354

تفصيلي واُخرى يلحظ بلحاظ إجمالي، وذلك يشبه اختلاف الرؤية بالإجمال والتفصيل، فقد يرى الإنسان الحديقة برؤية الوحدة والإجمال، وقد يراها برؤية التفصيل وتعدّد الأشياء المتكثّرة من الأوراد والأشجار والأغصان وغيرها.

والخلاصة: أنّ الاختلاف هنا اختلاف لحاظي، لا اختلاف في الملحوظ، ولذا قالوا: إنّ الجنس والفصل أجزاء للحدود، دون المحدود. هذا ما ذهبوا إليه في المقام.

وعليه نقول: إنّ الجنس والنوع إذا لاحظناهما بما لهما من حدّ الكمون والتفصيل كانا متباينين، لا أقلّ وأكثر، فالإنسان بما أنـّه يكمن فيه الحيوان يباين الحيوان الملحوظ بالتفصيل لا بالكمون، لكنّ هذا الحدّ الإجمالي والتفصيلي ليس هو الذي يدخل في العهدة، وإنّما الذي يدخل في العهدة هو ذات المحدود والملحوظ، والنسبة بينهما بما هما ذات المحدود والملحوظ هي نسبة الأقلّ والأكثر، فتأتّي تلك الماهيّة التي هي بالقوّة ـ أعني الحيوان ـ في العهدة قطعيّ، وتأتّي مقدار زائد عليه فيها ـ وهو الفصل ـ مشكوك.

 

التعيين والتخيير الشرعي

المقام الثاني: في دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي، وبما أنّ الحال يختلف فيه باختلاف المباني في باب التخيير الشرعي، فلذا نتكلّم فيه على كلّ واحد من المباني المهمّة في باب التخيير الشرعي وهي ما يلي:

المبنى الأوّل في باب التخيير الشرعي هو: القول بأنّه عبارة عن عدّة وجوبات مشروطة، فكلّ عِدْل منها واجبٌ بشرط ترك الباقي، وعليه فمعنى الشكّ في كون العتق مثلاً واجباً تعيينياً أو تخييرياً: هو أنـّه هل يكون وجوبه مطلقاً أو مشروطاً بفرض عدم الصوم والإطعام؟، وهذا يعني أنّنا نعلم تفصيلاً بوجوب العتق في حالة عدم الصوم والإطعام، ونشكّ في وجوبه في حالة الصوم أوالإطعام، فنجري البراءة عن وجوبه في تلك الحالة، وبكلمة اُخرى: أنّنا نجري البراءة عن إطلاق الوجوب.

ولا يقاس إطلاق الوجوب بإطلاق الواجب، فإنّ إطلاق الواجب لم يكن تكليفاً زائداً بخلاف إطلاق الوجوب، والوجوب المشروط مع الوجوب المطلق وإن كانا بحدّهما المشروطي والإطلاقي متباينين، لكنّ الذي يدخل في العهدة هو المحدود لا الحدّ، وذات الوجوبين تكون النسبة بينهما نسبة الأقلّ والأكثر، نظير ما

355

مرّ من أنّ الواجب المطلق والواجب المقيّد متباينان بحدّهما الإطلاقي والتقييدي، لكنّ العبرة بذات المحدود، وهو مردّد بين الأقلّ والأكثر، فالعلم الإجمالي على هذا المبنى منحلّ حقيقة.

إلّا أنـّه ناقش في هذا الانحلال المحقّق النائيني(رحمه الله)(1)؛ لأنّه فرض مشروطيّة هذه الوجوبات في مرحلة البقاء دون الحدوث، وأنّ كلّ عِدْل من الوجوبات التخييرية واجب ما لم يأتِ بالآخر، فذكر في المقام: أنـّه لو صام مثلاً فقد شكّ في سقوط وجوب العتق عنه، لا في أصل حدوثه، والبراءة إنّما تجري في الشكّ في أصل حدوث التكليف، وأمـّا مرحلة السقوط فهي مرحلة الاشتغال لا البراءة.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّنا لا نساعد على أن يفرض جزميّاً كون الاشتراط في مرحلة البقاء، بل لا أقلّ من احتمال كونه في مرحلة الحدوث، فمن صام مثلاً كشف ذلك عن عدم وجوب العتق عليه من أوّل الأمر، ولو بنحو الشرط المتأخّر.

وثانياً: هبّ أنّنا سلّمنا أنّ الاشتراط يكون في مرحلة البقاء، فيقع الشكّ في سقوط التكليف وبقائه، لا في حدوثه وعدم حدوثه، لكنّنا لا نسلّم اختصاص دليل البراءة بالشكّ في الحدوث دون الشكّ في البقاء، بل مهما كان الشكّ في أصل التكليف سواء كان بلحاظ حدوثه أو بلحاظ انبساطه بقاءً تجري البراءة، بغضّ النظر عن فرض تقدّم استصحاب بقاء التكليف على البراءة؛ وذلك لإطلاق دليلها وعدم مبرّر لتخصيصها بالقسم الأوّل، وأنـّما نقول في الشكّ في الامتثال بعدم جريان البراءة؛ لأنّ الشكّ في الحقيقة لا يكون في فعليّة التكليف، بل في فاعليّته كما مرّ بيانه.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ العلم الإجمالي بالأمر التعييني أو الأمر التخييري بناءً على رجوعه إلى أوامر مشروطة منحلّ انحلالاً حقيقيّاً.

إلّا أنّ هذا الانحلال إنّما هو بلحاظ العلم الإجمالي الواضح في المقام. ولكنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) أبدى في المقام علماً إجماليّاً آخر(2)، وبلحاظه لا يتمّ هذا الانحلال الحقيقي، وهذا العلم الإجمالي نؤجّل بيانه إلى ذيل المبنى الرابع من


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 156، وأجود التقريرات: ج 2، ص 215.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 289.

356

المباني في الوجوب التخييري الذي هو مختار المحقّق العراقي (رحمه الله)، فإنّ هذا العلم الإجمالي مشترك الورود بين المبنيين، ونشير هنا إلى أنـّه إذا امتنع الانحلال الحقيقي في المقام رجعنا إلى الانحلال الحكمي، بناءً على قوانين الاقتضاء، وكون تساقط الاُصول بملاك التعارض.

المبنى الثاني: ما اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) في بعض أقسام الواجب التخييري وهو: أن يفرض ـ أيضاً ـ إرجاعه إلى وجوبات مشروطة بعدد الأطراف، كما في المبنى الأوّل بفرق أنـّه في المبنى الأوّل لم يكن إطلاق لا للخطاب ولا للملاك، ولكن في هذا المبنى يفرض ثبوت الملاك في كلٍّ من العِدْلين مطلقاً، ولكن المولى لم يأمر بالإتيان بكلا العِدْلين جمعاً؛ لتزاحم في باب الأغراض، إمـّا من باب أنّ الملاكين متنافيان في مقام التحصيل خارجاً، أو من باب أنّ إيجابهما جمعاً مناف لمصلحة التسهيل(1).

وعلى هذا المبنى لابدّ من الاحتياط؛ للعلم بالملاك الملزِم؛ وتمحّض الشكّ في القدرة على التحصيل، أو الترخيص في المخالفة لمصلحة التسهيل، ومثل هذا الشكّ ليس مؤمِناً(2).

المبنى الثالث: ما اختاره السيّد الاُستاذ (3) ويتراءى من كلمات المحقّق النائيني (رحمه الله)(4) ـ على تشويش واضطراب في كلماته ـ وهو إرجاع التخيير الشرعي


(1) راجع الكفاية: ج2، ص 226 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(2) لا يبعد القول بأنّ احتمال عدم مطلوبيّة تحصيل الملاك لتزاحمه بمصلحة التسهيل كاف في إجراء البراءة الشرعيّة، بل لعلّه كاف في إجراء البراءة العقليّة أيضاً، وإلّا للزم عدم إجرائها حينما تكون مطلوبيّة شيء مقطوعاً بها مع التردّد بين الوجوب والاستحباب، فإنّ مجرّد كون الشيء ذا ملاك مطلوب محرّك للمولى لإبرازه كاف في إيجابه لولا التسهيل، مهما فرض الملاك خفيفاً؛ إذ لا داعي لتفويته لو لم يكن مزاحماً بمصلحة إحساس المكلّف بالحرّية والتسهيل.

(3) راجع المحاضرات: ج 4، ص 40. وراجع ـ أيضاً ـ مصباح الاُصول: ج 2، ص 454، وأيضاً الدراسات: ج 3، ص 284.

(4) لا يخفى أنّ صريح كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) ينفيه، راجع أجود التقريرات: ج 1،

357

إلى التخيير العقلي، بأن يقال: إنّ الواجب عنوان انتزاعي، وهو عنوان أحدهما. وأجرى السيّد الاُستاذ هنا نفس الانحلال الثابت في دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي، أو بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الأجزاء، أو الشرائط، وهو يقول: إنّ ذلك انحلال حكمي، لكنّنا قلنا: إنّه انحلال حقيقي.

