166

المفيد للعلم لدخوله في الاستبانة، اللّهمّ إلّا إذا احتمل اختصاصها بأمر نادر لا يتبادر إلى الذهن، أي بمثل إخبار ذي اليد مثلاً بالحرمة أو النجاسة أو نحو ذلك.

وعلى أيّة حال فأصل هذا الإشكال لا يخلو من غرابة، فلو فرض التشكيك في حمل البيّنة على شهادة العدلين في قول النبي؟ص؟: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان...» ، لا أظنّ أن يكون مجال للتشكيك في استقرار اصطلاح البيّنة في شهادة العدلين في زمان الإمام الصادق(علیه السلام).

ومنها: روايات حجّية البيّنة في القضاء كقوله؟ص؟: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» ، وهذه وإن كانت واردة في باب القضاء، ولكنّه نقل عن المحقّق الهمداني(رحمه الله) التعدّي عن مورد الدليل إلى سائر موارد الموضوعات بالأولويّة أو المساواة، بدعوى أنّ البيّنة لو كانت حجّة في مورد القضاء رغم معارضتها للأدلّة التي توافق قول المنكر _ وقد تكون أمارة كاليد _ فهي حجّة في غير تلك الموارد أيضاً والتي قد لا يعارضها إلّا أصل عملي مثلاً ، وكأنّ المقصود بالأولويّة أو المساواة الأولويّة أو


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص232، الباب2 من أبواب کيفية الحکم، ح1.

(2) المصدر السابق، ص232، ح1.

(3) راجع بحوث في شرح العروة الوثقی، ج2، ص78.

167

المساواة العرفيّة الخالقة للظهور اللفظي العرفي في إطلاق الحجّية.

وقد أورد على ذلك السيّد الخوئي(رحمه الله) بعدم إمكان التعدّي من باب القضاء إلى سائر الأبواب؛ لأنّ في القضاء خصوصيّة ضرورة فصل الخصومة، فلعلّه لذلك جعلت البيّنة فيه حجّة، وهذا بخلاف سائر الموارد، ولذا ترى أنّ اليمين جعل حجّة في باب القضاء في حين أنّه لم يجعل حجّة في سائر الموارد.

وقد أورد على ذلك أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بأنّه صحيح أنّه لابدّ في باب القضاء من فصل المرافعة ولكن كان بالإمكان فصل المرافعة بالحجّة المطابقة لقول المنكر ولو كانت أصلاً، فحينما قدّمت الشريعة بيّنة المدّعي في باب القضاء على حجّة المنكر فهذا دليل على أنّ البيّنة أقوى دلالة من حجّة المنكر، فتأتي عندئذٍ فكرة التعدّي إلى غير باب القضاء بالبيان الماضي. وأمّا الحكم باليمين فهو في واقعه ليس بمعني جعل اليمين هو الحجّة لإثبات الواقع، بل الحجّة هي اليد أو الأصل المطابق لقول المنكر، ولذا يجوز للشخص الثالث الخارج من المرافعة ترتيب الأثر على ذاك الأصل بغضّ النظر عن يمين المنكر.

وإنّما اليمين فرض موضوعاً شرعاً لحكم القاضي وفق حجّة المنكر


(1) التنقيح، ج1، ص208.

168

بنكتة المرافعة الموجودة في المقام، فإدّعاء المدّعي رغم أنّه خلاف حجّة المنكر شكّل مانعاً عن حكم القاضي وفق حجّة المنكر، وجُعل الرافع لهذا المانع شرعاً هو يمين المنكر. وهذا بخلاف الحال في بيّنة المدّعي، فإنّ المدّعي تكون دعواه خلاف الحجّة أساساً، فالقضاء وفق دعوى المدّعي بسبب البيّنة يعني جعل البيّنة حجّة لإثبات الواقع في باب القضاء، وأنّها حجّة أقوى من حجّة المنكر، فهنا تأتي فكرة التعدّي إلى غير باب القضاء بالبيان الذي مضى عن المحقّق الهمداني(رحمه الله)، هذا مضافاً إلى أنّ حجّية البيّنة في باب القضاء لا تختصّ بالمرافعات حتّى يقال: إنّه لعلّها كانت لأجل خصم النزاع، بل تشمل موارد القضاء بالحدود أيضاً من قبيل حدّ شرب الخمر الذي لا خصومة فيه.

