512

وارتعدت فرائصهم، ووجلت قلوبهم، وكان الحسين(عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت، فقال لهم الحسين(عليه السلام): صبراً بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة(1) فأ يّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ ! وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنَّ أبي حدّثني عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنَّ الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم. ما كَذبت ولا كُذبت»(2).

وقد ورد في الصحيفة السجاديَّة عن إمامنا زين العابدين: « ... واجعل لنا من صالح الأعمال عملاً نستبطئ معه المصير إليك، ونحرص له على وشك اللحاق بك، حتّى يكون الموت مأنسنا الذي نأنس به، ومألفنا الذي نشتاق إليهِ، وحامَّتنا التي نحبُّ الدنو منها...»(3).

ولا ينافي تمنِّي الموت وحبّه بهذا المعنى ما ورد في بعض الروايات من النهي عن تمنِّي سرعة حلول الموت، وذلك من قبيل المرسلة الواردة في دعوات الراوندي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لاتتمنُّوا الموت؛ فإنَّ هول المطَّلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة إلى دار الخلود»(4) فإنَّ أصل حبِّ الموت يجتمع مع عدم تمنِّي اقترابه حينما يكون الأوَّل بروح لقاء الله، أو لقاء ثوابه. والثاني بروح الإكثار من ثواب الله، أو من مرضاته. وقد ورد في الأدعية


(1) الظاهر أنّ الصحيح: (النعيم الدائم) أو (النعم الدائمة).

(2) البحار 6 / 154 و 44 / 297.

(3) الصحيفة السجاديَّة، الدعاء الأربعون.

(4) البحار 6 / 138.

513

المرويَّة عنهم(عليهم السلام) الدعاء بطول العمر، وذلك من قبيل ما ورد في بعض أدعية ليالي شهر رمضان: وأن تجعل فيما تقضي وتقدّر أن تطيل عمري في خير وعافية(1).

وخير دعاء ندعو به لأنفسنا في هذا المضمار ما عن إمامنا سيّد الساجدين (عليه السلام): «...عمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليَّ، أو يستحكم غضبك عليّ...»(2).

وبهذه المناسبة أروي قِصَّة منقولة عن المرحوم آية الله الحاج آقا حسين القمِّي(رحمه الله)، فقد رُوي أنَّه حينما أحسَّ بقرب انتهاء مرجعيَّة الشيعة إليه طلب من عدد من علماء النجف الأشرف وأكابرهم أن يجتمعوا إليه في الحرم الشريف، فجمعهم في الإيوان تحت ميزاب الذهب، وقال لهم: إنِّي جمعتكم هنا لكي تؤمِّنوا على دعائي، فإنَّ المرجعيَّة كادت أن تنتهي إليَّ، ثُمَّ قال: اللَّهمَّ إن كان انتهاء المرجعيَّة إليَّ سيضرّ بديني، فاقبضني إليك. وطلب منهم أن يؤمِّنوا على هذا الدعاء، فلم يؤمِّنوا عليه، وانفضَّ المجلس، ثُمَّ التقى بهم بعد ذلك وقال لهم: ألستم تؤمنون بأ نّني فقيه ؟ فإنِّي أفرض عليكم بحكم ولاية الفقيه أن تستجيبوا لي فيما أردته منكم، فجمعهم مرَّة أُخرى في المكان الشريف، ودعا بنفس الدعاء، وأمَّنوا على دعائه. وانتهت زعامة الشيعة إليه، ولكنَّه لم يعش إلاّ فترة يسيرة، ثُمَّ تُوفِّي رضوان الله تعالى عليه.

وقيل: سُئل آية الله العظمى السيّد الخوئي(رحمه الله) ماذا رأيت من الحاج آقا حسين القمِّي حتّى أصبحت من مخلصيه ومتعلِّقيه ؟

فأجاب: أنَّ هذا الرجل قد صدَّق حقيقةً بيوم الحشر.

فقيل له: أفليس الآخرون مصدِّقين بيوم الحشر ؟ !


(1) مفاتيح الجنان المطبوعة بخط طاهر خويش نويس: 183.

(2) دعاء مكارم الأخلاق، وهو الدعاء العشرون من الصحيفة السجادية.

514

فقال: بلى، ولكن الأمر ذو درجات، وكأنَّ إيمان الحاج آقا حسين القمِّي بذلك إيمانٌ عن مشاهدة وحسّ.

الثانية: من علامات حبِّ الله أن ينغمر في طاعة الله، ويبتعد عن معصيته، كما مضى في البيتين المرويين عن الصادق(عليه السلام)، وكما مضى في الآية الشريفة: ﴿قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ...﴾(1) فإنَّ مَنْ يطيع الله طمعاً في الثواب، أو خوفاً من العقاب، قد تغلب عليه المغريات، أو تضعف نفسه أمام الشهوات، فيغلبه الهوى، ويرجّح كفة اللذائذ العاجلة على النعيم الآجل، أو على الاحتراز من العذاب الآجل. أمَّا الذي ذاق طعم محبَّة الله فلا شيء أطعم عنده من تحصيل رضاه، حتّى ولو اجتمعت عليه المغريات جميعاً.وسلام الله على إمامنا الذي قال: «... والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ...»(2).

نعم، إنَّ مَنْ ذاق طعم محبَّة الله إلى حدّ العشق والهيام، أصبح معصوماً من الذنوب ما دام كذلك، ولذا ورد في دعاء كميل: «... واجعل لساني بذكرك لهجا، وقلبي بحبِّك متيَّما...» (يعني: معبَّداً مذلَّلاً).

ولا يفوتني أن أُشير إلى أنَّ الإيمان بالجنَّة والنار لو وصل إلى مستوى « ... فهم والجنَّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ...»(3) كان ـ أيضاً ـ موجباً للعصمة من الذنوب ما دام كذلك. وسلام الله على إمامنا الذي قال لأخيه: «... ثكلتك الثواكل يا عقيل ! أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرُّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ! أتئنُّ من الأذى


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 31.

(2) نهج البلاغة: 473، رقم الخطبة: 224.