فهو يقول هنا بالانحلال بدعوى أنّ وجوب أحدهما معلوم تفصيلاً على كلّ تقدير، ووجوب تخصيص أحدهما بخصوصيّة العتق مثلاً مشكوك تجري عنه البراءة، نظير ما يقال في دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي: من أنّ وجوب إطعام الحيوان مثلاً معلوم، ووجوب خصوصيّة إطعام الإنسان غير معلوم، فتجري عنه البراءة(1).

ولكنّ هذا منه خلط بين عنوان أحدهما وواقع أحدهما.

فإن فرض أنّ ما هو المعلوم تفصيلاً وجوبه على كلّ تقدير، والذي أوجب انحلال العلم الإجمالي هو عنوان أحدهما الانتزاعي. قلنا: إنّه إنّما يكون عنوان أحدهما معلوم الوجوب على أحد التقديرين: وهو تقدير الوجوب التخييري، وأمـّا على التقدير الآخر فالواجب هو ذات العتق، لا عنوان أحدهما الانتزاعي.

وإن فرض أنّ ما هو المعلوم تفصيلاً وجوبه على كلّ تقدير هو واقع أحدهما، وهو ذات العتق، فمن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ هذا الواقع ليس هو معلوم الوجوب على كلّ تقدير، بل على أحد التقديرين، وهو كون الوجوب تعيينيّاً، أمـّا على تقدير التخيير فالواجب هو عنوان أحدهما الانتزاعي، فتخيّل وجود شيء واحد معلوم الوجوب على كلّ تقدير به ينحلّ العلم الإجمالي خلط بين واقع أحدهما وعنوان أحدهما؛ لأنّ الأوّل هو المعلوم على أحد التقديرين، والثاني هو المعلوم على


ص 184، وفوائد الاُصول: ج 1، ص 32، ولعلّ مراد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من أنـّه يتراءى ذلك من كلمات المحقّق النائيني على تشويش واضطراب في كلامه هو أنّ ما اختاره المحقّق النائيني من أنّ حقيقة الوجوب التخييري هي تعلّق الأمر بكل واحد من الشيئين أو الأشياء على وجه البدليّة، كما ورد في فوائد الاُصول، ج 1، ص 235، أو أنّ حقيقته هي تعلّق التكليف بواقع أحدهما، كما ورد في أجود التقريرات، ج 1، ص 184، لا يتصوّر له معنىً معقول إن لم يرجع ـ ولو ارتكازاً ـ إلى الأمر بالجامع الانتزاعي.

(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 454، والدراسات: ج 3، ص 284.

358

التقدير الآخر، ولا يقاس ذلك بمسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي، فإنّ الجامع هناك جامع حقيقي، فيكون تحت الوجوب حتّى على تقدير تعلّق الوجوب بإحدى الحصّتين؛ لانطواء تلك الحصّة في ذاتها على ذلك الجامع، وأمـّا العنوان الانتزاعي فلا يسري إليه الوجوب من الوجوب المتعلّق بمنشأ الانتزاع.

نعم، لو اُنكرت الجوامع الحقيقيّة رأساً، وقيل: إنّ مثل كلمة الحيوان وغيرها من الكلّيّات ليست إلّا مجرّد رمز، لا جامعاً حقيقيّاً بين عدّة أشياء، أصبح حال دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي هو حال دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي، فهناك أيضاً يبطل هذا الانحلال.

وعلى أيّة حال، ففرض رجوع الوجوب التخييري إلى وجوب الجامع الانتزاعي لا يساعد على الانحلال الحقيقي.

نعم، هنا شيء: وهو أنّ الأمرين المتباينين اللذين نعلم بدخول أحدهما في العهدة، وهما واقع أحدهما ـ أعني العتق ـ والعنوان الانتزاعي، ـ أعني عنوان أحدهما ـ يكون بينهما في حصول الامتثال عموم مطلق، فالإتيان بواقع أحدهما ـ أعني العتق ـ يساوق الإتيان بعنوان أحدهما، دون العكس.

وهنا ينفتح علينا باب العلوم الإجماليّة التي تكون من هذا القبيل، أي يكون امتثال أحدهما غير منفكّ عن امتثال الآخر، بخلاف العكس، من دون وجود قدر متيقّن في الوجوب موجب لانحلال العلم الإجمالي حقيقة، ويمكن أن تذكر لذلك عدّة أمثلة من قبيل:

1 ـ ما لو دار الأمر بين وجوب شيء ووجوب عنوان ينتزع منه ومن غيره، كالقيام والتعظيم حينما يعلم إجمالاً: إمّا بوجوب ذات القيام الذي ينتزع منه التعظيم، أو وجوب التعظيم المنتزع من القيام ومن غير القيام أيضاً.

2 ـ ما لو دار الأمر بين أحد عنوانين انتزاعيين يكون أحدهما أخصّ من الآخر في مقام الانتزاع، كما لو علم إجمالاً بوجوب إظهار القراءة بالجهر المنتزع، ووجوب إسماعها، بمعنى أنـّه لو كان عنده أحد لسمعه، فإنّ الأوّل لا ينفكّ عن الثاني لكنّ الثاني ينفكّ عن الأوّل؛ إذ يمكن الإسماع مع الإخفات.

3 ـ ما لو دار الأمر بين وجوب المعلول ووجوب أحد أجزاء علّته، فالأوّل لا ينفكّ عن الثاني دون العكس، كما لو علم إجمالاً بوجوب وضع السلّم أو الكون على السطح.

359

4 ـ ما لو دار الأمر بين وجوب شيء يلازم شيئاً آخر دون العكس ووجوب ذاك اللازم، كما لو علم إجمالاً بوجوب إكرام الخادم أو المخدوم، وفرضنا أنـّه يحصل بإكرام الخادم إكرام المخدوم ـ أيضاً ـ دون العكس.

وكل علم إجمالي يكون من هذا القبيل لا يكون منحلاًّ انحلالاً حقيقيّاً؛ لأنّه بلحاظ ما في العهدة يكون الأمر دائراً بين المتباينين. نعم، بلحاظ ما لابدّ تكويناً من الإتيان به لو أراد حصول الامتثال يكون الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ أحدهما لا ينفكّ امتثاله عن الآخر بخلاف العكس، لكنّ هذا انحلال بلحاظ اللابدّيّة التكوينيّة، لا بلحاظ اللابدّيّة الشرعيّة وما يدخل في العهدة شرعاً.

وهنا يجب أن ننتقل من الانحلال الحقيقي إلى البحث عن الانحلال الحكمي، لنرى هل يوجد في المقام انحلال حكمي أو لا؟

والتحقيق: أنـّه إن فرضنا أنّ العلم الإجمالي ينجّز الواقع بمرتبة الموافقة القطعيّة تنجيزاً علّيّاً فلا معنى هنا للانحلال الحكمي، ولابدّ من الاحتياط باختيار العتق؛ لأنّ كلاّ من عنوان العتق وعنوان أحدهما يحتمل أن يكون هو الواقع الذي هو منجّز حسب الفرض.

وإن فرض أنّ العلم الإجمالي إنّما ينجّز الجامع، أو ينجّز الواقع بمقدار الجامع، أو أنّ تنجيزه للواقع بمرتبة الموافقة القطعيّة ليس بنحو العلّيّة، وأنّ تنجيزه بهذه المرتبة نتيجة لتعارض الاُصول في الأطراف، ففيما نحن فيه يتّجه الانحلال الحكمي بجريان البراءة عن وجوب العتق، ولا تعارض بالبراءة عن وجوب أحدهما؛ لأنّ البراءة عن وجوب أحدهما غير جارية بقطع النظر عن المعارضة، فإنّ الهدف من إجراء البراءة هو التأمين عن العقاب، ففي أيّ حال يفترض تأمين هذه البراءة عن العقاب؟ هل في حال الإتيان بأحدهما، أو في حال عدم الإتيان بذلك؟! طبعاً ينبغي أن يطلب منها التأمين في الحال الثاني؛ إذ الحال الأوّل هو حال امتثال عنوان أحدهما، ولا معنى للتأمين عن عقابه في حال امتثاله، وإنّما المقصود من إجراء البراءة هو إثبات عدم استحقاق العقاب لو خالف، ومن المعلوم أنّ الحال الثاني ـ وهو حال ترك عنوان أحدهما ـ مساوق لحال المخالفة القطعيّة للواجب، وترك الجامع رأساً، وثبوت العقاب في هذا التقرير قطعيّ، وليس في هذا الحال عقاب ثان تفرض البراءة مؤمّنة عنه.

وإذا كان المختار في باب العلم الإجمالي التفصيل بين البراءة العقليّة والبراءة

360

الشرعيّة، بأنّ البراءة العقليّة لا تجري بقطع النظر عن المعارضة. وأمـّا البراءة الشرعيّة فهي تجري لولا المعارضة اتّجه هذا التفصيل هنا، فالبراءة العقليّة لا تجري، والبراءة الشرعيّة عن العتق تجري لما عرفت من عدم ابتلائها بالمعارض، وهذا هو مختارنا. نعم، لابدّ من التفتيش عن دليل يشمل في نفسه فرض العلم الإجمالي كالاستصحاب.

