134

 

 

 

الشبهة غير المحصورة

 

التنبيه الثالث: في أنـّه هل هناك مرتبة من كثرة أطراف العلم الإجماليّ إذا وصلت إليها سقط عن التنجيز، وجاز الارتكاب أو لا ؟ والمفروض هو الكلام بالنظر إلى نكتة تنبع من ذات الكثرة تمنع عن التنجيز دون نكتة اجتمعت صدفة مع كثرة الأطراف، كما قد تجتمع مع قلّة الأطراف، كالاضطرار إلى بعض الأطراف، أو خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو العسر والحرج، ونحو ذلك، ممّا يُدّعى إيجابه لرفع اليد عن العلم الإجماليّ.

وهنا لا بُدّ من النظر أوّلاً إلى دليل انحلال أثر العلم بكثرة الأطراف، ثم تحديد مقدار الكثرة التي لا بُدّ منها للانحلال على ضوء ذلك الدليل، وتسمية ذلك بالشبهة غير المحصورة مثلاً، لا أنْ نتكلّم أوّلاً فى ضابط الشبهة غير المحصورة، فإنّ هذا العنوان لم يؤخذ في لسان رواية مثلاً في المقام، كي نتكلّم عن تحديد مفهومه.

ثم الانحلال تارةً يدّعى بلحاظ أدلّة الاُصول، واُخرى يُدّعى بقطع النظر عن أدلّة الاُصول، فهنا مقامان:

المقام الأوّل: في الانحلال بلحاظ أدلّة الاُصول.

ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى أنـّه إذا كانت الشبهة غير المحصورة، فلا مانع من جريان الاُصول في الأطراف؛ لأنّ العبد لا يقدر على المخالفة القطعيّة بارتكاب تمام الأطراف، وقد كان الوجه في تعارض الاُصول أنّ المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم قبيح، ولا يمكن أن يرخّص الشارع في القبيح، فلا يمكن جريان الاُصول في كلّ الأطراف، وعندئذ تقع المعارضة بين الاُصول وتتساقط؛ لأنّ جريان بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح، وجريان الجميع يوجب الترخيص في المخالفة القطعيّة. ففي ما نحن فيه لمّا لم تكن المخالفة القطعيّة مقدورة، فإن لم يكن قبح في المقام؛ لأنّ قبح الشيء فرع القدرة عليه، فلا محذور في جريان الاُصول.

135

هذا ما يظهر من عبارة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام(1)، لكنّك ترى أنّ هذا الكلام بهذا الوجه لا يرجع إلى محصّل؛ لأنّ القدرة ليست مقوّمة للقبح العقلي.

ولعلّ مقصود المحقق النائيني (رحمه الله) هو أنـّه لا يلزم من جريان الاُصول في الأطراف الترخيص في المخالفة القطعيّة، لأنـّها غير مقدورة، والترخيص إنـّما يعقل مع القدرة، فلم يلزم الترخيص في القبيح.

وأورد السيّد الاُستاذ(2) على ذلك، بأنّ القبيح ليس هو الترخيص في المخالفة القطعيّة فحسب، بل الترخيص القطعي في المخالفة ـ أيضاً ـ قبيح، وهنا يلزم من الترخيص في تمام الأطراف الترخيص القطعي في المخالفة، وبهذا المبنى دفع السيّد الاُستاذ شبهة التخيير كما مضى.

وحاصل الخلاف بين السيّد الاُستاذ والمحقق النائيني: هو أنّ ما هو محذور عقلاً هل هو الترخيص في المخالفة القطعيّة فقط، أو أنّ الترخيص القطعي في المخالفة ـ أيضاّ ـ محذور؟ وقد عرفت أنـّنا ننكر أصل مبنى هذا النزاع، ولا نرى محذوراً عقلاً في الترخيص على خلاف العلم الإجماليّ، بأيّ نحو كان، وإنـّما المحذور في ذلك هو المحذور العقلائي، وهو ارتكاز المناقضة بين الترخيص والحكم الواقعي القائم على أساس عدم رؤيتهم في تعايشهم وأحكامهم بين الموالي والعبيد ثبوت أهمية الأغراض الترخيصية من اللزومية، حتى مع العلم الإجماليّ بالغرض الإلزامي، فيجب أن نحسب حساب هذا المحذور؛ لنرى أنـّه هل يرتفع ذلك بكثرة الأطراف أوْ لا؟ وعندئذ نقول: اُنس ذهنهم بغلبة الغرض اللزومي على غرض الترخيص في كلّ الأطراف في تعايشهم وقوانينهم لدى العلم الإجماليّ بالغرض اللزومي، إنـّما يكون لدى قلّة الأطراف، وأمـّا مع كثرة الأغراض الترخيصية فلا يوجد اُنس ذهني بعد غلبتها على غرض إلزامي واحد مثلاً مشتبه فيما بينها، فارتكاز المناقضة هنا غير موجود، فلا مانع من جريان الاُصول(3).


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 38. وأجود التقريرات: ج 2، ص 276.

(2) راجع الدراسات : ج 3، ص 228-233-243 . وراجع المصباح : ج 2 ، ص 355 ـ 361 ـ 375.

(3) وهذا بخلاف فرض الشبهة المحصورة، حيث إنّ ارتكاز المناقضة هناك موجود في الترخيص القطعي في المخالفة، وإن لم يلزم ترخيص في المخالفة، كما إذا كانت المخالفة القطعيّة غير ممكنة، كما لو علمنا إجمالاً بحرمة الكون في أحد المكانين في وقت واحد، ويستحيل الكون فيهما معاً في ذلك الوقت.

136

نعم، لا بُدّ من التفتيش عن دليل أصل يشمل فرض العلم الإجماليّ، كأصالة الحلّ لا كأصالة البراءة، وهذا ما مضى تفصيله فيما سبق.

والخلاصة: أنـّه مع كثرة الأطراف لا أقلّ من عدم ارتكاز المناقضة، إن لم نقل بارتكاز عدم المناقضة، ويؤيّد ما ذكرناه حديث أبي الجارود: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن فقلت: أخبرني مَنْ رأى أنـّه يجعل فيه الميتة. فقال: (أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض؟!). وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً سنداً لكنّه على أيّ حالِ يؤيّد غلبة الأغراض الترخيصية في الشبهة غير المحصورة على الغرض الإلزامي، بل كون ذلك موافقاً لطبع العقلاء، وغير مناف لارتكازهم، فإنّ الظاهر من قوله بلسان الاستفهام الانكاري: «أمن أجل مكان واحد حرم جميع ما في الارض»، هو ذلك، مضافاً إلى أنّ نفس نقل هذا الخبر واحداً بعد واحد ـ ولو فرض كونه غير صادر من الإمام (عليه السلام) ـ وعدم بيان أحد لاستنكاره بمقتضى طبعه العقلائي مؤيّد لذلك.

ومناقشة الشيخ الأنصاري (رحمه الله)(1) في دلالة الحديث -بأنـّه لعلّ المقصود أنـّه علم في مكان بوضع الميتة فيه، فصار ذلك منشأً للاحتمال بالنسبة لأيّ مكان آخر أيضاً، فذكر الإمام (عليه السلام): أنّ هذا لا بأس به، وأنـّه من أجل مكان واحد لا يحرّم جميع ما في الارض، فالرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه- غير صحيحة، فإنّ هذا خلاف الظاهر، خصوصاً بقرينة ما في ذيل الحديث، من قوله: «واللّه إنّي لأعترض السوق، فاشتري اللحم والسمن والجبن، واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البرية وهذه السودان»، فإنّ الظاهر من مثل هذه العبارة ليس هو الظنّ بعدم التسمية، بل الاطمئنان بذلك الناشىء من عدم مبالاة هؤلاء بالدين، وعدم اطّلاعهم على الأحكام، وكونهم جديدي العهد بالإسلام، فيحتمل بشأن كلّ واحد منهم عدم التسمية، ويتقوّى الاحتمال كلّما كثرت الأطراف إلى أن يصل إلى مستوى الوثوق.

المقام الثاني: في الانحلال بقطع النظر عن أدلّة الاُصول، وتوضيح ذلك: أنّ


(1) راجع الرسائل: ص 259 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

137

العلم الإجماليّ قد يبلغ من كثرة الأطراف إلى مرتبة يحصل في كلّ طرف من الأطراف الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه؛ لأنّ رقم اليقين إذا كانت نسبة العلم إلى جميع الأطراف على حدّ سواء، ينقسم لا محالة على عدد الأطراف بالسوية، فتكون القيمة الاحتمالية لكل طرف كسراً ضئيلاً، وكلّما كثرت الأطراف تضاءلت القيمة الاحتمالية في كلّ طرف، فيرجّح احتمال العدم فيه، إلى أن يصل الأمر إلى درجة الاطمئنان، ومقصودنا بالاطمئنان هنا درجة خاصّة من الظن القويّ التي يراها العقلاء حجّة، وتثبت حجّيّته شرعاً بعدم الردع ـ ولو لم تكن واصلة إلى درجة قد تكون معها حجّة ذاتاً، بمعنى أنّ مولوية المولى قاصرة عن لزوم امتثال حكمه المطمأن بخلافه بتلك الدرجة ـ ما لم يردعنا هو عن العمل بهذا الاطمئنان.