(3) خطبة المتقين في نهج البلاغة: 410، رقم الخطبة: 193.

515

ولا أئنُّ من لظىً ؟ !...»(1).

وقال سلام الله عليه: «والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً وأُجرّ في الاغلال مصفّداً أحبّ إليَّ من أن ألقي الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها ؟ !...»(2).

الثالثة: من علامات حبِّ الله الالتزام بقيام الليل وصلاة الليل؛ فإنَّ المحبَّ يحبُّ خلوة حبيبه. ونحن نعلم أنَّ ظلام الليل، وسكون الأجراس والأنفاس يساعدان على تجمُّع الحواسّ، والقدرة على الاختلاء بالله سبحانه.

وقد فُسِّرت الخلوة بمعنى: تفرُّد العبد في موضع يخلو فيه من جميع الشواغل ممّا سوى الله من المحسوسات الظاهرة والباطنة، ويصرف فيه همَّته ونيَّته إلى الإقبال على الله والتبتُّل إليه بالكلِّية، فيحصل له الأُنس به، والوحشة من غيره(3)وفُسِّرت ـ أيضاً ـ بمعنى: محادثة السِّر مع الحقِّ حيث لا أحد ولا ملك(4).

وقد ورد في الدعاء السابع والعشرين للصحيفة السجاديَّة: « ... وفرِّغهم عن محاربتهم(5) لعبادتك، وعن منابذتهم للخلوة بك؛ حتّى لا يُعبد في بقاع الأرض غيرك، ولا تُعفَّر لأحد منهم جبهةٌ دونك...».

وقيل لبعض العُبَّاد: «ما أصبرك على الوحدة فقال: ما أنا وحدي، أنا جليس الله عزَّوجلَّ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه، وإذا شئت أن أُناجيه صلَّيت»(6).


(1) نهج البلاغة: 472 ـ 473، رقم الخطبة: 224.

(2) المصدر السابق: 471 ـ 472.

(3) رياض السالكين للسيِّد علي خان 4 / 211.

(4) المصدر السابق.

(5) أي: أغنِ المسلمين عن محاربة الأعداء.

(6) المصدر السابق: ص 212.

516

وليس الهدف من نقلنا لهذه الكلمات التشجيع على ترك الأعمال الاجتماعيَّة والسياسيَّة في سبيل الإسلام، وإنَّما الهدف مجرّد التنبيه على لذَّة الخلوة بالله التي لابدَّ منها في بعض آناء الليل أو النهار، والليل أنسب. وقد مضى منَّا في الأبحاث السابقة أنَّ الإسلام نظام ذو أبعاد: فمنها بُعد العرفان والانقطاع إلى الله والاختلاء به، ومنها بُعد القضايا السياسيَّة والاجتماعيّة، ولا يصحُّ حذف بعضها من برنامج الحياة في سبيل بعض.

وفي الحديث(1) عن إمامنا الصادق(عليه السلام) قال: «كان فيما ناجى الله ـ عزَّوجلَّ ـ به موسى بن عمران أنَّه قال: يا ابن عمران، كذب من زعم أنّه يحبُّني فإذا جنَّه الليل نام عنِّي، أليس كلُّ محبٍّ يحبُّ خلوة حبيبه ؟ ! ها أنا ذا يا ابن عمران، مطَّلع على أحبَّائي، إذا جنَّهم الليل حوَّلت أبصارهم من قلوبهم، ومثَّلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلِّموني عن الحضور، يا ابن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع في ظلم الليل، وادعني، فإنَّك تجدني قريباً مجيباً».

ومن الطريف أنَّ الله ـ تعالى ـ عبَّر في كتابه عن تعامله مع المؤمنين بالشراء ؛ إذ قال: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...﴾(2) في حين أنَّه عبَّر في هذا الحديث القدسي عن تعامله مع المحبِّين بالهبة؛ إذ قال: «... هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع في ظلم الليل...».

ولعلَّ هذا إشارة إلى الفارق الكبير بين درجة الإيمان ودرجة الحبِّ، فالمؤمن الذي لم يصل بعدُ إلى مستوى الحبِّ الكامل يتعامل مع الله بالبيع والشراء، فيعطيه نفسه وماله في مقابل الجنَّة، أمَّا المحبُّ فيهب لله ما لديه من دون توقُّع العوض.


(1) البحار 13 / 329 ـ 330، و 70 / 14 ـ 15، و 87 / 139.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 111.

517

وقد قيل: إنَّ أحد العُشَّاق بالعشق المجازي الذي يقع فيما بين الناس حصل من معشوقه على وعد الوصال في ليلة معيَّنة، وانتظره العاشق بُرهة من الليل إلى أن غلب عليه النوم فنام، ثُمَّ جاءه المعشوق فوجده نائماً، فجعل في جيبه عدداً من الجوز وانصرف، ثُمَّ أصبح الصباح، وقد انحرم العاشق من لُقيا المعشوق، فأرسل إليه: أنَّك لماذا اخلفت الوعد، ولم تزرني الليلة الماضية؟ فأجابه المعشوق: أ نِّي قد زرتك، ولكنِّي وجدتك نائماً، وشاهد صدق كلامي عدد من الجوز جعلته في جيبك. إشارة إلى أنَّك بعيد عن عالم العشق، ولو كنت عاشقاً لما كنت تنام، وأنت بعد طفل يجب أن تلاعب الأطفال بالجوز(1).

وفي الحديث عن النبيِّ(صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «ما زال جبرئيل يوصيني بقيام الليل حتّى ظننت أنّ خيار أُمَّتي لن يناموا»(2).

وأيضاً عنه(صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «أشراف أُ مّتي حملة القرآن، وأصحاب الليل»(3).

وأيضاً ورد في الحديث أنّه: «جاء جبرئيل(عليه السلام) إلى النبيِّ(صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمَّد، عش ما شئت فإنَّك ميِّت، وأحبب من شئت فإنَّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنَّك مجزى به، واعلم أنَّ شرف الرجل قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس»(4).

