321

وثمّة جواب آخر ربّما يرد على الخاطر، وحاصله:

إنّ استصحاب الكلّي غاية ما يريد إثباته هي التعبّد بوجود الكلّي وتحقّقه بنحو مماثل للمستصحب، والكلّي وإن كان لا يمكن وجوده إلاّ ضمن الشخصي والخصوصيّة الوجوبيّة أو الاستحبابيّة مثلاً، وهذه الخصوصية ـ حسب الفرض ـ لم تتمّ فيها أركان الاستصحاب، غير أنّ هذه الخصوصية لا ينفيها الاستصحاب حتّى يكون مؤدّاه جعل الجامع والكلّي في غير تشخّص، فيكون مستحيلاً، بل الاستصحاب لا يثبت أكثر من الكلّي، فهو ساكت عن المقدار الزائد الذي لابدّ من ثبوته واقعاً حتّى يثبت الكلّي، فيعبّدنا الاستصحاب بوجود هذا الكلّي المماثل للمستصحب ولو كان ضمن إحدى الخصوصيتين من الوجوب والاستحباب.

وهذا الجواب مدخول فيه أيضاً: ذلك أنّه يستلزم الألتزام بأحد أمرين: استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أو كون خطاب(لا تنقض اليقين بالشكّ) إخباراً عن الإنشاءآت الثبوتية، لا أنّه هو الإنشاء، والوجه في لزوم أحد هذين: أنّ الجامع الذي يعبّدنا به في موارد استصحاب الجامع لا يمكن إنشاؤه ـ كما عرفت ـ إلاّ في ضمن فرد معيّن الذي لا يقين بحدوثه، وعليه نقول: إنّنا إمّا أن نفترض أنّ قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» إنشاء للأحكام المماثلة للمتيقّنات الموجودة في موارد الاستصحابات(ولا مانع من إنشاء الأحكام بالتصوّر الإجمالي، وبعنوان مشير كعنوان بقاء المتيقّن مثلاً)، وعندئذ فإمّا أن يقصد بعنوان عدم نقض اليقين بالشكّ بقاء ما كان متيقّناً، وبمقدار التيقّن فقط، فلا يشمل موارد استصحاب الجامع؛


الحكم المماثل إلاّ بمقدار المماثلة في الإنشاء، لا في المبادئ مختصّ بفرض ما إذا لم نشخّص تلك المبادئ، فلم تثبت الحالة السابقة بلحاظها. أمّا إذا شخّصناها، كما في فرض العلم بالوجوب، فهي تثبت بالاستصحاب كما يثبت الإنشاء به.

ولكنّ الواقع: أنّنا إمّا أن نفترض أنّ جعل الحكم المماثل تقصد به المماثلة في هويّة الحكم دون خصوصيّاته التي لا علاقة لها بالفصل، أو تقصد به المماثلة حتّى في خصوصية المبادئ التي فرض أنّها ليست فصلاً للحكم، فعلى الثاني نقع لدى استصحاب الجامع بين الوجوب والاستحباب في مشكلة: أنّ خصوصيّتي المبادئ لا يمكن افتراض وجود جنسهما دون الفصل، وعلى الأوّل نقع لدى استصحاب الوجوب في مشكلة: أنّه لا يتحقّق به الإلزام. أمّا لو ادّعي أنّه لدى العلم بخصوصيّة المبادئ الوجوبية نستصحب تلك المبادئ إلى جانب استصحاب أصل الحكم الإنشائي، فالجواب: أنّ المفروض في باب الاستصحاب أن يكون المستصحب حكماً شرعياً، أو موضوعاً لحكم شرعي؛ لأنّ الاستصحاب عبارة عن جعل الحكم المماثل للمستصحب، أو لحكمه، والمفروض لديه(رحمه الله) أنّ تلك المبادئ لا هي حكم شرعي، ولا موضوع لحكم شرعي، وإنما الحكم الشرعي الذي تجب علينا طاعته عبارة عن الأمر الإنشائي الذي يجعل بداعي جعل الداعي.

322

لأنّ الجامع بحدّه الجامعي غير قابل للإنشاء وإثبات الجامع في ضمن الفرد، يعني إنشاء أكثر ممّا كان متيقّناً، أو يقصد به ـ زائداً على ذلك ـ إنشاء ما يكون فرداً للمتيقّن، ومشتملاً على ما يزيد على المتيقّن، وهذا يعني إبراز جعلين، واستعمال اللفظ في معنيين(1).

وإما أن نفترض أنّ قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» إخبار عن بقاء المتيقّن، ولا بأس بشمول ذلك للفرد المتيقّن وللجامع المتيقن، غاية ما هناك أنّ الجامع المتيقّن لا يمكن أن ينشأ بقاؤه إلاّ ضمن إنشاء بقاء الفرد، فنستكشف من إطلاق الأخبار أنّ الشريعة قد أنشأت مسبقاً تارةً: بقاء المتيقّن، وهو في مورد استصحاب الشخص، واُخرى: بقاء فرد المتيقّن، وهو في مورد استصحاب الجامع.

ومن الواضح أنّ حمل هذا النصّ على الإخبار خلاف الظاهر.

وهناك جواب ثالث على الشبهة، وفي هذا الجواب يفترض أنّنا نجري استصحاب الجامع بخصوصيّته الواقعية، لابحدّه الجامعي حتّى يبتلي بمشكلة عدم إمكان وجود الجامع بحدّه الجامعي، ومن هنا تكون هذه الإجابة تصحيحاً لاستصحاب الفرد في موارد استصحاب الكلّي، فهو يحلّ مشكلة الفقيه، غير أنّ المشكلة الاُصولية ـ وهي جريان الاستصحاب في الكلّي ـ لا تشمله هذه الإجابة.

وحاصل هذه الإجابة: أنّ هنالك مبنيين في تفسير العلم الإجمالي وما يتعلّق به، المبنى الأوّل يرى العلم الإجمالي متعلّقاً بالجامع لا بالواقع. وهذا ما اختارته مدرسة المحقّق النائيني(قدس سره)، وعليه لا يمكن إجراء الاستصحاب؛ لأنّ الخصائص الفرديّة ليست تحت العلم.

والمبنى الثاني يرى العلم الإجمالي متعلّقاً بالواقع بحدّه الواقعي، وإنّما فرقه عن العلم التفصيلي في الصورة والعلم، فالتفصيلي منه صورة واضحة جليّة، بينما العلم الإجمالي بمثابة الصورة المغبرّة التي اعتراها التشويه والغبر.

أمّا من ناحية ما يتعلّقان به فكلاهما ينصبّ وينحطّ على الواقع والخارج دون الكلّي.

وهذا ما اختاره المحقّق العراقي(رحمه الله). وعليه يكون الاستصحاب جارياً في موارد العلم الإجمالي بالوجوب أو الاستحباب، والظهر أو الجمعة ونحوهما من موارد استصحاب الكلّي، إذ العلم واليقين قد انصبّ على أحد الواقعين، فيكون استصحابه مثبتاً للحكم المماثل لذلك


(1) مضافاً إلى أنّ المعنى الثاني بعيد عن العبارة؛ لأنّ العبارة جاءت بلسان اليقين والشكّ، وخصوصيّة الفرد لم تكن متيقّنة.

323

الواقع، وليس فيه محذور.

وهذه الإجابة باطلة ـ أيضاً ـ وذلك:

أوّلاً: لعدم صحّة المبنى، فإنّا قد شرحنا مفصّلاً في موضعه أنّ العلم الإجمالي لا يتعلّق بالواقع.

وثانياً: أنّ العلم الإجمالي في بعض الموارد لا تعيّن واقعي لمتعلّقه، كما لو علمنا بوجوب الظهر أو الجمعة، واحتملنا وجوبهما معاً وكان في عالم الواقع كلاهما واجبين، فإنّ نسبة كلٍّ من الوجوبين بشخصه إلى العلم الإجمالي على حدّ واحد فإذا لم يمكن تعيّن شخصيّ لمتعلّق العلم واقعاً، فأيّ حكم مماثل يشرّع بالاستصحاب، أيجعل حكمان مماثلان لهما معاً؟ فهذا أكثر من مقدار اليقين. أو يجعل حكم واحد؟ فأيّهما الذي يستحقّ جعلاً مماثلاً؟ بعد أن كانت نسبتهما إلى العلم نسبة واحدة.

نعم، ثمّة دعوىً اُخرى غير ما ذكر في هذه الأجوبة الثلاثة بالإمكان تخريج استصحاب الكلّي عليها، وهي: أنْ يلتزم بأنّ موضوع الاستصحاب هو ذات الحدوث، لا اليقين به، وإنّما اليقين مجرّد عنوان مشير يثبت به الحدوث، فالاستصحاب يعني التعبّد ببقاء الحادث أوّلاً من دون تدخّل لعنوان اليقين فيه سعةً أو ضيقاً. وعليه فيكون الحكم المماثل المجعول مطابقاً للحدوث على واقعه المشخّص، لا العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع العاري عن الشخص.

فأتّضح بهذا التفصيل: أنّ مشكلة جعل الجامع العاري عن الشخص في موارد استصحاب كلّي الأحكام لايمكن حلّها إلاّ بالهروب عن أحد الأصلين الموضوعيين أو كليهما، وهما البناء على جعل الحكم المماثل في مدلول الاستصحاب، وأنّ اليقين بالحدوث عنوان مأخوذ في موضوعه بحيث يتقيّد ويتقدّر بقدره.

 

أقسام استصحاب الكلّي:

المقام الثاني: في أقسام استصحاب الكلّي.

نورد أقسام استصحاب الكلّي بالنحو التالي، فإنّه هو التقسيم الفنّي بلحاظ ما يرتبط بكلّ قسم من بحث.

إنّ الشكّ في بقاء الكلّى تارةً يكون من جهة الشكّ في حدوث الفرد، واُخرى لا يكون من جهة الشكّ في حدوث الفرد. وعلى كلّ من التقديرين قد يكون الفرد الحادث مقروناً بالعلم الإجمالي، وقد لا يكون.

324

مثال الأوّل: ما إذا علمنا إجمالاً بدخول أحد شخصين في المسجد: زيد أو عمرو، وشككنا في بقاء الكلّي للعلم بخروج زيد لو كان هو الداخل، حيث يكون هذا الشكّ ناشئاً من الشكّ في حدوث زيد أو عمرو المعلوم إجمالاً دخول أحدهما. وهذا هو القسم الثاني من استصحاب الكلّي في اصطلاح رسائل الشيخ(رحمه الله).