وأمـّا ما أورده المحقق النائيني (رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ(2) على الشيخ الأعظم في دعواه لحجّيّة الاطمئنان(3) - من أنّ الاطمئنان إنـّما يتّبع في مثل الأغراض الدنيوية، وأمـّا إذا كان المحتمل بدرجة من الأهمّيّة كعقاب الآخرة، فلا معنى لحجّيّة الاطمئنان في قباله، بل لا بدّ من الاحتياط في قبال احتمال العقاب بالغاً ما بلغ من الضآلة، وضآلة الاحتمال هنا لا تبرّر الاقتحام- فهوغير وارد علينا، سواء قصد الشيخ الأنصاري (رحمه الله) معنىً يرد عليه هذا الاعتراض أو لا، فإنـّنا لا نقصد التمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب، سواء كان مقصود الشيخ (قدّس سرّه) هذا، أو لم يكن، وإنـّما نقصد أنّ الاطمئنان بعدم الحكم معذّر عن الحكم المحتمل، ومعه لا يحتمل العقاب أصلاً، ولو بأيً مستوىً ضعيف(4).

والكلام في تنقيح هذا الوجه من الانحلال يتمّ بالكلام تارةً في موضوع القضية، وهو حصول الاطمئنان، واُخرى في محمولها، وهو حجية هذا الاطمئنان.

أمـّا موضوعها وهو الاطمئنان، فقد ذكر المحقق العراقي (قدّس سرّه) هنا إشكالاً: وهو أنّ حصول الاطمئنان في كلّ طرف من الأطراف بعدم النجاسة


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 39. وأجود التقريرات: ج 2، ص 376.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 242. والمصباح: ج 2، ص 373.

(3) راجع الرسائل: ص 259 من الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(4) وقد احتمل المحقّق النائيني (رحمه الله) أن يكون هذا المعنى هو مقصود الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، وفرضه أمراً في غاية المتانة. راجع أجود التقريرات: ج 2 ، ص 278.

138

مستحيل؛ إذ يناقض ذلك العلم الإجماليّ بالنجاسة؛ لأنـّه تتشكل بالجمع بين الاطمئنانات السالبة الكلية، وهي تناقض الموجبة الجزئية التي تعلّق بها العلم الإجماليّ، ولا معنى للقطع بموجبة جزئية مع الاطمئنان أو الظنّ بالسالبة الكلّيّة.

وأجاب هو (قدّس سرّه) عن ذلك: بأنـّنا إنـّما حصل لنا أحد الاطمئنانات على سبيل البدل(1).

أقول: إنّ هذا الجواب بلا توجيه ليس له معنىً معقول.

وعلى أيّة حال، فهذا الاستشكال في موضوع القضية غير صحيح، ولو صَحّ هذا الاستشكال هنا لجاء في الشكّ في الأطراف أيضاً، فإنّ العلم بالموجبة الجزئية لا يجتمع، لا مع العلم بالسالبة الجزئية، أو الاطمئنان بها، ولا مع الظنّ بها، ولا مع احتمالها، مع أنّ العلم بالجامع بنحو الموجبة الجزئية في العلم الإجمالي قرين دائماً لاحتمالات الخلاف في الأطراف.

وتحقيق الكلام في حلّ المطلب هو: أنّ انكشاف كلّ واحد واحد من عدّة اُمور إنـّما يستلزم انكشاف المجموع بمرتبة من الانكشاف، إذا كانت تلك المرتبة من الانكشاف ثابتة في كلّ واحد منها بنحو الإطلاق، أي: حتّى على تقدير مطابقة الانكشاف في الفرد الآخر للواقع، فلو أخبر ثقة بوجود زيد، وثقة آخر بوجود عمرو، انكشف لنا بمرتبة من مراتب الانكشاف وجود كليهما؛ لأنّ انكشاف وجود كلّ واحد منهما بتلك المرتبة مطلق، أي: يكون حتّى على تقدير مطابقة الانكشاف في الفرد الآخرللواقع. وأمـّا الاطمئنانات فيما نحن فيه، فكلّ واحد منها ليس اطمئناناً مطلقاً، حتّى على تقدير مطابقة الاطمئنان الآخر للواقع، وبطلان احتمال النجاسة فيه، وذلك لنقص في نفس تكوّن هذا الاطمئنان، إذ هو تكوّن على أساس احتمالات النجاسة في سائر الأطراف، فإنـّه كلّما كثر الأطراف وانقسم رقم اليقين بالنجاسة عليها، قَلّ ـ لا محالة ـ سهم هذا الطرف من الاحتمال، وحصل الاطمئنان بعدمها فيه، وإذا كان تكوّن هذا الاطمئنان إنـّما هو على تقدير الاحتمال في سائر الأطراف، فيستحيل أن يكون له إطلاق لتقدير بطلان ذلك الاحتمال، فهذا النقص في مرحلة


(1) راجع نهاية الأفكار القسم الثاني:من الجزء الثالث، ص 330.والمقالات:ج 2، ص 89.

139

تكوّنه قد انعكس على مرحلة انكشافه، ومع هذا النقص وعدم إطلاق الانكشاف يستحيل أن يكون مجموع الانكشافات مساوقاً لانكشاف المجموع، حتى تتشكّل سالبة كلّية، والتي هي نقيض الموجبة الجزئية.

وأمـّا محمولها، وهو حجّيّة هذا الاطمئنان في المقام، فالإشكال الموجود في ذلك هو تعارض هذه الاطمئنانات في الحجّيّة؛ للعلم الإجماليّ بالخلاف، كتعارض سائر الأمارات عند حصول العلم الإجماليّ بالخلاف، وتساقطها كتساقط سائر الأمارات المتعارضة، وكون الحجّيّة التخييرية على خلاف القاعدة كما هو الحال في سائر الأمارات المتعارضة.

ونحن نتكلّم في حلّ هذا الإشكال على ثلاثة مستويات، نبدأ بالمستوى النازل فنقول:

إنّ بالإمكان دعوى كون الحجّيّة التخييرية في المقام على طبق القاعدة، وفق بناء العقلاء وإن لم يكن الأمر كذلك في سائر الأمارات العقلائية؛ وذلك لأنـّه إذا تعارض خبران لثقتين بالعلم الإجماليّ بكذب أحدهما؛ لإخبار معصوم بذلك مثلاً، فهذا العلم الإجماليّ يجعل الكشف لكلّ من الأمارتين أنقص منه لولا العلم الإجماليّ، ويزيد في النقص الذاتي للكشفين، فكلّ من الأمارتين كان كشفها مثلاً ناقصاً ذاتاً بمقدار (25%)، ثم صار ناقصاً مثلاً بمقدار (50%)، فهذا النقص الإضافي يؤثّر في عدم بناء العقلاء على الحجّيّة التخييرية.

وأمـّا فيما نحن فيه، فالعلم الإجماليّ لا يوجب نقصاً في الاطمئنانات زائداً على النقص الذاتي الذي كان موجوداً فيها، فإنّ هذا العلم الإجماليّ ليس إلاّ تجميعاً لنفس تلك الكسور الضئيلة الثابتة في الاطمئنانات، لنقصها ذاتاً، فإن تلك الكسور هي بنفسها ما ينتج من تقسيم رقم اليقين على عدد الأطراف، فإذا كان هذا العلم الإجماليّ تجميعاً لنفس تلك النقائص، فلا معنى لفرض إيجاب ذلك نقصاً جديداً في الاطمئنانات، فيدّعى بناء العقلاء على الحجّيّة التخييرية فيها.

ثم ننتقل من هنا إلى مستوىً أرفع، وننكر أصل المعارضة بين هذه الاطمئنانات في الحجّيّة، فإنّ تعارض الأمارات بعضها مع بعض إنـّما يكون بإحدى نكتتين:

الاُولى: ما توجد في جميع الأمارات المتعارضة، وهي التكاذب، فلو دلّ خبر على وجوب صلاة الجمعة، والآخر على وجوب صلاة الظهر، ونحن نعلم إجمالاً

140

بعدم وجوب كلتا الصلاتين، فكلّ منهما بدلالته الالتزامية يكذّب الآخر فيتعارضان.

الثانية: ما توجد في الأمارات النافية للتكليف، مع العلم الإجماليّ المنجّز بالتكليف، وهي نفس تنجيز العلم الإجماليّ، كما لو دلّ خبر على حلّيّة شيء، وخبر آخر على حلّيّة شيء آخر، مع العلم الإجماليّ بحرمة أحدهما.

وهذه الاطمئنانات لا تتعارض في الحجّيّة، لا بالنكتة الأولى، ولا بالنكتة الثانية:

أمـّا عدم تعارضها بالنكتة الاُولى، فلأنّ كلّ اطمئنان من هذه الاطمئنانات لا يكذّب الاطمئنان الآخر، لاحتمال كون النجاسة في إناء ثالث، نعم، يمكن أن يتوهّم أنّ كلّ اطمئنان منها يعارض مجموع الاطمئنانات الاُخرى، كما يصنع ذلك بالأمارات المتعارضة التي تكون دائرة المعارضة فيها أوسع من اثنين، فلو أخبر ثقة بوجود زيد، والآخر بوجود عمرو، والثالث بوجود بكر، فكلّ خبر يعارض مجموع الخبرين الآخرين، لكن هذا الكلام هنا غير صحيح، لما عرفت من أنّ مجموع الاطمئنانات لا تكشف عن طهارة المجموع، فلا يقع تعارض بين اطمئنان واحد، ومجموع باقي الاطمئنانات؛ إذ لم تُثبت بمجموعها طهارة مجموع الباقي المستلزمة لنجاسة هذا الفرد.

