65

القرآن بتعبير متميّز عن باقي المراحل فقال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر﴾. وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) تفسير إنشائه خلقاً آخر بنفخ الروح فيه(1). وطبعاً المقصود بذلك نفخ الروح الإنسانية، فلا ينافي ذلك ما لا يشكّ فيه العلم من حياة الجنين من أوّل يومه حياة أشبه بالحياة النباتية، فترى الجنين يمتلك في مرحلة معيّنة من الحسّ والحركة ما لم يكن يمتلكهما من قبل. ويحكم الفقه على من قتله بالدية الكاملة بينما لم يكن يحكم بذلك من قبل. ثُمّ عبّر القرآن لتبجيل هذا الخلق في هذه المرحلة الجديدة وتبريكه بتعبير لم يعبّر عنه في أيّ خلق آخر وهو قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾ وحتّى خلق السماوات والأرض الذي وصفه الله تعالى بأنّه أكبر من خلق الناس(2) لم يبارك له الله بتعبير كهذا.

نزرٌ يسير من آيات الحكمة في الجنين:

1 ـ مقرّ الجنين:

﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين﴾(3).

أيّ قرار أمكن له وأحفظ من الصدمات ممّا وقع بين سلسلة الفقرات والأضلاع والخاصرتين وعظام الظهر وعضلات البطن من ناحية وجعل في مشيمة مليئة بماء لزج من ناحية اُخرى، فيعلّق في هذا الماء الذي يأخذ عنه ثقله فيأمن من الضغوط التي قد تتجه إلى بدن الاُم أو بطنها، فلا تؤثّر فيه على رغم من نعومته ودقّته، وأيضاً يحفظ له هذا الماء وهذه المشيمة ضمن درجة حرارة في مستوى معتدل أمام الحرارة أو البرودة التي قد يتعرّض لها جسم الاُم


(1) راجع پيام قرآن 2: 77 نقلاً عن تفسير نور الثقلين 3: 541، الحديث 56 و57.

(2) إشارة إلى الآية: 57 من سورة (40) غافر.

(3) س 23 المؤمنون الآية: 13.

66

فجأة؟!

2 ـ تغذية الجنين:

الجنين بحاجة إلى الغذاء والماء ومعدته بعدُ لم تتهيّأ للعمل، وبحاجة إلى الاُوكسجين ورئتاه لم تتهيّأ بعدُ للتنفس، فيصله الطعام والماء بواسطة العروق والأوردة التي تأخذهما له بعد التصفية من قلب الاُمّ من ناحية، وبواسطة الحبل المتصل بصرّته من ناحية اُخرى، ويصله الاُوكسجين بعد تصفية الهواء الذي تتنفّسه الاُمّ عن طريق جريان الدم في جسمها.

3 ـ ولادة الجنين:

﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾(1).

من الذي علّم الطفل حين الولادة أن ينقلب على رأسه بالرغم من أنّه حين استقراره في الرحم تكون رجلاه هما اللتين تليان باب الخروج؟ أفهل كان يعلم صعوبة بدء الخروج من جهة الرجلين؟! ومن الذي يجعل كلّ عضلات الاُم تضغط بشدّة على الجنين لإخراجه؟! ومن الذي يرطّب ويليّن عضلات الباب قبيل الخروج؟!

العبرة:

﴿أَوَلَمْ يَرَ الاِْنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِين﴾(2).

سبحان القادر الحليم الذي يخلق الإنسان من أقذر شيء وهي النطفة، ثُمّ إذا قوي بقدرة الله تعالى وإفاضته المستمرّة أصبح خصيماً لله عزّ وجلّ ومنازعاً له ومخالفاً لأوامره ونواهيه، وما ألأم هذا الإنسان!

 


(1) س 40 غافر، الآية: 67.

(2) س 36 يس، الآية: 77.

67

ولنعم ما قالته الشاعرة الفارسية:

(۲۱) كشتى اى زآسيب موجى هولناك
رفت وقتى سوى غرقاب هلاك
(۲۲) تند بادى كرد سيرش را تباه
روزگار اهل كشتى شد سياه
(۲٥) بندها را تار وپود از هم گسيخت
موج از هر جا كه راهى يافت ريخت
(۲٦) هر چه بود از مال ومردم آب برد
زان گروه رفته طفلى ماند خرد
(۲۷) طفل مسكين چون كبوتر پر گرفت
بحر را چون دامن مادر گرفت
(۲۸) موجش اوّل وهله چون طومار كرد
تندباد انديشه پيكار كرد
(۲۹) بحر را گفتم دگر طوفان مكن
اين بناى شوق را ويران مكن
(۳٠) در ميان مستمندان فرق نيست
اين غريق خُرد بهر غرق نيست
(۳۱) صخره را گفتم مكن با او ستيز
قطره را گفتم بدان جانب مريز
(۳۲) اَمر دادم باد را كان شير خوار
گيرد از دريا گذارد در كنار
(۳۳) سنگ را گفتم بزيرش نرم شو
برف را گفتم كه آب گرم شو
(۳٤) صبح را گفتم برويش خنده كن
نور را گفتم دلش را زنده كن
(۳٥) لاله را گفتم كه نزديكش بروى
ژاله را گفتم كه رخسارش بشوى
(۳٦) خار را گفتم كه خلخالش مكن
مار را گفتم كه طفلك را مزن
(۳۷) رنج را گفتم كه صبرش اندك است
اَشك را گفتم مكاهش كودك است
(۳۸) گرگ را گفتم تَنِ خردش مَدَر
دزد را گفتم گلو بندش مبر
(۳۹) بخت را گفتم جهانداريش ده
هوش را گفتم كه هشياريش ده
(٤٠) تيرگيها را نمودم روشنى
ترسها را جمله كردم ايمنى
(٥۲) وا رهانديم آن غريق بى نوا
تا رهيد از مرگ شد صيد هوا
(٥۳) آخر آن نور تجلّى دود شد
آن يتيم بى گنه نمرود شد(۱)
 

تفترض هذه الشاعرة أنّ قصّة «نمرود» هذا الخصيم المبين الذي حُفظ من

 


(1) ديوان «پروين اعتصامي»، القصيدة: 182.

68

الغرق حين طفولته ونعومة أظفاره قد اُلقيت بالوحي أو الإلهام إلى اُمّ موسى بن عمران(عليه السلام)حين ألقت ابنها في البحر بأمر من الله تعالى كما ورد في القرآن: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * ... وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾(1) فكأنّ الربط على قلبها كان بإيحاء قصة نمرود إليها حينما تشوّشت على ولدها فقد قالت الشاعرة:

(٥) وحى آمد كاين چه فكر باطل است
رهرو ما اينك اندر منزل است
(٦) پرده شك را بر انداز از ميان
تا ببينى سود كردى يا زيان
(۷) ما گرفتيم آنچه را انداختى
دست حقّ را ديدى ونشناختى
(٦۱) ما كه دشمن را چنين ميپروريم
دوستان را از نظر چون ميبريم
(٦۲) آنكه با نمرود اين احسان كند
ظلم كى با موسى عمران كند(2)
 

ويناسب البيتين الأخيرين بيتان رائعان فارسيان للشاعر المعروف سعدى:

اى كريمى كه از خزانه غيب
گبر وترسا وظيفه خور دارى
دوستان را كجا كنى محروم
تو كه با دشمنان نظر دارى
 

 

الثامن ـ السماوات والأرض:

﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(3).

 


(1) س 28 القصص، الآية: 7 والآية: 10.

(2) ديوان «پروين اعتصامي»، القصيدة 182.

(3) س 40 غافر، الآية: 57.

69

إشارات مختصرة:

1 ـ سعة السماوات:

قالوا(1): إنّ منظومتنا الشمسيّة تتعلّق بمجرّتنا المشتملة على مئة مليار من الكواكب، وشمسنا تعتبر من الكواكب المتوسطة الحجم علماً بأنّ الشمس أكبر من الأرض بمليون مرّة على الأقل، وأنّ مجرّتنا واحدة ـ على الأقل ـ من مليار مجرّة، هذا في حدود ما اكتشف حتّى زمان قريب، والله أعلم بما سيكتشف مستقبلاً أو ما يبقى مجهولاً للبشرية إلى الأبد.

2 ـ ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْد وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالاَْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُون﴾(2).

يبدو أنّ هذه الآية الشريفة تحدّثنا من قبل ما يزيد على أربعة عشر قرناً عن توسيع السماء المحيطة بنا، أو قل: عن توسيع العالم، واليوم أي بعد أربعة عشر قرناً يقول العلماء: إنّ فضاء العالم الذي يضم مليارات من المجرّات هو في حالة توسع وانبساط سريع(3).

3 ـ أعمدة السماء:

﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَل مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُون﴾(4).

