688

 

تنقيح الكلام في مقدّمات الانسداد

وبعد هذا نأتي إلى تنقيح الكلام في مقدّمات دليل الانسداد، ونتكلّم بحسب ترتيب الكفاية للمقدّمات فنقول:

 

1 ـ العلم الإجماليّ بالأحكام:

المقدّمة الاُولى: وجود العلم الإجماليّ بأحكام في الشريعة، وقد مضى أنّ هذا ليس مقدّمة بنفسه في عرض سائر المقدّمات، وإنّما هو دليل من الأدلّة التي قد يستدلّ بها على بعض المقدّمات الاُخرى كإبطال البراءة. وسنبحث ذلك ـ إن شاء الله ـ في ضمن المقدّمة الثالثة التي سنذكر فيها وجه بطلان الرجوع إلى البراءة.

 

2 ـ انسداد باب العلم والعلميّ:

المقدّمة الثانية: انسداد باب العلم والعلميّ، أي: الأمارة الثابتة حجّيّتها بدليل خاصّ.

لا إشكال في أنّ باب العلم والعلميّ ليس منفتحاً في جميع الأحكام الشرعيّة حتّى عند أوسع الناس مذاقاً في باب الحجّيّة، كأن يقول بحجّيّة الخبر والشهرة والإجماع المنقول، ونحو ذلك من الأمارات، كما لا إشكال في أنّ باب العلم والعلميّ ليس منسدّاً في جميع الأحكام الشرعيّة حتّى عند أضيق الناس مذاقاً في باب الحجّيّة، أمّا العلم فموجود بالنسبة لجملة من الأحكام القطعيّة الثابتة جزماً في الشريعة الإسلاميّة. وأمّا العلميّ فأيضاً كذلك؛ إذ لا أقلّ من حجّيّة الظنّ القويّ الواصل إلى مرتبة الاطمئنان، وهذا موجود في بعض الأحكام التي تظافرت عليها

689

الأخبار بدرجة أوجبت الاطمئنان. إذن فليس الانسداد المطلق صحيحاً ولا الانفتاح المطلق صحيحاً، وإنّما عقدت هذه المقدّمة لبيان أنّه هل يكون باب العلم والعلميّ منفتحاً بدرجة تضرّ بغرض من يتمسّك بدليل الانسداد، أو لا ؟ فلنذكر هنا كلامين:

أحدهما: أنّه متى يضرّ الانفتاح بغرض المستدلّ بدليل الانسداد، ومتى لا يضرّ ؟

والثاني: أنّه هل ثبت الانفتاح بالنحو المضرّ بغرضه، أو لا ؟

أمّا الكلام الأوّل: فالانفتاح إنّما يضرّ بغرض الانسداديّ في حالتين:

الحالة الاُولى: حصول الانفتاح في دائرة الأحكام الإلزاميّة في نطاق واسع بحيث لا يبقى في المقدار الباقي تحت الانسداد مانع عن الرجوع فيها إلى البراءة: من علم إجماليّ، أو إجماع، أو لزوم الخروج من الدين.

الحالة الثانية: حصول الانفتاح في دائرة الأحكام الترخيصيّة بدرجة تنفي المانع من الاحتياط في الباقي: من لزوم العسر والحرج.

وفي هاتين الحالتين نرجع إلى الاُصول المؤمّنة، أو الاحتياط، ولا تصل النوبة إلى الظنّ المطلق.

وأمّا الكلام الثاني: فإن لاحظنا باب العلم الوجدانيّ فلا إشكال في أنّ المقدار المعلوم بالعلم التفصيليّ من الأحكام ليس بمقدار يضرّ وحده بغرض الانسداديّ، فإنّ ذلك لا يعدو ضروريّات الدين وما كان ثابتاً بدليل قطعيّ سنداً ومتناً ودلالة، ومثل هذا قليل جدّاً، ولو ضمّ إلى المعلومات التفصيليّة ما سيأتي إن شاء الله: من المعلومات بالعلوم الإجماليّة الصغيرة جاء احتمال وفاء ذلك بالمقدار المضرّ بغرض الانسداديّ، ولكن لا يبعد عدم الوفاء بذلك أيضاً في مثل زماننا ولو فرض

690

وفاؤه بذلك في أعصر سابقة كعصر السيّد المرتضى(رحمه الله)(1)، فإنّ طول الزمان له أثرفي دائرة انفتاح العلم وحدوده.

وإن لاحظنا باب العلميّ: فإن فرضنا أنّه ثبتت عندنا حجّيّة خبر الواحد والظواهر ـ كما هو الصحيح ـ فباب العلميّ مفتوح بالدرجة التي تضرّ بغرض الانسداديّ من دون فرق بين أن نقول بأنّ ملاك حجّيّة خبر الواحد هو وثاقة


(1) المقصود طبعاً هو افتراض انفتاح باب العلم في أعصر سابقة كعصر السيّد المرتضى بالمقدار المضرّ بغرض الانسداديّ لا الانفتاح المطلق. وأمّا ما يوجد في كلام السيّد المرتضى(رحمه الله): من دعوى انفتاح باب العلم بالأحكام إطلاقاً، فقد أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ الظاهر أنّ مقصوده ليس هو انفتاح العلم بالأحكام الواقعيّة، فإنّ دعوى انفتاح باب العلم إلى جلّ الأحكام مشكلة حتّى بالنسبة لزمان حضور الإمام(عليه السلام)، إلّا لقليل من الناس الذين يخالطون الأئمّة(عليهم السلام)ويعاشرونهم من قرب، فضلاً عن مثل زمان السيّد المرتضى، ولا شكّ في أنّ نفس السيّد المرتضى كان يشكّ أحياناً في الحكم فيرجع إلى الاُصول، وإنّما مراده الواقعيّ ـ ولو ارتكازاً ـ هو انفتاح باب العلم في تمام المسائل إلى الجامع بين الحكم الواقعيّ والوظيفة العمليّة، وإن لم يوضّح ذلك تماماً نتيجة عدم وضوح فكرة التمييز بين الاُصول العمليّة والأدلّة الاجتهاديّة في تلك الأعصر.

وبكلمة اُخرى: إنّ كلام السيّد المرتضى(رحمه الله) في المقام إنّما هو من سنخ ما كانوا يقولون: إنّ الأحكام كلّها عندنا قطعيّة بخلاف العامّة الذين يتمسّكون بالدليل الظنّيّ كالقياس والاستحسان، ونحن دائماً نعتمد على الدليل المورث للقطع بالحكم، وأدلّة الأحكام عندنا أربعة، وهي جميعاً قطعيّة، وهي الكتاب، والسنّة القطعيّة، والإجماع، والعقل، وأوّل مثال كانوا يذكرونه لدليل العقل هو البراءة، وذكر ابن إدريس في بيان منهجه في الكتاب: إنّ منهجي في الاستدلال موافق لمنهج قدماء مشايخنا، واستشهد بكلمات السيّد المرتضى، وذكر أنّنا لا نجيز في مسلكنا الإفتاء على أساس دليل ظنّيّ، بل دائماً نفتي على أساس دليل قطعيّ: من كتاب، أو سنّة، أو إجماع، أو عقل.

691

الراوي أو موثوقيّة المضمون، فعلى كلا التقديرين يوجد العدد الكافي الموجب لرفع المانع عن جريان الاُصول المؤمّنة في غير موارد تلك الأخبار.

وإن فرضنا أنّه لم تثبت لدينا حجّيّة خبر الواحد ولا الظهور، فمن الواضح أنّ باب العلميّ يكون منغلقاً في المقام؛ إذ لا يبقى لدينا علميّ عدا الاطمئنان الشخصيّ، وهو قليل لا يضرّ بغرض الانسداديّ.

