشيّ، والشيخ المفيد ولد في سنة ثلاثمئة وستّ وثلاثين بحسب نقل النجاشيّ، أو في سنة ثلاثمئة وثمان وثلاثين بحسب نقل الشيخ الطوسيّ، وهذا يعني أنّ الشيخ المفيد(رحمه الله) كان عمره عند وفاة محمّد بن الحسن بن الوليد ما يقارب سبع سنين، أو خمس سنين. إذن فعبارة: «حدّثنا محمّد بن الحسن ...» هي على الأكثر للشيخ أبي عليّ أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران، وهو غير معروف لدينا.

(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 23، ص 105.

(2) بحسب نقل جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 5 من المقدّمات، ح 19، ص 225.

532

الواقعين في سند هذا الحديث ثقات، وبعضهم(1) من الأجلّة الأكابر كأحمد بن محمّد بن عيسى الذي يعدّ شيخ أصحابنا في قم. وعبدالله بن محمّد الحجّال يعدّ ثقة ثبتاً وجهاً بلا غمز، وكذلك العلاء بن رزين إلّا أنّه تلميذ محمّد بن مسلم الذي يكون هذا الحديث مدحاً له. وعبدالله ابن أبي يعفور يعدّ من خواصّ الإمام الصادق(عليه السلام)وكبار ثقاته.

ومنها: ما رواه الكشّي عن محمّد بن قولويه، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عبدالله بن محمّد الحجّال، عن يونس بن يعقوب قال: «كنّا عند أبي عبدالله(عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع، أما لكم من مستراح تستريحون إليه، ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضريّ؟»(2)، فلا تبعد دلالة هذا الحديث على حجّيّة خبر الثقة، وكأنّه يستنكر عدم الالتفات إلى مفزع وملجأ يلجأون إليه مع أنّ الثقات كالحارث بن المغيرة يكون كلامهم حجّة. والملجأ في كلّ شيء بحسبه، ففي التقليد يرجع إلى فتوى مثل الحارث، وفي أخذ الخبر يرجع إلى رواية مثله. والمقرّب الكيفيّ لهذه الرواية هو: أنّ رواتها كلّهم ثقات، وبعضهم(3) من الأجلّة.

وهاتان الروايتان هما خير ما يدعم الرواية الاُولى باعتبار سلسلة رواتها.

ومنها: ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة عن جماعة(4)، عن جعفر بن محمّد بن


(1) وهم كلّهم ما عدا محمّد بن قولويه الواقع في سند الكشّي، وهو ثقة ولكن لم نطّلع على كونه من الأجلّة الكبار.

(2) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 24، ص 105. وفي الوسائل،ج 27 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، ص 145، ورد: الحارث بن المغيرة النصريّ. وهو الصحيح، ولم يرد النضريّ في كتب الرجال.

(3) وهم كلّهم ما عدا محمّد بن قولويه كما ذكرنا بالنسبة للحديث السابق.

(4) الظاهر أنّ فيهم المفيد؛ لأنّ الشيخ يروي جميع كتب وروايات جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الزراريّ عن جماعة أحدهم المفيد(رحمه الله).

533

قولويه، وأبي طالب الزراريّ(1) وغيرهما، كلّهم عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب، قال: «سألت محمّد بن عثمان أن يوصل لي كتاباً سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّه، أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك» إلى أن قال: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»(2).

والإرجاع إلى الرواة في تلك الحوادث إمّا هو إرجاع إليهم باعتبار كونهم مخبرين عن الرواية المتعلّقة بالحادثة. وإمّا إرجاع إليهم باعتبار كونهم مستنبطين لحكم الحادثة من الرواية. وإمّا إرجاع إليهم باعتبار كونهم حكّاماً وولاة في مقام حلّ المشكلات التي نجمت عن تلك الحادثة، وتماميّة دلالة الرواية متوقّفة على أحد اُمور ثلاثة:

1 ـ استظهار الإرجاع بالمعنى الأوّل منها.

2 ـ تتميم إطلاقها للإرجاع بتمام أقسامه.