وأيضاً ورد في الحديث عن زيد بن عليٍّ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال أميرالمؤمنين عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام): «إنَّ في الجنَّة لشجرة يخرج من أعلاها الحلل، ومن أسفلها خيل بلق مسرَّجة ملجمة ذوات أجنحة لا تروث ولا تبول، فيركبها أولياء الله، فتطير بهم في الجنَّة حيث شاؤوا، فيقول الذين أسفل منهم:


(1) خزينة الجواهر: 335.

(2) البحار 87 / 139.

(3) البحار 87 / 138.

(4) المصدر السابق: ص 138.

518

يا ربنا، ما بلغ بعبادك هذه الكرامة ؟ فيقول الله ـ جلَّ جلاله ـ إنَّهم كانوا يقومون بالليل ولا ينامون، ويصومون بالنهار ولايأكلون، ويجاهدون العدوَّ ولا يجبنون، ويتصدَّقون ولا يبخلون»(1).

الرابعة: من علامات حبِّ الله حبُّ الجهاد وتعشُّق الشهادة. وقد يكون ناظراً إلى هذا صدر الحديث الذي مضى ذكره قبل صفحات عن قِصَّة الحسين(عليه السلام) في وقعة كربلاء: كان الحسين(عليه السلام) وبعض مَن معه من خصائصه كُلَّما اشتدَّ الأمر تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم(2).

والسرُّ في جعل هذه العلامة مستقلَّةً عن حبِّ الموت الذي مضى الحديث عنه هو: أنَّ هذا أعلى مستوىً من مستويات البذل في الله والتضحية في سبيل الله، فلا شيء لدى الإنسان من أُموره الدنيوية أغلى من نفسه وحياته: لا ماله، ولا أهله وعياله، ولا أصحابه وأحبَّاؤه، فإذا بذل مهجته في سبيل الله متعشِّقاً ذلك، كان هذا آية حبِّه لله تعالى.

وقد ورد في الحديث:

1 ـ عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه(عليهم السلام) أنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: « فوق كلِّ ذي بِرٍّ برٌّ حتّى يُقتل في سبيل الله، فإذا قُتِلَ في سبيل الله فليس فوقه بِرٌّ. وفوق كلِّ ذي عقوق عقوقٌ حتّى يقتل أحد والديه، فليس فوقه عقوق»(3).

فالسرّ في كون القتل في سبيل الله فوق كلِّ برٍّ، ما أشرنا إليه: من أنَّه أقوى درجات التضحية والبذل. والسرُّ في كون قتل أحد الوالدين فوق كلِّ عقوق: أَنَّ العقوق يحصل من هضم ذي الحقِّ حقَّه، ولا يوجد بحسب الحقوق البشريَّة فيما


(1) المصدر السابق: ص 139.

(2) راجع بحار الأنوار: 6/154، و 44/297.

(3) الوسائل 15/17، الباب 1 من جهاد العدوِّ، الحديث 21.

519

بين الناس أقوى ذي حقٍّ من الوالدين؛ لأنَّهما المنشأ المادِّي لوجود الشخص. ولا يوجد عقوق لهما أشدّ من القتل؛ لأنّه سلبٌ لأعزِّ الأشياء إليهما، وهي: الحياة والنفس.

2 ـ عن عليٍّ(عليه السلام): «... إنَّ أفضل الموت القتل. والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من مِيتة على الفراش »(1).

3 ـ عن سعد بن سعد الأشعري، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: « سألته عن قول أمير المؤمنين(عليه السلام): لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش؟ فقال: في سبيل الله»(2).

والسرُّ في مُفاد هذين الحديثين واضح، وهو: أَنَّ الموت الذي لابدَّ منه يوجب فقد الإنسان نفسه مجَّاناً وبلا عوض؛ لأنَّه لم يبذلها، وفي نفس الوقت قد فقدها، ولا بدَّ أن يفقدها، فما أحلى أن يكون ذلك بذلا في سبيل الله؛ كي يكون أقلُّ ثواب عليه الجنَّة؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ...﴾(3).

4 ـ عن زيد بن عليٍّ، عن أبيه، عن آبائه(عليهم السلام) قال: « قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): للشهيد سبع خصال من الله: أوَّل قطرة من دمه مغفور له كلُّ ذنب. والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما. والثالثة يُكسى من كسوة الجنَّة. والرابعة تبتدره خزنة الجنَّة بكلِّ ريح طيِّبة أيهم يأخذه معه. والخامسة أن يرى منزله. والسادسة يُقال لروحه: اسرح في الجنَّة حيث شئت. والسابعة أن ينظر إلى وجه الله، وإنَّها لراحة


(1) المصدر السابق: ح 12 / 14.

(2) المصدر السابق: ح 23 / 17.

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 111.

520

لكلِّ نبي وشهيد»(1)، وطبعاً ليس المقصود بالنظر لوجه الله النظر المادِّي؛ لأنَّالله ـ سبحانه وتعالى ـ منزَّه عن المادَّة والتجسُّم. ووزان هذا المقطع من الرواية وزان قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(2).

الخامسة: من علامات حبِّ الله هو: بلوغ مرتبة الرضا التي هي فوق مرتبة الصبر؛ فإنَّ الحبيب يرضى بمايريده حبيبه، فبدلا عن أن يصبر على بلائه يرضى برضاه، فكأنَّه لا يحسُّ بمكروه كي يصبر عليه.

وقد روي عن الباقر(عليه السلام) أنَّه ذهب إلى عيادة جابر في مرضه، وسأله: كيف حالك ؟

قال جابر: يابن رسول الله، أصبحت والمرض أحبُّ اليَّ من الصحّة. والفقر أحبُّ إليَّ من الغنى. والذلُّ أحبَّ إليَّ من العزِّ.

