522

السادسة: من علامات حبِّ الله حبُّ أحبَّاء الله، فإنَّ مَنْ أحبَّ أحداً سرى حبُّه إلى أحبَّائه. وهذا هو معنى كون حبُّ أهل البيت(عليهم السلام) شرط الإيمان، وبغضهم علامة النفاق وقد ورد عن أبي الزبير المكّي قال: « سألت جابر بن عبد الله ـ يعني الأنصاري ـ فقلت: أخبرني أيُّ رجل كان عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام)؟ قال: فرفع حاجبيه عن عينيه ـ وقد كان سقط على عينيه ـ قال: فقال: ذلك خير البشر. أما والله أن كُنّا لنعرف المنافقين على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ببغضهم إيّاه»(1).

وهذا هو السرُّ في أنَّ حبَّ عليّ(عليه السلام) وعدمه يكون مقياساً للنجاة وعدمها في عرصات يوم القيامة. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنَّ عليَّ بن أبي طالب(عليه السلام) يجلس في يوم القيامة على كرسيٍّ من النور في الفردوس الذي هو أعلى درجات العلِّيين، وأمامه نهر من تسنيم ـ وهو شراب المقرَّبين الخالص لهم ـ ويشرف من هناك على عرصات القيامة. فَمَنْ كان معه حبُّ عليٍّ وأهل بيته أمرَ(عليه السلام)بإمراره على الصراط وإيصاله إلى الجنّة. ومن لم يكن معه حبُّهم أمرَ به إلى النار(2).

ان عليّاً علا إلى شرف
لو رامه الوهمُ زلَّ مرقاه
مَنْ لم يعاين سموَّ رتبته
فإنَّ ضعفَ اليقينِ أعماه(3)

وهنا قد يغترُّ بعض ويتخيلُّ أَنَّه ـ إذن ـ يكفيه حبُّ عليٍّ(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام)عن كلِّ طاعة، فليفعل ما أراد من الفسق والمجون، ويغفل عن أَنَّ حبَّهم(عليهم السلام) إنَّما ينجيه في عرصات يوم القيامة بقدر صدق ذاك الحبِّ. ويكون حبُّهم صادقاً بقدر طاعته لهم. وها هو رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «... ولو عصيت لهويت ...»(4).


(1) معجم رجال الحديث 4 / 12 نقلا عن رجال الكشي.

(2) و (3) خزينة الجواهر: 119.

(4) بحار الأنوار 22 / 467.

523

السابعة: من علامات حبِّ الله انقطاع قلب المحبِّ إلى الله. وقد ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): « العارفُ شخصُهُ مع الخَلْق، وقلبه مع الله، لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه...»(1).

وقيل في الحبّ البشري المجازي التافه: إِنَّ الشيخ الرئيس أبا عليٍّ بن سينا كان في فترة من الزمن في جرجان لدى رجل فاضل عظيم، كان يحبُّ الحكماء، واسمه قابوس، واتَّفق أنَّه ابتلى أحد أقرباء قابوس بمرض مزمن عجزت عن معالجته الأطباء، فأمر قابوس بإحضار الشيخ الرئيس لدى هذا المريض، فحضر الشيخ الرئيس عند المريض، فرآه رجلا شابَّاً، حسن الوجه، متناسب الأعضاء، ولكنَّه هزيل البدن، شاحب اللون. ففحص نبضه، وطلب رجلا يعرف محلاَّت البلد ومواضعها معرفة جيِّدة، فأتوا له بإنسان من هذا النمط، فسأله الشيخ الرئيس عن أسماء محلاّت البلد ـ وهو آخذ بيد المريض وقابض على نبضه ـ فذكر له ذلك الرجل أسماء محلاّت البلد إلى أَن وصل إلى اسم معيَّن لتلك المحلاَّت، فاضطرب نبض المريض بحركة فجائيَّة، فقال الشيخ لذاك الرجل: اذكر لي بيوت هذا المحلِّ، فذكر الرجل تلك البيوت واحداً واحداً إلى أن تحرّك نبض المريض حركة أُخرى، فقال الشيخ: اذكر لي أسماء الساكنين في هذا البيت، فذكر الأسماء وإذا بنبض المريض تحرَّك مرّة ثالثةً لدى ذكر اسم معيَّن من بنات هذه العائلة. وبهذا انتهى فحص الشيخ عن حال هذا المريض، وذكر لمعتمدي قابوس: أَنَّ هذا الشاب قد عشق بنتاً اسمها كذا في المحلَّة الفلانيَّة والبيت الفلاني. ودواؤه وصال مَنْ أحبَّه. ففحصوا عن الأمر، وتبيَّن صدق الشيخ الرئيس في كلامه، فأخبروا قابوساً بذلك، فأحضر قابوس الشيخ، واستفسره عن طريقة كشفه لحقيقة الحال؟ فقال الشيخ: لمَّا نظرت في وجه هذا الشاب، وفحصت نبضه، علمت أنَّ مرضه مرض العشق


(1) المصدر السابق 3 / 14.

524

الدفين، والذي أبقاه سرَّاً في نفسه، فأنهكه السرُّ ثُمَّ اكتشفتُ الشخص المحبوب عن طريق ذكر أسماء المحلاَّت والبيوت وأفراد العائلة، بعلامة اضطراب نبضه لدى ذكر اسم المحلَّة المخصوصة والبيت المخصوص والفرد المخصوص.

فقال قابوس: إنَّ هذا ابن أُخت لي، وتلك بنت أُخت لي، فأوقعوا النكاح بينهما(1).

