441

 

 

 

 

الفصل السابع والعشرون

ا لإ يثـــا ر

 

قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالاِْيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(1).

2 ـ ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْء فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(2).

3 ـ ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾(3).

الإيثار تقديم غيرك من المؤمنين على نفسك في المال أو الراحة أو ما إلى ذلك من نعم الله. وقد أُكّد عليه في الآيات والروايات. وهو من أعظم الصفات الحسنة. وهو على مستويين:


(1) السورة 59، الحشر، الآية: 9 وذيلها كرّر في السورة 64، التغابن، الآية: 16.

(2) السورة 3، آل عمران، الآية: 92.

(3) السورة 76، الإنسان، الآيات: 7 ـ 10.

442

الأوّل: الإيثار عن كره، بمعنى: أنَّ الشخص يحسّ بكلفة ومؤونة حينما يؤثر أخاه المؤمن على نفسه؛ وذلك نتيجةً لحبّ نفسه وحبّه لمصالحها، وصعوبة رفع اليد عنها في سبيل غيره؛ باعتبار ما لدى الإنسان من الشحّ الذي يكاد أن لا ينفكّ من الإنسان، كما يشهد له قوله في الآية الماضية: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ...﴾ فكأنَّ الشحّ ثابت مع كلِّ نفس، إلاّ أنَّه قد يقي الله أحداً من شرّ شحّه، ويشهد لذلك ـ أيضاً ـ قوله تعالى: ﴿... وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ...﴾(1) وهذا الإيثار نوع جهاد مع النفس وثوابه عظيم عند الله.

والثاني: الإيثار عن طوع ورضا ورغبة نفسية. وهذا أعظم وأثوب من الأوَّل. ولا يكون إلاّ بعد تربية النفس تربية كبيرة، فيصل الإنسان نتيجة لصفاء النفس الذي حصل عليه بالتربية إلى مستوى فقدان الشحّ، فيؤثر غيره على نفسه طواعية.

أمّا الآيات المباركات التي أوردناها في صدر الحديث:

فالآية الأُولى وهي قوله: ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...﴾قيل: إنَّها نزلت يوم انتصار المسلمين على يهود بني النضير، ووصول غنائمهم إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان المهاجرون أحوج إلى تلك الغنيمة من الأنصار؛ لأنَّهم جاؤوا بالهجرة عن وطنهم متأ خِّرين، فكانوا أبناء سبيل، في حين أنَّ الأنصار كانوا يعيشون في بيوتهم، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله)للأنصار: «إن شئتم قسَّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة، فقال الأنصار: بل نقسِّم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها» فنزلت: ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...﴾(2).


(1) السورة 4، النساء، الآية: 128.

(2) مجمع البيان: مج 5 / 9 / 430.

443

وقيل: نزلت في سبعة عطشوا في يوم أُحد، فجيء بماء يكفي لأحدهم، فقال واحد منهم: ناول فلاناً حتّى طيف على سبعتهم، وماتوا ولم يشرب أحد منهم، فأثنى الله ـ سبحانه ـ عليهم بهذه الآية(1).

وقيل: «أُهدي لبعض الصحابة رأسٌ مشويٌّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جار له، فتداولته تسعة أنفس، ثُمَّ عاد إلى الأوّل، فنزلت: ﴿... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...﴾»(2).

والتفسير الأوَّل هو المناسب لسياق الآية المباركة، ويمكن أن تكون باقي الموارد من قبيل التطبيق، أو تكراراً في التنزيل.

وقد روى الشيخ في أماليه بسند له عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى بيوت أزواجه، فقلن: ما عندنا إلاّ الماء، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): مَنْ لهذا الرجل الليلة ؟ فقال عليّ بن أبي طالب(عليه السلام): أنا له يا رسول الله، فأتى فاطمة(عليها السلام)، فقال لها: ما عندك يا ابنة رسول الله ؟ فقالت: ما عندنا إلاّ قوت الصبية، لكنَّا نؤثر ضيفنا، فقال عليّ(عليه السلام): يا ابنة محمّد نوّمي الصبية، وأطفي المصباح ـ كي يعتقد الضيف أنّ صاحب البيت يأكل معه ـ فلمَّا أصبح عليّ(عليه السلام) غدا على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾»(3).

وعن الصادق(عليه السلام): «بينا عليّ(عليه السلام) عند فاطمة (عليها السلام) إذ قالت له: يا عليّ اذهب إلى أبي، فابغنا منه شيئاً، فقال: نعم، فأتى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فأعطاه ديناراً، وقال: يا عليّ


(1) المصدر السابق.

(2) مجمع البيان: مج 5 / 9 / 430.

(3) تفسير البرهان 4 / 317.

444

اذهب فابتع لأهلك طعاماً. فخرج من عنده، فلقيه المقداد بن الأسود، وقاما ما شاء الله أن يقوما، وذكر له حاجته، فأعطاه الدينار، وانطلق إلى المسجد، فوضع رأسه فنام، فانتظره رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم يأتِ، ثُمَّ انتظره فلم يأتِ، فخرج يدور في المسجد فإذا هو بعليّ(عليه السلام) نائماً في المسجد، فحرّكه رسول الله(صلى الله عليه وآله)فقعد، فقال له: يا عليّ ما صنعت ؟ فقال: يا رسول الله خرجت من عندك فلقيني المقداد بن الأسود، فذكر لي ما شاء الله أن يذكر، فأعطيته الدينار، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمّا إنَّ جبرئيل فقد أنبأني بذلك، وقد أنزل الله كتاباً فيك: ﴿... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾»(1).