3 ـ دعوى الملازمة بين الأوّل، وبين ما فرضت دلالة الرواية عليه: من المعنى الثاني أو الثالث.

وهذا بحث مفصّل مرتبط بمسألة ولاية الحاكم الشرعيّ.

فإن أتممنا دلالة هذه الرواية بأحد هذه الوجوه الثلاثة تكون مؤيّدة للرواية الاُولى.

ولولا نقص واحد فيها لكانت أيضاً قطعيّة تقريباً أو تحقيقاً، فإنّه يرويها الشيخ في كتاب الغيبة عن جماعة، عن جماعة، عن الكلينيّ، ومن المستبعد جدّاً بحساب


(1) وهما من الثقات الأجلاّء.

(2) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 9، ص 101.

534

الاحتمالات تواطؤ كلّ من الجماعتين على الكذب خصوصاً أنّ هناك طريقاً آخر إلى الكلينيّ، وهو طريق الصدوق عن محمّد بن محمّد بن عصام الذي لم يثبت توثيقه عن الكلينيّ، فهذا يدعم الطريق الأوّل، فيكون صدور هذه الرواية من الكلينيّ مورداً للاطمئنان الشخصيّ. والكلينيّ يروي هذه الرواية عن الإمام(عليه السلام)بواسطة واحدة، وهذا يوجب قوّة هذه الرواية، إلّا أنّ نقطة الضعف فيها هي أنّ تلك الواسطة وهو إسحاق بن يعقوب لم يشهد بوثاقته. نعم، هو شخص حدّث الكلينيّ بورود توقيع إليه من صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، ولا أقلّ من أنّ الكلينيّ احتمل صدقه. ومن المعلوم أنّنا لو ضممنا هذا إلى ما نقلناه عن الشيخ الطوسيّ(قدس سره)(1): من أنّ التوقيعات من قبل صاحب الزمان(عليه السلام)كانت لا ترد إلّا إلى المتّقين الورعين لربما حصل الظنّ بأنّ إسحاق بن يعقوب صادق؛ إذ كان بنحو احتمل الكلينيّ ـ على الأقلّ ـ صدقه مع عدم ورود التوقيع إلّا إلى الممتازين، فلا يحتمل صدق ذلك في حقّ كلّ أحد، وهذه على أيّ حال أمارة ظنّيّة(2)، وهي تفيد


(1) قد مضى منّا التعليق على هذا الكلام.

(2) أفاد (رضوان الله عليه) في وقت آخر بعد ذلك عند ما أراد إثبات ولاية الفقيه: أنّ إسحاق بن يعقوب نقطع بوثاقته؛ لأنّ افتراء توقيع على الإمام في ظرف غيبة الإمام، وفي ظرف تكون للتوقيع قيمته الخاصّة بحيث لا يرد إلّا لثقات الخواصّ، وقدسيّته في النفوس، افتراء توقيع على الإمام في ظرف من هذا القبيل لا يحتمل صدوره عادةً إلّا من خبيث رذل. إذن فهذا الشخص أمره دائر بين أن يكون في منتهى درجات الوثاقة، أو أن يكون من الخبثاء والسفلة، ولا يحتمل عادةً كونه متوسّطاً بين الأمرين. ولو كان الثاني هو الواقع لما أمكن عادةً خفاء ذلك على الكلينيّ ـ مع ما هو عليه من ضبط ودقّة ـ بحيث يحتمل صدقه في نقل ورود التوقيع.

535

في حساب الاحتمالات وتأييد الرواية الاُولى. فإذا ضممنا إلى هذه المؤيّدات المؤيّد الآخر، وهو سائر الروايات الدالّة على حجّيّة خبر الثقة التي ليست فيها نكتة خاصّة، كانت دعوى الاطمئنان الشخصيّ في المقام دعوى واضحة، وتحصل لنا السنّة القطعيّة لا من الناحية العدديّة، بل من الناحية الكيفيّة.

ومنها: ما عن الكشّي، عن محمّد بن قولويه، عن سعد بن عبدالله، عن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن الوليد، عن عليّ بن المسيّب قال: «قلت للرضا(عليه السلام): شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلّ وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: من زكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا»(1). وظاهره أنّ أمانته هي ملاك الأخذ منه. وسند الحديث يشتمل على ستّ وسائط خمسة منهم ثقات(2).

