326

التي مضى ذكرها، لكن مختاره ـ كما مرّ ـ تفسير النعتيّة بالربط، فتطبيقه لهذا الدليل على مدّعاه عجيب(1).

وأمّا ما برهن به المحقّق النائينيّ(قدس سره) على مطلوبه فهو: أنّ انقسام العامّ بلحاظ صفاته مقدّم رتبة على انقسامه بلحاظ مقارناته، ومن المعلوم أنّ انقسامه بالنسبة للعدم النعتيّ وكذا الوجود النعتيّ يكون من قبيل الأوّل، وانقسامه بالنسبة للمحموليّ يكون من قبيل الثاني، فلو فرض تقيّده بالعدم المحموليّ وقع التساؤل عن أنّه في الرتبة السابقة على ذلك هل هو مقيّد بالعدم النعتيّ أو يكون في الرتبة السابقة مطلقاً؟ فإن قيل بتقيّده بالعدم النعتيّ كان تقيّده بعد ذلك بالعدم المحموليّ لغواً، وإن قيل بإطلاقه في الرتبة السابقة لزم التهافت؛ إذ المتحصّل من الإطلاق في الرتبة السابقة والتقييد في الرتبة اللاحقة هو هذا: مثلاً (أكرم كلّ عالم سواء كان عادلاً أو فاسقاً إن لم يكن معه فسق)، ومن الواضح أنّ هذا الكلام ليس له معنى صحيح. هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره).

وذكر السيّد الحكيم ـ دامت بركاته ـ في المستمسك: أنّ بعض مشايخنا المعاصرين(2) ذكر مقدّمات لإ ثبات عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ، وتلك



(1) لو فسّرت النعتيّة بهذا التفسير لسرت إلى جانب العدم أيضاً، لتحصّصه بالمعدوم المتحصّص بالمحلّ. نعم، لو فسّرت النعتيّة بمعنى الربط فالمعدوم هو المتحصّص وليس العدم، فهذا الكلام من السيّد الخوئيّ(رحمه الله) فيه خلط غريب.

(2) كلمة (المعاصرين) غير موجودة في المستمسك ولكنّه لا شكّ أنّ مقصوده(رحمه الله) هو الشيخ النائينيّ(قدس سره). راجع المستمسك، ج 1، كتاب المياه، فصل الماء الجاري، المسألة 2 في الشكّ في وجود المادّة للماء، ص 137 بحسب الطبعة الرابعة في مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

327

المقدّمات غير واضحة في نفسها وغير واضحة الاستنتاج بعد فرض صحّتها.

أقول: لا يخفى أنّه لو تمّت مقدّماته وقلنا: إنّ العدم مأخوذ على نحو النعتيّة ـ سواء فسّرنا النعتيّة بما يقولون من الربط أو أرجعنا العدم النعتيّ إلى أمر وجوديّ ـ فلا إشكال في النتيجة، فإنّ العدم النعتيّ بكلّ من المعنيين لم يكن ثابتاً في الأزل حتّى يستصحب. هذا.

وأورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على المحقّق النائينيّ(قدس سره): أنّ كون انقسام العامّ بلحاظ صفاته وخصوصيّاته مقدّماً على انقسامه بلحاظ مقارناته صِرف دعوى لا برهان عليه، بل الانقسامان في عرض واحد، وكلّ من العدم النعتيّ والمحموليّ بعد فرض وجود الموضوع متلازمان، فالتقييد بأيّ واحد منهما يغني عن التقييد بالآخر، نظير إغناء التقييد باستقبال القبلة عن التقييد باستدبار الجدي وبالعكس في مورد تتقابل القبلة والجدي.

أقول: إنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) لم ينقل عنه في التقريرات برهان على دعوى تقدّم انقسام العامّ بلحاظ صفاته على انقسامه بلحاظ مقارناته إلّا أنّه(رحمه الله) ادّعى في رسالة اللباس المشكوك بداهة ذلك(1) مضيفاً دعوى: أن تؤخذ مرتبة الإطلاق والتقييد بالنسبة لمقارناته بالنسبة للانقسامات الأصليّة من نتائج استحالة الإهمال في لبّ الواقع وضرورة الإطلاق أو التقييد فيه(2).

وهذه الدعوى الأخيرة يبدو في بادئ النظر أنّه لا محصّل لها، لكنّه يحتمل أن تكون إشارة إلى برهان متين على المدّعى بعد فرض أنّ التعبير بانقسام العامّ



(1) راجع رسالته في اللباس المشكوك، ص 285 بحسب طبعة المطبعة المرتضويّة في النجف الأشرف.

(2) راجع المصدر السابق.

328

بلحاظ المقارنات مسامحة، فيقال: إنّه لا إشكال في أنّ الحكم بوجوب إكرام العالم مثلاً يتصوّر تقييده بالعدم المحموليّ ويتصوّر تقييده بالعدم النعتيّ، ولكن هناك فرق بين التقييدين، وتوضيح ذلك:

إنّ تقييد الحكم بالعدم المحموليّ يكون في عرض تقييده بنفس العالم مثلاً؛ لأنّ المفروض أنّ العالم والعدم المحموليّ أمران متقارنان، ولا وجه لكون التقييد بأحد المتقارنين بواسطة التقييد بالآخر بل يقيّد في عرض واحد بكليهما، ولا معنى لانقسام أحد المتقارنين بلحاظ المقارن الآخر إلّا بمعنى الانقسام بلحاظ وصف التقارن وهو خارج عن محلّ الكلام؛ إذ المفروض عدم أخذ عنوان التقارن بين الموضوع والعدم المحموليّ.

وأمّا تقييد الحكم بالعدم النعتيّ فيكون بواسطة تقييده بالعالم، فإنّ العالم الذي هو قيد للحكم ينقسم باعتبار العدم النعتيّ؛ لأنّه وصفه ويصير هذا الوصف قيداً له ويرجع ذلك بالواسطة إلى تقيّد الحكم؛ لأنّ قيد القيد قيد، ولا معنى لتقييد الحكم بلا واسطة بالعدم النعتيّ، فإنّه وصف للعالم لا للحكم، ولو قُيّد بلا واسطة بالعدم كان معناه فرض العدم بحيال ذاته وهو عدم محموليّ لا نعتيّ، وتقييد العالم بالعدم النعتيّ يغني عن تقييد الحكم بالعدم المحموليّ؛ لأنّه يرجع بالواسطة إلى تقييد الحكم ويخرجه عن الإهمال. وأمّا تقييد الحكم بالعدم المحموليّ فلا يغني عن تقييد الموضوع بالعدم النعتيّ؛ لأنّه لا يرجع بالواسطة إلى تقييد العالم حتّى يرتفع بذلك إهمال العالم، والمفروض أنّ الإهمال في لبّ الواقع محال فلابدّ من أن يكون العالم بلحاظ العدم النعتيّ معلّقاً أو مقيّداً.

فظهر: أنّه لابدّ أوّلاً من ملاحظة أنّه هل قيّد العالم بالعدم النعتيّ أو يكون مطلقاً من هذه الناحية، فإن كان مقيّداً به لم تصل النوبة إلى تقييد الحكم بالعدم المحموليّ

329

للغويّته، وإن كان مطلقاً فإن تعقّلنا مع ذلك تقيّد الحكم بالعدم المحموليّ تصل النوبة عندئذ إلى أن نرى أنّه هل الحكم مقيّد بالعدم المحموليّ أو مطلق، وإن لم نتعقّل ذلك ـ لما ذكره المحقّق النائينيّ من لزوم التهافت ـ تمّ ما أفاده المحقّق النائينيّ من البرهان، ولا محيص عن عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ.