وأمّا إن قلنا بحجّيّة أحدهما دون الآخر، فعندئذ إن كان المانع عن جريان البراءة هو العلم الإجماليّ، فالظاهر أنّ هذا لا يوجب رفع المانع، فالظواهر القطعيّة الصدور وحدها لا تكفي؛ لأنّنا نعلم إجمالاً بوجود أحكام إلزاميّة كثيرة اُخرى في ضمن أخبار الوسائل غير المتواترة. وأخبار الآحاد المعتبرة الصريحة وحدها أيضاً لا تكفي؛ لأنّنا نعلم أنّ كثيراً من الظواهر الإلزاميّة مقصودة واقعاً، فلابدّ من حجّيّة خبر الواحد والظهور معاً كي يؤدّي ذلك إلى إبطال غرض الانسداديّ.

نعم، ما يذكر من المانعين الآخرين عن جريان البراءة غير العلم الإجماليّ، وهما: الإجماع، ومحذور الخروج عن الدين، لا يبعد ارتفاعهما بحجّيّة أحد الأمرين، أعني: الظهور وخبر الواحد، بأن يقال: إنّ الإنسان لو عمل بتمام ما دلّت عليه ظواهر الآيات والسنّة المتواترة، أو بتمام الأخبار المعتبرة الصريحة، وأضافها إلى القطعيّات، لم يبق قطع ضروريّ له بعدم رضا الشارع بإجراء الاُصول المؤمّنة في الأطراف الاُخرى، ولا قطع له بالإجماع أيضاً.

 

3 ـ عدم جواز إهمال الأحكام:

المقدّمة الثالثة: عدم جواز إهمال التكاليف الواقعيّة، وقد قلنا: إنّ هذه المقدّمة وضعها الفنّيّ غير تامّ؛ إذ لو اُريد بها عدم جواز إجراء البراءة فهي جزء من المقدّمة الرابعة. ولو اُريد بها وجوب التعرّض لتكاليف المولى وتعيين الموقف العمليّ

692

تجاهها سواء كان هذا الموقف هو البراءة أو الاحتياط أو أيّ شيء آخر، فهذا مرجعه إلى مولويّة المولى التي ينبغي أن يكون مفروغاً عنها من قبل. ولو اُريد بها عدم ارتفاع الأحكام بالانسداد وعدم نسخها، فحالها حال المقدّمة الاُولى.

إلّا أنّنا نفترض هنا أنّ المراد بهذه المقدّمة إبطال جريان البراءة وأنّه خصّصت البراءة بمقدّمة خاصّة في المقام، وعندئذ يقع الكلام في جريان البراءة وعدمه. والكلام في ذلك يقع في مقامين: أحدهما: في وجود المقتضي للبراءة وعدمه. والآخر: في وجود المانع عنها وعدمه بعد فرض ثبوت المقتضي لها.

 

المقتضي للبراءة:

أمّا المقام الأوّل ـ وهو في البحث عن وجود المقتضي للبراءة وعدمه ـ: فالبراءة العقليّة قد أنكرناها من أساسها بالتفصيل الماضي فيما سبق، وأمّا البراءة الشرعيّة: فإن فرض انحصار مدركها بمثل حديث الرفع الذي هو من أخبار الآحاد التي فرض عدم حجّيّتها وإلّا لانهدم أساس الانسداد، فلا يبقى دليل على أصالة البراءة، فلا مقتضي للبراءة أصلاً. وإن فرض استفادة البراءة من بعض الآيات القرآنيّة فإن قلنا بأنّ دلالة تلك الآيات عليها بالصراحة أو قلنا بحجّيّة الظهور فالمقتضي للبراءة تامّ، وإلّا فلا.

 

المانع عن البراءة:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو في البحث عن المانع بعد فرض تسليم المقتضي للبراءة ـ: فما يذكر مانعاً عن جريان البراءة في المقام اُمور ثلاثة:

الأوّل: الإجماع. وهو ثابت حتّى مع قطع النظر عن العلم الإجماليّ، أي: أنّنا جازمون بأنّه لا يرضى فقيه بجريان البراءة في تمام الشبهات لدى فرض

693

الانسداد حتّى على القول بعدم منجّزيّة العلم الإجماليّ، فهذا الوجه لا يكون راجعاً إلى الوجه الأخير وهو العلم الإجماليّ. وقد نوقش في هذا الإجماع بأنّه لا سبيل إلى الجزم به بعد أن كانت المسألة من المسائل المستحدثة، ولا علم لنا بذلك إلّا عن طريق تصريحاتهم، ولا تصريحات لهم في المقام.

والشيخ الأعظم(قدس سره) حاول إثبات الإجماع بالاستشهاد بكلمات جملة من الفقهاء واستظهار عدم رضاهم بجريان البراءة منها.

والواقع: أنّه لا مجال للتشكيك في هذا الإجماع، فإنّنا جازمون وجداناً بعدم رضا فقيه بإجراء البراءة في كلّ الشبهات لدى فرض الانسداد، إلّا أنّ هذا لا يفيدنا كدليل على المقصود في مقابل الوجه الثاني؛ لأنّ جزمنا بهذا الإجماع يكون في طول جزمنا بأصل ما انعقد عليه الإجماع، فإنّنا نرى أنّ عدم جريان البراءة في تمام هذه الشبهات يكاد يكون من ضروريّات الدين كعدم وجوب صلاة سادسة، وهذه الضرورة مقتنصة من ملاحظة مجموع ما جاء في الشريعة: من آيات وروايات وأفعال للأئمّة(عليهم السلام) ومقدار اهتمامهم بالأحكام وجهدهم في تثبيتها ونشرها، وحيث إنّنا نرى هكذا فلا نحتمل في فقيه مارس هذه الأفعال والأقوال وهذه الآيات والروايات أن لا يقتنص هذه القضيّة من هذا المجموع المركّب، ولولا جزمنا في الرتبة السابقة بصحّة أصل المطلب ـ كما عرفت ـ لم يكن لنا أيّ طريق إلى إثبات هذا الإجماع، فهذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجه الثاني.

الثاني: لزوم الخروج عن الدين من إجراء البراءة في تمام الشبهات. وليس المراد بالخروج عن الدين في المقام الخروج عنه بنحو يساوق الكفر كي يقال: إنّ ترك الواجبات اليقينيّة لا يوجب الكفر فضلاً عن ترك الاحتياط في هذه الشبهات، كما أنّه ليس المراد بالخروج عن الدين في المقام وقوع المخالفة الكثيرة للدين كي يقال: إنّ المخالفة الكثيرة للدين إن كان المحذور الذي يتصوّر فيها عبارة عن

694

منافاتها لقانون منجّزيّة العلم الإجماليّ فهذا يرجع إلى الوجه الثالث، وإن فرض فيها محذور نفسيّ، أي: أنّ المخالفات الكثيرة في الشريعة لها حرمة وراء حرمة كلّ مخالفة مخالفة، فهذا ممّا لا دليل عليه، بل المراد من ذلك هو دعوى قيام الضرورة على أنّ الشارع لم يجعل أصالة البراءة في تمام هذه الشبهات، وهذا يصحّ ادّعاؤه واستفادته من مجموع ما جاء في الشريعة: من أقوال وأفعال وما عرف من مقدار اهتمام الشارع بالأحكام. وهذا الوجه تامّ في المقام.