ومنها: ما عن الكشّي، عن العيّاشي، عن محمّد بن نصير، عن محمّد بن عيسى، عن عبد العزيز بن المهتدي، والحسن بن عليّ بن يقطين جميعاً، عن الرضا(عليه السلام)


أقول: إنّ هذا الكلام تامّ حتّى مع عدم شهادة الشيخ في الغيبة باختصاص ورود التوقيع على ثقات كبار، فإنّ طبع الغيبة وتكتّم الإمام(عليه السلام) يقتضي هذا الاختصاص سواء ذكره الشيخ الطوسيّ في كتاب الغيبة أو لا.

وبهذا يتّضح أنّ احتمال الكذب في إسحاق بن يعقوب غير موجود، أو يطمأنّ بعدمه. واحتمال الخطأ منه خصوصاً في التوقيع الخطّي بعيد أيضاً.

فهذا الحديث يشبه الحديث الأوّل في القطعيّة أو الاطمئنانيّة.

وبهذا تمّت لنا أحاديث أربعة ذات امتيازات خاصّة تدلّ على حجّيّة خبر الواحد، واثنان منها يقربان من القطعيّ.

(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 27، ص 106.

(2) يقصد(رحمه الله) ما عدا أحمد بن الوليد.

536

قال(1): «قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم»(2). فكأنّ حجّيّة خبر الثقة كانت مفروغاً عنها، والسائل يسأل عن المصداق. وسند الحديث يشتمل على خمس وسائط ثلاثة منهم ثقات، والرابع ثقة تعبّداً(3)، والخامس(4) محتمل الانطباق على غير الثقة.

ومنها: ما عن غيبة الشيخ الطوسيّ قال أبو الحسين ابن تمام: «حدّثني عبدالله الكوفيّ خادم الشيخ الحسين بن روح ـ رضي الله عنه ـ قال: سئل الشيخ ـ يعنيأبا القاسم رضي الله عنه ـ عن كتب ابن أبي العزاقر بعد ما ذمّ وخرجت فيه اللعنة، فقيل له: فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء؟ فقال: أقول فيها ما قاله أبو محمّد الحسن بن عليّ ـ صلوات الله عليهما ـ وقد سئل عن كتب بني فضّال فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال صلوات الله عليه: خذوا بما رووا وذروا ما


(1) يعني عبد العزيز بن المهتدي.

(2) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 33، ص 107.

(3) يقصد به محمّد بن عيسى.

(4) يقصد به محمّد بن نصير. ولكن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) أثبت في معجم الرجال كون المقصود به الثقة، وذلك بقرينتين، ونحن نوافق على الاُولى منهما، فنقول: إنّ محمّد بن نصير الذي يروي عنه الكشّي مباشرة لا شكّ أنّه هو محمّد بن نصير الكشّي لا النميريّ، أمّا من يروي عنه الكشّي بواسطة العيّاشي فالظاهر أنّه هو أيضاً محمّد بن نصير الكشّي الذي يروي عنه الكشّي مباشرة، والقرينة التي تدلّ على ذلك ما ذكره الكشّي في أوائل كتابه في فضل الرواية والحديث، قال: «محمّد بن مسعود العيّاشي وأبو عمرو ابن عبد العزيز الكشّي قالا: حدّثنا محمّد بن نصير قال: حدّثنا محمّد بن عيسى...»، فإنّ هذا الكلام نصّ في أنّ مَن يروي عنه محمّد بن مسعود العيّاشي هو الذي يروي عنه الكشّي بنفسه.

537

رأوا»(1). ولا يعدّ هذا شهادة بصحّة كلّ ما في كتبهم: من روايات، فإنّ الشهادة بمثل ذلك في حقّ بني فضّال الذين آل أمرهم إلى الضلال يحتاج إلى إعمال الغيب، وأبو الحسين ابن تمام، وعبدالله الكوفيّ خادم الشيخ كلاهما مجهولان.