وأمـّا عدم تعارضهما بالنكتة الثانية، فلوجهين:

أحدهما: ما عرفت من عدم ارتكاز المناقضة عقلائياً بين الترخيص في المخالفة القطعيّة، والتكليف المعلوم بالإجمال إذا كانت الشبهة غير محصورة، فكما قلنا في مثل أصالة الحلّ: إنـّه لا مانع من جريان الأصل في تمام الأطراف، وإن لزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة؛ لعدم مناقضة ذلك ارتكازاً للتكليف المعلوم بالاجمال، كذلك نقول هنا: إنـّه لا مانع من حجّيّة هذه الاطمئنانات وإن لزم منها الترخيص في المخالفة القطعيّة، لعدم مناقضة ذلك ارتكازاً للتكليف الملعوم بالإجمال.

وثانيهما: ما نقوله في المستوى الثالث الأرفع، وذلك المستوى هو أنـّه بعد أنْ عرفت أنّ هذه الاطمئنانات لا تتعارض بملاك التكاذب نقول: إنـّه لا مانع من حجّيّة الجميع، حتّى إذا لم نوافق على ارتفاع محذور تنجيز حرمة المخالفة القطعيّة بكون الشبهة غير محصورة؛ وذلك لأنـّنا ننكر أصل لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة من حجّيّة هذه الاطمئنانات؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء على حجّيّة الاطمئنان ليس معناه إلاّ أنّ

141

ما في مقابله من الكسر الضئيل ليس منجّزاً أو معذّراً، فحجّيّة الاطمئنان فيما نحن فيه إنـّما معناها أنّ احتمال النجاسة بمقدار الواحد من ألف الذي هو في قبال أقلّ درجات الاطمئنان -حسب الفرض- ليس منجّزاً، وهذا لا يعني أنّ احتمال نجاسة أحد إنائين مثلاً من تلك الآنية الذي قيمته اثنان من ألف ليس منجّزاً، فالمكلّف لا يجوز له شرب إنائين من تلك الآنية، اعتماداً على الحجّيّة العقلائية للاطمئنان، فإنـّه لو فعل كذلك فقد خالف ـ أيضاً ـ احتمال نجاسة أحد الإنائين الذي هو بمقدار اثنين من ألف، وهو بقطع النظر عن أدّلّة الاُصول منجّز، وليس قد خالف فقط احتمالين قيمة كل واحد منهما واحد من ألف، حتى يقال: إنـّنا مأمونون في قبال كل واحد من هذين الاحتمالين. وهذه نتيجة النقص الذي كان في أصل تكوّن الاطمئنان، وانعكس على مرحلة الانكشاف، والآن قد انعكس على مرحلة الحجّيّة أيضاً، وقد تحصّل: أنّ مقتضى حجّيّة الاطمئنانات هو جواز شرب إناء واحد.

وهنا كلام: وهو أنـّه لو فرض كون العلم الإجماليّ مقروناً بالشكّ البدوي، بنحو لم يحصل الاطمئنان بالطهارة في كلّ فرد من الأفراد، كما لو كنّا نحتمل نجاسة الجميع احتمالاً منافياً للاطمئنان، وفرض عدم تعيّن واقعي للمعلوم بالإجمال، كما لو كان العلم الإجماليّ وليداً للاحتمالات الثابتة في الأطراف، فعندئذ يمكن أن يتخيّل أنـّه لا معنى للقول بجواز شرب إناء واحد تمسّكاً بحجية الاطمئنان؛ إذ لا اطمئنان بطهارة ايّ فرد من الأفراد، ولا بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه؛ إذ لا تعيّن للمعلوم بالإجمال حتى في الواقع.

وحلّ المطلب هو: أنّ العلم الإجماليّ -لو فرض الجميع مثلاً حراماً في الواقع- قد نجّز علينا حرمةً واحدة بهذا العنوان، أي: بعنوان الحرمة الواحدة، لا بعنوان ينطبق على خصوص بعض الأفراد في الواقع، حتى يقال: إنـّه لا تعيّن له. وأمـّا باقي الحرمات فهي داخلة تحت الاُصول المؤمّنة؛ ولذا لو شرب الجميع لم يعاقب إلاّ بعقاب واحد، وإذا كان المقدار المنجّز ذلك جاز له شرب إناء واحد، إذ لو شربه لا يحتمل احتمالاً معتدّاً به عدم امتثال حرمة واحدة، بل يكون مطمئنّاً بامتثالها، والمفروض أنـّه لم يتنجّز عليه أكثر من هذا المقدار.

هذا، وقد تحصّل: أنّ الوجه الصحيح في عدم تنجيز العلم الإجماليّ إذا كانت الشبهة غير محصورة أمران:

أحدهما: عدم ثبوت محذور ارتكاز مخالفة الترخيص في الاُصول للمعلوم

142

بالإجمال. والثاني: الاطمئنان بالإمتثال.

وتظهر فائدة الثاني في مورد لم يوجد أصل يشمل فرض العلم الإجماليّ، كما لو احتيج إلى نفي النجاسة لتصحيح الوضوء به مثلاً، مع العلم الإجماليّ بالنجاسة في الشبهة غير المحصورة، ولم يوجد استصحاب عدم النجاسة لتوارد الحالتين، أو لكون الحالة السابقة النجاسة، وأصالة الطهارة لوثبتت في مثل هذا المورد ـ لولا العلم الإجماليّ ـ فحالها حال أصالة البراءة في عدم شمولها لفرض العلم الإجماليّ.

هذا، وقد ذكر لإثبات عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة وجوه اُخرى غير الوجهين المختارين:

منها - ما مضى عن المحقق النائيني (قدّس سرّه) من عدم القدرة على المخالفة القطعيّة.

ومنها - ما استدلّ به بعض من الإجماع. وهذا الإجماع وإن كان لعلّه ممّا يطمأن بوقوعه خارجاً في الجملة، إلاّ أنّ من المحتمل أو من المطمأن به ـ أيضاً ـ أن يكون المستند فيه أحد الوجهين اللذين ذكرناهما، خصوصاً مسألة التمسّك بأدلّة الاُصول، كما تمسّك بذلك جملة من الفقهاء كالشيخ الأنصاري، وصاحب الحدائق (قدّس سرّهما)، وغيرهما ممّن تعرّض للشبهة غير المحصورة من الاُصوليين والمحدّثين؛ لأنـّهم بواقع عرفيّتهم وارتكازهم لم يروا هنا مناقضة بين التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الترخيصات في الأطراف، فهذه الذهنية العرفية الخالية من ارتكاز المناقضة دعتهم إلى التمسّك بأدلّة الاُصول في الشبهات غير المحصورة، وَنِعمَ ما صنعوا، فمع فرض الظنّ بأنّ المستند هو هذا لا معنى للتعويل على الإجماع في المقام كحجّة تعبّديّة مستقلّة.

نعم، يكون الإجماع مؤيّداً لما ذكرناه من عدم ارتكاز المناقضة؛ إذ هؤلاء المجمعون كانوا من العرف والعقلاء، ومع ذلك لم يستوحشوا من الإفتاء بالترخيص، ولم تمنعهم ذهنيتهم العرفية عن الالتزام بذلك.

ومنها - ما استدلّ به بعض من قواعد نفي الحرج. وهذا مبتن على ما هو الصحيح، كما حققناه في بحث الانسداد من شمول قواعد نفي الحرج لفرض تأتّي الحرج من الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ، خلافاً للمحقق الخراساني (قدّس سرّه).

لكنّ الاستدلال بنفي الحرج فيما نحن فيه في غير محلّه؛ إذ ليس ثبوت الحرج في الاجتناب عن تمام الأطراف لازماً لبعض مراتب كثرة الأطراف، وإنـّما هو أمر

143

اتّفاقي، قد يتّفق وقد لا يتّفق، فلو علم مثلاً شخص إجمالاً بنجاسة إناء بنحو الشبهة غير المحصورة في بلد ليس من الحرج عليه ترك الذهاب إليه، وترك جميع أوانيه، فكيف يستدل بنفي الحرج على الترخيص في ذلك؟!

نعم، قد يلزم الحرج من كثرة الأطراف، لكنّه ليس بنحو الملازمة، بل هو اتّفاقي، كما يتّفق الحرج مع قلّة الأطراف أيضاً، وهذا بخلاف ما ذكرناه من الوجهين من عدم ارتكاز المناقضة والاطمئنان، فإن كلّ واحد منهما يكون لازماً لبعض درجات كثرة الأطراف، ولزوم العسر والحرج ليس كذلك، بل أنّ ما ذكره المحقق النائيني (قدّس سرّه) من عدم القدرة على المخالفة القطعيّة أيضاً، ليس لازماً لبعض درجات الكثرة بعنوانها بقطع النظر عن الخصوصيات الخارجية، فقد يملك الإنسان مثلاً ألآف الأواني، وعلم إجمالاً بنجاسة واحد منها، وهو قادر على مساورة الجميع ولو في طول سنوات كثيرة، فليست الشبهة غير المحصورة بعنوانها ضابطاً لجريان الأصل، إلاّ أن يكون مقصوده (قدّس سرّه) أنّ الغالب، بالنسبة للعلوم الإجمالية، هو أنـّه في كلّ مورد مورد توجد خصوصيات وملابسات، بحيث يكون بعض درجات الكثرة فيه مستلزم لعدم القدرة على المخالفة القطعيّة، فيقول بعدم تنجيز العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة، في غير الموارد النادرة، ويجعل عنوان الشبهة غير المحصورة إشارة مثلاً إلى تلك الموارد الغالبة، والكثرة بعنوانها ليست ملازمة لعدم التنجيز، كما كان ذلك على الوجهين المختارين.