والآية الثانية قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...﴾.

والمقصود بالبِرِّ: إمَّا هو العمل البِرِّ، أي: لن تصلوا إلى العمل البِرِّ حتّى تنفقوا ممّا تحبون، أو هو الثواب البِرِّ، أي: لن تثابوا الثواب الواسع الحسن حتّى تنفقوا ممَّا تحبون. ولعلَّ التفسير الأوَّل أوضح. وإنَّما جاء الحصر في الآية؛ لأنَّ قيمة العمل تكون بمقدار التضحية، والتضحية إنَّما تكون في إنفاق ما يحبُّه الإنسان دون إنفاق ما لا يهمُّه.

وقد روي عن أبي الطفيل قال: «اشترى عليٌّ(عليه السلام) ثوباً فأعجبه، فتصدَّق به، وقال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: مَنْ آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنَّة، ومَنْ أحبّ شيئاً فجعله لله قال الله تعالى يوم القيامة: قد كان العباد يكافؤون فيما بينهم بالمعروف، وأنا أُكافيك اليوم بالجنّة»(2).

وقيل: «أضاف أبو ذر الغفاري ضيفاً، فقال للضيف: إنّي مشغول، وإنَّ لي إبلاً، فاخرج واتني بخيرها. فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال له أبو ذرّ: خنتني بهذه !


(1) المصدر السابق: ص 317 ـ 318.

(2) مجمع البيان: مج 1 / 2 / 342.

445

فقال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه.

فقال أبو ذر: إنَّ يوم حاجتي إليه ليومٌ أُوضع في حفرتي مع أنَّ الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...﴾. وقال أبو ذر: في المال ثلاثة شركاء: القَدَر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرِّها من هلك أو موت. والوارث ينتظرك أن تضع رأسك، ثُمَّ يستاقها وأنت ذميم. وأنت الثالث، فإن استطعت أن لاتكون أعجز الثلاثة فلا تكن، إنَّ الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...﴾. وإنَّ هذا الجمل كان ممَّا أُحبُّ من مالي، فأحببت أن أُقدِّمه لنفسي»(1).

والآية الثالثة قوله تعالى: ﴿... وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾.

ويمكن أن يُجعل جمع الخصوصيّات في هذه الآية: من النذر وإطعام المسكين واليتيم والأسير ـ وهي خصوصيّات لا تجتمع في قِصَّة واحدة إلاّ كصدفة ـ شاهداً على كون الآية صريحة في الإشارة إلى قضيَّة خارجيَّة ـ على الرغم من أنَّها في نفس الوقت تجري مجرى الشمس والقمر وتُعلِّم كبرى الإيثار كقضيَّة حقيقيَّة ـ ولم تذكر في التأريخ شيعة وسُنَّة قِصَّة مشتملة على مجموع هذه الخصوصيّات، إلاّ القِصَّة المعروفة عن أهل البيت(عليهم السلام)، فكأنَّ الآية صريحة في هذه القِصَّة.

ومن هنا يبدو خطأ رأي مَنْ قال: إنَّ الآيات نزلت في قِصَّة رجل أسود جاء إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وسأل عن التسبيح والتهليل، وقال له عمر: أكثرت السؤال على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فنزلت السورة. أو نزلت في قِصَّة رجل من الحبشة جاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)للسؤال، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): اسأل وتعلَّم، قال: يا رسول الله، أنتم أفضل منَّا في اللون والشكل والنبوَّة، فإن آمنتُ أنا بما آمنت أنت به، وعملتُ بما تعمل به هل سأكون معك في الجنَّة ؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): نعم، والذي نفسي بيده إنَّ بياض


(1) مجمع البيان: مج 1 / 2 / 343.

446

السود يبدو في الجنّة من مسيرة ألف سنة. ثُمَّ ذكر رسول الله ثواباً عظيماً لمن قال: لا إله إلاّ الله، وسبحان الله، وبحمده، وهنا نزلت السورة(1).

فبالله عليك أيّ مناسبة بين موردي النزول هذين والخصوصيات المفروضة في الآية: من النذر وإطعام المسكين واليتيم والأسير ؟ !

والسورة أو ـ في الأقلِّ ـ الآيات المربوطة مدنيَّة بإجماع مفسّري الشيعة، وعلى المشهور لدى السنّة، ولكن تجد متعصبّاً يرى أنَّها مكّية؛ كي ينكر نزولها بشأنهم(عليهم السلام)؛ باعتبار أنَّها لو كانت نازلة بشأنهم لكان نزولها بعد ميلاد الحسن والحسين(عليهما السلام)، فلابدَّ أن تكون مدنية. ولكن بالله عليك أين كان الأسير في مكّة ؟ ! أوليس ذكر الأسير شاهداً عى مدنيَّة الآيات ؟ !(2).

وكأنَّ في ذكر الأسير شاهداً على فضيلة الإيثار حتّى إذا كان إيثاراً لكافر؛ وذلك على أساس عاطفة الإنسانيّة.

وهناك نكتة في هذه الآيات الشريفة تلفت النظر، وهي: أنّ آيات القرآن الشارحة لنعم الجنّة بشيء من التفصيل لا تخلو ـ عادة ـ من ذكر الحور العين، في حين أنّ هذه الآيات على شرحها الوافي لنعم الجنّة خلت من ذكرها، وكأنَّ ذلك بسبب أنَّ هذه الآيات وردت بشأن فاطمة وبعلها وبنيها، فوقع فيها التجنّب عن ذكر الحور العين إجلالاً و إعظاماً للزهراء سلام الله عليها.