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة قال: «قلت: في رجلين اختار كلّ واحد منهما رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، فاختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم [ حديثنا ]؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما ...»(2). فإنّ الظاهر من ذلك أنّ مناط تقدّم حكم أحدهما هو تقدّم خبره على الآخر، وأنّ خبر أحدهما يتقدّم على الآخر بأقوائيّة مناط حجّيّة الخبر فيه بأعدليّته وأوثقيّته، والقدر المتيقّن من هذا الحديث هو حجّيّة خبر الثقة العدل.

ومنها: مرفوعة عوالي اللآلي إلى زرارة قال: «سألت الباقر(عليه السلام)فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران، أو الحديثان المتعارضان ...» إلى أن قال: «خذ بقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك ...»(3). فإنّه أيضاً ظاهر في ترجيح الخبر بأعدليّته وأوثقيّته، والقدر المتيقّن منه أيضاً حجّيّة خبر الثقة العدل.

ومنها: ما عن عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: «قال الصادق(عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه ...»(4).


(1) جامع أحاديث الشيعة، ب 5 المقدّمات، ح 36، ص 229. ومحلّ الشاهد منه ـ وهو كلام الإمام العسكريّ(عليه السلام) ـ وارد في الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي،ح 79، ص 72.

(2) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 75.

(3) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 185 وص 186.

(4) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 29، ص 84. والسند تامّ.

538

والظاهر منه هو الترجيح بالكتاب من باب كونه قطعيّاً لا من باب كونه معجزاً مثلاً. وبكلمة اُخرى: إنّ هذا ترجيح بعنوان تحكيم القطعيّ في الظنّيّ، ولو كان الخبران قطعيّين لما كان فرق بينهما وبين الكتاب حتّى يحكّم الكتاب فيهما، فلا يمكن حمل هذا الحديث على الخبرين القطعيّين، أي: أنّ الإشكال الذي أوردناه على الاستدلال بالطائفة الخامسة عشرة من الطوائف غير التامّة دلالة لا يرد هنا.

ومنها: ما عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يتّهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه؟! قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(1). فإنّ ظاهر هذا هو الفراغ عن حجّيّة خبر مَن لا يتّهم بالكذب؛ إذ الظاهر أنّ خبر مَن لا يتّهم بالكذب لو كان كالقياس لما سأله عن وجه المخالفة، ولكن بما أنّ خبر الثقة يكون في نظر هذا السائل حجّة وطريقاً إلى الواقع ممضى من قبل الشارع انتقل ذهن هذا الرجل إلى


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 4، ص 77. والسند تمام. وممّا يدلّ على حجّيّة خبر الثقة مرسلة الاحتجاج للطبرسيّ عن الحسن بن الجهم، عن الرضا(عليه السلام)قال: «قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزّ وجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا. قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، ولا نعلم أ يّهما الحقّ؟ قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأ يّهما أخذت»(1). ومرسلته أيضاً عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم(عليه السلام) فتردّ إليه»(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 40.

(2) المصدر السابق، ح 41.

539

هذا السؤال، والإمام(عليه السلام) قد أقرّه على تصوّره هذا.

ثمّ لو تنزّلنا عمّا ذكرنا حتّى الآن: من أنّ مفاد الحديث الأوّل، وهو حجّيّة خبر الثقة مقطوع الصدور عن الإمام أو مطمأنّ به ولو بمعونة باقي الروايات، فيثبت نفي احتمال الكذب واحتمال الخطأ عن خبر الثقة تعبّداً، فلا أقلّ من الجزم أو الاطمئنان بصدور التعبّد بنفي احتمال الخطأ عنه؛ لأنّ بعض الطوائف الماضية غير الدالّة على حجّيّة خبر الثقة قد عرفت دلالتها على نفي احتمال الخطأ تعبّداً، فتنضمّ تلك الروايات إلى هذه الروايات، ويحصل الجزم أو الاطمئنان بالقدر المشترك بينها، وهو نفي احتمال الخطأ، وبذلك يتمّ لنا التمسّك بالحديث الأوّل؛ لأنّنا لا نحتمل فيه الكذب، وإن كان هناك مجال لاحتمال ينافي الاطمئنان فإنّما هو احتمال الخطأ، وقد تعبّدنا بعدمه، فإذا صار الحديث الأوّل حجّة تمسّكنا به لإثبات التعبّد بنفي احتمال الكذب في خبر الثقة.