ومثال الثاني: ما إذا شكّ في وجود كلّيّ الإنسان مثلاً في المسجد، من باب احتمال دخول عمرو إليه حين خروج زيد المعلوم حاله دخولاً وخروجاً، أو دخوله معه من أوّل الأمر، فيكون الشكّ في بقاء الكلّي ناشئاً من الشكّ البدوي في حدوث الفرد الثاني وهو عمرو. وهذا هو الكلّي من القسم الثالث في اصطلاح رسائل الشيخ(رحمه الله).

ومثال الثالث: ما إذا علمنا إجمالاً بوجود زيد أو عمرو في المسجد ويكون الفرد على كلٍّ من التقديرين محتمل البقاء ومحتمل الارتفاع، فأصبح الكلّي مشكوك البقاء من ناحية الشكّ في بقائه ضمن الفرد، لا من ناحية الشكّ في حدوث أحد الفردين، لكن الفرد في نفسه مقرون بالعلم الإجمالي.

ومثال الرابع: ما إذا شكّ في بقاء كلّي الإنسان في المسجد من ناحية الشكّ في بقاء زيد الذي نعلم بالتفصيل دخوله فيه.

ولنبدأ بتفصيل الحديث في كلٍّ من الأقسام الأربعة.

وقبل الشروع في تفصيل الأقسام ينبغي أن نشير إلى إشكال عامّ في استصحاب الكلّي يبتني على ما ذكرناه في الجهة الاُولى من المقام السابق، حيث قلنا: إنّ الكلّي ـ خلافاً للرجل الهمداني ـ موجود في كلّ فرد بوجوده، وإنّ نسبته إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء، لا الأبّ الواحد إلى الأبناء، فإنّه قد يقال ـ بناءً على هذا الرأي ـ: إنّه لا يبقى فرق بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي، حيث يكون مصبّ الاستصحاب، وما يثبت به هو الوجود الخارجي؛ لأنّ الاستصحاب يعني إبقاء ما كان موجوداً حقيقياً، ولا معنىً لإبقاء المفهوم، والمفروض أنّه في الخارج ليس إلاّ شيء واحد، هو الفرد بلحاظ، والكلّي بلحاظ آخر، بمعنى: أنّ الكلّيّة والجزئيّة من خصائص كيفيّة تلقّي الذهن للموجود الخارجي، لا لنفس الموجود في الخارج. إذن فبماذا يمتاز استصحاب الفرد عن الكلّي؟! نعم، لو تصوّرنا الكلّي بوجود يمتاز خارجاً عن الفرد، كما في تصوّر الرجل الهمداني امتاز الاستصحابان أحدهما عن الآخر، غير أنّ المفروض عدم صحّة هذا المبنى.

وللإجابة على هذا الإشكال يوجد طريقان:

325

أحدهما: ما قد يستفاد أو يستنتج من كلمات بعض الاُصوليين ـ في مواضع غير هذا الموضع ـ، وحاصله: أنّا نستصحب الحصّة، أي: تلك الحصّة من الإنسانية الموجودة في زيد وعمرو مثلاً، والحصّة تختلف عن الفرد، فإنّ الفرد يعني وجود الذات مع الخصائص والأعراض الاُخرى، بينما الحصّة تعني الذات الموجودة مع قطع النظر عن الأعراض والخصوصيّات، فيكون استصحاب الكلّي استصحاباً وتعبّداً ببقاء الذات الموجودة سابقاً، بينما استصحاب الفرد يعني الذات الموجودة مع صفاتها وخصائصها المتصفة بها.

الطريق الثاني: أنّ الاستصحاب الذي هو حكم شرعي وتعبّد ظاهري على حدّ سائر الأحكام والتعبّدات لا يتعلّق بالواقع والوجود الخارجي، بل يستحيل أن يتعلّق به وإنّما يتعلّق بالوجود الذهني والصورة المفهومية، لكنّها ملحوظة بالحمل الأوّلي، أي بما هي تعكس الخارج وتحكي عنه، لا بالحمل الشايع، ومن الواضح أنّ صورة الفرد بالحمل الأوّلي غير صورة الجامع والكلّي، كما ذكرنا في تصوير الكلّيّة والجزئيّة. إذن فمعنى استصحاب الكّليّ التعبّد شرعاً وظاهراً ببقاء الصورة الذهنية الكلّيّة، لكن لا ببقائها بالحمل الشائع وبما هي أمر ذهني، بل بالحمل الأوّلي وبما هي تحكي عن الخارج، بينما استصحاب الفرد يعني التعبّد ببقاء الصورة الجزئيّة بالحمل الأوّلي وبما هي تحكي عن الخارج، ويكون حال الاستصحاب الذي هو منجّز شرعي حال العلم الإجمالي الذي هو منجّز عقلي، فإنّه ـ أيضاً ـ غير متعلّق إلاّ بالجامع، لا بهذه الحصّة خاصّة ولا بتلك، ومع ذلك يكون منجّزاً ومجدياً.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ هنالك تصوّرات ثلاثة لاستصحاب الكلّي:

التصوّر الأوّل: هو الذي يميّز بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد بالتمييز بين الكلّي الذي هو موجود خارجي وحداني بنحو السعة، والفرد الذي هو إشعاع ومرتبة وواجهة من واجهات الجزئيّ الخارجي، كما يقوله الرجل الهمداني.

والتصوّر الثاني: يميّز بينهما بأنّ استصحاب الكلّي يعني استصحاب الحصّة الخاصّة، بينما استصحاب الفرد يعني استصحاب الحصّة مع خصوصياتها العرضية المشخّصة.

والتصوّر الثالث: يميز بينهما بأن استصحاب الكلّي يعني الحكم شرعاً ببقاء الواقع بمقدار ما تحكي عنه الصورة الذهنية الكلّية، كالعلم الإجمالي، بينما استصحاب الفرد هو الحكم ببقاء الواقع بالمقدار الذي تحكي عنه الصورة الشخصيّة الجزئيّة، كالعلم التفصيلي.

وعلى أساس الاختلاف بين هذه التصورات تختلف النتائج التطبيقية في كلّ من الصور الأربع التي نريد البحث فيها بالتفصيل، فنقول:

326

صورة العلم بأحد الفردين والشكّ في الجامع بينهما

الصورة الأولى: ما إذا علم إجمالاً بحدوث أحد الفردين وشكّ في بقاء الجامع بينهما من دون أن يكون الشكّ في البقاء هذا ناتجاً من الشكّ في حدوث أحد الفردين، كما لو علم بدخول زيد أو عمرو في المسجد مع الشكّ في بقاء الداخل على كلّ تقدير. ولاستيعاب الحديث في هذه الصورة نعقد جهات:

 

جريان استصحاب الجامع بين الفردين

الجهة الاُولى: في جريان استصحاب الكلّي والجامع بين الفردين في هذه الصورة فيما إذا كان هو موضوع الأثر. وهنا ينبغي أن يقال: إنّه لا إشكال فوق ما ذكر في المقام السابق من المناقشة العامّة في استصحاب الكلّي بناءً على التصوّر الأوّل والثالث من التصوّرات الثلاثة لاستصحاب الكلّي. وأمّا لو بني على التصوّر الثاني القائل باستصحاب الحصّة، فسيتوجّه إشكالٌ؛ وهو: أنّ العلم واليقين في هذه الصورة لم يتعلّق بالحصّة؛ إذ الصحيح ـ كما حققناه في محلّه ـ: أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع بين الحصّتين دون هذه أو تلك. وعليه، فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيها.

أجل، لو قيل بمبنى المحقّق العراقي(قدس سره) من أنّ العلم يتعلّق بالواقع حقيقةً، أو قيل: بأنّ الاستصحاب لم يؤخذ فيه اليقين بالحدوث موضوعاً، وإنّما الموضوع هو واقع الحدوث، واليقين لا يعدو أن يكون طريقاً لإثباته، أمكن تصحيح هذا الاستصحاب. أمّا من دون الالتزام بأحد هذين المسلكين فلا يمكن بوجه إجراء الاستصحاب.

 

جريان استصحاب الفرد:

الجهة الثانية: في جريان استصحاب الفرد في هذه الصورة، فهل يجوز إجراء الاستصحاب بلحاظ الفرد الذي وجد على إجماله، أو لا يجوز ذلك؟ الصحيح: أنّه لا يجوز ذلك، إلاّ بعد الاعتراف بأحد المسلكين، أقصد مبنى المحقّق العراقي(رحمه الله) في متعلّق العلم الإجمالي من أنّه يتعلّق بالواقع لا بالجامع. أو مبنى: أنّ العلم واليقين ليس موضوع الاستصحاب، وإنما الموضوع هو واقع الحدوث. وأمّا من دون ذلك فلا يصحّ الاستصحاب في الفرد.

 

327

كفاية استصحاب الجامع عن استصحاب الفرد:

الجهة الثالثة: في أن استصحاب الجامع في هذه الصورة هل يكفي عن استصحاب الفرد، ويثبت الأثر المترتّب على الفرد، أو لا؟

وقد يستغرب في النظرة الاُولى من هذا التساؤل؛ إذ كيف يتصوّر ذلك مع أنّ استصحاب الجامع لا يجري لعدم الأثر فيه، حيث إنّ المفروض تعليق الأثر على الفرد، ولو جرى لا يفيد لإثبات الفرد بالجامع إلاّ بناءً على الأصل المثبت، وهو باطل على التحقيق.

والصحيح: أنّه بالإمكان تصحيح هذا الاستصحاب، وتخريجه بنحو تثبت به آثار الفرد.

بيان ذلك: أنّ هنالك تفسيرين لقوله(عليه السلام):«لا ينقض اليقين بالشكّ» أحدهما: يرى أنّ المدلول لهذه الجملة هو التعبّد بلحاظ المتيقّن، بأن يكون المقصود التعبّد ببقائه، أو ببقاء آثاره، أو جعل حكم مماثل لحكم المتيقّن ونحو ذلك. والثاني: يرى أنّ المدلول هو التعبّد بلحاظ نفس اليقين، بأن كان المقصود هو التعبّد ببقاء اليقين، وأنّه غير زائل بالشكّ، وأنّه ينبغي ترتيب نفس النتيجة التي كانت تثبت باليقين في حال الشكّ أيضاً.

