592

المدلول التصوّري الثالث السياقي هو الذي يستقرّ في النفس، دون المدلولين الأوّلين.

وعلى الوجه الأوّل من وجوه الاتّجاه الثاني ـ ايضاً ـ الأمر كذلك؛ لأنّ الدلالة التصورية للعموم في طول الإطلاق، وتنهدم بانهدام الإطلاق.

وأمّا على الوجه الثاني، وهو تقديم الأظهر على الظاهر، فإن كان المقصود بذلك أنّ المقتضي للدلالة التصوّرية في جانب الأظهر غلب في تأثيره على المقتضي للدلالة التصوّرية في الجانب الآخر وأفناه، فالأمر ـ أيضاً ـ كذلك. وإن كان المقصود أن الدلالتين التصوّريتين انعقدتا بلا أيّ منافاة بينهما، وكلّ من الدلالتين التصوّريتين تقتضي انعقاد ظهور تصديقي، وتتزاحمان في التأثير، ويتقدّم الأقوى، إذن فالمتّجه هو انهدام الظهور التصديقي.

وأمّا ما هو الحقّ من هذين الوجهين في تقديم الأظهر على الظاهر، فيأتي الكلام عنه ـ إن شاء الله ـ في مقدّمة أخرى.

وأمّا على الوجه الثالث، وهو القرينية، فقد مضى أنّ المقصود هو القرينيّة بلحاظ الدلالة التصديقية، فأيضاً تنهدم الدلالة التصديقية.

والخلاصة: أنّ التقدّم بلحاظ أيّ مرتبة من المراتب الثلاث للدلالة يفترض أن يكون الانهدام في تلك المرتبة، وكان مقصودنا من شرح معنى هدم الخاصّ المتّصل للظهور تعميق الفهم لتلك المسالك في المقام، وتحديد حدودها بالدّقة.

هذا تمام الكلام في المخصّص المتّصل.

 

المخصّص المنفصل:

وأمّا الكلام في المخصّص المنفصل، فهنا لا نفترض مسبقاً مسلّميّة التخصيص فيه ونقول: إنّه ينبغي لحاظ الوجوه السابقة في المخصّص المتّصل، فإن جرت كلّها في المخصّص المنفصل، أو جرى منها ما قامت قرينة على صحّته، ثبت التخصيص في المنفصل، وإلاّ فيحتاج إلى استيناف بحث جديد فنقول:

أمّا الاتّجاه المختار هناك فمن الواضح عدم تأتّيه هنا؛ إذ الكلامان المنفصلان لا ينعقد من مجموعهما ظهور سياقي تصوّري.

وأمّا اتّجاه المشهور فقد مضى تحته ثلاثة أوجه:

1 ـ انهدام العموم بانهدام الإطلاق؛ لكونه في طوله. وتأتّيه هنا وعدمه فرع ما يختار في باب الإطلاق من أنّ إحدى مقدّماته هل هي عدم المقيّد مطلقاً كما عليه السيّد الاُستاذ، أو

593

عدم المقيّد المتّصل كما هو الصحيح؟

فعلى الأوّل يتأتّى في المقام. وعلى الثاني لا يتأتّى(1).

2 ـ تقدّم الخاصّ بالأظهريّة. وتأتّيه في المقام وعدمه فرع أن يرى أنّ صاحب هذا الوجه هل يدّعي أنّ المقتضي لظهور الخاصّ بأقوائيّته تقدّم في التأثير على المقتضي لظهور العامّ ـ وهذا هو المنسجم مع القول بأنّ المخصّص المتّصل يهدم الظهور ـ أو يدّعي أنّ الظهورين منعقدان بلا تناف بينهما، ويتقدّم ظهور الخاصّ على العامّ في الحجّيّة.

فعلى الأوّل لا يتأتّى في المقام. وعلى الثاني يتأتّى فيه(2).

3 ـ قرينية الخاصّ، وقد رجعت بعد التحليل إلى دعوى تباني العرف والعقلاء على جعل الخاصّ شارحاً للعامّ. وهذه دعوى غير محدّدة، فمدّعيها يمكن أن يدّعي التباني على ذلك في خصوص المخصّصات المتّصلة، ويمكن أن يدّعي التباني عليه في كلّ خاصّ مع عامّ ولو منفصلين.

وتحقيق الكلام في المخصّص المنفصل: أنّ المتكلّم الذي تكلّم بعامّ وبخاصّ منفصل، والمفروض عدم البداء في حقّه لا تخلو حاله عن إحدى حالات أربع:

الاُولى: أن يكون مخصّصه بالرغم من انفصاله عن كلامه العامّ بحسب عالم الأصوات والسماع متّصلاً بالعامّ بحسب عالم المداليل اللغويّة، وذلك من قبيل أن يذكر عامّاً ثمّ يأخذه السعال إلى فترة من الزمن، أو يغشى عليه ساعات من النهار ثمّ بعد ارتفاع السعال أو الغشوة يذكر الخاصّ، فإنّه بحسب عالم نظام اللّغة والمداليل لا إشكال في أنّ هذا الخاصّ متّصل بالعامّ حقيقة، ولا يقتنص السامع مراد المتكلّم بمجرّد سماعه لذلك العامّ بدعوى أنّه لم يوصل به مخصّصاً، بل يصبر إلى أن يفيق ليرى ماذا يقول بعد ذلك.

ويلحق بهذا ما لو لم يأخذه مرض ومانع قهري من قبيل الغشوة والسعال إلاّ أنّه كان


(1) نعم، لو فرغنا عن تقدّم المقيّد المنفصل على المطلق بوجه آخر ثبت هنا تقدّم الخاصّ على العامّ رغم انفصاله؛ لأنّ المفروض أنّ أداة العموم وضعت لاستيعاب أفراد المراد من المدخول، والمفروض أنّ إطلاق المدخول قد تقدّم عليه الخاصّ بتقييده رغم الانفصال، فالمراد من المدخول لم يشمل ما اشتمل عليه الخاصّ، فبالتالي لم تستوعب أداة العموم الأفراد التي خرجت بهذا المخصّص.

(2) المختار عندنا في المخصّص المتّصل كان هو تقدّم الخاصّ على العامّ بالأظهريّة المانعة عن استقرار الظهور الأضعف. فلو كانت الأظهريّة في مورد مّا للعامّ كان العامّ هو المقدّم، وأيّ منهما كان مقدّماً في فرض الاتّصال يكون مقدّماً ـ أيضاً ـ في فرض الانفصال، لا لعدم استقرار الظهور الأضعف حتّى يقال: إنّ الكلام المنفصل لا يمنع عن انعقاد الظهور، بل لقرار عقلائي عامّ على تقدّم الأقوى ظهوراً على الأضعف في الحجّيّة ومفسّريّته إيّاه.

594

هناك شاهد حال أو مقال يشهد بأنّ له كلاماً واحداً يذكره بشكل متقطّع، وذلك من قبيل خطاب طويل يلقيه على جماعة في فترات بينها أكل الحلواء، أو أكل الغذاء، أو نحو ذلك، حيث يتعبون ويملّون لو استمر الخطاب دفعة واحدة الى الأخير، أو من قبيل اُستاذ يدرّس مطلباً واحداً في خلال أيّام عديدة، كلّ يوم يتكلّم ساعة إلى أن ينتهي ذلك المطلب، أو من قبيل أن يصرّح المتكلّم أو يُعرف من حاله أنّه سنخ شخص يقطّع في كلام واحد، فيذكر العامّ في وقت ويذكر الخاصّ في وقت آخر، فإنّه عندئذ يكون الخاصّ ـ بحسب عالم اقتناص المراد ومفهمه ـ متّصلاً حقيقة بالعامّ، بالرغم من الانفصال بحسب عالم الأصوات.

وهذا القسم لا يحتاج إلى مؤونة زائدة من الكلام غير ما مضى في المخصّص المتّصل، فإنّ مخصّصه هنا متّصل حقيقة بحسب عالم اللّغة واقتناص المراد.

الثانية: أن يعبّدنا المتكلّم بفرض منفصلاته متّصلات بلحاظ عالم الحجّيّة، أي: إنّ مخصّصه ليس متّصلاً حقيقة كما في الفرض الأوّل، فينعقد لعمومه ظهور في العموم، ولم يذكر أنّ لي كلاماً واحداً متقطّعاً، لكنّه يقول: إنّني اُنزّل المخصّص المنفصل منزلة المخصّص المتّصل في تقدّمه على العامّ في مرحلة الحجّيّة.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يحتاج إلى مؤونة زائدة من البحث.

الثالثة: أن تصدر من هذا المتكلّم عمومات عديدة، وتصدر منه خصوصات معارضة لتلك العمومات، ويعلم إجمالاً بصدق بعض الخصوصات، وأنّ بعض هذه العمومات لم يقصد منه ظاهره، ولا يعلم إجمالاً بأنّه لم يقصد من بعض الخصوصات ظاهره، وعندئذ فتقديم الخصوصات على العمومات أرجح من العكس، فيتعيّن من دون محذور الترجيح بلا مرجّح، بخلاف العكس؛ وذلك لأنّه لو بني على تقديم العمومات فتقديم الجميع غير معقول؛ للعلم بكذب بعضها، وتقديم بعض دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

فلا نحتاج في تقديم الخاصّ على العامّ إلى مؤونة زائدة أزيد من ذلك.

الرابعة: ما عدا هذه الحالات الماضية ويحتاج تقديم الخاصّ على العامّ فيه إلى استيناف بحث جديد، فنقول: لو ورد مثلاً (لا يجب إكرام أيّ عالم) وورد منفصلاً عنه (أكرم النحويين)، فهنا لا إشكال في أنّ المتكلّم خرج عن أصل عقلائي؛ وذلك لفصله بين كلامين ينبغي وصلهما؛ وذلك لأنّه قد جعل حتماً أحدهما قرينة على الآخر، فهما كلامان مرتبطان ينبغي وصل أحدهما بالآخر ـ ولو وصلاً تعبّدياً (على الأقلّ) بتنزيله للمنفصلات منزلة المتّصلات ـ وعندئذ لو كان ـ في الواقع ـ قد جَعَلَ الخاصَّ قرينة على تخصيص العامّ فهو لم

595

يرتكب إلاّ مخالفة واحدة لأصل عقلائي، وهي ما عرفت من فصل كلامين ينبغي وصلهما، ولم يرتكب مخالفة اُخرى، ولذا ترى أنّه لو وُصل الكلامان أحدهما بالآخر لم يبقَ نقص في إفادة المراد، وهو العامّ المخصَّص.

