748

المرجّحات السندية والمرجّحات الدلالية، فالمرجّح السندي لا يأتي في العامّين من وجه؛ لأنّنا لو أردنا إسقاط أحد العامّين بتمامه كان اسقاطه في مادّة الافتراق بلا موجب، ولو أردنا اسقاطه في مادّة الاجتماع فحسب كان هذا معناه التبعيض في السند الواحد، وهذا لا معنى له، وهذا بخلاف المرجّحات الدلالية، فبالإمكان إعمالها في بعض الدلالات دون بعض.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّه يوجد في كلّ نقل لشيء دالّ ودلالة، وقد يكون الدالّ واحداً والدلالة متعدّدة، كما لو قال: (كلّ من كان في البلد فقد خرج) فالدالّ هنا وإن كان واحداً إلاّ أنّه توجد دلالات بعدد من في البلد، والأحكام المترتّبة على النقل والأخبار بعضها مترتّب على الدالّ، من قبيل حرمة الكذب، فلو أخبر كذباً بخروج كلّ من في البلد لم تزدد الحرمة وتنقص بزيادة عدد سكان البلد ونقصانه، وبعضها مترتّب على الدلالة فيتعدّد بتعدّد الدلالة كما في حرمة الغيبة، فإنّ الغيبة تتعدّد بتعدد من أخبر عنه ولو كانت الإخبارات مجموعة في لفظ واحد، والحجّيّة حكم مترتّب على الدلالة لا على الدالّ، والعامّ من وجه وإن كان الدالّ فيه واحداً لكنّ الدلالة متعدّدة، فتسقط حجّيّته بلحاظ مادّة الاجتماع بترجيح معارضه عليه، وتبقى الحجّيّة لمادّة الافتراق باعتبارها دلالة تضمّنية لا تسقط بسقوط الدلالة التضمنية الاخرى عن الحجّيّة، لا دلالةً التزاميّة حتى تسقط بسقوط الدلالة المطابقيّة(1).

أقول: في كلا الكلامين نظر:

أمّا كلام السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ فيرد عليه: أنّه خلط بين دالّين ودلالتين، فنقل الراوي دالّ وله دلالة واحدة، وهي دلالته على كلام الإمام، ثمّ كلام الإمام دالّ آخر وله دلالات عديدة باعتباره يبيّن حكماً كلّياً تحته مصاديق كثيرة، وليس المفروض هو ترجيح أحد كلامي الإمام على كلامه الآخر بمرجّح حتّى يقال: إنّ هذه الأحكام تكون بلحاظ الدلالة، والدلالة متعدّدة، وإنّما المفروض ترجيح نقل أحد الراويين على نقل الآخر، وكلّ من النقلين له دلالة واحدة. فالى هنا استفحل إشكال المحقّق النائيني (رحمه الله).

وأمّا كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) فيرد عليه:

أنّ منهجة البحث غير صحيحة، فليس من الصحيح أن يقال: بما أنّ إسقاط العامّ في مادّة الافتراق بلا موجب، والتفكيك بين مادة الافتراق ومادة الاجتماع غير ممكن. إذن فلا يمكن


(1) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 427 ـ 429.

749

اسقاط هذا العامّ بترجيح العامّ الآخر عليه المعارض له بالعموم من وجه، بل لا بدّ من النظر ابتداءً إلى الأخبار العلاجية، لنرى هل تشمل العامّين من وجه، أو لا؟ فلو فرض شمولها للعامّين من وجه، وفرض عدم إمكان التفكيك بين مادّة الاجتماع ومادّة الافتراق، سقط ـ لا محالة ـ العامّ حتّى في مادّة افتراقه، ولم يكن ذلك سقوطاً بلا موجب، بل هو سقوط بموجب الأخبار العلاجية.

هذا. وتحقيق الكلام في المقام يستدعي ذكر اُمور.