والتحقيق في هذا المقام: أن يقال: إنّه لو قلنا: إنّ الإطلاق عبارة عن أخذ تمام العناوين وثبوت الحكم ابتداءً عليها فمعنى الإطلاق في الرتبة السابقة هو ثبوت الحكم للعادل والفاسق، ومن الواضح أنّ هذا لا يجتمع مع التقييد في الرتبة المتأخّرة بعدم الفسق محموليّاً، ويصحّ ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره)من لزوم التهافت.

لكنّ المختار أنّ الإطلاق لا يشبه العموم وإنّما هو رفض لجميع الخصوصيّات والعناوين، فالحكم لم يثبت أوّلاً إلّا على ذات الطبيعة وإنّما يسري إلى العناوين بحكم العقل، ومن المعلوم أنّ الإطلاق في الرتبة السابقة إنّما يوجب حكم العقل بسراية الحكم إلى تمام العناوين لو لم يقيّد في الرتبة المتأخّرة بما ينافي بعض تلك العناوين، فظهر: أنّ دعوى وقوع التهافت بسبب الإطلاق في الرتبة السابقة والتقييد في الرتبة اللاحقة ناش من الخلط بين الإطلاق والعموم. هذا.

وقد ظهر إلى هذا الحدّ: أنّه لا إشكال في استصحاب العدم الأزليّ.

إن قلت: إنّ من المحتمل كون العدم المأخوذ نعتيّاً بمعنى دخل عنوان المقارنة، وهذا وإن أمكن تصويره بنحو يقع الشكّ في دخل أمر زائد، بأن يفرض أنّ أخذ أصل عدم الفسق معلوم وأخذ عنوان المقارنة مشكوك، ولكن يمكن تصويره أيضاً بنحو التباين بأن يقال: إنّه شككنا في أنّ المأخوذ جزء للموضوع هل هو عدم الفسق أو مقارنة الموضوع لعدم الفسق؟ وما لم يدفع هذا الاحتمال لا مجال لجريان استصحاب العدم الأزليّ.

330

قلت: هذا الاحتمال يتأتّى حتّى فيما لو لم يكن الموضوع مركّباً من العرض ومحلّه، بل كان مركّباً من جوهرين أو غير ذلك من الأقسام، فيتأتّى هذا الإشكال في الاستصحاب حتّى في تلك الأقسام، مع أنّ صحّة الاستصحاب في تلك الأقسام مسلّمة عندنا. وقد أحلنا تحقيق حال الاستصحاب في تلك الأقسام إلى بعض تنبيهات الاستصحاب. والمقصود فيما نحن فيه: أنّه بعد فرض تسليم الاستصحاب في تلك الأقسام لا مجال للإشكال في استصحاب العدم الأزليّ فيما نحن فيه.

ثمّ إن ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)ـ من أنّ جزء الموضوع إنّما هو العدم النعتيّ لا المحموليّ فلا يجري الاستصحاب ـ إنّما يثبت عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ لا عدم جريانه لنفي حكم الخاصّ كما هو واضح.

ومن هنا اعترض السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على المحقّق العراقيّ، حيث تكلّم في استصحاب العدم الأزليّ لنفي حكم الخاصّ مستشكلاً على المحقّق النائينيّ وقال: إنّ كلام المحقّق النائينيّ في واد وكلام المحقّق العراقيّ في واد آخر.

أقول: إنّ هذا الإشكال غير وارد على المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فإنّ المحقّق النائينيّ وإن لم يذكر في مجلس بحثه بحسب ظاهر التقريرات ما يمنع عن جريان استصحاب العدم الأزليّ لنفي حكم الخاصّ، لكنّه ذكر ذلك في رسالة اللباس المشكوك في مقام دفع القول باستصحاب العدم الأزليّ لوصف من الأوصاف لنفي حكمه.

وتوضيح الأمر: أنّه قد يقال: إنّ الوصف المأخوذ في موضوع حكم من الأحكام كوصف الاُمويّة مثلاً من الواضح أنّه ليس ثابتاً في الأزل؛ لأنّه ليس قديماً فيمكن أن نستصحب عدمه، فيحصل التعبّد بنفي الحكم بالتعبّد بنقيض موضوعه، فإنّه كما يكون التعبّد بموضوع تعبّداً بحكمه، كذلك يكون التعبّد بنقيض

331

الموضوع تعبّداً بنفي حكمه، والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) تصدّى في رسالته في اللباس المشكوك لإبطال ذلك، والمحقّق العراقيّ(قدس سره) ناظرٌ إلى ما في تلك الرسالة.

وما استدلّ به المحقّق النائينيّ لنفي استصحاب عدم الوصف أزليّاً في مقام نفي حكمه مركّب من مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: بمنزلة الصغرى، وهي: أنّ النعتيّة راجعة إلى جهة الوجود وعبارة عن طرز الوجود لا إلى جهة الماهيّة، وتوضيح ذلك: أنّ الاُمور على أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما لا يحتاج في وجوده ولا ماهيّته إلى محلّ وهو الجوهر كالإنسان والحيوان مثلاً، فلا هو يرتبط بالمحلّ في وجوده الخارجيّ ولا تحتاج ماهيّته إلى ذلك؛ ولذا حينما نتصوّره لا يرتبط أيضاً بمحلّ.

والثاني: ما يحتاج في وجوده وماهيّته إلى غيره وهي النسبة بمعناها الحرفيّ، فلا توجد في الخارج إلّا فانية في المعنى الاسميّ ولا تتصوّر في الذهن أيضاً مستقلّة.

الثالث: ما يكون أمراً بين الأمرين ويحتاج في وجوده إلى المحلّ دون ماهيّته، ولذا يتصوّر في الذهن مستقلاًّ ولا يوجد في الخارج مستقلاًّ وهي الأعراض كالسواد والبياض مثلاً.

وموضع كلامنا هو الثالث، فإذا كان موضوع الحكم ـ كحرمة الإكرام ـ هو العالم الاُمويّ مثلاً ـ والمفروض أنّ الاُمويّة لم تؤخذ بما هي بحيال ذاتها جزءاً للموضوع، بل اُخذت بوجودها النعتيّ جزء الموضوع؛ إذ هو المتعيّن ثبوتاً عند المحقّق النائينيّ(قدس سره) ـ فجزء الموضوع في الحقيقة هو نعتيّة الاُمويّة للعالم، ونعتيّتها طرز للوجود ولا علاقة لها بالمهيّة، أي: أنّ جزء الموضوع هو طرز وجود الاُمويّة.

