184

ومن الواضح أنّ سير الجبال يلازم سير الأرض؛ لوضوح أنّ الجبال لا تسير في دائرة الأرض، فإن كانت تسير فإنّما تسير ضمن سير الأرض، أمّا أنّه نسب السير إلى الجبال لا إلى الأرض مباشرة فبنكتة أنّ الجبال هي الجانب البارز في النظر من الاستقرار والسكون والثقل، فهي أوتاد الأرض.

 

3 ـ بعض حركات الشمس:

اُشير في القرآن الكريم إلى بعض حركات الشمس التي لم تكن مكشوفة للعلم وقتئذ:

قال الله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون﴾(1).

وهذا المقطع القرآني المبارك بصدد الإشارة إلى الآيات العظيمة الدالّة على وجود الله سبحانه، وعظمته ووحدانيّته وحكمته وعلمه وقدرته، ونحن الآن لسنا بهذا الصدد؛ لأنّ هذا ما بحثناه في فصول وجود الله وتوحيده وصفاته، وإنّما نحن بصدد الإشارة إلى أنّ بعض الآيات التي ذكرت في هذا المقطع القرآني كان غير معروف أو محسوس، وإنّما كشف العلم عنه بعد قرون متمادية.

وقد كانت تحمل هذه الآيات المباركات قديماً على الحركة الظاهريّة للشمس والقمر التي ترى بالعين من قبيل قوله تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب﴾(2).

وفي الوقت الذي كان الناس يعتقدون أنّ الدوران وتبدّل الأبراج ناتج من حركة الأفلاك أو حركة هذه الأبراج السماوية، وأنّ الأرض ساكنة في محلّها،


(1) س 36 يس، الآية: 38 ـ 40.

(2) س 10 يونس، الآية: 5.

185

كانت هذه الآيات تحمل على ذلك، وحينما كشف العلم بعد قرون أنّه ناتج من حركة الأرض التي كان قد أشار إليها القرآن في وقت نزوله بقوله: ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب﴾(1) اُوّلت الآيات على أنّها جريٌ وفق الإحساس الظاهري كما هو متعارف لدينا اليوم من أنّنا ـ برغم علمنا بأنّ حدوث الليل والنهار يكون نتيجةً لحركة الأرض حول نفسها دون حركة الشمس ـ نعبّر بــ«طلعت الشمس» و «غربت الشمس» في حين أنّ الشمس لا تطلع ولا تغرب، وإنّما الأرض هي التي تدور، فيتراءى لنا أنّ الشمس تطلع وتغرب. فحينما كان علم الهيئة المسيطر على عقول الناس ما يسمّى بالهيئة البطلميوسيّة كان الاعتقاد السائد أنّ الشمس ملصقة بالسماء الرابعة ومعلّقة بها، وتلك السماء وباقي السماوات ـ التي كانت تفترض من قبيل قشور البصل المطبق بعضها على بعض ـ تدور حول الأرض، فدوران الشمس حول الأرض ـ الذي يتمّ به الشروق والغروب ـ ليس في الحقيقة سبحاً للشمس بل الشمس ثابتة في محلّها من الفلك، والأفلاك أو السماوات هي التي تدور حول الأرض، وحينما انكشف أخيراً بالعلم أنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس ظلّت الشمس أيضاً راكدة، إلى أن انكشف بعد ذلك أيضاً بوقت متأخّر أنّ للشمس عدّة حركات: حركتين ظاهريّتين وحركتين واقعيّتين:

أمّا الظاهريّتان: فإحداهما ما يتمّ به الشروق والغروب، والاُخرى ما يتم به طيّ المنازل الاثني عشر ضمن سنة كاملة، وبه يحدث الربيع والصيف والخريف والشتاء، وهاتان الحركتان ظاهريّتان؛ لأنّ واقعهما عبارة عن حركة الأرض حول نفسها بالقياس لحدوث الليل والنهار أو حول الشمس بالقياس لتبدّل الأبراج.

 


(1) س 27 النمل، الآية: 88.