الأوّل: أنّه إذا وقع التعارض بالعموم من وجه بين خبرين، كما لو قال أحدهما: (يجب إكرام العلماء) وقال الآخر: (يحرم إكرام الفسّاق) فالتفكيك بين مادّة الاجتماع ومادّة الافتراق ثبوتاً ممكن؛ وذلك لأنّه في الحقيقة كلّ من الراويين له شهادتان: شهادة إيجابية بالنطق، وشهادة سلبية بالسكوت، فالراوي الأول يشهد بأنّ الإمام قال: (يجب إكرام العلماء) ويشهد في نفس الوقت بسكوته بأنّ الإمام لم يعقّب هذا العامّ باستثناء العلماء الفسّاق منه، والراوي الثاني يشهد بأنّ الإمام قال: (يحرم إكرام الفسّاق) ويشهد في نفس الوقت بسكوته بأنّ الإمام لم يعقّب هذا العام باستثناء العلماء منه. والتعارض إنّما يكون بلحاظ هاتين الشهادتين الأخيرتين، وإذا سقطت إحداهما أمكن فرض عدم سقوط إحدى الشهادتين الأوليين لارتفاع التعارض، فنثبت مادّة الافتراق بأصل العامّ وأمّا مادّة الاجتماع فلم تثبت لسقوط الشهادة بعدم استثنائها.

الثاني: قد عرفت أنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) فصّل بين المرجّح السندي والمرجّح الدلالي، فما هو المرجح السندي، وما هو المرجح الدلالي؟

الذي ينبغي أن يقال في المقام هو: إنّ الترجيح الثابت بالأخبار العلاجية تارةً ينصبّ بحسب لسان الدليل على النقل، واُخرى ينصبّ على المنقول، فإن انصبّ على النقل فهذا ظاهره الترجيح بحسب الصدق والكذب في النقل، وهو الترجيح السندي. وإن انصبّ على المنقول فظاهره الترجيح الفعلي لأحد المنقولين الملتئم؛ لكونه ناظراً إلى قوّة أحد المضمونين في مقابل الآخر ولو من غير جهة الصدق والكذب، ولهذا يمكن أن يكون لدليل الترجيح بذلك إطلاق للخبرين القطعيي الصدور، وهذا بخلاف الترجيح بلحاظ النقل، فإنّه لا يشمل الخبرين القطعيّين.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ الترجيح بالصفات ترجيح سندي على ما يظهر من المقبولة والمرفوعة، ففي المرفوعة يقول: (خذ بما يقول أعدلهما) فنرى أنّه أضاف الترجيح الى القول،

750

وفي المقبولة يقول: (الحكم ما حكم به أعدلهما) بناءً على تفسير ذلك بأنّ الخبر ما نقله أعدلهما.

على أنّ مناسبات الحكم والموضوع ـ أيضاً ـ تقتضي كون الترجيح بالصفات ترجيحاً سنديّاً، فحتّى لو لم يكن الترجيح بحسب ظاهر اللفظ مضافاً الى النقل كنّا نحمله على ذلك، وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة فالذي يظهر من رواية الراوندي أنّه ترجيح دلالي، حيث قال: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه...الخ) فإنّ الحديث عبارة عن المنقول لا عن النقل، فهذا يشمل بإطلاقه الخبرين القطعيي الصدور.

الثالث: هل تشمل المرجحات بحسب مقام الإثبات العامّين من وجه أولا؟(1)

فنقول: إن رواية الراوندي قد ذكرت مرجّحين: موافقة الكتاب، ومخالفة العامة. فإن فرضناهما مرجّحين سنديين فهما لا يجريان في العامّين من وجه، فإنّنا وإن تصورنا ثبوتاً جريانهما في العامّين من وجه بنحو يثبت التفكيك بين مادّة الإجتماع ومادّة الافتراق، وذلك ببيان: أنّ كلاًّ من الراويين له شهادة إثباتية وشهادة سلبية، أي الشهادة بسكوت الإمام عن المخصّص، فيدّعى أنّ الشهادة بالسكوت هي التي تسقط، لكنّ هذا ليس إثباتاً مستفاداً من ظاهر رواية الراوندي، حيث عبّرت بتعبير (الحديث)، ومن الواضح أنّ الحديث ليس معناه السكوت، وإنّما معناه الكلام، فمعنى الرواية هو أنّه حينما ورد عن الإمام كلامان متعارضان قدّم ما وافق الكتاب أو خالف العامّة على الآخر، فإن كان التعارض بينهما بنحو العموم من وجه، فإن فرض سقوط الخبر الآخر بتمامه كان هذا خلاف ظاهر الأخبار العلاجية، فإنّ ظاهرها هو العلاج والإسقاط بمقدار التعارض، ولعلّ هذا هو الذي دعا المحقّق النائيني (رحمه الله)إلى أن يقول: إنّ إسقاط أحد العامّين حتّى بمادّة افتراقه بلا موجب، فإنّ هذا الكلام روحه يرجع إلى أنّ الأخبار العلاجية لا توجب سقوط مادّة الافتراق. وهذا صحيح وإن كان لدينا إشكال في منهجته لطرح الإشكال كما عرفت. وإن فرض سقوط الخبر الآخر في مادّة اجتماعه فقط قلنا: إنّ النقل واحد: إمّا يسقط أو لا يسقط، وليس عندنا نقلان يسقط أحدهما ويثبت الآخر.