هذا. وقد يقال في المقام: إنّ ثبوت العلم الإجمالي من دون انحلال حقيقي بلحاظ ما في العهدة، وإن كان تامّاً في مثل دوران الأمر بين وجوب القيام ووجوب التعظيم المنتزع من القيام وغيره؛ لدوران أمر ما علمنا إجمالاً دخوله في العهدة بين المتباينين، وهما القيام و التعظيم، ولكن في مثل ما نحن فيه ـ وهو دوران الأمر بين عنوان أحدهما وواحد معيّن منهما، وهو العتق مثلاً ـ لا يتمّ ذلك.

والفرق بين الموردين: هو أنـّه فيما نحن فيه لا يتشكّل علم إجمالي بلحاظ ما في العهدة؛ لأنّنا وإن كنّا نعلم إجمالاً بوجوب العتق، أو وجوب أحدهما مثلاً المنتزع منه ومن الصوم مثلاً، لكنّ الذي يمكن أن يدخل في العهدة إنّما هو العتق، وأمـّا عنوان أحدهما فلا يمكن أن يدخل في العهدة؛ إذ هو عنوان يخاط في معمل النفس بوهمها وخيالها ليُلبسه على ما في الخارج، وليس له ما بإزاء في الخارج واقعاً، فليس هذا حاله حال العناوين الانتزاعيّة التي تنتزع باعتبار مالها بإزاء في الخارج، فالتعظيم المنتزع من القيام يكون بلحاظ شيء ثابت مع القيام لولاه لما انتزع ذلك من القيام، فتكوّن العلم الإجمالي بلحاظ ما في العهدة بين أمرين متباينين وهما التعظيم والقيام معقول بخلاف الحال فيما نحن فيه.

والجواب: أنّ عنوان أحدهما وإن كان عنواناً تخيطه النفس لكنّه ليس مجرّد أمر وهمي من قبيل أنياب أغوال، بل هو شيء تصنعه النفس في معملها الخاصّ لتُري به درجة من التغيّر الواقع في العالم الخارجي، فحينما نعرف أنـّه دخل أحد الشخصين في الدار فهذا في الحقيقة يكشف عن نوع تغيّر واقع في العالم الخارجي، وهو عدم انضمام عدم هذا الشخص في الدار إلى عدم انضمام ذاك الشخص فيها، إذن يكون له نحو ما بإزاء في الخارج وبلحاظه يدخل في العهدة.

المبنى الرابع: ما اختاره المحقّق العراقي (رحمه الله) من إرجاع الوجوب التخييري إلى عدّة وجوبات بعدد الأعدال كما هو الحال على المبنى الأوّل، مع فرض ضيق في جانب الوجوبات كما هو الحال أيضاً على المبنى الأوّل، إلّا أنّ الفرق بينه وبين

361

المبنى الأوّل هو أنـّه كان يتصوّر الضيق في المبنى الأوّل في نفس الوجوبات، فكانت الوجوبات تفرض بخطاباتها وملاكاتها مشروطة بترك الآخر، وأمـّا على هذا المبنى فالوجوب مطلق وإنّما الضيق يكون في المتعلّق، فيكون الواجب بعض مراتب الوجود، وبما أنـّه في جانب الوجود لا تتصوّر مراتب بل الشيء إمـّا موجود أو معدوم، فصاحب هذا الوجه يُرجع ارتكازاً متعلّق الوجوب إلى سدّ أبواب العدم، فالواجب التعييني هو ما وجب سدّ جميع أبواب عدمه، وأمـّا الواجب التخييري فهو ما وجب سدّ بعض أبواب عدمه، فصلاة الظهر يوم الخميس مثلاً يجب سدّ تمام أبواب عدمها، ولكنّ صلاة الظهر في يوم الجمعة بناءً على التخيير بينها وبين صلاة الجمعة يجب سدّ باب عدمه المقارن لعدم صلاة الجمعة، ولا يجب سدّ باب عدمه المقارن لوجود صلاة الجمعة(1).

وبناءً على هذا المبنى نقول بالانحلال الحقيقي، كما قلنا به على المبنى الأوّل؛ لأنّ روح المبنيين في الحقيقة شيء واحد، ففي المبنى الأوّل قلنا بالانحلال الحقيقي بتقريب: أنّ وجوب العتق في فرض الإتيان بالصوم غير معلوم فينفى بالبراءة ويقتصر على القدر المتيقّن من الوجوب، وهو وجوبه في فرض عدم الإتيان بالصوم، وهنا نقول: إنّ وجوب سدّ باب عدم العتق المقارن لعدم الصوم معلوم، ولكنّ وجوب سدّ باب عدمه المقارن لوجود الصوم غير معلوم فينفى بالبراءة، غاية الأمر أنّ الشكّ هناك كان في وجوب زائد، وهنا يكون في واجب زائد.

إلّا أنّ هذا الانحلال الحقيقي الذي ذكرناه هنا وهناك إنّما هو بقطع النظر عمّا أبداه المحقّق العراقي (رحمه الله)(2) من علم إجمالي في المقام مشترك الورود بين المبنيين، وتقريبه بلغة المبنى الأوّل هو أن يقال: إنّه إذا دار الأمر بين وجوب العتق تعييناً، أو التخيير بينه وبين الصوم فقد علمنا بأنّه إمّا أنّ العتق واجب حتّى على تقدير الصوم، أو أنـّه لا يجوز ضمّ ترك الصوم إلى ترك العتق، فإنّ العتق لو كان واجباً تعيينيّاً فهو واجب حتّى على تقدير الصوم، لكن لا يحرم ضمّ ترك الصوم إلى ترك العتق، وإنّما


(1) راجع نهاية الأفكار: ج 1، ص 391 - 392 بحسب طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، وراجع ـ أيضاً ـ نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص288.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 289.

362

هو ضمّ لترك المباح إلى ترك الواجب، والمحذور إنّما هو في ترك الواجب، ولو كان واجباً تخييريّاً فهو ليس واجباً على تقدير الصوم، ولكن يحرم ـ عندئذ ـ ضمّ ترك الصوم إلى ترك العتق. وشبيه بهذا التقريب يأتي ـ أيضاً ـ على المبنى الرابع(1).

وهذا البيان لتسجيل الاشتغال متين بناءً على قوانين العلّيّة وكون الاُصول ساقطة بقطع النظر عن المعارضة، فإنّ العلم الإجمالي بوجوب العتق تعييناً وإطلاقاً، أو وجوبه في حالة عدم الصوم وإن كان منحلاًّ حقيقة كما عرفت إلّا أنّ هذا العلم الإجمالي الذي أبداه المحقّق العراقي(رحمه الله) غير منحل.

وأمـّا بناءً على كون تساقطها بالتعارض، فهذا البيان وإن كان تامّاً بمقدار منع الانحلال الحقيقي، لكنّنا ـ عندئذ ـ نتنزّل إلى ما مضى من تقريب الانحلال الحكمي، ونجري البراءة عن وجوب العتق عند فرض الصوم، ولا تُعارَض بالبراءة عن حرمة ضمّ ترك الصوم إلى ترك العتق، فإنّ هذه البراءة لا تفيدنا تأميناً عن العقاب، لا عن عقاب واحد؛ لأنّ هذا العقاب مسلّم للزوم المخالفة القطعيّة وترك الجامع، ولاعن عقاب ثان؛ لأنّه لم يقل أحد ولا من الصحيح أن يقال بتعدّد العقاب في الوجوب التخييري لدى ترك كل الأعدال.

نعم، لو قيل بتعدّد العقاب في الوجوب التخييري لدى المخالفة وقعت المعارضة بين البراءتين ولم يصحّ التمسّك بالانحلال الحكمي بهذا التقريب.

وهنا تقريب آخر للانحلال الحكمي لو تمّ يأتي حتّى لو التزمنا بتعدّد العقاب في مخالفة الوجوب التخييري بعدد الأطراف: وهو أنّ العلم الإجمالي بوجوب العتق في حالة الصوم، أو حرمة ضمّ ترك الصوم إلى ترك العتق لا يمكن مخالفته القطعية؛ لأنّ مخالفة الطرف الأوّل إنّما تكون لدى الصوم وترك العتق، وفي هذا الفرض لا يتحقّق ضمّ ترك الصوم إلى ترك العتق الذي هو مخالفة للطرف الثاني، فبناءً على بعض المباني الماضية في بحث العلم الإجمالي المردّد بين المتباينين من أنـّه إذا لم يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعية جرى الأصل في كلا الطرفين بلا معارضة، لا مانع هنا من إجراء الأصلين.


(1) بأن يقال حسب لغة المبنى الرابع: إنّنا نعلم إجمالاً إمّا بوجوب سدّ جميع أبواب عدم العتق بما فيها الباب المقارن لوجود الصوم، أو وجوب سدّ باب عدم الصوم المقارن لعدم وجود العتق.