186

وأمّا الواقعيّتان: فإحداهما حركة الشمس حول نفسها وقد تسمّى بالحركة الوضعيّة، والاُخرى حركتها مع منظومتها الشمسيّة ضمن المجرّة إلى نقطة معيّنة تسمّى اليوم بنجمة وكا، والتي هي ضمن مجموعة نجوم فلكيّة تسمّى بالجاثي على ركبتيه؛ لأنّها بمجموعها تشكّل هيئة من هو جالس على ركبتيه ومتهيّئ للقيام، وقد تسمّى هذه الحركة بالحركة الانتقاليّة، وهذه ليست حركة دوريّة بل حركة في خط مستطيل.

أمّا القمر فيطوي منازله الثمانية والعشرين التي تكون له قبل المحاق مع أيّام المحاق في شهر كامل، أي إنّ الحركة الدوريّة للقمر في منازلها أسرع من الحركة الدورية التي ترى للشمس في منازلها باثنتي عشرة مرّة؛ لأنّ الشمس تطويها في سنة أي في اثني عشر شهراً، بينما القمر يطويها في شهر.

ويحتمل أن يكون المقصود بقوله: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَر﴾ هو هذا المعنى: أي إنّ الشمس لا تدرك القمر في سرعة حركته.

ويحتمل أن يكون المقصود بقوله: ﴿وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَار﴾ أي الليل لا يلتهم النهار ولا يبلعه فيفنيه، بل مدار الليل والنهار يبقيان إلى أن تقوم ساعة انهدام الدنيا، كما يحتمل أن يكون المقصود أنّ النهار خلق قبل الليل ويأتي الليل دائماً عقيب النهار؛ لأنّ الكرة الأرضيّة كما يقال انفصلت عن الشمس بعد أن كانت مندكّة فيها، فكان النهار دائماً ثمّ أعقبه الليل بعد الانفصال.

أمّا قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم﴾ فكأنّه يشير ـ والله العالم ـ إلى أنّ القمر قدّر له السير في منازله إلى أن يعود في آخر الشهر قبل المحاق بشكل العرجون القديم، وقد فسّر العرجون بالعود الأصفر المتّصل به عذق التمر، فإذا أصبح قديماً ومضت عليه شهور أصبح ذابلاً واشتدّ اصفراره، فشبّه القرآن الهلال في أواخر الشهر به.

187

أمّا شاهدنا من هذه الآية المباركة في المقام فيمكن أن يكون أحد مقطعين:

أحدهما: قوله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون﴾، فعلى رأي هيئة بطلميوس لا معنى لسبح الشمس والقمر ضمن الفلك؛ لأنّهما معلّقان ومتّصلان بالفلك أو بالسماء حسب اعتقادهم، وإنّما الذي يسبح في اعتقادهم هو نفس الفلك أو السماء.

ولعلّه يجاب على ذلك بأنّ الآية قد تكون جرت وفق الحسّ العادي للإنسان من حركة الشمس والقمر ضمن الفلك أو السماء، ولم يعلم كونها حكاية عن أمر لم يكن قد كشف عنه العلم.

ثانيهما: قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم﴾، فهذا أيضاً ظاهره نسبة الحركة إلى ذات الشمس لا إلى الفلك أو السماء.

ولعلّه يجاب على ذلك أيضاً بأنّ التعبير في الآية قد يكون جارياً على ما هو محسوس للإنسان الاعتيادي من الحركة الدوريّة للشمس حول الأرض، ولم يعلم كونه حكاية عمّا لم يكن منكشفاً ذاك اليوم، فهي تحكي عن شروق الشمس وغروبها حول الأرض المستمرّين إلى يوم القيامة، وذاك يوم استقرارها؛ لأنّها تسكن من حركتها.

إلّا أنّه يجاب على ذلك بأنّ هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة جدّاً، وذلك:

أوّلاً: لأنّ الجري غير الدوران، فالجري يحكي عن الحركة المستقيمة أو الطوليّة، والدوران يحكي عن الحركة الدائريّة، والآية تشير إلى الحركة الدائريّة للشمس بقوله: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون﴾ ولكن قوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا﴾ إنّما يحكي عن الحركة الطوليّة.