(1) تكلّم (رحمه الله) بلحاظ رواية الراوندي فحسب، إلاّ أنّ تطبيق النكات على الروايات الاُخرى بعد معرفتها سهل.

751

وإن فرضناهما مرجّحين دلاليين فأيضاً لا يجريان في المتعارضين بالعموم من وجه بنفس البيان، فلو كان المقصود إسقاط أحد العامّين حتّى في مادّة الافتراق، فهذا خلاف ظاهر الدليل الذي يستفاد منه علاج المعارض وإسقاطه فقط. ولو كان المقصود إسقاط مادّة الاجتماع فأيضاً هذا خلاف ظاهر الدليل المعبِّر بالحديث الظاهر في اسقاط الحديث، والحديث واحد، وليس متعدّداً.

نعم، يمكن أن يدّعى بناءً على الترجيح الدلالي أنّ العرف يتعدّى إلى العامّين من وجهّ؛ إذ كما أن موافقة الكتاب أو مخالفة العامّة تقوّي مضمون ما وافقه المبتلى بالمعارض المباين كذلك تقوّي مضمون ما وافقه في مادّة الاجتماع عند التعارض بالعموم من وجه، إلاّ أنّ الجزم بتعدّي العرف لا يمكننا.

الرابع: هل يحتاج العمل بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة في العامّين من وجه إلى شمول الأخبار العلاجية لذلك، أو لا؟

الصحيح: عدم الحاجة الى الاخبار العلاجيّة.

أمّا في موافقة الكتاب فلأنّ نفس أدلّة طرح ما خالف الكتاب تدلّ على طرح المخالف، والموصول فيه مطلق يشمل كلّ ما خالف الكتاب حديثاً كان، أو مذهباً، أو إطلاقاً، أو عموماً، أو غير ذلك، والمفروض في المقام أنّ عموم أو إطلاق أحد الخبرين خالف الكتاب، فسقط عن الحجّيّة، فيبقى الموافق بلا معارض، فإنّه لم يدلّ دليل على تخصيص تلك الأدلّة، إلاّ نفس رواية الراوندي التي لا نخصّصها إلاّ بمقدار الخبر المخالف للكتاب، بمثل التقييد غير المبتلى بالمعارض على تقريب مضى في محلّه، والمفروض أنّه فيما نحن فيه مبتلى بالمعارض(1).

وأمّا في مخالفة العامّة فلأنّ نفس التقريب الذي مضى منّا لتقديم مخالف العامّة على القاعدة يأتي في المقام.

وقد كان ذاك التقريب عبارة عن أن العرف بعد أن يعجز عن الجمع الدلالي في مرتبة المداليل الاستعمالية ينتقل إلى الجمع الدلالي في مرتبة المداليل الجدّية لدى التمكن من الجمع في مرتبة الجدّ، فمثلا إذا أخذنا بطائفتين من الأخبار دلّت إحداهما بالصراحة على طهارة


(1) قد يقال: إنّ ما دلّ على جواز تخصيص وتقييد الكتاب بخبر الواحد صار قرينة عرفية على أنّ روايات طرح ما خالف الكتاب تقصدبها المخالفة التي هي أشدّ من مثل المخالفة بالتخصيص والتقييد، وهي المخالفة التباينيّة، ولا يختلف في ذلك إذن بين أن يكون المخالف مبتلى بالمعارض أو لا، ولا بين فرض إمكانيّة الجمع العرفي بينه وبين الكتاب، كما في الأخصّ مطلقاً منه، وعدم إمكانيّة ذلك، كما في فرض نسبة العموم من وجه بينه وبين الكتاب.