وأمّا لو كان ـ في الواقع ـ قد جعل العامّ قرينة على إرادة الاستحباب من الخاصّ، فلم تقتصر مخالفته على الفصل بين كلامين ينبغي وصلهما، بل إضافةً إلى هذه المخالفة المتيقّنة صدرت منه مخالفة اُخرى، فأوّلاً افترض الكلامين المفصولين كأنّهما كلام واحد موصول. وهذه هي المخالفة الاُولى المتيقّنة، وثانياً جعل العامّ في هذا الكلام الواحد المفترض الوصول قرينة على إرادة الاستحباب من الخاصّ، في حين أنّه لا يصلح للقرينيّة على ذلك. ولذا لو وصلتَ أحدهما بالآخر لرأيت أنّ هذا الكلام الواحد لا يعطي معنى استحباب إكرام النحويين، وإنّما يعطي معنى العامّ المخصّص.

وهذا هو الروح الفنّي والتحرير الفنّي للقاعدة الميرزائية التي يُرسلها كأصل مسلّم، وهو: أنّ كلّما يكون في فرض الاتّصال قرينة يكون قرينة في فرض الانفصال، وكلّما لا يكون كذلك لا يكون كذلك(1).

 


(1) لا يخفى أنّنا إن فرغنا ابتداءً من الإحساس الوجداني العرفي في كلّ ما يكون قرينة لدى الاتّصال بقرينيّته لدى الانفصال (كما هو واضح في مورد الأقوائية وفي مورد التفسير بقرار خاصّ من قبل المتكلّم، كما في التفسير بأي وأعني وغير ذلك من موارد الحكومة) لم نحتج إلى تقريب هذه القاعدة للذهن بالتحليل الذي أفاده اُستاذنا(رحمه الله) من أنّ تقديم غير ما كان قرينة على فرض الاتّصال يستبطن مخالفتين، وتقديم ما كان قرينة على فرض الاتّصال لا يستبطن إلاّ مخالفة واحدة.

أمّا لو لم يكن لدينا إحساس مسبق من هذا القبيل فهذا التحليل لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّه إن قصد به حقّاً دوران الأمر بين مخالفة ومخالفتين بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهذا أوّل الكلام؛ لأنّ كون ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال أوّل الكلام، ولو لم يكن قرينة عند الانفصال فحمل كلّ منهما على القرينيّة للآخر فيه مخالفة للاُصول العقلائية بقدر ما في الآخر.

وإن قصد به: أنّه وإن لم يكن الأمر بالدقّة من الدوران بين الأقلّ والأكثر في المؤونة وعدد المخالفة، ولكن جعل ما ليس قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال أشدّ مؤونة في نظر العرف من جعل ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال، قلنا: إنّ هذا ـ أيضا ـ غير واضح الصحّة. وتوضيح ذلك: أنّ قاعدة كون ما كان قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال يمكن تفسيرها بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن يدّعى أنّ نكتة القرينية الموجودة في حال الاتّصال دائماً هي موجودة في حال الانفصال، إلاّ أنّها في حال الاتّصال كانت تهدم الظهور، وفي حال الانفصال تهدم الحجّيّة، أو أنّها في حال الاتّصال كانت تهدم الدلالة التصديقية الاستعمالية، وفي حال الانفصال لا تقوى إلاّ على هدم الدلالة التصديقيّة الجدّيّة كما يقوله

596

وقد اتّضح بما ذكرناه أنّه لابدّ من التخصيص في المخصّص المنفصل على كلّ من الحالات الأربع، وعندئذ لا أثر ـ على مستوى المقام ـ للبحث عن أنّ النصوص الشرعيّة من أيّ قسم هي؟

نعم، يترتّب على ذلك بعض آثار مرتبطة ببحث حجيّة الظهور، فمحلّ البحث عن ذلك هو باب حجّيّة الظهور.

 

الأظهر والظاهر:

المقدّمة الرابعة: أنّ باب الأظهر والظاهر ـ أيضاً ـ خارج عن باب التعارض.

 


المحقّق النائيني(رحمه الله) في القرينة المنفصلة المقيّدة للإطلاق.

وحاصل القاعدة الميرزائيّة على هذا التفسير هي أنّ نكتة القرينيّة منحفظة في كلتا حالتي الاتّصال والانفصال، ولكن بما أنّها في حالة الاتّصال تهدم ظهوراً لا ينهدم لدى الانفصال، فلذا يكون الإحساس بقرينيّتها لدى الاتّصال أوضح منه لدى الانفصال، فلو اُريد تشخيص القرينة من ذي القرينة في المنفصلين كان طريق التشخيص وصل أحد الكلامين بالآخر كي يقوى الإحساس بالقرينيّة.

وهذه القاعدة ـ بناءً على هذا التفسير ـ مؤلّفة من مقدّمتين:

الاُولى: دعوى انحفاظ نكتة القرينيّة في حال الانفصال.

والثانية: دعوى أنّ ما فيه نكتة القرينيّة المنحفظة في حال الانفصال لو جعلت هي القرينة على المراد والهادمة للحجّيّة، فهذا أولى في نظر العرف من جعل الآخر قرينة الذي هو غير مشتمل على نكتة القرينيّة.

والمقدّمة الثانية صحيحة بلا إشكال في مورد تماميّة المقدّمة الاُولى، فالأقوائيّة وكذلك نكات الحكومة التي تنحفظ في حال الانفصال تقتضي ـ بلا شكّ ـ تقديم ما فيه الأقوائيّة أو نكتة التفسير على الآخر في الحجّيّة. ولكنّ المقدّمة الاُولى ليست تامّة في تمام الموارد، فمثلاً قد تكون نكتة القرينيّة رفع القرينة لمقتضي الظهور الأوّل في حال الاتّصال كما هو الحال في القرينة التي ترفع الإطلاق برفع عدم البيان. والحقّ: أنّ البيان الهادم للإطلاق إنَّما هو البيان المتّصل، فنكتة القرينيّة غير منحفظة في حال الانفصال، وكذلك لو آمنّا بأنّ نكتة القرينيّة قد تكون هي السياق المتكوّن من الوصل بين الكلامين من دون إرجاع ذلك إلى الأقوائيّة، والسياق ينهدم ـ لا محالة ـ بالانفصال، فعندئذ لا تكون نكتة القرينيّة منحفظة لدى الانفصال.

ولو فرضنا: أنّنا استقصينا كلّ القرائن فوجدنا نكاتها جميعاً موجودة في حال الانفصال، فنحن إذن لم نستفد شيئاً من القاعدة الميرزائيّة، وإنّما استفدنا من استقصائنا هذا لنكات القرائن.

الوجه الثاني: أن نسلّم أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال قد لا تكون محفوظة في حال الانفصال، ولكن مع ذلك يقال: إنّه رغم عدم انحفاظ تلك النكتة في حال الانفصال يرى العرف أنّ افتراض ما كان قرينة عند الاتّصال للتصرّف في الآخر قرينة عند الانفصال لذلك أولى وأسهل من العكس.

ولعلّ الالتفات إلى فرض عدم وجود نكتة القرينيّة في حال الانفصال كاف في تنبيه الوجدان العرفي إلى عدم وجود أولويّة عرفيّة من هذا القبيل. إذن فهذه القاعدة لم تفدنا شيئاً على كلّ حال.

597

وطبعاً المقصود بكلّ ما قلناه من خروج الأظهر والظاهر، أو العامّ والخاصّ ونحو ذلك عن التعارض هو خروجه عن ميزان وقوع التنافي في مدلولي دليل الحجّيّة العامّ. وأمّا ميزان دخول الروايتين تحت دليل الحجّيّة الخاصّ وهي الأخبار العلاجيّة، فهذا ما سوف يتكلّم عنه بعد ذلك إن شاء الله.

وعلى أيّ حال فالكلام في الأظهر والظاهر ـ أيضاً ـ يقع في مقامين:

المقام الأوّل: فيما إذا اتّصل أحدهما بالآخر، وعندئذ يهدم الأظهر ظهور الظاهر لإحدى نكتتين:

1 ـ أن يقع تزاحم في مقام التأثير بين مقتضي الظهور التصوّري في تعيين الصورة النهائيّة التي ستستقرّ في النفس، مثاله قولنا: (رأيت أسداً يرمي) حيث إنّ كلمة (أسد) تقتضي إعطاء صورة الحيوان المفترس للذهن، ولا ينصرف الذهن منها إلى الرجل الشجاع لولا نكتة تقتضي صرفه، وكلمة (يرمي) تقتضي إعطاء صورة الرمي بالنبل، ولا ينصرف الذهن منها إلى الرمي بالبصر إلاّ بنكتة، ولكنّ التحفّظ على استقرار كلتا الصورتين يؤدّي إلى انصراف الذهن إلى حيوان مفترس يرمي بالنبل، ولكنّ هذه الصورة غريبة على النفس، فالنفس تنصرف عنها ولا تقبلها، فيجب: إمّا أن تتّجه نحو صورة رجل شجاع يرمي بالنبل أو نحو صورة حيوان مفترس يرمي بالبصر، وهنا يقع التزاحم بين تأثير المقتضي الموجود في كلمة (أسد) والمقتضي الموجود في كلمة (يرمي) حيث إنّ الأوّل يقتضي استقرار صورة الحيوان المفترس، والثاني يقتضي استقرار صورة الرمي بالنبل، ولا يجتمعان. وطبعاً في مقام التأثير التكويني يغلب ما هو الأقوى تأثيراً، وهذا يستوجب تقديم الأظهر على الظاهر.

2 ـ أن لا يكون تزاحم في مقام التأثير بين مقتضي الظهور التصوّري، فيؤثّر كلّ منهما أثره، كما لو قال: (أكرم العلماء ولا بأس بترك إكرامهم) فإنّ الذهن لا يصعب عليه أن يتصوّر صورة وجوب إكرام العلماء، ويتصوّر في نفس الوقت صورة عدم وجوب إكرامهم(1)، وإنّما التزاحم في التصديق بإرادة المتكلّم هذين المعنيين؛ لحكم العقل بأنّه لا يريد كليهما لما بينهما من التناقض، وعندئذ ينعقد الظهور التصديقي على طبق ما يكون ظهوره التصوّري أقوى، ونكتة ذلك أنّ غلبة مطابقة المراد للمدلول التصوّري تشتدّ باشتداد الظهور في المدلول


(1) بل هذا يؤدّي إلى تصوّر وجود المتناقضين، وهي صورة غريبة على الذهن كما هو الحال تماماً في تصوّر صورة حيوان مفترس يرمي بالنبل في المثال الأوّل.