نعم، أورد مع ذلك أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على البيان المنقول عن المحقّق الهمداني(رحمه الله) بأنّ الأولويّة والمساواة بالبيان الماضي يمكن منع ثبوتهما؛ وذلك بإبداء احتمال أنّ جعل الحجّية للبيّنة في باب القضاء لعلّه كان بنكتة شدّة اهتمام المولى في باب القضاء بالوصول إلى الواقع، وفي غير باب القضاء لعلّه لا توجد للمولى تلك الدرجة من الاهتمام بالوصول إلى الواقع المؤدّي إلى جعل الحجّية للبيّنة، ولذا لم يجعل البيّنة حجّة.

169

هذا، وللسيّد الخوئي(رحمه الله) تقريب آخر للاستدلال بقوله؟ص؟: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، وهو: أنّ البيّنة هنا ليست بمعنى شهادة عدلين كي يرد احتمال اختصاص حجّية شهادة العدلين بباب القضاء، وإنّما هي بمعنى ما يُثبت وما يبيّن؛ لأنّ اصطلاح البيّنة بمعنى شهادة عدلين اصطلاح متأخّر لا يحمل عليه ما في الكتاب والسنّة، وإنّما هي مستعملة في الكتاب والسنّة بمعناها اللغوي كقوله؟عز؟:﴿إنّي عَلَى بَيَّنݧݧَةٍ مِنْ رَبّي﴾ . وقوله؟عز؟: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذݦݦَّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيَّنݧݧَاتِ وَالزُّبُرِ﴾.

إذاً فقوله؟ص؟: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» يعني: القضاء بالدليل، أي: إنّه؟ص؟ يبيّن أنّ قضاءه ليس قضاءً بالواقع، بل قضاء بالحجّة وباليمين، وبما أنّه ثبت خارجاً أنّه؟ص؟ طبّق البيّنة في قضائه على شهادة العدلين، فهذا دليل على أنّ شهادة العدلين في ذاتها حجّة ولا اختصاص لحجّيتها بخصوص باب القضاء.

وأورد على ذلك أُستاذنا الشهيد(رحمه الله):


(1) الأنعام: 57.

(2) النحل: 44.

(3) راجع التنقيح، ج3، ص166، وج1، ص210 _ 211.

170

أوّلاً: بأنّ هذا المقدار من البيان لا يثبت إطلاق حجّية البيّنة لسائر الموضوعات بمقدّمات الحكمة؛ لأنّ الرواية وإن دلّت عندئذٍ على حجّية البيّنة في الجملة ولكن بما أنّها لم تكن بصدد بيان حجّية البيّنة مباشرة، بل فرضت حجّية البيّنة أمراً مفروغاً عنها وأخذتها في موضوع القضاء، إذاً فلا تجري مقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق.

وثانياً: أنّه لو ثبت أنّ الرواية بصدد جعل حكم القضاء والحجّية القضائيّة وقد أخذت في موضوع هذه الحجّية حجّية شهادة العدلين _ لأنّ البيّنة بمعنى الحجّة وهي مطبّقة يقيناً في عمل الرسول؟ص؟ على شهادة العدلين _ لأمكن أن يقال: إنّ حجّية البيّنة إذاً ثابتة في الرتبة السابقة على الحجّية القضائيّة، فهي حجّة مطلقاً، لا في خصوص باب القضاء، ولكن هذا غير ثابت؛ إذ من المحتمل أنّ الرسول؟ص؟ إنّما هو بصدد الإخبار بأنّه لا يقضي بالواقعيّات، وإنّما يقضي بالبيّنات والأيمان وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار، وقد طبّق البيّنة عملاً على شهادة العدلين، وهذا يعني حجّية شهادة العدلين. أمّا كونها حجّية مفروغاً عنها في الرتبة السابقة على حجّية القضاء حتّى يدّعى

171

عندئذٍ أنّ هذا يعني حجّية البيّنة على الإطلاق لا في خصوص باب القضاء فلم يثبت، فكم فرق بين أن يقول مثلاً: جعلت الحجّية للقضاء بما هو حجّة وأن يقول مثلاً: إنّي لا أعتمد في القضاء على علم الغيب بل على الحجّة، فالأوّل تستفاد منه فرض الحجّية في المرتبة السابقة على الحجّية القضائيّة، بخلاف الثاني.

هذا، ورغم كلّ ذلك قد استقرب أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) تماميّة الاستدلال بهذه الرواية على حجّية البيّنة في الموضوعات مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل؛ وذلك بدعوى أنّ ما يتحصّل من تطبيق النبيّ؟ص؟ الذي لا شكّ فيه للبيّنة في القضاء على شهادة عدلين من حجّية شهادة العدلين في باب القضاء حينما يضمّ إلى الجذر العقلائي لحجّية البيّنة في مطلق الأبواب يكون المفهوم عرفاً من ذلك إمضاء هذا الجذر العقلائي وجعل الحجّية للبيّنة على الإطلاق.