فإذا كان هذا حال العشق المجازي التافه بين الناس، فما حال الحبِّ الحقيقي لله سبحانه وتعالى؟!

وفي الختام أُؤكّد أمرين:

الأوّل: ليس المقصود بالانقطاع إلى الله ما يشتمل على الانطواء عن حياة الدنيا، والاعتزال عن المجتمع كما قد يفهمه بعض الناس، فإنَّ من شأن محبَّة الله أن يُطبِّق الإنسان ما أراده الله تعالى من مسألة خلافة الله على وجه الأرض، وإنَّما المقصود به أنَّ العارف بالله يتلوَّن ـ كلّ الحياة عنده ـ بلون الله تعالى، فلا يفعل شيئاً إلاَّ لله، وبالطريقة التي فيها مرضاة الله.

ولنعم ما قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)(2): من أنَّه تختلف الشريعة الإسلاميّة عن اتِّجاهين دينيين آخرين وهما:

أوّلا: الاتِّجاه إلى الفصل بين العبادة والحياة.

ثانياً: الاتِّجاه إلى حصر الحياة في إِطار ضيِّق من العبادة كما يفعله المترهبنون والمتصوِّفون.

أمّا الاتِّجاه الأوَّل الذي يفصل بين العبادة والحياة: فيدع العبادة للأماكن الخاصَّة المقرَّرة لها، ويطالب الإنسان بأن يتواجد في تلك الأماكن؛ ليؤدِّي لله


(1) خزينة الجواهر: 133 ـ 134.

(2) راجع نظرة عامّة في العبادات في آخر كتاب الفتاوى الواضحة.

525

حقَّه، ويتعبَّد بين يديه حتّى إذا خرج منها إلى سائر حقول الحياة ودَّع العبادة، وانصرف إلى شؤون دنياه إلى حين الرجوع ثانية إلى تلك الأماكن الشريفة.

وهذه الثنائيَّة بين العبادة ونشاطات الحياة المختلفة تشلُّ العبادة، وتُعطِّل دورها التربوي البنَّاء في تطوير دوافع الإنسان، وجعلها موضوعيّة، وتمكينه من أن يتجاوز ذاته ومصالحه الضيِّقة في مختلف مجالات العمل ...

إلى أن قال(رحمه الله) ( وهذا هو المقطع الذي أردنا أن نستشهد به في المقام ):

وأمَّا الاتِّجاه الثاني الذي يحصر الحياة في إطار ضيِّق من العبادة، فقد حاول أن يحصر الإنسان في المسجد بدلا عن أن يمدِّد معنى المسجد ليشمل كلَّ الساحة التي تشهد عملا صالحاً للإنسان.

ويؤمن هذا الاتِّجاه بأنَّ الإنسان يعيش تناقضاً داخليَّاً بين روحه وجسده، ولايتكامل في أحد هذين الجانبين إلاّ على حساب الجانب الآخر، فلكي ينمو ويزكو روحيَّاً يجب أن يحرم جسده من الطيِّبات، ويقلِّص وجوده على مسرح الحياة، ويمارس صراعاً مستمرَّاً ضدَّ رغباته وتطلُّعاته إلى مختلف ميادين الحياة؛ حتّى يتمّ له الانتصار عليها جميعاً عن طريق الكفِّ المستمرِّ، والحرمان الطويل، والممارسة العباديَّة المحدَّدة.

والشريعة الإسلاميَّة ترفض هذا الاتِّجاه أيضاً؛ لأنّها تريد العبادات من أجل الحياة، فلا يمكن أن تصادر الحياة من أجل العبادات. وهي في الوقت نفسه تحرص على أن يسكب الإنسان الصالح روح العبادة في كلِّ تصرفاته ونشاطاته، ولكن لا بمعنى أنَّه يكفُّ عن النشاطات المتعدّدة في الحياة، ويحصر نفسه بين جدران المعبد، بل بمعنى أن يحوِّل تلك النشاطات إلى عبادات، فالمسجد منطلق للإنسان الصالح في سلوكه اليومي، وليس محدداً لهذا السلوك ...

والثاني: لا يتوهَّم أحد: أنَّنا إذا انتهينا إلى حبِّ الله فقد استغنينا عن الطاعة؛ لأنَّ

526

حبَّ الله هو غاية الغايات بالقياس إلى مقامات عامَّة الناس؛ وذلك لأنَّ أهمَّ علائم حبِّ الله وأوَّلها هو طاعته عزَّ وجلَّ، والمحبُّ مطيع لمن أحبَّه بقدر حبِّه، فبقدر ما يعصي قد ابتعد عن حبِّ الله؛ لأَنَّه خالف مرضاة الله، واستحقَّ بذلك العذاب.

وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في خطبته التي خطبها في مرض وفاته: « ... معاشر الناس ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً، أو يصرف عنه به شراً إلاَّ العمل. أيُّها الناس لا يدَّعي مدَّع، ولا يتمنّى متمنٍّ، والذي بعثني بالحقِّ نبيَّاً لا يُنجي إلاَّ عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت، اللَّهم هل بلَّغت»(1).

 


(1) بحار الأنوار 22/467.

527

 

 

 

 

الفصل الثاني والثلاثون

في بعض المراحل المتأخّرة عن مرحلة الحبّ

 

ولا أذكر هنا إلاّ النزر اليسير ممّا ذكروه؛ لأنّ الغالب فيما ذكروه هو خرافات أهل العرفان الخاطئ الناشئ في غير خطّ أهل البيت(عليهم السلام)، فأودّ أن أصون القلم عن البحث في أكثرها، فأقول:

 

1 ـ الغيرة:

وهي: حالة من الأحوال تفوق حالة الحبّ، فإنّ من أحبّ شيئاً واستغرق في حبّه اغتار عليه، وضنّ عن إشراك غيره إيّاه في الحبّ، فالمستغرق في حبّ الله لا يُشرك أحداً معه في قلبه إلاّ من أحبّه الله، أو أمر بحبّه، فحبّه للمعصومين(عليهم السلام)ـ مثلاً ـ إنّما هو لأجل حبّ الله تعالى إيّاهم، ولأجل أمر الله تعالى بحبّهم.