فلو بنينا على الأوّل لم يصحّ هذا الاستصحاب، فإنّ المتيقّن ـ وهو الجامع ـ ليس له الأثر الشرعي، فلا يشمله التعبّد.

ولو بنينا على الثاني كان الاستصحاب صحيحاً لا محالة، فإنّ معنى الاستصحاب عندئذ هو جري العمل وفق ما كان يتطلّبه اليقين والعلم، ومن الواضح أنّ العلم الإجمالي حتّى عند من يرى تعلّقه بالجامع لا بالواقع يكون منجِّزاً لآثار الفردين الإلزامية، فيتطلّب من الشخص الجري وفق تلك الآثار، فإذا كان مغزى دليل الاستصحاب وجوب الجري وفق ما كان يتطلّبه العلم، ثبتت به ضرورة إجراء آثار الفرد في المقام.

وبما أنّنا قد ذكرنا في ما سبق: أنّ أدلّة الاستصحاب على قسمين: أحدهما ينظر إلى الحدوث، من قبيل قوله:«لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر»، والآخر ينظر إلى اليقين، من قبيل قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ»، فنحن نؤمن بكلا التفسيرين، أعني: التعبّد ببقاء المتيقّن وآثاره، والتعبّد بالجري وفق ما كان يتطلّبه اليقين، ونحن نستفيد من مكاسب كلا اللسانين الواردين، فمن ناحية نستفيد من الدليل الذي اُخذ فيه الحدوثُ الحكمَ ببقاء الحادث تعبداً، بلا تقيّد باليقين، فنُجري استصحاب ما ثبت حدوثه بالأمارة مثلاً، ونجري استصحاب الحصّة أو الفرد لدى العلم بالجامع. ومن ناحية اُخرى نؤمن ـ أيضاً ـ بالتعبّد بالجري العملي وفق ما يتطلّبه اليقين، فاستصحاب الجامع في المقام يكفي لترتيب آثار الفرد، فكأنّنا

328

بالاستصحاب نعلم إجمالاً بأحد الفردين بقاءً، كما كنّا كذلك حدوثاً.

 

كفاية استصحاب الفرد عن استصحاب الجامع:

الجهة الرابعة: في أنّ استصحاب الفرد هل يجزي عن استصحاب الجامع، بمعنى: أنّه يثبت الأثر المترتّب على الجامع، أو لا؟

والصحيح في هذه الناحية هو إجزاء استصحاب الفرد عن الكلّي، وإثباته لآثاره؛ لأنّ الصورة الفرديّة تتضمّن صورة الجامع، فالتعبّد بمحكيّها يكون بالدلالة التضمّنية تعبّداً بمحكيّ الجامع، ولم يكن مأخوذاً في موضوع الأثر الجامع بشرط لا عن الخصوصية، بل الجامع لا بشرط.

 

صورة العلم بالجامع ضمن فرد ثمّ الشكّ فيه للشكّ في ذلك الفرد:

الصورة الثانية: ما إذا علمنا بتحقّق الكلّي ضمن فرد خاصّ تفصيلاً، كما إذا علمنا بدخول زيد المسجد، وشككنا بعد ذلك في بقاء كلّي الإنسان فيه لاحتمال خروجه.

والحكم في هذه الصورة واضح، فإنّ استصحاب الكلّي يجري فيها على كلّ التصورات الثلاثة في استصحاب الكلّي: أمّا على التصوّر الأوّل القائل بوجود الكلّي وجوداً وحدانياً سعيّاً فواضح، حيث إنّ هذا الوجود تحقّق بتحقّق الفرد، فيستصحب. وأمّا على تصوّر رجوع استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحصّة فلأنّ الحصّة هنا معلومة؛ إذ الفرد معلوم حسب الفرض. وأمّا على تصوّر أنّ الاستصحاب كسائر المنجّزات والأحكام الشرعية والعقلية تعبّد بالجامع، وبالصورة الذهنية بحملها الأوّلي لا الشائع، فأيضاً يجري الاستصحاب؛ لأنّ الجامع والكلّي كان متصوراً ضمن تصوّر الفرد، ولا يضرّ بذلك تعلّق العلم والصورة الذهنية بالفرد، لا بالكلّي والجامع وحده، فإنّ هذا لا يمنع عن تعلّق التعبّد الاستصحابي بخصوص المقدار الجامع والكلّي الموجود ضمن الصورة الذهنيّة التفصيليّة. وهذا واضح.

وأوضح من استصحاب الكلّي في هذه الصورة استصحاب الفرد فيما إذا كان الأثر له، فإنّه جار من دون مانع؛ لتمامية أركان الاستصحاب فيه، والأمر في سائر الجهات واضح في هذه الصورة؛ فلا نطيل.

 

329

صورة العلم بالجامع ضمن الفرد المردّد بين الطويل والقصير:

الصورة الثالثة: ما إذا علمنا بتحقّق الكلّي ضمن أحد الفردين: الطويل الأمد أو قصيره، ثمّ شككنا في بقائه للشكّ في أنّ الحادث هل كان هو القصير فهو مرتفع قطعاً، أو الطويل فهو باق، أو محتمل البقاء، فيكون الشكّ في الكلّي من ناحية الشكّ في حدوث الفرد في هذه الصورة، وهي التي قد اصطلح عليها في رسائل الشيخ الأعظم بالقسم الثاني من الكلّي.

وهنا نعقد جهات للبحث أيضاً:

 

استصحاب الكلّيّ:

الجهة الاُولى: في استصحاب الكلّيّ.

من ناحية التصوّرات الثلاثة في استصحاب الكلّي واختلافها لا مزيد في استصحاب الكلّي في هذه الصورة على ما ذكر في الصورة الاُولى، لكنّها تختصّ دونها في مناقشات اُخرى عديدة بالإمكان استخلاصها في إشكالات رئيسة ثلاثة:

1 ـ إنّ استصحاب الكلّي بين الفردين لا يجري هنا؛ لعدم تماميّة الركن الثاني للاستصحاب فيه، وهو الشكّ في البقاء؛ ذلك أنّنا نريد إجراء الاستصحاب في العنوان الإجمالي الجامع بين الفردين، لا العنوان التفصيلي، لوضوح عدم اليقين بالحدوث في العنوان التفصيلي، فإذا كان الاستصحاب بلحاظ هذا العنوان الإجمالي المردّد بين الفردين الذي نحن على علم به، إذن لزم أن يكون الشكّ ـ أيضاً ـ شكاً فيه على تردّده، فإنّ الشكّ في كلّ معلوم يكون بحسبه، فلو كان اليقين تفصيليّاً فالشكّ يكون في متعلّقه بالتفصيل، ولو كان مردّداً بين أمرين ينبغي أن يكون الشكّ فيه موجوداً على كلا طرفي الترديد، ونحن هنا لا نشكّ إلاّ في بقاء الفرد الطويل الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي، وأمّا الطرف الآخر فهو مقطوع العدم بقاءً، إذن، فالعلم واليقين قد تعلّق بالجامع المردّد بين الفردين، بينما الشكّ طارئ على أحد الفردين والطرفين.

وهذا النقاش جوابه واضح، ذلك أنّه مبنيّ على تصوّر تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد بين الفردين، وعليه يقال: بأن الشكّ فيه ينبغي أن يكون متعلّقاً بهذا الفرد المردّد؛ لكي يكون شكّاً في المعلوم، بَيدَ أنّا حقّقنا في محله أنّ الفرد المردّد كما يستحيل في الخارج يستحيل في الذهن أيضاً، وأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، وهو صورة ذهنية معيّنة غير مردّدة

330

أصلاً، ومن الواضح: أنّ الشكّ في الجامع والصورة الكلّية يكون من الشكّ في الأفراد، فهذه الصورة الجامعة بين الفردين المعلومة سابقاً يحتمل بقاؤها واستمرارها بمجرّد احتمال بقاء أحد الفردين على تقدير حدوثه.

2 ـ دعوى معارضة استصحاب الكلّي في هذه الصورة لاستصحاب عدم الفرد الطويل، وذلك: أنّ المفروض ترتّب الأثر على الكلّي والجامع، فيكون موضوع الحكم الشرعي هو الكلّي الذي يوجد بوجود الفرد، فيكون ـ لا محالة ـ عدم المحمول موضوعه عدم الموضوع، أي: عدم الكلّي، وعدم الكلّي يتحقّق بعدم هذا الفرد وذاك الفرد وذلك الفرد، وهكذا إلى تمام الأفراد، ونحن في المقام نعلم في الآن اللاحق أنّ الفرد القصير غير موجود، وإنّما نحتمل بقاء الكلّي ضمن الفرد الطويل، فنستصحب عدمه، وبذلك نضم التعبّد بعدم هذا الفرد إلى العلم الوجداني بعدم فرد آخر، ونثبت عدم الأثر، لأنّه مترتّب على عدم الكلّي الذي يعني عدم الأفراد. وقد أحرزناه بالتلفيق بين التعبّد والوجدان، وهو أمر جائز، فينافي استصحاب الكلّي ويعارضه.

وتفصيل الحديث في هذه المناقشة أن نقول: إنّ موضوع الأثر الشرعي تارةً هو الحصّة، كما إذا كان دليل الحكم قد اثبته على الطبيعة بنحو مطلق الوجود والاستغراق، بأن جعل لكلّ حصّة فرداً من الحكم يستقلّ في كونه موضوعاً له، وطوراً يكون الموضوع هو الطبيعة بنحو صرف الوجود.

فعلى الأوّل يكون هذا النقاش صحيحاً، وفي محلّه؛ لأنّ الموضوع إذا كان هو الحصّة فاستصحاب عدم الفرد ـ أو قل: عدم الحصّة الطويلة ـ ينفي ذلك الفرد من الحكم المرتّب على هذه الحصّة، والمفروض أنّنا نعلم بعدم وجود حصّة اُخرى تستقلّ بالحكم، فلا محالة ينتفي الحكم باستصحاب عدم الفرد الطويل، فيكون معارضاً لاستصحاب بقاء الجامع بناءً على جريانه لإثبات الحكم.