752

الكتابي، والاُخرى بالظهور على نجاسته، فمقتضى الجمع في مرتبة المدلول الاستعمالي حمل دليل النجاسة على التنزيه، ومقتضى الجمع في مرتبة المدلول الجدّي حمل أخبار الطهارة على التقيّة، حيث إنّ أخبار الطهارة إنّما هي ظاهرة في الجدّ، لكنّ أخبار النجاسة صريحة في الجدّ باعتبار عدم احتمال عرفي للتقيّة فيها، فإنّ العامّة متّفقون على طهارة الكتابي. نعم، احتمل صاحب الحدائق (رحمه الله) ورود بعض الأخبار المخالفة للعامّة للتقيّة بأن يكون الهدف منها إيجاد الاختلاف في الشيعة لأجل التقيّة(1)، إلاّ أنّ هذا احتمال عقلي في مقابله قرائن تفيد الاطمئنان بالخلاف؛ إذن فإدلّة النجاسة صريحة عرفاً في الجدّ، فمقتضى الجمع في مرتبة الدلالة الجدّية هو حمل أخبار الطهارة على التقية، إلاّ أنّه مع إمكانية الجمع بينهما بحمل أخبار النجاسة على التنزيه لا تصل النوبة إلى حمل أخبار الطهارة على التقية.

وفي المتعارضين بالعموم من وجه ـ أيضاً ـ نقول نفس الكلام، أي: إنّه بعد عدم إمكان الجمع الدلالي بينهما في مرتبة المدلول الاستعمالي يحمل العرف الموافق منهما للعامّة على التقية، ويحمل الخبر الآخر المخالف للعامّة على الجدّ.

وقد مضى منّا أنّهم ذكروا في الجمع بالحمل على التقية إشكالا، ولكنّه لو تمّ فإنّما هو في المتخالفين بالتباين، ولا يأتي في العامّين من وجه.

وهو: أنّنا في سائر موارد الجمع الدلالي نقول: إنّ دليل الحجّيّة العامّ إنّما دلّ على الأخذ بكلّ خبر بعد لحاظه جميع قرائنه المتّصلة والمنفصلة، فإذا كان بين الخبرين المتعارضين جمع دلالي كما في العامّ والخاصّ لم يقع أيّ تعارض بين الحجّيّتين؛ لأن إطلاق دليل الحجّيّة إنّما دلّ على حجّيّة العامّ بعد تحكيم كلّ ماله من قرائن متّصلة ومنفصلة، والمفروض أنّ الخاصّ قرينة منفصلة، فدليل الحجّيّة إنّما دلّ على حجّيّة العامّ فيما عدا مقدار الخاصّ، وفي طرف الخاصّ ـ أيضاً ـ إنّما دلّ إطلاق دليل الحجّيّة على حجّيّة الخاصّ بعد تحكيم القرائن فيه، إلاّ أنّه لم ترد قرينة على خلافه، فصار الخاصّ بمدلوله الأوّلي حجّة، ولا تعارض بين حجّيّة العامّ فيما عدا مورد الخاصّ وحجّيّة الخاصّ، كما هو واضح، ولهذا لم تسرِ المعارضة من الدلالة إلى السند. وأمّا في مورد الحمل على التقيّة فإذا حمل أحد الخبرين على التقيّة وعدم الجدّ كان معنى ذلك سقوطه عن الحجّيّة راسأ؛ إذ لا معنى لحجّيّة ما لا يكون إلاّ كلقلقة اللسان. إذن فهو مع معارضه لا يجتمعان في الحجّيّة، أي: إنّه استحكم التعارض في السند.


(1) راجع الحدائق: ج 1، ص 5 ـ 8 بحسب طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي لجماعة المدرّسين بقم.

753

وهذا الإشكال كما ترى لا يأتي في العامّين من وجه؛ لأنّ ما حمل على التقيّة بقيت له مادّة الافتراق.

وعلى أيّ حال، فهذا الإشكال غير صحيح حتّى في المتعارضين بالتباين على ما مضى بيانه فيما سبق.

ثمّ أنّ العاميّن من وجه قسّمه السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ثلاثة أقسام، فقد يكون كلاهما بالوضع، واُخرى كلاهما بمقدّمات الحكمة، وثالثة: أحدهما بالوضع والأخر بمقدمات الحكمة.

فإن كانا بالوضع فهو القدر المتيقّن من تطبيق المرجّحات عليه بناءً على ثبوتها في العامّين من وجه.

وإن كان أحدهما بالوضع والآخر بالإطلاق فقد يجمع بينهما بتقديم الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي، وقد تقدّم الكلام في ذلك.

أمّا لو لم يقدّم الظهور الوضعي على الإطلاق في مورد أو مطلقاً، التحق بالإطلاقين اللذين نبيّن الآن حكمهما.