598

التصوّري، فكلّما كان الظهور التصوّري أقوى كانت غلبة إرادته وندرة إرادة خلافه أكثر، فعند اجتماع ظهورين تصوّريين لا يمكن التصديق بوجود الإرادة على طبق كليهما إذا كان أحدهما أقوى، فمقتضى الغلبة كون الإرادة مطابقة للأقوى، فينعقد الظهور التصديقي على طبق الأقوى من الظهورين التصوريين.

ويمكن ـ أيضاً ـ أن يدّعى ما مضى في التخصيص من افتراض دلالة تصوّرية ثالثة سياقية(1) هي التي تستقرّ في النفس على نكات ومؤونات زائدة لا مجال لشرحها، إلاّ أنّنا نذكر إحداها، وهي أنّه لا يمكن دعوى وجود دلالة سياقية لعنوان الأظهر والظاهر، فإنّه ليس هذا المفهوم هو الذي يتبادر إلى الذهن، وإنّما ينبغي دعوى وجود دلالة سياقية لواقع الأظهر والظاهر، وهذا ليس له ضابط عامّ كما في باب التخصيص، حيث قلنا: إنّ صورة العامّ مع صورة الخاصّ المجتمع معه موضوعة للعموم المقتطع منه الخاصّ، بل قد تختلف الأظهرية والظاهرية في كلام واحد باختلاف المتكلمين بما تكتنفهم من حالات وقرائن حالية، فعندئذ لابدّ: إمّا من تعدّد الوضع بعدد ما يوجد من أظهر وظاهر، أو دعوى الوضع بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاص.

والمقام الثاني: فيما إذا كان الظاهر منفصلاً عن الأظهر، وليس فيه مزيد بحث على ما عرفته في العامّ والخاصّ. فلو فرض الأظهر هو القرينة لم يرتكب إلاّ مخالفة واحدة لأصل عقلائي. ولو فرض العكس فقد ارتكب مضافاً إلى تلك المخالفة المتيقّنة مخالفة اُخرى(2)، كما يأتي هنا باقي الأقسام الأربعة التي مضت في العامّ والخاصّ.

هذا تمام الكلام في المقدّمة الرابعة.

وبهذه المقدّمات الأربع ظهر خروج الورود والحكومة والتخصيص والظاهر والأظهر عن محلّ الكلام، حيث إنّه في هذه الموارد لابدّ من تقديم الوارد والحاكم والخاصّ والأظهر.

 

تنبيهان:

بقي هنا تنبيهان:


(1) مضى منّا عدم قبول ذلك كأمر مستقلّ في مقابل نكتة الأقوائية والأظهرية.

(2) مضى النقاش في ذلك، وعلى أيّ حال، فالأقوائية التي تهدم ظهور الأضعف في فرض الاتّصال تهدم حجّيّته في فرض الانفصال، وذلك ببناء عقلائي قائم على أساس أنّه كلّما كان الظهور أقوى كانت غلبة مطابقته للمراد أكثر.

599

النسبة بين الدليل المتقدّم ودليل حجّيّة ما يقابله:

التنبيه الأوّل: في النسبة بين الشيء الذي حكمنا بتقديمه كالخاصّ ودليل حجّيّة الطرف المقابل كدليل حجّيّة العامّ.

وهذا مجرّد بحث علمي، فنقول بعد الفراغ عن تقدّم الخاصّ مثلاً: هل يكون الخاصّ حاكماً على دليل حجّيّة العموم، أو وارداً عليه، أو ماذا؟

الصحيح: أنّه من باب الورود لا الحكومة، فإنّ معنى تقديم الخاصّ على العامّ أنّ موضوع حجّيّة ظهور العامّ مركّب من الظهور في العموم وعدم ورود دليل خاصّ على خلافه، فبوروده ينتفي أحد الجزءين.

ومدرسة الميرزا ذهبت إلى أنّ التقديم بنكتة الحكومة قائلةً: إنّ موضوع دليل حجّيّة ظهور العامّ مركّب من نفس الظهور ومن عدم العلم بالخلاف، وعند ورود الخلاف ينتفي عدم العلم تعبّداً لا وجداناً.

ويرد عليه: أنّ دليل حجّيّة ظهور العام هو السيرة التي هي دليل لبّي، وقد قلنا عند التكلم في الحكومة: إنّها لا تتصوّر في الأدلّة اللبية، فإنّ الأدلّة اللبية لا تتحمّل الشرح والتفسير، والتضييق والتوسيع.

وطبعاً هذا كلّه في مثل المخصّص المنفصل. وأمّا ما هو من قبيل المخصّص المتّصل فكون تقديمه على دليل حجّيّة الظهور الآخر من باب الورود في غاية الوضوح؛ إذ هو هادم للظهور، وكذا الحال فيما هو ملحق بالمتّصل، وهو الوارد ولو كان منفصلاً.

هذا، وقد يستظهر من بعض كلمات الميرزا(رحمه الله) أنّه يجعل ما ذكره من الحكومة دليلاً على تقدّم الخاصّ على العامّ، في حين أنّه لابدّ من ثبوت تقدّم الخاصّ على العامّ مسبقاً بنكتة اُخرى، ثمّ التكلّم في كون ذلك وروداً على دليل حجّيّة العموم أو حكومة.

 

وجه تقديم سند القرينة الظنّي على دلالة ذي القرينة:

التنبيه الثاني ـ نحن كنّا نتكلَّم حتى الآن عن مثل العامّ والخاصّ فارضين قطعيّة السند فيهما، والآن نُدخل عنصر ظنّيّة سند الخاصّ ظنّاً معتبراً في المقام، كي نرى ما هي النسبة بين ظهور العامّ ودليل حجّيّة سند الخاص؟ ولماذا يقدّم الخاصّ على العامّ رغم ظنيّة سند الخاصّ؟

فنحن حتى الآن فرغنا عن تقدّم الخاصّ من حيث الدلالة على دلالة العامّ، ولكن هل

600

يتقدّم سنديّاً على دلالة العامّ أيضاً؟ ويمكن الآن فرض أنّ العامّ قطعيّ سنداً، فدار الأمر بين عامّ قطعي السند ظنّي الدلالة وخاصّ ظنّي السند واضح الدلالة بالقياس إلى العامّ.

والصحيح: أنّ سند الخاصّ باق على حجّيّته في المقام بدليل حجّيّة خبر الثقة مثلاً، ودلالة العامّ الظنّيّة ساقطة عن الحجّيّة، والوجه في سقوطها عن الحجّيّة أحد أمرين:

الأوّل: أنّه لا إشكال في أنّ سيرة العقلاء التي هي من أدلّة حجّيّة خبر الواحد قائمة على العمل بالخبر الخاصّ ولو كان في مقابله عموم. والأوضح من هذا سيرة المتشرّعة التي هي من عمدة أدلّة حجّيّة خبر الواحد، فإنّه لا يحتمل أحد أنّ المتشرّعة إنّما كانوا يأخذون بما قاله الثقات ما لم يوجد هناك عامّ فوقاني يخالفه، بل لا إشكال في أنّهم كانوا يأخذون بالخاصّ ويخصّصون به العامّ، وإذا اعترفنا بوجود مثل هذه السيرة فلا يتعقّل عندئذ وجود سيرة ـ أيضاً ـ على العمل بظهور العامّ بالرغم من ورود الخاصّ، ولا يوجد هناك دليل غير السيرة يدلّ على حجّيّة ظهور العامّ.

الثاني: أنّه لو سلّم عدم ثبوت سيرة على أحد الطرفين وأنّ العقلاء يختلفون في العمل، فمنهم من يقدّم سند الخاصّ، ومنهم من يقدّم ظهور العامّ، قلنا: إنّه بناءً على هذا لا يبقى دليل على حجّيّة ظهور العامّ، فإنّ الدليل على حجّيّة الظواهر إنّما هو السيرة، والمفروض أنّ السيرة منتفية هنا. وأمّا سند الخاصّ فيوجد هناك ما يدلّ على حجّيّته غير السيرة، وهي عبارة عن الأدلّة اللفظيّة التي قبلنا دلالتها على حجّيّة خبر الواحد.

فإن قلت: إنّ هذا الكلام يتمّ في ما لو لم يفرض دليل لفظي على حجّيّة سند العامّ، وكانت حجّيّته بمحض حجّيّة القطع باعتبار افتراض العامّ قطعي الصدور. أمّا حينما يكون سند العامّ ـ أيضاً ـ داخلاً في دليل الحجّيّة اللفظي باعتباره خبر ثقة مثلاً، وقد دلّ الدليل على حجّيّة خبر الثقة، فهنا نقول: إنّ دليل حجّيّة سنده اللفظي بنفسه دليل على حجّيّة ظهوره؛ لأنّه إنّما يدلّ على حجّيّة السند بلسان: (اعمل بمفاد أخبار الثقات) فيقع طرفاً للمعارضة لدليل حجّيّة سند الخاصّ.

قلت: دليل حجّيّة أخبار الثقات لا تدلّ بحسب المتفاهم العرفي على أكثر من كون حال الأخبار الظنّيّة الصدور في العمل بها وبمفادها كحال الأخبار القطعيّة الصدور، ولو فرض العامّ والخاصّ قطعيّين لكان يقدّم الخاصّ على العامّ بلا إشكال، اذن فدليل حجّيّة السند لا يدلّ على حجّيّة دلالة العامّ حتّى في مقابل الخاصّ المشمول لنفس ذلك الدليل.

بقي الكلام في ما هي النسبة بين حجّيّة سند الخاصّ وحجّيّة ظهور العامّ؟

601

فنقول: إنّ النسبة بينهما هي الحكومة الظاهريّة، فإنّ موضوع حجّيّة ظهور العامّ مركّب من جزءين: أحدهما نفس الظهور، والآخر عدم صدور الخاصّ، ودليل حجّيّة سند الخاصّ يعبّدنا بصدور الخاصّ، فينفي موضوع حجّيّة ظهور العامّ تعبّداً، وحيث إنّه لا يضيّق دائرة الموضوع من قبيل (لا ربا بين الوالد وولده) بل يعبّدنا بعدم تحقّق ما هو الموضوع حقيقة، فتكون الحكومة ظاهرية، والحكومة الظاهريّة بالإمكان أن تأتي في الأدلّة اللبّيّة من قبيل السيرة التي قامت في المقام على حجّيّة ظهور العامّ.