وقد ورد في بعض الروايات: أنَّ جاريتهم فضّة ـ أيضاً ـ داخلة في هذه القِصَّة، ومشمولة للآيات المباركات(3) ومن هنا قال الشيخ العارف بالله جوادي آملي حفظه الله: إنَّ هذه الآيات يفترض بها أن تبيِّن مقاماً مناسباً حتّى لأدناهم في


(1) جاء نقل القِصّتين في تفسير «نمونه» 25 / 345 ـ 346 عن الدر المنثور 6 / 297.

(2) راجع تفسير «نمونه» 25 / 328 ـ 330، وص: 345 ـ 348.

(3) راجع البحار 35 / 237 ـ 240.

447

المستوى، وهي: خادمتهم فِضَّة، فإذن هذا المقام المذكور في هذه الآيات مقام خادمتهم، أمّا هم فمقامهم أعلى من ذلك.

ونزول هذه الآيات بشأن أهل البيت مجمع عليه لدى الشيعة، ومشهور لدى السنة حتّى أنَّ إمامهم محمَّد بن إدريس الشافعي قال:

إلىمَ إلىمَ(1) وحتّى متى
أُعاتب في حبِّ هذا الفتى
وهل زوِّجت فاطم غيره
وفي غيره هل أتى هل أتى(2)

ثُمَّ إنَّ النكتة التي أشرنا إليها لافتراض الآية كالصريح في الإشارة إلى قضيَّة خارجيَّة وهي: قضيَّة أهل البيت(عليهم السلام) ـ برغم أنّها في نفس الوقت تعطي كبرى كُلِّية ـ قد تسري في عدد من الآيات الاُخرى، وذلك من قبيل:

1 ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾(3).

فما أكثر المزكُّون، وما أكثر المصلُّون والراكعون، ولكن تحقّق الزكاة في حال الركوع إن هو إلاّ صدفة، أفليس ذكر ذلك في الآية الشريفة قرينة واضحة على التفات الآية إلى قضيَّة خارجيَّة واقعة ؟ ! وتلك القضيَّة لم تعرف إلاّ بشأن عليّ (عليه السلام)، وذلك من دون منافاة بين دلالة الآية ضمناً على القضيَّة الحقيقيَّة، وكبرى الاهتمام بالصلاة والزكاة والركوع، وأمَّا تفسير الركوع بالخضوع بمناسبة دلالة عمليّة الركوع على الخضوع، فهو تفسير مجازي ويكون مخالفة للظاهر.

ولقد أخطأ مَنْ تخيَّل: أنَّ الإقران العمدي بين الزكاة والركوع قد يوجب نزول آية بشأنه، فقال: ـ على ما نُقِل عنه ـ والله لقد تصدَّقت بأربعين خاتماً وأنا راكع؛


(1) يحتمل أن تكون العبارة كالتالي: إلىمَ أُ لامُ.

(2) تفسير «نمونه» 25 / 330.

(3) السورة 5، المائدة، الآية: 55.

448

لينزل فيّ ما نزل في عليّ بن أبي طالب فما نزل(1) ولم يَعرِف هذا الرجل: أنَّ العمل لنزول آية غير العمل لوجه الله، وأنَّ المهمّ في عمل أميرالمؤمنين(عليه السلام)كان إخلاصه وعبوديّته لله، ولم يفعل ما فعله بطمع نزول آية بشأنه. وقد ورد في بعض الأحاديث: كان في خاتمه(عليه السلام) الذي أعطاه للسائل: سبحان من فخري بأ نِّي له عبد(2). فطبيعي أنَّ الآية تنزل بشأن من لا يفتخر بولايته ومقامه وعظمته، وإنَّما يفتخر بعبوديّته لله، ولا تنزل بشأن مَن يعمل بطمع نزول آية؛ كي يفتخر بها.

ولنعم ما قاله حسّان بن ثابت:

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي
وكلُّ بطيء في الهدى ومسارعِ
أيذهبُ مدحي والمحبّرُ ضائعٌ
وما المدحُ في جنبِ الإلهِ بضائعِ
فأنتَ الذي أعطيتَ إذ كنتَ راكعاً
فدتكَ نفوسُ القومِ يا خيرَ راكعِ
فأنزلَ فيك الله خيرَ ولاية
وبيّنها في محكماتِ الشرائعِ(3)

2 ـ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...﴾(4).

أفليس اجتماع الخصوصيّات الثلاث في هذه الآية دليلاً على إشارتها إلى نصب إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام) وليّاً للمسلمين ؟ ! وهي: أوَّلاً: أنَّ الشيء الذي أمر الله نبيّه بتبليغه شيء كان يتثاقل النبيّ(صلى الله عليه وآله) في تعجيله حتّى جاء هذا التأكيد الغريب من الله تعالى على ذلك. وثانياً: أنّه سنخ أمر يكون عدم إبلاغه في حكم عدم إبلاغ الرسالة كلِّها. وثالثاً: أنَّ الله تعالى وعد رسوله بالأمن ممَّا كان يخافه(صلى الله عليه وآله)من أذى


(1) البحار: 35 / 183.

(2) المصدر السابق: ص 197.

(3) المصدر السابق.

(4) السورة 5، المائدة، الآية: 67.