الثالث: العلم الإجماليّ. ويقع الكلام فيه تارةً: في انحلاله حقيقة أو حكماً وعدمه، واُخرى: في أنّه على تقدير عدم الانحلال ما هو دوره في دليل الانسداد وأثره على اقتناص النتيجة من المقدّمات ؟ فالكلام يقع في جهتين:

 

انحلال العلم الإجماليّ بالتكاليف:

الجهة الاُولى: في انحلال هذا العلم حقيقة أو حكماً وعدمه، وما قيل أو يمكن أن يقال في تقريب انحلاله وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ بتكاليف في دائرة مطلق الشبهات منحلّ بالعلم الإجماليّ بتكاليف في دائرة مطلق الأمارات: من الأخبار والشهرات والإجماعات ونحو ذلك، ببرهان: أنّ المعلوم بالعلم الكبير ليس أزيد من المعلوم بالعلم الصغير، والذي يدلّنا على ذلك أنّ السبب في حصول العلم الكبير إنّما هو أحد أمرين:

الأوّل: العلم بأنّ الشريعة لا معنى لها بدون أحكام، وأنت ترى أنّه يكفي في تحقّق هويّة الشريعة وجود المقدار المعلوم بالعلم الإجماليّ في دائرة الأمارات، فهذا السبب لا يقتضي زيادة المعلوم بالعلم الكبير على المعلوم بالعلم الصغير.

والثاني: حساب الاحتمالات وتجمّعها بلحاظ الأمارات الظنّيّة القائمة في

695

الشبهات، وهذا هو بنفسه ملاك العلم الصغير فكيف يعقل أن يوجب ذلك زيادة المعلوم بالعلم الكبير على المعلوم بالعلم الصغير ؟!

والانحلال بهذا الوجه الذي عرفت يضرّ بغرض الانسداديّ؛ إذ معه لا يبقى مانع عن الاحتياط في أطراف هذا العلم الصغير وإجراء البراءة فيما عداها، ولا يلزم من هذا الاحتياط عسر ولا حرج.

ويقرب من هذا الاحتياط ما ذهب إليه جملة من الفقهاء، حيث بنوا على قاعدة حجّيّة الظنّ، وعملوا بتمام هذه الظنون في المقام ولم يلقوا عسراً ولا حرجاً.

الوجه الثاني: ما أفاده السيّد الاُستاذ من أنّ هذين العلمين ـ أعني: العلم بالتكاليف الإلزاميّة في دائرة الشبهات، والعلم بها في دائرة الأمارات ـ منحلاّن بعلم ثالث، وهو العلم بالتكاليف الإلزاميّة في خصوص دائرة الأخبار المعتبرة.

وقد مضى عين هذا الكلام فيما تكلّمنا عنه: من الدليل العقليّ على حجّيّة خبر الواحد، ومضى النقاش فيه بأنّ العلم المتوسّط في الحقيقة مأخوذ من علمين صغيرين في عرض واحد، وانحلاله بأحدهما ترجيح بلا مرجّح، وبكليهما خلف، ونقول بمثل ذلك فيما نحن فيه.

الوجه الثالث: أنّ هناك علوماً إجماليّة صغيرة في دائرة العلم الإجماليّ الكبير متشكّلة بنكات خاصّة، ولم يلحظها المحقّقون في المقام، من قبيل: العلم الإجماليّ بوجوب الظهر أو الجمعة، أو وجوب القصر أو التمام في بعض مسائل السفر الناشئ عن ملاك القطع الضروريّ بأصل وجوب الصلاة. وكذلك العلم الإجماليّ في دائرة المركّبات الارتباطيّة كالصلاة والصوم والحجّ، فإنّه لو اقتصر فيها على خصوص الأجزاء والشرائط المعلومة بالخصوص علمنا بالضرورة الفقهيّة والارتكاز القطعيّ بأنّ هذا ليس هو كلّ الواجب، بل أنّ هناك أجزاء اُخرى زائدة على المقدار المتيقّن، ولهذا ذكر في الوافية ـ على ما ينقل عنه في باب أدلّة حجّيّة

696

الخبر ـ: (أنّه لو اقتصرنا في ماهيّة العبادات على خصوص القطعيّ لقطعنا بالضرورة الفقهيّة بانسلاخها عن عناوينها الشرعيّة)، وهذا المطلب واضح في المقام. وملاك هذا العلم الإجماليّ هو قيام الضرورة الفقهيّة والإجماع القطعيّ على أنّ ماهيّة الصلاة والصوم ليست هي خصوص الأجزاء المعلومة، وهذه العلوم الإجماليّة تنجّز تمام أطرافها. وأضف إلى هذه العلوم الإجماليّة الناشئة عن ملاك ثبوت الجامع بمثل الضرورة الفقهيّة أو الدينيّة: العلوم الإجماليّة الناشئة عن ملاك دوران الأمر بين النفي والإثبات، من قبيل: ما لو باع شيئاً وشكّ في صحّة البيع وبطلانه، ولم يكن له دليل على أحد الأمرين، فيعلم إجمالاً إمّا بحرمة تصرّفه في الثمن، أو حرمة تصرّفه في المثمن؛ لأنّ البيع إمّا صحيح، أو لا، فإن كان صحيحاً حرم عليه التصرّف في الثمن، وإلّا حرم عليه التصرّف في المثمن. فإذا أضفنا إلى هذه العلوم الإجماليّة المقدار المعلوم بالعلم التفصيليّ، وخصوصاً مع إضافة الاطمئنانات الشخصيّة، فقد يقال: إنّ مثل هذا المقدار يبطل منجّزيّة المنجّز في المقام!

أمّا إذا كان المنجّز في المقام هو الإجماع أو لزوم الخروج عن الدين، فهذا يوجب بطلان المنجّز حتماً؛ إذ لا قطع لنا بإجماع أو بضرورة على عدم جواز جريان البراءة فيما بقي بعد الأخذ بالمعلومات التفصيليّة والإجماليّة بقطع النظر عن إشكال العلم الإجماليّ الكبير.

وأمّا إذا كان المنجّز هو العلم الإجماليّ فقد يقال أيضاً بكون ذلك موجباً لإبطال المنجّز، بدعوى: أنّ مجموع ما عرفته من المقدار لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال في العلم الكبير. وهل هذا هو مراد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)حيث أبدى احتمال انحلال العلم الإجماليّ الكبير في المقام بالموارد المعلومة تفصيلاً مع ضمّ موارد الاُصول المثبتة؟ وإن استغرب من ذلك المحقّق النائينيّ(قدس سره) ومَن تأخّر عن صاحب الكفاية فيما نعلم.

697

ولا يخفى أنّنا لو لاحظنا خصوص مقدار المعلوم بالإجمال في هذه العلوم الإجماليّة الصغيرة منضمّـاً إلى المعلومات التفصيليّة فقد مضى منّا أنّه لا يبعد عدم انحلال العلم الكبير بها، وإنّما المدّعى هنا أنّه لا يبعد كون أطراف المعلوم بالعلوم الإجماليّة الصغيرة بمجموعها شاملاً لمساحة المعلوم بالعلم الكبير أو أوسع منها، وهذا يوجب الانحلال الحكميّ لا الحقيقيّ، وتوضيح ذلك: أنّه إذا كان المعلوم بالعلم الصغير أقلّ من المعلوم بالعلم الكبير فمجرّد كون أطراف المعلوم بالعلم الإجماليّ الصغير مساوياً أو أزيد من المعلوم بالعلم الكبير وإن كان لا يوجب الانحلال؛ لأنّ البراءة في خارج دائرة العلم الصغير تعارضه البراءة عن الزائد على المقدار المعلوم بالإجمال في دائرة العلم الصغير، ولكن في خصوص ما نحن فيه قد يقال: إنّ البراءة في خارج دائرة العلم الصغير لا تعارض بالبراءة عن الزائد على المقدار المعلوم بالإجمال في داخل دائرة العلم الصغير؛ إذ لا مجال لهذه البراءة في المركّبات الارتباطيّة، فإذا كان المعلوم بالتفصيل من الصلاة ثمانية أجزاء مثلاً، وعلمنا إجمالاً بأحد جزءين آخرين فلا معنى لإجراء البراءة عن ثاني الجزءين؛ إذ لا ثمرة لها، فإنّ ثمرة البراءة عن الزائد على الواحد هي عدم استحقاق المرتكب لأكثر من واحد عدا عقاب واحد ولو كان الحرام في الواقع أزيد من واحد، بينما في المركّبات الارتباطيّة لا يتعدّد العقاب بتعدّد الأجزاء المتروكة.