تنبئنا هذه الآية عن أعمدة غير مرئية رفعت السماوات عليها، وكأنّ المقصود بذلك ـ في حدود اكتشافات القرن الرابع عشر من بعد نزول الآية ـ هو التعادل بين القوّتين الجاذبة والدافعة.

 


(1) راجع پيام قرآن 2: 175 ـ 176.

(2) س 51 الذاريات، الآية: 47 ـ 48.

(3) راجع پيام قرآن 2: 170.

(4) س 13 الرعد، الآية: 2.

70

والغفلة عن كلمة ﴿تَرَوْنَهَا﴾ أوجبت توهّم أحد الرواة ـ وهو الحسين بن خالد ـ بأنّ هذه الآية تنفي الأعمدة نفياً تامّاً، فلا يبقى ارتباط أو تشابك بين السماء والأرض، ومن هنا نرى أنّه حينما سأل الرضا(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُك﴾(1) فقال له الإمام(عليه السلام): «هي محبوكة إلى الأرض» وشبك بين أصابعه، قال له: كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله يقول:(رفع السماء بغير عمد ترونها)؟ فقال(عليه السلام): «سبحان الله ! أليس الله يقول: ﴿بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا﴾؟» قال: بلى، فقال(عليه السلام): «ثَمّ عمد ولكن لا ترونها ...»(2).

ولعل المقصود بعمود من نور في الحديث الآتي أيضاً هو تعادل القوّتين الجاذبة والدافعة، والحديث هو صحيحة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور، طول ذلك العمود في السماء مسيرة مئتين وخمسين سنة»(3).

4 ـ السقف المحفوظ:

﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُون﴾(4).

جاء في كتاب پيام قرآن(5): يحتمل أن تكون السماء هنا إشارة إلى كرة الهواء المطوّقة للأرض والبالغ حجمها مئات الكيلومترات، وهي تمنع عن نفوذ الأشعّة المهلكة من ناحية، وعن اصطدام الأحجار السماويّة بالأرض من ناحية اُخرى، فإنّها تقلل سرعة تلك الأحجار من جهة، وتؤدّي إلى احتراقها باحتكاكها بالكرة الهوائية من جهة اُخرى، ثُمّ ينقل عن لسان أحد العلماء


(1) س 51 الذاريات، الآية: 7.

(2) تفسير القمّي 2: 328.

(3) البحار 58: 91.

(4) س 21 الأنبياء، الآية: 32.

(5) پيام قرآن 3: 171 ـ 172.

71

المكتشفين باسم فرانك آلن أنّ جوّاً مملوءاً بالغازات الحافظة محيط بالأرض يقرب حجمه من ثمان مئة كيلومتر، وهو كالدرع الواقي لها من بلاء عشرين مليون من الأحجار السماويّة التي تهبط بسرعة خمسين كيلومتراً في الثانية.

ثُمّ يقول: صحيحٌ أنّ بعض الشهب النازلة من السماء خفيفة يصل وزنها إلى جزء واحد من ألف جزء من الغرام، ولكن الطاقة التي تتولّد من سرعة نزولها تساوي طاقة انفجار نووي ذرّي، وقد يتّفق أن يكون بعض الشهب ثقيلاً فيخرق الغلاف الجوي ويُضرم الحرائق في الأرض، وكأنّه تنبيه للبشريّة على أنّه لولا هذا الغلاف الواقي ماذا سيحلّ بكم؟!

5 ـ ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾(1).

نحن على العموم غير مطّلعين على الأمر الذي أوحى به الله في كلّ سماء، ولكنّنانعلم بشيء واحد وهو دقّة النظم الحاكم على السماء كدقّة النظم الحاكم على الأرض، وعلى سبيل المثال ورد في پيام قرآن(2) ما يلي:

أ ـ أرسل الإنسان سفينة فضائيّة إلى القمر وأنزلها على نقطة معيّنة منه ثُمّ أرجعها إلى الأرض، ولا شك أنّ الأرض كانت تدور حول نفسها خلال أيّام هذا السفر، وكان يتغيّر مكانها حول الشمس، وكان القمر أيضاً يدور حول نفسه ويدور أيضاً حول الأرض، فهل يمكن تضمين نزول السفينة على النقطة المقصودة في القمر، ثُمّ إرجاعها إلى النقطة المقصودة في الأرض لولا دقّة هذه الحركات جميعاً ونظمها حتّى يمكن حسابها دقيقاً بالعقول الالكترونية؟! ولو كان يتخلّف شيء من هذه الحركات عن النظم في ثانية من الوقت لاختلطت المحاسبات ولعقمت التجربة.