وقد عقد الشيخ الحرّ(رحمه الله) في الوسائل باباً(1) تحت عنوان: الحبّ في الله، والبغض في الله، والإعطاء في الله، والمنع في الله.

أقول: فهذه هي الحالة التي تترتّب على حبّ الله، فمن اكتمل حبّه لله لا يحبّ غيره إلاّ في الله، ولا يبغض إلاّ في الله.

وأنا أقتصر من نقل بعض تلك الروايات على ما يلي:


(1) ج 16، ب 15 من الأمر والنهي، ص 165 فصاعداً بحسب طبعة آل البيت.

528

1 ـ صحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن أبي عبد الله(عليه السلام): «قال: من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله، فهو ممّن كمل إيمانه»(1).

2 ـ صحيحة أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين(عليه السلام): «قال: إذا جمع الله الأوّلين والآخرين، قام مناد فنادى يسمع الناس، فيقول: أين المتحابّون في الله؟ قال: فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: إذهبوا إلى الجنّة بغير حساب. قال: فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب. قال: ويقولون: وأيّ ضرب أنتم من النّاس؟ فيقولون: نحن المتحابّون في الله. قال: فيقولون: أيّ شيءكانت أعمالكم؟ قالوا: كنّا نحبّ في الله ونبغض في الله. قال: فيقولون: نِعْم أجر العاملين»(2).

ومن أتفه ما رأيته في هذا الباب ما نقل عن بعض الجهّال من أهل الخلاف، حيث أفاد الشيخ الصدوق(رحمه الله) ـ على ما ورد في البحار (3)ـ: أنّهم قالوا: إنّ سليمان(عليه السلام) اشتغل ذات يوم بعرض الخيل حتّى توارت الشمس بالحجاب، ثمّ أمر بردّ الخيل، وأمر بضرب سوقها وأعناقها، وقال: إنّها شغلتني عن ذكر ربّي. وليس كما يقولون، جلّ نبيّ الله سليمان(عليه السلام) عن مثل هذا الفعل؛ لأنّه لم يكن للخيل ذنب، فيضرب سوقها وأعناقها؛ لأنّها لم تعرض نفسها عليه، ولم تشغله، وإنّما عُرِضت عليه وهي بهائم غير مكلّفة.

أقول: إن أخذنا بالتفسير الذي يرجع الضمير في ﴿تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾(4) وفي ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ﴾(5) إلى الجياد، فمعنى الآية واضح، وهو: أنّ الجياد عُرضت على سليمان إلى أن ابتعدت عنه، وتوارت بالحجاب، فأمر سليمان(عليه السلام)بردّها عليه،


(1) المصدر السابق، ح 1، ص 165.

(2) المصدر السابق، ح 6، ص 167.

(3) ج 14، ص 101.

(4) السورة 38، ص، الآية: 32.

(5) السورة 38، ص، الآية: 32.

529

﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاَْعْنَاقِ﴾(1)، أي: مسح على سوقها وأعناقها صيانةً لها، وإكراماً وتدليلاً، ولا تدلّ الآية على قضاء الفريضة وتواري الشمس.

وإن أخذنا بالتفسير الذي يرجع الضمير إلى الشمس، فلم يكن تأخير الصلاة إلى غروب الشمس عن عمد منه ـ سلام الله عليه ـ حتّى ينافي العصمة، ويصبح معصية، وغاية ما قد يكون في المقام هي ترك الأولى، فلابدّ من الأخذ على هذا الفرض بما رواه الصدوق(رحمه الله) ـ حسب ما ورد في البحار(2) ـ عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ سليمان بن داود(عليه السلام) عرض عليه ذات يوم بالعشيّ(3) الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال للملائكة: ردّوا الشمس عليّ حتّى اُصلّي صلاتي في وقتها، فردّوها، فقام، فطفق ساقيه وعنقه(4)، وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك، وكان ذلك وضوءهم للصلاة، ثمّ قام فصلّى، فلمّا فرغ غابت الشمس، وطلعت النجوم».

فعلى كلا التقديرين لم يصلّها سليمان(عليه السلام) قضاءً وفي خارج الوقت.

وقد روى الصدوق أيضاً ـ على ما ورد في البحار(5)ـ عن زرارة والفضيل: «قالا: قلنا لأبي جعفر(عليه السلام): أرأيت قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾(6)؟ قال: يعني كتاباً مفروضاً، وليس يعني وقت فوتها، إن جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها لم تكن صلاة مؤدّاة، ولو كان ذلك كذلك، لهلك سليمان بن داود حين صلاّها، ولكنّه متى ذكرها صلاّها».


(1) السورة 38، ص، الآية: 33.

(2) ج 14، ص 101 ـ 102.

(3) يعني: في وقت العصر.

(4) الضمير راجع إلى نفس سليمان(عليه السلام).

(5) ج 14، ص 101.

(6) السورة 4، النساء، الآية: 103.

530

 

2 ـ الشوق:

1 ـ ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَ ت﴾(1) .