363

إلّا أنـّه مضى منّا في ذلك البحث بطلان هذا المبنى(1) فالعمدة هو الوجه الأوّل للانحلال الحكمي.

هذا تمام الكلام في أصل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بأبوابه الثلاثة، أعني: الدوران بلحاظ الأجزاء، وبلحاظ الشرائط، والدوران بين التعيين والتخيير. وما تبقّى في المقام من بعض الأبحاث نذكره تحت عنوان التنبيهات .

 


(1) لعلّه (رحمه الله) يشير إلى أنّ افتراض كون العجز عن المخالفة القطعية موجباً لجريان الاُصول إمـّا ينشأ من دعوى أنّ قبح شيء فرع القدرة عليه، فالمخالفة القطعية لدى عدم القدرة عليها ليست قبيحة، فيجوز الترخيص فيها. وهذا قد مضى الجواب عنه في أوائل البحث عن الشبهة غير المحصورة وهو: أنّ القدرة ليست مقوّمة للقبح العقلي كما مضى ـ أيضاً ـ في أصل مبحث منجّزيّة العلم الإجمالي أنّ إبطاله للاُصول الشرعيّة ليس على أساس محذور ثبوتي وهو قبح الترخيص، بل على أساس محذور إثباتي، وإمـّا ينشأ من دعوى أنّ إجراء الاُصول في الأطراف لدى العجز عن المخالفة القطعيّة لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الترخيص فيها إنّما يتصوّر على تقدير القدرة عليها، وهذا إن سُلّم فمرجعه إلى بطلان إطلاق كل من الأصلين لفرض ارتكاب الطرف الآخر للعجز عن ارتكابه على تقدير ارتكاب الطرف الآخر، وهذا يعني أنّ كلاً من الأصلين قيّد بعدم ارتكاب الآخر. وقد مضى إبطال تقييد كل من الأصلين بعدم ارتكاب الآخر لدى البحث عن شبهة التخيير التي أثارها المحقّق العراقي (رحمه الله)على القول بالاقتضاء.

364

 

 

 

تنبيهات

 

دعوى التمسّك بالاستصحاب

التنبيه الأوّل: أنّ كلاً من القائل بلزوم الاحتياط في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين، والقائل بعدم لزوم الاحتياط فيه تمسّك في المقام بالاستصحاب.

فذكر القائل بلزوم الاحتياط: أنـّه مع دوران الأمر بين وجوب الأجزاء التسعة أو العشرة مثلاً قد علمنا بوجوب التسعة وجوباً مردّداً بين كونه وجوباً للتسعة بحدّها الإطلاقي، أو وجوباً لها بحدّها التقييدي وبعد الإتيان بالتسعة دون العشرة نقول: إنّ الوجوب على تقديره الأوّل قد سقط، وعلى تقديره الثاني لا زال باقياً، فالأمر دائر بين الفرد الطويل والفرد القصير الذي هو مجرى القسم الثاني من استصحاب الكلي، فيجري استصحاب جامع الوجوب.

وأورد على ذلك السيد الاُستاذ بما يرجع إلى تعبيرين أحدهما غير الآخر وإن وقع الخلط بينهما(1):

التعبير الأوّل: أنّ أصالة عدم الفرد الطويل هنا حاكمة على استصحاب بقاء الكلي، وإنّما نرجع في موارد اُخرى إلى استصحاب بقاء الكلي؛ لسقوط الأصل النافي للفرد الطويل بالتعارض مع الأصل النافي للفرد القصير، من قبيل لو كان متطهّراً فأحدث حدثاً تردّد أمره بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر ثمّ توضّأ، فالأصل النافي للحدث الأكبر يسقط بالتعارض مع الأصل النافي للحدث الأصغر، فنرجع إلى استصحاب بقاء الحدث، أمـّا فيما نحن فيه فأصالة عدم وجوب الأكثر غير معارضة حسب الفرض بأصالة عدم وجوب الأقلّ بلا قيد، أو قل: إنّ أصالة عدم وجوب التسعة بحدّها التقييدي غير معارضة بأصالة عدم وجوبها بحدّها الإطلاقي.


(1) هذا الخلط وقع في الدراسات. راجع ج 3، ص 280. أمـّا في المصباح فقد ميّز أحد الوجهين من الآخر. راجع ج 2، ص 443 - 444.

365

وهذا الكلام لا ينسجم حتّى على مباني السيد الاُستاذ، فإنّه لو كان بقاء الكلّي مسبّباً عن حدوث الفرد الطويل، فليس هو مسبّباً شرعيّاً عنه، بل هو مسبّب عقلي، فلا مورد للحكومة المذكورة في المقام(1).

التعبير الثاني: أنّنا نثبت بالتركيب بين الوجدان والأصل أنّ الجامع الموجود إنّما هو موجود ضمن الفرد القصير؛ وذلك للعلم وجداناً بأصل الوجوب ونفي التقييد بالأصل.

وهذا الكلام لا ينسجم حتّى مع طرز تفكيره هو؛ إذ مضى فيما سبق(2) أنّ المحقّق النائيني (قدس سره) كان يثبت الإطلاق بنفي التقييد بالأصل، والسيّد الاُستاذ كان يورد عليه بأنّ الإطلاق أمر وجودي في قبال التقييد، فلا يثبت بالأصل النافي للتقييد، فكيف صار هنا يُثبت الإطلاق بنفي التقييد بالأصل؟!

ثمّ لو سلّم ثبوت الإطلاق بنفي التقييد فإنّما يثبت وجود الفرد القصير ولا يثبت أنّ الجامع الموجود يكون في ضمن القصير فإنّ هذا لازم عقليّ لذلك.

هذا. ونظّر السيّد الاُستاذ(3) ما نحن فيه بما إذا كان الشخص محدثاً بالحدث الأصغر ثمّ صدر منه حدث مردّد بين الأصغر والأكبر، فهنا لا يشكّ فقيه في أنـّه ليس عليه إلّا الوضوء، ولا يتمسّك بعد الوضوء باستصحاب الكلّي مع أنـّه كان يعلم إجمالاً بالفرد الطويل أو القصير، وما نحن فيه من هذا القبيل.

والتحقيق: أنّ خصوص هذا المثال توجد فيه نكتة توجب جواز الاكتفاء بالوضوء: وهي أنّ لسان الدليل الشرعي كقوله تعالى ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...﴾(4) ـ المفسّر بالقيام من النوم ـ، قد رتّب الحكم بالطهارة وارتفاع الحدث على توضّوء المحدث بالحدث الأصغر. والنوم المستبطن في قوله: (إذا قمتم) إنّما هو من باب المثاليّة وكلّ من أصبح محدثاً بالحدث الأصغر يبقى محكوماً


(1) جاء في المصباح في مقام بيان هذا الوجه: أنّ استصحاب عدم الفرد الطويل إمـّا حاكم على استصحاب الكلّي أو معارض له، فالاستصحاب الكلّي ساقط على كل حال إمـّا للمعارضة أو لكونه محكوماً.

(2) ص 340 من هذا الكتاب.

(3) راجع الدراسات: ج 3، ص 280، والمصباح: ج 2، ص 444.

(4) سورة 5، المائدة، الآية 6.

366

بالحدث الأصغر ما لم يحدث منه ما يوجب التحوّل إلى الحدث الأكبر، فعندئذ يصبح موضوعاً لقوله تعالى: ﴿وإن كنتم جُنباً فاطّهّروا﴾(1)، فإذا خرج من المحدث بالحدث الأصغر بلل مشتبه بين البول والمني فقد شكّ في حدوث ما يوجب تحوّل الحدث إلى الحدث الأكبر، فمقتضى الأصل هنا كونه محدثاً بالحدث الأصغر، وقد عرفت أنّ ذلك موضوع للحكم بالطهارة وارتفاع جامع الحدث بالوضوء؛ ولهذا يصح منه الاكتفاء بالوضوء، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّه لو سلّم ما مضى منه من ثبوت الفرد الصغير هنا بالأصل، فلا إشكال في أنـّه لم يرتّب في لسان دليل شرعي على رفع ذلك الحكم بارتفاع الجامع.

وذكر القائل بعدم لزوم الاحتياط: أنّنا نستصحب عدم وجوب التسعة بالحدّ التقييدي.

وأورد عليه السيّد الاُستاذ بأنّ هذا معارض باستصحاب عدم وجوب التسعة بالحدّ الإطلاقي؛ فلا يقاس الاستصحاب بالبراءة، فالبراءة عن القيد لا تعارض بالبراءة عن الإطلاق؛ لأنّ البراءة إنّما تجري عن الإلزاميّات، والإطلاق أمر ترخيصي يرجع إلى الترخيص في التطبيق على فروض وأفراد متعدّدة؛ فلا معنى لإجراء البراءة عنه، وأمـّا الاستصحاب فليس كذلك فبالإمكان إجراء استصحاب العدم في جانب الوجوب المطلق أيضاً(2).