 

سراية التعارض من الدلالة إلى السند:

المقدّمة الخامسة: أنّ التعارض كما يمكن أن يكون في السند كذلك يمكن أن يكون في الدلالة والظهور.

وتفصيل الكلام في ذلك: أنّ الخبرين المتعارضين إن كانا قطعيّي الصدور ظنّيّي الدلالة، فالتعارض طبعاً بين الظهورين دون السندين، وإن كانا بالعكس فبالعكس.

وإن كانا ظنّيّي الصدور والدلالة فهما متعارضان في الظهور؛ إذ يدلّ كلّ منهما على خلاف ما يدلّ عليه الآخر، وهل يسري التعارض إلى السندين أيضاً، أو لا؟(1)، قد يتخيّل أنّه لا يسري التعارض إلى السندين، وأنّ التعارض إنّما هو بين الظهورين، فإنّ كلاًّ من الخبرين يدلّ على خلاف ما يدلّ عليه الآخر، فهما متعارضان في الدلالة. وأمّا من حيث السند فمن المحتمل صدورهما معاً، إذن فلا تعارض بين السندين. وتحقيق الكلام في ذلك: أنّنا تارةً نبني على أنّ حجّيّة كلّ من السند والظهور مشروطة بحجّيّة الآخر؛ إذ لولا حجّيّة الآخر لزمت لغويّة حجّيّته؛ إذ لا معنى لحجّيّة السند من دون ثبوت مفاد الحديث، أو حجّيّة الدلالة من دون ثبوت الصدور، ولا يترتّب أيّ أثر على ذلك، وكون حجّيّة كلّ منهما مشروطة بحجّيّة الآخر لا يستبطن الدور، فإنّ المقصود من ذلك هو كون حجّيّة كلّ منهما مشروطة بتماميّة الآخر من سائر النواحي.

واُخرى نبني على أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بحجّيّة السند؛ لأنّ المراد بحجّيّة الظهور إنّما هي حجّيّة ظهور كلام المولى، لاحجّيّة ظهور كلام أيّ واحد من الناس، ولكنّ حجّيّة السند غير مشروطة بحجّيّة الظهور، فمعنى حجّيّة السند هو البناء على صدور هذا الكلام من المولى


(1) أفاد(رحمه الله): أنّ ثمرة البحث تظهر إذا بنينا على أنّ مقتضى القاعدة في تعارض السندين هو الترجيح.

602

مثلا بغضّ النظر عن أنّه يدلّ على المعنى الفلاني أو لا.

فإن بنينا على المبنى الأوّل وهو أنّ حجّيّة كلّ من السند والظهور مشروطة بحجّيّة الآخر فتعميق الإشكال في سريان التعارض من الظهور إلى السند يكون بأن يقال: إنّ حجّيّة السند مشروطة بحجّيّة الظهور، فإذا تعارض الظهوران وتساقطا انتفت حجّيّة السند بانتفاء شرطها، فيكون سقوط السندين من باب أنّه لا موضوع لحجّيّتهما، لا من باب أنّهما تعارضا في الحجّيّة، وبهذا يبطل ما قد يقال من سريان التعارض من الظهورين إلى السندين؛ لأجل أنّ حجّيّة السند مشروطة بحجّيّة الظهور، فالتنافي بين الظهورين في الحجّيّة يولّد التنافي بين السندين في الحجّيّة، فانّك عرفت ان مقتضى كون حجّيّة السند مشروطة بحجّيّة الظهور أنّه بعد تعارض الظهورين وتساقطهما تنتفي حجّيّة السند من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

والتحقيق في مقام الجواب عن هذا الإشكال هو أنّ حجّيّة السند وإن قيّدت بحجّيّة الظهور، ولكنّ إطلاق دليل حجّيّة السند يثبت في المقام القيد، وهو حجّيّة الظهور، وذلك لأنّ حجّيّة الظهور وعدمها أمر يكون مرتبطاً بالمولى، ومعرفته بيده، فالعامّ الذي يصدّره المولى بشأن حجّيّة السند يدلّ على أنّه قد أحرز تحقّق هذا القيد، وقد قلنا في محلّه: إنّ العامّ حجّة في الشبهة المصداقية للمخصّص إذا كان القيد سنخ قيد من شأن المولى بيانه، ولم تكن نسبته إلى المولى والعبد على حدّ سواء، فمثلا لو دلّ إطلاق الدليل على وجوب الحجّ، وقد عرفنا أن مزاحمة واجب اهم تمنع عن وجوب الحج، فنفس إطلاق الدليل الدالّ على وجوب الحجّ يدلّ على عدم وجود مزاحم أهمّ له، وعليه فالتعارض يسري من الظهور إلى السند.

وإن بنينا على المبنى الثاني، وهو أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بحجّيّة السند دون العكس، فتعميق الاشكال يكون بأن يقال: إنّ دليل حجّيّة الظهور ـ في الحقيقة ـ يدلّ على حجّيّة الظهور على تقدير الصدور؛ لأنّ مفاده إنّما هو حجّيّة ظهور كلام المولى، ودليل حجّيّة السند يثبت المعلّق عليه، أعني شرط حجّيّة الظهور، وهو الصدور من المولى، وبثبوت مجموع القضية الشرطية مع الشرط يثبت الجزاء، وهذا ثابت في كلّ واحد من الخبرين، فيقع التعارض، فالتعارض ـ في الحقيقة ـ له طرفان: أحدهما مجموع القضيّة الشرطية مع الشرط في جانب أحد الخبرين، والآخر مجموع القضية الشرطية مع الشرط في الطرف الآخر، فنحن نعلم إجمالا بعدم أحد المجموعين، وهذا معناه أنّنا نعلم إجمالا بأنّ أحد الخبرين: إمّا سنده غير حجّة أو ظهوره غير حجّة وهذا العلم الاجمالي يتولّد منه العلم الإجمالي بعدم حجّيّة أحد الظهورين: إمّا تخصيصاً، وذلك بأن يكون صادراً لكن ظهوره غير حجّة، أو

603

تخصّصاً، وذلك بأن لا يكون صادراً. إذن فنحن نعلم إجمالا بعدم حجّيّة أحد الظهورين، وبه ينحلّ العلم الإجمالي بعدم حجّيّة أحد الظهورين أو السندين، ويصبح السندان بمنجى عن المعارضة.

هذا، ولكن بالإمكان أن يدّعى أنّ هذا البيان يتمّ لو فرض خبر وأحد علم إجمالا بعدم حجّيّة سنده أو ظهوره، فنقول: إنّ ظهوره عندئذ خارج حتماً عن دليل الحجّيّة: إمّا تخصيصاً، أو تخصّصاً، فنبقى نتمسّك بدليل حجّيّة السند. وأما في المقام فكلّ واحد من الظهورين فيه ثلاثة احتمالات:

1 ـ أن يكون غير حجّة تخصيصاً.

2 ـ أن يكون غير حجّة تخصّصاً.

3 ـ أن يكون حجّة.

وفي مثل ذلك لا يتمّ هذا البيان؛ وذلك لإنّنا لم نعلم تفصيلاً في ظهور معيّن بعدم حجّيّته: إمّا تخصيصاً، أو تخصّصاً، غاية ما هناك أنّنا علمنا إجمالا بعدم حجّيّة أحد الظهورين تخصيصاً أو تخصّصاً، وفي مثل هذا الفرض يمكن أن يقال بعدم تماميّة دعوى انحلال العلم الإجمالي بسقوط السند أو الظهور عن الحجية.

وتوضيح ذلك: أنّه في باب العموم يقال بعدم حجّيّة العموم لإثبات التخصّص لدى دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص، فمثلا لو ورد: (أكرم كلّ عالم) وعلمنا بعدم وجوب إكرام زيد، لم يكن لنا أن نثبت بذلك كون زيد جاهلا، فرغم أنّ مقتضى النظر البدائي هو أن يكون العموم حجّة ويثبت به لازمه، وهو جهل زيد، إلاّ أنّه لنكتة ما يفترض عدم حجّيّة ذلك، أي عدم حجّيّة العموم حينما يقطع بعدم انتهائه إلى أثر عملي من ناحية الحكم العام للعلم الإجمالي بالتخصيص أو التخصّص، ولكن يا تُرى هل نقول ـ أيضاً بعدم حجّيّة العموم وعدم إثبات التخصّص حتّى فيما إذا كان هناك عامّان وكان العلم بالتخصيص أو التخصّص إجمالياً بلحاظهما، لا تفصيلياً بلحاظ واحد منهما، فكانت أصالة العموم في كلّ واحد منهما ـ لو خلّي وحده ـ منتهية إلى الأثر العملي بلحاظ الحكم العام؟

وعلى أيّة حال، فالتحقيق في المقام: أنّ كلّ هذا الكلام تطويل للمسافة، فإنّ الواقع أنّ دليل حجّيّة السند ليس مفاده البناء على صدور الخبر حتّى يقال: هل شُرطت حجّيّة كلّ من السند والظهور بحجّيّة الآخر للغويّة حجّيّتها لولا حجّيّة الآخر، كما مضى في المبنى الأوّل، أو أنّ حجّيّة الظهور وحدها هي المشروطة بحجّيّة السند؛ لأنّ المقصود بحجّيّة الظهور

604

إنّما هي حجّيّة ظهور كلام المولى، كما مضى فى المبنى الثاني، بل الصحيح: أنّ مفاد دليل حجّيّة السند إنّما هو إثبات الواقع به، وتنجيزه والتعذير عنه، فهذا ـ لا محالة ـ يتضمّن حجّيّة الظهور، فيسري التعارض ـ لا محالة ـ إلى مفاد دليل حجّيّة السند، بل هذا التعبير مسامحة، والواقع أنّ التعارض ابتداءً ثابت في مفاد دليل حجّيّة السند.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الخبرين إن كانا قطعيّي الصدور ظنّيّي الدلالة فالتعارض في الدلالة دون السند. وإن كانا بالعكس فبالعكس. وإن كانا ظنّيّي الصدور والدلالة فالتعارض يكون في الدلالة والصدور معاً.

إلاّ أنّ هذا التقسيم الثلاثي ليس جامعاً لجميع الأقسام، فإنّ الظهورين: إمّا كلاهما قطعيّان، أو كلاهما ظنّيّان، أو أحدهما قطعيّ والآخر ظنّيّ. فهذه ثلاثة أقسام.