هذا تمام الكلام في شهادة العدلين في الموضوعات.

وقد اتّضح أنّ إثبات فقاهة الفقيه بشهادة عدلين من أهل الخبرة صحيح.


(1) بحوث في شرح العروة الوثقی، ج2، ص81 _ 82.

(2) المصدر السابق، ص82.

172

إثبات الاجتهاد بخبر الواحد

وقد يقال بأكثر من ذلك، وهو جواز إثبات فقاهة الفقيه بشهادة ثقة واحد من أهل الخبرة.

ولإثبات ذلك أحد طرق ثلاثة:

الطريق الأوݧݧّل: إثبات حجّية خبر الواحد في الموضوعات إلّا ما خرج بالدليل.

وقد يقال: إنّ حجّية خبر الواحد في الموضوعات لا تنفعنا في المقام؛ وذلك لأنّ خبر الواحد إنّما يكون حجّة إذا كان عن الحسّ، والإخبار عن الفقاهة إخبار عن الحدس؛ إذ لا يمكن أن تكشف الفقاهة بمجرّد الحسّ، وإلّا لعرفها كلّ أحد. ومن هنا يبطل أيضاً إثبات الفقاهة بالبيّنة؛ لأنّ حجّية البيّنة أيضاً مشروطة بالحسّ.

والجواب على ذلك واضح، فإنّه ليس كلّ ما لا يدركه الإنسان إلّا عن خبرة وتخصّص يعتبر الإخبار عنه من قِبل الخبير والمتخصّص إخباراً عن الحدس، وإنّما المقصود بالإخبار عن الحدس الذي ليس الإخبار عنه حجّة ما يكثر فيه الخطأ بحيث تسقط بالنسبة للإخبار عنه أصالة عدم الخطأ؛ وذلك من قبيل فتاوى الفقهاء في غير المسائل الواضحة، فحجّية فتوى الفقيه لا يمكن أن تكون من باب حجّية

173

خبر الواحد، ولا من باب البيّنة لدى توافق فقيهين على فتوى واحدة؛ لأنّ أصالة عدم الخطأ في باب الأخبار والشهادات تختصّ بما يكون عن حسّ أو قريباً من الحسّ ممّا يقلّ فيه الخطأ، ومن الواضح أنّ إخبار الخبير والمتخصّص عن الفقاهة يعتبر في شأن الخبراء بفنّ الفقه إخباراً عن الحسّ أو قريباً من الحسّ ويقلّ فيه الخطأ.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى طرف من الكلام عن حجّية خبر الواحد في الموضوعات فنقول: قد جمع أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في البحوث روايات كثيرة قد يستدلّ بها على حجّية خبر الثقة في الموضوعات، وناقش هو(رحمه الله) في دلالة أكثرها، ولم يقبل عدا دلالة خبرين منها، ونحن هنا نقتصر من بين تلك الروايات على ذكر ذينك الخبرين:

الأوّل: ما ورد بسند تام عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(علیه السلام): «في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الأُمور وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّى قد عزلت فلاناً عن الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل العزل فإنّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه


(1) بحوث في شرح العروة الوثقی ، ج2، ص91 وبعدها.

174

أنّه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟ قال: نعم، قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ثمّ ذهب حتّى أمضاه لم يكن ذلك بشيء؟ قال: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثم قام عن المجلس فأمره ماضٍ أبداً والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلّغه أو يشافَه بالعزل عن الوكالة».

ويمكن الإيراد على الاستدلال بهذا الحديث: أنّ غاية ما يدل عليه هذا الحديث هي أنّ خبر الثقة قام مقام العلم الموضوعي بالعزل في إبطال عمل الوكيل واقعاً عند مصادفة العزل، وهذا غير قيامه مقام القطع الطريقي الذي هو معنى حجّيته.

وأجاب على ذلك أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بأنّه يفهم عرفاً من إقامته مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية في الموضوع أنّه حجّة وكاشف شرعاً.

أقول: لو كان المترقّب ابتداءً دخل العلم بالعزل بما هو طريق في موضوع عدم نفوذ ما يقوم به الوكيل أمكن القول بأنّ إقامة خبر الثقة مقام هذا العلم تدل عرفاً على طريقيّة خبر الثقة وحجّيته؛ لأنّ هذا


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص162، الباب2 من کتاب الوكالة، ح1.