وأمّا على الثاني بأن كان الأثر للكلّي والجامع والطبيعة، بأن كانت هي الموضوع للحكم والأثر الشرعي، والأفراد والحصص مصاديق له ليس إلاّ، فإن بنينا على التصوّر الذي يرجع استصحاب الجامع إلى استصحاب الحصّة، فأيضاً لهذه المناقشة مجال، فإنّ استصحاب عدم الحصّة الطويلة ينفي ما يثبته استصحاب الحصّة، غير أنّ هذا بالحقيقة ليس استصحاباً للكلّي وللجامع، بل هو استصحاب الحصّة.

وأمّا إذا بنينا على الكلّي الهمداني، أو التصوّر الثالث، فهذا النقاش غير تام.

331

أمّا على الأوّل فلأنّ استصحاب عدم الحصّة الطويلة لا يثبت عدم الكلّي الهمداني، أي: الوجود السعي للطبيعة إلاّ بالملازمة العقلية بين انعدام الأفراد وانعدام الكلّي السعي.

وأمّا على الثاني، أعني التصوّر الثالث الذي كان يعتبر الاستصحاب كسائر الأحكام الشرعية والمنجّزات العقلية يركب وينحط على الوجودات والصور الذهنية بالحمل الأوّلي، أي: بمقدار حكايتها عن الخارج، فاستصحاب الكلّي تعبّد على قدر محكيّ الصورة الإجمالية، كما أنّ استصحاب الفرد تعبّد على قدر محكيّ الصورة التفصيليّة، ولا مجال ـ أيضاً ـ لإشكال المعارضة، فإنّ استصحاب عدم الفرد الطويل يعني التعبّد بعدم محكيّ الصورة الذهنيّة التفصيلية، وهذا لايثبت عدم محكيّ الصورة الذهنية الإجمالية إلاّ على أساس الملازمة.

3 ـ إنّ الشكّ في باب الاستصحاب يجب أن يكون شكّاً في البقاء، فإنّ الاستصحاب تعبّد ببقاء ما كان كما هو واضح، في حين أنّ هذا غير محرز في المقام؛ وذلك لأنّ ما كان لو كان عبارة في علم الله عن الفرد القصير، فنحن قاطعون بزواله، ولو كان عبارة عن الفرد الآخر فنحن نحتمل بقاءه أو نجزم ببقائه. إذن فالتمسّك بقوله:« لا تنقض اليقين بالشكّ» أو «لا تنقض اليقين بالشكّ في البقاء» تمسّك بالعامّ من دون إحراز موضوعه، وهو الشكّ في البقاء؛ إذ على الأقلّ نحتمل كون الحادث مقطوع الارتفاع.

ولابدّ من الرجوع في مقام الإجابة عن هذه المناقشة الى التصورات الثلاثة عن الكلّي.

أمّا على التصوّر الأوّل وهو تصوّر الرجل الهمداني، فهذا الإشكال واضح الجواب؛ وذلك لأنّ المفروض ترتب الأثر على الكلّي ذي الوجود السعي وهذا الكلّي متعلّق للشكّ في البقاء، ولم يكن مقطوع الارتفاع، وإنّما المقطوع ارتفاعه هو الفرد الذي لا نريد إجراء استصحابه، فهذه المناقشة على هذا التصوّر للمستصحب تكون من باب الخلط بين الكلّي والفرد، وكأنّ صاحبها يتصوّر أنّ المراد استصحاب ذلك الفرد الذي تحقّق، فقال: إنّ هذا مقطوع الارتفاع على تقدير، وليس بمشكوك البقاء على كلّ تقدير.

وأمّا على التصوّر الثاني الذي كان يرجع استصحاب الجامع إلى استصحاب الحصّة، فهذه المناقشة تامّة، لكن هذا في الواقع ليس استصحاباً للكلّي، بل هو ملحق باستصحاب الفرد المردّد الذي سوف يأتي تفصيل الكلام فيه في الجهة الآتية.

وأمّا على التصوّر الثالث الذي كان يرى الاستصحاب منصبّاً على الصور الذهنية بحملها الأوّلي، أي: بمقدار حكايتها عن الخارج، فوجه المغالطة واضح، فإنّ استصحاب الكلّي على

332

هذا يعني التعبّد ببقاء الصورة الذهنية الكلّية، لكن بلحاظ ما تحكي عنه، وبما أنّ المفروض ترتّب الأثر عليه لا على الفرد، فلا ريب في صحّة هذا الاستصحاب وتماميّة أركانه فيه، فإنّ الصورة الذهنية الكلّية لسنا على يقين بارتفاعها، وإنّما نشكّ في ذلك. نعم، الصورة التفصيلية للفرد القصير نحن نقطع بارتفاعها، إلاّ أنّ هذا لا يعني تعلّق القطع بارتفاع الصورة الكلّيّة التي هي مصبّ الاستصحاب.

وبهذا ينتهي استعراض المناقشات التي أوردوها على استصحاب الكلّي في هذه الصورة، وقد تبيّن من ذلك عدم تماميّة شيء منها، وأنّ الصحيح جريان استصحاب الكلّيّ في المقام.

 

استصحاب الفرد:

الجهة الثانية: في استصحاب الفرد في هذه الصورة، وذلك فيما إذا كان الأثر للفرد لا للكلّي، كما إذا رتّب المولى وجوب الصدقة على وجود زيد في المسجد بما هو زيد، وكذلك رتّب حكماً من سنخ الأوّل أو غيره على وجود عمرو فيه، وعلمنا إجمالاً بدخول أحدهما في المسجد مع القطع بخروجه لو كان زيداً؛ لأنّنا رأيناه في الخارج، فهل بالإمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ الفرد الذي كان موضوعاً للأثر وكان داخلاً في المسجد قطعاً، أو لا يمكن ذلك؟

الصحيح: أنّه لا يجري، وذلك لعدّة نقاط لا يمكن التخلّص من بعضها وإن كان البعض الآخر ممّا يمكن تفاديه، ونقاط الضعف هذه مايلي:

أ ـ عدم اليقين بالحدوث بالنسبة للفرد؛ لأنّ العلم الإجمالي لم يتعلّق إلاّ بالجامع، وهو عنوان أحد الفردين مثلاً، لا بالعنوان التفصيلي المفروض ترتّب الأثر عليه، والمقصود استصحابه.

وهذه النقطة للضعف هي التي ذكرت في الجهة الثانية للصورة الاُولى من الصور الأربع، وقد مرّ هناك: أنّ هذا النقاش يمكن التخلّص عنه بأحد أمرين: إمّا الاعتراف بمبنى المحقّق العراقي(قدس سره) من تعلّق العلم بالواقع لا بالجامع، أو الإيمان بأنّ اليقين بالحدوث ليس ركناً في الاستصحاب، وإنّما الركن هو ذات الحدوث، كما هو الذي استفدناه نحن من بعض روايات الاستصحاب.

ب ـ عدم الشكّ في البقاء على أحد التقديرين، توضيح ذلك: أنّ هناك فرقاً بين هذه الصورة والصورة الاُولى. ففي الصورة الاُولى كان الحادث محتمل البقاء على كلا تقديريه،

333

فبعد فرض حلّ مشكلة اليقين السابق: إمّا بإنكار ركنيّة اليقين، أو بدعوى تعلّق العلم الإجمالي بالواقع، كنّا نثبت قضيتين شرطيّتين ببركة الاستصحاب، أي: كنّا نقول: إنْ كان الحادث هو زيداً فاستصحاب الفرد الواقع المعيّن عند الله المردّد عندنا قد حكم ببقائه، وإن كان الحادث هو عمراً فذاك الاستصحاب قد حكم ببقائه، وبما أنّنا نعلم إجمالاً بصدق أحد الشرطين، كان يحصل لنا العلم الإجمالي بأحد الجزاءين، وآثاره الشرعية، وكان هذا العلم الإجمالي منجِّزاً. أمّا في ما نحن فيه فأحد الفردين مقطوع الارتفاع، فلا يمكن إجراء الاستصحاب بشأنه على تقدير حدوثه. وأمّا الفرد الآخر فإن قصد باستصحابه ـ مع فرض الشكّ في بقائه على تقدير الحدوث دون القطع به ـ إثبات أثره بالخصوص، فهذا غير ممكن؛ لأنّه ليس مقطوع الحدوث بالتفصيل، فموضوع الاستصحاب سواء كان هو اليقين أو هو الحدوث غير محرز. وإن قصد باستصحابه على تقدير الحدوث تكوين العلم الإجمالي، كما في الصورة الاُولى، فالعِدل الآخر للعلم الإجمالي مفقود، وهو استصحاب الفرد الأوّل؛ للقطع بانتهائه حسب الفرض، فلا يتكوّن لدينا علم إجمالي.

ج ـ لو غضّ النظر عمّا سبق من عدم الشكّ في البقاء على كلّ تقدير، وتخيّل أنّ الشكّ في البقاء بلحاظ عنوان ما حدث، ولو باعتبار تردّد ما حدث بين مقطوع الارتفاع وغيره كاف في انحفاظ الركن الثاني للاستصحاب بلحاظ واقع ما حدث، قلنا: إنّ هذا الاستصحاب لا يجدي شيئاً في المقام لعيب آخر، وهو: أنّ غاية ما يمكن أن يقال في المقام هو: إنّه يتكوّن لنا علم إجماليّ بأحد استصحابين ظاهريين: إمّا استصحاب الفرد القصير، وإمّا استصحاب الفرد الآخر ـ ولنفترض أنّنا لم نقطع ببقاء الفرد الآخر على تقدير حدوثه ـ إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي المفترض لا قيمة له؛ لأنّ أحد الاستصحابين غير قابل للتنجيز، وهو استصحاب الفرد القصير؛ لأنّ المفروض العلم الوجداني بانتهاء الفرد القصير وانتهاء حكمه. فهذا العلم الإجمالي ليس علماً إجمالياً بحكم قابل للتنجيز، وبكلمة اُخرى: لو فرض محالاً العلم الإجمالي الوجداني بأحد حكمين مع العلم التفصيلي بعدم الفرد القصير منهما، لما كان هذا العلم الإجمالي منجِّزاً، فكيف يكون العلم الإجمالي التعبّدي والمنزّل منزلة مثل هذا العلم الإجمالي منجزاً عقلاً؟!

هذا كلّه مناقشتنا لاستصحاب واقع الفرد، بأن نشير إلى واقع الحادث المعيّن عند الله المردّد عندنا بعنوان مشير.