وعلى أيّ تقدير، فالسندان: إمّا كلاهما قطعيّان، أو ظنّيّان، أو مختلفان. فهذه تسعة أقسام، واحد منها مستحيل، والباقي قد عرف حكمه ممّا مضى.

وتوضيح ذلك أنّه: إن كان الظهوران قطعيّين فهذا على ثلاثة أقسام:

1 ـ أن يكون السندان قطعيّين، وهذا مستحيل.

2 ـ أن يكون السندان ظنّيّين والتعارض عندئذ يقع بين السندين.

3 ـ أن يكون أحدهما قطعيّ السند والآخر غير قطعي، فيؤخذ بقطعي السند، ويقطع بكذب الآخر.

وإن كان الظهوران ظنّيّين فهذا على ثلاثة أقسام:

1 ـ أن يكون السندان قطعيّين، فيقع التعارض بين الدلالتين.

2 ـ أن يكون السندان ظنّيّين، وهذا ما كنّا نتكلّم عنه حتّى الآن، وتبيّن أنّ التعارض ثابت بين الدلالتين وبين السندين.

3 ـ أن يكون أحدهما قطعيّ السند والآخر ظنّيّ السند، فيؤخذ بقطعيّ السند، ويصبح الآخر ممّا خالف الكتاب أو السنّة القطعيّة، ويسقط عن الحجّيّة.

وإن كان أحد الظهورين قطعيّاً والآخر ظنّيّاً، فعلى جميع التقادير يؤخذ بقطعيّ الظهور، ويجعل قرينة على ما هو المراد من ظنّي الظهور.

هذا تمام الكلام في المقدّمات.

وبعد هذا نشرع في صلب الموضوع وهو أنّه ما هو مقتضى القاعدة في الخبرين المتعارضين؟

605

 

 

 

صلب البحث في مقتضى القاعدة:

 

والكلام تارةً يقع في التعارض بلحاظ فردي دليل حجّيّة الظهور، واُخرى بلحاظ فردي دليل حجّيّة السند. وثالثة بلحاظ فرد لدليل حجّيّة السند مع فرد آخر لدليل حجّيّة الظهور.

فالكلام يقع في ثلاثة مقامات:

 

التعارض بلحاظ فردي دليل حجّيّة الظهور:

المقام الأوّل: في ما هو مقتضى القاعدة بلحاظ الظهورين المتعارضين بالقياس إلى دليل حجّيّة الظهور العامّ.

قد يبدو للذهن أنّ مقتضى القاعدة هو التساقط؛ إذ تقديم أحدهما وجعله قرينة على التصرّف في الآخر خلف افتراض أنّه ليس خاصّاً، أو أظهر، أو نحو ذلك من الوجوه التي مضت للجمع العرفي، والتي تخرج الخبرين عن التعارض بهذا المعنى المقصود هنا، وعندئذ يكون الأخذ بأحدهما ترجيحاً بلا مرجّح، وبهما معاً غير معقول، فيتساقطان.

إلاّ أنّه في مقابل هذا الكلام توجد هذه العبارة المشهورة، هي عبارة: أنّ (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)، فمثلاً لو ورد (ثمن العذرة سحت) وورد (لا بأس بثمن العذرة) فالأولى أن يجمع بينهما بحمل كلّ منهما على القدر المتيقّن في مقابل الآخر، فيحمل مثلاًالأوّل على عذرة غير مأكول اللحم، والثاني على عذرة مأكول اللحم.

ويمكن تبرير هذه العبارة المعروفة بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّنا إنّما نرفع اليد عن الظهورين عند التعارض لأجل الضرورة، والضرورات تتقدّر بقدرها، فنحن مضطرّون إلى رفع اليد عن جزء من جزءي كلّ واحد من الظهورين، فنرفع اليد عن ظهور الأوّل في عذرة مأكول اللحم، وعن ظهور الثاني في عذرة غير الماكول. وأمّا الجزء الثاني من جزءي ظهور كلّ منهما فهو باق تحت دليل الحجّيّة من دون مبرّر لرفع اليد عنه، هكذا جاء في عبارة الشيخ الأعظم(رحمه الله) وغيره.

وجاء في كلامهم جوابه ـ أيضاً ـ وهو: أنّه كما يمكن رفع اليد عن جزء من جزءي كلّ من

606

الظهورين، والتحفّظ على الجزءين الآخرين، كذلك يمكن رفع اليد عن جزءي أحد الظهورين والتحفّظ على جزءي الآخر، ولا مرجح للأوّل على الثاني.

وتعميق المطلب هو: أنّ كلاّ من جزءي الظهورين معارض بمثله في مقابله، فظهور الأوّل في غير مأكول اللحم معارض بظهور الثاني في غير مأكول اللحم، وظهور الأوّل في المأكول معارض بظهور الثاني في المأكول، فما معنى أن نأخذ اعتباطاً من المتعارضين الأوّلين الأوّل ومن المتعارضين الآخرين الثاني؟!

الوجه الثانى: دعوى تطبيق الجمع العرفي. ونوضّح ذلك بذكر مثالين: أحدهما في الجمع في جانب الموضوع، والثاني في الجمع في جانب الحكم.

المثال الأوّل، قوله: (ثمن العذرة سحت) و(لا بأس بثمن العذرة) فكلمة (العذرة) في كلّ من الكلامين لها دلالتان؛ دلالة وضعيّة، وهي دلالتها على ماهية العذرة الجامعة بين المطلق والمقيّد، ودلالة بمقدّمات الحكمة، وهي دلالتها على الاطلاق. ولو كنّا نحن والدلالتين الوضعيتين لما كان يوجد أيّ تعارض بينهما؛ فإنّ غاية ما تدلاّن عليه أنّ ثمن العذرة بنحو القضية المهملة سحت، وأنّه بنحو القضية المهملة لا بأس به، فالتعارض إنّما هو بين إطلاق كلّ منهما والدلالة الوضعية للآخر، وحيث إنّ الدلالة الوضعية مقدّمة على الإطلاق على ما يقوله جملة منهم كالسيد الاُستاذ، فيسقط الإطلاقان، وتبقى الدلالتان الوضعيتان، ومفادهما القضية المهملة التي هي في قوّة الجزئية، وإذا كان ثمن العذرة سحتاً في الجملة فالقدر المتيقّن من ذلك عذرة غير مأكول اللحم، وإذا كان لا بأس بثمنها في الجملة، فالقدر المتيقّن من ذلك عذرة المأكول، فنستنتج حرمة الأوّل وحلّيّة الثاني.

المثال الثاني: لو قال: (افعل كذا) وقال ايضاً، (سيّان ان تفعل، أو لا) فالأوّل صريح في الرجحان، وأصل الطلب ظاهر في الوجوب، والثاني صريح في الإباحة بالمعنى الأعمّ، وظاهر في الاباحة بالمعنى الأخصّ، ولا معارضة بين الصريحين، وصريح كلّ منهما قرينة لرفع اليد عن ظاهر الآخر، فيثبت الاستحباب.

والجواب عن هذا الوجه نوضّحه أوّلا بالتكلّم عن المثال الثاني، ثمّ التكلّم عن المثال الأوّل.

فنقول: إن قوله مثلا: (سيّان ان تفعل، أو لا) له معنيان: الأوّل إرادة الإباحة بالمعنى الأخصّ، وهذا هو الظاهر، والثاني إرادة الإباحة بالمعنى الأعمّ بحدّه، أي: مجرّد نفي الوجوب والحرمة من دون نظر إلى الإباحة بالمعنى الأخص نفياً أو إثباتاً، وهذا المعنى خلاف الظاهر،

607

فعلى المعنى الأوّل يكون هذا الكلام معارضاً لرواية افعل، لا قرينة على حملها على الاستحباب؛ لأنّه ينفي أصل الطلب بإثبات الإباحة بالمعنى الأخصّ، وعلى المعنى الثاني يكون قرينة لحملها على الاستحباب. وأمّا ما يقال من أنّ هذا الكلام صريح في الإباحة بالمعنى الأعمّ، فهو إنّما يكون بمعنى أنّ الإباحة بالمعنى الأعمّ تصدق على كلا محتملي الكلام، فيكون صريحاً فيه، أي: إنّ صراحته في الإباحة بالمعنى الأعمّ تكون في طول ثبوت معنيين له: أحدهما معارض والآخر قرينة، وصراحةٌ تكون في طول معنيين من هذا القبيل لا تشكّل قرينية أقوى ممّا يستفاد من نفس المعنين، فيجب أن نحسب حساب نفس المعنيين لنرى أنّه متى ما كان الكلام مردّداً بين معنيين: أحدهما قرينة لصرف كلام آخر عن ظاهره والاخر معارض له فهل يعدّ هذا الكلام قرينة لصرف الكلام الآخر عن ظاهره، أو لا؟ فنقول:

تارةً يفرض أنّ هذا الكلام ظاهر في المعنى الذي يكون قرينة، ويكون المعنى المعارض خلاف الظاهر، وعندئذ لا إشكال في القرينيّة.

واُخرى يفرض العكس، كما في المقام، وعندئذ لا ينبغي الإشكال في عدم القرينيّة، فإنّه إن جعل المعنى الظاهر قرينة فالمفروض انّه معارض لا قرينة، وان جُعل المعنى الآخر قرينة فهو لا حجّيّة له حتّى يُعتبر قرينة، فان الحجّيّة ثبتت للمعنى الظاهر ولم تثبت للمعنى غير الظاهر، ولا معنى لافتراض القرينيّة لصراحة ناتجة من الجمع بين القرينية والمعارضة.

وثالثة يفرض الإجمال من قبيل مرسلة ابن أبي عمير: (أنّ الكرّ ألف ومئتا رطل)، وصحيحة محمد بن مسلم (أنّه ستمائة رطل)، حيث إنّه لم يذكر في الحديث أنّ المقصود هل هو الرطل العراقي، أو المكّي الذي هو ضعف العراقي، أو المدني الذي هو نصف مجموع العراقي والمكّي، فلو فرض أنّ المقصود من صحيحة محمد بن مسلم المكّي، كان قرينة على حمل المرسلة على العراقي، كما لو فرض أنّ المقصود من المرسلة العراقي كان قرينة على حمل الصحيحة على المكّي، وعندئذ نقول: إنّ أصل التعارض غير ثابت؛ إذ لم يحرز التكاذب بينهما؛ لاحتمال كون المقصود من المرسلة العراقي، ومن الصحيحة المكي، فيتوافقان، وإذا لم يحرز التكاذب بينهما فدليل الحجّيّة يشملهما معاً، ونستنبط الحكم لأمن باب قرينية إحداهما للاُخرى، فإنّ أصل التعارض غير ثابت، فنؤمن بحجّيّة كلّ منهما على إجماله(1)،


(1) اختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في مثل هذا المثال في بعض بياناته إمكان جعل كلّ واحد منهما قرينة لرفع إجمال الآخر، وذلك بناءً على ما ورد في تقرير السيّد الهاشمي (حفظه الله) للاُصول: ج 3، ص 445 ـ 447، ونوكل بيان ذلك إلى بحث المجمل والمبيّن.