2 ـ «فَهَبْني يا إلهي وَسَيّدي وَمولاي وَرَبّي صَبرتُ عَلى عَذابك، فَكيفَ أصبرُ عَلى فِراقك»(2) .

3 ـ «والله لاَبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه»(3) .

الشوق أيضاً نتيجة من نتائج الحبّ، فإنّ الحبيب يشتاق إلى حبيبه.

والآية التي بدأنا بها الحديث ظاهرة في أنّ الصالحين يريدون لقاء الله، ويشتاقون إليه، وكأنّ تقدير الآية ما يلي: (من كان يرجو لقاء الله، فليبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل، فإنّ أجل الله لآت).

وقد أفاد سماحة الشيخ ناصر مكارم ـ حفظه الله ـ: أنّ ﴿لِقَاء الله﴾ قد فُسّر في بعض الكلمات بمعنى لقاء الملائكة، وفي بعضها بمعنى لقاء الحساب والجزاء، وفي بعضها بمعنى لقاء حكم الله، وفي بعضها بمعنى لقاء القيامة. وقال حفظه الله: لا دليل على كلّ هذه المعاني المجازيّة، فينبغي تفسيره بمعنى الشهود الحقيقي، ولا نقصد بذلك: اللقاء الحسّيّ لله، وهو مستحيل، بل نقصد به: اللقاء الروحي والشهود الباطني الذي يحصل في عالم الآخرة بزوال حُجب المادّة وارتفاعها، وحصول حالة الشهود للإنسان(4) .

أقول: هذا التفسير يناسبه ما يستفاد من آية سورة ق: ﴿لَقَدْكُنتَ فِي غَفْلَة مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(5)، فإنّ هذه الآية واردة في سياق آيات القيامة، ويناسبه أيضاً ما يستفاد من آية سورة الانشقاق: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ


(1) السورة 29، العنكبوت، الآية: 5.

(2) دعاء كميل.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 5، وبحسب طبعة صبحي صالح ص 34.

(4) التفسير الأمثل، ج 12، ص 337.

(5) السورة 50، الآية: 22.

531

إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾(1) لو حملناها على لقاء عالم الآخرة بقرينة ما بعد الآية من قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ...﴾(2) إلى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ...﴾(3) .

ولكنّا مع ذلك نحتمل أن يكون المقصود لقاءً يحصل لدى الموت، ونحتمل أن يكون هذا هوالمقصود بقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾، فإنّ قسماً من الحجب المادّيّة ترتفع بالموت.

وعلى أيّ حال، فالكلام الذي ورد في دعاء كميل: «هَبْني... صَبَرتُ عَلى عَذابك، فَكيفَ أصبرُ عَلى فِراقك» ظاهر في شدّة الشوق إلى لقاء الله.

ويحتمل أن يكون هذا هو المقصود أيضاً ممّا نقلناه عن نهج البلاغة: «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه».

وأمّا الخرافات الواردة هنا عن أهل العرفان المنحرفين عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام)فعديدة، وأنا أقتصر هنا على ذكر واحدة منها:

قال عفيف الدين التلمسانيّ في شرحه على منازل السائرين ما نصّه:

«ويقال: إنّ عمر(رضي الله عنه) سأل بعد وفاة أبي بكر زوجة أبي بكر(رضي الله عنه) عن حاله وما كان وِردُه في ليله، فقالت: إنّ أبابكر لم يكن بكثير صلاة، ولكنّه كان يقوم في آخر الليل فيتوضّأ، ثمّ يركع ما شاء الله تعالى، ثمّ يضع رأسه فيتنفّس، فنشمّ منه رائحة الكبد المشويّة، فقال عمر(رضي الله عنه): من أين لعمر رائحة الكبد المشويّة؟! فهذا الاحتراق هو من نار الشوق»(4).

أقول: ولا أدري أنّ نار الشوق لو شوت كبد أبي بكر فكيف بقي حيّاً؟! وكيف لم ينقل استشمام هذه الرائحة من قبل الناس الآخرين الكثيرين الذين كانوا يلتقون به؟! وكيف وصل إلى هذا المستوى من العرفان من قضى عمدة عمره في الشرك؟!


(1) السورة 84، الانشقاق، الآية: 6.

(2) السورة 84، الانشقاق، الآية: 7.

(3) السورة 84، الانشقاق، الآية: 10.

(4) ص 411.

532

 

3 ـ القَلَق:

وهو الحالة التي تحصل بالشوق إذا جُرّد من الصبر، فإنّ الشوق إن لم يجرّد من الصبر، لم يبعث بالقلق.

وهذه الحالة تحصل قبل تماميّة مشاهدة المحبوب وهو الله سبحانه بالموت، أو بقيام القيامة، وهو محتمل ما نقلناه في أوّل البند السابق عن نهج البلاغة من قوله(عليه السلام): «والله لاَبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه».

وبهذا يمكن تفسير التضرّعات الشديدة، والبكاء الخارق المنقولين عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)؛ فإنّه لا يمكن تفسيرهما بالتصنّع لتعليم الناس، ولا بالخوف ممّا صدر منهم من معصية حقيقيّة؛ لأنّهم معصومون، فلم يصدر منهم ذنب بالمعنى المألوف، فقد يُفسّران على أساس «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين»، أو على أساس النموّ الروحيّ آناً فآناً ممّا يوجب أن يعدّوا المرتبة النازلة التي صعدوا عنها ذنباً على أنفسهم، أو يفسّران على أساس انهيارهم(عليهم السلام)أمام عظمة الربّ، وجلاله وجماله ممّا كان يؤدّي إلى تذلّلهم بهذا اللسان، أو يفسّران على أساس ما قد يحصل لديهم أقلّ غبار على القلب عن بعض مراتب الصفاء ولو لحظة، نتيجة الانشغال باُمور الدنيا الذي لا بدّ منه، فيعدّون ذلك ذنباً على أنفسهم، وقد مضت منّا هذه التفاسير في بحثنا لعلامات العرفاء الكاذبين والحقيقيّين، ومضى منّا في بحث الخوف احتمال أنّ الخوف منهم(عليهم السلام) كان عن الوقوع في المعصية من دون أن ينافي ذلك العصمة؛ لأنّ العصمة قد تكون في طول الخوف الشديد الذي هو فوق ما يتصوّر من الإنسان الاعتياديّ، أو أن يكون خوفاً من صدور ترك الأولى.