وقد يفترض أنّنا نجعل مصبّ الاستصحاب العنوان الانتزاعي، كعنوان أحدهما بذاته(لا

334

بما هو عنوان مشير)، ولكن نرتّب على ذلك تنجيز أثر واقع الفرد، وهذا سنخ ما مضى منّا في الجهة الثالثة من الصورة الاُولى، من أنّنا نستصحب الجامع لتنجيز وترتيب آثار الفرد بناءً على أنّ الاستصحاب يعبّدنا وفق ما يتطلّبه اليقين من الجري، واليقين بالجامع يتطلّب منّا الجري وفق الآثار الإلزامية لكلا الفردين، فالاستصحاب ـ أيضاً ـ يحلّ محلّ اليقين في ذلك، فلنقل في المقام أيضاً: إنّ استصحاب الجامع علم إجماليّ تعبّدي ينجّز آثار الأفراد المحتملة.

إلاّ أنّ هذا ـ أيضاً ـ باطل في المقام لأمرين:

أوّلاً: ما اتّضح ممّا مضى من أنّ هذا يعني التعبّد بالجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز؛ لأنّ الفرد القصير بعد العلم بانتهائه لا يقبل التنجيز.

وثانياً: بعد التنزّل عن الإشكال الأوّل، وافتراض أنّ التعبّد بالجامع بين فردين أحدهما غير قابل للتنجيز يوجب تنجيز الفرد الآخر، نقول: إنّ هذا العلم الإجمالي التعبّدي في المقام لا يكفي لتنجيز الفرد الطويل الذي لم نقطع بارتفاعه؛ لأنّنا إمّا أن نبني في تنجيز العلم الإجمالي على الاقتضاء أو على العلّيّة:

فإن بنينا على الاقتضاء فلا تنجيز لهذا العلم الإجمالي التعبّدي؛ وذلك لجريان الأصل المؤمّن كاستصحاب العدم، أو البراءة عن الفرد الطويل الذي هو طرف لهذا العلم الإجمالي. ولا معارض له حتّى يسقط بالتعارض؛ لأنّ الفرد القصير لا يجري فيه الأصل بعد العلم بارتفاعه.

وإن بنينا على العلّيّة قلنا: إنّ هذا العلم الإجمالي لمّا لم يكن علماً إجمالياً وجدانياً، بل كان وليداً للتعبّد الاستصحابي، فهذا الاستصحاب الذي شكّل هذا العلم الإجمالي التنزيلي معارض بالأصل العمليّ المؤمّن عن الفرد الطويل؛ لأنّ التعبّد الاستصحابي بالعلم بالجامع يريد تنجيز هذا الفرد، واستصحاب عدم هذا الفرد أو البراءة عنه يقتضي التأمين عنه، واستصحاب الجامع لا يكون حاكماً على البراءة عن الفرد بناءً على مباني الحكومة؛ لأنّ تلك المباني إنّما تكون فيما إذا كان مصبّ الاستصحاب والبراءة واحداً. وهنا مصبّ الاستصحاب هو الجامع، ومصبّ البراءة هو الفرد(1).

 


(1) إنّ تعدّد مصبّ الاستصحاب والبراءة مع التعارض بينهما يكون بنحوين:

الأوّل: افتراض الاستصحاب النافي للتكليف في أحد طرفي العلم الإجمالي، والبراءة في الطرف الآخر، فكلّ منهما لو كان وحده كان جارياً بناءً على كون تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بالاقتضاء لا بالعلّيّة،

335

أقسام استصحاب الفرد المردّد بين القصير والطويل

الجهة الثالثة: في أقسام استصحاب الفرد المردّد بين القصير والطويل، وصور كلّ قسم منه، وحكم كلّ صورة من حيث جريان الاستصحاب فيه وعدم جريانه.

ونقصد باستصحاب الفرد الاستصحاب الذي يُجرى لهدف إثبات آثار الفرد سواءً كان استصحاباً لواقع الفرد، أو استصحاباً للجامع بين الفردين بهدف تنجيز أثر الفرد. ونجري التقسيم في ذلك:

أوّلاً: بلحاظ علمنا بحدوث أحد الفردين، وعلمنا بكون أحدهما قصيراً، فبملاحظة هذين الأمرين نستخلص أقساماً ثلاثة: واحد منها أجنبيّ عن باب الفرد المردّد، وأثنان منها مرتبطان بهذا الباب:

 


والآن قد تعارضا، وهنا لا تجري نكتة الحكومة فيتعارض الاستصحاب والبراءة، ويتساقطان.

والثاني: افتراض استصحاب الجامع الموجب للعلم الإجمالي التعبّدي بالتكليف، والبراءة عن الفرد الطويل، فهما يتعارضان بناءً على علّيّة العلم الإجمالي لتنجيز الموافقة القطعية، وقد ورد في المتن أنّ نكتة الحكومة غير موجودة هنا.

ولكن قد يدّعى في المقام ثبوت نكتة الحكومة. وتوضيح ذلك: أنّ نكتة الحكومة المفترضة للاستصحاب على البراءة لدى وحدة المصبّ هي: أنّ البراءة حدّد جعلها بفرض الشكّ، والاستصحاب يرفع الشكّ: إمّا وفق مسلك التنزيل، أو وفق مسلك الاعتبار، ومن الواضح أنّه بناءً على علّيّة العلم الإجمالي للتنجيز يكون جعل البراءة محدّداً ـ أيضاً ـ بعدم العلم الإجمالي بالجامع، والاستصحاب يرفع هذا العدم: إمّا وفق مسلك التنزيل، أو وفق مسلك الاعتبار، فلا فرق إذن بين الاستصحاب الذي يكون مصبّه هو مصبّ البراءة، والاستصحاب الذي يكون مصبّه الجامع.

والصحيح في المقام هو التفصيل بين فرض دعوى الحكومة على أساس التنزيل ودعواها على أساس مسلك الاعتبار القائل بأنّ جعل شيء علماً بالاعتبار يخلق له نفس الأثار العقلية من التنجيز والتعذير:

فلو قلنا بالحكومة على أساس التنزيل لم يبقَ فرق بين الإستصحاب الجاري في مورد البراءة والاستصحاب الجاري في الجامع؛ لما مضى من أنّ البراءة كما هي محدّدة بعدم العلم بموردها كذلك هي محدّدة بعدم العلم بالجامع، لفرض الإيمان بالعلّيّة، وقد نزّل الاستصحاب منزلة العلم.

ولو قلنا بالحكومة على أساس الاعتبار فبالإمكان التفصيل بين المقامين؛ وذلك لأنّ تقيّد البراءة بعدم العلم بالتكليف في موردها ثابت في نفس لسان دليل البراءة، وهو قوله:«رفع ما لا يعلمون»، فليس دليل البراءة قادراً على نفي حدّها، وهو العلم، فدليل الاستصحاب الخالق للعلم يكون حاكماً عليه، ولكن تقيّد البراءة بعدم العلم بالجامع ليس إلاّ بدليل العقل الحاكم بعلّيّة العلم الإجمالي للتنجيز، فدليل البراءة ينفي هذا العلم بناءً على ما هو الحقّ من جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللّبّي في مثل المقام، فيقع التعارض بين البراءة والاستصحاب.

336

القسم الأوّل: أن يكون شكّنا في البقاء ناتجاً عن كون العلم بالحدوث علماً إجمالياً بأحد فردين: إمّا القصير أو الطويل. أمّا علمنا بالقصر فهو علم تفصيلي، كما إذا رأينا زيداً في الزمان الثاني خارج المسجد، فعلمنا أنّه لو كان هو الداخل في المسجد فقد خرج، فهذا الفرد من الموضوع فرد قصير، وشككنا في أنّ الداخل في المسجد في الزمان الأوّل هل هو زيد أو عمرو؟

القسم الثاني: أن يكون شكّنا في البقاء ناتجاً عن إجماليّة العلم بالقصر. أمّا العلم بالحادث فهو علم تفصيلي، كما إذا علمنا تفصيلاً بدخول زيد في المسجد في الزمان الأوّل، ثمّ شككنا في أنّ الذي رأيناه في الزمان الثاني خارج المسجد هل هو زيد أو عمرو، فشككنا في أنّ وجود زيد هو الفرد القصير على تقدير حدوثه، أو وجود عمرو.

القسم الثالث: أن يكون شكّنا في البقاء مستنداً إلى إجمالية كلا العلمين، كما لو علمنا في الزمان الأوّل إجمالاً بدخول زيد أو عمرو في المسجد، ثمّ شككنا في أنّ الذي رأيناه في الزمان الثاني خارج المسجد هل هو زيد أو عمرو؟

وثانياً: بلحاظ كيفيّة علمنا بتعلّق الحكم، فكلّ قسم من تلك الأقسام الثلاثة الماضية تحته فروض عديدة بلحاظ كيفيّة علمنا بتعلّق الحكم، فتارةً يفترض كون الحكم متعدّداً، بأن كان قد تعلّق بكلّ واحد من الفردين حكم سواءٌ كان الحكمان من سنخين كوجوب الصدقة ووجوب الصلاة، أو من سنخ واحد كوجوب الصدقة ووجوب الصدقة فيما إذا كان كلّ فرد موضوعاً مستقلاً للحكم، واُخرى يفترض كون الحكم واحداً تعلّق بأحد الفردين دون الآخر. وعلى كلّ من التقديرين تارةً يكون موضوع الحكم أو الحكمين معلوماً بالتفصيل، واُخرى يكون معلوماً بالإجمال. فهذه صور أربع تحت كلّ قسم من الأقسام الثلاثة الاُولى:

أمّا الحديث في هذه الأقسام فهو مايلي:

القسم الأوّل: ما إذا شخّصنا الفرد القصير بعنوانه التفصيلي كما إذا رأينا زيداً في الزمان الثاني خارج المسجد فعلمنا أنّه لو كان قد دخل المسجد فقد خرج، ولكن الحادث كان معلوماً بالإجمال لا بالتفصيل، فتردّدنا بين أن يكون الذي دخل المسجد في الزمان الأوّل زيداً أو عمراً، وتحت هذا القسم صور أربع كما عرفت:

1 ـ أن يكون الحكم متعدّداً وموضوعهما معلوماً تفصيلاً، كما لو علمنا بوجوب الصدقة على تقدير كون زيد في المسجد، ووجوب الصلاة على تقدير كون عمرو في المسجد.