بقي هنا اُمور:

الأوّل: أنـّه هل المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة جائزة، كترك الموافقة القطعيّة أو لا؟

يختلف ذلك باختلاف مدارك عدم التنجيز.

فإن كان المدرك هو الإجماع، فالمقدار الذي يثبت ابتداء هو جواز ترك الموافقة القطعيّة؛ لأنـّه القدر المتيقن من الإجماع الذي هو دليل لبيّ، وعندئذ تدخل المسألة تحت فرض ثبوت الترخيص في بعض أطراف العلم الإجماليّ لا بعينه، فإن قلنا: إنّ ذلك مستلزم لثبوت الترخيص في الجميع، قلنا به هنا، وإلاّ فلا.

وإن كان المدرك نفي الحرج، فأيضاً المقدار الذي يثبت ابتداءً هو جواز ترك الموافقة القطعيّة، فإنّ الحرج ينتفي بما هو دون المخالفة القطعيّة، وعندئذ يبتني جواز المخالفة القطعيّة وعدمه على ما يختار في مسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه.

144

وإن كان المدرك عدم القدرة على المخالفة القطعيّة كما ذهب إليه المحقق النائيني (رحمه الله)، فلا موضوع لهذا الفرع.

وإن كان المدرك عدم ارتكاز المناقضة جازت المخالفة القطعيّة لثبوت المقتضي، وهو دليل الأصل، وعدم المانع، وهو ارتكاز المناقضة.

وإن كان المدرك الاطمئنان فإنـّما يجوز الارتكاب بمقدار يطمئنّ معه بعدم المخالفة.

الثاني: هل الشبهة الوجوبية كالتحريمية أو لا؟

هذا يختلف ـ أيضاً ـ باختلاف المباني:

فعلى مبنى المحقّق النائيني (قدّس سرّه) من عدم القدرة على المخالفة القطعيّة، نقول: إنّ القدرة على المخالفة القطعيّة في الشبهة الوجوبية ثابتة غالباً وإن كانت الشبهة غير محصورة، فلو علم مثلاً إجمالاً بأنـّه تجب عليه صلاة في مسجد من المساجد الكثيرة جدّاً، فبإمكانه أن يترك الصلاة في كلّ المساجد. نعم، عدم القدرة على الجمع بين الأطراف في الشبهة التحريمية الذي يعني عدم القدرة على المخالفة القطعيّة، مستلزم لفرض عدم القدرة على الامتثال القطعي لو بدّلنا تلك الحرمة بالوجوب، فيدخل ذلك في باب الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه، فيلحقه حكمه.

وبناءً على مبنانا تكون الشبهة الوجوبية كالتحريمية سواء كان المدرك هو الاطمئنان، أو إطلاق دليل الأصل؛ لعدم ارتكاز المناقضة، فإنّ الاطمئنان لا فرق فيه بين كون الشبهة وجوبية أو تحريمية، وإطلاق دليل الأصل الشامل لمورد العلم الإجماليّ ثابت في الشبهة الوجوبية أيضاً. نعم، لا بدّ من التفتيش عن أصل شامل للشبهات الوجوبية في نفسه كالاستصحاب دون أصالة الحلّ.

الثالث: أنّ الأطراف إن كانت في نفسها مجرىً للاشتغال، كما إذا علم بوجوب إكرام عالم، وتردّد العالم بين أفراد غير محصورة، ولم تكن الأفراد مجرىً لاستصحاب العلم، فهل يكون حاله حال ما إذا كانت الأطراف مجرىً للبراءة في نفسها أو لا؟

يختلف ذلك باختلاف المدارك، فإطلاق الأصل من باب عدم ارتكاز المناقضة لا معنى للتمسّك به هنا، لأنّ المفروض أنّ الطرف في نفسه مورد للاشتغال لا للأصل. وأمـّا الاطمئنان فلا يفرّق في حجّيّته بين كونه في ميدان التكليف، أو في

145

ميدان الامتثال والفراغ، فيثبت بذلك جواز ترك إكرام بعض الأفراد بمقدار لا ينافي حصول الاطمئنان بصدور إكرام عالم منه.

الرابع: انـّه إذا كان المعلوم بالإجمال كثيراً في كثير، بحيث تكون النسبة كالنسبة في الشبهة المحصورة، فهل يكون العلم الإجماليّ منجّزاً في المقام أو لا؟.

إن كان مدرك عدم التنجيز الاطمئنان، فهو غير ثابت هنا؛ إذ المفروض كثرة التكليف المعلوم أيضاً، فكيف يطمأنّ بعدمه في هذا الفرد؟!. وإن كان مدركه عدم ارتكاز المناقضة، فهنا ارتكاز المناقضة ثابت؛ لأنـّه وإن كثرت الأغراض الترخيصية، لكن كثرة الأغراض الإلزامية أيضاً، والنسبة هي النسبة. وإن كان مدركه عدم القدرة على المخالفة القطعيّة بارتكاب الجميع، فالأمر يختلف باختلاف الموارد، فإذا علم مثلاً بنجاسة خمسين في مائة ولم يكن قادراً على الجمع بين المائة، فإن كان قادراً على ارتكاب واحد وخمسين، فهو قادر على المخالفة القطعيّة ولا تجري الاُصول، وإلاّ جرت الاُصول.

الخامس: إذا شكّ في كون الشبهة محصورة، أو غير محصورة.

فهذا يختلف تقريره باختلاف المدارك:

فإن كان المدرك الاطمئنان، فمعنى هذا هو الشكّ في وصول قوّة الظنّ إلى درجة الاطمئنان، وعندئذ -سواء كان هذا الشكّ بنحو الشبهة الحكمية، أو بنحو الشبهة الموضوعية- لابُدّ له من الاحتياط، إذ هذا شكّ في المؤمّن.

وإن كان المدرك عدم ارتكاز المناقضة، فالشكّ يتصور على نحوين:

الأوّل: أن يشك الشخص، في أنّ العرف هل يوجد في ذهنه ارتكاز المناقضة للمعلوم بالإجمال هنا أو لا؟ وهذا مرجعه إلى تردّد المخصّص المتّصل، الذي هو الارتكاز بين الأقلّ والأكثر، وفي مثله لا يجوز التمسّك بالعامّ.

الثاني: أن يشكّ هذا الشخص بما هو فرد من أفراد العرف في ثبوت المناقضة وعدمه، وهذا معناه عدم ارتكاز المناقضة، وهو يكفي لصّحة التمسّك بإطلاق دليل الأصل بلا حاجة إلى قطع العرف بعدم المناقضة، فإنّ الذي كان يمنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق هو ارتكاز المناقضة، وهو منتف في المقام.

وأمـّا إذا كان المدرك لعدم تنجيز العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة هو ما ذكره المحقق النائيني (قدّس سرّه): من عدم القدرة على الجمع بين تمام الأطراف، فمعنى الشكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة هو الشكّ في

146

القدرة على المخالفة القطعيّة بالجمع وعدمها، وهنا ذكر المحقق العراقي (قدّس سرّه): أنـّه بناءً على هذا لا تجري الاُصول؛ لأنّ هذا داخل في باب الشكّ في القدرة، وفي باب الشكّ في القدرة لابدّ من الاحتياط(1).

أقول: هذا الكلام منه (قدّس سرّه) من الغرائب، فإنّ كون الشكّ في القدرة مورداً للاحتياط إنـّما هو بأحد معنيين :

الأوّل: أنـّه إذا شكّ الإنسان في قدرته على الامتثال يجب عليه التصدّي للامتثال والانشغال في هذا الطريق إلى أن يحصل له اليأس، في قبال فرض احتمال عدم القدرة على الامتثال معذِّراً عن هذا العمل.

والثاني: أنـّه إذا شكّ الإنسان في قدرته على العصيان، وأنـّه هل يقدر مثلاً على إطلاق الرصاص بهذه الآلة المخصوصة، فيقتل زيداً أو لا ؟ فليس له أن يصير في طريق إطلاق الرصاص، ويحاول إطلاقه بالضغط على تلك الآلة، ونحو ذلك، في قبال فرض احتمال عدم القدرة على العصيان معذِّراً ومجوِّزاً لمثل هذا العمل الذي يحتمل ترتّب القتل عليه.

وشيء من هذين المعنيين غير مربوط بما نحن فيه: أمـّا الأوّل فواضح، فإنّ المفروض فيما نحن فيه ليس هو عدم القدرة على الامتثال، بل هو قادر على ترك الجميع ليحصل الامتثال القطعي، وإنـّما المفروض هو عدم القدرة على العصيان القطعي.