449

الناس، وما عسى ما يمكن أن يكون هذا الحكم عدا تعيين الخلافة فيمن يخالفه هوى المنافقين؟!

3 ـ قوله تعالى: ﴿... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ...﴾(1).

فبالله عليكم هل يمكن أن تكون حرمة الميتة أو لحم الخنزير التي وردت في سياق هذه الآية سبباً ليأس الذين كفروا من الدين، وموجباً لتكميل الدين، ولرضا الله ـ سبحانه ـ بالإسلام ديناً ؟ ! أو أنَّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن تجتمع فيه هذه الخصوصيّات هو: تعيين الخليفة الذي لولاه لتربّص الذين كفروا بموت النبيّ؛ كي لا يبقى بعده مَنْ يرعى الدين، فيقلبوا الساحة لصالح الكفر، ولولاه لكان دين الإسلام ناقصاً، وغير مرضيّ له سبحانه وتعالى.

ولنعد إلى حديثنا عن الإيثار:

فعن أبان بن تغلب، عن الصادق(عليه السلام) قلت: «أخبرني عن حقِّ المؤمن على المؤمن ؟

فقال: يا أبان دعه لا ترده.

قلت: بلى جعلت فداك. فلم أزل أُردّد عليه.

فقال: يا أبان تقاسمه شطر مالك. ثُمَّ نظر إليّ فرأى ما دخلني فقال: يا أبان ألم تعلم أنَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ قد ذكر المؤثرين على أنفسهم ؟ !

قلت: بلى جعلت فداك.

فقال: إذا قاسمته فلم تؤثره بعد إنَّما أنت وهو سواءٌ، إنَّما تؤثر إذا أعطيته من النصف الآخر»(2).


(1) السورة 5، المائدة، الآية: 3.

(2) تفسير البرهان 4 / 317 ولعلَّ المقصود: بيان الفرد الكامل من الإيثار.

450

وعن جميل بن درّاج قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: خياركم سمحاؤكم، وشراركم بخلاؤكم. ومنْ خالص الإيمان البرّ بالإخوان، والسعي في حوائجهم؛ فإن البارّ بالإخوان ليحبّه الرحمان، وفي ذلك مرغمة للشيطان، وتزحزح عن النيران، ودخول الجنان. يا جميل أخبر بهذا غرر أصحابك، قلت: جعلت فداك مَنْ غرر أصحابي ؟ قال: هم البارّون بالإخوان في العسر واليسر. ثُمَّ قال: يا جميل أما إنَّ صاحب الكثير يهون عليه ذلك. وقد مدح الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في ذلك صاحب القليل، فقال في كتابه: ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ...﴾»(1).

وأظهر الوجهين في مرجع الضمير المضاف إليه الحبّ في قوله تعالى: ﴿... وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ...﴾ أن يكون هو الطعام، فيدلُّ على الحاجة والجوع، فيكون ذلك من الإيثار الراقي، وأن لا يكون المرجع هو الله سبحانه وتعالى؛ فإنَّ خصوصية كون العمل لله مفهومة من الآية التالية لهذه الآية، وهي قوله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً﴾.

وقد يقول قائل: إنَّ الأَوجه هو: رجوع الضمير إلى الله؛ لأنَّ رجوعه إلى الطعام يعطي معنى حبّ الطعام الراجع إلى حبّ الذات، في حين أنَّهم(عليهم السلام)ذائبون في حبِّ الله، ولايفعلون شيئاً إلاّ لحبِّ الله، لا لحب أنفسهم.

ولكنَّ الواقع: أنَّ حبَّ الذات إن فُسِّر بمعنى التألم بالألم؛ باعتبار ما يفترض في مورد الآية المباركة من ألم الجوع، فهذا أمر ذاتي للإنسان، ولا يتوقَّف على أيّة أنانيّة ينبغي ذوبانها في ذات الله.

وهناك معنى آخر للإيثار غير المعنى الذي بحثناه حتّى الآن، أو قلْ: مصداق آخر للإيثار غير تقديم الأخ المؤمن على نفسه، وهو: إيثار رضا الله ـ تعالى ـ على


(1) المصدر السابق.

451

رضا غيره. وهذا ـ أيضاً ـ مندمج في آيات سورة هل أتى حيث قال: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ...﴾ أي: أنَّ العمل كان لتحصيل رضا الله تعالى. ومَنْ تكون أعماله لتحصيل رضا الله فمن الطبيعي أنَّه يقدّم رضا الله على رضا غيره.

وذكر بعض العرفاء المنحرفين عن عرفان أهل البيت(عليهم السلام) ـ الذي هو العرفان الحقيقي ـ: أنَّ هناك درجة ثالثة للإيثار غير الإيثارين اللذين عرفتهما، وهو: إيثار الإيثار، أي: أن يترك فرض كونه قد آثر؛ لأنَّ ادِّعاء الإيثار يستدعي ادِّعاء الملك، فالذي آثر هو الله تعالى وليس هو؛ لأنَّه المالك الحقيقي، ثُمَّ يترك رؤيته؛ لكون الإيثار إيثار الله، ويترك الترك أيضاً؛ لأنَّ كلَّ هذا يعني: أن يرى لنفسه حظَّاً من الوجود وفعلاً أو تركاً، في حين أنّ الله هو الفعّال لما يريد، وقد قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ...﴾(1).