ولكن يرد على هذا التقريب: أنّه تظهر ثمرة البراءة في كفاية تكرار الصلاة والإتيان بها مرّتين يأتي في إحداهما بالأجزاء الثمانية المعلومة تفصيلاً مع الجزء التاسع، وفي الاُخرى بتلك الأجزاء الثمانية مع الجزء العاشر، فإنّه بناءً على إجراء البراءة عن الزائد على الواحد يجوز له الاكتفاء بهاتين الصلاتين ولا يلزمه الإتيان بصلاة واجدة لتمام الأجزاء العشرة، بخلاف ما لو لم تجر البراءة عن الزائد. هذا فيما يمكن فيه التكرار لسعة الوقت.

698

وأمّا في مثل صوم شهر رمضان فلا تظهر الثمرة للبراءة بهذا النحو، ولكن يكفينا في تصوير الثمرة فرض الكلام في فردين من هذا الواجب، فنفرض أنّه أتى في اليوم الأوّل من شهر رمضان بالأجزاء الثمانية للصوم المعلومة تفصيلاً مع الجزء التاسع، وفي اليوم الثاني بتلك الأجزاء الثمانية مع الجزء العاشر، فعندئذ يقطع بحصول معصية واحدة منه؛ لأنّه في أحد اليومين ترك الجزء الواقعيّ؛ لأنّ المفروض العلم إجمالاً بوجوب أحد الجزءين الأخيرين التاسع أو العاشر، ويحتمل صدور معصيتين منه؛ لاحتمال وجوب كلا الجزءين، وفائدة البراءة عن الزائد على الواحد هي عدم استحقاقه لعقابين.

نعم، لو كان للواجب فرد واحد لا أكثر، ولم يكن قابلاً للتكرار لضيق الوقت لم تظهر عندئذ ثمرة للبراءة.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: عدم ثبوت الانحلال الحكميّ فيما نحن فيه ببركة أطراف العلوم الإجماليّة الصغيرة.

وهناك وجه للقول بالانحلال الحكميّ بذلك إنّما يوجّه على مباني المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، فهو وإن لم يكن تامّاً عندنا، ولكنّه كاف في مقام توجيه ما أفاده المحقّق الخراسانيّ هنا: من إبداء احتمال الانحلال بالمعلومات التفصيليّة مع إضافة الاُصول المثبتة. وهذا الوجه هو أن يقال: إنّ البراءة الشرعيّة في خارج دائرة العلوم الإجماليّة الصغيرة وإن تساقطت بالتعارض مع البراءة الشرعيّة عن الزائد على المقدار المعلوم بالإجمال في دائرة العلوم الصغيرة، لكن البراءة العقليّة في خارج تلك الدائرة ثابتة على حالها، توضيح ذلك: أنّ البراءة العقليّة في أطراف العلم الإجماليّ تسقط بحسب مذاق المشهور بالتعارض، وهنا لا يوجد تعارض لعدم وجود براءة عقليّة في دائرة العلوم الصغيرة المتشكّلة في المركّبات الارتباطيّة، وذلك بناءً على مبنى المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّ المركّبات

699

الارتباطيّة إنّما تجري في أجزائها البراءة الشرعيّة، ولا تجري البراءة العقليّة.

الوجه الرابع: أنّ الانسداديّ نفسه سوف يثبت في مقدّمة اُخرى عدم وجوب الاحتياط التامّ؛ لعسر أو حرج أو نحو ذلك، وهذا يكون مانعاً عن تنجيز العلم الإجماليّ. وهذا الوجه قد أفاده المحقّق الخراسانيّ(1)، والمحقّق العراقيّ(2) ـ قدّس الله سرّهما ـ مع تفاوت بينهما في التقريب.

فالمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) يرى أنّ الترخيص في بعض أطراف العلم الإجماليّ في المقام بمثل قاعدة نفي العسر والحرج يوجب سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز؛ وذلك لما أثبته في باب الاضطرار إلى مخالفة بعض أطراف العلم الإجماليّ: من أنّ الاضطرار إلى المخالفة سواء كان اضطراراً إلى طرف معيّن، أو اضطراراً إلى طرف غير معيّن يسقط العلم الإجماليّ عن التنجيز؛ إذ لا يصبح علماً بتكليف فعليّ؛ لأنّ التكليف على تقدير كونه في الطرف المضطرّ إليه، أو في الطرف الذي سيختاره يكون منفيّاً بنفي الاضطرار، وبهذا ينتفي العلم الإجماليّ بالتكليف الفعليّ.

وأمّا المحقّق العراقيّ(رحمه الله) فهو يرى في باب الاضطرار أنّ الاضطرار إلى طرف غير معيّن لا يسقط العلم الإجماليّ عن التنجيز، وإنّما الذي يسقط العلم الإجماليّ عن التنجيز هو الاضطرار إلى طرف معيّن، ولهذا حاول في المقام أن يثبت أنّه من قبيل الاضطرار إلى طرف معيّن، كي يتمّ بذلك إسقاط العلم الإجماليّ عن التنجيز. وقرّب ذلك بأنّ المفروض لدى الانسداديّ أنّ المتعيّن للترخيص بسبب نفي العسر والحرج إنّما هو غير الجانب المظنون، أي: الجانب الأبعد من الواقع، باعتبار أنّ


(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 116 و120 بحسب الطبعة التي عليها تعليقة المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 2، ص 44.

700

العقل إذا رأى عدم تساوي الأطراف، وعدم كون نسبة العلم إلى تمام الأطراف على حدّ سواء، أوجب على الإنسان تطبيق مخالفته المرخّص فيها على أبعد الأفراد وأهون المحاذير، فإذا ثبت الترخيص في طرف معيّن من أطراف العلم الإجماليّ بنفي العسر والحرج سقط العلم الإجماليّ عن التنجيز(1).

أقول: إنّ ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقام يرد عليه:

أوّلاً: أنّ حكم العقل بتطبيق المخالفة المرخّص فيها على أبعد الأفراد إنّما هو في طول تنجيز التكليف، فبعد أن فرض تنجيز التكليف ولزوم التحفّظ عليه، وصلت النوبة إلى القول بأنّنا وإن كنّا مرخّصين في المخالفة الاحتماليّة لكنّنا نتحفّظ على الجانب المظنون؛ لكون ذلك أقرب إلى التحفّظ على التكليف المعلوم. وبكلمة اُخرى: إنّ الاضطرار هنا بذاته ليس اضطراراً إلى فرد معيّن كي يفترض إسقاطه للعلم الإجماليّ عن التنجيز، بل كان بذاته اضطراراً إلى فرد غير معيّن، وتعيين الترخيص في جانب غير المظنون إنّما هو قائم على أساس حكم العقل الذي هو في طول تنجيز التكليف، فلابدّ من فرض ثبوت التنجيز حتّى يتعيّن الترخيص في


(1) أمّا احتمال أن يكون الترخيص في جانب غير المظنون مشروطاً بعدم مخالفة المظنون (فلا يلزم من ذلك انحلال العلم الإجماليّ)، فهذا ما جاءت الإشارة إليه أيضاً في كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، ولكنّه استبعده على مباني الانسداديّ حيث ذكر: إنّ الانسداديّ يرى مرجعيّة الظنّ على الإطلاق والرخصة في مخالفة غيره على الإطلاق. أمّا فرض وجوب اتّباع الظنّ على الإطلاق ووجوب المشكوكات والموهومات مترتّباً على مخالفة المظنونات، فذكر: أنّ هذا لا أظنّ التزامه من قِبَل أرباب الانسداد.