فقال له(عليه السلام): أمَّا نحن أهل البيت فلسنا كذلك. فاندهش جابر واضطرب، وسأل: فإذن كيف أنتم؟

فقال(عليه السلام): نحن نرضى بما يريده الله: فإن أراد لنا الغنى أحببنا الغنى. وإن أراد لنا الفقر أحببنا الفقر. وإن أراد لنا المرض أحببنا المرض. وإن أراد لنا الصحّة والسلامة أحببنا الصحّة والسلامة. وإن أراد لنا الحياة أحببنا الحياة. وإن أراد لنا الموت أحببنا الموت(3).

منها تنعُّمه بما يبلى به
وسرورهُ في كلِّ ما هو فاعل
فالمنع منه عطيّةٌ معروفةٌ
والفقرُ إكرامٌ ولطفٌ عاجل


(1) الوسائل 15 / 100، الباب 1 من جهاد العدوّ الحديث 20.

(2) السورة 75، القيامة، الآيتان: 22 ـ 23.

(3) خزينة الجواهر: ص132.

521

بحلاوت بخورم زهر كه شاهد ساقى است
به ارادت بكشم درد كه درمانم از اوست(1)

ومن هنا وقع الكلام لدى بعض العلماء في أَنَّه ما معنى الصبر الذي نُسِبَ في الروايات إلى أئمّتنا المعصومين(عليهم السلام)؟! وذلك من قبيل ما ورد بشأن الحسين(عليه السلام): « قد عجبت من صبرك ملائكة السماوات...»(2) في حين أنَّهم(عليهم السلام)كانوا بالغين مرتبة الرضا، فتحمُّلهم للرزايا والمحن كان بحلاوة الرضا بقضاء الله، كما ورد عن الحسين(عليه السلام) قوله: « هوَّن عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله...»(3)، وقد مضى الحديث القائل بشأن الحسين وأصحابه: كانوا كُلَّما اشتدَّ الأمر تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم(4)، ومع تمكُّن الرضا من القلب لا يبقى موضع للصبر.

وقد أجاب عن ذلك بعضهم الذي أشرنا إليه وهو: المرحوم الشيخ عليّ أكبر النهاوندي(رحمه الله) بأجوبة لعلَّ أحسنها جوابان:

الأوَّل: أن يكون المقصود بالصبر المعنى الأعمّ للصبر الشامل للرضا بالرزايا والمحن في جنب الله تعالى.

والثاني: أن يكون إطلاق مقام الرضا بشأنهم بلحاظ جنبتهم التي تلي الربّ، وهي: جنبة روحانيَّتهم ونورانيَّتهم. وإطلاق مقام الصبر بشأنهم بلحاظ جنبتهم التي تلي الخَلْق، وهي: جنبة البشريَّة.

وأقول: إنَّ الجواب الثاني هو الأقوى؛ فإنَّ الإنسان الكامل هو الواجد لكلتا الجنبتين. وقد مضى منَّا في بحث الصبر توضيح أَنَّ الصبر لا ينافي مقام المحبَّة، والتي هي تنشئ الرضا.


(1) خزينة الجواهر: 132 ـ 133.

(2) بحار الأنوار 101 / 322.

(3) بحار الأَنوار 45/46.

(4) راجع بحار الأنوار 6/154، و44/297.

522

السادسة: من علامات حبِّ الله حبُّ أحبَّاء الله، فإنَّ مَنْ أحبَّ أحداً سرى حبُّه إلى أحبَّائه. وهذا هو معنى كون حبُّ أهل البيت(عليهم السلام) شرط الإيمان، وبغضهم علامة النفاق وقد ورد عن أبي الزبير المكّي قال: « سألت جابر بن عبد الله ـ يعني الأنصاري ـ فقلت: أخبرني أيُّ رجل كان عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام)؟ قال: فرفع حاجبيه عن عينيه ـ وقد كان سقط على عينيه ـ قال: فقال: ذلك خير البشر. أما والله أن كُنّا لنعرف المنافقين على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ببغضهم إيّاه»(1).

وهذا هو السرُّ في أنَّ حبَّ عليّ(عليه السلام) وعدمه يكون مقياساً للنجاة وعدمها في عرصات يوم القيامة. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنَّ عليَّ بن أبي طالب(عليه السلام) يجلس في يوم القيامة على كرسيٍّ من النور في الفردوس الذي هو أعلى درجات العلِّيين، وأمامه نهر من تسنيم ـ وهو شراب المقرَّبين الخالص لهم ـ ويشرف من هناك على عرصات القيامة. فَمَنْ كان معه حبُّ عليٍّ وأهل بيته أمرَ(عليه السلام)بإمراره على الصراط وإيصاله إلى الجنّة. ومن لم يكن معه حبُّهم أمرَ به إلى النار(2).

ان عليّاً علا إلى شرف
لو رامه الوهمُ زلَّ مرقاه
مَنْ لم يعاين سموَّ رتبته
فإنَّ ضعفَ اليقينِ أعماه(3)

وهنا قد يغترُّ بعض ويتخيلُّ أَنَّه ـ إذن ـ يكفيه حبُّ عليٍّ(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام)عن كلِّ طاعة، فليفعل ما أراد من الفسق والمجون، ويغفل عن أَنَّ حبَّهم(عليهم السلام) إنَّما ينجيه في عرصات يوم القيامة بقدر صدق ذاك الحبِّ. ويكون حبُّهم صادقاً بقدر طاعته لهم. وها هو رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «... ولو عصيت لهويت ...»(4).


(1) معجم رجال الحديث 4 / 12 نقلا عن رجال الكشي.

(2) و (3) خزينة الجواهر: 119.

(4) بحار الأنوار 22 / 467.

523

السابعة: من علامات حبِّ الله انقطاع قلب المحبِّ إلى الله. وقد ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): « العارفُ شخصُهُ مع الخَلْق، وقلبه مع الله، لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه...»(1).