أقول: لعلّ هذا التفصيل منه هنا بين البراءة والاستصحاب قرينة على أنّ ما مضى منه في ردّ من تمسّك بالاستصحاب لإثبات لزوم الاحتياط من إثبات الإطلاق بنفي التقييد بالأصل كان يقصد به التمسّك بأصل البراءة لا بالاستصحاب، أمـّا لو كان يقصد بالأصل فيما مضى ما يشمل الاستصحاب فإثباته للتعارض هنا يناقض ما مضى منه من فرض الأصل النافي للتقييد مثبتاً للإطلاق من دون إبداء معارض له.

والتحقيق: أنّ التمسّك بالاستصحاب لإثبات البراءة صحيح، والتمسّك به لإثبات الاحتياط غير صحيح:

أمـّا إثبات البراءة بالاستصحاب فلِما مضى من جريان استصحاب عدم


(1) سورة 5، المائدة، الآية 6.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 281، والمصباح: ج 2، ص 445. والإشارة إلى الفرق بين الاستصحاب والبراءة في المقام موجود في الدراسات، وغير موجود في المصباح.

367

وجوب التسعة بحدّها التقييدي، ولا يعارضه استصحاب عدم الوجوب بالحدّ الإطلاقي؛ لأنّ هذا الاستصحاب غير جار؛ إذ لا يؤثّر تنجيزاً في المقام ولا تعذيراً، أمـّا عدم تأثيره للتنجيز فلأنّ استصحاب عدم المطلق لا يثبت المقيّد، وأمـّا عدم تأثيره للتعذير فلأنّ من يترك المطلق لا معنى لتعذيره من عقاب واحد ولا من عقاب ثان ؛ لأنّ العقاب الواحد مقطوع الاستحقاق للزوم المخالفة القطعيّة ولا عقاب ثان في المقام كي يمكن التعذير عنه.

وأمـّا عدم إمكان إثبات لزوم الاحتياط بالاستصحاب؛ فلأنّ غاية ما يفيد استصحاب بقاء الجامع بين وجوب التسعة بالحدّ الإطلاقي ووجوبها بالحدّ التقييدي هو التعبّد بهذا الجامع، والتعبّد به لا يزيد على العلم الوجداني به، وقد فرغنا عن أنّ العلم الوجداني به لا ينجّز القيد ولا يوجب الإتيان بالزائد لانحلاله، وإنّما ينجّز ذات الأقلّ، فثبوته تعبّداً بعد الإتيان بالأقلّ ما ذا ينجّز؟! هل ينجّز ذات الأقلّ، أو ينجّز القيد؟! لا معنى لتنجيز ذات الأقلّ؛ لأنّ المفروض الإتيان به، ولا معنى لتنجيز القيد؛ لأنّه ليس بأحسن حالاً من العلم الوجداني الذي لم ينجّزه.

هذا بعد فرض المشي على مبناهم من تصوير مجرىً لاستصحاب بقاء الجامع بين الوجوبين في نفسه، وأمـّا على ما عرفته من أنّ الحكم لا ترتفع فعليّته بالامتثال، وإنّما ترتفع فاعليّته به فلا معنى لاستصحاب فعليّته، بل نحن نقطع بفعليّته ومع ذلك لا ينجّز هذا القطع المقدار الزائد؛ إذ حاله في ذلك بعد امتثال الأقلّ هو حاله قبل امتثاله.

هذا. والمحقّق النائيني (قدس سره) أبطل في المقام الاستصحاب بعدم جريانه مطلقاً في باب الشكّ في بقاء اشتغال الذمّة بعد الإتيان بأحد طرفي العلم الإجمالي(1).

إلّا أنّ الوجه الذي اختاره في ذاك الباب لا يمكن تطبيقه على المقام، فقياسه للمقام بذلك الباب قياس مع الفارق، فإنّه ذكر هناك: أنّ استصحاب جامع التكليف بالصلاة المعلوم إجمالاً مثلاً بعد الإتيان بالجمعة غير جار ؛ لأنّه لو اُريد به إثبات وجوب الظهر فهو تعويل على الأصل المثبت، ولو اُريد به إثبات الاشتغال ولزوم الإتيان بالظهر فهذا ثابت بنفس العلم الإجمالي بالتكليف والشكّ في الامتثال، ولا


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 296، وأجود التقريرات: ج 2، ص 59.

368

يتوقّف على إحراز بقاء التكليف والعلم تعبّداً بعدم الامتثال(1).

وهذا الوجه ـ كما ترى ـ لا يصلح جواباً لمن يدّعي في المقام إثبات الاشتغال ولزوم الإتيان بالزائد باستصحاب التكليف؛ لأنّ العلم الإجمالي لم ينجّز حسب الفرض إلّا الأقلّ الذي قد أتى به.

 

الأقلّ والأكثر في المحرّمات

التنبيه الثاني: نحن تكلّمنا حتّى الآن في الأقلّ والأكثر في الواجبات، وقد يُفرض دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين في المحرّمات، كما لو علم إجمالاً بأنّه إمـّا يحرم تصوير رأس الحيوان أو يحرم تصوير الحيوان بصورة كاملة.

وقد أفاد المحقّق النائيني (قدس سره): أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين في المحرّمات حاله حال دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الواجبات بلا تفاوت، وتجري فيه البراءة كما جرت في الواجبات، إلّا أنّ حال الأقلّ هنا هو حال الأكثر هناك، وحال الأكثر هنا هو حال الأقلّ هناك، ففي فرض الوجوب كان يجب الإتيان بالأقلّ وهو الصلاة بلا سورة، وكانت البراءة تجري عن الزائد وهي السورة مثلاً، وفي فرض الحرمة يحرم الإتيان بالأكثر وهو التصوير التامّ مثلاً، وتجري البراءة عن حرمة الأقلّ وهو تصوير الرأس فقط(2).

وذكر المحقّق العراقي (رحمه الله): أنّ جريان البراءة هنا أولى من جريانها فيما إذا كانت الشبهة وجوبيّة؛ لأنّ أحد وجوه المنع عن جريان البراءة في جانب الوجوب لو تمّ هناك لا يكون له مجال هنا، وذاك هو الوجه الذي ذكره صاحب الفصول من أنّ وجوب الأقلّ إمـّا ضمناً أو استقلالاً معلوم تفصيلاً فهو منجّز حتماً، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وذلك لا يكون إلّا بإتيان الأكثر؛ إذ بإتيان الأقلّ لا يحصل القطع بالفراغ عن وجوب الأقلّ لاحتمال كونه وجوباً ضمنيّاً، وهذا الوجه لا يأتي هنا؛ لأنّ المتيقّن حرمته إنّما هو الأكثر وهو يقطع بتحقّق ترك الأكثر بترك شيء ممّا عدا تصوير الرأس مثلاً، فلو صوّر الرأس لم يشكّ في الفراغ عمّا هو متيقّن


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 43، وأجود التقريرات: ج 2، ص 282.

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 49، وأجود التقريرات: ج 2، ص 285.

369

الحرمة، فإنّ ما هو متيقّن الحرمة هو الأكثر قد تركه حتماً وما لم يتركه هو الأقلّ ليس متيقّن الحرمة(1).

أقول: إنّ هذا الكلام مغالطة؛ فإنّ المتيقّن حرمته هنا ـ أيضاً ـ هو الأقلّ أعني تصوير الرأس، كما أنّ المتيقّن وجوبه هناك هو الأقلّ، وكما أنّ وجوب الأقلّ كان مردّداً بين الاستقلاليّة والضمنيّة كذلك حرمة الأقلّ هنا مردّدة بين الاستقلالية والضمنية، فنحن نعلم حتماً بحرمة تصوير الرأس أمـّا مستقلاًّ أو في ضمن تصوير تمام الحيوان، ولا نعلم بحرمة الأكثر؛ إذ على تقدير كون الحرام خصوص تصوير الرأس ليس الأكثر حراماً وإنّما هو مشتمل على الحرام(2).

نعم، الأكثر زحمة على المكلّف في جانب الوجوب كان هو الوجوب الضمني، والأقلّ زحمة عليه كان هو الوجوب الاستقلالي؛ إذ على الأوّل لابدّ له من ضمّ السورة بخلافه على الثاني؛ والأمر هنا بالعكس، فالأكثر زحمة هي الحرمة المستقلّة؛ لأنّه يضطرّ ـ عندئذ ـ إلى ترك تصوير الرأس بالخصوص، والأقلّ زحمة هي الحرمة الضمنيّة؛ لأنّه يكفيه عندئذ ترك بعض ما عدا الرأس، ولا يضطرّ إلى ترك تصوير الرأس بالخصوص. وهذا الفرق جاء من اختلاف طبيعة الحرمة والوجوب.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ برهان صاحب الفصول لو تمّ في باب الواجبات يأتي هنا أيضاً بعينه؛ إذ نقول: إنّه يعلم تفصيلاً بحرمة تصوير الرأس إمـّا حرمة استقلاليّة أو حرمة ضمنيّة(3) فلابدّ له من الامتثال القطعي لذلك، وهذا لا يحصل إلّا بترك تصوير


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 400 - 401.