وإن كان كلاهما بالإطلاق فقد استشكل السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في تطبيق المرجّحات عليه، والوجه في ذلك: أن المرجّحات إنّما ثبتت في الحديثين المتعارضين، والإطلاق ليس حديثاً، وإنّما هو قرينة عقلية تثبت بلحاظ سكوت المتكلّم(1).

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ هذا الإشكال غير وارد.

وهذا الإشكال يمكن أن يقرّب بتقريبين مختلفين وكلاهما غير صحيح:

التقريب الاول: أن يكون المقصود: أنّ الإطلاق إنّما يستفاد بالسكوت، والحديث عبارة عن الكلام لا عن السكوت.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ المقصود بالحديث هنا ما يعمّ نقل كلّ ما هو حجّة عن الإمام، سواء كان كلاماً أو لا، ولذا نعمل الترجيحات بين الخبرين الناقلين لفعل الإمام، أو تقريره، أو بين خبرين: أحدهما ينقل الكلام والآخر ينقل الفعل مثلا(2).


(1) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 430.

(2) على أنّ السكوت يعتبر عرفاً حيثية تعليلية لدلالة الكلام على الإطلاق.

754

نعم مضى منّا أنّ التفكيك بين أصل الكلام والسكوت بإيقاع التعارض والترجيحات بين السكوتين دون أصل الكلامين غير عرفي، فإنّ الحديث عبارة عن الكلام، وكان مقصودنا من ذلك أنّ السكوت الذي ليس هو الحديث بنفسه، وإنّما هو مندكّ في ضمن الكلام الذي هو الحديث الأصلي ليس التفكيك بينه وبين الكلام عرفياً، وهذا غير مرتبط بما نحن فيه فلا يتوهم التهافت بين ما نقوله هنا وما قلناه هناك.

وثانياً: أنّه لعلّه يمكن إسراء الإشكال ببعض مراتبه إلى العامّين بالوضع؛ وذلك لأن التعارض والترجيح في الحقيقة إنّما هو بلحاظ الدلالة التصديقيّة، لا التصورية، والدلالة التصديقيّة بإرادة العموم إنّما تقوم على أساس سكوته عن التخصيص المتصل، لا على أساس وضع أداة العموم فحسب، فرجع التعارض مرّةً اُخرى إلى ما بين السكوتين، فلعلّ الإشكال يسري إلى العامّين بالوضع، بل إلى غير ذلك أيضاً.

وثالثاً: أنّه لو لم تشمل رواية الراوندي العامّين من وجه حينما يكون العموم بالإطلاق كفانا مقتضى القاعدة، فإنّنا قد وضحّنا أنّ الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة يثبت بمقتضى القاعدة من أدلّة إسقاط مخالف الكتاب، ومن الجمع العرفي، بالحمل على التقيّة. وهذا الوجهان يأتيان في المطلقين.

التقريب الثاني: أن يكون المقصود: أنّ الإطلاق ليس ظهوراً مستفاداً من كلام الإمام أو سكوته، وإنّما هو دلالة عقليّة، فهي أجنبية بتمام المعنى عن الحديث المنقول من الإمام، والترجيحات إنّما هي للإحاديث، لا للبراهين العقلية.

وهذا التقريب أوضح بطلاناً من التقريب الأوّل؛ إذ لا إشكال في أنّ الأطلاق ومقدّمات الحكمة ـ في الحقيقة ـ عبارة عن تحليل حال المتكلم، وتوضيح ظهور حاله في أنّه يبيّن تمام مرامه بنفس خطابه، ولهذا يفهم الإطلاق من كلام المتكلّم كلّ إنسان عرفي وإن لم يكن يعرف تلك التحليلات العقلية، على أنّه لو لم يتمّ هذا جاء الترجيح بموافقة الكتاب بمقتضى القاعدة؛ لأنّ ما دلّ على إسقاط ما خالف الكتاب عامّ يشمل كلّ ما خالف الكتاب، سواء كان حديثاً، أو كان قرينة عقليّة.

ثمّ إنّ هذا الإشكال وإن كان ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في العامّين من وجه، لكنّه يأتي بنفس التقريب مع الأجوبة التي عرفتها في المتباينين أيضاً.