وقيل في الحبّ البشري المجازي التافه: إِنَّ الشيخ الرئيس أبا عليٍّ بن سينا كان في فترة من الزمن في جرجان لدى رجل فاضل عظيم، كان يحبُّ الحكماء، واسمه قابوس، واتَّفق أنَّه ابتلى أحد أقرباء قابوس بمرض مزمن عجزت عن معالجته الأطباء، فأمر قابوس بإحضار الشيخ الرئيس لدى هذا المريض، فحضر الشيخ الرئيس عند المريض، فرآه رجلا شابَّاً، حسن الوجه، متناسب الأعضاء، ولكنَّه هزيل البدن، شاحب اللون. ففحص نبضه، وطلب رجلا يعرف محلاَّت البلد ومواضعها معرفة جيِّدة، فأتوا له بإنسان من هذا النمط، فسأله الشيخ الرئيس عن أسماء محلاّت البلد ـ وهو آخذ بيد المريض وقابض على نبضه ـ فذكر له ذلك الرجل أسماء محلاّت البلد إلى أَن وصل إلى اسم معيَّن لتلك المحلاَّت، فاضطرب نبض المريض بحركة فجائيَّة، فقال الشيخ لذاك الرجل: اذكر لي بيوت هذا المحلِّ، فذكر الرجل تلك البيوت واحداً واحداً إلى أن تحرّك نبض المريض حركة أُخرى، فقال الشيخ: اذكر لي أسماء الساكنين في هذا البيت، فذكر الأسماء وإذا بنبض المريض تحرَّك مرّة ثالثةً لدى ذكر اسم معيَّن من بنات هذه العائلة. وبهذا انتهى فحص الشيخ عن حال هذا المريض، وذكر لمعتمدي قابوس: أَنَّ هذا الشاب قد عشق بنتاً اسمها كذا في المحلَّة الفلانيَّة والبيت الفلاني. ودواؤه وصال مَنْ أحبَّه. ففحصوا عن الأمر، وتبيَّن صدق الشيخ الرئيس في كلامه، فأخبروا قابوساً بذلك، فأحضر قابوس الشيخ، واستفسره عن طريقة كشفه لحقيقة الحال؟ فقال الشيخ: لمَّا نظرت في وجه هذا الشاب، وفحصت نبضه، علمت أنَّ مرضه مرض العشق


(1) المصدر السابق 3 / 14.

524

الدفين، والذي أبقاه سرَّاً في نفسه، فأنهكه السرُّ ثُمَّ اكتشفتُ الشخص المحبوب عن طريق ذكر أسماء المحلاَّت والبيوت وأفراد العائلة، بعلامة اضطراب نبضه لدى ذكر اسم المحلَّة المخصوصة والبيت المخصوص والفرد المخصوص.

فقال قابوس: إنَّ هذا ابن أُخت لي، وتلك بنت أُخت لي، فأوقعوا النكاح بينهما(1).

فإذا كان هذا حال العشق المجازي التافه بين الناس، فما حال الحبِّ الحقيقي لله سبحانه وتعالى؟!

وفي الختام أُؤكّد أمرين:

الأوّل: ليس المقصود بالانقطاع إلى الله ما يشتمل على الانطواء عن حياة الدنيا، والاعتزال عن المجتمع كما قد يفهمه بعض الناس، فإنَّ من شأن محبَّة الله أن يُطبِّق الإنسان ما أراده الله تعالى من مسألة خلافة الله على وجه الأرض، وإنَّما المقصود به أنَّ العارف بالله يتلوَّن ـ كلّ الحياة عنده ـ بلون الله تعالى، فلا يفعل شيئاً إلاَّ لله، وبالطريقة التي فيها مرضاة الله.

ولنعم ما قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)(2): من أنَّه تختلف الشريعة الإسلاميّة عن اتِّجاهين دينيين آخرين وهما:

أوّلا: الاتِّجاه إلى الفصل بين العبادة والحياة.

ثانياً: الاتِّجاه إلى حصر الحياة في إِطار ضيِّق من العبادة كما يفعله المترهبنون والمتصوِّفون.

أمّا الاتِّجاه الأوَّل الذي يفصل بين العبادة والحياة: فيدع العبادة للأماكن الخاصَّة المقرَّرة لها، ويطالب الإنسان بأن يتواجد في تلك الأماكن؛ ليؤدِّي لله


(1) خزينة الجواهر: 133 ـ 134.

(2) راجع نظرة عامّة في العبادات في آخر كتاب الفتاوى الواضحة.

525

حقَّه، ويتعبَّد بين يديه حتّى إذا خرج منها إلى سائر حقول الحياة ودَّع العبادة، وانصرف إلى شؤون دنياه إلى حين الرجوع ثانية إلى تلك الأماكن الشريفة.

وهذه الثنائيَّة بين العبادة ونشاطات الحياة المختلفة تشلُّ العبادة، وتُعطِّل دورها التربوي البنَّاء في تطوير دوافع الإنسان، وجعلها موضوعيّة، وتمكينه من أن يتجاوز ذاته ومصالحه الضيِّقة في مختلف مجالات العمل ...

إلى أن قال(رحمه الله) ( وهذا هو المقطع الذي أردنا أن نستشهد به في المقام ):

وأمَّا الاتِّجاه الثاني الذي يحصر الحياة في إطار ضيِّق من العبادة، فقد حاول أن يحصر الإنسان في المسجد بدلا عن أن يمدِّد معنى المسجد ليشمل كلَّ الساحة التي تشهد عملا صالحاً للإنسان.

ويؤمن هذا الاتِّجاه بأنَّ الإنسان يعيش تناقضاً داخليَّاً بين روحه وجسده، ولايتكامل في أحد هذين الجانبين إلاّ على حساب الجانب الآخر، فلكي ينمو ويزكو روحيَّاً يجب أن يحرم جسده من الطيِّبات، ويقلِّص وجوده على مسرح الحياة، ويمارس صراعاً مستمرَّاً ضدَّ رغباته وتطلُّعاته إلى مختلف ميادين الحياة؛ حتّى يتمّ له الانتصار عليها جميعاً عن طريق الكفِّ المستمرِّ، والحرمان الطويل، والممارسة العباديَّة المحدَّدة.