وأمّا تقييم هذا الاحتمال فهو ما سيتّضح في المتن قريباً إن شاء الله، حيث بحث اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) نظيره في فرض تخييريّة الترخيص، حيث أبدى احتمال كون كلّ من الترخيصين مشروطاً بعدم مخالفة الطرف الآخر.

701

فرد معيّن، ومثل ذلك لا يعقل مانعيّته عن التنجيز، فإنّ هذا خلف ومناقضة(1).

وثانياً: أنّه بعد فرض سقوط العلم الإجماليّ الكبير عن التنجيز لثبوت الترخيص بنفي العسر والحرج في غير المظنونات نقول: إنّ في أحشاء هذا العلم الكبير علماً آخر أصغر منه، وهو العلم الإجماليّ في خصوص دائرة المظنونات، وقد أغفله الأصحاب في المقام، فكأنّهم تخيّلوا أنّه إذا كان المفروض عدم تأثير هذا العلم الصغير في انحلال العلم الكبير أصبح وجوده كعدمه إطلاقاً، وليس الأمر كذلك، فنحن نفترض أنّ هذا العلم الصغير لا يحلّ العلم الكبير، أي: نغضّ النظر عن الوجه الأوّل من وجوه الانحلال، ونفرض أنّ المقدار المعلوم بالإجمال في دائرة المظنونات أقلّ من المعلوم بالإجمال في العلم الكبير، ومع ذلك نقول في المقام: إنّ العلم الكبير وإن فرض سقوطه بطروّ الاضطرار في جانب المشكوكات والموهومات، لكن طروّ الاضطرار والترخيص في جانب المشكوكات والموهومات لا يسقط العلم الإجماليّ بالإلزام في دائرة المظنونات كما هو واضح.

وهذا العلم الصغير وهو العلم بالتكليف في دائرة المظنونات كما أبطل كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقام كذلك يبطل كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) هنا، فنحن نجاري المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هنا في مبناه: من أنّ الاضطرار سواء كان إلى طرف معيّن أو إلى طرف غير معيّن سيسقط العلم الإجماليّ، لكنّنا نقول في المقام: لئن سقط العلم الكبير بسبب قاعدة نفي العسر والحرج ـ مثلاً ـ لم يسقط العلم الصغير، وهو العلم بتكاليف إلزاميّة في دائرة المظنونات؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الاضطرار في المقام اضطرار إلى طرف معيّن وهو الموهومات، أو هي مع المشكوكات، لا لما مضى من المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، بل لما


(1) ولك أن تقول: إنّ تعيّن الترخيص في الموهومات أو المشكوكات لم يكن إلّا ظاهريّاً ولا ينافي التكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال.

702

يظهر بالتتبّع في موارد احتمال الحرمة، فإنّه بحسب الغالب يكون ما نحتمل حرمته بنحو الظنّ غير داخل في احتياجاتنا الحياتيّة التي نصابحها ونماسيها، وإنّما الاُمور التي تكون داخلة في احتياجاتنا الحياتيّة ونصابحها ونماسيها ونحتمل حرمتها تكون حرمتها موهومة أو مشكوكة، فنحن مضطرّون إلى مخالفة العلم الإجماليّ في خصوص الموهومات أو هي مع المشكوكات، وهذا لا أثر له على العلم الإجماليّ بالتكليف في دائرة المظنونات.

الوجه الثاني: أنّنا لو تنزّلنا وفرضنا كون نسبة الاضطرار إلى المظنونات والمشكوكات والموهومات على حدّ سواء قلنا: إنّ الترخيص في بعض هذه الأطراف غير المعيّن لئن كان منافياً للتكليف الثابت بالعلم الإجماليّ الكبير، وفرض بوجه من الوجوه تقديم دليل هذا الترخيص على دليل ذاك التكليف، فهو غير مناف للتكليف المعلوم بالعلم الصغير في دائرة المظنونات؛ وذلك لأنّ دليل هذا الترخيص لم يكن لسانه لسان الترخيص بنحو التخيير حتّى ينافي التكليف المعلوم في المظنونات وتصل النوبة إلى تقديمه عليه، بل كان لسانه لسان الترخيص الجامع بين الترخيص التعيينيّ والترخيص التخييريّ، وإنّما كنّا نقول بالتخيير لأجل عدم الترجيح بلا مرجّح، وإذا كان الأمر كذلك فمقتضى الجمع بين دليل التكليف في المظنونات ودليل الترخيص الجامع بين التعيينيّ والتخييريّ هو صرف دليل الترخيص إلى الترخيص التعيينيّ في جانب المشكوكات والموهومات، فيبقى العلم الإجماليّ في دائرة المظنونات على حاله.

ويرد أيضاً على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّنا لئن فرضنا انحلال العلم الإجماليّ في المقام بقي لنا الاطمئنان الإجماليّ. وتوضيح ذلك: أنّنا لو فرضنا أنّ أطراف الشبهة عبارة عن ألف مورد نعلم في ضمنها بمئة تكليف إلزاميّ مثلاً، وقد أوجب الاضطرار الترخيص في مئتين من الأطراف رفعاً للعسر والحرج، فهذا لا يوجب

703

أكثر من ارتفاع التكليف الإلزاميّ فيما سيدفع المكلّف به اضطراره من مئتي موردإن كان يصادف في علم الله وجود التكليف الإلزاميّ في ذلك، ويبقى ثمانمئة مورد لا نعلم علماً يقيناً بوجود تكليف إلزاميّ فيها، ولكنّنا نطمئنّ بوجود تكليف مّا إلزاميّ في غير الموارد التي سوف يدفع المكلّف اضطراره بها؛ إذ احتمال عدم وجود التكليف في كلّ ثمانمئة نختارها من الألف بعيد غاية البعد، والاطمئنان حاله حال العلم في جعل التكليف فعليّاً وبالتالي منجّزاً، مع فارق بينهما، وهو: أنّ حجّيّة الاطمئنان(1) لم تكن عقليّة كالعلم، وإنّما هي شرعيّة وليست بنحو العلّيّة التامّة، ومن الممكن أن يجعل الشارع حجّيّته بقدر ما تتنجّز حرمة المخالفة القطعيّة دون حرمة المخالفة الاحتماليّة. وعندئذ نقول: إنّ كلّ ثمانمئة من هذه الألف التي اخترنا تطبيق رفع الاضطرار على غيرها نطمئنّ بوجود تكليف فيها، وهذا الاطمئنان وإن سقط عن المنجّزيّة بالنسبة لحرمة المخالفة الاحتماليّة لغرض جواز تطبيق رفع الاضطرار على بعض هذه الثمانمئة، لكن الحجّيّة الثابتة بالارتكاز العقلائيّ للاطمئنان تساعد على بقاء حجّيّته بالنسبة للمخالفة القطعيّة بعد سقوطه عن الحجّيّة بالنسبة للمخالفة الاحتماليّة، فيصير التكليف منجّزاً بهذا المقدار(2).