337

وهذه الصوره هي التي كنّا نتكلّم عنها في الجهة السابقة، والحكم فيها ما ذكرناه من أنّ استصحاب الفرد المردّد الذي علمنا بدخوله في المسجد لا يجري؛ لأنّه إن قصد بذلك استصحاب واقع الفرد فهو محتمل الانطباق على ما قطع بارتفاعه، وإن قصد بذلك استصحاب الجامع الانتزاعي بين الفردين لترتيب آثار الفرد، فهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح؛ لأنّ أحد الطرفين وهو القصير يعلم بارتفاعه، وبانقطاع حكمه، فلا يمكن تنجيزه وتنجيز الطرف الآخر وحده ليس من شأن العلم الإجمالي.

2 ـ أن يكون الحكم واحداً، ولنفرضه وجوب الصدقة مثلاً، وقد عرفنا موضوعه بالتفصيل بأن كان موضوعه الفرد الطويل لا القصير، وإلاّ لقطعنا بعدم التكليف في الزمان الثاني، وفي مثل هذه الصورة لا يجري استصحاب الفرد المردّد حتّى لو قيل بتماميته في الصورة الاُولى، لأنّه إن قصد بذلك استصحاب واقع الفرد فانطباقه على الفرد الطويل الذي هو موضوع الحكم غير معلوم، وإن قصد بذلك استصحاب الجامع الانتزاعي بقصد توليد العلم الإجمالي بأحد الفردين المنجّز لحكم الفرد، فهذا قد يفترض تماميّته في الصورة الاُولى بتخيّل أنّ العلم الإجمالي التعبّدي بموضوع ذي حكم وإن عجز عن تنجيز حكم الفرد القصير للعلم الوجداني بانتفائه، لكنه يبقى منجّزاً لحكم الفرد الآخر مادام الشارع قد عبّدنا ـ على أيّ حال ـ بحكم إلزامي، أو قل: بالجامع بين موضوعين لحكم الزامي، ولكن عدم تماميّته في هذه الصورة أوضح؛ لأنّه أساساً ليس علماً إجمالياً تعبّدياً بموضوع ذي حكم، أو علماً إجمالياً تعبّدياً بحكم إلزامي، بل هو علم إجمالي بالجامع بين الفرد الطويل الذي يترتّب عليه الحكم والفرد القصير الذي ليس موضوعاً للحكم، ولم يشكّ أحد في أنّ العلم الحدوثي الوجداني بالجامع بين ما له الحكم وما ليس له الحكم لا قيمة له، فكيف تفترض قيمة للتعبّد ببقاء علم من هذا القبيل؟!

3 ـ ما إذا كان الحكم متعدّداً، لكن موضوعهما معلوم إجمالاً لا تفصيلاً ـ وهذا لا يكون بالطبع إلاّ فيما إذا كان الحكمان غير متسانخين ـ، فنعلم بوجوب الصدقة وبوجوب الصلاة، كما نعلم بأنّ أحد الوجوبين مرتّب على وجود زيد في المسجد، والآخر على وجود عمرو في المسجد، والمفروض: أنّنا نعلم بعدم بقاء زيد في الآن الثاني بعد أن علمنا بأنّ أحدهما قد دخل المسجد في الآن الأوّل.

والحكم في هذه الصورة جريان استصحاب الفرد المردّد حتّى لو قلنا بعدم استصحابه في الصورة الاُولى؛ وذلك لأنّنا لا نجري الاستصحاب في واقع الفرد كي يقال: إنّه يحتمل أن

338

يكون مقطوع الارتفاع، بل نجريه في العنوان الإجمالي الانتزاعي لإثبات أثر الفرد بالعلم الإجمالي؛ لأنّه في هذه الصورة لا يعلم بارتفاع أحد الحكمين بالتفصيل كما في الصورة الاُولى، فلا وجوب الصدقة معلوم الارتفاع، ولا وجوب الصلاة، فكلّ منهما محتمل عند المكلّف، ومعه يمكن للمولى أن لا يرفع يده عن الواقع، ويحافظ عليه على كلّ تقدير، فيكون العلم الإجمالي التكويني أو التنزيلي المتمثّل في الاستصحاب منجّزاً لكلا الحكمين(1). والعلم بعدم وجود أحد الحكمين إجمالاً في الآن الثاني لا يمنع عن التنجيز، فإنّ العلم الإجمالي بالترخيص وعدم الحكم لا يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي بالحكم، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين وطهارة الآخر، فإنّ العلم بالطهارة وعدم لزوم الاجتناب بالنسبة لأحد الطرفين لا يمنع عن تنجّز التكليف المعلوم، ولزوم الاجتناب عن كلا الطرفين.

4 ـ أن يكون الحكم واحداً، ويكون موضوعه مردّداً معلوماً بالإجمال، كما لو علمنا بأنّ وجود زيد أو وجود عمرو في المسجد موضوع لوجوب الصدقة، وعلمنا بدخول أحدهما فيه في الآن الأوّل، والمفروض العلم تفصيلاً بخروج زيد لو كان هو الداخل.


(1) لا يخفى؛ أنّ استصحاب الجامع الانتزاعي لإثبات أثر الفرد كان يرد عليه في الصورة الاُولى اعتراضان:

1 ـ أنّ العلم الإجمالي التعبّدي الذي يتولّد من هذا الاستصحاب لا يكون مؤثّراً في تنجيز آثار الفرد؛ لأنّ أحد طرفيه ـ وهو أثر الفرد القصير ـ غير قابل للتنجيز للعلم الوجداني التفصيلي بانتفائه.

2 ـ لو قبلنا أنّ هذا العلم الإجمالي التعبّدي بإمكانه أن ينجّز أثر الفرد الآخر ـ وهو الفرد الطويل ـ لوحده رغم عجزه عن تنجيز الطرف الأوّل، قلنا: إنّ الأصل المؤمّن في طرف الفرد الطويل يصبح مانعاً عن تأثير العلم الإجمالي، بناءً على اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز؛ لأنّ هذا الأصل المؤمّن لا معارض له، فهو يمنع المقتضي عن التأثير، ويعارض استصحاب الجامع، ويتساقطان بناءً على علّيّة العلم الإجمالي للتنجيز.

أمّا في هذه الصورة الثالثة، فالاعتراض الأوّل لا يرد؛ لأنّ شيئاً من الحكمين ليس مقطوع الانتفاء. فحكم الفرد القصير لو ميّزناه عن الحكم الآخر بإضافته إلى موضوعه ـ وهو الفرد القصير ـ وإن كان مقطوع الانتفاء، لكن حينما نميّزه عن الحكم الآخر بإضافته إلى متعلّقه فحسب، أي: بعنوان وجوب الصدقة ووجوب الصلاة، فشيء منهما ليس مقطوع الانتفاء، فهما يتنجّزان بهذا العلم الإجمالي التعبّدي، ولكن الاعتراض الثاني يرد في المقام؛ وذلك لأنّ الأصل المؤمّن عن كلّ من الحكمين لو مَيّزنا أحدهما عن الآخر بمجرد الإضافة إلى المتعلّق وإن كانا متعارضين، فالبراءة عن وجوب الصدقة مثلاً تعارض البراءة عن وجوب الصلاة، ولكنّنا لو ميّزنا أحدهما عن الآخر بالإضافة إلى موضوعه، فالأصل المؤمّن عن حكم الفرد الطويل لا يعارضه الأصل المؤمّن عن الحكم الآخر؛ لأنّ الفرد القصير مقطوع الارتفاع، فيصبح هذا الأصل مانعاً عن تأثير العلم الإجمالي بناءً على الاقتضاء، ومعارضاً لاستصحاب الجامع بناءً على العليّة. فلعلّ ما ورد في المتن من التفريق بين هذه الصورة والصورة الاُولى، وأنّ الاستصحاب حتّى لو لم يتمّ في الصورة الاُولى يتمّ في هذه الصورة، كان مبنيّاً على قصر النظر على الاعتراض الأوّل، والغمض عن الاعتراض الثاني.

339

وهذه الصورة تلحق بالصورة الثانية فيما إذا لم يعلم فيها بوحدة المعلومين الإجماليين، أعني المعلوم دخوله والمعلوم كونه موضوعاً للحكم، فإنّه على هذا التقدير لم يحرز العلم بموضوع التكليف أصلاً، وتلحق بالصورة الثالثة فيما إذا علم بوحدة المعلومين الإجماليين، وأنّ الذي دخل المسجد على إجماله كان هو موضوع الحكم، حيث يجري فيها استصحاب الفرد المردّد، بمعنى استصحاب الجامع الانتزاعي لتكوين العلم التعبّدي بفرد ذي حكم(1).

القسم الثاني: ما إذا علمنا بأنّ أحد الفردين من زيد وعمرو خارج في الزمان الثاني عن المسجد، لكنّا كنّا نعلم بأنّ الداخل فيه في الزمان الأوّل هو زيد مثلاً الذي هو موضوع للحكم الشرعي، فهنا يجري استصحاب بقائه بعنوانه التفصيلي، وهو من استصحاب الفرد المعيّن، ولا علاقة له بباب الفرد المردّد.

القسم الثالث: ما إذا كان كلّ من الفرد الحادث والفرد القصير معلوماً بالإجمال، كما إذا علمنا إجمالاً بدخول زيد أو عمرو في المسجد في الآن الأوّل، وعلمنا بعد ذلك بوجود شخص خارج المسجد: إمّا هو زيد أو عمرو.

وهنا يجري استصحاب واقع الفرد بأن نتّخذ عنوان أحدهما الحادث مثلاً رمزاً إلى الواقع ونستصحبه، ويجري أيضاً استصحاب الجامع، بأن ننظر إلى عنوان أحدهما بوصفه جامعاً انتزاعياً لا رمزاً إلى الواقع ونستصحبه، فالاستصحاب الأوّل يجري في المقام لأنّه لا يوجد علم تفصيلي في أحد الفردين بالخروج، كي يرد: أنّ واقع الفرد محتمل الانطباق على ما نعلم بارتفاعه. وأمّا إشكال عدم اليقين بالحدوث فقد عرفنا إمكان الجواب عنه بكفاية الحدوث وحده لإجراء الاستصحاب. والاستصحاب الثاني ـ أيضاً ـ يجري في المقام لترتيب آثار الفرد بناءً على ما استفدنا من بعض الروايات من الأمر بالجري العملي وفق ما كان يتطلّبه اليقين(2).