(2) بحوث في شرح العروة الوثقی ، ج2، ص98.

175

العلم إنّما كان موضوعاً بما هو طريق، ولكن المترقّب ابتداءً كون موضوع عدم نفوذ عقود الوكيل هو العزل واقعاً، كما هو الحال في غالب الموضوعات في الفقه التي هي موضوعات بوجوداتها الواقعية، إلّا أنّه هنا لأجل مصلحة استقرار وضع السوق جعل وصول العزل إلى الوكيل جزء الموضوع، ومن المعقول عندئذٍ الاكتفاء في ذلك بمستوى من مستويات الوصول، وهو الوصول بخبر الثقة مثلاً، ولو اكتفي بذلك لم يحكم العرف بالتعدّي من هذا المورد واستفادة طريقيّة خبر الثقة على الإطلاق.

إلّا أنّه بالإمكان أن يقال في مقابل هذا الإشكال _ لو استفدنا من هذا الحديث سقوط استصحاب عدم العزل بخبر الثقة المخبر بالعزل _ : إنّ خبر الثقة قام هنا مقام العلم الموضوعي الطريقي مرّتين، مرّة بلحاظ أنّ العلم بالعزل موضوع لعدم نفوذ العقود أو قل: لنفوذ العزل، وأُخرى بلحاظ أنّ العلم بالعزل موضوع لسقوط استصحاب عدم العزل، وقد قام خبر الثقة مقام العلم بكلا اللحاظين، والنقاش المذكور إنّما يرد باعتبار اللحاظ الأوّل، ولا يرد باعتبار اللحاظ الثاني، فيستفاد عرفاً من قطع الاستصحاب بخبر الثقة في المقام أنّ خبر الثقة يقوم مقام القطع الطريقي على الإطلاق، ولا يرى العرف خصوصيّةً للمورد.

176

إلّا أن يقال: إنّه نحتمل أيضاً خصوصية في انقطاع الاستصحاب في المورد بإخبار الثقة باعتبار أنّ هذا الاستصحاب أيضاً يضرّ بمصلحة استقرار السوق؛ لأنّ الوكيل يعمل به ويُجري معاملات ثم ينكشف الخلاف.

ثم لا يخفى أنّ صدر هذا الحديث لا يخلو من الإشعار بعدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات؛ وذلك لقوله: «في رجل وکّل آخر على وكالة في أمر من الأُمور وأشهد له بذلك شاهدين»، فلو كان الشاهد الواحد كافياً فلماذا أشهد لذلك بشاهدين؟! ولماذا لم يبيّن الإمام(علیه السلام) أنّه كان يكفي شاهد واحد؟! وطبعاً هذا الذي نقوله لا يزيد على مجرّد الإشعار.

والثاني: ما ورد بسند تام عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضاً فقال لي: إن حدث بي حدث فأعط فلاناً عشرين ديناراً وأعط أخي بقيّة الدنانير، فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدّق منها بعشرة دنانير إقسمها في المسلمين، ولم يعلم أخوه أنّ

177

عندي شيئاً، فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير».

ودلالة هذا الحديث قابلة للمناقشة؛ وذلك لأنّ جهة السؤال في كلام السائل مردّدة بين أمرين، فبناءً على أنّ إجمال السؤال في مثل ذلك يسري إلى الجواب _ لا أنّ ترك الاستفصال يوجب انعقاد الإطلاق _ يصبح الجواب مجملاً، والاحتمالان ما يلي:

أحدهما: كون المقصود السؤال عن حجّية خبر الثقة الذي أخبر بوصيّة المتوفّى.

والثاني: كون السائل فارغاً عن أنّ المخبر صادق في إخباره إلّا أنّ الوارث _ وهو أخوه مثلاً _ غير مطّلع على هذه الوصيّة، فلو اطّلع على قصّة هذا الرجل لطالبه بالبيّنة، وهو لا يمتلك بيّنة، أو طالبه بالحلف مثلاً ما دام لا يمتلك بيّنة، وقد لا يرغب هو في الحلف مثلاً، وإنّما لم يطالبه بالبيّنة ولا بالحلف لأنّه غير مطّلع على أصل وجود مال لأخيه لدى هذا الرجل، فهل من حقّه أن يعمل بما علمه من الوصيّة من دون إخبار أخيه؟ أو ليس من حقّه ذلك قبل تصفية الحساب مع من لو اطّلع على الأمر لكان له رفع القضيّة إلى حاكم


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص433، الباب97 من کتاب الوصايا، الحديث الوحيد في الباب.