(1) أبدى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة من دروس في علم الاُصول، ص 206 ـ احتمال القول بأنّ السيرة العقلائيّة الدالّة على حجّيّة الاطمئنان لا تشمل الاطمئنان الإجماليّ المتكوّن نتيجة جمع احتمالات أطرافه.

(2) كأنّ المقصود أنّ الترخيص الثابت في تطبيق رفع الاضطرار على بعض هذه الثمانمئة ليس بأكثر من نفي منجّزيّة الاطمئنان لوجوب الموافقة القطعيّة، ولا دليل على انتفاء الفعليّة (بعد أن لم يكن نفي التنجيز مساوقاً لنفي الفعليّة لعدم كون الاطمئنان بالحكم الفعليّ علّة تامّة للتنجيز)، فإذا تمّت الفعليّة وساعد الارتكاز العقلائيّ على حجّيّة الاطمئنان بمعنى حرمة المخالفة القطعيّة بعد فرض جواز المخالفة الاحتماليّة تعيّن التفكيك بين هاتين المرتبتين من التنجيز.

704

وإن لم نقبل مساعدة الارتكاز العقلائيّ على التفكيك قلنا: إنّنا نلاحظ الاطمئنان بوجود التكليف في عنوان غير ما ندفع به الاضطرار لا في ثمانمئة معيّنة بالخصوص، وعندئذ لا دليل على الترخيص في مخالفة هذا الاطمئنان ولو احتمالاً.

وإن لم نكتف بهذا المقدار وقلنا: إنّه لمّـا كان كلّ فرد من أطراف العلم الإجماليّ ثبت الترخيص في مخالفته بجواز تطبيق رفع الاضطرار عليه قطعنا بعدم فعليّة التكليف فيه؛ للتنافي بين الفعليّة والترخيص، قلنا في المقام: إنّ الشبهات المرتكبة تدريجيّة الحصول في حياة الإنسان، فمهما أصبح الاضطرار مرتفعاً عاد التكليف الفعليّ على حاله في عالم الاطمئنان.

هذه هي التي تقتضيها اُصول المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام، لا ما أفاده: من سقوط تلك الأحكام عن التنجّز رأساً.

هذا كلّه بعد مجاراة المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) فيما بنى عليه في باب الاضطرار إلى غير المعيّن: من كونه مسقطاً لمنجّزيّة العلم الإجماليّ رأساً.

والآن نريد أن نناقش هذا المبنى فنقول: إنّ حكومة دليل نفي العسر والحرج (عند ما يوجب الاحتياط بالامتثال القطعيّ في أطراف العلم الإجماليّ العسرَ، فنضطرّ إلى ارتكاب بعض الأطراف لا بعينه) إمّا أن تفترض حكومة على الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال، فتكون الحكومة حكومة واقعيّة والرفع رفعاً واقعيّاً، أو تفترض حكومة على وجوب الاحتياط، فتكون الحكومة حكومة ظاهريّة والرفع رفعاً ظاهريّاً. ويأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ما هو الصحيح من هذين المبنيين:

فإن قلنا بالأوّل: فقد يتوهّم أنّ الحكم الواقعيّ انتفى بالاضطرار، فلم يبق علم بالتكليف، فانتفت منجّزيّة العلم الإجماليّ بانتفاء موضوعها.

لكن الصحيح: أنّه يكتفى في مقام انتفاء الحكم الواقعيّ بحكومة دليل نفي العسر والحرج بانتفاء إطلاق ذلك الحكم. فلو اضطرّ ـ مثلاً ـ إلى شرب أحد

705

الماءين المعلوم إجمالاً نجاسة أحدهما كفى في رفع اضطراره أن يجوز له شرب الماء النجس على تقدير عدم شربه للماء الآخر مع بقاء حرمته على تقدير شربه للماء الآخر، فهو يعلم إجمالاً إمّا بحرمة شرب هذا الماء مشروطة بشرب الآخر، أو بحرمة شرب الماء الآخر مشروطة بشرب هذا الماء، ومع العلم الإجماليّ بحكم مشروط ليس له أن يحقّق شرطه ويخالف هذا الحكم، بل لابدّ إمّا من أن لا يحقّق شرطه أو لا يخالفه، أي: أنّه لابدّ من ترك معصيته إمّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول، ولو شرب كلا الماءين فقد حقّق الشرط جزماً وخالف الحكم قطعاً، ولو شرب واحداً منهما فقط لم يخالف الحكم لا قطعاً ولا احتمالاً؛ إذ لو كان ما شربه طاهراً فهو حلال مطلقاً، ولو كان نجساً فهو حلال بشرط عدم شرب الآخر، والمفروض تحقّق الشرط، فهناك حكم معلوم لا يكون مضطرّاً إلى مخالفته ولو احتمالاً حتّى يدّعى أنّ اضطراره إلى مخالفته الاحتماليّة ينجرّ إلى جواز مخالفته القطعيّة.

وما ذكرناه: من أنّه لو شرب كلا الماءين فقد خالف مخالفة قطعيّة لحرمة معلومة متحقّق شرطها جزماً واضح فيما لو شربهما في عرض واحد.

أمّا لو شربهما تدريجاً فقد يقال: إنّه لم تصدر منه مخالفة لتكليف معلوم مع تحقّق شرطه جزماً؛ إذ من المحتمل أنّ النجس كان هو الماء الأوّل وقد شربه حلالاً؛ لأنّه حين الشرب كان واجداً لشرط حلّيّته وهو عدم شرب الآخر، والماء الثاني كان طاهراً، فكان شربه حلالاً أيضاً، فلم يرتكب الحرام.

والجواب: أنّه تارةً يفترض وقوع الاضطرار إلى الشرب في خصوص الزمان الأوّل كما لو كان عطشان عطشاً شديداً، وكان تأخيره للشرب إلى الزمان الثاني موجباً للعسر والحرج، واُخرى يفترض وقوع الاضطرار إلى الجامع بين الشربين، أعني: الشرب في الزمان الأوّل، والشرب في الزمان الثاني كما لو كان اضطراره

706

إلى الشرب بملاك إجبار ظالم هدّده بالقتل، وكان مصبّ إجباره هو الجامع بين الشربين:

فإن فرض الثاني: كان من الواضح أنّ جواز شربه للماء النجس في الزمان الأوّل مشروط بعدم شربه للماء الآخر في الزمان الثاني؛ لأنّ شربه للماء الآخر في الزمان الثاني يكفي لرفع اضطراره، فشربه للماء النجس في الزمان الأوّل حرام بحرمة مشروطة بشربه للماء الآخر ولو في الزمان الثاني؛ إذ هذه الحرمة المقيّدة لا توجب الاضطرار، فالمرفوع ليس هو أصل الحرمة، بل إطلاقها، فلو شربهما معاً ولو تدريجاً فقد ارتكب حراماً قطعيّاً مع حصول شرط الحرمة بالجزم واليقين(1).