 


(1) قد عرفت منّا عدم جريان الاستصحاب، لا في الصورة الثانية ولا في الصورة الثالثة، فهذه الصورة الرابعة ـ أيضاً ـ لا يجري الاستصحاب فيها، سواءٌ ما يلحق منها بالصورة الثانية وما يلحق منها بالصورة الثالثة.

(2) ولا يرد عليه شيء من الإشكالين اللذين مضى إيرادهما على استصحاب الجامع لترتيب آثار الفرد في الصورة الأولى:

أمّا الإشكال الأوّل وهو عدم قابليّة أحد الطرفين للتنجيز، فواضع؛ لعدم القطع الوجداني التفصيلي بانتفاء أيّ واحد من الحكمين، فكلاهما قابل للتنجيز.

وأمّا الإشكال الثاني وهو جريان الأصل المؤمّن عن أحد الحكمين بلا معارض، فأيضاً واضح؛ لأنّنا سواء

340

وكلّ واحد من هذين الأسلوبين للاستصحاب أثره تكوين علم إجماليّ بأحد الفردين:

نعم، كلّ هذا مشروط بأن يكون هذا العلم التعبّدي علماً بما يكون موضوعاً للحكم الشرعي على كلا التقديرين، فنستثني من الاستصحاب الصورة الثانية، والشقّ الأوّل من الصورة الرابعة؛ إذ فيهما لا يتكوّن علم إجمالي بحكم شرعي، أو بموضوع ذي حكم شرعي على كلّ تقدير.

 

ضابط استصحاب الفرد المردّد:

الجهة الرابعة: في ضابط استصحاب الفرد المردّد.

وقد عقدنا هذا البحث للتنبيه على خطأ كلام وارد في تقرير الشيخ الكاظمي(رحمه الله)، حيث جاء فيه: أنّه لو علم بوجود حيوان في الدار وتردّد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربيّ، ثمّ انهدم الجانب الغربيّ، وكان ذلك موجباً لموت الحيوان لو كان في ذاك الجانب، فاستصحاب بقاء الحيوان هنا ليس من استصحاب الكلّي؛ لأنّ المتيقّن السابق أمر جزئيّ حقيقي، وهو أشبه باستصحاب الفرد المردّد بين الطويل والقصير، والذي لا يجري بعد ارتفاع أحد فردي الترديد(1).

وهذا الكلام ـ لو اُريد ظاهره فهو غريب جدّاً ـ ناتج عن الغفلة عن ضابط استصحاب الفرد المردّد، فإنّه ليس استصحاب كلّ فرد يكون منتفياً على تقدير، من قبيل استصحاب الفرد المردّد، وغير جار للجزم بانتفائه على بعض التقادير، وإنّما الميزان في ذلك هو أن يكون القطع بالانتفاء بنحو القضية التنجيزيّة، لا بنحو القضية الشرطيّة التعليقية، وذلك: لأنّه تارةً يقطع بالفعل بانتفاء الفرد، كما في مثال دخول زيد أو عمرو في المسجد، مع الجزم بخروج زيد لو كان قد دخل، فهنا يكون استصحاب واقع الفرد المردّد عندنا المعيّن عندالله محتمل


حصّصنا هنا الحكم إلى حكمين بالإضافة إلى متعلّقه أو بالإضافة إلى موضوعه، يكون كلّ منهما مورداً للشكّ ومصبّاً للأصل، فيتعارض الأصلان بسبب العلم الإجمالي التعبّدي. نعم، لو اضيف الحكمان إلى عنوان الفرد الطويل والفرد القصير، فقد يقال: إنّ الأصل المؤمّن عن حكم الفرد الطويل لا معارض له؛ لأنّ حكم الفرد القصير مقطوع الانتفاء، ولكنّ الواقع: أنّ عنوان زوال الفرد أو بقائه ليس محصّصاً للحكم، وإنّما المحصّص له هو الموضوع والمتعلّق، فالأصل المؤمّن عن كلّ من حصّتي الحكم يعارض الأصل المؤمّن عن الحصة الاُخرى على كلّ تقدير.

(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 153 ـ 154 وفق طبعة مؤسّسة النصر ومكتبة الصدر، و ص 422 وفق طبعة جامعة المدرّسين بقم.

341

الانطباق على فرد لا يشكّ في انتفائه، فلا يجري الاستصحاب. واُخرى لا يقطع بالفعل بانتفاء الفرد، وإنّما يعلم بقضية شرطيّة كما في المثال الوارد في التقرير، حيث يعلم بهلاك الحيوان على تقدير وجوده في الجانب الغربيّ من الدار، والعلم بالقضية الشرطيّة ليس إلاّ علماً بالملازمة بين الشرط والجزاء، وليس علماً بالجزاء بالفعل، ولا علماً بالجزاء على تقدير وجود الشرط واقعاً، ولهذا قد يكون الشرط في علم الله متحقّقاً، ومع ذلك لا يعلم الإنسان بالجزاء فعلاً. نعم، لو حصل القطع بالشرط حصل القطع بالجزاء.

إذن، فلا مبرّر لإنكار جريان الاستصحاب في مثل المثال الذي ورد في التقرير، وهو من استصحاب الفرد المعيّن.

 

موارد استغناء المكلف عن استصحاب الفرد المردّد:

الجهة الخامسة: في الموارد التي يستغني المكلف عن استصحاب الفرد المردّد، حيث يتنجّز عليه أثره، سواءٌ جرى استصحاب الفرد المردّد بمعنى: استصحاب واقع الفرد المعيّن عند الله والمردّد عندنا، أو بمعنى: استصحاب الجامع الانتزاعي بهدف تنجيز آثار الفرد، أو لم يجرِ.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّ المكلّف تارةً يحصل له العلم الإجمالي بأحد الفردين قبل ارتفاع الفرد القصير، وأخرى يحصل له العلم بذلك بعد ارتفاعه وزوال أثره.

أمّا القسم الأوّل، فنذكر تحته ثلاث صور:

1 ـ أن يعلم المكلّف حدوثاً بتحقّق أحد الفردين، والمفروض أنّ ثمة أثراً على كلّ من التقديرين، وهو يعلم بالإضافة إلى ذلك أنّ أحد الفردين طويل، أي: على تقدير وجوده فهو باق إلى الآن الثاني أيضاً. وفي مثل هذه الصورة يكون المكلّف في غنىً عن استصحاب الفرد المردّد؛ لأنّه إنّما يريده لكي ينجّز أثر الفرد الطويل في الآن الثاني، وأمّا القصير فهو منتف حسب الفرض ـ وكلامنا في موارد الإلزام الذي يراد بالاستصحاب فيه تنجيز التكليف لا الترخيص ـ، وأثر الفرد الطويل في مثل هذه الصورة منجّز بنفس العلم الإجمالي الذي يحمله المكلّف، حيث إنّه كما ينجّز الفردين حدوثاً ينجّز الفرد الطويل بقاءً مع الفرد القصير حدوثاً، للعلم إجمالاً بأحدهما، وهو منجّز على ما هو الصحيح من منجّزيه العلم الإجمالي في التدريجيات. وعليه، فلا يحتاج إلى استصحاب الفرد المردّد، بل ويكون لغواً؛ لأنّ أثره حاصل بنفس العلم الإجمالي، ولو كان قد جرى فتأثيره وتنجيزه يكون بالعلم الإجمالي كما رأينا في الجهة الثانية، فبعد أن كان العلم الإجمالي نفسه موجوداً، وجعل هذا

342

الاستصحاب لا يوصل إلى التنجيز إلاّ بنفس قانون تنجيز العلم الإجمالي فيكون ـ لا محالةـ جعله لغواً في مثل هذا المورد.

2 ـ نفس الصورة مع فرض أنّ المكلّف غير عالم بأنّ أحد الفردين طويل، ولكن المفروض أنّه محتمل البقاء إلى الآن الثاني على تقدير حدوثه. والحكم في هذه الصورة كالصورة السابقة ـ أيضاً ـ من حيث الاستغناء عن استصحاب الفرد المردّد دون لغويّته.

ذلك: أنّ المكلف وإن لم يكن عنده علم إجمالي بين الفرد القصير حدوثاً والطويل بقاءً، كي يتنجّز أثره بهذا العلم، إلاّ أنّه يجري في حقّه استصحاب بقاء الفرد الطويل على تقدير حدوثه ـ على مبنانا الذي لم نشترط فيه اليقين بالحدوث في جريان الاستصحاب، واكتفينا بذات الحدوث أيضاً، وبذلك يتشكّل له علم إجمالي ـ إذا كان ملتفتاً إلى هذا الاستصحاب، بأنّه: إمّا يجب عليه الآن آثار الفرد القصير واقعاً، أو يجب عليه آثار الفرد الطويل في الآن الثاني استصحاباً وظاهراً. وهذا علم إجمالي منجّز حسب قواعد تنجيز العلم الإجمالي.

وأمّا قولنا: إنّ استصحاب الفرد المردّد في هذه الصورة ليس كالصورة السابقة في اللغوية، مع أنّه هنا ـ أيضاً ـ توصّلنا إلى أثره ونتيجته العمليّة من دون الاحتياج إليه، فلإنّه هنا قد توصّلنا إلى ذلك بالاستصحاب المعلّق على حدوث الفرد الطويل، لا بالعلم الإجمالي. وحال هذا الاستصحاب كاستصحاب الفرد المردّد من حيث كونهما معاً أصلين مؤثّرين في إيجاد العلم الإجمالي المنجّز، فكلاهما في مرتبة واحدة من حيث الأثر والنتيجة، فلا يمكن فرض أحدهما لغواً في قبال الآخر.

3 ـ ما إذا لم يكن للفرد القصير أثر حدوثاً، وإنّما أثره في فرض بقائه. وهنا نحتاج إلى استصحاب الفرد المردّد؛ إذ ليس هنالك ما يحرز لنا أثر الفرد الطويل بقاءً لو لم نقل بجريان الاستصحاب في الفرد المردّد بأحد معنييه الماضيين.