وهنا اُريد أن أقول: إنّ هناك تفسيراً آخر غير تلك التفسيرات الماضية، وهو: احتمال حصول هذه الحالة لهم على أساس القلَق الذي يحصل نتيجة عدم المشاهدة للمحبوب، والتي لاتحصل إلاّ لدى الموت، أو لدى قيام القيامة.

533

 

4 ـ العطش:

وإن هو في رأينا إلاّ غصناً من أغصان الشوق، ولا نرانا بحاجة إلى البحث المستقلّ عنه، إلاّ أنّ العارف المعروف (عبدالله الأنصاريّ) جعله بحثاً مستقلاًّ، وقال عنه: إنّه كناية عن غلبة ولوع بمأمول، ونزّل عليه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ يعني: أنّ سيّدنا إبراهيم(عليه السلام)لولا شدّة عطشه إلى لقاء محبوبه، لما ظنّه الكوكب؛ إذ كلّ إنسان إذا رأى السراب ذكر الماء.

ولكن هذا الكلام مفضوح إلى درجة أنّ شارح كتابه (عفيف الدين سليمان التلمسانيّ) اضطرّ أن يؤوّله ويحمله على حكم الإشارة، وقال(1): «هذا على حكم الإشارة، وإلاّ فخليل الرحمن ـ صلوات الله عليه ـ إنّما ذكر على وجه الدلالة على أنّه لا يجوز أن يُعبد شيء ذو نقيصة بوجه مّا، فكأنّه أشار إلى كمال المعبود ـ عزّ وجلّ ـ بما نبّه عليه من نقائص الكوكب والقمر والشمس والاُفول، وأراد الإشارة إلى أنّ الحقّ تعالى لا يغيب عن مخلوقاته، ولا ينبغي له ذلك جلّت قدرته وتقدّست صفاته».

 

5 ـ الوجد:

وهي الحالة التي تحصل من مستوىً من الشهود الذي يتحقّق لدى المكاشفة، فيُنسيه كلّ شيء.

أرى رسمها عندي يعوّض عن رسمي
فما بالهم في الحيّ يدعونني باسمي
وهل بعد ضوء الشمس يبدو لك الدُجى
وهل عندها يبقى على الاُفق من نجم(2)
 


(1) في ص 417.

(2) من أبيات لعفيف الدين التلمسانيّ في شرحه لمنازل السائرين، ص 428.

534

آن كس كه تو را شناخت جان را چه كند؟
فرزند و عيال و خانمان را چه كند؟
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى
ديوانه تو هر دو جهان را چه كند؟

 

6 ـ الدهش:

قال العارف المعروف (عبدالله الأنصاريّ) في منازل السائرين: «الدهش: بَهتة تأخذ العبد إذا فاجأه ما يغلب على عقله، أو صبره، أو علمه».

ومثّل لذلك بقصّة يوسف(عليه السلام)، حيث ورد في القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾(1)، أي: أعظمنه، وكان ذلك التعظيم سبب البهتة التي حصلت لهنّ من رؤية يوسف(عليه السلام)، وذلك هو الدهش.

وقال عفيف الدين التلمسانيّ في شرحه لمنازل السائرين(2): «ما يغلب عقله هو الشهود، والذي يغلب صبره هو فرط المحبّة، والذي يغلب علمه هو إدراك المعرفة، والمعرفة هي فوق العلم».

أقول: هذه دهشة لنساء فاجرات أمام حسن بشريٍّ، وبعشق مجازيٍّ، فما ظنّك بالدهشة أمام ربّ الأرباب لجلوة تحصل في بعض ساعات الخلوات، وعلى أساس العشق الحقيقيّ، والعبوديّة الواقعيّة «واجعَل لِساني بِذِكرِكَ لَهجاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتيّما»(3).

وهنا أقف عن البحث عن العرفان الحقيقيّ وفق خطّ أهل البيت(عليهم السلام) معترفاً بأنّ هذا بحر لا ينفد. وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 31.

(2) ص 429 ـ 430.

(3) دعاء كميل.

535

 

 

 

 

الحلقة الرابعة

 

المثبّطات والمحفّزات

 

 

 

537

 

 

 

 

 

 

1 ـ ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(1).

2 ـ ﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاَْبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِي نَعِيم * عَلَى الاَْرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيق مَّخْتُوم * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ


(1) السورة 3، آل عمران، الآيات: 133ـ 136، ويبدو أنَّ هذه الآيات المباركات واردة بشأن الدرجة الدانية من التقوى لا العالية؛ لأنَّه مع الدرجة العالية لا تصدر فاحشة، ولا يحصل ظلم. ويحتمل أن يكون من قبيل هذه الآية قوله تعالى في السورة 7، الأعراف، الآية: 201 ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ كما يحتمل أن تكون هذه الآية إشارة إلى مرتبة أعلى من التقوى، وهي: مقام التوبة من مجرَّد الهمِّ بالذنب، أو التفكير في الذنب، لا من الذنب، بأن يكون مسُّ طائف من الشيطان إشارةً إلى إحداثه للهمِّ بالذنب في نفس الإنسان، أو تفكيره فيه.