(2) لا يخفى أنـّه لا توجد في كلمات المحقّق العراقي (رحمه الله) في نهاية الأفكار دعوى كون الأكثر حراماً، وإنّما توجد فيه دعوى عدم ثبوت حرمة الأقلّ على تقدير ترك الباقي.

نعم، هذا التعبير من المحقّق العراقي (رحمه الله) أيضاً ليس دقيقاً، وإنّما الدقيق ما سوف ننقله عن اُستاذنا الشهيد في التعليق الآتي من أنّ الحرمة المتعلّقة بالمجموع لا تنحلّ إلى حرمات ضمنيّة بلحاظ الأجزاء.

(3) لا يخفى أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) قد عدل بعد ذلك عن دعوى انحلال حرمة المجموع إلى الحرمات الضمنيّة بعدد أجزاء الحرام، كما ينحلّ وجوب المجموع إلى وجوبات ضمنيّة بعدد أجزاء الواجب. ويتّضح ذلك بمراجعة ما كتبناه في أوائل بحث اجتماع الأمر والنهي

370

الرأس، أمـّا إذا ترك القوائم مثلاً دون الرأس فهو لا يقطع بالامتثال والفراغ؛ لاحتمال كون حرمته استقلاليّة، واختلاف طبيعة الحرمة والوجوب هو الذي أوقع المحقّق العراقي (قدس سره) في الاشتباه.

فالمتحصّل أنّ جريان البراءة في الأقلّ والأكثر في الشبهة التحريميّة ليس بأولى من جريانها في الشبهة الوجوبيّة.

ونقول ـ أيضاً ـ: إنّ جريان البراءة في الأقلّ والأكثر في الشبهة التحريمية ليس بالنحو المساوي لجريانها في الشبهة الوجوبيّة كما تخيّله المحقّق النائيني (قدس سره)بل جريان البراءة في الشبهة الوجوبيّة أولى من جريانها هنا؛ لأنّ ما مضى من الانحلال الحقيقي لا يأتي هنا؛ وذلك لاختلاف طبيعة الحرمة والوجوب، ففي جانب الوجوب يكون ما يأتي في العهدة هو إتيان الأجزاء والشرائط المردّدة بين الأقلّ والأكثر فيتمّ


الذي هو متأخّر زماناً عن بحثه (رحمه الله) في المقام؛ لأنّ بحثه (رحمه الله)في المقام من الدورة الاُولى وما كتبناه هناك من الدورة الثانية، وقد كتبناه نقلاً عن كتاب أخينا السيد محمد علي حفظه اللّه وأنجاه من براثن البعثيين إن كان حيّاً، ورحمه اللّه إن كان شهيداً.

وحاصل ما ورد هناك هو:

أوّلاً: أنّ حرمة المجموع المركّب لا تنحلّ إلى حرمات ضمنيّة للأجزاء، ولا يوجب بغض المجموع بغض كل جزء، بخلاف الوجوب أو الحبّ الذي كان ينحلّ بتعدّد الأجزاء، فمن أحبّ شيئاً مركّباً فقد أحبّ كلّ جزء منه لا بمعنى تحقّق عدّة أفراد من الحبّ حقيقة، بل بمعنى التعمّل العقلي والتجزئة، أي: أنّ هذا الحبّ الواحد منبسط على الأجزاء، فكل جزء هو محبوب ضمناً. أمـّا البغض فهو حينما يعرض على المركّب فهو لا ينحلّ على الأجزاء، بأن يصبح كلّ جزء مبغوضاً بالبغض الضمني، وآية ذلك: أنّ مقتضى الحبّ وهو التحرّك نحو الفعل منحلّ إلى تحركات ضمنيّة نحو الأجزاء، في حين أنّ مقتضى البغض وهو الانزجار والترك لا ينحلّ إلى انزجارات وابتعادات ضمنيّة عن الأجزاء، إذ يكفي الابتعاد عن جزء واحد على سبيل البدل، فالمبغوض إنّما هو المجموع من دون أن تصيب كلّ جزء حصّة من البغض الضمني.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ البغض ينحلّ إلى عدد من البغض الضمني بعدد الأجزاء، فلا إشكال في أنـّه ليس لهذا البغض الضمني أثر عقلي على العبد، أي: لا يدعوه إلى ترك متعلّقه تعييناً وإعدامه؛ لأنّ البغض الاستقلالي الذي كان هذا من ضمنه لم يكن يقتضي إعدامه المعيّن كما قلنا، فكيف يقتضيه هذا البغض الضمني؟

371

الانحلال في عالم العهدة، وفي جانب الحرمة يكون ما يدخل في العهدة مردّداً بين ترك الأقلّ وترك شيء من الزائد. فهذا يشبه ما مضى من دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقليين، وقد قلنا هناك: إنّ عنوان أحدهما المنتزع مباين لعنوان واحد معيّن منهما فيكون ما في العهدة مردّداً بين المتباينين فلا انحلال حقيقي هنا.

نعم، يأتي ما ذكرناه من الانحلال الحكمي، فتجري البراءة عن حرمة تصوير خصوص الرأس مثلاً، ولا تعارضه البراءة عن حرمة تصوير المجموع؛ لأنّ البراءة عن حرمة المجموع، أو قل: البراءة عن لزوم أحد التروك لا تعذّر من أتى بالمجموع لا عن عقاب واحد؛ لثبوته بالمخالفة القطعية، ولا عن عقاب ثان؛ لانتفائه في نفسه .

 

الأقلّ والأكثر في الشبهة الموضوعيّة

التنبيه الثالث: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين من ناحية شبهة موضوعيّة.

قال المحقّق النائيني (رحمه الله): إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) لم يتصوّر دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الشبهات الموضوعيّة(1) . وقال المحقّق العراقي (رحمه الله): إنّ هذا الكلام إساءة للأدب بالنسبة للشيخ الأعظم (قدس سره)(2).

وعلى أيّة حال، فنحن نعطف عنان الكلام هنا حول ما يقول المحقّق النائيني(رحمه الله) في المقام وهو: إنّ التكليف إن كان له موضوع ـ أي متعلّق المتعلّق ـ أمكن دوران الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الشبهة الموضوعيّة، وذلك كما لو علمنا بأنّ ثوباً ما ممّا لا يؤكل لحمه، وشككنا في ثوب آخر هل هو من الغنم أو من الهرّ مثلاً؟ ونعلم مانعيّة ما لا يؤكل لحمه عن تماميّة الصلاة، فقد دار أمر المانع بين الأقلّ والأكثر من ناحية الشبهة الموضوعيّة والاشتباه في أمر خارجي مع كون الحكم الكلّي الإلهي معلوماً، وأمـّا إن لم يكن له موضوع كما في وجوب القراءة فلا معنى لتردّد الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر بنحو الشبهة الموضوعيّة، ولا يكون الشكّ إلّا من ناحية أصل


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 66، وأجود التقريرات: ج 2، ص 300.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 409.

372

الحكم، كأن يشكّ في أنّ الواجب هل هو الحمد والسورة أو الحمد فقط(1).

أقول: إنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بنحو الشبهة الموضوعيّة يتصوّر حتّى فيما ليس له موضوع كوجوب القراءة، وذلك بلحاظ نفس المكلّف، فلو علم بأنّ السورة تجب على الصحيح دون المريض، وشكّ في أنـّه هل هو صحيح أو مريض؟، فقد شكّ في وجوب الحمد عليه فقط أو وجوب الحمد والسورة فدار الأمر بين الأقلّ والأكثر للشبهة الموضوعيّة والاشتباه في الأمر الخارجي من دون شكّ في الأحكام الكلّيّة الإلهيّة فيدخل في ذلك محل البحث، والخلاف في جريان البراءة ولزوم الاحتياط في مورد لا يجري فيه أصل موضوعي ينقّح الموضوع كاستصحاب الصحة أو المرض.

 

الأقلّ والأكثر في المحصّل

التنبيه الرابع: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الشكّ في المحصّل. والحديث عن ذلك وعن دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في غير الشكّ في المحصّل يكون بعد الفراغ كبرويّاً عن أمرين:

أحدهما: أنّ الشكّ في أصل التكليف غير المعلوم بالعلم الإجمالي الجامع لشرائط التنجيز يكون مجرى للبراءة.

والثاني: أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وبالتعبير الفنّي نقول: إذا علم بفعليّة التكليف وشكّ في فاعليّته كان ذلك مجرى للاشتغال، أمـّا إذا كان الشكّ في نفس فعليّة التكليف فهو مجرى للبراءة. إذن فالشكّ في مورد قاعدة الاشتغال يباين الشكّ في مورد قاعدة البراءة.

وبعد الفراغ عن هاتين الكبريين نطبّق الكبرى الاُولى على مورد الأقلّ والأكثر الارتباطيين ونقول: إنّ الشكّ فيه في فعليّة التكليف؛ فتجري البراءة على بيان مضى، ونطبّق الكبرى الثانية على مورد الشكّ في المحصّل، فإذا علم بوجوب قتل الكافر وشكّ في أنـّه هل يقتل برصاص واحد أو يحتاج قتله إلى إطلاق رصاصين؟ فبعد


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 66 - 68، وأجود التقريرات: ج 2، ص 300 - 303.