608

والقرينيّة فرع التعارض، بل من باب أنّ اللازم العقلي القطعي لافتراض كون الكرّ ستمائة رطلا بأحد الأرطال إجمالا، وألف ومائتي رطلا بأحد الأرطال إجمالا، هو كونه ستمائة رطلا بالمكّي وألف ومائتين بالعراقي.

وبكلمة اُخرى: أنّ صحيحة محمد بن مسلم تدلّ ـ على أيّ حال ـ على أنّ الكرّ ليس بأكثر من ستمائة رطل مكّي، ومرسلة ابن أبي عمير تدلّ ـ على أيّ حال ـ على أنّ الكرّ ليس بأقلّ من ألف ومائتي رطل عراقي، وبهذا يتحدّد الكرّ ـ لا محالة ـ في ستمائة رطل مكّي وألف ومائتي رطل عراقي.

وبما ذكرناه يتّضح الحال في المثال الأوّل، فإنّ المقصود من القضيّة: إمّا هي الجزئيّة أو الكلّيّة. وأمّا الطبيعيّة المهملة التي نقطع بإرادتها فهي منتزعة من مجموع المعنيين، وأحدهما يعدّ معارضاً، والآخر يعدّ قرينة، والقضيّة ظاهرة في المعنى المعارض، فلا تصلح للقرينيّة.

فتحصّل: أنّ التعارض بين الظهورين مستحكم، ولا يمكن الجمع بينهما جمعاً عرفيّاً. نعم، نفس النتيجه تتمّ ـ عن غير طريق قانون القرينيّة ـ في مورد واحد، وهو ما إذا كان الخبران قطعيّين سنداً وجهةً، فعندئذ نحن نقطع بأنّ حكم الله الواقعي في ثمن عذرة مأكول اللحم إنّما هو الحلّ، وإلاّ للزم: إمّا عدم صدور خبر الحلّ، أو كونه تقيّة، أو كون الشارع يتناقض في أحكامه وكلامه، والكلّ غير محتمل. ونقطع ـ أيضاً ـ بأنّ حكم الله الواقعي في ثمن عذرة غير مأكول اللحم إنّما هو الحرمة، وإلاّ للزم: إمّا عدم صدور خبر الحرمة، أو كونه تقيّة، أو التناقض، والكلّ غير محتمل، فتمّت النتيجة عن طريق القطع، لا عن طريق قانون القرينيّة.

هذا. ولو فرضنا أنّ أحد الخبرين قطعيّ سنداً وجهة ـ ولنفرض مثلا هو خبر الحرمة ـ دون الخبر الآخر، قطعنا بمضمون الخبر القطعي في المقدار المتيقّن، أي: نقطع مثلا بحرمة ثمن عذرة غير ماكول اللحم، وبأنّ إطلاق خبر الحلّ لثمن عذرة غير ماكول اللحم ساقط، وعندئذ إن قلنا بانقلاب النسبة فخبر الحلّ بعد سقوط إطلاقه يقيّد خبر الحرمة، فنصل ـ أيضاً ـ إلى نفس الجمع السابق عن طريق انقلاب النسبة. وإن لم نقل بانقلاب النسبة وقع التعارض بين الخبرين في ثمن عذرة مأكول اللحم، وسند خبر الحلّ داخل في التعارض لكنّ خبر الحرمة سنده غير داخل في التعارض لفرض القطع به، وإنّما يدخل في التعارض ظهوره،

609

وسياتي ـ إن شاء الله ـ في البحث عن التعارض بين السند والظهور أنّ الظهور المعارض لسند قطعي يسقط عن الحجية؛ لدخوله في (ماخالف قول ربّنا لم نقله، وهو زخرف).

ولو فرضنا أنّ الخبرين قطعيّان سنداً، وأحدهما قطعيّ جهةً أيضاً ـ ولنفرضه خبر الحرمة ـ دون الآخر، قطعنا بالحكم في قطعيّ الجهة في المقدار المتيقّن، أي نقطع بحرمة ثمن عذرة غير المأكول مثلا، وبسقوط إطلاق خبر الحلّ: فإنّ قلنا بانقلاب النسبة فالكلام الكلام، وإلاّ وقع التعارض بين أصالة الإطلاق في خبر الحرمة وأصالة الجهة في خبر الحلّ وتتساقطان.

وعلى أيّة حال فقد تحصّل أنّ الجمع التبرّعي لا يخرج الخبرين عن كونهما متعارضين، ولا يكون جمعاً عرفيّاً.

هذا. ولو قلنا: إنّه جمع عرفي، فهذه مناقشة صغروية، ويبقى البحث الكبروي ـ في أنّه متى ما استحكم التعارض، فما هي الوظيفة؟ ـ ثابتاً على حاله.

فنقول: متى ما استحكم التعارض فهل مقتضى القاعدة التساقط الكلّي، أو مقتضى القاعدة السقوط الجزءي بمعنى سقوط أحدهما المعيّن دون الآخر وهو المسمى بالترجيح، أو سقوط كلّ واحد منهما في حالة دون اُخرى وهو المسمى بالتخيير؟

وهنا نضمّ المقام الثاني الذي نبحث فيه عمّا هو مقتضى القاعدة في تعارض السندين إلى المقام الأوّل الذي نبحث فيه عن تعارض الظهورين، ونجعلهما بحثاً واحداً فنقول:

 

التعارض بلحاظ فردي دليل حجية السند:

المقام الثاني: في ما هو مقتضى القاعدة في تعارض السندين، ونضمّه إلى البحث عمّا هو مقتضى القاعدة في تعارض الظهورين.

فنقول بشكل مطلق: إنّ الخبرين إذا تعارضا بلحاظ ظهورهما أو بلحاظ سندهما، فهل مقتضى القاعدة التساقط، أو الترجيح، أو التخيير؟

تحقيق الكلام في ذلك: أنّه لو فرض أنّ نكتة الحجّيّة العقلائية تقتضي بلحاظ ارتكاز العقلاء الترجيح انعقد لدليل الحجّيّة العامّ ظهور في حجّيّة خصوص ذلك الأرجح ولو مع فرض القول بأنّ مقتضى القاعدة ـ لو غضّ النظر عن الارتكاز ـ شيء آخر غير الترجيح؛ وذلك لظهور دليل الحجّيّة في كونه إمضاء لنفس الارتكاز العقلائي، وانصرافه إلى ما هو المرتكز عندهم.

610

ولو فرض أنّ تلك النكتة تقتضي بلحاظ ارتكاز العقلاء التخيير انعقد لدليل الحجّيّة ظهور في التخيير، ولو مع فرض القول بأنّه لولا الارتكاز لكان مقتضى القاعدة شيئاً آخر.

ولو فرض أنّها تقتضي التساقط سقطت دلالة دليل الحجّيّة العامّ عند التعارض حتّى مع فرض القول بخلاف ذلك لولا الارتكاز، لما عرفت من ظهور دليل الحجّيّة في إمضاء نفس الارتكاز العقلائي.

نعم، لو فرض أنّ ارتكاز العقلاء حياديّ تجاه هذا النقطة، وأنّهم يختلفون في ما بينهم في الاتّجاه الذي يتّخذونه تجاه خبرين متعارضين مثلا، فعندئذ تصل النوبة إلى إعمال القواعد اللغوية في فهم ما هي الوظيفة من دليل الحجّيّة العامّ بغضّ النظر عن تدخل الارتكاز.

والذي اشتهر بينهم هو أنّ مقتضى القاعدة هو التساقط.

والدليل على ذلك حسب ما ذكره السيّد الاُستاذ(رحمه الله)(1)، واعتمد عليه هو أنّه إنّ اُريد إثبات حجّيّة كليهما بدليل الحجّيّة لم يمكن للتعارض. وان اُريد اثبات حجّيّة أحدهما المعيّن فقط كان ترجيحاً بلا مرجّح. وإن اُريد إثبات حجّيّة كلّ واحد منهما عند عدم الأخذ بالآخر، أي: عند عدم الموافقة الالتزامية والبناء على الآخر، لزم حجّيّة كليهما لو لم يلتزم بشيء منهما. وإن اُريد إثبات حجّيّة كلّ واحد منهما عندالأخذ والالتزام به فهذا وإن كان معقولا بلحاظ الأخبار العلاجية لكنّه ليس معقولاً بلحاظ دليل الحجّيّة العامّ؛ إذ يلزم منه أنّه لو لم يأخذ بشيء منهما لم يكن شيء منهما حجّة عليه، فهذه حجّيّة أمرها بيد المكلف، وهذا كما ترى يخالف السَير الفقهي وعمل الفقهاء قاطبة، وهذا بخلاف الأخبار العلاجية التي تقول: (خذ بأحدهما)، فإنّ تلك الأخبار تدلّ على وجوب الأخذ بأحدهما، وعلى أنّ ما يأخذه يكون حجّة له. وأمّا دليل الحجّيّة العامّ فلا يدلّ إلاّ على حكم واحد، وهو حجّيّة ما ياخذ به، ولا يدل على وجوب الأخذ بأحدهما.

أقول: إنّ هذا الكلام أقلّ ما يرد عليه أنّه بالإمكان أنّ يقال: إنّنا نختار الشقّ الرابع، وهو حجّيّة ما يأخذ به، فإن احتمل عقلائياً كون نكتة الحجّيّة منسجمة مع حجّيّة من هذا القبيل، أي حجّيّة أمرها بيد المكلف فإن أخذ والتزم بالحديث كان حجّة، وإلاّ لم يكن حجّة فلا بأس بالالتزام بذلك، وإن لم يحتمل ذلك؛ إذ ليس من المحتمل عقلائياً كون التزام العبد وعدم التزامه دخيلا في اهتمام المولى بالملاكات الواقعية وعدمه، أو كون ملاك الحجّيّة سنخ


(1) راجع مصابح الاصول - ج 3 ص 365 ـ 367.