والمقدّمة الثانية: ما هي بمنزلة الكبرى، وهي: أنّ المتنافيين لا يعقل اتّصاف أحدهما بالآخر، فمثلاً السواد والبياض لا يعقل اتّصاف أحدهما بالآخر، بل

332

الجسم تارة يتّصف بهذا واُخرى يتّصف بذاك، وإذا فرض أنّ الجسم كان متّصفاً بالسواد ثمّ اتّصف بالبياض صحّ أن يقال: هذا الجسم مسبوق بالسواد، كما يصحّ أن يقال: هذا البياض مسبوق بالسواد. لكن المسبوقيّتين ليستا بمعنى واحد بل الاُولى بمعنى أنّ الجسم كان متّصفاً قبل هذا بالسواد، والثانية ليست بمعنى أنّ البياض كان متّصفاً بالسواد قبل هذا، بل بمعنى أنّه قبل هذا كان السواد مكانَه وبديلاً عنه، وكذلك الكلام في الوجود والعدم، فإنّهما متنافيان ولا يعقل اتّصاف أحدهما بالآخر وإنّما يكون معنى مسبوقيّة أحدهما بالآخر أنّ الآخر قبل هذا كان مكانَه وبديلاً له.

واستنتاجاً من هاتين المقدّمتين نقول: إنّ جزء الموضوع ـ على ما ظهر من المقدّمة الاُولى ـ هو طرز وجود الاُمويّة، وهذا الجزء لا يعقل استصحاب عدمه؛ لما عرفت في المقدّمة الثانية من أنّ الوجود لا يتّصف بالعدم، والذي يتّصف بالعدم إنّما هو ماهيّة الاُمويّة، فإن اُريد استصحاب عدم الماهيّة من دون افتراض هذا العدم نعتاً للموضوع ورد عليه: أنّ جزء الموضوع لم يكن هو الماهيّة بحيال ذاتها حتّى يستصحب عدمها، وإن اُريد استصحاب عدم هذا الوجود ورد عليه: أنّ الوجود لا يتّصف بالعدم، وإن اُريد تثبيت نقيض ذاك الطرز من الوجود والمسمّى بالوجود النعتيّ كي يثبت نقيض حكمه فنقيضه هو العدم النعتيّ(1)، والعدم النعتيّ


(1) كأنّ المقصود: أنّ كلّ خصوصيّة اُخذت في أحد النقيضين يجب أن تؤخذ في الآخر، فنقيض وجود زيد في الدار هو عدمه في الدار وليس عدمه مطلقاً ولا عدم وجوده في الدار.

الذي أفهمُه أنا من عبائر الشيخ النائينيّ(رحمه الله) في اللباس المشكوك هو: أنّه أراد أن يبرهن

333


ببرهان واحد على عدم حجّيّة استصحاب العدم الأزليّ سواء لإثبات حكم العامّ أو لنفي حكم الخاصّ في كلا المجالين وأنّه يعتقد الملازمة بينهما.

وتوضيح الأمر: أنّه(رحمه الله) يؤمن بأنّ ما يتقيّد به العامّ بسبب التخصيص هو نقيض الخاصّ وبأنّ نفي حكم الخاصّ يكون بإثبات نقيض الخاصّ، فإن أمكن إثبات النقيض باستصحاب العدم الأزليّ صحّ إثبات حكم العامّ كما صحّ نفي حكم الخاصّ، وإن لم يمكن ذلك بطل الأمران.

يبقى الكلام في أنّ نقيض الخاصّ ما هو ـ بعد إثبات أنّ عنوان الخاصّ عبارة عن وجود نعتيّ ـ هل هو عبارة عن عدم الوجود النعتيّ بأن تكون النعتيّة قيداً في المعدوم لا العدم، وقلنا بما أنّ الوجود النعتيّ مسبوق بالعدم في الأزل يستصحب هذا العدم، أو هو عبارة عن عدم الماهيّة نعتيّاً بأن تكون النعتيّة قيداً في العدم، أو هو عبارة عن العدم المحموليّ؟ فإن آمنّا بالأوّل أو الثالث جرى الاستصحاب في كلا المجالين، وإن آمنّا بالثاني لم يجر الاستصحاب في شيء من المجالين:

والأوّل باطل؛ لأنّ نقيض الوجود وهو العدم بديل له ويحلّ محلّه ولا يضاف إليه، فمسبوقيّة الوجود بنقيضه في الأزل تعني أنّ نقيضه كان هو الحالّ محلّه، ولا تعني أنّ الوجود كان معدوماً حتّى يستصحب عدم الوجود؛ فإنّ كون الوجود عدماً يعني اجتماع النقيضين وهو مستحيل.

الثالث أيضاً باطل؛ لأنّ النعتيّة إذا اُخذت في أحد طرفي النقيض فلابدّ من أخذها في الطرف الآخر، حفظاً للبدليّة والتناقض كما هو الحال في أيّ قيد آخر، فمثلاً وجود زيد الذي نقيضه هو عدم زيد لو قيّد بكونه في الدار كان نقيضه أيضاً عدم زيد في الدار لا

334


عدمه مطلقاً ولا عدم وجود زيد في الدار.

فتعيّن: أنّ إثبات العدم النعتيّ هو الذي ينفي حكم الخاصّ وهو الذي يثبت حكم العامّ ولا يمكن إثباته بالاستصحاب.

يقول(رحمه الله): إنّ هناك طريقة اُخرى لنفي حكم الخاصّ غير ما نحن بصدده من استصحاب عدم وصف الاُمويّة مثلاً، وهو استصحاب عدم عنوان (العالم الاُمويّ) وهذا ينفي حكم الخاصّ ولكنّه لا يثبت حكم العامّ إلّا بالملازمة؛ لأنّ موضوع العامّ هو العالم غير الاُمويّ، ونفي عنوان العالم الاُمويّ لا يثبت تحقّق عنوان العالم غير الاُمويّ إلّا بالملازمة.

وبهذا البيان الذي ذكرناه يمكن الجمع بين شتات كلام الميرزا أو ما يتراءى أنّه شتات، حيث إنّه رغم ظهور كلامه في وحدة البرهان يتراءى أنّ كلماته ليست منتسقة:

فكأنّه يظهر من بعض كلماته: أنّه يبرهن على عدم حجّيّة استصحاب العدم الأزليّ بأنّ إطلاق وتقييد العامّ بالقياس إلى أحواله مقدّمٌ رتبةً على تحديد ذلك بالقياس إلى مقارناته. وهذا إنّما يكون برهاناً على عدم إمكان إثبات حكم العامّ باستصحاب العدم الأزليّ لا على عدم إمكان نفي حكم الخاصّ به.

ويظهر من بعض كلماته: أنّه يبرهن على عدم إمكان نفي حكم الخاصّ باستصحاب عدم الوصف بأنّه إن قصد به استصحاب عدم الوجود النعتيّ فالوجود ليس مسبوقاً بالعدم إلّا بمعنى كون العدم بديلاً له لا كون العدم عدمه، وإن قصد به استصحاب عدم الماهيّة فالماهيّة لم تكن هي موضوع الحكم. وهذا إنّما يكون برهاناً على عدم إمكان نفي حكم الخاصّ باستصحاب العدم الأزليّ.

ويظهر من بعض كلماته: أنّ المستصحب إن لم يكن هو موضوع الأثر فلابدّ أن يكون

335

لم يكن ثابتاً في الأزل كي يستصحب.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه إن اُريد كون جزء الموضوع لحكم الشارع حقيقةً هو نفس الوجود النعتيّ للاُمويّة فهذا باطل؛ إذ من المستحيل طروّ الحكم على الوجودات الخارجيّة.