538

الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيم * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الاَْرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(1).

3 ـ ﴿ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُر مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِن مَّعِين * بَيْضَاء لَذَّة لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لاَ كِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيم * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لاَِلَى الْجَحِيمِ﴾(2).

4 ـ ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(3).


(1) السورة 83، المطففين، الآيات: 18 ـ 36.

(2) السورة 37، الصافات، الآيات: 40 ـ 68.

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 72 وكأنَّ صدر الآية يشير إلى النعم المادِّية وذيلها إلى النعمة المعنويَّة، وهي: الرضوان.

539

5 ـ ﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (1) * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾(2).

لا إشكال ولا ريب في أنَّ الإنسان الاعتيادي لا يتحرّك عن طريق محض الإيمان العقلي بالحسن والقبح إلاّ في نطاق ضيِّق جداً، فإنَّ الإنسان بطبيعته كسول ميَّال للدعة والراحة، وهو يطلب ـ عادة ـ أجراً على ما يقوم به من عمل خير أو ترك شرٍّ، ويكون للذَّته وألمه الحظُّ الكبير لتحرّكه.

وبكلمة أُخرى: إنَّ الإنسان لو كان لا يملك ميولا وشهوات وعواطف خاصَّة، وغرائز تجرُّه في كثير من الأحيان إلى القبيح وترك الحسن، لكانت تربيته خُلقيَّاً سهلا. ولعلَّه كان نفس التفاته العقلي إلى الحسن والقبح كافياً في اعتناقه للأخلاق الفاضلة، ولكن أساس صعوبة التربية الأخلاقيّة يكمن في أنَّ الإنسان يملك ميولا وشهوات لها الحظُّ الأوفر للتحريك. فيا تُرى هل بالإمكان جعل الإنسان يقف تجاه هذه المحرِّكات والمغريات العظيمة بمجرد الإيمان العقلي بحسن الحسن وقبح القبيح ؟ ! كلاّ . وهذه المشكلة الأساسيّة بحاجة إلى حلٍّ أساس وجذري.

ومن حلول الإسلام لذلك جعل قوانين ونُظُم لو طُبّقت للبَّت تلك الميول والغرائز بقدر واسع من دون أن تقع الحاجة إلى ما هو غير نظيف خُلُقيّاً. وهذا الحلُّ يكون على وفق الفطرة التي فطر الناس عليها.

إلاّ أنَّ هذا الحلَّ ـ إضافة إلى أنَّه لو كان وحده كان ناقصاً؛ لأنَّ جموح الإنسان وطغيان شهواته قد يجعله لا يكتفي بالقدر النظيف، ويحاول أن يمدّ يده إلى غير النظيف ـ إنَّما هو حلٌّ يتحقَّق بعد تطبيق الإسلام بحذافيره على المجتمع. أمَّا المنطقة التي لم يُطبَّق فيها الإسلام ونُظُمه فيها بالتمام والكمال، فمن الواضح أنَّه لا


(1) كأنّها تشير إلى النعمة المعنويَّة، وهي: النظر إلى الربِّ بالبصيرة لا بالباصرة.

(2) السورة 75، القيامة، الآيات: 20 ـ 25.

540

يكفي مجرَّد فرض أن لو طُبِّق لوفى بتلبية الحاجات للتربية؛ فإنَّ أكثر الناس عقولهم في عيونهم، ومجرّد الإيمان النظري بأنَّ الإسلام لو طُبِّق لكان كفيلا بحلِّ المشاكل، لا ينفعهم في تكامل النفوس ما لم يتمّ التطبيق والتجربة العمليّة في المجتمع كمجتمع.

فإذن لابدَّ من محرِّك أسبق على هذا المحرِّك يستطيع أن يقاوم تلك الميول والإغراءات. وليس هو مجرَّد الإدراك العقلي لحسن الحسن وقبح القبيح، بل يجب أن يُعطى أجراً بإزاء الفعل الحسن وترك القبيح، ويجب أن يحسَّ بالتذاذ وألم يحرِّكانه نحو الكمال.

وتُذكَرُ ـ عادةً ـ عِدَّة جزاءات لموافقة الأخلاق الفاضلة ومخالفتها تُفرضُ محفِّزةً إلى سبيل الخير:

1 ـ الجزاء الخُلُقي، وهو: ارتياح الضمير عن فعل الحسن وترك القبيح، ووخزه عند فعل القبيح وترك الواجب. وهذا في الحقيقة يتمُّ وينمو بالتربية الخُلُقيَّة، وتنمية الضمير الخُلُقي في الإنسان؛ فإنَّ هذا الضمير كُلَّما نما وتكامل أكثر فأكثر ازداد هذا الجزاء، وهو ارتياح الضمير ووخزه وضوحاً وقوَّة وتأثيراً. إلاَّ أنَّ هذا ـ إضافةً إلى عدم كفايته وحده ـ يتوقَّف غالباً على محفِّز أسبق. فأكثر الناس لا ينمو في نفسه الضمير الخُلُقي النموّ المطلوب عن طريق مجرّد بيان الفضائل والرذائل له، وتنبيهه وإلفاته إلى ارتياح الضمير ووخزه لو نمَّاه في نفسه، بل يحتاج إلى جزاء آخر يشوِّقه نحو الفضائل، ويبعِّده عن الرذائل حتّى يتكامل بالتدريج من خلال العمل والتطبيق ضميرهُ الخُلُقي(1).