ب ـ الفلكيّون يتنبّؤون بحوادث الخسوف والكسوف لمدّة عشرات السنين


(1) س 41 فصّلت، الآية: 12.

(2) پيام قرآن 2: 177 ـ 178.

72

المستقبلية، ويتنبّؤون بمقادير ساعات الليل والنهار وطلوع الشمس والقمر وغروبهما، فهل كان ذلك بالإمكان لولا النظم الدقيق في حركات هذه الكواكب؟!

ج ـ لولا تعادل قوّتي الجذب والدفع لجميع الكواكب السيّارة لتضاربت أو تناثرت، ونحن نعلم أنّ قوّة الجذب متناسبة طردياً لأجرام الموجودات وعكسياً لمجذور الفاصل بينها، إذن لابدّ من حفظ النظم الدقيق في مقادير الأجرام وفي الفواصل بينها وسرعة حركتها وبطئها، وهل يمكن ذلك كله من دون دخل علم لا متناه وإدراك بالغ؟!

العبرة:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لاُِّوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد﴾(1).

انظر في هذه الآيات كيف ربطت بين ملاحظة آيات الله في السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والذي كان هو دليلنا على وجود الله، وبين الاعتبار الروحي بهذه الآيات المذكّرة بالله والنافية لاحتمال خلقها خلقاً باطلاً من دون حساب أو كتاب لمن خُلقت له هذه الآيات ألا وهو الإنسان.

وقد روي عن ابن عمر أنّه قال: «قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت


(1) س 3 آل عمران، الآية 190 ـ 194.

73

من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فبكت وأطالت ثُمّ قالت: كلّ أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتّى ألصق جلده بجلدي ثُمّ قال لي: يا عائشة، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربّي؟ فقلت: يا رسول الله، إنّي لاُحبّ قربك واُحبّ مرادك قد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضّأ ولم يكثر من صبّ الماء، ثُمّ قام يصلّي فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثُمّ رفع يديه فجعل يبكي حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال له: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! فقال: يا بلال، أفلا أكون عبداً شكوراً؟! ثُمّ قال: ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ...﴾، ثُمّ قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها». وروي «ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّل فيها»(1).

وقال الشيخ الطبرسي(قدس سره) في مجمع البيان: «ورد عن الأئمّة من آل محمّد (صلى الله عليه وسلم)الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة وفي الضجعة وبعد ركعتي الفجر»(2).

وقد روى الشيخ الطوسي(رحمه الله) بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول ـ وذكر صلاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ: كان يؤتى بطهور فيخمّر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه ثُمّ ينام ماشاء الله، فإذا استيقظ جلس ثُمّ قلّب بصره في السماء، ثُمّ تلا الآيات من آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَار ...﴾، ثُمّ يستنّ ويتطهّر ثُمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه، وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتّى يقال: متى يرفع رأسه؟ ويسجد حتّى يقال: متى يرفع رأسه؟ ثُمّ يعود إلى فراشه فينام ماشاء الله، ثُمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، ويقلّب بصره في


(1) تفسير فخر الرازي 9: 133 ـ 134.

(2) مجمع البيان، في ذيل هذه الآيات.

74

السماء، ثُمّ يستنّ ويتطهّر ويقوم إلى المسجد فيصلّي أربع ركعات كما ركع قبل ذلك، ثُمّ يعود إلى فراشه فينام ماشاء الله، ثُمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران ويقلّب بصره في السماء، ثُمّ يستنّ ويتطهّر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلّي الركعتين، ثُمّ يخرج إلى الصلاة»(1).

وروى حبّة العرني قال: «بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين(عليه السلام) في بقيّة من الليل واضعاً يده على الحائط شبه الواله وهو يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ...﴾. قال: ثُمّ جعل يقرأ هذه الآيات ويمرّ شبه الطائر عقله، فقال: أراقد يا حبّة أم رامق؟ قلت: رامق، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى ثُمّ قال لي: يا حبّة، إنّ لله موقفاً ولنا بين يديه موقف لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، يا حبّة، إنّ الله أقرب إليك وإليّ من حبل الوريد، يا حبّة، إنّه لن يحجبني ولا إيّاك عن الله شيء. قال: ثُمّ قال: أراقد أنت يا نوف؟ قال: لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد ولقد أطلت بكائي هذه الليلة. فقال: يا نوف، إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله عزّ وجل قرّت عيناك غداً بين يدي الله عزّ وجلّ، يا نوف، إنّه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية الله إلّا أطفأت بحاراً من النيران، يا نوف، إنّه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله من رجل بكى من خشية الله وأحبّ في الله وأبغض في الله، يا نوف، من أحبّ في الله لم يستأثر على محبّته، ومن أبغض في الله لم ينل مبغضيه خيراً، عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان. ثُمّ وعظهما وذكّرهما وقال في أواخره: فكونوا من الله على حذر فقد أنذرتكما، ثُمّ جعل يمرّ وهو يقول: ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عنّي أم ناظر إليّ؟ وليت شعري في طول منامي وقلّة شكري في