وإن اُريد عروض الحكم على العناوين التي تنطبق بمعنى من معاني الانطباق على ما في الخارج فهذا صحيح، ولكن تلك العناوين توجد في الخارج أحياناً بذاك المعنى من الانطباق كما تنعدم أحياناً، فهي مصبّ واحد للوجود والعدم، وعدمه ثابت في الأزل فيستصحب وعدمه نقيض لوجوده فيستصحب.

وثانياً: أنّ ما ذكره(قدس سره) مبتن على ما اختاره من الوجود الربطيّ وقد قلنا: إنّ هذا لا يتعقّل في تمام الأوصاف؛ لعدم تعقّله في الاعتباريّات والانتزاعيّات.

وأمّا النعتيّة بمعنى التحصيص فهي من شؤون الماهيّة ويترتّب عليها الوجود والعدم فلا مانع من استصحاب عدمها الأزليّ.

 


نقيضه موضوع الأثر، والوجود النعتيّ الذي هو موضوع الأثر نقيضه هو العدم النعتيّ لا العدم المحموليّ. وهذا أيضاً يتراءى كونه برهاناً على عدم إمكان نفي حكم الخاصّ باستصحاب العدم الأزليّ لا على عدم إثبات حكم العامّ بذلك.

وبما شرحنا تتنسّق كلماته(رحمه الله) في بيان واحد متكامل.

ويرد عليه ـ مضافاً إلى الاعتراضات التي أوردها اُستاذنا(رحمه الله) عليه في المتن ـ: منع كون نقيض الوجود النعتيّ هو العدم النعتيّ بل هو العدم المحموليّ؛ لما عرفت من استحالة العدم النعتيّ نهائيّاً ما لم يرجع إلى الوجود، ولو رجع إلى الوجود لم يكن نقيضاً.

336

وثالثاً: أنّ افتراض العدم النعتيّ هو المقابل والنقيض للوجود النعتيّ بالتدقيق الفلسفيّ لا يؤثّر شيئاً في المقام؛ إذ لم يرد في دليل الاستصحاب أنّ ما يستصحب لنفي الحكم لابدّ أن يكون مقابلاً بحسب مصطلحات الفلاسفة لموضوع الحكم، فلو اعتقد أحد أنّ العدم المحموليّ يكون ولو عرفاً نفياً للوجود النعتيّ كفاه ذلك لنفي الحكم باستصحاب العدم المحموليّ.

هذا تمام الكلام في هذا المقام مع مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره).

 

الكلام في تفصيل المحقّق العراقىّ(رحمه الله):

بقي الكلام حول ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله): من التفصيل بين موارد استصحاب العدم الأزليّ، وقد ذكر ذلك التفصيل تارةً في رسالته التي ألّفها في اللباس المشكوك مستدلاًّ عليه بدليل، وثانيةً في رسالته التي ألّفها في استصحاب العدم الأزليّ مستدلاًّ عليه بدليل أعمق مع إبطاله للدليل الأوّل. ولا يخفى أنّ مصبّ كلامه(قدس سره) ليس ما هو مصبّ لكلام المحقّق النائينيّ في التقريرات من مسألة إثبات حكم العامّ باستصحاب العدم الذي صار جزءاً للموضوع، بل مصبّ كلامه هو مصبّ كلام المحقّق النائينيّ في رسالة اللباس المشكوك من مسألة نفي الحكم باستصحاب عدم جزء الموضوع الوجوديّ.

نعم، يظهر منه بالتبع حكم فرض جزئيّة العدم في موضوع وأنّه متى يجوز إثبات الحكم باستصحاب ذلك العدم ومتى لا يجوز.

وعلى أيّ حال فهنا تقريبان لما ذهب إليه من التفصيل:

التقريب الأوّل: ما جاء في رسالته في اللباس المشكوك، ونحن نبيّن هنا واقع مراده بالمقدار الذي تكشف عنه عبارته ولا نلتزم بالترتيب الذي سلكه هو في

337

مقام البيان، فقد نقدّم بيان نكتة ونؤخّر اُخرى، وهذا التقريب يتّضح بعد ذكر مقدّمتين:

الاُولى: أنّه إذا لوحظ شيئان بحسب الوجود الخارجيّ فربما يكون بينهما تقارن رتبيّ أو تقدّم وتأخّر كتقارن الحرارة والإحراق الناشئين من النار، وتأخّر الحرارة عن النار وتقدّمها على الغليان الناشئ منها، وكتأخّر القريشيّة رتبة عن الإنسان لكونها وصفاً له وتقدّم الإنسان عليها، وتقارن القرشيّة والعدالة العارضتين على الإنسان. هذا بحسب الوجود الخارجيّ.

وهكذا الحال بحسب عالم الجعل الشرعيّ، فربما يؤخذ شيء مع شيء آخر موضوعاً للحكم مع تقدّم وتأخّر رتبة، وربما يؤخذان في رتبة واحدة. والنسبة الرتبيّة بينهما بلحاظ عالم الجعل ربما تتّفق مع النسبة بينهما بلحاظ الوجود الخارجيّ وربما تختلف، فمثلاً العدالة والقرشيّة متقارنتان بحسب الوجود الخارجيّ لكن ربما تؤخذ العدالة مؤخّرة عن وجود القرشيّة فيقال: (القرشيّ إن كان عادلاً فأكرمه)، والعدالة مؤخّرة رتبة عن وجود الإنسان بحسب الخارج، وربّما تكون كذلك أيضاً بحسب الجعل كما لو قال: (إذا وجد إنسان وكان عادلاً فأكرمه) حيث فرض أوّلاً وجود الإنسان ثمّ اشترط بنسبة تامّة كون هذا الإنسان الموجود عادلاً، وربما لا يكون بينهما تقدّم وتأخّر وليست العدالة مضيّقة برتبة خاصّة وهي التأخّر عن وجود الإنسان، كما لوقال: (إذا وجد إنسان عادل فأكرمه) فالأوّل ـ أعني: فرض وجود الوصف والموصوف مرتّبين ـ يبيّن عادة في لسان أهل العرف بالنسبة التامّة، والثاني ـ أعني: فرض التقارن بمعنى فرض طروّ الوجود على المقيّد بالعدالة مثلاً ـ يبيّن عادة في لسان أهل العرف بالنسبة الناقصة التقييديّة.

338

الثانية: أنّ النقيضين في نظر المحقّق العراقيّ(قدس سره) يجب أن يكونا في رتبة واحدة، فلوضيّق أحدهما برتبة خاصّة كان الآخر أيضاً كذلك، فإنّ نقيض الشيء بديله وبديله ما يحلّ محلّه، فلابدّ أن يكون في تلك الرتبة والمحلّ.