والشريعة الإسلاميَّة ترفض هذا الاتِّجاه أيضاً؛ لأنّها تريد العبادات من أجل الحياة، فلا يمكن أن تصادر الحياة من أجل العبادات. وهي في الوقت نفسه تحرص على أن يسكب الإنسان الصالح روح العبادة في كلِّ تصرفاته ونشاطاته، ولكن لا بمعنى أنَّه يكفُّ عن النشاطات المتعدّدة في الحياة، ويحصر نفسه بين جدران المعبد، بل بمعنى أن يحوِّل تلك النشاطات إلى عبادات، فالمسجد منطلق للإنسان الصالح في سلوكه اليومي، وليس محدداً لهذا السلوك ...

والثاني: لا يتوهَّم أحد: أنَّنا إذا انتهينا إلى حبِّ الله فقد استغنينا عن الطاعة؛ لأنَّ

526

حبَّ الله هو غاية الغايات بالقياس إلى مقامات عامَّة الناس؛ وذلك لأنَّ أهمَّ علائم حبِّ الله وأوَّلها هو طاعته عزَّ وجلَّ، والمحبُّ مطيع لمن أحبَّه بقدر حبِّه، فبقدر ما يعصي قد ابتعد عن حبِّ الله؛ لأَنَّه خالف مرضاة الله، واستحقَّ بذلك العذاب.

وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في خطبته التي خطبها في مرض وفاته: « ... معاشر الناس ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً، أو يصرف عنه به شراً إلاَّ العمل. أيُّها الناس لا يدَّعي مدَّع، ولا يتمنّى متمنٍّ، والذي بعثني بالحقِّ نبيَّاً لا يُنجي إلاَّ عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت، اللَّهم هل بلَّغت»(1).

 


(1) بحار الأنوار 22/467.

527

 

 

 

 

الفصل الثاني والثلاثون

في بعض المراحل المتأخّرة عن مرحلة الحبّ

 

ولا أذكر هنا إلاّ النزر اليسير ممّا ذكروه؛ لأنّ الغالب فيما ذكروه هو خرافات أهل العرفان الخاطئ الناشئ في غير خطّ أهل البيت(عليهم السلام)، فأودّ أن أصون القلم عن البحث في أكثرها، فأقول:

 

1 ـ الغيرة:

وهي: حالة من الأحوال تفوق حالة الحبّ، فإنّ من أحبّ شيئاً واستغرق في حبّه اغتار عليه، وضنّ عن إشراك غيره إيّاه في الحبّ، فالمستغرق في حبّ الله لا يُشرك أحداً معه في قلبه إلاّ من أحبّه الله، أو أمر بحبّه، فحبّه للمعصومين(عليهم السلام)ـ مثلاً ـ إنّما هو لأجل حبّ الله تعالى إيّاهم، ولأجل أمر الله تعالى بحبّهم.

وقد عقد الشيخ الحرّ(رحمه الله) في الوسائل باباً(1) تحت عنوان: الحبّ في الله، والبغض في الله، والإعطاء في الله، والمنع في الله.

أقول: فهذه هي الحالة التي تترتّب على حبّ الله، فمن اكتمل حبّه لله لا يحبّ غيره إلاّ في الله، ولا يبغض إلاّ في الله.

وأنا أقتصر من نقل بعض تلك الروايات على ما يلي:


(1) ج 16، ب 15 من الأمر والنهي، ص 165 فصاعداً بحسب طبعة آل البيت.

528

1 ـ صحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن أبي عبد الله(عليه السلام): «قال: من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله، فهو ممّن كمل إيمانه»(1).

2 ـ صحيحة أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين(عليه السلام): «قال: إذا جمع الله الأوّلين والآخرين، قام مناد فنادى يسمع الناس، فيقول: أين المتحابّون في الله؟ قال: فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: إذهبوا إلى الجنّة بغير حساب. قال: فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب. قال: ويقولون: وأيّ ضرب أنتم من النّاس؟ فيقولون: نحن المتحابّون في الله. قال: فيقولون: أيّ شيءكانت أعمالكم؟ قالوا: كنّا نحبّ في الله ونبغض في الله. قال: فيقولون: نِعْم أجر العاملين»(2).

ومن أتفه ما رأيته في هذا الباب ما نقل عن بعض الجهّال من أهل الخلاف، حيث أفاد الشيخ الصدوق(رحمه الله) ـ على ما ورد في البحار (3)ـ: أنّهم قالوا: إنّ سليمان(عليه السلام) اشتغل ذات يوم بعرض الخيل حتّى توارت الشمس بالحجاب، ثمّ أمر بردّ الخيل، وأمر بضرب سوقها وأعناقها، وقال: إنّها شغلتني عن ذكر ربّي. وليس كما يقولون، جلّ نبيّ الله سليمان(عليه السلام) عن مثل هذا الفعل؛ لأنّه لم يكن للخيل ذنب، فيضرب سوقها وأعناقها؛ لأنّها لم تعرض نفسها عليه، ولم تشغله، وإنّما عُرِضت عليه وهي بهائم غير مكلّفة.

أقول: إن أخذنا بالتفسير الذي يرجع الضمير في ﴿تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾(4) وفي ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ﴾(5) إلى الجياد، فمعنى الآية واضح، وهو: أنّ الجياد عُرضت على سليمان إلى أن ابتعدت عنه، وتوارت بالحجاب، فأمر سليمان(عليه السلام)بردّها عليه،


(1) المصدر السابق، ح 1، ص 165.

(2) المصدر السابق، ح 6، ص 167.

(3) ج 14، ص 101.

(4) السورة 38، ص، الآية: 32.

(5) السورة 38، ص، الآية: 32.

529

﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاَْعْنَاقِ﴾(1)، أي: مسح على سوقها وأعناقها صيانةً لها، وإكراماً وتدليلاً، ولا تدلّ الآية على قضاء الفريضة وتواري الشمس.