(1) تهذيب الأحكام 2: 334، الباب 15 من كتاب الصلاة، الحديث 233.

75

نعمك عليّ ما حالي؟ قال: فوالله ما زال في هذا الحال حتّى طلع الفجر»(1).

أختم حديثي عن آيات الله سبحانه وتعالى بالكلمة المرويّة عن الإمام الرضا(عليه السلام): «إنّي لمّا نظرت إلى جسدي فلم يُمكنّي زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمت أنّ لهذا البنيان بانياً، فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أنّ لهذا مقدِّراً ومُنشئاً»(2).

وهنا أترك الحديث عن آيات الله ودلائل قصده وحكمته علماً بأنّ هذا البحث لو مُدّد إلى يوم القيامة لما بلغ منتهاه:

﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾(3)، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾(4).

 

 

 

 


(1) فلاح السائل: 266 ـ 267.

(2) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 132، الباب 11 ما جاء عن الرضا(عليه السلام) من الأخبار في التوحيد، الحديث 28.

(3) س 18 الكهف، الآية: 109.

(4) س 31 لقمان، الآية: 27.

77

اللّه جلّ جلاله

2

 

 

 

التوحيد

 

 

○ التمهيد.

○ فطرية الإيمان بالتوحيد.

○ أغصان التوحيد.

○ أدلّة التوحيد.

 

 

79

 

 

 

 

 

التمهيد

 

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾.

كرّرت هذه الآية الشريفة في القرآن مرّتين في سورة النساء مرّة في الآية (48) وذيّلت بقوله تعالى:﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾، ومرّة اُخرى في الآية (116) وذيّلت بقوله تعالى:﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾.

والآيتان تعنيان أنّ الشرك أعظم ذنب يمكن أن يصدر من البشر، وهذا يعني أنّ الشرك لا يقلّ عن أصل إنكار الله تبارك وتعالى، فمن يؤمن بالله ويشرك به غيره يكون على حدّ من لا يؤمن نهائياً بالله تعالى.

وقد يكون السبب في ذلك أنّ افتراض قبول الله تعالى للشريك يعني أنّ له حدّاً؛ لأنّ ما لا حدّ له لا يتصوّر له شريك، وإذا أصبح محدوداً لم يصبح كاملاً، فلا تثبت له صفات الجلال ولا صفات الجمال، وهذا يعني في الحقيقة عدم الإيمان بالله، فإنّ «كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم»(1).


(1) البحار 69: 293.

80

آنچه پيش تو غير از او ره نيست
غايت فهم تو است الله نيست

ولدى عدم الإيمان بوجود كامل مطلق لا سبيل لارتقاء البشرية مراقي الكمال.

وعند عدم الإيمان بوجود إله واحد لا سبيل للنظر الوحداني إلى عالم الوجود كعِقد واحد تنتظم فيه كل المجوهرات ويرتبط بعضها ببعض، وبالتالي لا سبيل إلى الرؤية الفلسفية الصحيحة للعالم، ولا إلى تشخيص موقفنا ووظيفتنا بشكلهما المعقول.

ولقد ثبّت إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في رواية رواها الصدوق(قدس سره) في كتاب التوحيد أنّ محاربته لأعدائه إنّما كانت في الحقيقة لأجل التوحيد، فقد روى(رحمه الله): «أنّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول: إنّ الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابيّ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟! فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثُمّ قال: يا أعرابي، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه.

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد، يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أماترى أنّه كفر من قال: ثالث ثلاثة؟ وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه؛ لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.

وأمّا الوجهان اللذان يثبُتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء

81

شبه كذلك ربّنا، وقول القائل: إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم(1) كذلك ربّنا عزّ وجلّ»(2).