وأمّا القسم الثاني الذي يكون فيه العلم الإجمالي بأحد الفردين حاصلاً بعد ارتفاع الفرد القصير، فهذا حكمه حكم الصورة الثالثة من القسم الأوّل، من الاحتياج إلى استصحاب الفرد المردّد وعدم الاستغناء عنه؛ لأنّ العلم الإجمالي قد حصل حسب الفرض بعد زوال أحد طرفيه، وبذلك لا يمكنه التنجيز بنفسه. وهذا واضح لا شائبة فيه.

 

عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في موارد الشبهات المفهومية

الجهة السادسة: قد اتضح مما ذكرناه عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في موارد

343

الشبهات المفهومية، كما إذا شك في أنّ مفهوم العادل هل يشمل من فعل الصغيرة أو لا، وكان زيد عادلاً تاركاً لجميع الذنوب، ثمّ ارتكب الصغيرة، فهنا لا يجري استصحاب بقاء العدالة؛ لأنّ استصحاب بقاء العدالة بعد ارتكاب الصغيرة إن قصد به استصحاب صدق لفظة العادل عليه عرفاً ولغةً، فهذا وإن تمّت فيه أركان الاستصحاب، غير أنّه ليس بموضوع الأثر الشرعي كي يترتّب عليه الحكم والأثر؛ وذلك لأنّ الحكم للواقع والمعنى، لا للفظ وصدقه. وإن قصد به إجراء الاستصحاب في المعنى والواقع، فهذا من استصحاب الفرد المردّد بين ما يجزم بارتفاعه وهو ترك الذنوب جميعاً، وما لا يجزم بارتفاعه وهو ترك الكبائر، والحكم ثابت لأحدهما المردّد بين ما ارتفع يقيناً وما لم نعلم بارتفاعه.

 

الشبهة العبائية

الجهة السابعة: في الشبهة العبائية، وهي محاولة أثيرت للقضاء على استصحاب الكلّي في هذا القسم، حيث يحاول أن يبرز النتائج واللوازم العملية الغريبة التي لا يمكن الالتزام بها فقهياً وشرعياً، فيكون ذلك دليلاً وشاهداً على بطلان الملزوم، أي: استصحاب الكلي، وقد اُبرز هذا الشيء في مثال العباءة، حيث فرض أنّ هنالك عباءة علم إجمالاً بنجاسة أحد جانبيها، ثمّ غُسل أحد جانبيها، وعندئذ يقال: إنّنا لو لاقينا بيدنا الطرف غير المغسول فقط كان الحكم طهارة اليد وعدم لزوم الاجتناب، بناءً على عدم وجوب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، بينما لو لاقينا بيدنا إضافة إلى ذلك الطرف المغسول والمطهّر حقيقة، كان الحكم نجاسة اليد الملاقية، حيث تكون ملاقية للنجاسة الثابتة باستصحاب كلّي النجاسة في العباءة، وهذا معناه أنّ ملاقاة الطرف الطاهر توجب التكليف ولزوم الاجتناب على المكلف. وهذا أمر غريب فقهيّاً ومتشرعيّاً.

وقد ردّ السيّد الاُستاذ هذه الشبهة بأنّ الاعتراف بهذه النتيجة الغريبة لا مانع منه، فإنّ الحكم بنجاسة اليد الملاقية ظاهراً بمجرد الملاقاة للطرف الطاهر مع الحكم بطهارة ذلك الطرف أمر معقول، يلتزم به على مستوى الاُصول العمليّة والأحكام الظاهريّة، فإنّ التفكيك في مؤدّياتها بين المتلازمات أمر ليس بعزيز(1)، وأيّاً ما كان، فهنا مطلبان ينبغي أن نتعرّض لهما:


(1) راجع مصباح اصول: ج3، ص113.

344

المطلب الأوّل: في مورد هذه الشبهة.

فإنّ ظاهر عبائر بعض من تعرّض لهذه الشبهة عدم التفرقة بين ما إذا كانت الملاقاة للجانب المغسول من العباءة أوّلاً ثمّ للجانب غير المغسول، أو بالعكس، بينما الصحيح: أن تجعل الشبهة في الصورة الثانية فحسب وهي ما إذا لاقت اليد مثلاً الجانب غير المغسول أوّلاً، ثمّ لاقت الطرف المغسول. وأمّا في الصورة الأولى فلا تجري الشبهة حتّى لو جرت وتمّت في الثانية؛ وذلك لأنّ استصحاب بقاء النجاسة على إجمالها في العباءة لأثبات نجاسة الملاقي معارض باستصحاب طهارة الملاقي ـ وهو اليد ـ تلك الطهارة الثابتة بين الملاقاتين، حيث إنّ الملاقي نحن نقطع ببقاء طهارته حتّى بعد ملاقاته للطرف المغسول، فنستصحب هذه الطهارة لا الطهارة الثابتة قبل الملاقاتين معاً، التي هي محكومة لاستصحاب بقاء النجاسة المجملة في العباءة. وهذا الاستصحاب لا يكون محكوماً لاستصحاب النجاسة المجملة في العباءة؛ لوضوح أنّ النجاسة المجملة المردّدة بين الجانبين على تقدير ثبوتها إنّما يكون بإمكانها أن ترفع الطهارة الثابتة للملاقي قبل الملاقاتين معاً، أمّا الطهارة التي هي ثابتة بالقطع والوجدان بين الملاقاتين، فبقاؤها ليس إلى ما بعد الملاقاة الثابتة محكومة لاستصحاب تلك النجاسة المردّدة؛ لأنّ استصحاب تلك النجاسة لا يثبت أنّها في الطرف الآخر الذي لاقيناه ثانياً، إلاّ بنحو الملازمة التي هي من الأصل المثبت. إذن، فالتعبّد: ببقاء هذه الطهارة بالاستصحاب غير محكوم لشيء، وبكلمة أخرى: أنّ هذه الطهارة المثبتة بين الملاقاتين والتي يستصحب بقاؤها لا يكون زوالها مسبّباً عن نجاسة الجامع بين الطرفين على حدّ تسبّب نجاسة الملاقي عن نجاسة الملاقى، وإنّما زوالها يكون بنجاسة خصوص الطرف غير المغسول التي لا تثبت باستصحاب الكلي. إذن، فاستصحاب كلّي نجاسة أحد الجانبين لا يكون حاكماً على استصحاب طهارة اليد، بل يتعارضان في إثبات طهارة اليد ونجاسته(1).

هذا. ويمكن تعميم فكرة التعارض للصورة الاُخرى أيضاً، أعني: صورة ما إذا لاقت اليد أوّلاً الجانب غير المغسول من العباءة، ثمّ لاقت الجانب المغسول؛ فيصبح هذا البيان بذاته جواباً عن الشبهة العبائية وذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أنّنا نستصحب أوّلاً طهارة اليد إلى ما بين الملاقاتين، وهذا الاستصحاب إلى هنا غير محكوم لاستصحاب نجاسة الجامع كما هو واضح، ثمّ نستصحب الطهارة الثابتة


(1) ويكون المرجع أصالة الطهارة في اليد.

345

لليد بين الملاقاتين إلى ما بعد الملاقاة الثانية، وهي لا ترتفع إلاّ بنجاسة الطرف الذي تلاقيه اليد ثانياً، لا بنجاسة الجامع، ولا نقصد بهذا الاستصحاب استصحاب الطهارة الظاهرية، كي يقال بأنّ الطهارة الظاهرية تزول بعد الملاقاة الثانية وجداناً لحكومة استصحاب نجاسة الجامع عليه، بل نقصد به استصحاب الطهارة الواقعية التي أحرزها الاستصحاب ظاهراً فيما بين الملاقاتين، وذلك بأحد تخريجين:

1 ـ إنّ الطهارة الواقعية فيما بين الملاقاتين متيقّنة لنا تعبّداً وإن لم تكن متيقّنة وجداناً، فإنّ الاستصحاب قطع تعبّدي بناءً على مبنى قيامه مقام القطع الموضوعي، وقد تعلّق بها الشكّ بعد الملاقاة الثانية، فتكون أركان الاستصحاب تامّة.

2 ـ إنّنا نبني على عدم أخذ اليقين بالحدوث في الاستصحاب، بل نفس الحدوث كاف في الموضوع، كما استظهرناه من بعض الروايات، وبما أنّ هذا الركن يثبت بالاستصحاب، والركن الآخر وهو الشكّ في البقاء بعد الملاقاة الثانية محرز وجداناً فتتمّ أركان الاستصحاب ـ أيضاً ـ على هذا التخريج، ويكون جارياً. إذن فلا يكون استصحاب النجاسة المجملة في أحد الطرفين حاكماً ـ حتّى في هذه الصورة ـ على استصحاب طهارة اليد، بل يتعارضان، غير أنّ هذا البيان فيه جانبان ينبغي الالتفات إليهما:

الأوّل: أنّه هل المأخوذ في الاستصحاب هو الشكّ في الوجود في الآن الثاني، أو الشكّ في الارتفاع؟ فلو استظهرنا الثاني لم يكن في المقام استصحاب بقاء الطهارة الثابتة فيما بين الملاقاتين جارياً؛ لأنّه لا يحتمل ارتفاع تلك الطهارة التي أثبتناها بالاستصحاب فيما بين الملاقاتين على تقدير ثبوتها في هذه الصورة؛ إذ المفروض أنّ الملاقاة الثانية كانت مع الطرف المغسول والطاهر، وإنّما المحتمل هو ثبوتها في ذلك الوقت وفيما بعده، أو ارتفاعها كذلك، أمّا التفكيك فغير محتمل. إذن فاحتمال ارتفاع تلك الطهارة فيما بعد الملاقاة الثانية غير موجود حتّى يتحقّق موضوع الاستصحاب، وهو الشكّ في الارتفاع. نعم، الشكّ في أصل الوجود فلو كان المستظهر من دليل الاستصحاب أصل الشكّ في وجود المستصحب في الآن الثاني جرى الاستصحاب.

الثاني: أنّ الشكّ بعد الملاقاتين في الطهارة هو ـ في الحقيقة ـ نفس الشكّ بين الملاقاتين فيها، وليس شكّاً جديداً؛ لعدم احتمال التفكيك بين الزمانين كما قلنا. إذن فيكون هو عين الشكّ في بقاء الطهارة الثابتة قبل الملاقاتين، وقد قلنا: إنّ استصحاب الطهارة الثابتة قبل الملاقاتين محكوم بعد الملاقاتين لاستصحاب بقاء جامع النجاسة؛ لأنّه مسبّب بلحاظه.