611

ملاك يوجد عند التزام العبد ولا يوجد عند عدم التزامه، كان دليل الحجّيّة العامّ بضميمة عدم احتمال ذلك بحسب الارتكاز العقلائي دالّاً على وجوب الأخذ بأحدهما، فدليل الحجّيّة العامّ يدلّ على حجّيّة ما يؤخذ به بالمطابقة، وعلى وجوب الأخذ بأحدهما بالالتزام.

وطبعاً وجوب الالتزام بأحدهما حكم ظاهري كما هو الحال بلحاظ الأخبار العلاجية، أي: إنّه لو لم يلتزم بأحدهما كان الواقع منجّزاً عليه.

والتحقيق: أنّه لا بدّ من طرح اُسلوب آخر للتعرّف على ما هو مقتضى القاعدة غير ما ذكره السيّد الاُستاذ واعتمد عليه، فنقول: إنّهم تارةً يبحثون عمّا هو مقتضى القاعدة لو بقينا نحن ودليل الحجّيّة العامّ: هل هو الترجيح، أو التخيير، او التساقط.وهذا ما يُعبَّر عنه بالأصل الأوّلي، واخرى يبحثون عن أنّه لو فرض أنّنا عرفنا بنكتة من إجماع وغيره عدم التساقط ودار الأمر بين التعيين والتخيير، فهل الأصل هو التخيير أو التعيين والترجيح.

وهذا ما يعبَّر عنه بالأصل الثانوي. إذن فيقع الكلام في جهتين:

 

مقتضى الأصل الأوّلي في الخبرين المتعارضين:

الجهة الاُولى: فيما هو مقتضى الأصل الأوّلي عند دوران الأمر بين الترجيح والتخيير والتساقط.

فنقول: إنّ هناك فروضاً أربعة:

الفرض الأوّل: أن يفترض العلم الخارجي بأنّ نكتة الحجّيّة إن كانت موجودة في الخبرين المتعارضين فهي أقوى في أحدهما المعيّن منها في الآخر، فلنفرض مثلا أنّه وقع التعارض بين رواية لزرارة ورواية لمحمد بن مسلم، إلاّ أنّ رواة الرواية الاُولى كانوا أكثر وثاقة بكثير من رواة الرواية الثانية، فقطعنا بأنّ نكتة الحجّيّة إن كانت فهي أقوى في رواية زرارة، وعندئذ نقطع بسقوط إطلاق دليل الحجّيّة لرواية محمد بن مسلم؛ إذ: إمّا أنّ نكتة الحجّيّة غير موجودة عند التعارض، فرواية محمد بن مسلم غير حجّة، أو موجودة وهي أقوى في رواية زرارة، ومقدّمة على رواية محمد بن مسلم، فأيضاً رواية محمد بن مسلم غير حجّة، وعليه فيبقى إطلاق دليل الحجّيّة لرواية زرارة بلا معارض، ففي هذا الفرض يتعيّن الترجيح.

الفرض الثاني: أن يفترض العلم الخارجي بأنّ نكتة الحجّيّة إن كانت موجودة في المتعارضين فنسبتها إلى كليهما على حدّ سواء، كما إذا لم تكن مزيّة لأحد السندين على

612

الآخر، ونضمّ إلى ذلك استظهار عدم وجود نكتة نفسيّة توجب جعل المولى للحجّيّة لإحدى الروايتين بعينها، وذلك باستظهار الطريقيّة الصرف من دليل الحجّيّة، وعندئذ نقطع بأنّ إطلاق دليل الحجّيّة لكل واحد من الخبرين عند الأخذ والالتزام بالآخر مثلا ساقط حتماً: إمّا لعدم وجود نكتة الحجّيّة راساً عند تعارض الخبرين، أو لأن نكتة الحجّيّة ليست بأقوى في أحدهما، فلا تقتضي حجّيّته على التعيين، أي: حتى عند الأخذ بالآخر. وعليه فيبقى إطلاق دليل الحجّيّة لكلّ واحد منهما عند الأخذ والالتزام به بلا معارض، ففي هذا الفرض يتّجه التخيير.

الفرض الثالث: أن نحتمل الترجيح لأحدهما المعيّن، وهو خبر زرارة مثلا، ولا نحتمل الترجيح للآخر، وهو خبر محمد بن مسلم مثلا، وعندئذ نقطع بسقوط إطلاق دليل الحجّيّة لخبر محمد بن مسلم عند الأخذ بخبر زرارة: إمّا لعدم وجود نكتة الحجّيّة في فرض التعارض رأساً، أو لتساوي نسبتها إليهما، فلا تقتضي حجّيّة خبر محمد بن مسلم تعييناً، أي: حتّى عند الأخذ بخبر زرارة، أو لأرجحيّتها في خبر زرارة، فيقدّم على خبر محمّد بن مسلم. وعليه فيبقى إطلاق دليل الحجّيّة لخبر زرارة عند الأخذ به سليماً عن المعارض، وبذلك يثبت عدم التساقط، وعدم انتفاء نكتة الحجّيّة عند التعارض راساً، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، فتدخل المسألة فيما سيأتي ـ إن شاءالله ـ من الجهة الثانية التي يبحث فيها عن الأصل الثانوي المعيّن للتعيين أو التخيير عند دوران الأمر بينهما بعد فرض الفراغ عن عدم التساقط.

الفرض الرابع: أن يحتمل الترجيح في كلّ واحد منهما سواء احتمل التساوي أولا، واحتمال الترجيح في كلّ واحد منهما يكون: إمّا لاحتمال النكتة النفسية بناء على عدم استظهار الطريقية الصرف من دليل الحجّيّة، أو لاحتمال النكتة الطريقية للترجيح في كلّ واحد منهما، كما لو كان أحدهما أعدل والآخر أفقه، فاحتملنا أرجحية خبر الأعدل لأبعديّته عن الكذب والمسامحة، واحتملنا أرجحيّة خبر الأفقه لأبعدّيته عن الخطأ في النقل بالمعنى، وعندئذ يقال في بداية الأمر بالتساقط، لاحتمال حجّيّة كلّ منهما حتّى عند الأخذ بالآخر، فلا يمكن إثبات التخيير بالتمسّك بإطلاق دليل الحجيّة لكلّ واحد منهما عند الأخذ به، لا لما ذكره السيّد الاُستاذ من لزوم عدم الحجّيّة عند عدم الأخذ بشيء منهما، بل لأن إطلاق دليل الحجّيّة لخبر زرارة عند الاخذ به معارض بإطلاقه لخبر محمد بن مسلم عند الأخذ بخبر زرارة، وكذلك إطلاقه لخبر محمد بن مسلم عند الأخذ به معارض بإطلاقه لخبر زرارة عند الأخذ بخبر محمد بن مسلم، حيث إنّ المفروض احتمال التعيين في كلّ واحد منهما

613

بأن يكون حجّة حتّى عند الأخذ بالآخر؛ لأنّنا احتملنا الترجيح في كلّ واحد منهما: إمّا بنكتة طريقيّة، او بنكتة نفسيّة. وبكلمة اُخرى: تكون دلالة الدليل على مطلق الحجّيّة في أحدهما معارضة بدلالته على الحجّيّة المطلقة في الآخر، فالتخيير لا معنى له، وإذا لم يتعقّل التخيير تعيّن التساقط؛ لأنّ حجّيّتهما معاً غير معقولة لتعارضهما، وحجّيّة أحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجح، فبعد إبطال الجمع بينهما في الحجّيّة والترجيح والتخيير يتعيّن التساقط(1).

 


(1) لا يخفى أنّ التفصيل بين الفروض الأربعة التي تعرّض لها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إنّما يتمّ في صورتين، وكلتاهما لا واقع لهما:

الصورة الاُولى: أن نفترض أنّ دليل الحجّيّة العامّ قد انعقد له الظهور في حجّيّة كلّ واحد من المتعارضين، فنركّز كلامنا على مدى حجّيّة هذا الظهور، فعندئذ يقال مثلا في الفرض الاوّل من الفروض الاربعة: إنّ ظهور العام في حجّيّة الفرد الذي لا نحتمل أقوائيّة نكتة الحجّيّة فيه ساقط عن الحجّيّة يقيناً، للقطع بخروج هذا الفرد: إمّا مع معارضه، وإمّا وحده، فيبقى الفرد الآخر الذي علمنا بأقوائية نكتة الحجّيّة فيه على تقدير ثبوتها لدى التعارض مشمولا للمساحة الحجّة من ظهور العامّ.

إلاّ أنّ هذه الصورة لا واقع لها في المقام؛ وذلك لأنّ ظهور العامّ في حجّيّة كلّ واحد من المتعارضين غير منعقد؛ لأنّ عدم إمكان حجّيّة المتعارضين معاً واضح ارتكازي كالمتّصل، فيمنع عن انعقاد مجموع هذين الظهورين.

الصورة الثانية: أن نفترض أنّ المقيّد الارتكازي يركّز على إسقاط خصوص أحد الظهورين للعموم مثلا فيبقى الظهور الآخر فارغاً عن المعارض، ففي الفرض الأوّل مثلا من الفروض الأربعة أصبح ظهور العامّ في حجّيّة الفرد الذي لا يحتمل فيه أقوائيّة نكتة الحجّيّة منتفياً بخصوصه، فبقى مقتضي ظهور العامّ في حجّيّة الفرد الآخر بلا مزاحم.

إلاّ أنّ هذه الصورة ـ أيضاً ـ لا واقع لها؛ لأنّ النكتة التي بها سقط ظهور العامّ في ذلك الفرد ليست متعيّنة في نكتة تخصّه.

لا يقال: إنّ ظهور العام في أحد الفردين قد علمنا سقوطه على أيّ تقدير وبهذا أصبح الظهور الآخر بلا معارض.

فانه يقال: إنّ المقيّد الارتكازي الذي ينجي الظهور الآخر من التعارض بإسقاط الظهور الأوّل ليس هو نفس سقوطه، ولا العلم بسقوطه، وإنّما هو النكتة التي توجب سقوط الحجية المستفادة من الظهور الاول، وتلك النكتة مردّدة في المقام بين أن تكون نكتة لاتخصّ ذلك الظهور، وهي التعارض والتمانع مثلا وبين أن تكون نكتة تخصّه، وهي أضعفية ملاكه من ملاك الآخر مثلا، وعلمنا الإجمالي بإحديهما أوجب اليقين بسقوط ذاك الظهور، ولكن بما أنّ النكتة التي تخصّ ذاك الظهور بالسقوط ليست إلاّ طرفاً للعلم الاجمالي، ولا نعلم بها بالذات كي تكون مقيّدة ارتكازيّة كالمتّصل، فلا محالة تكون النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات، فلا يوجد لدينا مقيّد ارتكازي كالمتّصل، وبالتالي لا يخرج العامّ من الإجمال بلحاظ الظهور الآخر.