أقول: إنَّ هذا النمط من الحديث يتفرَّع على الغفلة عن الوجود التبعي الذي هو عين التبعية والإشراق للوجود المستقل، وأنَّ أفعال هذا الوجود التبعي أفعال للوجود المستقل بالواسطة لا بالمباشرة. وهذا هو المعنى الدقيق للأمر بين الأمرين الذي غفل عنه المنحرفون عن خط أهل البيت(عليهم السلام). ولتفصيل الكلام في ذلك مجال آخر. وقد مضى مقدار من الحديث عن ذلك في الحلقة الأُولى من هذا الكتاب. وأقول هنا: لو أنكرنا حتّى الوجود التبعي للمخلوق فإرسال الرسل وإنزال الكتب لماذا ؟ ! وتزكية النفس أو التربية العرفانية لمن ؟ !

 


(1) راجع منازل السائرين بشرحيه، أعني: شرح الكاشاني: 102 وشرح التلمساني: 252 ـ 253، والآية: 128 في السورة 3، آل عمران.

453

 

 

 

 

الفصل الثامن والعشرون

حسـن الخُــلُق

 

قال تعالى:

1 ـ ﴿فَبِمَا رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(1).

2 ـ ﴿بِسْمِ الله الرَحْمن الرَحِيم ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * وَإِنَّ لَكَ لاََجْراً غَيْرَ مَمْنُون * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم﴾(2).

3 ـ ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ...﴾(3).

قد يُرى من نافلة الحديث التحدُّث عن حسن الخُلُق في فصل مستقل؛ لأنَّ الكتاب كلَّه في الأخلاق، فما معنى إفراد باب للحديث عن حسن الخُلُق ؟ !

إلاّ أنَّ حسن الخُلُق وإن كان قد يُطلَق على جميع محامد الأخلاق، والإسلام كلُّه أخلاق، وكأنَّ هذا المعنى العام هو المقصود بالمرويّ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله):


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 159.

(2) السورة 68، القلم، الآيات: 1 ـ 4.

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 61.

454

«إنَّما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق»(1).

وبقوله المرويّ أيضاً: «بُعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها»(2) إلاّ أنَّه قد يُطلق على خصوص حسن المعاشرة والتعامل مع الخَلْق، وقد يضاف إليه الخالق، إلاّ أنّ الثاني يعود مرّة أُخرى إلى جانب الخُلُق بالمعنى العام؛ فانَّه جميعاً يبعث بمرضاة الخالق، فيدخل في حسن التعامل مع الخالق. فنحن ـ هنا ـ نقصد بحسن الخُلُق خصوص الأوّل، أعني: حسن المعاشرة والتعامل مع الخَلْق.

ونشير ـ هنا ـ إلى الخطأ الوارد عن العرفاء المنحرفين عن عرفان أهل البيت(عليهم السلام)حيث يقول القائل منهم: «إنَّ حسن المعاشرة مع الخَلْق يرتبط بمعرفتك مقام الخَلْق، إنّهم بأقدارهم مربوطون، وفي طاقتهم محبوسون، وعلى الحكم موقوفون. فتستفيد بهذه المعرفة ثلاثة أشياء: أمن الخَلْق منك حتّى الكلب، ومحبَّة الخَلْق إياك ونجاة الخَلْق بك»(3).

فترى أنَّه ربط حسن الخُلُق مع الناس بالاعتقاد بالجبر، وأنَّهم جميعاً ـ إذن ـ معذورون؛ لأنَّهم مربوطون بأقدارهم، وموقوفون على حكم القضاء بشأنهم، فعلى ماذا نتأذَّى منهم أو نجازيهم بالسوء. فالمفروض أن يأمن الخَلْق جميعاً منّا. وهذا معنى ما يقال: من أنّ الصوفي يؤمن بالتصالح مع جميع الناس.

أقول: ومع القول بالجبر لا يبقى موضوع للأخلاق وللحسن والقبح، ولا يبقى معنى للتبرؤ من أعداء الله الذي هو فرع مهم من فروع الدين. ولئن كان من الضروري أمن الناس جميعاً من المؤمن فأين الجهاد، وأين الحدود، وأين التعزيرات ؟ !


(1) البحار 16 / 210، و 71 / 382.

(2) المصدر السابق: ص 287، و 69 / 405.

(3) راجع منازل السائرين لعبد الله الأنصاري قسم الأخلاق باب الخلق.

455

وعلى أيّة حال، فلنذكر لك هنا نموذجاً من روايات حسن الخُلُق الواردة عن أهل اليبت(عليهم السلام):

1 ـ عن محمّد بن مسلم بسند صحيح، عن الباقر(عليه السلام) قال: «إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً»(1).

والمقصود بذلك: إمّا كون حسن الخُلُق كاشفاً عن كمال الدين، وأنّ مَن يكمل دينه يحسن أخلاقه، أوكون حسن الخُلُق هو نوع كمال للدين، وأنَّ الدين به يكمل.

2 ـ عن عليِّ بن الحسين(عليهما السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ما يوضع في ميزان امرى يوم القيامة أفضل من حسن الخُلُق»(2).

3 ـ عن الصادق(عليه السلام): «ما يقدم المؤمن على الله ـ عزَّوجلَّ ـ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله ـ تعالى ـ من أن يسع الناس بخُلُقه»(3).

4 ـ عن ذريح بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنَّ صاحب الخُلُق الحسن له مثل أجر الصائم القائم»(4).

5 ـ عن عبدالله بن سنان، عن الصادق(عليه السلام): «البِرّ وحسن الخُلُق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار»(5).