(1) قد يقال في فرض ما إذا لم يكن جازماً من أوّل الأمر بشرب كلا الماءين ثُمّ بدا له بعد شرب الماء الأوّل أن يشرب الماء الثاني أيضاً: إنّه لم يرتكب عندئذ حراماً منجّزاً عليه؛ إذ لم يحصل له في آن من الآنات القطع بتكليف فعليّ، فإنّه حينما شرب الماء الأوّل، لم يكن يعلم بأنّه سوف يتحقّق شرط حرمة هذا الشرب لو كان نجساً، فإنّ شرط حرمته هو شرب الماء الآخر وهو غير جازم بتحقّقه، وحين شربه للماء الثاني لا يعلم بأنّ الحرام هو الثاني. وإن شئت فافترض أنّه حين شربه للماء الأوّل كان جازماً بعدم شرب الماء الثاني ثُمّ بدا له أن يشرب الماء الثاني، فحين شربه للماء الأوّل كان قاطعاً بجواز شرب الماء الأوّل، وحين شربه للماء الثاني ليس قاطعاً بحرمة شرب الماء الثاني. نعم، هو يعلم أنّ الحرام إمّا هو الثاني أو هو ما مضى، والعلم الإجماليّ التدريجيّ إذا حصل بعد انعدام بعض أطرافه لم يكن منجّزاً.

و أجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ذلك بأنّه حين شربه للماء الثاني يعلم بأنّ شرب الثاني محقّق للحرام إمّا باعتباره حراماً بنفسه أو باعتباره محقّقاً لشرط حرمة ما مضى، فلو لم يشربه لم يتحقّق حرام أصلاً ولو شربه تحقّق الحرام، والإتيان بما يتحقّق به الحرام جزماً ممنوع من قِبَل العقل.

707

وإن فرض الأوّل: فهناك مجال لتوهّم القول بأنّ شربهما تدريجاً لا يوجب مخالفة لحكم معلوم؛ لأنّ الماء الأوّل شربه حلالاً ولو فرض نجساً في الواقع؛ لأنّ شرط الحلّ كان هو عدم شرب الآخر في الزمان الأوّل وهو متحقّق، وأمّا الثاني فمن المحتمل طهارته.

ولكن التحقيق: أنّ التقريب الذي ذكرناه يأتي حتّى في هذا القسم، فإنّ المولى إذا حرّم عليه شرب الماء النجس في الزمان الأوّل حرمة مشروطة بجامع شربه للماء الآخر الشامل لشربه إيّاه في الزمان الثاني أيضاً لم يلزم من ذلك عسر ولا حرج على العبد؛ إذ يتمكّن من أن يشرب في الزمان الأوّل أحد الماءين ويرفع به الاضطرار، ولا يحقّق شرط حرمته على تقدير نجاسته بشرب الآخر ولو في الزمان الثاني.

إن قلت: إنّ هذا الحكم يشبه حكم المولى على العبد بأنّه لو صعد على السطح وجب عليه إلقاء نفسه من فوق السطح في صحن الدار، ولا إشكال في هذا الحكم الحرجيّ غاية الأمر أنّ المكلّف متمكّن من أن لا يوجد شرط هذا الحكم كي لا يبتلى بهذا الحكم الحرجيّ.

قلت: في هذا المثال كان زمان الشرط متقدّماً على زمان امتثال الحكم، فلو حقّق العبد الشرط وجاء دور امتثال الحكم بإلقاء نفسه في صحن الدار كان هذا حكماً حرجيّاً، ويشمله دليل نفي العسر والحرج؛ لأنّ العسر ثابت في زمان امتثال هذا الحكم، وهو يسند عرفاً إلى هذا الحكم وإن كان ذلك بسوء اختيار العبد بإيجاده للشرط(1).

 


(1) ويمكن أن يقال: إنّه إذا كان التكليف فعليّاً قبل إيجاد المكلّف للشرط بأن كان زمان الوجوب قبل زمان الواجب على حدّ الواجب المعلّق، أو كان الواجب هو الجامع بين

708

أمّا حينما لا يكون الشرط مقدّماً على زمان الامتثال ففي كلّ آن يكون المكلّف في سعة من الحرج حتّى في آن الامتثال؛ إذ بإمكانه أن لا يوجد الشرط، وذلك كما فيما نحن فيه. ودليل نفي العسر والحرج لا يشمل هذا القسم؛ لأنّه لا يرى الحرج عرفاً مستنداً إلى التكليف محضاً.

وكان بالإمكان أيضاً في مقام رفع العسر والحرج تقييد حرمة شرب الماء الأوّل بفرض عدم شرب الماء الثاني، أو بشيء آخر خارجيّ، كالذهاب إلى مكان كذا، أو عدم الذهاب إليه.

لكن الواقع: أنّ التقييد الثابت فيما نحن فيه لم يكن لأجل دخل القيد في ملاك الحرمة حتّى يقال: كما يفرض شرب الماء الثاني دخيلاً في ملاك الحرمة، كذلك لعلّ الأمر بالعكس بأن يكون عدم شربه دخيلاً في الحرمة، أو لعلّ شيئاً خارجيّاً آخر دخيل في الحرمة، وإنّما كان التقييد بملاك الجمع بين نفي العسر والحرج والتحفّظ على ملاك الواقع بقدر الإمكان، وهذا إنّما يقتضي التقييد بفرض شرب الماء الثاني لا بشيء آخر، أمّا لو قيّد بعدم شربه فقد يشرب كليهما، ولو قيّد بشيء آخر كالذهاب إلى المكان الفلانيّ فقد يترك ذاك القيد ويشرب كليهما، فلم يحصل التحفّظ على ملاك الواقع.

 


عدم ذاك الشرط ووجود الفعل المشروط، فعندئذ لا يشمل دليل نفي العسر والحرج مثل هذا المورد؛ لأنّه لو فرض شموله له فهذا الشمول سوف لن يكون معذّراً للمكلّف؛ لأنّ الحكم صار فعليّاً على المكلّف ولو آناً مّا، وإنّما العبد أجبر المولى على رفع يده عن الحكم اضطراراً، فسيبقى هو مستحقّاً للعقاب على ترك امتثال حكم كان آناً مّا فعليّاً وغير حرجيّ عليه، وعليه فيصبح شمول دليل نفي العسر والحرج لمثل هذا المورد فضولاً من الأمر وفارغاً عن المحتوى.

709

والخلاصة: أنّ نسبة هذه التقييدات إلى نفي الحرج على حدّ سواء، ونسبتها إلى حفظ ملاك الواقع ليست على حدّ سواء، وإنّما الأقرب إلى ذلك هو القيد الأوّل، فرضا المولى بشرب الماء الأوّل مع ملاحظة القيد الأوّل وهو شرب الثاني ـ وذلك بأن لا يشرب الثاني ـ يصبح متيقّناً، فيؤخذ به، وسائر القيود تدفع بالإطلاق.

إن قلت: إنّنا نحتمل كون الخارج من تحت الحرمة أضيق من مجرّد فرض عدم شرب الماء الآخر بأن يكون الخارج من إطلاق الحرمة هو خصوص فرض عدم شرب الماء الآخر منضمّـاً إلى ذهابه إلى مكان كذا مثلاً، وذلك بدعوى أنّه كلّما فرضت دائرة الخروج من الحرمة أضيق كان ذلك أوفق بحفظ ملاك الواقع.

قلت: بعد تسليم(1) ما ذكر نقول: إنّ هذا الاحتمال يأتي بعينه في جانب نقيض ذاك القيد الإضافيّ، وهو عدم الذهاب إلى مكان كذا مثلاً، ولا نحتمل انحفاظ إطلاق الحرمة عند عدم شرب الآخر لكلتا حالتي وجود وعدم ذاك الشيء، وهو الذهاب إلى مكان كذا مثلاً، وإلّا لعاد العسر والحرج، فإطلاقها لكلّ واحدة من الحالتين يعارض إطلاقها للحالة الاُخرى ويتساقطان، وبالتالي لا يبقى دليل على الحرمة عند عدم شرب الآخر(2).