373

إطلاق الرصاص الواحد يشكّ في بقاء فاعليّة التكليف وسقوطها بالامتثال، وأمـّا فعليّة التكليف فهي مقطوع بها حتّى بعد الامتثال كما مرّ تحقيقه.

وانطباق الكبرى الثانية على مورد الشكّ في المحصّل بعد الفراغ عن أصل تلك الكبرى ممّا لا يحتاج إلى بحث، ولم يستشكل الأصحاب في لزوم الاحتياط لدى الشكّ في المحصّل.

إلّا أنـّه يقع الكلام في خصوص المحصّل الشرعي الذي نُسِب إلى بعض الأصحاب كالمحقّق السيّد ميرزا حسن الشيرازي (رحمه الله) القول بجريان البراءة فيه(1).

ومعنى كون المحصّل شرعيّاً كون المسبّب أمراً مجعولاً للشارع كالطهارة التي تحصل بالغسلة أو الغسلتين بناءً على أنّ الطهارة مجعول شرعي، واُلحِق بذلك ما إذا كان المسبّب تكوينيّاً، إلّا أنّ السبب لا يتعيّن بفهم العرف فيبيّنه الشارع، كما أنّ كمال النفس مثلاً أمر تكويني، والشارع يرشدنا إلى أنّ الصلاة مثلاً بالكيفيّة المخصوصة مع السورة أو بلا حاجة إلى السورة تخلق ذاك الكمال، ومن هذا القبيل الطهارة التي تحصل بالغسلة أو الغسلتين لو قلنا إنّها أمر تكويني لا مجعول شرعي.

وذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(2): أنـّه لا فرق بين المحصّل الشرعي والمحصّل العرفي في لزوم الاحتياط، وأثبت وجوب الاحتياط في المحصّل الشرعي بوجوه ثلاثة، وتوضيح ذلك هو:

إنّ جريان البراءة يشترط فيه اُمور ثلاثة:

1 ـ الشكّ.

2 ـ كون المشكوك من المجعولات الشرعيّة حتّى يكون وضعه بيد الشارع، فيكون رفعه بيده؛ لأنّ قوله: «رفع ما لا يعلمون» يدلّ على الرفع التشريعي الذي لا يتصوّر إلّا فيما يكون وضعه بيد الشارع.

3 ـ كون المشكوك في رفعه توسعة ومنّة على العباد لا تضييقاً عليهم.


(1) وردت في فوائد الاُصول: ج 3، ص 360 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم نسبة ذلك إلى بعض الأعلام من دون تسمية السيد ميرزا حسن الشيرازي، ولكن الظاهر أنّ مشياخنا يعلمون أنـّه هو المقصود.

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 55 و 47 - 49، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص178 - 180.

374

وعلى ضوء هذه الشروط يدّعي المحقّق النائيني (رحمه الله) وجوهاً ثلاثة لوجوب الاحتياط في دوران أمر المحصّل الشرعي بين الأقلّ والأكثر.

الوجه الأوّل: أنـّه إذا دار أمر محصّل الطهارة مثلاً بين الغسلة والغسلتين لا نرى مصبّاً للبراءة جامعاً للشروط الثلاثة، فإن أردنا إجراء البراءة عن وجوب تحصيل الطهارة فالشرط الأوّل مفقود؛ لعدم الشكّ في وجوب تحصيلها، وإن أردنا إجراء البراءة عن سببيّة الأكثر فأيضاً ليست هذه السببيّة مشكوكة فالشرط الأوّل مفقود؛ إذ لا إشكال في حصول الطهارة بغسلتين، وإنّما الإشكال في حصولها بغسلة واحدة، وإن أردنا إجراء البراءة عن سببيّة الأقلّ فهي وإن كانت مشكوكة، لكنّ الشرط الثالث مفقود فيها؛ لأنّ في رفعها ونفي صحّة الاكتفاء بغسلة واحدة تضييقاً على العباد، لا توسعة ومنّة عليهم.

ويرد عليه: أنـّه مع قطع النظر عن باقي الوجوه، والاكتفاء بهذا المقدار من البيان يمكن الإجابة عنه بدعوى إجراء البراءة عن سببيّة الأكثر وهي مشكوكة وليست معلومة، وإنّما المعلوم حصول الطهارة عند حصول الأكثر، وهذا غير سببيّة الأكثر بما هو أكثر، أو قل: إجراء البراءة عن جزئيّة الغسلة الثانية للسبب.

الوجه الثاني: أنّنا لو سلّمنا الشكّ في سببيّة الأكثر ـ كما نحن اخترناه ـ قلنا: إنّه لا تجري عنها البراءة، وكذا عن توابعها كجزئيّة الزائد للسبب، فإنّ هذه الاُمور أحكام وضعيّة غير مجعولة فقد انتفى فيها الشرط الثاني من الشروط الثلاثة.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ هذا لا ينسجم مع سير تفكيره هو (قدس سره)فالمفروض به أن يقول في المقام: بأنّ السببيّة وإن لم تكن مجعولة بالأصالة، لكنّها مجعولة بالتبع؛ لأنّها تنتزع عن جعل الشارع للمسبّب على تقدير السبب، وهو (قدس سره) قد أجرى البراءة عن جزئيّة ما فرض الشكّ في جزئيّته للصلاة، بتقريب أنّ الجزئيّة: وإن لم تكن بنفسها مجعولة قابلة للرفع والوضع، لكنّها منتزعة عن وجوب الأكثر وقابلة للوضع والرفع بلحاظ منشأ انتزاعها، وعليه نقول فيما نحن فيه: إنّه لا بأس من هذه الناحية بجريان البراءة عن سببيّة الأكثر، أو جزئيّة الزائد للسبب؛ إذ كل هذا قابل للرفع والوضع باعتبار منشأ الانتزاع، وهو جعل الطهارة على تقدير الغسل مرّتين.

وثانياً: أنّ الشرط الثاني وهو كون المرفوع مجعولاً شرعيّاً كي يقبل الرفع الشرعي غير صحيح، فإنّ الرفع في باب البراءة ليس رفعاً واقعيّاً في مقابل الوضع الواقعي كي لا يمكن تعلّقه إلّا بما يقبل الوضع الواقعي، وإنّما هو رفع ظاهري في

375

مقابل إيجاب الاحتياط، فيشترط فيه تعلّقه بما يمكن إيجاب الشرع للاحتياط اتجاهه، فإن لم يكن قابلا لإيجاب الاحتياط اتجاهه لم تجرِ البراءة عنه ولو فرض قابلاً للوضع الواقعي، ومثال ذلك جزئيّة السورة للصلاة، حيث مضى أنّها وإن كانت قابلة للوضع الواقعي بتبع وضع منشأ انتزاعها لكنّها لا تقبل إيجاب الاحتياط اتجاهه؛ لأنّها ليست شيئاً قابلاً للتنجيز على المكلّف، فلا يمكن إجراء البراءة عن الجزئيّة، وإن كان قابلاً للتنجيز وإيجاب الاحتياط تجاهه جرت عنه البراءة ولو لم يكن له وضع واقعي، فالسببيّة أو جزئيّة الزائد للسبب لا يكفي لنفي جريان البراءة عنها افتراض أنـّه ليس لها وضع واقعي، وإنّما المهم أن نرى أنّها هل تدخل في العهدة، وتقبل التنجيز، وإيجاب الاحتياط تجاهها أو الذي يدخل في العهدة إنّما هو المسبّب؟

وتحقيق الحال في ذلك: أنّ نفس عنوان الجزئيّة أو السببيّة لا معنى لقبوله للتنجيز، أو لإجراء البراءة عنه ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ لكنّنا نقول: إنّه إن كان المحصّل عرفيّاً فنفس كونه عرفيّاً قرينة على أنّ المولى لم يتكفّل بيان السبب، بل أوكله إلى العبد، فإذا قال: اقتل الكافر فكأنّه صرّح بأنّي اُريد منك قتل الكافر، أمـّا تحقيق أنـّه هل يحصل ذلك بإطلاق رصاص واحد أو بإطلاق رصاصين، فهو موكول إليك، ولست أنا متكفّلاً لبيانه، وأمـّا إذا كان المحصّل شرعيّاً وغير مفهوم عند العرف، فنفس عدم تعيّنه عند العرف قرينة عامّة على أنّ المولى هو الذي تكفّل بيان السبب، ومقدار اهتمام المولى بغرضه يكون بمقدار بيانه للسبب، فالعقل هنا لا يحكم بلزوم إحراز غرضه، بل يحكم بلزوم الإتيان بما بيّنه من السبب، فإنّ الغرض الذي لم يبلغ مستوى يحرّك المولى نحو تحصيله لا يحكم العقل بلزوم الإتيان به، فالذي يدخل في العهدة هنا إنّما هو المقدار الذي بيّنه المولى من السبب، وعندئذ لو شككنا في بيان المولى لدخل جزء زائد في السبب وعدمه، فإنّه تجري عنه البراءة بلا إشكال، لا بمعنى جريان البراءة عن نفس السببيّة ودخل هذا الجزء في السبب، بل بمعنى جريان البراءة عن بيان المولى لذلك.