هذا، وقد وقع ـ أيضاً ـ سنخ هذا الإشكال في المخالفة لإطلاق الكتاب، فيقال: إنّ المخالفة لإطلاق الكتاب ليست مخالفة للكتاب، وبناءً على ذلك يشكل الترجيح بموافقة الكتاب إذا

755

كانت الموافقة والمخالفة بالنظر إلى الإطلاق، وقد مضى منّا فيما سبق التحدّث عن هذا الإشكال وجوابه.

 

 

756

 

 

 

دعوى تقدّم المرجّح الصدوري على المرجّح الجهتي:

 

الأمر الخامس: في أنّه هل هناك تقديم للمرجّح الصدوري على المرجح الجهتي، كما يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم(قدس سره)(1)، أو لا؟

فنقول: تارة نفرض أنّ هناك دليلا واحداً مشتملا على كلا المرجّحين مع ترتيب بينهما، واُخرى نفرض أنّ كلاّ من المرجّحين مذكور في دليل خاصّ، فلم يعرف الترتيب بينهما من المداليل اللفظية للدليلين، وثالثة نفرض أنّ الدليل لم يذكر المرجّح الجهتي ولا المرجّح الصدوري، وإنما ذكر الدليل أنّه عند تعارض الخبرين لابد من تقديم أقواهما، فكلّ مزيّة توجب الأقوائية تصبح بمقتضى هذا الدليل مرجّحة.

وموقفنا من مسألة تقديم المرجح الصدوري على الجهتي يختلف في كل فرض من هذه الفروض منه في الفرض الآخر:

أمّا في الفرض الأوّل، فمن الواضح أنّه لا موضوع لهذا البحث أصلا؛ إذ المفروض أنّ نفس دليل الترجيح قد تكفّل ببيان الترتيب بين المرجّحين، فنأخذ بأيّ ترتيب دلّ عليه الدليل.

وأمّا في الفرض الثاني، فهنا قد يقال بتقديم المرجّح الصدوري بطبعه على الجهتي باعتبار أنّ الجهة فرع الصدور مثلا.

وهنا نقول: إنّنا تارةً نفرض أنّ مصبّ الترجيح بحسب ما يستظهر من دليل الترجيح الجهتي هو الجهة، ومصبّ الترجيح في المرجّح الصدوري هو الصدور، واُخرى نفرض أنّ مصبّ الترجيح فيهما معاً هو الصدور، وإنما الفرق بينهما هو أنّ نكتة الترجيح في المرجّح الصدوري كامنة في جانب الصدور، وفي المرجّح الجهتي كامنة في جانب الجهة، فهي نكتة جهتيّة أصبحت حيثيّة تعليليّة للترجيح في الصدور.

وهناك تقريبان في كلماتهم لإثبات تقديم المرجّح الصدوري بطبعه على الجهتي. الأوّل منهما يختصّ بما لو فرض أنّ مصبّ الترجيح الصدوري هو الصدور، ومصبّ الترجيح الجهتي هو الجهة. والثاني منهما يشمل حتّى مالو فرض مصبّهما معاً هو الصدور:


(1) راجع الرسائل ص 468 ـ 469 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

757

أمّا التقريب الأوّل، فهو: أنّ المرجّح الجهتي اُخذ في موضوعه الفراغ عن الصدور، حيث إنّ الكلام بعد الفراغ عن صدوره من الإمام يمكن أن يقال: إنّه صدر بداعي الجدّ أو التقيّة، ولو لم يكن صادراً منه فلا معنى لكونه بداعي الجدّ أو التقية. وإذا اُخذ في موضوعه الصدور فالمرجّح الصدوري الذي يحكم في مرحلة الصدور يكون حاكماً عليه، وحينما ينفى الفراغ عن صدور أحد الخبرين يكون ذاك نفياً لموضوع الترجيح الجهتي.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّ الفراغ عن الصدور يجب أن يفترض ـ إن قيل به ـ في خصوص الخبر المخالف للعامّة، لا الخبر الموافق لهم؛ إذ الخبر الموافق غاية الأمر فيه أنّه لا يثبت صدوره عن جدّ، وهذا غير موقوف على الفراغ عن صدوره، لا أنّه يثبت كونه تقيّةً حتّى يتوقّف على الفراغ عن صدوره.