وأمـّا الثاني فلأنّ العصيان القطعي فيما نحن فيه إنْ صدر منه، فإنـّما يصدر منه بعد أن يزول الشكّ في القدرة وعدمه، وذلك حيث إنـّه يرتكب الأطراف بالتدريج إلى أن يبقى مقدار يرى أنـّه قادر على ارتكابه، لا أن يبقى الشكّ إلى زمان حصول العصيان القطعي؛ لكون ذلك أمراً مترتّباً على عمله قهراً، من دون اطّلاع منه على أنـّه هل سوف يترتّب أو لا، نظير مثال ترتّب القتل على الضغط على آلة الرصاص حتى يقال: إنّ هذا الشكّ مؤمّن أو ليس بمؤمّن .

ثم لو فرض دخول ما نحن فيه في باب الشكّ في القدرة على الامتثال، أو في القدرة على العصيان، فلزوم الاحتياط إنـّما هو حكم ظاهري، وليس حاله حال الحكم الواقعي الذي لم يكن يمكن عقلاً الترخيص في مقابله، فهذا لا يمنع عن جريان الاُصول في الأطراف؛ إذ ليس محذور عقلي في رفع اليد عن هذا الاحتياط،


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من ج 3، ص 335.

147

كما كان محذور عقلي حسب ما يقولون في الترخيص في المخالفة القطعيّة، وهذا الأصل ليس جارياً بلحاظ الشكّ في التكليف من ناحية الشكّ في القدرة على الامتثال، حتى يكون خلف فرض القول بعدم جريان الأصل عند الشكّ في القدرة، وإنـّما يجري بلحاظ الشكّ في التكليف في نفسه في كلّ واحد من الأطراف.

هذا حال ما ذكره المحقق العراقي (قدّس سرّه) في المقام.

وتحقيق الحال فيما نحن فيه: أنّ الشكّ في القدرة على الجمع بين الأطراف يستلزم الشكّ فى المعارضة بين الاُصول؛ إذ لا نعلم أنـّها هل تؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة فتعارض أو لا؟، ومع عدم إحراز المعارضة يكون الجميع حجّة؛ إذ الابتلاء بالمعارض واقعاً من دون وصول المعارضة إلينا لا يُسقط الخبر عن الحجّيّة لنا، وهذا بناءً على كون المقيّد لأدلّة الاُصول، وهو المحذور العقلي عندهم، مقيّداً منفصلاً واضح؛ إذ الظهور في جميع الأطراف منعقد، والشكّ يكون في المعارضة، فلا مانع من حجّيّة هذه الظهورات.

وأمـّا إذا فرض المقيّد متّصلاً فقد يقال: إنّ احتمال المعارضة يوجب احتمال الإجمال؛ لأنـّه على فرض المعارضة يحصل الإجمال.

لكن هذا الكلام لا يتمّ بناءً على التفصيل في باب الإطلاق بين ما يصلح للقرينيّة وما يصلح للمعارضة، بأنّ الأوّل يضر بالإطلاق ومقدّمات الحكمة والثاني لا يضّر بذلك، حيث إنّ مقدمات الحكمة، إنـّما هي عبارة عن كون المولى في مقام البيان، وعدم ذكره لشيء يكون بياناً، أو صالحاً للبيانية، وكلّ ذلك حاصل هنا.

هذا، بقطع النظر عن أنّ الشبهة هنا مصداقية، وإلاّ فالظاهر أنـّه يشكل الأمر، فإنّ إطلاق أدلّة الاُصول قيّد بمخصّص لُبّي بعدم استلزام جريان الاُصول للترخيص في المخالفة القطعيّة، وقد شكّ مصداقاً في هذا الاستلزام وعدمه، فبناءً على أنّ المخصّص متّصل يحصل الإجمال، وبناءً على أنـّه منفصل لا يحصل الإجمال، لكنّه ـ على أيّ حال ـ يلزم من التمسّك بدليل الأصل هنا التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

هذا إذا لم نقل بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية في المخصّص اللّبّي منفصلاً، أو مطلقاً، وإلاّ جاز التمسّك هنا إذا كان المخصّص منفصلاً أو مطلقاً.

ولكنْ للمحقق النائيني (قدّس سرّه) أن يقول: بأنّ المخصّص لم يُخرِج من دليل الأصل إلاّ فرض القطع بلزوم المخالفة القطعيّة، وذلك لأحد وجهين :

الوجه الأوّل: أنـّه ذَكَرَ في وجه جريان الأصل في أطراف الشبهة غير

148

المحصورة ما ظاهره: أنّ المخالفة القطعيّة غير مقدورة، فهي غير قبيحة.

ونحن وإن وجّهنا كلامه بأنـّه لعلّ المقصود أنّ المخالفة القطعيّة غير مقدورة، فهي غير مرخّص فيها، فلا يلزم الترخيص في القبيح، لكن الآن نفرض أنّ مقصوده هو ظاهر عبارته، وعندئذ نقول: إنـّه مع الشكّ في القدرة ليست المخالفة القطعيّة قبيحة، لأنّ الحسن والقبح العقليين دائماً يكونان مختصّين بفرض وصول الموضوع وصولاً قطعيّاً، والموضوع هنا -وهو القدرة- غير واصل وصولاً قطعيّاً. نعم، قد يحكم العقل العملي عند الوصول الاحتمالي بحسن آخر أو قبح آخر بملاك الاحتياط(1)، فإن قيل بذلك هنا، فهذا مرجعه إلى كلام المحقق العراقي (قدّس سرّه) من لزوم الاحتياط عند الشكّ في القدرة، وقد عرفت الكلام فيه مُفصّلاً.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ المحذور من جريان الاُصول إنـّما هو لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة، وهذا المحذور غير موجود عند الشكّ في القدرة في المخالفة القطعيّة؛ إذ هذا الشكّ لا يبقى إلى آخر ارتكابه لتمام الأطراف، فلو أجرى الأصل في الأطراف، و اشتغل بارتكابها، فإمـّا أن يظهر له أخيراً عدم القدرة على المخالفة القطعيّة، وعندئذ لم تلزم المخالفة القطعيّة، أو تظهر له أخيراً القدرة على ذلك، وبمجرّد أن يظهر له ذلك يقع التعارض بين الاُصول في الأطراف والتساقط، ولا يجوز له شرب الباقي، فلم تلزم المخالفة القطعيّة أيضاً،

وبكلمة اُخرى نقول: إنـّنانقيّد الأصل في كلّ طرف بفرض الشكّ في إمكان المخالفة القطعيّة، ومع هذا القيد لا تلزم المخالفة القطعيّة؛ إذ لا تتحقّق المخالفة القطعيّة إلاّ بعد زوال الشكّ في إمكانها.

ولا يتعارض إجراء الأصل في كلّ طرف بقيد الشكّ مع الأصل في الطرف الآخر عند عدم الشكّ، وحصول القطع بإمكان المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الاُصول في فرض القطع في أنفسها متعارضة ومتساقطة.

لا يقال: إنّ الأصل في كلّ طرف في فرض القطع معارض لشيئين: أحدهما: الأصل في الطرف الآخر مع الشكّ، والآخر: الأصل فيه مع القطع، فهذا حاله حال كلّ دليل يعارض دليلين.

فإنـّه يقال: إنّ مثل ما نحن فيه لا يقع فيه التعارض والتساقط بين الجميع لا فنّاً ولا عرفاً، بخلاف ما لا يكون من قبيل ما نحن فيه.


(1) أو بتوسيع القبح.

149

ونكتة ذلك: أنـّه في سائر الموارد إذا عارض دليل دليلين، فتقديم الأوّل منهما عليه بحجّة أنّ هذا ليس ترجيحاً بلا مرجّح؛ لأنّ ذاك ساقط على أيّ حال بمعارض آخر، بخلاف الدليل الأوّل من الدليلين يرد عليه: أنّ هذا يؤدّي إلى الترجيح بلا مرجح فيما بين الدليلين اللذين عارضاه؛ لأنّ تقديم الأوّل عليه ليس بأولى من تقديم الثاني عليه. إذن فلكي لا نصطدم بمشكلة الترجيح بلا مرجح فيما بين هذين الدليلين يجب أن نقدّمهما معاً على ذاك الدليل، ولكنّنا عندئذ نصطدم بمشكلة الترجيح بلا مرجّح من زاوية أنّ تقديمهما معاً على ذاك الدليل ليس بأولى من تقديم الدليل عليهما معاً، وهذا معنى أنّ دليلاً واحداً قد عارض في المقام مجموع دليلين .

وأمـّا فيما نحن فيه، فهنا وإن عارض شيء شيئين، لكن المعارض لشيئين هنا متعدّد بتعدّد الأطراف، ولا يمكن تقديمه في جميع الأطراف.