وإن أخذنا بالتفسير الذي يرجع الضمير إلى الشمس، فلم يكن تأخير الصلاة إلى غروب الشمس عن عمد منه ـ سلام الله عليه ـ حتّى ينافي العصمة، ويصبح معصية، وغاية ما قد يكون في المقام هي ترك الأولى، فلابدّ من الأخذ على هذا الفرض بما رواه الصدوق(رحمه الله) ـ حسب ما ورد في البحار(2) ـ عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ سليمان بن داود(عليه السلام) عرض عليه ذات يوم بالعشيّ(3) الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال للملائكة: ردّوا الشمس عليّ حتّى اُصلّي صلاتي في وقتها، فردّوها، فقام، فطفق ساقيه وعنقه(4)، وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك، وكان ذلك وضوءهم للصلاة، ثمّ قام فصلّى، فلمّا فرغ غابت الشمس، وطلعت النجوم».

فعلى كلا التقديرين لم يصلّها سليمان(عليه السلام) قضاءً وفي خارج الوقت.

وقد روى الصدوق أيضاً ـ على ما ورد في البحار(5)ـ عن زرارة والفضيل: «قالا: قلنا لأبي جعفر(عليه السلام): أرأيت قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾(6)؟ قال: يعني كتاباً مفروضاً، وليس يعني وقت فوتها، إن جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها لم تكن صلاة مؤدّاة، ولو كان ذلك كذلك، لهلك سليمان بن داود حين صلاّها، ولكنّه متى ذكرها صلاّها».


(1) السورة 38، ص، الآية: 33.

(2) ج 14، ص 101 ـ 102.

(3) يعني: في وقت العصر.

(4) الضمير راجع إلى نفس سليمان(عليه السلام).

(5) ج 14، ص 101.

(6) السورة 4، النساء، الآية: 103.

530

 

2 ـ الشوق:

1 ـ ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَ ت﴾(1) .

2 ـ «فَهَبْني يا إلهي وَسَيّدي وَمولاي وَرَبّي صَبرتُ عَلى عَذابك، فَكيفَ أصبرُ عَلى فِراقك»(2) .

3 ـ «والله لاَبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه»(3) .

الشوق أيضاً نتيجة من نتائج الحبّ، فإنّ الحبيب يشتاق إلى حبيبه.

والآية التي بدأنا بها الحديث ظاهرة في أنّ الصالحين يريدون لقاء الله، ويشتاقون إليه، وكأنّ تقدير الآية ما يلي: (من كان يرجو لقاء الله، فليبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل، فإنّ أجل الله لآت).

وقد أفاد سماحة الشيخ ناصر مكارم ـ حفظه الله ـ: أنّ ﴿لِقَاء الله﴾ قد فُسّر في بعض الكلمات بمعنى لقاء الملائكة، وفي بعضها بمعنى لقاء الحساب والجزاء، وفي بعضها بمعنى لقاء حكم الله، وفي بعضها بمعنى لقاء القيامة. وقال حفظه الله: لا دليل على كلّ هذه المعاني المجازيّة، فينبغي تفسيره بمعنى الشهود الحقيقي، ولا نقصد بذلك: اللقاء الحسّيّ لله، وهو مستحيل، بل نقصد به: اللقاء الروحي والشهود الباطني الذي يحصل في عالم الآخرة بزوال حُجب المادّة وارتفاعها، وحصول حالة الشهود للإنسان(4) .

أقول: هذا التفسير يناسبه ما يستفاد من آية سورة ق: ﴿لَقَدْكُنتَ فِي غَفْلَة مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(5)، فإنّ هذه الآية واردة في سياق آيات القيامة، ويناسبه أيضاً ما يستفاد من آية سورة الانشقاق: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ


(1) السورة 29، العنكبوت، الآية: 5.

(2) دعاء كميل.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 5، وبحسب طبعة صبحي صالح ص 34.

(4) التفسير الأمثل، ج 12، ص 337.

(5) السورة 50، الآية: 22.

531

إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾(1) لو حملناها على لقاء عالم الآخرة بقرينة ما بعد الآية من قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ...﴾(2) إلى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ...﴾(3) .

ولكنّا مع ذلك نحتمل أن يكون المقصود لقاءً يحصل لدى الموت، ونحتمل أن يكون هذا هوالمقصود بقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾، فإنّ قسماً من الحجب المادّيّة ترتفع بالموت.

وعلى أيّ حال، فالكلام الذي ورد في دعاء كميل: «هَبْني... صَبَرتُ عَلى عَذابك، فَكيفَ أصبرُ عَلى فِراقك» ظاهر في شدّة الشوق إلى لقاء الله.

ويحتمل أن يكون هذا هو المقصود أيضاً ممّا نقلناه عن نهج البلاغة: «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه».

وأمّا الخرافات الواردة هنا عن أهل العرفان المنحرفين عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام)فعديدة، وأنا أقتصر هنا على ذكر واحدة منها:

قال عفيف الدين التلمسانيّ في شرحه على منازل السائرين ما نصّه:

«ويقال: إنّ عمر(رضي الله عنه) سأل بعد وفاة أبي بكر زوجة أبي بكر(رضي الله عنه) عن حاله وما كان وِردُه في ليله، فقالت: إنّ أبابكر لم يكن بكثير صلاة، ولكنّه كان يقوم في آخر الليل فيتوضّأ، ثمّ يركع ما شاء الله تعالى، ثمّ يضع رأسه فيتنفّس، فنشمّ منه رائحة الكبد المشويّة، فقال عمر(رضي الله عنه): من أين لعمر رائحة الكبد المشويّة؟! فهذا الاحتراق هو من نار الشوق»(4).

أقول: ولا أدري أنّ نار الشوق لو شوت كبد أبي بكر فكيف بقي حيّاً؟! وكيف لم ينقل استشمام هذه الرائحة من قبل الناس الآخرين الكثيرين الذين كانوا يلتقون به؟! وكيف وصل إلى هذا المستوى من العرفان من قضى عمدة عمره في الشرك؟!


(1) السورة 84، الانشقاق، الآية: 6.

(2) السورة 84، الانشقاق، الآية: 7.

(3) السورة 84، الانشقاق، الآية: 10.

(4) ص 411.

532

 

3 ـ القَلَق:

وهو الحالة التي تحصل بالشوق إذا جُرّد من الصبر، فإنّ الشوق إن لم يجرّد من الصبر، لم يبعث بالقلق.