178

الشرع؟ فأجاب الإمام(علیه السلام) بأنّه تصدّق بعشرة دنانير.

وهناك وجه آخر لإثبات حجّية خبر الثقة في الموضوعات بالروايات؛ وذلك عبارة عن التمسّك بروايات كفاية شاهد واحد مع اليمين من قبل المدّعي في حقوق الناس أو في الحقوق الماليّة أو في الديون ؛ وذلك بدعوى أنّ هذا يعني أنّ المدّعي حينما يقيم شاهداً واحداً على مدّعاه ينقلب منكراً، فيطالب باليمين، ولا وجه لانقلابه إلى المنكر عدا أنّ خبر الواحد حجّة في الموضوعات، فيصبح كلامه مطابقاً للحجّة، والمنكر هو الذي يطابق كلامه الحجّة.

ولكن قد وقع في بعض هذه الروايات أنّ هذا حكم مخصوص بموردها، ولا يرد في حقوق الله، من قبيل ما جاء في حديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق الله عزّوجلّ أو رؤية الهلال فلا».


(1) راجع وسائل الشيعة، ج27، ص264، الباب14 من أبواب كيفيّة الحكم وأحکام الدعوی.

(2) المصدر السابق، ص268، ح12.

179

وعلى أيّة حال فالظاهر أنّ المقصود من تلك الروايات ليس هو انقلاب المدّعي منكراً، بل هو قيام اليمين مقام الشاهد الثاني؛ إذ لو كان المقصود انقلاب المدّعي منكراً لوصلت النوبة بعد قيام شاهد واحد لصالح المدّعي إلى بيّنة خصمه، لا إلى يمين المدّعي.

ثم لو تمّت دلالة رواية مّا على حجّية خبر الثقة في الموضوع في موردها مع دعوى تعدّي العرف عن موردها أو عدم التعدّي فإنّ بالمقابل روايات أُخرى تدل في مواردها على عدم حجّية خبر الثقة في الموضوع من قبيل:

1_ كلّ ما مضى من روايات شرط البيّنة في الموضوعات، من حديث مسعدة بن صدقة، وحديث عبدالله بن سليمان، وأحاديث المطلّقة، وروايات ثبوت الهلال بشهادة عدلين.

2_ ما عن محمد بن مسلم بسند تام عن أحدهما؟عهما؟ قال: «سألته عن رجل ترك مملوكاً بين نفر فشهد أحدهم أنّ الميّت أعتقه، قال: إن كان الشاهد مرضيّاً لم يضمن، وجازت شهادته (في نصيبه _ خ) ويستسعى العبد فيما كان للورثة».


(1) المصدر السابق، ج23، ص88، الباب52 من کتاب العتق، ح1.

180

3_ ما عن منصور بسند غير تام قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل هلك وترك غلاماً، فشهد بعض ورثته أنّه حرّ قال: إن كان الشاهد مرضيّاً جازت شهادته، ويستسعى فيما كان لغيره من الورثة».

4_ ما عن منصور بسند تام _ وكأنّه الحديث السابق _ قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل هلك وترك غلاماً مملوكاً، فشهد بعض الورثة أنّه حرّ فقال: تجاز شهادته في نصيبه، ويستسعى الغلام فيما كان لغيره من الورثة» ، وليس في هذا الحديث قيد العدالة أو الوثاقة، لكن تقييده بفرض عدم العدالة أو عدم الوثاقة بعيد جدّاً.

5_ روايات عدم نفوذ شهادة النساء غير المختصّة بباب المرافعة الواردة تارة في موارد خاصّة، وأُخرى بشكل مطلق غير ما استُثني، وذلك من قبيل:

ما ورد بسند غير تام عن صالح بن عبدالله الخثعمي قال: «سألت


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص88، الباب52 من کتاب العتق، ح2.

(2) المصدر السابق، ج27، ص411، الباب52 من کتاب الشهادات، الحديث الوحيد في الباب.

181

أبا الحسن موسى(علیه السلام) عن أُمّ ولد لي صدوق زعمت أنّها أرضعت جارية لي أُصدّقها؟ قال: لا».

ونحوه مرسلة عبدالله بن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله(علیه السلام) «في امرأة أرضعت غلاماً وجارية، قال: يعلم ذلك غيرها؟ قال: لا، قال: فقال: لا تصدّق إن لم يكن غيرها» ، وتقييدها بفرض عدم كونها صدوقاً بعيد.