6 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنَّ الخُلُق منيحة يمنحها الله ـ عزَّ وجلَّ ـ خَلْقه: فمنه سجيّة، ومنه نيّة. فقلت: فأ يّتهما أفضل ؟ فقال: صاحب السجيّة، هو مجبول لا يستطيع غيره. وصاحب النيّة يصبر على الطاعة تصبّراً، فهو أفضلهما»(6).


(1) و (2) الكافي: 2 / 99.

(3) المصدر السابق: ص 100.

(4) المصدر السابق.

(5) المصدر السابق.

(6) المصدر السابق.: ص 101.

456

7 ـ عن أبي عبيدة الحذّاء، عن الصادق(عليه السلام) قال: «أُتي النبيّ(صلى الله عليه وآله)باُسارى فأمر بقتلهم خلا رجل من بينهم. فقال الرجل: بأبي أنت وأُمّي يا محمَّد كيف أطلقت عنّي من بينهم ؟ فقال: أخبرني جبرئيل عن الله ـ عزَّوجلَّ ـ أنَّ فيك خمس خصال يحبّه الله عزَّوجلَّ ورسوله: الغيرة الشديدة على حرمك، والسخاء، وحسن الخُلُق، وصدق اللسان، والشجاعة. فلمّا سمعها الرجل أسلم، وحسن إسلامه، وقاتل مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) قتالاً شديداً حتّى استشهد»(1).

وبودِّي أن أزيَّن الكتاب ـ هنا ـ بإشارة عابرة إلى خُلُق رسول الله(صلى الله عليه وآله)الذي لا يمكن أن يوصف، وكيف يمكن أن يُوصَف خُلُق من قال بشأنه الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم﴾. وهذه الإشارة ضمن أمرين:

الأوّل: نقل عبارة عجبتني عن الطبرسي(رحمه الله) وهي ما يلي:

«من عجيب أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه كان أجمع الناس لدواعي الترفع، ثُمَّ كان أدناهم إلى التواضع؛ وذلك أنَّه(صلى الله عليه وآله) كان أوسط الناس نسباً، وأوفرهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم، وأزكاهم وأفصحهم. وهذه كلُّها من دواعي الترفع. ثمّ كان من تواضعه أنَّه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح (يعني البعير يستقى عليه) ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يدعو إلى الله من دون زأر (أي: نهر) ولا كهر (أي: عبس الوجه) ولا زجر. ولقد أحسن مَن مدحه في قوله:

فَما حَمَلَتْ مِنْ نَاقَة فَوْقَ ظَهْرِها
أَبَرَّ وأوْفى ذِمَّةً مِنْ مُحمَّدِ»(2)

والثاني: قِصّتان طريفتان عن خُلُق رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهما ما يلي:


(1) البحار 71 / 384 ـ 385.

(2) البحار 16 / 199 نقلاً عن تفسير الطبرسي، وهو موجود في تفسير الطبرسي: مج 1 / 2 / 428 ـ 429.

457

الأُولى: ما ورد بسند تام عن أبان الأحمر، عن الصادق(عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد بُلِيَ ثوبه ـ يعني: ثوب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ فحمل إليه اثني عشر درهماً. فقال(صلى الله عليه وآله): يا عليّ خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه. قال عليٌّ (عليه السلام)فجئت إلى السوق، فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فنظر إليه فقال: يا عليّ غير هذا أحبُّ إليَّ. أترى صاحبه يقيلنا ؟ فقلت: لا أدري، فقال: انظر. فجئت إلى صاحبه فقلت: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)قد كره هذا، يريد ثوباً دونه، فأقلنا فيه، فردّ عليّ الدراهم. وجئت بها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما شأنك ؟ قالت: يا رسول الله إنَّ أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة، فضاعت، فلأ أجسر أن أرجع إليهم، فأعطاها رسول الله(صلى الله عليه وآله) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلى أهلك. ومضى رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى السوق، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم، ولبسه وحمد الله. وخرج فرآى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه الله من ثياب الجنّة، فخلع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قميصه الذي اشتراه، وكساه السائل. ثُمَّ رجع إلى السوق، فاشترى بالأربعة التي بقت قميصاً آخر، فلبسه وحمد الله. ورجع إلى منزله فإذا الجارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما لك لا تأتين أهلك ؟ قالت: يا رسول الله إنِّي قد أبطأت عليهم أخاف أن يضربوني، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): مرّي بين يديّ، ودلّيني على أهلك. وجاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى وقف على باب دارهم، ثُمّ قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه، فأعاد السلام، فلم يجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أوّل السلام والثاني ؟ فقالوا: يا رسول الله سمعنا كلامك(1) فأحببنا أن نستكثر منه. فقال


(1) الظاهر أنَّ الصحيح: (سلامك) كما هو الوارد في البحار: 16 / 215.

458

رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤذوها، فقالوا: يا رسول الله هي حرّة لممشاك. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) الحمد لله: ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من هذه: كسا الله بها عريانين، وأعتق نسمة»(1).

الثانية: عن موسى بن جعفر(عليهما السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن أميرالمؤمنين (عليهم السلام) «إنَّ يهودياً كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دنانير فتقاضاه، فقال له: يا يهوديّ، ما عندي ما اُعطيك، فقال: فإنِّي لا أُفارقك يا محمّد حتّى تقضيني، فقال: إذن أجلس معك. فجلس معه حتّى صلَّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به ؟ فقالوا: يا رسول الله يهوديّ يحبسك ؟ ! فقال(صلى الله عليه وآله): لم يبعثني ربِّي عزَّوجلَّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أنّ لا إله إلاّ الله، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإنِّي قرأت نعتك في التوراة: محمّد بن عبدالله مولده بمكّة، ومهاجره بطيبة، وليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا متريّن بالفحش، ولا قول الخناء، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنَّك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله. وكان اليهودي كثير المال ...»(2).