ومع الالتفات إلى هاتين المقدّمتين نقول: إنّه بعد أن كان المفروض تأخّر القرشيّة بحسب الوجود الخارجيّ عن وجود الإنسان أمكن أن يقال: إنّه لا مجال لاستصحاب عدم القرشيّة؛ لأنّ القرشيّة تكون مضيّقة برتبة خاصّة وهي الرتبة المتأخّرة، فكذلك نقيضها، فما يجدي إثباته بالاستصحاب هو عدم القرشيّة الثابت في رتبة خاصّة الذي هو النقيض للقرشيّة الثابتة في رتبة خاصّة لا استصحاب مطلق عدم القرشيّة، فاستصحاب العدم الأزليّ لا يفيد أصلاً، ولكن بما أنّ العبرة ليست بالنسبة الرتبيّة من حيث الوجود الخارجيّ، وإنّما العبرة بما لوحظ من النسبة في عالم الجعل، فيختلف الأمر باختلاف كيفيّة الجعل، فمهما اُخذ القيد قيداً بعد فرض وجود الموضوع، كما لو قال: (إذا وجد إنسان وكان قرشيّاً فأكرمه) لم يجر استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ نقيض القرشيّة المأخوذة قيداً ليس مطلق عدم العدالة حتّى يمكن إثباته باستصحاب العدم الأزليّ، بل العدم الخاصّ، أي: العدم الذي يكون متأخّراً رتبة عن وجود الإنسان، وذلك لا يمكن إثباته باستصحاب مطلق العدم؛ لعدم حجّيّة مثبتات الاستصحاب.

بل قال المحقّق العراقيّ(قدس سره) بعدم إمكان إثبات ذلك باستصحاب العدم الأزليّ حتّى بناء على حجّيّة مثبتات الاستصحاب؛ لأنّ هذا العدم الخاصّ ليس من الآثار العقليّة لمطلق العدم. ومراده(قدس سره) من حجّيّة مثبتات الاستصحاب هو إثبات الاستصحاب لجميع الآثار الشرعيّة والتكوينيّة، لا إثباته لجميع الملازمات حتّى يقال: إنّ الملازمة ثابتة فيما نحن فيه.

339

ومهما اُخذ القيد بنحو النسبة الناقصة وفرض طروّ الوجود على المقيّد، كما لو قال: (إذا وجد إنسان قرشيّ فأكرمه) فالقرشيّة ليست متأخّرة رتبة عن وجود الإنسان بحسب عالم الجعل، فكذلك نقيضها، فلا مانع من استصحاب العدم الأزليّ.

هذا كلّه هو التقريب الأوّل للتفصيل الذي ذهب إليه المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، وهو في الحقيقة تفصيل بين كون الموضوع وجود المتّصف أو اتّصاف الموجود، فيجري في الأوّل دون الثاني(1).

إلّا أنّ تصوّراته(رحمه الله) في رسالته التي ألّفها في خصوص استصحاب العدم الأزليّ اختلفت عمّا سبق منه في رسالة اللباس المشكوك، فتصوّراته في رسالة استصحاب العدم الأزليّ مايلي:

لو اُخذ الوصف بوجوده النعتيّ للموصوف دخيلاً في الموضوع فلا محالة يكون الموصوف مقدّماً رتبة على هذا الوجود النعتيّ تقدّم العلّة على معلوله(2)؛ لأنّ وجود الموصوف دخيل في علّة وجود النعت يقيناً، ولكن كما أنّ الاتّصاف بالقرشيّة مثلاً متأخّر رتبة عن وجود الإنسان كذلك عدم القرشيّة الأزليّ متأخّر رتبة عن عدم الإنسان(3) تأخُّر عدم المعلول عن عدم علّته، وإذا ثبت كون عدم القرشيّة الأزليّ متأخّراً رتبة عن عدم الإنسان، فلا محالة يكون متأخّراً عن وجود الإنسان؛ لأنّ عدم الإنسان يكون في رتبة نقيضه الذي هو وجود الإنسان؛ لأنّ النقيضين دائماً يكونان في رتبة واحدة.



(1) راجع رسالته في اللباس المشكوك، ص 164 ـ 168 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) رغم عدم التأثير والتأثّر في باب الأعدام.

(3) رغم عدم التأثير والتأثّر في باب الأعدام.

340

وقبل أن نكمل تحت عنوان التقريب الثاني بيان تصوّراته في رسالة استصحاب العدم الأزليّ أقول: إنّ هذا المقطع من كلامه صحيح وفق مبانيه، وهو إشكال وارد على ما في رسالته في اللباس المشكوك، وستأتي منّا ـ إن شاء الله ـ مناقشة مبانيه.

التقريب الثاني: ما جاء في رسالته في استصحاب العدم الأزليّ، وهو: أنّ القرشيّة مثلاً بما هي ذات الأثر دائماً تكون متأخّرة برتبتين إمّا عن ذات الإنسان أو عن وجوده؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الشارع جعل الموضوع مقيّداً بالقرشيّة، فالقرشيّة ذات الأثر متأخّرة رتبة عن التقيّد؛ لأنّه لولا التقيّد لم تكن ذات أثر، والتقيّد متأخّر رتبة عن ذات الإنسان لو كان المقيَّد هو ذات الإنسان، وعن وجوده لو كان المقيّد هو وجوده، فالشارع تارة: يجعل ذات الإنسان الموضوع للحكم في عالم التشريع مقيّداً بالقرشيّة ويبيّن ذلك بالنسبة الناقصة بأن يقال: (إذا وجد إنسان قرشيّ فأكرمه)، واُخرى: يجعل وجود الإنسان مقيّداً في عالم التشريع بالقرشيّة ويبيّن ذلك بالنسبة التامّة بأن يقال: (إذا وجد إنسان وكان قرشيّاً فأكرمه). ففي الأوّل تكون القرشيّة ذات الأثر متأخّرة برتبتين عن ذات الإنسان؛ لتأخّرها عن التقيّد الذي هو متأخّر ـ لا محالة ـ عن معروضه وهو ذات الإنسان، فنقيضها وهو عدم القرشيّة أيضاً متأخّر برتبتين عن ذات الإنسان حفظاً لاتّحاد رتبة النقيضين، وفي الثاني تكون القرشيّة متأخّرة برتبتين عن وجود الإنسان؛ لتأخّرها عن التقيّد المتأخّر عن معروضه وهو وجود الإنسان، فنقيضها وهو عدم القرشيّة أيضاً متأخّر برتبتين عن وجود الإنسان.

فإن كان من قبيل الأوّل لم يكن مانع عن استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ الذات محفوظة في الأزل، فإنّها الجامع بين الوجود والعدم، فعدم القرشيّة الأزليّ ذو أثر؛ لتأخّره عن التقيّد المؤخّر عن ذات الإنسان وذو الأثر كان هو عدم القرشيّة

341

المتأخّر برتبتين عن ذات الإنسان، فعدم وجود الإنسان لا يضرّ بتأخّر عدم القرشيّة برتبتين، بل عدم القرشيّة وإن كان من باب السالبة بانتفاء الموضوع يكون تأخّره برتبتين عن الذات محفوظاً لانحفاظ الذات الجامع بين الوجود والعدم.

وإن كان من قبيل الثاني لم يجر استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ وجود الإنسان ليس محفوظاً في الأزل حتّى يكون عدم القرشيّة الثابت بانتفاء الموضوع متأخّراً عن وجوده برتبتين، ولا يفيدنا استصحاب هذا العدم؛ لأنّ ما يكون ذا أثر إنّما هو عدم القرشيّة المتأخّر عن وجود الإنسان برتبتين(1).