ومعنى الفراغ عن الصدور ـ الذي إن قيل به فإنّما يقال في الخبر المخالف ـ أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يقصد بذلك إحراز الصدور، بأن يكون قد اُخذ في موضوع الترجيح الجهتي إحراز صدور الخبر المخالف، وعندئذ إن فرض تساويهما من حيث المرجّحات الصدورية فالخبر المخالف للعامّة نحرز صدوره، لا بدليل الترجيح الجهتي، فإنّ دليل أيّ حكم لا يحقّق موضوع ذلك الحكم، بل بدليل حجّيّة خبر الثقة العامّ. وهذا الدليل لا يشمل الخبر الأخر الموافق للعامّة؛ لأنّ إحراز صدوره لغو؛ إذ حتّى لو كان صادراً يرجّح عليه الخبر المخالف بالترجيح الجهتي.

وعلى أيّ حال فالخبر المخالف في المقام لو خلّينا نحن وخصوص دليل الترجيح الجهتي فقط لما أمكننا إثبات حجّيّته؛ لأنّ دليل الترجيح الجهتي قد اُخذ ـ حسب الفرض ـ في موضوعه إحراز الصدور، فهو لا يحقّق موضوعه، ولو خلّينا نحن وخصوص دليل حجّيّة خبر الثقة فقط من دون لحاظ الترجيح لما أمكننا إثبات حجّيّته أيضاً، لمكان التعارض والتساقط، فكلّ من دليلي الحجّيّة العامّ والترجيح يكمّل الآخر، ويثبت بمجموعهما حجّيّة الخبر المخالف.

وإن فرض أنّ الخبر الموافق للعامّة وجد فيه المرجّح الصدوري فدليل الترجيح الصدوري يلغي التعبّد بصدور الخبر المخالف، فلا يمكن إحراز صدوره لا بدليل الترجيح الجهتي كما هو واضح، ولا بدليل الحجّيّة العامّ؛ لأنّه مخصّص بدليل الترجيح الصدوري الذي يلغي التعبّد بصدور الخبر المخالف. إذن فلا يثبت إلاّ صدور الخبر الموافق، فيقدّم الترجيح الصدوري على الترجيح الجهتي؛ لأنّ الترجيح الجهتي قد انتفى موضوعه بالترجيح الصدوري، فثبتت حكومة المرجّح الصدوري على المرجّح الجهتي.

758

إلاّ أنّ هذا إنّما يتمّ لو ثبت كون المأخوذ في موضوع الترجيح الجهتي هو الفراغ عن الصدور بهذا المعنى الأوّل.

الثاني: أن يقصد بذلك واقع الصدور، بأن يكون قد اُخذ في موضوع الترجيح الجهتي كون الخبر المخالف صادراً واقعاً، وعندئذ إن فرض تساويهما من حيث المرجّحات الصدورية أثبتنا صدور الخبر المخالف بدليل الحجّيّة العامّ، وهو لا يشمل الخبر الموافق للغويّة، وإن كان الخبر الموافق مشتملا على الترجيح الصدوري فعندئذ يجب أن نرى أنّ مفاد المرجّح الصدوري هل هو التعبّد بعدم صدور الآخر، أو هو نفي التعبّد بصدور الآخر؟ فإن كان الأوّل فدليل المرجّح الصدوري بنفسه ينفي موضوع الترجيح الجهتي؛ لأنّه نفى صدور الخبر الآخر المخالف للعامّة. وإن كان الثاني فدليل المرجّح الصدوري غاية ما صنع أنّه نفى التعبّد بصدور الخبر الآخر المخالف للعامّة، ونضمّ إليه استصحاب عدم صدوره، فبذلك ينفى موضوع المرجّح الجهتي، فالنتيجة بناءً على التفسير الثاني للفراغ عن الصدور ـ أيضاً ـ هي نتيجة الحكومة.

الثالث: أن يقصد بذلك كون الخبر في نفسه تامّ الملاك للحكم بصدوره، فدليل المرجّح الجهتي يرجع إلى قضية شرطية: شرطها كون الخبر المخالف تامّ الملاك في نفسه، بأن يكون خبر ثقة، جزاؤها إسقاط أصالة الجهة في الخبر الموافق، وعندئذ فلا يمكن نفي موضوع المرجّح الجهتي بوجه من الوجه، فإنّ موضوعه وهو كون الخبر تامّ الملاك في نفسه، وكونه خبر ثقة ثابت قطعاً، وليس هناك ما ينفيه ولو تعبّداً وتنزيلا مثلا، وعندئذ فالمرجّح الصدوري والجهتي في عرض واحد.