وهذه الحالة تحصل قبل تماميّة مشاهدة المحبوب وهو الله سبحانه بالموت، أو بقيام القيامة، وهو محتمل ما نقلناه في أوّل البند السابق عن نهج البلاغة من قوله(عليه السلام): «والله لاَبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه».

وبهذا يمكن تفسير التضرّعات الشديدة، والبكاء الخارق المنقولين عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)؛ فإنّه لا يمكن تفسيرهما بالتصنّع لتعليم الناس، ولا بالخوف ممّا صدر منهم من معصية حقيقيّة؛ لأنّهم معصومون، فلم يصدر منهم ذنب بالمعنى المألوف، فقد يُفسّران على أساس «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين»، أو على أساس النموّ الروحيّ آناً فآناً ممّا يوجب أن يعدّوا المرتبة النازلة التي صعدوا عنها ذنباً على أنفسهم، أو يفسّران على أساس انهيارهم(عليهم السلام)أمام عظمة الربّ، وجلاله وجماله ممّا كان يؤدّي إلى تذلّلهم بهذا اللسان، أو يفسّران على أساس ما قد يحصل لديهم أقلّ غبار على القلب عن بعض مراتب الصفاء ولو لحظة، نتيجة الانشغال باُمور الدنيا الذي لا بدّ منه، فيعدّون ذلك ذنباً على أنفسهم، وقد مضت منّا هذه التفاسير في بحثنا لعلامات العرفاء الكاذبين والحقيقيّين، ومضى منّا في بحث الخوف احتمال أنّ الخوف منهم(عليهم السلام) كان عن الوقوع في المعصية من دون أن ينافي ذلك العصمة؛ لأنّ العصمة قد تكون في طول الخوف الشديد الذي هو فوق ما يتصوّر من الإنسان الاعتياديّ، أو أن يكون خوفاً من صدور ترك الأولى.

وهنا اُريد أن أقول: إنّ هناك تفسيراً آخر غير تلك التفسيرات الماضية، وهو: احتمال حصول هذه الحالة لهم على أساس القلَق الذي يحصل نتيجة عدم المشاهدة للمحبوب، والتي لاتحصل إلاّ لدى الموت، أو لدى قيام القيامة.

533

 

4 ـ العطش:

وإن هو في رأينا إلاّ غصناً من أغصان الشوق، ولا نرانا بحاجة إلى البحث المستقلّ عنه، إلاّ أنّ العارف المعروف (عبدالله الأنصاريّ) جعله بحثاً مستقلاًّ، وقال عنه: إنّه كناية عن غلبة ولوع بمأمول، ونزّل عليه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ يعني: أنّ سيّدنا إبراهيم(عليه السلام)لولا شدّة عطشه إلى لقاء محبوبه، لما ظنّه الكوكب؛ إذ كلّ إنسان إذا رأى السراب ذكر الماء.

ولكن هذا الكلام مفضوح إلى درجة أنّ شارح كتابه (عفيف الدين سليمان التلمسانيّ) اضطرّ أن يؤوّله ويحمله على حكم الإشارة، وقال(1): «هذا على حكم الإشارة، وإلاّ فخليل الرحمن ـ صلوات الله عليه ـ إنّما ذكر على وجه الدلالة على أنّه لا يجوز أن يُعبد شيء ذو نقيصة بوجه مّا، فكأنّه أشار إلى كمال المعبود ـ عزّ وجلّ ـ بما نبّه عليه من نقائص الكوكب والقمر والشمس والاُفول، وأراد الإشارة إلى أنّ الحقّ تعالى لا يغيب عن مخلوقاته، ولا ينبغي له ذلك جلّت قدرته وتقدّست صفاته».

 

5 ـ الوجد:

وهي الحالة التي تحصل من مستوىً من الشهود الذي يتحقّق لدى المكاشفة، فيُنسيه كلّ شيء.

أرى رسمها عندي يعوّض عن رسمي
فما بالهم في الحيّ يدعونني باسمي
وهل بعد ضوء الشمس يبدو لك الدُجى
وهل عندها يبقى على الاُفق من نجم(2)
 


(1) في ص 417.

(2) من أبيات لعفيف الدين التلمسانيّ في شرحه لمنازل السائرين، ص 428.

534

آن كس كه تو را شناخت جان را چه كند؟
فرزند و عيال و خانمان را چه كند؟
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى
ديوانه تو هر دو جهان را چه كند؟

 

6 ـ الدهش:

قال العارف المعروف (عبدالله الأنصاريّ) في منازل السائرين: «الدهش: بَهتة تأخذ العبد إذا فاجأه ما يغلب على عقله، أو صبره، أو علمه».

ومثّل لذلك بقصّة يوسف(عليه السلام)، حيث ورد في القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾(1)، أي: أعظمنه، وكان ذلك التعظيم سبب البهتة التي حصلت لهنّ من رؤية يوسف(عليه السلام)، وذلك هو الدهش.

وقال عفيف الدين التلمسانيّ في شرحه لمنازل السائرين(2): «ما يغلب عقله هو الشهود، والذي يغلب صبره هو فرط المحبّة، والذي يغلب علمه هو إدراك المعرفة، والمعرفة هي فوق العلم».

أقول: هذه دهشة لنساء فاجرات أمام حسن بشريٍّ، وبعشق مجازيٍّ، فما ظنّك بالدهشة أمام ربّ الأرباب لجلوة تحصل في بعض ساعات الخلوات، وعلى أساس العشق الحقيقيّ، والعبوديّة الواقعيّة «واجعَل لِساني بِذِكرِكَ لَهجاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتيّما»(3).

وهنا أقف عن البحث عن العرفان الحقيقيّ وفق خطّ أهل البيت(عليهم السلام) معترفاً بأنّ هذا بحر لا ينفد. وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 31.

(2) ص 429 ـ 430.

(3) دعاء كميل.

535

 

 

 

 

الحلقة الرابعة

 

المثبّطات والمحفّزات