ونحوه ما عن صالح بن عبدالله الخثعمي قال: «كتبت إلى أبي الحسن موسى(علیه السلام) أسأله عن أُمّ ولد لي ذكرت أنّها أرضعت لي جارية، قال: لا تقبل قولها ولا تصدّقها» ، وصالح بن عبدالله الخثعمي لم يرد بشأنه توثيق. نعم، روى محمد بن أبي عمير عن صالح بن عبدالله عن الصادق(علیه السلام) حديثاً ولكن يصعب إثبات اتّحاده مع الخثعمي، عِلماً بأنّ الشيخ ذكر في أصحاب الصادق(علیه السلام) اسمين بعنوان صالح بن عبدالله: أحدهما لقّبه بالأحول الكوفي، والثاني لقّبه بالخثعمي الكوفي.


(1) المصدر السابق، ج20، ص401، الباب12 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح2.

(2) المصدر السابق، ح3.

(3) المصدر السابق، ح4.

182

وما عن الحلبي بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام) «أنّه سُئل عن شهادة النساء في النكاح، فقال: تجوز إذا كان معهنّ رجل، وكان عليّ(علیه السلام) يقول: لا أُجيزها في الطلاق...» ، وممّا يجلب الانتباه قوله(علیه السلام): «تجوز إذا كان معهنّ رجل»، فلو كان خبر الرجل الواحد وحده حجّة لما كان معنى لهذه الجملة؛ لأنّ ضمّ النساء إلى الرجل عندئذٍ يصبح لغواً.

وما عن عمر بن يزيد بسند تام قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) «عن رجل مات وترك امرأته وهي حامل فوضعت بعد موته غلاماً، ثم مات الغلام بعد ما وقع إلى الأرض فشهدت المرأة التي قبّلتها أنّه استهلّ وصاح حين وقع إلى الأرض ثم مات، قال: على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام» ، فلو كان خبر الواحد حجّة في ذاته من دون شرائط البيّنة فلماذا لا يقبل الإمام(علیه السلام) شهادتها إلّا في ربع الميراث؟!

وما عن محمد بن مسلم بسند تام قال: «قال: لا تجوز شهادة النساء في الهلال ولا في الطلاق وقال: سألته عن النساء تجوز شهادتهنّ؟ قال:


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص351، الباب24 من کتاب الشهادات، ح2.

(2) المصدر السابق، ص352، ح6.

183

نعم في العذرة والنفساء».

وما عن حماد بن عثمان عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: «لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا يقبل في الهلال إلّا رجلان عدلان».

وما عن العلاء بسند تام عن أحدهما(علیه السلام) قال: «لا تجوز شهادة النساء في الهلال، وسألته هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال: نعم في العذرة والنفساء».

وعلى أيّة حال ففي خصوص باب المرافعة لئن لم يكف الشاهد الواحد يأتي بشكل واضح عرفاً احتمال الخصوصيّة لهذا الباب على أساس أنّه حتّى لو كان الشاهد الواحد في الحالة الطبيعيّة كافياً قد لا يكون في باب المرافعة كافياً بنكتة وجود الطرف المقابل المرافع الذي له رأيٌ بالخلاف، كما أنّ المنكر يكون رأيه دائماً مطابقاً للحجّة التي لولا المرافعة فهي بحدّ ذاتها كافية، في حين أنّ تلك


(1) المصدر السابق، ص353، ح8.

(2) المصدر السابق، ص355، ح17.

(3) المصدر السابق، ص356، ح19.

(4) راجع على العموم وسائل الشيعة، ج27، ص350_ 366، الباب24 من کتاب الشهادات.

184

الحجّة لا تكفي لحكم الحاكم، بل لابدّ من ضمّ يمين المنكر؛ وذلك بنكتة وجود المدّعي للخلاف.

وفي باب الحدود أيضاً لو لم يكف خبر الواحد أمكن للعرف احتمال الخصوصية باعتبار أنّ الحدود تدرء بالشبهات، ولذا نرى أنّ بعض الحدود لابدّ فيه من أربعة شهود.

ولكن في مثل الهلال أو في الميراث والنكاح والطلاق وما إلى ذلك من الأُمور ما معنى الحاجة إلى البيّنة بشروطها المخصوصة حتّى مع عدم فرض المرافعة بمعنى دعوى الخلاف، كما هو مقتضى إطلاق ما عرفته من الروايات؟! أفلا يعني هذا احتمال الردع _ على الأقلّ _ عن حجّية خبر الواحد في الموضوعات؟!