ونكتة الفرق بين هذا التقريب والتقريب الأوّل أنّه في التقريب الأوّل بيّن تأخّر عدم القرشيّة ذي الأثر عن وجود الإنسان برتبة واحدة، ثمّ رُدّ بأنّه في الأزل أيضاً مؤخّر عنه برتبة واحدة؛ لتأخّره عن عدم وجود الإنسان الذي هو في رتبة



(1) كأنّه يريد أن يقول: فيكفي تأخّر الوجود النعتيّ خارجاً عن وجود الموضوع لتأخّر المعلول عن علّته؛ لافتراض أنّ الدخيل في الحكم هو النعت في المرتبة المتأخّرة، ولا تصل النوبة هنا إلى البحث عن أنّ الوصف والموصوف هل اُخذا في لسان التشريع طوليّين أو عرضيّين كما مضى عن رسالة اللباس المشكوك، فإنّ تأخّره الخارجيّ يعني أنّ قيد الموضوع في مرتبة متأخّرة.

ولكن مع ذلك لا يضرّ هذا المقدار باستصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّه يجاب عنه بأنّ عدم القرشيّة مثلاً الأزليّ أيضاً متأخّر عن عدم الإنسان تأخُّرَ عدم المعلول عن عدم علّته، وبما أنّ عدم الإنسان ووجوده نقيضان فهما في رتبة واحدة. فنستنتج أنّ العدم الأزليّ للنعت متأخّر عن وجود الإنسان فلِم لا نستصحبه لكي يثبت بذلك نقيض النعت وفي رتبته؟! ومن هنا ننتقل إلى بيان آخر وهو ما جاء في رسالته في استصحاب العدم الأزليّ، وهو: أنّ القرشيّة... إلى آخر ما ورد في المتن.

342

وجوده. وفي التقريب الثاني بيّن تأخّر عدم القرشيّة ذي الأثر عن وجود الإنسان برتبتين، فلا يمكن إثباته بالعدم الأزليّ الذي ليس مؤخّراً برتبتين عن وجود الإنسان. نعم، هو مؤخّر عنه برتبة واحدة بناء على ما مضى في ردّ التقريب الأوّل، واستصحاب العدم المتأخّر برتبة لا يثبت العدم المتأخّر برتبتين.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ تأخّر القرشيّة ذات الأثر عن التقيّد رتبة ممنوع، وإنّما المتأخّر عن التقيّد كونها ذات أثر؛ لأنّ ما نشأ عن التقيّد وصار التقيّد سبباً له هو كون القرشيّة ذات أثر لا نفس القرشيّة ذات الأثر.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ المتأخّر عن القرشيّة رتبة هو الموضوع بعنوان كونه موضوعاً لا ذات الموضوع، والذي يُستصحب لإثبات حكم هو ذات الموضوع، فإنّ الحكم يترتّب على ذات الموضوع لا على موضوعيّة الموضوع، فما ينفع استصحابه ليس متأخّراً رتبة عن التقيّد، ومايكون متأخّراً رتبة عنه ليس المقصود استصحابه.

وثانياً: أ نّا لو قطعنا النظر عمّا مضى من الإشكال قلنا: إنّ القرشيّة ذات الأثر إنّما هي متأخّرة رتبة عن تقيّد الإنسان بالقرشيّة في عالم الجعل والتشريع ـ بمعنى جعل الموضوع خصوص الإنسان القرشيّ لا مطلق الإنسان ـ لا عن تقيّد الإنسان بالقرشيّة خارجاً بمعنى خلق الله تعالى له قرشيّاً، فإن كان مراده(قدس سره)من التقيّد في قوله: القرشيّة ذات الأثر متأخّرة رتبة عن التقيّد المتأخّر رتبة عن وجود الإنسان، هو التقيّد في عالم الجعل سلّمنا تأخّر القرشيّة ذات الأثر رتبة عن التقيّد، لكنّا لا نسلّم تأخّر التقيّد في عالم الجعل عن وجود الإنسان، كيف وقد ثبت هذا التقيّد قبل وجود الإنسان؟ وإن كان مراده من ذلك هو التقيّد الخارجيّ سلّمنا تأخّر التقيّد الخارجيّ رتبة عن وجود الإنسان، فإنّ اتّصاف الإنسان بالقرشيّة متوقّف على وجوده بلا إشكال، لكنّا لا نسلّم تأخّر القرشيّة ذات الأثر رتبة عن التقيّد

343

الخارجيّ، فإنّ منشأ كونها ذات أثر وموضوعاً للحكم هو التقيّد في عالم الجعل لا التقيّد الخارجيّ.

وما عرفته من هذين الإشكالين واردان على ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره) من التقريب الثاني مع فرض صحّة أصل مباني التقريبين، كما أنّ ما أورده هو(قدس سره) على التقريب الأوّل وارد عليه مع التحفّظ على أصل المباني.

وهنا إشكالان واردان على أصل المباني:

الأوّل: أنّ ما ذكره(قدس سره) من لزوم كون النقيض في رتبة النقيض غير صحيح، فإنّ التقدّم والتأخّر بأيّ قسم من أقسامه ليس جزافيّاً بل يكون بملاك من الملاكات، وذلك الملاك في أيّ شيء وجد يثبت فيه ذلك التقدّم والتأخّر، وفي أيّ شيء لم يوجد لا يثبت فيه ذلك، ومن هنا نقول: إنّ ما هو مع المتقدّم زماناً متقدّم زماناً؛ لثبوت ملاك التقدّم فيه، ولكن ما هو مع المتقدّم رتبة بالعلّيّة مثلاً ـ بأن كان من ملازماته ـ ليس متقدّماً رتبة؛ لأنّ تقدّم ذلك الشيء على شيء آخر كان بملاك العلّيّة والمعلوليّة، وهذا الملاك غير موجود بالنسبة إلى ذلك الشيء الآخر؛ لعدم كون معلول الأوّل معلولاً للثاني، وكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ نقيض المتأخّر بملاك المعلوليّة مثلاً ليس متأخّراً؛ لعدم ثبوت ملاك المعلوليّة فيه؛ لاستحالة كون النقيضين معلولين لعلّة واحدة.

الثاني: أ نّا لو سلّمنا لزوم كون النقيض بمعناه الفلسفيّ في رتبة نقيضه لم يكن لذلك أثر في باب الاستصحاب أصلاً، فإنّه لم يذكر في لسان دليل الاستصحاب كلمة (النقيض) حتّى يبحث عن أنّه ما هو معنى النقيض، وهل المراد منه ما يجب أن يكون في رتبة نقيضه أو لا؟ والذي يكون عدم الحكم من آثاره عرفاً يكون أعمّ من النقيض المفروض كونه في رتبة نقيضه، إذن فلابدّ من التأمّل في لسان دليل الاستصحاب حتّى يُرى أنّ ما يمكن استصحابه لنفي الحكم ما هو، هل هو النقيض المفروض كونه في رتبة نقيضه أو غير ذلك؟ هذه هي الإشكالات

344

الحاضرة في الذهن فعلاً على كلمات المحقّق العراقيّ(قدس سره)في هذا المقام، ومن المحتمل أن تظهر بالتأمّل إشكالات اُخرى.