 

 

* * *


(1) قيل في تفسيره: أي لا في الخارج كانقسام الإنسان إلى بدن وروح، ولا في عقل كانقسام الماهية إلى أجزائها الحدّية، ولا في وهم كانقسام قطعة خشب إلى النصفين في التصوّر. (راجع كتاب التوحيد: 84 تحت الخط).

وأيضاً قيل: إنّ المقصود بالواحد في باب الأعداد الذي نفاه أمير المؤمنين(عليه السلام) هو كون الشيء واقعاً تحت مفهوم عام وجد منه مصداق واحد، وذلك مثل مفهوم الشمس القابل للانطباق على كثيرين، غير أنّه لا يوجد في عالم الحسّ منه إلّا مصداق واحد مع إمكان وجود مصاديق كثيرة له، فهذا هو المصطلح عليه بالواحد العددي. أمّا الوحدة الحقيقيّة فهي عبارة عن كون الموجود لا ثاني له، بمعنى أنّه لا يقبل الاثنينيّة ولا التكثّر ولا التكرّر، وذلك كصِرف الشيء المجرّد عن كلّ خليط، المطلق عن كلّ قيد، فلا يعقل فرض ثان له؛ لأنّ الثاني بحكم نفي القيد، والخلط يكون كالأوّل فلا يتميز ولا يتشخّص حتّى يكون ثانياً، فالكثرة رهن دخول شيء مغاير في حقيقة الشيء، وهذا هو أوّل معنيي الوحدة التي ثبّتها أمير المؤمنين(عليه السلام)في كلامه.

وأمّا المعنى الثاني للوحدة المثبَّت أيضاً في كلامه(عليه السلام) فهو كونه أحديّ الذات، ويهدف إلى كونه بسيطاً لا جزء له في الخارج ولا في الذهن في عقل ولا وهم. (راجع الإلهيّات 1: 356 ـ 358).

(2) التوحيد: 83 ـ 84.

82

 

فطرية الإيمان بالتوحيد

 

قد مضى في بحث إثبات الصانع أنّ بعض الآيات القرآنية دلّت على فطريّة الإيمان بوجود الله، واحتملنا في تفسير الفطرية احتمالين: البداهة والعلم الحضوري، وأوضح تلك الآيات في الدلالة على فطرية الإيمان بوجود الله ثلاثة:

1 ـ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(1).

2 ـ ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدون﴾(2).

3 ـ ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُون﴾(3).

وهذه الآيات الثلاث كما تدلّ على فطرية أصل الإيمان بالله كذلك تدلّ على فطرية الإيمان بالتوحيد:

أمّا الآيتان الاُوليان فلأنّهما تدلاّن على فطرية الدين، ومن الواضح أنّ أساس الدين هو التوحيد.

وأمّا الآية الثالثة فلتصريحها بقوله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا ...﴾.


(1) س 30 الروم، الآية: 30.

(2) س 2 البقرة، الآية: 138.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 172 ـ 173.

83

وأمّا بناءً على جعل الآيات التي تذكر التجاء البشر لدى الاضطرار إلى الله سبحانه دليلاً على فطرية الإيمان بالله فكثير منها صريحة في الالتفات إلى مسألة التوحيد والشرك أيضاً كقوله تعالى:

1 ـ ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون﴾(1).

2 ـ ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون﴾(2).

3 ـ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون﴾(3).

4 ـ ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون﴾(4).

5 ـ ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْب ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُون﴾(5).

بل وجميع آيات التجاء البشر لدى الاضطرار إلى الله سبحانه حتّى التي ليس فيها التصريح بالتوحيد ترمز إلى التوحيد؛ لوضوح: أنّ الذي يلجأ إليه البشر لدى الاضطرار ليس إلّا إلهاً واحداً، فيدخل في هذا المضمار مثل


(1) س 29 العنكبوت، الآية: 65.

(2) س 30 الروم، الآية: 33.

(3) س 6 الأنعام، الآية: 40 ـ 41.

(4) س 16 النحل، الآية: 53 ـ 54.

(5) س 6 الأنعام، الآية: 63 ـ 64.

84

قوله تعالى:

1 ـ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور * وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ كُلُّ خَتَّار كَفُور﴾(1).

2 ـ ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيح طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾(2).

3 ـ ﴿فَإِذَا مَسَّ الاِْنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم﴾(3).

4 ـ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾(4).

 

 

 

* * *

 


(1) س 31 لقمان، الآية: 31 ـ 32.

(2) س 10 يونس، الآية: 22 ـ 23.

(3) س 39 الزمر، الآية: 49.

(4) س 10 يونس، الآية: 12.