ولأجل التوضيح نفترض طرفين، فالأصل في فرض القطع في الطرف الأوّل يعارض شيئين وهما: الأصل في الطرف الثاني في فرض القطع، والأصل فيه في فرض الشكّ، والأصل في فرض القطع في الطرف الثاني ـ أيضاً ـ يعارض شيئين، وهما : الأصل في الطرف الأوّل في فرض القطع، والأصل فيه في فرض الشكّ، وتقديم الأصل ـ في فرض الشكّ ـ في الطرف الأوّل مثلاً على الأصل ـ في فرض القطع ـ في الطرف الثاني بحجّة سقوطه بمعارض آخر، ليس مبتلى بمشكلة الترجيح بلا مرجّح فيما بينه وبين الأصل ـ في فرض القطع ـ في الطرف الأوّل؛ لأنّ حفظ الأصل في الطرف الأوّل ـ على تقدير القطع ـ عن السقوط مبتلى بمشكلة تخصّه، أي مشكلة لا توجد في حفظ الأصل فيه على تقدير الشكّ، وتلك هي أنّ حفظ الأصل في الطرف الأوّل ـ على تقدير القطع ـ عن السقوط لايعني تقديمه على الأصل في الطرف الثاني ـ على تقدير القطع ـ فحسب، بل يعني إضافة إلى ذلك تقديمه على الأصل في الطرف الثاني، على تقدير الشكّ، في حين أنّ تقديمه عليه ليس بأولى من تقديم الأصل في الطرف الثاني ـ على تقدير القطع ـ على الأصل في الطرف الأوّل، ـ على تقدير الشكّ ـ ، وهذا يعني مشكلة الترجيح بلا مرجّح فيما بين الأصلين في الطرفين على تقديري القطع، وهذه المشكلة غير موجودة في الأصل في كلّ من الطرفين على تقدير الشكّ؛ لأنّ بالإمكان تقديم كلا الأصلين على تقديري الشكّ كلّ على ما يعارضه، فلا يلزم بينهما الترجيح بلا مرجح، وتمام النكتة في ذلك: أنّ الأصلين على تقديري الشكّ ليسا متعارضين، في حين أنّ الأصلين على تقديري القطع متعارضان.

150

 

 

 

انحلال العلم الإجمالي

 

التنبيه الرابع: في انحلال العلم الإجماليّ، وذلك: إمـّا بعلم وجداني آخر تفصيلي، أو إجمالي أصغر، وإمـّا بحجّة شرعية أو عقلية:

أمـّا الانحلال بالعلم الوجداني انحلالاً حقيقياً أو حكمياً، فقد مضى البحث عنه مُفصّلاً لدى حديثنا مع الأخباريين في وجوب الاحتياط في الشبهات وعدمه، فلا نعيده.

ونشير هنا إلى ما هو المختار الذي نقّحناه هناك: فبالنسبة للانحلال الحقيقي فصّلنا بين ما إذا كانت نسبته سبب العلم الإجماليّ إلى الأطراف على حدّ سواء، كما في تراكم احتمالات الأطراف، أو البرهان على عدم اجتماع أمرين، فيثبت الانحلال، وما إذا لم تكن نسبته إليها على حدّ سواء، فلا يثبت الانحلال.

وحيث يتمّ الانحلال الحقيقي يشترط فيه عدم تأخّر المعلوم التفصيلي عن المعلوم الإجماليّ على ما مضى بحثه.

وبالنسبة للانحلال الحكمي قد قلنا هناك: إنـّه بلحاظ الأصل الشرعي يثبت الانحلال؛ إذ لا معارض للأصل في الطرف غير المعلوم تفصيلاً، وأمـّا بلحاظ قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) فقد مضى أيضاً: أنـّه إن بني على أنّ العلم الإجماليّ ينجّز الواقع ولو بمقدار إضافته إلى الجامع، تعقل دعوى تنجيز العلم الإجماليّ في المقام، وإن بني على أنـّه ينجّز الجامع لا يكون للعلم الإجماليّ أثر زائد، إذ ما عدا الواحد داخل تحت التأمين، وواحد معيّن منجّز بالعلم الإجماليّ التفصيلي.

هذا. والمتعيّن بناءً على القول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) حرفياً هو الأخير، لعدم تماميّة البيان بأزيد من مقدار الجامع، فلابدّ من الانحلال.

وأمـّانحن فحيث ننكر قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، فلا ثمرة لنا في البحث عن الانحلال الحكمي بقطع النظر عن الأصل الشرعي؛ إذ لو وجد أصل شرعي بلا معارض، قلنا بالانحلال ولو بلحاظ هذا الأصل الشرعي، وإلاّ فإنّ نفس الاحتمال في الطرف الآخر يكفي للتنجيز.

151

ويشترط في الانحلال الحكمي عدم تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجماليّ، زائداً على عدم تأخّر المعلوم التفصيلي عن المعلوم الإجماليّ على ما مضى بحثه هناك.

وأمـّا الانحلال بالحجّة شرعاً أو عقلاً فلا مورد للانحلال الحقيقي بذلك؛ إذ لم يحصل علم بالحكم في أحد الطرفين معيّناً، فالعلم بالحكم في أحدهما إجمالاً باق على حاله لا محالة، وقد وقعت المحاولة لإثبات الانحلال الحقيقي تعبداً إذا كانت الحجّة شرعية، ومجعولة بعنوان جعل الطريقيّة والعلم، وقد ذكرناها مع مناقشتها ـ أيضاً ـ في ذلك المبحث، فلا نعيد.

وأمّا الانحلال الحكمي، فتارة تكون تلك الحجّة التي يتكلّم في انحلال العلم الإجماليّ بها حكماً عبارة عن أصالة الاشتغال الناشئة عن علم إجمالي آخر، كما لو علم إجمالاً بنجاسة الإناء الأبيض أو الأسود، ثم علم إجمالاً بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر، فقد يقال بانحلال الثاني لتنجيز أحد طرفيه بالعلم الأوّل، واُخرى تكون تلك الحجّة غير ذلك: أمـّا الأوّل فهو ما سوف نعقد له -إن شاء الله- تنبيهاً مستقلاً في العلاقات بين العلوم الإجمالية لوجود نكات تخصّ ذلك. وأمـّا الثاني فإن كانت تلك الحجّة ممّا يثبت لوازمه، بأن كانت أمارة، وكان من لازمها عدم التكليف في الطرف الآخر، كما لو علمنا بانحصار التكليف في واحد، أو كانت الأمارة بصدد تعيين المعلوم بالإجمال، كما لو علمنا بنجاسة إناء زيد، ودلّت الأمارة على أنّ إناء زيد هو هذا، فننفي بلازمها ثبوت التكليف المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر، فالعلم الإجماليّ ينحلّ بنفس هذه الحجّة؛ لنفيها للتكليف في الطرف الآخر.

وأمـّا إنْ لم يكن الأمر كذلك، فينحلّ العلم الإجماليّ بالنظر إلى الاُصول الشرعية، على تحقيق وتفصيل مضى في التنبيه الثاني.

وأمـّا بالنظر إلى قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، فلا يحصل انحلال كامل، وتوضيحه: أنـّه لو اجتنب الإناء الذي أصبح مورداً للحجّة المثبتة العقلية، أو الشرعية، وشرب الإناء الآخر، فليس عليه شيء؛ إذ قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) لا معارض لها، والعلم الإجماليّ لم ينجّز أكثر من الجامع، والزائد على الواحد داخل تحت التأمين، لكن إذا شرب كلا الإنائين فهو أشّد حالاً من أن يشرب فقط الإناء الذي هو مورد للحجّة المثبتة؛ وذلك لأنّ منجّزيّة العلم أشدّ من منجّزيّة الحجّة غير العلم، ومخالفة العلم أقبح من مخالفة الحجّة، فالعلم الإجماليّ وإن كان تنحلّ هنا درجةٌ من

152

منجّزيّته، لكنّ درجة اُخرى من المنجّزيّة باقية على حالها مؤثّرة بلحاظ المخالفة القطعيّة(1).

وعلى أيّة حال، فالانحلال بالحجّة غير العلم ـ مهما كان ـ يكون انحلالاً حكمياً، فيلحقه حكمه من اشتراط عدم تأخّر هذا المنجِّز عن العلم الإجماليّ، زائداً عدم تأخّر الحكم الذي يتنجّز به عن المعلوم بالإجمال.

وأمـّا ما ذهب إليه المحقّق العراقي (قدّس سرّه) في المقام(2): من أنّ وجود حجّة منجّزة في أحد الطرفين يوجب الانحلال الحكمي، فيجري الأصل في الطرف الآخر، مع أنـّه (قدّس سرّه) قائل بالعلّيّة التامّة، ففي غير محلّه، فإنـّه بناءً على كون العلم الإجماليّ منجّزاً للواقع، كما هو المفروض عنده ـ ولأجل هذا أمكنه دعوى العلّيّة التامّة ـ لا وجه لانحلال العلم بمجّرد وجود المنجّز في أحد الطرفين، عدا ما ذكره (قدّس سرّه): من أنّ العلم الإجماليّ إنـّما ينجّز التكليف إذا كان قابلاً للتنجيز على كلا التقديرين، وهنا ليس كذلك؛ لأنّ الطرف المنجّز لا يقبل التنجيز مرّة اُخرى، وهذا ما أوضحنا بطلانه في بحثنا مع الأخباريين في أصالة الاحتياط، فالانحلال يتوقّف على منع العلّيّة التامّة، وجريان الأصل الشرعي المؤمّن في الطرف الآخر، حتى يسقط الواقع عن تنجّزه بمرتبة الموافقة القطعيّة.

نعم، بناءً على أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ الجامع يتوجّه الانحلال بوجود المنجّز في أحد الطرفين، بالتفصيل الذي عرفتَ .


(1) بل يأتي نفس هذا البيان ـ أيضاً ـ في فرض حلّ العلم الإجماليّ بالأصل النافي الشرعي في الطرف الثاني، بعد قيام الحجّة على الالزام في الطرف الأوّل، بناءً على علّيّة العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيّة.