وبعد هذا لا يبقى لدينا شيء مهمّ في صالح إثبات حجّية خبر الواحد في الموضوعات ما عدا دعوى السيرة العقلائية.

ولو ثبتت السيرة فاحتمال الردع _ على الأقلّ _ موجود كما عرفت.

ونحن نشكّك في أصل هذه السيرة، فنحن نتمسّك لحجّية خبر الواحد في الأحكام _ إضافة إلى الروايات _ بسيرة المتشرّعة، وهي غير ثابتة طبعاً في الموضوعات.

185

أمّا السيرة العقلائية فلا أظنّها موجودة، والارتكاز العقلائي ليس دالّاً على أكثر من أنّ خبر الثقة قابل لإضفاء الحجّية عليه من قبل المولى، ولم يثبت لنا إضفاء الحجّية عليه من قبل الشريعة إلّا في باب الأحكام أو فيما ينقل لنا عن الإمام بما هو إمام.

وقد يؤيّد عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات ما ظهر من تضاعيف الحديث من أنّ المدّعي في باب القضاء لا يفترض انقلابه منكراً، وانقلاب المنكر مدّعياً بوجود خبر واحد لصالح المدّعي بحيث يطالب المنكر الأوّل عندئذٍ بالبيّنة بحجّة أنّه قد أصبح مدّعياً.

الطريق الثاني: دعوى أنّ الرجوع إلى الشاهد الواحد على الفقاهة يكون من باب الرجوع إلى أهل الخبرة، ولا يشترط في الرجوع إلى أهل الخبرة التعدّد.

والصحيح في مقياس الرجوع إلى أهل الخبرة الذي لا يشترط فيه التعدّد إن كان هو مجرّد أنّ الشيء الفلاني ممّا لا يفهمه كلّ أحد وإنّما يفهمه ذوو الاختصاص فانطباق هذا المقياس على المقام واضح؛ لأنّ معرفة الفقاهة لا تكون إلّا من قبل ذوي الاختصاص، وليس من قبل عامّة الناس.

186

وإن كان هو ذلك زائداً الابتلاء العامّ بذلك بحيث لو كُلّف كلّ أحد الفحص بنفسه لدرك الحقيقة لاختلّت حياتهم فالظاهر أنّ هذا أيضاً منطبق على المقام بعد الأخذ بعين الاعتبار جوّ المتشرّعة بالخصوص، فإنّ حاجتهم إلى التقليد وإلى معرفة الفقيه حاجة عامّة.

الطريق الثالث: دعوى أنّ خبر الواحد إذا كان في الموضوعات ولكن كان ينتهي إلى الحصول على الحكم الكلّي الإلهي ولو بالملازمة والحدس فهو كخبر الواحد في الأحكام يكون حجّة؛ وذلك من قبيل خبر الواحد بوثاقة الراوي المنتهي إلى إثبات الحكم الكلّي الفقهي ببركة النصّ الذي يرويه ذاك الثقة، وإلّا فجميع أخبار الآحاد في باب الأحكام من هذا القبيل فإنّها تشتمل على نقل كلام الإمام، وليس هذا إلّا نقلاً للموضوع الذي يستنبط منه بالملازمة والحدس حكم الله تعالی، وكذلك الحال في نقل الفقاهة المنتهي بالملازمة إلى فهم الحكم العامّ الذي يعطيه ذاك الفقيه.

وهذا الطريق بهذا الطرز من البيان الذي ذكرناه مأخوذ من السيّد

187

الحكيم(رحمه الله) في المستمسك.

وأورد عليه أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بـ «أنّ دليل حجّية الخبر في الشبهات الحكمية لم يدل على حجّية الإخبار عن الحكم الكلّي بهذا العنوان ليبذل الجهد في إرجاع بعض الأخبار في الموضوعات إلى الخبر عن الحكم الكلّي بالالتزام، وإنّما دلّ الدليل المتحصّل من السنّة المتواترة إجمالاً على مضمون مثل قوله: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان» ، فموضوع الحجّية هو الخبر الذي يعتبر أداءً عن الإمام وهذا ينطبق على خبر زرارة دون خبر العادل عن الاجتهاد؛ ومن أجل ذلك قلنا في موضعه من كتاب الخمس: إنّ أخبار التحليل قد يقال بشمول الدليل المذكور على الحجّية لها وإن حملت على التحليل المالكي؛ لأنّها وإن لم تكن إخباراً عن الحكم الكلّي ولكنّها أداءٌ عن الإمام فيشملها موضوع


(1) مستمسک العروة الوثقی، ج1، ص39.