إذا عرفت هذا قلنا: إنْ فرضت قرينة خاصة في دليل المرجّح الجهتي تدلّ على فرض الفراغ عن صدور الخبر المخالف بأحد المعنيين الأوّلين فهو، وإلاّ فنفس طبيعة كون المرجّح جهتياً لا يقتضي تقييداً زائداً على الفراغ عن كونه في نفسه تامّ الملاك للحكم بالصدور، فلا يثبت تقديم أحد المرجّحين على الآخر.

وأمّا التقريب الثاني، فحاصله: أنّه فرق بين المرجّح الجهتي والمرجّح الصدوري، فالمرجّح الصدوري مفاده ترجيح أحد الخبرين لنكتة استحكام فيه، وهيّ الأصدقية مثلا. وهذا الاستحكام ثابت، سواء فرض له معارض أو لا، فإذا كان له معارض قدّم على معارضه لأجل ما فيه من الاستحكام. وأمّا المرجّح الجهتي فهو يقدّم أحد الخبرين صدوراً أو جهةً لنكتة وهن في الخبر الآخر، وتلك النكتة هي أنّ موافقة الخبر الآخر للعامّة جعلت أمارةً على التقيّة، إلاّ أنّ هذه الأماريّة لا تكون في خبر موافق للعامّة من دون معارض، ولذا

759

لا يحمل كلّ خبر موافق للعامّة على التقية، وإنّما هي في خصوص الخبر الموافق للعامّة المبتلى بالمعارض.

فتحصّل من هذا الكلام مجموع مقدّمتين:

الاُولى: أنّ مرجع المرجّح الجهتي إلى جعل موافقة العامّة أمارة على التقية.

والثانية: أنّ هذه الأمارية مختصّة بصورة التعارض. ويستنتج من ذلك: أنّ كلّ ما يحلّ التعارض في مرتبة سابقة يرفع موضوع هذا المرجّح، إذن فالمرجّح الصدوري يتقدّم عليه.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ كلتا المقدّمتين غير صحيحة:

أمّا الأولى، فلاحتمال كون الترجيح هنا ـ أيضاً ـ بنكتة استحكام الخبر المخالف، وشدّة إحكامه، وعدم تطرّق احتمال التقيّة فيه، وهذا نكتة مطلقة ثابتة حتّى عند عدم التعارض، ولا قرينة على أنّ النكتة أماريّة موافقة العامّة على التقيّة.

وأمّا الثانية، فبعد فرض تسليم أنّ النكتة أمارية موافقة العامّة على التقيّة نقول: إنّ هذه الأمارية وإن لم تكن مطلقة إلاّ أنّها مقيّدة بالمعارضة بلحاظ دليل الحجّيّة الاولى، فهي فرع التعارض بلحاظ ذاك الدليل، فرفع التعارض بلحاظ دليل ثانوي اسمه دليل الترجيح الصدوري ليس رافعاً لموضوعها، وإن شئت قلت: إنّ القدر المتيقّن من تقييد هذه الأمارية إنّما هو تقييدها بالمعارضة بلحاظ دليل الحجّيّة الاُولى، ولا قرينة على التقييد الزائد، وهي المعارضة بلحاظ كلّ دليل.

وأمّا في الفرض الثالث، وهو ما لو دل الدليل على ترجيح ما هو الأقوى من الخبرين المتعارضين فعندئذ كلّ ما ذكرناه في الفرض الثاني لا يأتي هنا، وإنّما يجب أن نلحظ في المقام حساب الاحتمالات، فمثلا إذا كان أحد الخبرين صادراً من الأصدق لكنّه موافق للعامّة، والخبر الآخر صادراً من غير الأصدق لكنه مخالف للعامة، فلا بدّ من ملاحظة درجة احتمال الكذب في خبر غير الأصدق مع درجة احتمال الجامع بين الكذب والتقيّة في خبر الأصدق، فأيّهما كان أقوى كان الخبر الآخر هو المقدّم، وهذا يختلف باختلاف الموارد.

هذا تمام ما أردنا تدوينه في مبحث التعادل والتراجيح، وبه تمّ الفراغ من تدوين القسم الثاني من أبحاث الاُصول المسمّاة بمباحث الاُصول العقليّة تقريراً لأبحاث سيدنا الاُستاذ آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)، وكان الفراغ من التدوين المجدّد لما سجلته عن مجلس درس سيدنا الاستاذ(قدس سره) في اليوم الرابع من جمادى الاُولى من سنة 1414 الهجرية القمرية في قم المقدّسة

والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.