ثمّ إنّ ماذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره) من التفصيل في استصحاب العدم الأزليّ لنفي الحكم بنفي القيد الوجوديّ للموضوع ـ إن تمّ ـ يأتي أيضاً في استصحاب العدم الأزليّ لإثبات الحكم بإثبات القيد العدميّ للموضوع، بلا حاجة في ذلك إلى ما احتجنا إليه في تقريب الكلام في الفرض الأوّل من مسألة لزوم اتّحاد رتبة النقيضين، ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرناه من الإشكالين المبنائيّين لا يردان عليه في الفرض الثاني، أعني: الاستصحاب لإثبات الحكم، وإنّما يختصّان بالفرض الأوّل، أعني: الاستصحاب لنفي الحكم(1).

هذا تمام الكلام في استصحاب العدم الأزليّ.



(1) فإنّه لا شغل لنا هناك بنقيضين أصلاً، فلا تأتي ما مضت من النقاشات المبنائيّة بلحاظ باب النقيضين، ولا ما مضت من النقاشات البنائيّة بعد تسليم تلك المباني، بل يقال رأساً ـ في مقام إسراء كلام المحقّق العراقيّ إلى بحث إثبات حكم باستصحاب العدم النعتيّ الذي صار جزءاً لموضوع الحكم ـ: إنّ هذا العدم لو صار جزءاً على شكل ما يفهم من النسبة الناقصة كما لو قال: (إن وجد إنسان غير اُمويّ جاز إكرامه) فهذا العدم له حالة سابقة في الأزل؛ لثبوت ماهيّة الإنسان في عالم التقرّر في الأزل فيستصحب. ولو صار جزءاً على شكل ما يفهم من النسبة التامّة كما لو قال: (إن وجد إنسان ولم يكن اُمويّاً جاز إكرامه) فهنا يكون قد أخذ العدم بعد الفراغ عن فرض وجود الإنسان، وبما أنّ وجود الإنسان في الأزل غير ثابت فهذا العدم النعتيّ لا ثبوت له في الأزل فلا يستصحب.

والنقاش في ذلك يكون بما مضى شرحه في النقاش مع المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّه لا يتصوّر أصلاً عدم نعتيّ غير ثابت في الأزل.

345

 

دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص

الجهة الثالثة: في أنّه إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص فهل يحمل على التخصّص لمكان أصالة العموم أو لا ؟ فلو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال أيضاً: (لا تكرم زيداً) فهل يثبت بذلك عدم كون زيد عالماً حتّى يترتّب على ذلك نفي تمام آثار العلم وإثبات تمام آثار نقيض العلم، أو ضدّه الذي لا ثالث له، أو لا يثبت بذلك عدم علمه، وإنّما المتيقّن عدم وجوب إكرامه ؟ ويتأتّى عين هذا الكلام بالنسبة إلى المطلق والمقيّد. والمصاديق لهذا البحث في الاُصول والفقه كثيرة:

منها: تمسّك بعضهم في الاُصول على أنّ الأمر للوجوب بقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ...﴾، فإنّه مبتن على كون التخصّص والتقيّد مقدّماً على التخصيص والتقييد، حيث يقال: إنّ الأوامر الاستحبابيّة الخارجة قطعاً عن تحت التحذير على مخالفته إن كانت أمراً حقيقة كان خروجها تقييداً وإلّا كان تخصّصاً، والثاني أولى من الأوّل.

ومنها: تمسّك بعضهم في الاُصول على القول بالصحيح بقوله تعالى: ﴿الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر﴾، فإنّه مبتن على أولويّة التخصّص والتقيّد من التخصيص والتقييد، حيث يقال: إنّ الصلاة الباطلة الخارجة عن الناهية عن الفحشاء والمنكر قطعاً إن كانت صلاة حقيقة لزم التقييد وإلّا لزم التخصّص، والثاني أولى.

ومنها: ما يقال في الفقه في مسألة طهارة ماء الاستنجاء وعدمها، حيث إنّه ورد في ذلك بعض الأخبار، وذهب بعضهم إلى أنّه لا يدلّ في نفسه على طهارة ماء الاستنجاء وإنّما يدلّ على عدم لزوم الاجتناب عنه ولكن تثبت طهارة ماء

346

الاستنجاء بمسألة تقدّم التخصّص والتقيّد على التخصيص والتقييد؛ لأنّه لو قيل بنجاسته مع عدم لزوم الاجتناب عنه للزم تخصيص أدلّة لزوم الاجتناب عن النجس أو تقييدها، ولو قيل بطهارته كان خارجاً عن تلك الأدلّة تخصّصاً.

واُورد على ذلك بأنّه إن قلنا بطهارته استرحنا من تخصيص أدلّة الاجتناب عن النجس لكن لزم من ذلك تخصيص أدلّة تنجّس الماء القليل بملاقاة النجس، فدار الأمر بين تخصيص وتخصيص.

وأنت ترى أنّ أصل التقريب مع ردّه يكون مشياً على مسلك تقدّم التخصّص على التخصيص. ولذلك نظائر كثيرة في الفقه والاُصول.

وقد اختار المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) فيما نحن فيه عدم أولويّة التخصّص من التخصيص(1) بالرغم من أنّه استدلّ قبل ذلك في بعض الموارد على إثبات التخصّص بنفي التخصيص بأصالة العموم(2).

وأحسن ما يمكن أن يقال في مقام إثبات أولويّة التخصّص من التخصيص هو: أنّ قوله مثلاً: (يجب إكرام كلّ عالم) ينعكس بعكس النقيض إلى أنّ: (كلّ مَن لم



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 352 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات الشيخ المشكينيّ.

(2) هذا إشارة إلى ما مضى منه في الكفاية ـ ص 45 من نفس الطبعة ـ من الاستدلال على الصحيح بالأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار للمسمّيات مثل: الصلاة عمود الدين، أو معراج المؤمن، والصوم جُنّة من النار ونحو ذلك ممّا نقطع بعدم ترتّبها على العمل الباطل. وهذا يعني أنّ الصلاة الباطلة خارجة عن هذه العمومات وكذلك الصوم الباطل مثلاً، إمّا تخصيصاً لو قلنا بكون هذه الأسامي أسامي للأعمّ، أو تخصّصاً لو قلنا بكونها أسامي للصحيح، فأصالة التخصّص تقتضي كونها أسامي للصحيح.

347

يجب إكرامه فهو ليس بعالم)، وصدق القضيّة مستلزم لصدق عكس نقيضها، والأمارات حجّة في إثبات لوازمها. فقد ثبت بذلك أنّ كلّ مَن لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم، والمفروض أنّ زيداً لا يجب إكرامه فيثبت أنّه ليس بعالم.

ولكن الشيخ الخراسانيّ(رحمه الله) يرى أنّه مادام أنّ حجّيّة مثبتات الأمارات إنّما هي ببناء العقلاء فهي تتبع بناءهم، وبناؤهم غير ثابت في هذا المقام، فمهما ثبتت قضيّة كلّيّة من الشارع لم يبنوا على عكس نقيضها، ولا مانع من التفكيك بين المتلازمين فيما لم يكن ثبوت أحدهما بالوجدان بل كان بالتعبّد، ولذا يقع التفكيك بينهما في باب الاُصول العمليّة.

وذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقام التعليق على كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): أنّ هذا الكلام ـ أعني: عدم ثبوت بناء العقلاء على إثبات اللازم فيما نحن فيه ـ مقبول لكنّه لابدّ من إرجاع ذلك إلى وجه يناسب ذوق العرف، فإنّ التفكيك بين المتلازمين في باب التعبّد وإن كان ممكناً لكن ذلك بنفسه ليس ممّا يساعد عليه العرف؛ لعدم بنائه على الدقّة. نعم، لا مانع من صدور ذلك من الشارع الحكيم في تعبّداته، فيعبّدنا بأحد المتلازمين بدون أن يعبّدنا بالمتلازم الآخر، ولذا وقع التفكيك بينهما في باب الاُصول العمليّة. وأمّا التعبّدات الثابتة من قِبل العرف في الأخذ بما يكشف عنه ظاهر الكلام فالتفكيك فيها بين المتلازمين من حيث هو غير صادر منهم؛ لعدم بنائهم على الدقّة والالتفات إلى نكتة الفرق بين هذا اللازم وذاك اللازم.

نعم، يمكن التفكيك بينهما بنكتة خاصّة عقلائيّة تناسب الذوق العرفيّ، وتلك النكتة هي عبارة عن أنّ العرف إنّما يتمسّك بظهور كلام المولى في قبال الشبهات الحكميّة وفهم الأحكام الكلّيّة الإلهيّة التي يكون المولى بصدد إيصالها، لا في قبال

348

الشبهات الموضوعيّة(1)، ولذا قلنا بعدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة وحجّيّته في الشبهة الحكميّة، فعين الوجه الذي اقتضى عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة اقتضى أيضاً عدم حجّيّة العامّ فيما نحن فيه في إثبات أنّ زيداً ليس عالماً. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)(2).

والتحقيق: أنّ هناك فرقاً بين المقام وبين التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ الوجه في عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة ـ على ما مضى بيانه ـ هو القطع بأنّ المولى بما هو جاعل للحكم ليس عالماً بحال هذا المصداق المشكوك حاله عندنا، ولا عبرة بعلمه بذلك بما هو علاّم الغيوب. وأمّا فيما نحن فيه فنحن غير قاطعين بعدم كون المولى بما هو جاعل عالماً بحال هذا الفرد؛ لأنّ المفروض أنّنا نحتمل أنّه إنّما جعل أصل الحكم المخالف للعامّ لهذا الفرد من باب علمه بخروج هذا الفرد تخصّصاً من تحت العامّ، وكذا الكلام فيما لو فرض موضوع المخصّص آل فلان مثلاً لا خصوص واحد، وهذا يعني احتمال أنّ المولى قد اطّلع بما هو جاعل على حال زيد أو حال آل فلان فجعل الحكم، فالملاك الثابت لعدم حجّيّة العامّ في الشبهات المصداقيّة غير ثابت فيما نحن فيه.

ثمّ إنّه بالإمكان التفصيل في المقام بين باب العموم وباب الإطلاق، فلو ثبت الحكم بالعموم أمكن نفي عنوان الخاصّ عن الفرد المشكوك بعكس النقيض للعامّ، أمّا لو ثبتت كلّيّة الحكم بالإطلاق وعلمنا بخروج فرد عن الحكم تقييداً أو



(1) التي قد يكون المولى أيضاً جاهلاً بها.

(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 32، ص 451 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

349

تخصّصاً لم يكن بناء العقلاء على الأخذ بعكس النقيض، وليس ذلك من باب التفصيل بين المتلازمين بل من باب علمنا بأنّ أصل الإطلاق في هذا الفرض غير مقصود يقيناً بالقياس إلى الفرد الذي قطعنا بخروجه عن الحكم؛ لأنّ هذا الفرد إن لم يكن داخلاً تحت الموضوع رأساً فلا معنى لقصد المولى عدم دخل خصوصيّة في الحكم في قبال هذا الفرد، وإن كان داخلاً تحته لكنّه خارج عن الحكم تخصيصاً فهذا كاشف عن دخل خصوصيّة في الحكم في قبال هذا الفرد، وعلى أيّ حال لم يقصد المولى الإطلاق من هذه الناحية، وهذا غير مسألة التفكيك بين المتلازمين(1).

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه في خصوص باب العموم لا يبعد القول بكون التخصّص أولى من التخصيص.

وهذا بقطع النظر عمّا سيأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ مقتضى القاعدة عدم حجّيّة العمومات الصادرة عن الشارع رأساً، فنأخذ في الخروج عن هذه القاعدة بالقدر المتيقّن.

ثمّ إنّ دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص يتصوّر بشكلين:

الأوّل: ما بحثناه حتّى الآن من فرض العلم بخروج فرد مثلاً عن الحكم مع الشكّ في أنّه هل هو خارج عن تحت عنوان العامّ فخروجه يكون بالتخصّص، أو



(1) لا يخفى أنّ هذا الكلام غريب، فإنّنا نثبت الإطلاق ابتداءً في كلام المولى لا بالنظر إلى قياس الحكم بهذا الفرد، وإنّما بالنظر إلى أنّ ظاهر أخذ عنوان في موضوع الحكم من دون أخذ خصوصيّة اُخرى عدم دخل أيّ خصوصيّة اُخرى في الحكم، وهذا الأمر محتمل الصدق فنأخذ به، ولازم ذلك كون خروج زيد عن الحكم بالتخصّص لا بسبب دخل خصوصيّة زائدة على عنوان الموضوع في الحكم.

350

داخل تحت عنوان العامّ فيكون خروجه تخصيصاً كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال: (لا يجب إكرام زيد) وكان زيد فرداً مشخّصاً شككنا في علمه وجهله.

والثاني: أن يتردّد الخارج المذكور في الدليل الخاصّ بين فردين: أحدهما داخل تحت عنوان العامّ والآخر خارج عنه، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال: (لا يجب إكرام زيد) أو قال: (لا تكرم زيداً) وكان لدينا شخصان مسمّيان بزيد: أحدهما عالم والآخر جاهل فلم نعرف مَن هو المقصود بزيد، فهنا أيضاً دار الأمر في الحقيقة بين التخصيص والتخصّص؛ إذ لو كان المقصود هو زيد العالم فخروجه تخصيص، ولو كان المقصود هو زيد الجاهل فخروجه تخصّص، فما هي الوظيفة في هذا الفرض؟

والكلام في ذلك يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّه هل يكون زيد العالم في هذا الفرض محكوماً بوجوب الإكرام أو لا؟ لا إشكال في أنّه محكوم بوجوب الإكرام؛ وذلك لأنّ المفروض دلالة العامّ على وجوب إكرامه، ولا شيء في قباله يوجب رفع اليد عنه إلّا قوله: (لا تكرم زيداً) والمفروض إجماله، ولا معنى لصيرورة المجمل معارضاً للمبيّن وموجباً لرفع اليد عنه.

وبكلمة اُخرى: إنّ العامّ بنفسه دالّ على شمول الحكم لزيد العالم، وقد شككنا في خروجه عن الحكم بالتخصيص، ومن الواضح أنّ المرجع عند الشكّ في خروج فرد من أفراد العامّ عن الحكم بالتخصيص هو العموم.

ولا يقاس ذلك بما مضى من فرض العلم بعدم وجوب إكرام زيد المشكوك علمه وجهله؛ إذ في ذلك الفرض كان خروج الفرد عن حكم العامّ مسلّماً وإنّما كان الشكّ في خروجه من موضوعه وعدمه، فكان ربّما يدّعى أنّ العامّ لا يدلّ على