أختم الحديث عن حسن الخُلُق بالإشارة إلى نموذج رائع من خُلُق الإسلام، وهو: ضرورة البرّ بالوالدين بأعلى مستويات البِرّ اللذين هما خالقان مجازيان للإنسان، أي: أنَّهما من المقدِّمات الإعداديّة لوجوده، وقد يكون لا لشيء إلاّ لشهوة بينهما. وقرن شكرهما في القرآن بشكر الله والإحسان إليهما بعبادة الله الذي هو الخالق الحقيقي، في حين أنَّه في الغرب المتمدّن اليوم لا يسأل الولد عن


(1) الخصال: ص 490 ـ 491.

(2) البحار 16 / 216 ـ 217.

459

حال أبويه العجوزين المطروحين في دور العجزة أو المستشفيات إلاّ بعد موتهما، فيراجعهما بعد الموت؛ لأجل بيع جسدهما للمستشفيات !!!

قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(1).

2 ـ ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(2).

فقد قرن شكرهما بشكر الله حتّى ولو كانا مشركين؛ وذلك بقرينة استثناء إطاعتهما في الشرك. وهذه القرينة وردت في آية اُخرى ـ أيضاً ـ في وصية الإنسان بوالديه حسناً، وهي قوله تعالى:

3 ـ ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(3).

فيا ترى هل يوجد سلطان في الدنيا يأمر أحداً بالإحسان إلى والد له عدوّ لذلك السلطان ؟ ! نعم، هذا هو الخُلُق الرفيع للإسلام الذي لايضاهيه خلق.

 


(1) السورة 17، الإسراء، الآيتان: 23 ـ 24.

(2) السورة 31، لقمان، الآيتان: 14 ـ 15.

(3) السورة 29، العنكبوت، الآية: 8 .

460

 

 

461

 

 

 

 

الفصل التاسع والعشرون

ا لتــواضــع

 

قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً﴾(1).

2 ـ ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾(2).

3 ـ ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الاَْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَْصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(3).

التواضع هو: عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل الله سبحانه وتعالى، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين. ويقابله التكبُّر، وهو: التعالي على الله سبحانه، وهذا كفر بالله، أو على رسوله أو الإمام، وهذا كفر بالرسول أو الإمام، أو على المؤمنين، وهذا هو


(1) السورة 25، الفرقان، الآية: 63.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 37.

(3) السورة 31، لقمان، الآيتان: 18 ـ 19.

462

التكبُّر المألوف بين المسلمين الذين لم يهذِّبوا أنفسهم، وهي معصية عظيمة.

وفرق التكبُّر عن الكِبر هو: أنّ الكِبْر مجرّد تعاليه على غيره في نفسه. أمّا التكبُّر فهو: إظهار الكِبْر وإبرازه بجوارحه. وفرق الكبر عن العُجْب: أنّ الكِبْر يكون بالقياس إلى غيره، وهو الله أو الرسول والإمام أو المؤمنون. والعُجْب ما يكون في الإنسان من رؤيته إلى نفسه بالعظمة والزهو والتبختر بذلك ولو من دون قياس بغيره، وهذا ـ أيضاً ـ من المعاصي العظيمة.

وقد ورد في روايات عديدة: أنَّ الكِبْر خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، ويحرم منازعته فيه.

والسرُّ في ذلك واضح، وهو: أنَّ الوحيد الخالي من كلِّ نقص هو الله تعالى، فهو الذي يستحقُّ الكبرياء.

فعن العلاء بن فضيل بسند تام، عن الصادق(عليه السلام)، عن أبيه الباقر(عليه السلام): «العِزّ رداء الله، والكِبْر إزاره، فمَنْ تناول شيئاً منه أكبَّه الله في جهنَّم»(1).

وعن معمر بن عطاء، عن الباقر(عليه السلام) قال: «الكِبْر رداء الله، والمتكبِّر ينازع الله رداءه»(2).

وعن ليث المرادي، عن الصادق(عليه السلام) قال: «الكِبْر رداء الله، فمَنْ نازع الله شيئاً من ذلك أكبَّه الله في النار»(3).

وبما أنَّ الكبرياء تختصّ بالله ـ سبحانه وتعالى ـ فكأنَّه لهذا جعل الكِبْر في بعض الروايات مساوقاً لأدنى الإلحاد. فعن حكيم قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن


(1) الكافي: 2 / 309.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق: ص 310.

463

أدنى الإلحاد فقال: إنَّ الكِبْر أدناه»(1).

والعُجب من جملة أسباب الكبر، فإنَّ من أُعجب بنفسه تعالى على غيره. والروايات في ذمّ العُجْب كثيرة، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بينما موسى(عليه السلام) جالساً إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلمَّا دنا من موسى(عليه السلام) خلع البرنس، وقام إلى موسى فسلّم عليه، فقال له موسى: مَنْ أنت ؟

فقال: أنا إبليس.

قال: أنت فلا قرّب الله دارك.

قال: إنِّي إنَّما جئت لأُسلِّم عليك لمكانك من الله.