(2) وسائل الشيعة، ج27، ص138، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح4.

188

الحجّية في ذلك الدليل» . انتهى.

أقول: قد مضى في روايات التقليد حديث صحيح السند عن يونس بن يعقوب قال: «كنّا عند أبي عبدالله(علیه السلام) فقال: أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟!».

فإن استظهرنا من هذا الحديث أنّ كلّ ما ينقله الثقة _ ممّا لو اعتمدنا عليه لاسترحنا إليه في فهم ديننا _ كان لنا حجّة ومفزعاً، إذاً فالصحيح ما فهمه السيّد الحكيم(رحمه الله) من أنّ كلّ خبر ثقة ينتهي إلى فهم الحكم الكلّي الإلهي يكون حجّة، ومن هذا القبيل الإخبار عن وثاقة الرواة، ومن هذا القبيل الإخبار عن فقاهة الفقيه الذي يراد تقليده، فإنّه لو كان الإخبار صحيحاً لكانت فتاواه مدركاً لفهم الأحكام الفقهية الكلّية.

إذاً فالظاهر صحّة الاعتماد على خبر الثقة الواحد من أهل الخبرة بفقاهة الشخص على أساس الطريق الثاني أو الثالث.


(1) بحوث في شرح العروة، ج2، ص84 _ 85.

(2) وسائل الشيعة، ج27، ص45، الباب 11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح24.

189

إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد(1)، وكذا يعرف بالشياع المفيد للعلم، وكذا الأعلميّة تعرف بالعلم أو البيّنة الغير المعارضة(2) أو الشياع المفيد للعلم.

مسألة 21: إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم بأعلميّة أحدهما ولا البيّنة(3) فإن حصل الظنّ بأعلميّة أحدهما تعيّن تقليده، بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلميّة يقدّم؛ كما إذا علم أنّهما متساويان


(1) أمّا لو وقع التعارض بين البيّنة وخبر الواحد بناءً على الإيمان بحجّية خبر الواحد في المقام بأحد الوجوه المتقدّمة فلا يبعد القول بأنّ دليل حجّية خبر الواحد يسقط في المقام؛ لتعارض فردين من موضوع هذا الدليل، ولكن دليل حجّية البيّنة يبقى على إطلاقه؛ لأنّ دليل حجّية خبر الواحد لو كان لفظيّاً فهو مبتلى بالتعارض الداخلي والإجمال، فهو يعجز عن معارضة إطلاق دليل حجّية البيّنة بناءً على وجود إطلاق لفظيّ فيه.

(2) أو بخبر الواحد من أهل الخبرة على التفصيل الذي عرفته في تشخيص أصل الفقاهة.

(3) ولا أيّ دليل آخر.

190

أو هذا المعيّن أعلم ولا يحتمل أعلميّة الآخر فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميّته(1).


(1) متى ما احتمل أو ظُنّ بأعلميّة أحدهما من دون احتمال أعلميّة الآخر فقد يقال: إنّه دخل ذلك في دوران الأمر في الحجّية بين التعيين والتخيير والمتيقّن المُبرئ للذمّة هو المعيّن، ولكن التحقيق أنّه بناءً على ما قرّبناه من التخيير في فرض التساوي تكون فتوى من لا يحتمل أعلميّته داخلة فيما هو مقطوع الحجّية في ذاته مع الشكّ في وجود معارض مسقط لحجّيّته بسبب التعارض ومعه تبقى فتواه على الحجّية، إذاً فيثبت التخيير.

وأمّا لو كان احتمال الأعلمية وارداً في كلا الطرفين، فمع العلم الإجمالي بأعلميّة أحدهما لا محيص عن الأخذ في كلّ مسألة بأحوط الرأيين؛ لأنّ الحجّة الفعليّة مردّدة بينهما، ومع احتمال التساوي نرجع مرّة أُخرى إلى ما قلناه من التخيير؛ لأنّ فتوى كلّ منهما معلومة الحجّية في ذاته، والابتلاء بالمعارض من الأعلم الموجب لسقوط الأوّل عن الحجّية غير معلوم.

أمّا لو لم نؤمن بالتخيير في فرض التساوي، فما لم يعلم بأعلميّة أحدهما مع تشخيصه لا محيص عن الأخذ بأحوط الرأيين في كلّ مسألة.