 


(1) أي: بعد فرض تسليم كون ذلك أحفظ لملاك الواقع. ولعلّ هذا إشارة إلى أنّ هذا لا يؤدّي إلى حفظ الواقع إلّا في فرض تحمّل المكلّف الأمر الحرجيّ، كما إذا لم يذهب إلى المكان الفلانيّ وتحمّل العطش، ولا إشكال أنّ هذا خلاف الفهم العرفيّ من دليل نفي العسر والحرج.

(2) إن قلت: عين هذا البيان يأتي بالنسبة لشرب الماء الطاهر في الزمان الثاني، وتوضيح ذلك: أنّه لو شرب الماء الطاهر في الزمان الأوّل فلا إشكال في حرمة شرب الماء النجس عليه. أمّا على تقدير عدم شربه للماء الطاهر في الزمان الأوّل، ففرض كون شربه للماء الطاهر في

710

وإن قلنا بالثاني ـ أعني: حكومة دليل نفي العسر والحرج على الاحتياط ـ: فإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وإنّما هو مقتض لذلك، فلا مجال لتوهّم استلزام سقوط العلم الإجماليّ عن المنجّزيّة بالنسبة لحرمة المخالفة القطعيّة لأجل سقوطه عن تنجيز وجوب الموافقة القطعيّة في المقام، فترك الاحتياط وإن جاز بلحاظ بعض الأطراف لكن يبقى تنجيز العلم بلحاظ المخالفة القطعيّة ثابتاً على حاله، فلا يجوز ارتكاب تمام الأطراف.

وإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة تأتي هنا شبهة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّ الترخيص في المخالفة الاحتماليّة يستلزم انتفاء التكليف؛ إذ لولاه لم يكن مجال للترخيص ولو بمستوى المخالفة الاحتماليّة، وإذا انتفى التكليف جاز ارتكاب تمام الأطراف.

 


الزمان الثاني موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل ليس بأولى من فرض كون عدم شربه للماء الطاهر في الزمان الثاني موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل، وحرمته في كلا الفرضين غير محتمل، فيتعارض الإطلاقان في دليل الحرمة ويتساقطان.

قلت: إن فرض كون شربه للماء الطاهر في الزمان الثاني عند ما لم يشربه في الزمان الأوّل موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل أحفظ للملاكات الواقعيّة من العكس، وذلك إمّا ببيان أن هذا يؤدّي إلى أن لا يجمع بين شرب الإناءين فيحتمل عدم وقوع شرب النجس، وإمّا ببيان أنّه لو كان له داع آخر إلى شرب الماء الطاهر غير داعي رفع الحرج في الزمان الأوّل، من قبيل ما لو فرض أنّ الماء الطاهر كان عذباً، اشتهى شربه بخلاف الماء النجس، ففرض حرمة شرب النجس عليه على تقدير شربه للطاهر ولو في الآن الثاني يدفعه نحو أن يشرب الماء العذب في الزمان الأوّل ويستغني عن الماء الآخر، بينما لو فرض العكس فقد يشرب الماء النجس أوّلاً ثُمّ يشرب الماء الطاهر العذب.

711

لكنّا نقول ـ بقطع النظر عن بطلان المبنى: من كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة ـ: إنّه بعد أن وقع التنافي بين الترخيص والتكليف الفعليّ جاء ما ذكرناه في فرض حكومة دليل نفي العسر والحرج على أصل التكليف: من أنّ الأمر دائر بين نفي التكليف رأساً ونفي إطلاقه، والمتعيّن هو الثاني؛ لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها، فيأتي حرفاً بحرف كلّ ما ذكرناه هناك؛ إذ قد آل الأمر هنا أيضاً إلى التصرّف في التكليف الواقعيّ، غاية الأمر أنّه على المبنى الأوّل في نفي العسر والحرج كان الدليل حاكماً على التكليف ابتداءً، وعلى هذا المبنى يكون رافعاً للاحتياط التامّ، وبالتالي يرفع التكليف؛ لما فرض: من كون العلم به علّة تامّة لوجوب الاحتياط التامّ، فعلى كلا التقديرين نقول: لا وجه لرفع التكليف رأساً؛ لأنّ المقدار المنافي للترخيص في ترك الاحتياط التامّ هو إطلاقه لا أصله.

ثُمّ إنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) لا يفرّق في القول بسقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز رأساً بطروّ الاضطرار إلى أحد الفردين لا بعينه بين الاضطرار الحقيقيّ بمعنى انتفاء القدرة حقيقة، والاضطرار بمعنى العسر والحرج، بينما لو تمّ كلامه فإنّما يتمّ في مورد العسر والحرج على الواقع مباشرة، أو من باب منافاة التكليف الفعليّ للترخيص في المخالفة الاحتماليّة لكون العلم علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة. وشيء من الوجهين لا يتمّ في موارد انتفاء القدرة التكوينيّة، أمّا الأوّل فلأنّ دليل نفي العسر والحرج لا علاقة له بباب العجز وانتفاء القدرة، كي يكون حاكماً على التكليف الواقعيّ ونافياً له. وأمّا الثاني فلأنّ الترخيص فيه ليس شرعيّاً مستفاداً من دليل نفي العسر والحرج كي ينافي فعليّة التكليف، وإنّما هو ترخيص عقليّ بملاك عدم القدرة على الامتثال القطعيّ، ومن الواضح أنّه لدى العجز عن الامتثال القطعيّ ينتقل إلى الامتثال الاحتماليّ كما هو الحال في باب العلم

712

التفصيليّ؛ إذ لا إشكال في أنّه لو علم تفصيلاً بوجوب الصلاة إلى القبلة ولم يتمكّن من امتثاله القطعيّ بالصلاة إلى جميع الجهات المحتمل كونها قبلة ـ مثلاً ـ يتنزّل إلى الامتثال غير القطعيّ، وإذا لم يكن ثبوت التكليف منافياً لعدم لزوم الامتثال القطعيّ لأجل العجز في باب العلم التفصيليّ فكذا الأمر في باب العلم الإجمالي؛ إذ ليس بأشدّ حالاً من العلم التفصيليّ.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ فرض الاضطرار في باب الانسداد إلى المخالفة في بعض الأطراف لا بعينه لا يوجب سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز رأساً.

بقي الكلام في أنّ التنجيز الذي سلّم بقاؤه للعلم الإجماليّ بعد الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه هل يوجب على الإنسان الموافقة بالنسبة لبعض الأطراف تخييراً، أو يوجب اختيار خصوص المظنونات وصرف الترخيص إلى الموهومات والمشكوكات ؟ وهذا وإن كان راجعاً إلى بحث المقدّمة الخامسة لكنّنا نذكره هنا لشدّة ارتباطه والتصاقه بما تكلّمنا فيه، فنقول:

تارةً: يفترض عدم احتمال أهمّـيّة بعض الموهومات على تقدير ثبوتها في الواقع من المظنونات على تقدير ثبوتها في الواقع، واُخرى: يفرض احتمال ذلك أو القطع به:

أمّا على الفرض الأوّل: فتارةً نتكلّم بناءً على حكومة دليل نفي العسر والحرج على التكليف الواقعيّ، واُخرى نتكلّم بناءً على حكومته على حكم العقل بوجوب الاحتياط:

أمّا على المبنى الأوّل: فنقول: قد مضى أنّ الاضطرار لم يرفع أصل التكليف وإنّما رفع إطلاقه، وقيّده بمقيّد، ونقول هنا: إنّ التقييد في ذلك يتصوّر بدواً بإحدى صور، فلو فرض ـ مثلاً ـ العلم الإجماليّ بنجاسة أحد الماءين وهو مضطرّ إلى