نعم، لو فرضنا أنّ الفاصل في الوثاقة مثلا بين الراويين كان كبيراً إلى درجة رآى العرف أنّ أحد الخبرين في

614

إلاّ أنّ بالإمكان استيناف البحث في المقام وإعادة النظر في أنّه هل حقّاً بطل الجمع بينهما في الحجّيّة والتخيير والترجيح، فوصلت النوبة الى التساقط، أو لا؟

فنقول: إنّ التعارض على قسمين: تعارض ذاتي، وتعارض عرضي، ونقصد بالأوّل ما إذا وجد تناف داخلي بين المدلولين، وبالثاني ما إذا كان التعارض بينهما بسبب علم إجمالي خارجي كما في دليل وجوب صلاة الجمعة ودليل وجوب صلاة الظهر.

والتعارض الذاتي تارةً يكون على أساس التناقض من قبيل (يجب) و(لايجب)، واُخرى على أساس التضاد من قبيل (يجب) و(يحرم)، فالمجموع ثلاثة أقسام، نتكلّم في كلّ واحد منها على حدة فنقول:

القسم الأوّل: أن يكون التعارض عرضيّاً كما في (صلِّ صلاة الجمعة) و(صلِّ صلاة الظهر). وهنا يمكن دعوى حجّيّة كليهما ووجوب الجمع بين الصلاتين، وذلك بعدّة محاولات.

المحاولة الاُولى: وهي محاولة بدائية، أن يقال: إنّنا نأخذ بكلتا الروايتين بالرغم من العلم الاجمالي بكذب إحداهما؛ وذلك لأنّه لا يلزم من العمل بهما اجتماع تنجيز وتعذير على أمر واحد، فإنّهما منجّزان لأمرين، ولا مخالفة قطعيّة لعلم إجمالي منجّز، فهذا من قبيل العمل باستصحابي النجاسة في إنائين علمنا إجمالا بطهارة أحدهما.

وطبعاً نقول هذا في الخبر الإلزاميين عند العلم الاجمالي بالترخيص، كما في (صلِّ صلاة الجمعة) و(صلِ صلاة الظهر) لا في خبرين ترخيصيّين مع العلم الإجمالي بالإلزام.

وهذا جوابه واضح، وهو أنّ المعارضة وعدم إمكان العمل بكليهما يكون له كما أشرنا في أصل المحاولة أحد ملاكين: (الأوّل) لزوم المخالفة القطعية للتكليف الالزامي المعلوم،


قبال الخبر الآخر فقد كاشفيّته، والخبر الآخر لم يفقد كاشفيته، فهذا قد يعني أنّ العرف يحصل له علمٌ يُعتبر ارتكازيّاً كالمتّصل بسقوط الأضعف بضعفه، أي: بنكتة تخصّه، فيبقى الآخر بمنجىً عن المعارضة.

وهذا الفرض ينبغي أن يفترض خارجاً عن مورد البحث.

إن قلت: مقتضى إطلاق دليل الحجّيّة في كلّ واحد من الخبرين حجّيّته على تقدير عدم حجّيّة الآخر تعييناً، فإذا قطعنا بعدم حجّيّة الآخر تعييناً ثبتت حجّيّة الأول.

قلت: ليس مقتضى إطلاق دليل الحجّيّة في كل واحد منهما حجيّته على مطلق تقديرات عدم حجّيّة الآخر بما فيها تقدير عدم حجّيّته بسبب التمانع بين الحجّيّتين، وإنّما مقتضى إطلاق حجّيّة كلّ واحد من الفردين على تقدير سقوط الآخر بملاك يخصّه كفقدانه لملاك الحجّيّة أو أضعفية الملاك فيه من الأوّل، وهذا التقدير ليس محرزاً.

615

(والثاني) كون إحدى الحجّيّتين تنجّز والاُخرى تعذّر عن نفس ما تنجّزه الاُولى. وطبعاً لا يمكن الجمع بين التنجير والتعذير، وفي مثال الاستصحابين شيء من الملاكين غير موجود، لكن في مثال الأمارتين يكون الملاك الثاني موجوداً، والفرق هو أنّ مثبتات الاُصول غير حجّة، ومثبتات الأمارات حجّة، فكلّ واحدة من الروايتين الدالة على وجوب إحدى الصلاتين تدلّ بالملازمة على عدم وجوب الصلاة الاُخرى، فتعذّر عن الصلاة الاُخرى في حين أنّ الرواية الاُخرى تنجّزها، فيلزم الجمع بين التنجيز والتعذير، وهذا غير ممكن.

المحاولة الثانية: أنّ المشكلة ـ حسب ما عرفنا في إبطال المحاولة الاُولى ـ جاءت من قبل الدلالة الالتزامية لكلّ من الروايتين، ونحن نسقط الدلالتين الالتزامية عن الحجّيّة ونأخذ بالدلالتين المطابقيّتين، ولا بأس بحجّيّتهما معاً كما هو الحال في استصحابي النجاسة، وذلك بتقريب أنّ الدلالتين الالتزاميتين يتعيّن سقوطهما والأخذ بالدلالتين المطابقيتين؛ وذلك لعدم معقوليّة العكس بأن نرفع اليد عن الدلالتين المطابقيتين ونأخذ بالدلالتين الالتزاميتين، وذلك بناءً على ما هو الصحيح من تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقية في الحجّيّة، وسقوط حجّيّتها بسقوط حجّيّة الدلالة المطابقية، إذن فلو سقطت الدلالتان المطابقيّتان عن الحجّيّة سقطت الالتزاميتان أيضاً عن الحجية، فالالتزاميّتان ساقطتان على كلّ حال: إمّا تخصيصاً أو تخصّصاً، وتبقى المطابقيّتان بلا معارض.

والجواب: أنّ هنا ـ في الحقيقة ـ تعارضين: تعارض بين الدلالة الالتزامية للخبر الآمر بصلاة الظهر والدلالة المطابقيّة للخبر الآمر بصلاة الجمعة، وتعارض بين الدلالة الالتزامية للخبر الآمر بصلاة الجمعة والدلالة المطابقيّة للخبر الآمر بصلاة الظهر، وكلّ من الدلالتين الالتزاميتين ليست في الحجّيّة في طول ما تعارضها من الدلالة المطابقية حتّى تكون متيقّنة السقوط في مقابلها، وإنّما هي في طول الدلالة المطابقية لنفس الخبر، ومعارضة للدلالة المطابقية للخبر الآخر، فلا وجه لتعيّن سقوطها في مقابل ما تعارضها من الدلالة المطابقية، بل يمكن افتراض سقوط إحدى الدلالتين المطابقيتين مع دلالتها الالتزامية وبقاء الدلالة الالتزامية مع المطابقية في الطرف الآخر(1).

المحاولة الثالثة: إبراز تعارض ثالث في المقام، بأن يقال: إنّ هناك ـ في الحقيقة ـ


(1) يوجد في كتاب السيد الهاشمي (حفظه الله) نقلا عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)جواب آخر على هذا المحاولة الثانية، وهو أنّها موقوفة على الإيمان بالطولية في الحجّيّة بين الدلالة المطابقية والالتزامية، ولكنّنا نؤمن بالملازمة بينهما في الحجّيّة لا بالطولية.

616

ثلاثة تعارضات:

1 ـ التعارض بين الدلالة الالتزامية لخبر وجوب صلاة الظهر والمطابقية للخبر الآخر، وهو تعارض بملاك أنّ حجّيّة إحداهما تقتضي التنجيز والاُخرى تقتضي التعذير.

2 ـ التعارض بين الدلالة الالتزامية لخبر وجوب صلاة الجمعة والمطابقية للآخر، وهو ـ أيضاً ـ تعارض بنفس ذلك الملاك.

3 ـ التعارض بين نفس الدلالتين الالتزاميتين وعدم إمكان الجمع بينهما في الحجّيّة: إمّا للعلم الإجمالي بوجوب إحدى الصلاتين، فيلزم من الجمع بينهما المخالفة القطعيّة العمليّة للتكليف المعلوم بالاجمال، أو لأنّ الجمع بينهما في الحجّيّة يستلزم سقوط المطابقيّتين عن الحجّيّة؛ لاستحالة الجمع بينها، وبسقوطهما تسقط الالتزاميتان على ما هو الصحيح من التبعية(1). إذن فلا يمكن الجمع بين الالتزاميتين في الحجّيّة.

وهذا الوجه يتمّ حتّى في مورد يفترض عدم العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي بخلاف الوجه الأوّل أعني لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة، وإذا كان بين نفس الدلالتين الالتزاميتين تعارض فقد سقطتا وبقيت المطابقيتان بلا معارض.

ولكن هذا البيان بهذا المقدار يقال في مقابله: إن كلاًّ من الدلالتين الالتزاميتين لها معارضان في وقت واحد وهما: الدلالة الالتزاميّة مع الدلالة المطابقيّة للرواية الاُخرى، فتتساقط الكلّ في وقت واحد.

المحاولة الرابعة: وهي المحاولة الصحيحة: أنّه متى ما كانت عندنا طائفتان من الأدلّة، وكان كلّ دليل من إحدى الطائفتين معارضاً بدليل من الطائفة الاُخرى، وإحدى الطائفتين في ما بينها مبتلاة بتعارض داخلي، سقطت تلك الطائفة، وبقيت الطائفة الاُخرى بلا معارض. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ الدلالتين الالتزاميتين طائفة، والمطابقيتين طائفة اُخرى وما بينهما تعارض، وما بين نفس الدلالتين الالتزاميتين تعارض على ما عرفت من الوجهين في المحاولة الثالثة، فتتساقطان، وتبقى المطابقيتان بلا معارض.

والبرهان على هذه القاعدة نبيّنه من خلال تطبيقه على نفس هذا المثال، فنقول: إنّ الدليلين المتعارضين إنّما يكون تقديم أحدهما على الآخر ترجيحاً بلا مرجح لو لم يكن في هذا التقديم عيب إلاّ محذور هذا الترجيح بلا مرجّح، وذلك بأن كان كلّ من الخبرين تامّاً


(1) يرد هنا ـ أيضاً ـ إشكال إنكار الطولية بين المطابقية والالتزامية في الحجّيّة.