ولو تنزّلنا عن هذا الكلام أيضاً فما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ: من الاستدلال بالسيرة تامّ، ومن أوضح مصاديق ما ثبت حجّيّته بها هو هذا الحديث الأوّل، وعندئذ يفيدنا هذا الحديث في مقام توسعة حدود الحجّيّة إن وقع الشكّ فيها، فلو احتملنا ـ مثلاً ـ اختصاص السيرة بخبر الثقة المفيد للظنّ الشخصيّ، أو غير المظنون خلافه، أو نحو ذلك من التفصيلات، فهذا الحديث الذي هو جامع لكلّ ما يحتمل دخله في تماميّة السيرة يثبت لنا حجّيّة خبر الثقة على الإطلاق، ولا يُبقي مجالاً للشكّ في الحجّيّة من ناحية تلك التفصيلات.

 

540

 

دلالة الإجماع (أو السيرة) على حجّيّة الخبر

الثالث: الإجماع. وروح الإجماع في المقام بعد تصفيته يرجع إلى الاستدلال بالسيرة، والكلام في السيرة تارةً يكون بحسب مقام الثبوت والصور المتصوّرة للسيرة العقلائيّة كبرويّاً في أمثال المقام، وكيفيّة اقتناص الحجّيّة منها. واُخرى يكون بحسب مقام الإثبات، وأنّه هل انعقدت في زمن الأئمّة(عليهم السلام)سيرة على حجّيّة خبر الثقة سواء كانت نابعة من رأي المعصوم، أو كانت معتمدة على أساس السيرة العقلائيّة بأحد أوجهها الثبوتيّة، أو لا؟

 

السيرة بحسب مقام الثبوت:

أمّا المقام الأوّل: وهو مقام الثبوت، أعني: الصور المتصوّرة للسيرة العقلائيّة في مثل المقام، فقد مرّ تفصيل الكلام فيه فيما سبق، ونقتصر هنا على البيان الإجماليّ لذلك فنقول:

إنّ السيرة العقلائيّة في أمثال المقام تتصوّر بأنحاء ثلاثة:

الأوّل: حكم العقلاء بما لهم من عقل لا بما هم عقلاء بالحجّيّة، بمعنى إدراك العقل العمليّ لكفاية العمل بالظواهر أو بخبر الثقة ـ مثلاً ـ في مقام الإطاعة والامتثال. وهذا ما يظهر بالتدقيق في كلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، إلّا أنّه لمّا كان شيئاً بعيداً عن الأذهان علّق عليه المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(1) بأنّ هذا الحكم من قِبَل العقل إنّما يكون بعد مقدّمات الانسداد، بأن يثبت ـ مثلاً ـ أنّ الامتثال القطعيّ غير ممكن، وأنّ الاحتياط غير واجب، فيحكم العقل بحجّيّة خبر الثقة مثلاً.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 92.

541

أقول: إنّ المقصود من هذا الوجه ليس ما يرتبط بمقدّمات من قبيل مقدّمات الانسداد، وإنّما روح هذا الوجه وجوهره دعوى القصور الذاتيّ ابتداءً في دائرة حقّ المولويّة، وأنّ المولى من أوّل الأمر ليس له حقّ الطاعة في دائرة ما يخالف الظواهر وأخبار الثقات مثلاً.

الثاني: حكم العقلاء بالحجّيّة التعبّديّة الجعليّة، وهذا الحكم من قِبَلهم يكون بما هم موالي لا بما هم عقلاء، فإنّ العقلاء بما هم عقلاء ليس لهم جعل وتشريع، وإنّما يكون الجعل والتشريع لهم بما هم موالي. وروح هذا الوجه وجوهره هو: أنّ كلّ فرد من أفراد العقلاء تكون فيه دواع ودوافع لو تقمّص بقميص المولويّة لدفعته تلك الدوافع نحو جعل حجّيّة خبر الثقة أو الظواهر ـ مثلاً ـ لعبيده.