85

 

أغصان التوحيد

 

يذكر للتوحيد عادة أغصان أربعة:

 

الأوّل: التوحيد في الذّات

 

قال الله تعالى:﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَد﴾(1).

ومعنى هذا التوحيد على الإجمال أنّه في ذاته واحد لا شبيه له ولا نظير.

 

الثاني: التوحيد في الصفات

 

ومعناه على الإجمال أنّ صفات ذاته عين ذاته لا ثنائيّة بينها وبين ذاته ولا في ما بين نفس الصفات، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله»(2).

 


(1) س 112 التوحيد، الآية: 1 ـ 4.

(2) نهج البلاغة، الخطبة الاُولى.

86

 

الثالث: التوحيد في العبادة

 

ومعناه على الإجمال أنّه لا تجوز عبادة أحد سواه، قال الله تعالى:﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون﴾(1)، وقال عزّ وجّل: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة﴾(2).

 

الرابع: التوحيد في الأفعال

 

ومعناه على الإجمال أنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، وهذا لا ينافي ترتّب المسببات على الأسباب كالإحراق على النار، أو القتل على السيف، أو الزرع على البذر والمطر، أو ما إلى ذلك، كما لا ينافي اختيارية الإنسان، وكذلك لا ينافي التوسل بالمعصومين والأولياء(عليهم السلام).

أمّا عدم منافاته لترتّب المسببات على الأسباب فلأنّ ذلك أيضاً بمشيئة الله ومسبّب الأسباب هو الله، وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «أبى الله أن يجري الأشياء إلّا بأسباب فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلّ سبب شرحاً، وجعل لكلّ شرح علماً، وجعل لكلّ علم باباً ناطقاً عرفه من عرفه وجهله من جهله، ذاك


(1) س 9 التوبة، الآية: 31.

(2) س 98 البيّنة، الآية: 5.

87

رسول الله(صلى الله عليه وآله) ونحن»(1).

وأمّا عدم منافاته لاختيار الإنسان فهو على أساس الفكرة التي طرحها أئمّتنا(عليهم السلام) من مسألة الأمر بين الأمرين.

وأمّا عدم منافاته للتوسّل بالمعصومين والأولياء(عليهم السلام) فلأنّ تأثيرهم لا يكون إلّا بإذن الله سبحانه وتعالى، وليس لهم باستقلالهم شيء. قال الله تعالى:﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي﴾(2).

 

أغصان التوحيد في الأفعال:

ويذكر للتوحيد في الأفعال أغصان كثيرة لعلّ أهمّها ما يلي:

الأوّل: التوحيد في الخلق، قال الله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين﴾(3).

الثاني: التوحيد في الربوبيّة، قال الله تعالى:﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ


(1) الكافي 1: 183، باب معرفة الإمام والردّ اليه من كتاب الحجة، الحديث 7.

ولهذا المفهوم من سببيّة الأسباب ـ ضمن أنّها جميعاً بقبضة الله تعالى الذي هو مسبّب الأسباب ـ تأثير كبير في مسار تربية الإنسانية؛ حيث يمنع الإنسان من ناحية عن الترهبن أو ترك الأسباب أو ترك الاستعانة بالوسائل المادّيّة في تحصيل الأغراض والحاجات، ومن ناحية اُخرى من اللهث وراء الأسباب أكثر من القدر المعقول، أو الاضطراب من جرّاء عدم توفّر الأسباب على الرغم من السعي المتوسّط غير المُضني وراءها، أو النقص في التوكّل على الله، أو فقد النفس المطمئنّة بالله سبحانه وتعالى.

(2) س 5 المائدة، الآية: 110.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 54.

88

كُلِّ شَيْء﴾(1). وقال عزّ وجلّ ـ عن لسان يوسف(عليه السلام) ـ: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾(2).

وعبدة الأصنام يكون شركهم بالله تعالى عادةً في الربوبية كما دلّت عليه هذه الآية، وفي العبادة كما دلّ عليه قوله تعالى ـ عن لسان عبدة الأصنام ـ: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾(3).

ولم يكن شرك عبدة الأصنام في الخلق مثلاً ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه﴾(4)، ولا في التوحيد الذاتي لقوله تعالى ـ عن لسان يوسف(عليه السلام)ـ: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾(5)، فتراه استدلّ على التوحيد في الربوبيّة بالتوحيد الذاتي، ولولا أنّ التوحيد الذاتي كان مسلّماً لدى صاحبي سجنه لكان هذا الاستدلال مصادرة على المطلوب.