(1) قد يشير فيما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ ... إنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ... ﴾ السورة 8، الأنفال، الآية: 29 إلى تنامي وتكامل الضمير، واشتداد اكتشافه للحقائق الخُلُقية، واتِّساع مساحته بالتقوى. وكذلك قوله تعالى ﴿ ... وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ... ﴾ السورة 2، البقرة، الآية: 282.

541

2 ـ الجزاء الطبيعي: بمعنى الآثار التكوينيّة الدنيويَّة للأعمال الفاضلة والأفعال القبيحة فإنَّ الصفات الحسنة وأعمالها كثيراً ما تنفع الإنسان، والأوصاف الرذيلة وأفعالها تضرُّه وتجلب المفسدة إليه، فمثلا الإنسان الصدوق الأمين يعيش عزيزاً محترماً بين الناس وموثوقاً لديهم، في حين أنَّ الإنسان الكذوب الخائن على العكس من ذلك تماماً. فهذا النفع وتلك الخسارة جزاء طبيعيّ للإنسان يحفِّزه نحو الخير(1).

إلاّ أنَّ هذا ـ أيضاً ـ غير كاف للتربية عادةً إذ كثيراً ما يتطلَّب الخُلُق الفاضل من الإنسان التضحية بشيء من مصالحه الشخصيَّة، وكثيراً ما تجرُّ الخيانة للإنسان مصلحةً شخصية ونفعاً دنيوياً. على أنَّ المنافع والمضارَّ المترتبة على الفضائل والرذائل، ليس ترتبها عليها ـ دائماً ـ واضحاً في ذهن الناس على مستوى العموم.

3 ـ الجزاء الاجتماعي من معاقبة المعتدي وتأديبه في المحاكم مثلا، أو مدحه أو لومه على أفعاله من قِبل عموم الناس، ومجازاتهم العملية له إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرٌّ.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يكفي؛ لأنَّه:

أوّلا: حين يكون المجتمع فاسداً ينحرف الجزاء الاجتماعي عن الخط الصحيح في كثير من الأحيان.

وثانياً: ما أكثر الخيانات التي لا تجازى بهذا الجزاء لخفائها عن أعين الناس، أو لقوَّة في الخائن تصونه عن الجزاء، أو غير ذلك. وما أكثر التضحيات التي لا تلاقي جزاءها الاجتماعي بالنحو المناسب لها.


(1) وأمَّا ارتياح الإنسان الناشئ من تلبية ما في نفسه من شفقة ونحوها من العواطف الخيِّرة، وتأ ثّره الناشئ من عدم تلبيتها، فإن شئت فألحقهما بالجزاء الخُلُقي، وإن شئت فألحقهما بالجزاء الطبيعي.

542

وكلُّ هذه الجزاءات مجتمعة لا تصنع شيئاً مُهمّاً ما لم يُضم إليها الجزاء الرابع.

4 ـ الجزاء الأُخروي من: ﴿جَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)، ﴿... جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ...﴾(2)، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(3)، ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾(4)، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾(5).

وهذا الجزاء هو الذي بشَّرت به الأديان السماويّة. والدين السماوي غير المنحرف منحصر اليوم بالإسلام. فالإسلام وحده هو الكفيل بحلِّ مشكلة الأخلاق. ولولا ما في الإسلام من الجزاء الأُخروي لم تكن باقي الجزاءات بما فيها الجزاء الخُلُقي كافياً للوصول إلى الكمال. نعم، يستعين الإسلام بسائر الجزاءات وبأساليب التربية، لكن الأَساس هو موضوع الجزاء الأُخروي.

وبعد البناء على هذا الأساس، واتِّباع أساليب التربية قد يصل الإنسان المربّى إلى مستوىً تكفي في تحرّكه الضرورة الخُلُقية وأن الله ـ تعالى ـ أهل للعبادة.

ولا أقصد أنَّ الجزاء الأُخروي علَّة تامَّة للتربية، فما أكثر المؤمنين بجزاء الآخرة الذين لا يردعهم هذا الإيمان من الفسق والفجور، والأعمال القبيحة، أو ترك الواجبات والخصال الشريفة، وإنَّما المقصود: أنَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد وحده هو الذي يمكِّن الإنسان من تربية ذاته لو شاء.

وبكلمة أُخرى: إنَّ أساس المشكل هو الشهوات والإغراءات، ولو لم تقابَلْ


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 133.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 72.

(3) السورة 83، المطفِّفين، الآية: 26.

(4) السورة 37، الصافّات، الآية: 61.

(5) السورة 75، القيامة، الآيات: 22 ـ 25.

543

بالوعد بلذَّة لا تدانيها لذَّة، والوعيدِ بالعذاب الذي لا تقوم له السماوات والأرض، لكانت المشكلة غير قابلة للحلِّ، ولكن بعد أن عُولجت استحالة الحلِّ بوضع الجزاء الأُخروي، لابدَّ من الكلام في سائر المشاكل التي توجد أمام تربية الإنسان وحلولها، بعد فرض أصل وجود الشهوات والميولات حقيقة واقعيَّة.

فما هي الأُمور التي تمنع عن علاج مشكلة الشهوات بالجزاءات التي أهمَّها في المرحلة البدائيّة هو الجزاء الأُخروي من الثواب والعقاب، وأهمَّها في المرحلة النهائيَّة هو الجزاء الخُلُقي ورضوان الله تعالى، بل وإدراك العقل نفس الحسن والقبح؟ وما هو علاج تلك الموانع؟

ومن يريد تربية نفسه يلاقي في المرحلة الأُولى من الصعوبة ما لا يوصف. ويقول بلسان حاله أو مقاله: مالي كُلَّما كبر سنِّي كثرت خطاياي. أما آنَ لي أن أستحي من ربّي(1)؟!! ويقول: مالي كلَّما قلت: قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوّابين مجلسي، عرضت لي بليَّة أزالت قدمي(2)؟!!