(2) راجع المقالات:ج 2، ص 66-67، ونهاية الافكار:القسم الثاني من ج 3، ص251-252.

153

 

 

 

تداخل العلمين في بعض الأطراف

 

التنبيه الخامس: في علاقات العلوم الإجمالية بعضها مع بعض حينما تكون النسبة بين أطراف العلمين عموماً من وجه، أي: أنـّهما يشتركان في بعض الأطراف.

فبالإمكان أنْ يقال: إنـّه إذا تنجّز بعض الأطراف بأصالة الاشتغال بلحاظ علم إجمالي، فهذا يوجب انحلال العلم الإجماليّ الثاني، كما قد يقال في مورد أصالة الاشتغال الثابتة بلحاظ علم تفصيلي في أحد طرفي العلم الإجماليّ: بانحلال العلم الإجماليّ، من قبيل ما لو علم إجمالاً بأنـّه إمـّا لم يُصَلِّ صلاة الوقت الحاضر، أو فاتته صلاة الوقت الماضي، فإنّ صلاة الوقت الحاضر مورد لأصالة الاشتغال بلحاظ العلم التفصيلي بوجوبها، حيث إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراع اليقيني، وليس في المورد أصل مؤمّن.

أمّا الكلام في الأمر الثاني -وهو انحلال العلم الإجماليّ في مورد جريان أصالة الاشتغال في أحد الطرفين بلحاظ العلم التفصيلي- فقد ظهر حاله ممّا مضى، ولم نعقد هذا التنبيه لتفصيل الكلام فيه.

إلاّ أنّ خلاصة الكلام فيه هي: أنـّه تارة يفترض أنّ مورد أصالة الاشتغال لم يكن مجرى لأصل مؤمّن في نفسه، كما في المثال المذكور، وعندئذ يجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارض، وينحلّ العلم الإجماليّ بذلك.

واُخرى يفترض: أنّ مورد أصالة الاشتغال كان في نفسه مجرى لاُصول مؤمّنة سواء فرضت طولية أو عرضية.

وعندئذ إنْ فرض بعض تلك الاُصول مسانخاً للأصل الجاري في الطرف الآخر، وبعضه غير مسانخ له، جرى الأصل غير المسانخ بلا معارض، وانحلّ العلم الإجماليّ بذلك.

وإن لم يكن كذلك، بأن كانت كلّ تلك الاُصول مسانخة للأصل الجاري في الطرف الآخر، أو كانت كلّها غير مسانخة له، لم يجرِ الأصل، ولم ينحلّ العلم الإجماليّ:

154

مثال الأوّل: أعني فرض كون بعض تلك الاُصول مسانخاً لذاك الأصل وبعضها غير مسانخ ـ : ما لو علم إجمالاً بوقوع خلل في إحدى صلاتين؛ إحداهما حاضرة، والاُخرى فائتة، وكانت تجري في كلّ واحدة منهما قاعدة الفراغ، فتتعارض القاعدتان، ونرجع بالنسبة للصلاة الحاضرة إلى أصالة الاشتغال، وبالنسبة للصلاة الفائتة إلى الأصل غير المتسانخ، ولنفرضه أصالة البراءة عن القضاء مثلاً.

ومثال الثاني: ما لو صلّى صلاة الوقت الحاضر بالطهارة الاستصحابية عن الحدث، ثم علم إجمالاً بأنـّه إمـّا لم يكن طاهراً عند صلاته في الوقت الحاضر، أو أنّ صلاة الوقت الماضي كان فيها خلل، فهنايقول الأصحاب: إنـّه بعد تعارض الاستصحاب في هذه الصلاة، وقاعدة الفراغ في الصلاة الماضية، يرجع إلى أصالة الاشتغال في هذه الصلاة، والبراءة عن القضاء في الصلاة الماضية، لكن الصحيح سقوط هذه البراءة أيضاً بالتعارض، كما يظهر وجهه من مراجعة التنبيه الثاني.

هذا، والأصحاب يقولون في جميع هذه الفروض الثلاثة بالانحلال، ويختلفون في وجه الانحلال حسب اختلافهم في وجه الانحلال الحكمي بشكل عامّ، فوجه الانحلال الحكمي بشكل عامّ عند المحقّق العراقي (قدّس سرّه) هو أنـّه إذا وجد منجّز في أحد طرفي العلم الإجماليّ فقد تنجّز به، فالمعلوم بالإجمال على تقدير كونه في هذا الطرف لا يقبل التنجيز بالعلم الإجماليّ؛ إذ هو منجَّز بذاك المنجِّز، ويشترط في منجّزيّة العلم الإجماليّ كون المعلوم بالإجمال قابلاً للتنجز به على كلّ تقدير، فهذا الوجه العامّ طبّقه في المقام أيضاً، وقد مضت منّا فيما سبق مناقشة هذا الوجه.

ووجه الانحلال الحكمي بشكل عامّ عند مدرسة المحقّق النائيني (قدّس سرّه) هو أنّ قوام تنجيز العلم الإجماليّ يكون بتعارض الاُصول، فإذا كان أحد الطرفين مجرى لمنجِّز، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، فيطبّق هذا الوجه في المقام أيضاً، وتحقيق هذا الوجه يظهر بمراجعة التنبية الثاني.

والنتيجة: هي التفصيل بين الفروض الثلاثة بالنحو الذي عرفت.

وأمـّا الكلام في الأمر الأوّل، وهو أنـّه إذا كان أحد أطراف العلم الإجماليّ طرفاً لعلم إجمالي آخر، فهل يوجب هذا انحلاله حكماً بتنجّز أحد أطرافه، أو حقيقةً بواسطة طرفيّة ذاك الطرف لعلم إجماليّ آخر أو لا ؟

فنقول: إن فرض أنّ العلمين متقارنان معلوماً وعلماً، فلا إشكال في عدم

155

انحلال أحدهما بالآخر، كما لو علم بنجاسة الإناء الأبيض أو الأسود، وعلم ـ أيضاً ـ في نفس الوقت بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر في نفس زمان المعلوم الأوّل، فإنّ العلمين عندئذ في عرض واحد، ونسبتهما إلى أطرافهما على حدّ سواء، فلا معنى لانحلال أحدهما بالآخر، وإن شئت فقل: إنّ لدينا علماً واحداً، أو يمكن أن يعبّر عن العلمين بعلم واحد، بنجاسة الإناء الأسود أو الانائين الآخرين، ولا إشكال في منجّزيّته، فهذا من قبيل ما لو علم ابتداءً بأنـّه إمـّا الإناء الأسود نجس، أو الإناءان الآخران نجسان.

وأمـّا إذا فرض أحد العلمين مُقدّماً على الآخر معلوما أو علماً، فهنا نظريات ثلاث:

الاُولى: انحلال ما هو متأخّر معلوماً بما هو متقدّم معلوماً، وهو ما قال به المحقق النائيني (قدّس سرّه)(1).

الثانية: انحلال ما هو متأخّر علماً بما هو متقدّم علماً، من دون أثر للتقدّم المعلومي وتأخّره، وأظنّ قويّاً أنّ هذا ما قال به السيّد الاُستاذ، وإن كان الموجود في الدراسات هي النظرية الاُولى(2).

الثالثة: إنكار الانحلال رأساً في جميع الفروض، وهو التحقيق كما يظهر من خلال الكلام.

أمـّا النظرية الاُولى، فمثّل المحقق النائيني (قدّس سرّه) في مقام بيانها أوّلاً بمثال فرض فيه أحد العلمين مقدّماً على الآخر معلوماً وعلماً؛ ليكون الانحلال فيه أوضح، ويساعد على توضيح المطلب، ثم أفرز تقدّم العلم عن تقدم المعلوم، وعمّم مدّعاه وبرهانه. ونحن نتّبعه في ذلك في مقام بيان مقصوده، ونأتي أوّلاً بالمثال الأوّل، أعني: مثال تقدّم العلم والمعلوم معاً، فنقول: إذا علم إجمالاً في أوّل الظهر، بوقوع قطرة دم في الإناء الأبيض أو الأسود، وبعد مضيّ ساعتين مثلاً علم بأنـّه وقعت الآن قطرة من الدم، إمـّا في الإناء الأسود أو الأحمر، فهذا العلم الإجماليّ الثاني لا ينجّز شيئاً في المقام، لأنـّه ليس علماً بالتكليف على كلّ تقدير، بل علم بشيء على بعض التقادير يكون تكليفاً، وعلى بعض التقادير لا يكون تكليفاً، فإنـّه


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 13-14، واجود التقريرات: ج 2 ص 248- 249.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 237، والمصباح: ج 2، ص 366.

156

على تقدير وقوع القطرة في الإناء الأحمر، أو في الإناء الأسود، مع فرض كون النجس الأوّل هو الأبيض لا الأسود، قد ولّدت القطرة في المقام تكليفاً، لكن على تقدير وقوعها في الأسود، مع كونه هو النجس الأوّل لم تولّد تكليفاً، فليس لنا علم إجمالي بالتكليف، والمنجّز ليس هو مطلق العلم الإجماليّ، وإنـّما هو العلم الإجماليّ بالتكليف، ففي عالم التكليف يكون العلم الإجماليّ في المقام منحلاّ حقيقة.