قال: فقال له موسى(عليه السلام): فما هذا البرنس ؟

قال: به أختطف قلوب بني آدم.

فقال موسى (عليه السلام): فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟

قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه (يعني: أنَّ هذه الحالة توجب الغرور والغفلة وعدم الاكتراث بعظمة الذنب. فمن الطبيعي أن يستحوذ الشيطان على صاحبها). وقال: قال الله عزّوجلَّ لداود(عليه السلام): يا داود بشِّر المذنبين، وأنذر الصدّيقين.

قال داود: كيف أُبشّر المذنبين، وأُنذر الصدّيقين؟

قال: يا داود بشّر المذنبين أ نِّي أقبل التوبة، وأعفو عن الذنب (يعني: ليتوبوا)، وأنذر الصدّيقين ألاّ يعجبوا بأعمالهم؛ فإنَّه ليس عبدٌ أنصِبه للحساب إلاَّ هلك»(2).

2 ـ وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر


(1) المصدر السابق: ص 309.

(2) الكافي 2 / 314.

464

فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صدِّيق والعابد فاسق؛ وذلك أنَّه يدخل العابد المسجد مدلاًّ بعبادته يدلُّ بها، فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عزّوجلّ ممَّا صنع من الذنوب»(1).

ويشبه هذا الحديث ما نقله في المحجَّة(2) عن إحياء العلوم من «أنَّ رجلاً في بني إسرائيل يقال له: خليع بني إسرائيل؛ لكثرة فساده، مرَّ برجل آخر يقال له: عابد بني إسرائيل، وكانت على رأس العابد غمامة تظلُّه، فلمَّا مرَّ الخليع به قال الخليع في نفسه،: أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل، فلو جلست إليه لعلَّ الله يرحمني، فجلس إليه. فقال العابد في نفسه: أنا عابد بني إسرائيل، وهذا خليع بني إسرائيل، كيف يجلس إليَّ. فأنف منه وقال له: قم عنّي. فأوحى الله إلى نبيِّ ذلك الزمان مرهما فليستأنفا العمل، فقد غفرت للخليع، وأحبطت عمل العابد. وفي حديث آخر: فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع».

وأيضاً من أسباب التكبُّر الإحساس بالصَغار والذلِّ والهوان، فكأنَّه يريد أن يجبر ذلك بالكِبْر، أو ينتقم من الناس الذين يرى نفسه حقيراً عندهم بالتكبر عليهم كما ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «ما من رجل تكبَّر أو تجبَّر إلاَّ لذلَّة وجدها في نفسه»(3).

ومن أسباب علاج الكِبْر علاج سببه؛ فإن كان سببُ الكِبْرِ الإحساسَ بالذلِّ والصَغار، فليعرف صاحبه أنّ الله ـ تعالى ـ خَلَقَ البشر عزيزاً كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ...﴾(4)، وقال: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾(5).


(1) المصدر السابق: ص 314.

(2) المحجة 6 / 239.

(3) الكافي 2 / 312.

(4) السورة 17، الإسراء، الآية: 70.

(5) السورة 44، الدخان، الآية: 49.

465

وإنَّما الإنسان هو الذي يذلُّ نفسه بالكفر أو العصيان. وليس الذلُّ ـ حقيقةً ـ عبارةً عن النقصان في المال أو الولد، أو سلامة البدن، أو صباحة الوجه، أو الجاه والجلال عند أهل الدنيا أو ما إلى ذلك. وإن كان ذلُّه بالفسق، فعليه ترك الفسق. وإن كان سبب الكِبْرِ إعجابَه بنفسه، فليدقِّق في معايبه ونقائصه يرها أكثر من كماله، بل قد ينكشف له أنَّ إعجابه لم يكن بالكمال، بل بالنقص، كالإعجاب بتغلُّبه على حقِّ فلان بالمكر والظلم، فيرى نفسه بذلك ذكيّاً أو شجاعاً، ولو كان إعجابه ـ حقّاً ـ بكمال، فليلتفت إلى أنَّ عاقبة الأمر مستورة عنه. وقد يؤدِّي نفس هذا الإعجاب أو أيِّ سبب آخر إلى فقده لذلك الكمال كما ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «العَجب كلُّ العجب ممَّن يُعْجب بعمله وهو لا يدري بما يُختَم له. فمن اُعجب بنفسه وفعله فقد ضلَّ عن نهج الرشاد، وادَّعى ما ليس له، والمدّعي من غير حقٍّ كاذب وإن خفي دعواه وطال دهره، فإنَّه أوَّل ما يُفعَل بالمعجب نزع ما أُعجب به ؛ ليعلم أنَّه عاجز حقير ويشهد على نفسه؛ لتكون الحُجَّة عليه أوكد كما فُعِلَ بإبليس ...»(1).

وما أقرب الكِبْر إلى العلماء غير الربَّانيين. وتوضيح ذلك: أنَّ العالم الربَّاني هو العالم الذي تجتمع فيه صفتان:

الأُولى: أن يكون مهمُّ علمه الذي يعتني به وينمِّيه معرفةَ نفسه ومعرفة ربِّه «مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربَّه ...»(2). وهذا العلم لا يزيد العالم إلاَّ خضوعاً وخشوعاً؛ لأنَّه بغوره في معرفة النفس تنكشف له نقائصه التي لا تتناهى(3) أمام ما يغور فيه


(1) المحجة 6 / 275.

(2) البحار 2 / 32، الحديث 22.

(3) فمعرفته بنقائصه تمنعه عن الكِبْر.