والشهوات والميول والعواطف على رغم أنَّها هي أساس المشكل، هي ـ أيضاً ـ أساس التكامل لو هُذِّبت ورُبِّيت؛ فإنَّه (أوَّلا) إنَّ كثيراً منها حينما تُهذَّب تحرِّك الإنسان نحو الخير (وثانياً) لو أنَّها لم تكن موجودة في الإنسان، وكان الإنسان من قبيل المَلَك لا يملك إلاّ العقل، لم تكن توجد قيمة مُهمَّة لالتزامه بالخير والصلاح، ولم يكن للتضحية مفهوم.


(1) و (2) دعاء أبي حمزة الثمالي لسحر شهر رمضان.

545

 

 

 

 

المثبّطات

 

ويقع كلامنا الآن في بيان بعض المشاكل التي تعترض الطريق، وتحول دون تهذيب الإنسان شهواته ورغباته، وتعديل ما في نفسه من ميول وإغراءات بالجزاءات الثابتة للأخلاق الحسنة والأخلاق الذميمة. ومن تلك المشاكل والمثبّطات ما يلي:

 

1 ـ انحسار الإسلام بمعناه الواقعي عن وجه الأرض وتقوُّض الكيان الإسلامي:

وهذا ما عمَّ في زماننا شتّى أرجاء العالَم الإسلامي، ما عدا ما استُثني من ذلك في الآونة الأخيرة من إِيران الإسلام الذي رجع فيه كيان الإسلام نابضاً بالحياة والحمد لله، وهذا من فضل ربِّنا، ولكن سائر البلاد الإسلاميّة لا زالت تحت وطأة الاستكبار الكافر. وهذا من أهمِّ الموانع والمثبِّطات عن هداية الفرد والمجتمع، ووصولهما مرتبة الكمال؛ وذلك لعِدَّة أُمور:

أوّلا: قد مضى أنَّ الذي جعل تربية النفس أمراً ممكناً هو الإيمان بالمبدأ والمعاد. والجوُّ الفاسد المحكوم بنُظُم الكفر يؤثِّر أَثراً معاكساً في هذا الإيمان في النفوس، إمَّا بتضعيفه والتشكيك فيه، أو بجعله غير نابض بالحياة، وغير نازل إلى مستوى القلب والوجدان والعواطف؛ لفقدان المنبِّه الذي ينبِّه الإنسان ـ دائماً ـ على الإيمان، وهو: تجسُّد الإسلام في الحياة الاجتماعيَّة أمام الأعين، ولفقدان الدليل الحسِّي على كون الإسلام ديناً واقعيّاً يساير الحياة سيراً ناجحاً.

546

وثانياً: قد مضى أنَّ الإسلام يعالج مشكلة الشهوات في جملة من أساليبه العلاجيَّة بتلبية تلك الشهوات بالوسائل المباحة، في حين أنَّ انحسار الإسلام عن وجه الأرض يُفني هذا العلاج، فيتفاقم المشكل. ومن الواضح أنَّ ميول الإنسان ورغباته النفسيَّة وعواطفه الطبيعيّة، لا يمكن تحدّيها والتغاضي عنها في أيِّ نظام يفترض نظاماً تكاملياً للإنسان. وكلُّ حلٍّ يقوم على أساس تجاوزها أو قتلها ليس ـ بشكل عامٍّ ـ عدا حلّ خيالي وطوبائي ووهمي، بل لا بدَّ من إشباع تلك الرغبات بالقدر المعقول عن طريق مشروع، وهذا ما يقوم به الإسلام، ومع تقوُّض الكيان الإسلامي يصبح هذا عسيراً أو غير ممكن.

وثالثاً: إنَّ فساد المجتمع يُكثِر المغريات، ويزيد إيحاءات الفساد والشرِّ، ممّا يؤثّر تأثيراً معاكساً في تربية النفوس، فينتقل الشخص من جوِّ البيت الفاسد إلى جوِّ المدرسة الفاسدة، وإلى جوِّ الأسواق والشوارع المغرية، أو الملاهي والمقاهي الملهية، وما إلى ذلك، فحتّى لو فُرضَ أنَّه يُوفَّق أحياناً للاستفادة من الوسائل المربية كقراءة القرآن، أو دعاء الليل، أو سماع وعظ واعظ، أو ما إلى ذلك، يكون ذاك الجوّ الفاسد العامّ هو الغالب عليه والمؤثِّر فيه.

ورابعاً: إنَّ هذه المشكلة وهي: فساد المجتمع وتقوُّض الكيان الإسلامي، تؤثّر في تكوين أو تشديد المشاكل الأُخرى الآتية.

 

2 ـ الجهل بحقيقة الإسلام:

وهذا في الغالب ينشأ من المشكلة الأُولى، وهو: انحسار الإسلام عن ساحة الحياة، وتقوُّض الكيان الإسلامي. وقد ينشأ من عدم وجود التبليغ الإسلامي بقدر الكفاية. فالإسلام نظام كامل شامل للحياة، وفيه حلول جميع المشاكل الحياتيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيَّة وما إلى ذلك، ومن يجهل بذلك يضطرُّ أن يأخذ في كثير من تصرّفاته ومرافق حياته بنُظُم غير إسلاميَّة، وعلى هذا الأَساس