والخلاصة: أنّ المجعول الإنشائي للمولى وإن فرض هو إيجاب الغرض كما لو قال: طهّر ثوبك للصلاة مثلاً، وسببيّة الغسلة الثانية للطهارة ليست أمراً مجعولاً وموضوعاً بالوضع الشرعي، لكنّ القرينة العامّة في باب المحصّلات الشرعيّة تصرف ظهور الكلام عن كون المقصود تحصيل الغرض على الإطلاق، بأن يكون إحراز سببه على عاتق العبد، وعندئذ يصبح السبب هو الذي يتنجّز بمقدار بيانه من قبل المولى،

376

ويدخل في العهدة بذلك المقدار، ويكون قابلاً لإيجاب الاحتياط تجاه بيانه، فتجري البراءة عن بيانه عند الشكّ فيه، كما تجري البراءة عن وجوب الجزء الزائد المحتمل الدخل في الفرض فيما إذا كان متعلّق الوجوب والوضع الشرعي الإنشائي نفس الأفعال.

وقد اتضح بهذا أنـّه لو شكّ في دخل شيء في الوضوء مثلاً فسوف تجري البراءة عنه، وإن فرض الإيجاب الإنشائي متعلّقاً بشيء يكون مستقلاًّ عن الوضوء ومسبباً عنه وهو الطهارة الحدثيّة.

أمـّا لو فرض عدم تماميّة ما ذكرناه فعندئذ يتفرّع جريان البراءة عن ذلك وعدمه على كون الطهارة عين أفعال الوضوء، أو عنواناً انتزاعيّاً ينطبق على الوضوء نظير عنوان التعظيم المنطبق على القيام، أو أمراً مستقلاًّ مسبّباً عن الوضوء، فعلى الأوّلين تجرى البراءة، وعلى الأخير لا تجري البراءة للشكّ في المحصّل.

الوجه الثالث: أنـّه لو جرت البراءة عن سببيّة الأكثر فهي لا تثبت سببيّة الأقلّ حتّى يصحّ الاكتفاء بالأقلّ في تحصيل المسبّب المعلوم الوجوب، فلابدّ من الإتيان بالأكثر تحصيلاً للموافقة القطعيّة للمسبّب.

وهذا قد ظهر جوابه ممّا عرفته في آخر مناقشة الوجه الثاني من أنّ الذي يدخل في العهدة في باب المحصّل الشرعي إنّما هو السبب بمقدار بيانه لا الغرض أعني المسبّب بحدوده الواقعيّة، والمقدار الذي حصل القطع ببيانه هو الأقلّ، والزائد مشكوك البيانيّة؛ فتجري البراءة عن بيانه.

 

الشكّ في الجزئيّة عند النسيان

التنبيه الخامس: فيما إذا علم بجزئيّة شيء كالسورة مثلاً، وشكّ في أنّها هل هي جزء في صورة الذكر فقط فتبطل الصلاة بتركها عمداً دون تركها نسياناً، أو هي جزء حتّى لدى النسيان فتبطل الصلاة بتركها ولو نسياناً؟

والمحقّق الخراساني (رحمه الله) بحث هنا زائداً على ما يدخل في بحث الأقلّ والأكثر بعض الفروع غير الداخلة في بحث الأقلّ والأكثر، ونحن نعقد هنا مقامين من البحث: أحدهما: فيما يدخل في بحث الأقلّ والأكثر، والثاني: فيما هو خارج عن ذلك.

 

377

 

إجراء الأصل المؤمِّن

أمـّا المقام الأوّل: فهو في إجراء الأصل المؤمّن لدى الشكّ في الجزئيّة في حال النسيان، كما كان يجري لدى الشكّ في أصل الجزئيّة حتّى في حال الذُكر.

وفي تحقيق ذلك يجب أن نشخّص هويّة هذا الشكّ في المقام؛ لنرى هل هو داخل في الشكّ في التكليف الزائد الذي فرغنا عن إجراء البراءة عنه، أو هو الشكّ في السقوط مع العلم بالتكليف الذي فرغنا عن عدم اجراء البراءة عنه؟

فتقريب الأوّل: هو أنّ الواجب على الناسي قد تردّد بين أن يكون هو خصوص الأكثر التامّ، أو ما ينطبق على الناقص، وهذا هو دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الذي عرفت كونه مورداً للبراءة.

وفي مقابل ذلك قد يقال: إنّ الأقلّ حتّى ولو كان واجداً للملاك في حقّ الناسي لا يعقل أن يكون هو الواجب عليه؛ إذ لا يعقل كون خطاب الناسي بالأقلّ محرّكاً له؛ إذ مع فرض عدم التفاته إلى نسيانه لا يرى هذا الخطاب متوجّهاً إلى نفسه، وفرض التفاته إلى نسيانه مساوق لخروجه من النسيان، وهذه الشبهة في إمكانيّة توجيه الخطاب الخاصّ إلى الناسي مذكورة في كلمات الشيخ الأعظم (قدس سره)في الرسائل(1) ويقال مبنيّاً عليها: إنّه لا يحتمل إذن أن يكون الواجب عليه هو الأقلّ، بل الواجب عليه هو الأكثر، ولكنّنا نحتمل سقوط التكليف عنه بإتيانه بالأقلّ على أساس حصول الملاك بالأقلّ، وهذا شكّ في السقوط لا في أصل التكليف، وهو مورد الاشتغال لا البراءة.

والكلام في تحقيق الحال في هذا المقام يقع في جهتين:

الاُولى: في إمكان توجيه الحكم إلى الناسي بنحو يثمر النتيجة المطلوبة وعدمه.

والثانية: في أنـّه على كلا تقديري إمكان توجيه ذلك إلى الناسي وعدمه هل يكون الشكّ في المقام من الشكّ الذي تجري بلحاظه البراءة، أو يكون من الشكّ الذي يجري بلحاظه الاشتغال؟


(1) راجع الرسائل: ص 287 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة اللّه.

378

أمـّا الجهة الاُولى: فالتحقيق فيها: أنّ عدم إمكان خطاب الناسي بالأقلّ إنّما يكون لو لم يتصوّر الخطاب بنحو يكون موضوعه الأعمّ من الناسي والمتذكّر، ويكون مع ذلك مثمراً لما هو المطلوب، في حين أنـّه يمكن تصوير ذلك بنحوين:

الأوّل: أن يخاطب المكلّف الجامع بين الناسي والمتذكّر بالإتيان بالجامع بين الأقلّ المقرون بالنسيان والأكثر، وهذا الخطاب ـ كما ترى ـ يصل إلى الناسي ويحرّكه، غاية الأمر أنّ الناسي يتخيّل أنـّه تحرّك نحو الفرد الثاني في حين أنـّه تحرّك نحو الفرد الأوّل، وهذا لا ضير فيه، من قبيل أن يأمر المولى بالجامع بين الصلاة في المسجد والصلاة في البيت، ويصلي أحد في البيت متخيّلاً أنـّه المسجد وأنّ صلاته في المسجد.

والثاني: أن يخاطب المكلّف بالإتيان بالمقدار الذي يكون ملتفتاً إليه، وهذا الخطاب يحرّك كلّ أحد نحو المقدار الملتفت إليه، وهذا المقدار يختلف باختلاف الأشخاص، وكل أحد يعتقد أنـّه من أتمّ الناس التفاتاً، فالناسي يتخيّل أنـّه يأتي بتمام الأجزاء؛ لأنّه ملتفت إلى تمامها، في حين أنـّه ليس ملتفتاً إلى التمام، ويأتي بالمقدار الملتفت إليه بتحريك نفس ذلك الخطاب.

ولا فرق في تأتّي هذين النحوين من التصوير بين ما لو فرض المكلّف ناسياً في بعض الوقت وما لو فرض استمرار نسيانه إلى آخر الوقت، غاية الأمر أنـّه على الأوّل يكون من الواضح أنّ الناسي لو كان مكلّفاً بشي فليس مكلّفاً بخصوص الأقلّ ضرورة جواز تأخيره للصلاة إلى حين الذكر، ومع فرض التأخير سيأتي بالأكثر.

والقاسم المشترك بين هذين الوجهين هو أنّ الناسي ليس محتاجاً إلى خطاب على حدة حتّى يستشكل فيه بعدم إمكانيّة محركيّته للناسي، بل يمكن تصوير خطاب واحد عام موضوعه مطلق المكلّف بأحد النحوين.

والإنصاف: أنّ شبهة عدم إمكان توجيه الحكم إلى الناسي لم تكن تستحق الذكر والبحث في نفسها، وإنّما بحثناها لاهتمام الأصحاب بها من زمان الشيخ الأعظم (قدس سره) إلى زماننا هذا.

وممّا ذكروه بصدد الجواب عن هذه الشبهة هو ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1)


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 240 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.