ثم نأتي إلى صورة إفراز تقدّم العلم عن تقدّم المعلوم، كما لو فرضنا أنـّه علم إجمالاً بعد ساعتين من الظهر بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر من الآن، ثمّ بعد ساعة اُخرى علم بأنـّه من أوّل الظهر كان الإناء الأسود أو الأبيض نجساً، فهنا نقول: إنّ العلم بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر، حينما حصل كان علماً بالتكليف، وكان منجّزاً، لكن بعد حصول العلم بنجاسة الإناء الأسود أو الأبيض سقط ذلك العلم عن التنجيز؛ لأنـّه خرج بقاءً عن كونه علماً بالتكليف؛ لأنـّنا عرفنا الآن أنّ القطرة الواقعة بعد ساعتين من الظهر ـ على تقدير وقوعها في الإناء الأسود ـ لم تؤثّر شيئاً في كونه هو النجس من أوّل الظهر، والعلم الإجماليّ إنـّما يكون منجِّزاً ما دام هو علماً بالتكليف، وإذا خرج عن كونه علماً بالتكليف سقط عن المنجّزية.

وقد ظهر بما ذكر أنّ فرض كون العلم الإجماليّ الثاني متعلّقاً بتكليف آخر من غير سنخ التكليف الأوّل الذي لا يتكرر، خارج عن كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)، ولا يقول فيه بالانحلال، فلو علم أوّلاً بنجاسة أحدهما، ثمّ علم بأنـّه أصبح الآن أحدهما ملكاً لشخص آخر، وحرم شربه من باب حرمة شرب مال الغير، فهنا لا ينحلّ العلم الثاني بالعلم الأوّل؛ لأنـّه علم بتكليف جديد غير التكليف الأوّل، إذ حرمة الغصب حرمة اُخرى، غير حرمة شرب النجس، فهو يعلم بالتكليف على جميع التقادير، حتّى على تقدير كون المغصوب هو الإناء الأسود، مع كونه هو النجس من أوّل الأمر، فإنـّه ـ عندئذ ـ يحرم بحرمة اُخرى، غاية الأمر أنـّه تتجلّى هذه الحرمة في لباس التاكّد.

هذا تمام الكلام في ذكر مقصود المحقّق النائيني (قدّس سرّه).

أقول: إنّ هذا الكلام لا يرجع إلى محصّل في المقام، فلو علم من أوّل الظهر بوقوع الدم في أحد الإنائين: الأبيض أو الأسود، ثمّ علم بعد ساعتين بوقوع قطرة اُخرى من الدم الآن في الأسود أو الأحمر، فماذا يقصد المحقّق النائيني (قدّس سرّه) بعدم كون العلم الثاني علماً بالتلكيف؟

157

إن كان يقصد بذلك أنـّنا لا نعلم بكون هذه القطرة الثانية سبباً للتكليف، فهذا صحيح؛ إذ على تقدير وقوعها في الإناء الأسود، مع كونه نجساً من أوّل الامر ليست سبباً للتكليف، لكنْ لا يشترط في حصول العلم بالتلكيف حصول العلم بكون هذه القطرة سبباً للتكليف، بل حصول العلم بكونها ملازمة للتكليف ـ أيضاً ـ يساوق العلم بالتكليف، ولا إشكال في أنـّنا نعلم بأنّ هذه القطرة ملازمة للتكليف على كلّ تقدير، فإنـّها إمّا واقعة في إناء نجس في نفسه نكون مكلفين بالاجتناب عنه، أو في إناء طاهر في نفسه، فأوجبت تكليفاً بالاجتناب عنه. ولو اشترط في التنجيز حصول العلم بالسببية، للزم الانحلال حتّى بشكّ بدوي، فلو احتمل بدواً نجاسة الإناء الأسود، ثمّ علم إجمالاً بوقوع القطرة في الإناء الأسود أو الأحمر، لا يكون هذا منجّزاً؛ إذ لا نعلم بكون القطرة سبباً للتكليف؛ لأنـّها على تقدير وقوعها في الإناء الأسود، وكونه نجساً من قبل، لا يؤثّر شيئاً. وهذا كما ترى.

وأمـّا إنْ اعترف بحصول العلم بعد ساعتين من الظهر بما يلازم التكليف المساوق للعلم بالتكليف، لكن كان مقصوده أنـّه لم يحصل العلم بحدوث تكليف، فهذا ـ أيضاً ـ صحيح؛ إذ على تقدير وقوع القطرة فيما كان نجساً من قبل، لم يحدث تكليف جديد، لكن لا يشترط في تنجيز العلم الإجماليّ كونه علماً بتكليف حادث.

وهكذا الحال لو كان مقصوده أنـّه ليس هذا علماً بتكليف آخر غير التكليف الأوّل، ونحو ذلك من العناوين، فإنّ المنجّز إنـّما هو العلم بالتكليف بلا حاجة إلى أيّ واحد من هذه العناوين، كعنوان الآخر أو الحادث، أو نحو ذلك، بل يكفي العلم بأصل التكليف، سواء كان حدوثياً أو بقائياً، ولا إشكال في أنـّه بوقوع القطرة الثانية حصل لنا علم بثبوت التكليف: إمـّا بالاجتناب عن الإناء الأسود، أو بالاجتناب عن الإناء الأحمر، غاية الأمر أنـّه يحتمل كون هذا التكليف بقائياً، كما هو الحال ـ أيضاً ـ في المثال الذي ذكرناه من فرض الشكّ البدوي في نجاسة الإناء الأسود، والعلم الإجماليّ بوقوع قطرة بعد ذلك فيه أو في الأحمر؛ إذ التكليف على تقدير وقوعها في الأسود وكونه نجساً من قبل بقائي لا محالة(1).


(1) وكذلك لو كان مقصوده (رحمه الله) أنّ هذا العلم ليس علماً بتكليف آخر، غير التكليف الأوّل، ونحو ذلك من العناوين، قلنا: إنّ المنجّز إنـّما هو العلم بالتكليف، بلا حاجة إلى فرض تعلّق العلم بأيّ واحد من هذه العناوين، كعنوان الآخر أو الحادث أو نحو ذلك.

158

وأمـّا النظرية الثانية، وهي النظرية القائلة: بأنّ الميزان في الانحلال هو تقدّم أحد العلمين بنفسه، فالمدّعى في هذه النظرية: هو أنّ منجّز أحد أطراف العلم الإجماليّ بعلم إجمالي سابق يوجب انحلال العلم الإجماليّ المتأخّر، سواء كان بمعلومه ـ أيضاً ـ متأخّراً أو لا، مثلاً إذا علم في أوّل الظهر بنجاسة الإناء الأبيض أو الأسود، ثمّ علم في أوّل الغروب بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر، سواء كان علماً بالنجاسة من الآن، أو من أوّل الظهر مثلاً، فالعلم الإجماليّ الثاني منحلّ بتنجيز أحد طرفيه من قبل، ومن المعلوم أنّ المدّعى هنا ليس هو الانحلال الحقيقي؛ إذ لا معنى لدعوى الانحلال الحقيقي للعلم الإجماليّ بمجرّد تنجّز أحد طرفيه بعلم إجمالي آخر، وإنـّما المدّعى هو الانحلال الحكمي.

وقد عرفت أنـّه في الانحلال الحكمي يوجد على العموم مسلكان:

أحدهما: مسلك المحقق العراقي (قدّس سرّه): من أنـّه مع تنجّز أحد الطرفين بمنجِّز آخر لا يقبل المعلوم بالإجمال التنجيز بالعلم الإجماليّ على كلّ تقدير، فلا يمكن تأثير العلم الإجماليّ.

والآخر: نظرية مدرسة المحقّق النائيني (قدّس سرّه) : من أنـّه عند تنجز أحد الأطراف لا تتعارض الاُصول، ففي ما نحن فيه يجب أن يكون ما قد يتوهّم من الانحلال على أحد هذين المسلكين:

أمـّا الانحلال على أساس المسلك الأوّل، فيمكن أن يتوهّم في المقام بلحاظ أنّ أحد الطرفين قد تنجّز من السابق بالعلم الأوّل، فلا يقبل التنجّز ثانياً، فلا يكون المعلوم بالعلم الثاني قابلاً للتنجّز به على كلّ تقدير، فيسقط العلم عن التأثير.

لكن التحقيق بعد غضّ النظر عن بطلان هذا المسلك في نفسه: أنـّه غير قابل للتطبيق على ما نحن فيه؛ وذلك لأنّ العلم الإجماليّ في كلّ آن إنـّما يؤثّر التنجيز بوجوده في ذلك الآن، ولا يكون وجوده في الآن الأوّل مؤثّراً للتنجيز في الآن الثاني، ففي وقت الغروب قد اجتمع على الإناء الأسود منجّزان في عرض واحد: أحدهما: العلم الإجماليّ الأوّل بوجوده البقائي، والآخر: العلم الإجماليّ الثاني بوجوده الحدوثي، وليس أحدهما قبل الآخر حتّى يرجَّح في تأثيره على الآخر، فيصبح مجموعهما منجّزاً واحداً لهذا الإناء الأسود، فكأنّ فكرة الانحلال على هذا الأساس مبنيّة على تخيّل أنّ العلم السابق بوجوده الابتدائي نجّز هذا الإناء، فهو منجّز بمنجِّز سابق. وأمـّا توهّم الانحلال على هذا الأساس عند وجود منجِّز تفصيلي في أحد