الثالث: جري العقلاء بما لهم من مصالح تكوينيّة وعلاقات وأغراض على العمل بخبر الثقة، فالتاجر يعتمد في تجارته على قول من هو ثقة بحسب عالم التجارة، والعامل يعتمد في عمله على قول من هو ثقة بحسب عمله، ومن ينتظر مجيء صديق له من السفر، ويقصد زيارته لدى الرجوع يعتمد على إخبار الثقة بمجيئه و ... ما إلى ذلك(1). هذه هي الصور المتصوّرة للسيرة العقلائيّة في المقام.

وأمّا ارتباطها بمسألة الحجّيّة واقتناصها منها فكالتالي:

أمّا الصورة الاُولى: فارتباطها بالحجّيّة في غاية الوضوح، فإنّ المفروض فيها قصر دائرة حقّ المولويّة ذاتاً فيما يستفاد من الظهور وخبر الثقة مثلاً، فيصبح لا محالة الظهور أو خبر الثقة حجّة ذاتاً على حدّ ذاتيّة حجّيّة القطع بفرق أنّ حجّيّة القطع تنجيزيّة فلا يمكن الردع عنها، وحجّيّتها معلّقة على عدم الردع فتنتهي


(1) وهناك صورة رابعة للسيرة العقلائيّة، وهي افتراض أنّ المولويّات المجعولة عقلائيّاً مجعولة في دائرة الظهور، أو خبر الثقة، ولا تمتدّ إلى ما يخالف الظهور أو خبر الثقة مثلاً.

542

بالردع؛ إذ ليس من المحتمل في المقام علميّاً صحّة دعوى أنّ حقّ المولى عبارة عن العمل بخبر الثقة ـ مثلاً ـ حتّى مع ردعه عنه.

وهذا الوجه في الحقيقة ليس تمسّكاً بالسيرة، وإنّما هو تمسّك بالعقل العمليّ.

هذا. وقد مضى في بحث السيرة أنّ الحجّيّة بهذا النحو لا تفي بتمام الآثار المترتّبة فقهيّاً على الحجّيّة المجعولة من قِبَل الشارع(1) فراجع.

وأمّا الصورة الثانية: فملاحظة حال كلّ واحد من العقلاء وإن كانت تكشف عن أمر مشترك بينهم من دوافع نفسيّة نحو جعل الحجّيّة لخبر الثقة ـ مثلاً ـ لو تقمّصوا قميص المولويّة، لكن يقال في المقام: إنّنا كيف نعرف أنّ الشارع أيضاً كباقي العقلاء، وصنع مثل ما يصنعه العقلاء لو تقمّصوا قميص المولويّة: من جعل الحجّيّة لخبر الثقة؟

ولإثبات ذلك وجوه:

الأوّل: الاستدلال بنفس الاستقراء والتجربة، ودعوى أنّنا جرّبنا واستقرأنا جملة من العقلاء فرأيناهم هكذا، فعرفنا أنّ جميع العقلاء بما فيهم الشارع هكذا.

وفيه: أنّه لا يمكن قياس الشارع بباقي العقلاء بعد إذ كانت أحكامه الإلهيّة غير مسانخة لأحكام باقي العقلاء. وجوهر السيرة بهذا المعنى يتقوّم بنكتتين: ارتكاز كشف خبر الثقة بدرجة مخصوصة عن الواقع في نظرهم، وعدم اهتمامهم بأغراضهم أزيد من تلك الدرجة، ولا سبيل لنا إلى فهم درجة أهمّـيّة أغراض الشارع ومساواتها مع اهتمام باقي العقلاء بأغراضهم.

الثاني: الاستدلال بالإطلاق المقاميّ، وذلك أنّه إذا ثبت أنّ المولى كان في مقام بيان الحجج والأمارات الكاشفة عن مقاصده، وأنّه لم يذكر شيئاً، فنقول عندئذ: إنّه إن كانت الحجّة عنده شيئاً آخر غير ما عليه سيرة العقلاء ومع ذلك


(1) ومضى منّا التعليق على ذلك.