الثالث: التوحيد في المالكيّة والحاكمية التكوينيّة، قال الله تعالى:﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون﴾(6).

الرابع: التوحيد في التشريع، قال الله تعالى:﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّه﴾(7).

الخامس: التوحيد في الاُلوهية والطاعة، قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُممِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾(8).

 


(1) س 6 الأنعام، الآية: 164.

(2) س 12 يوسف، الآية: 39.

(3) س 39 الزمر، الآية: 3، راجع لهذا البحث كتاب معارف قرآن: 53.

(4) س 39 الزمر، الآية: 38، راجع لهذا البحث المصدر السابق.

(5) س 12 يوسف، الآية: 39.

(6) س 39 الزمر، الآية: 6.

(7) س 6 الأنعام، الآية: 57، و س 12 يوسف، الآية: 40 و67.

(8) س 7 الأعراف، الآية: 3.

89

والأولى عندي جعل هذا غصناً خامساً لأصل التوحيد، فهو يشبه التوحيد في العبادة مثلاً الذي جعل غصناً برأسه، ولا يناسب جعله غصناً للتوحيد الأفعالي، فليس حقّ الطاعة فعلاً من أفعاله سبحانه وتعالى.

وكما قلنا في التوحيد الأفعالي ـ بمعنى لا مؤثر في الوجود إلّا الله ـ: إنّ هذا لا ينافي التوسل بالمعصومين؛ لأنّ تأثيرهم لا يكون إلّا بإذن الله لا باستقلالهم، كذلك نقول هنا: إنّ التوحيد في حقّ الطاعة لا ينافي وجوب طاعة المعصومين؛ لأنّ طاعتهم ليست لهم باستقلالهم بل بإذن الله سبحانه وتعالى وبإيجابه علينا طاعتهم كما قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُول إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه﴾(1).

والنقص الذي كان في توحيد إبليس(2) هو في إيمانه بالاُلوهية والطاعة؛ حيث اعترض على الله تعالى في حكمه عليه بالسجود لآدم(عليه السلام) وقال: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين﴾(3)، وقال أيضاً:﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْه﴾(4)، وهذا يعني أنّه لم يعترف بحقّ الطاعة لله تعالى بحجّة أنّه يحكم بغير الحقّ فيأمر الفاضل أن يسجد للمفضول، وهذا هو الذي سبّب سقوط إبليس من مقامه الشامخ وانتهاء أمره إلى مستوى أن قال الله تعالى في خطابه إيّاه:﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين﴾(5)، وقال: ﴿لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِين﴾(6)، فقد انتهى إبليس إلى أسفل السافلين بسبب عدم خضوعه للتوحيد في الاُلوهيّة والطاعة بالرغم من تماميّة توحيده في الخلق وفي الربوبيّة وفي العبادة.


(1) س 4 النساء، الآية: 64.

(2) راجع بهذا الصدد كتاب معارف قرآن 1: 55 ـ 57.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 12.

(4) س 38 ص، الآية: 76.

(5) س 38 ص، الآية: 78.

(6) س 38 ص، الآية: 85.

90

أمّا توحيده في الخلق فلقوله تعالى عن لسانه:﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين﴾(1)، وأمّا توحيده في الربوبيّة فلقوله تعالى عن لسانه:﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ﴾(2)، وأمّا توحيده في العبادة فلقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف إبليس: «قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة»(3) .

والرذيلة الخُلُقيّة لدى إبليس التي جرّته إلى مكابرة الله تعالى في اُلوهيته وطاعته كانت عبارة عن الكبر، ولهذا قال أمير المؤمنين(عليه السلام):

«فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس؛ إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ـ وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟! كلاّ، ما كان الله سبحانه ليُدْخل الجنّة بشراً بإمر أخرج به منها ملكاً، إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هَوادة في إباحة حمىً حرّمه على العالمين، فاحذروا عبادَ الله عدوَّ الله أن يُعديكم بدائه، وأن يستفزّكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورَجله، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب فقال:﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين﴾(4) قذفاً بغيب بعيد، ورجماً بظنٍّ غير مصيب...»(5).

هذا تمام كلامنا في الإشارة إلى مراتب التوحيد أو أغصانه التي تتضمّنها


(1) س 7 الأعراف، الآية: 12.

(2) س 15 الحجر، الآية: 39.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 192.

(4) س 15 الحجر، الآية: 39.

(5) نهج البلاغة، الخطبة 192.