وثانياً: لأنّ حمل كلمة ﴿مستقر﴾ في الآية على يوم القيامة خلاف الظاهر

188

جداً، فإنّ السياق يدل على أنّها اسم مكان وليست اسم زمان، فإنّ الجريان في قوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾ كان ظاهراً في التحرّك المكاني لا في البعد الرابع الذي يعني الحركة الزمانيّة أو الجري الزماني، فمعنى الآية والله العالم هو أنّ الشمس تسير سيراً طوليّاً في الفضاء إلى نقطة معيّنة تستقرّ فيها، وينتهي السير إليها، وهذا يطابق تماماً ما اكتشفوه أخيراً من سير الشمس بمنظومتها إلى نجمة وكا أو إلى الجاثي على ركبتيه، فمن أين جاء القرآن بهذه المعلومة قبل أربعة عشر قرناً لولا كونه من قِبل الله سبحانه وتعالى الخالق لهذا العالم وما فيه والعالِم بكلّ شيء؟

 

4 ـ الحياة على كواكب اُخرى غير الأرض:

إنّ الحياة على كواكب اُخرى غير الأرض ما زالت غير مكشوفة كشفاً قطعيّاً للعلم إلى زماننا هذا، ولا يوجد حتّى الآن أكثر من بعض الحدوس وإرهاصات الكشف.

قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير﴾(1).

والذي يظهر لنا من هذه الآية المباركة هو الإخبار عن الحياة المادّية في السماوات كما هي في الأرض، ولا يصحّ حمل ذلك على الملائكة كما قد يتصوّر، فإنّ الدابّة تعني ما يدبّ ويتحرّك من الموجودات المادّية دون مثل الملك أو الجنّ، ولا يصحّ حمل الآية على الطيور التي تطير في الهواء؛ فإنّها إمّا أن تعتبر من دوابّ الأرض، أو تعتبر بين السماء والأرض، لا في نفس السماء،


(1) س 42 الشورى، الآية: 29.

189

في حين أنّ ضمير التثنية في الآية يرجع إلى نفس السماوات والأرض، والدابّة تشمل كلّ ذي حياة وحركة من أصغر الذرّات إلى أكبر الحيوانات جثّةً.

ولا يبعد أن يكون قوله تعالى: ﴿أَ لاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْض﴾(1) حاكياً عن بعض إرهاصات الحياة في السماوات وهو النبات، فإنّ الآية وإن كانت تفسّر بإخراج ما هو مخبوء في الأرض وهي النباتات وما هو مخبوء في السماوات وهي الأمطار، ولكنّ هذا التفسير يبدو بعيداً عن الذهن؛ فإنّ الأمطار ليست مخبوءة في السماوات، بل هي البخار الذي صعد من الأرض ثمّ سال على شكل ماء، وأكبر الظن أن يكون المقصود بالمخبوء في السماوات أيضاً هي النباتات التي تُعدّ من إرهاصات الحياة وعلاماتها.

وذيل الآية كأنّها تخبر عن جمع كلّ الدوابّ سواء ما في الأرض أو ما في السماء ليوم يجمع فيه الناس وهو يوم القيامة؛ وذلك لأنّ الآية لم تعبّر بتعبير: «وهو على جمعهم إن شآء قدير» كي يقال: إنّ (إن) أداة شرط، ولا تحكي عن أنّه سوف يشاء، وإنّما عَبّر بقوله: ﴿إِذَا يَشَاء﴾ و(إذا) أداة ظرف، فكأنّ أصل المشيئة مفروضة وانّما الآية تقول: إنّ جمعهم في ظرف مشيئة الله مقدور.

والأصرح والأوضح من ذلك في حشر جميع الدوابّ وذوات الحياة بخصوص كرتنا قوله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّة فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون﴾(2)، والأوضح


(1) س 27 النمل، الآية: 25.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 38.

190

من هذه بخصوص الوحوش قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾(1).

وقد انجرّ كلامنا هنا إلى ما هو خارج عن بحثنا وهو حشر الوحوش والحيوانات جميعاً في يوم المعاد على ما يظهر لنا من هذه الآيات المباركات.

وهذا ما يجعلنا نحدس ـ والله العالم ـ بثبوت نوع من الحساب والجزاء لهم بالرغم من عدم امتلاكهم للفهم والإدراك بالمستوى الذي نحن نمتلكه ممّا تتبعه التكاليف الشرعيّة بالمعنى المفهوم لنا في الفقه، وتكاليف عرفانيّة بالمعنى المفهوم لنا في العرفان، ولكن يبدو أنّ لهم فهماً وشعوراً بمستوى يؤهّلهم لمسؤوليّات بحدودهم ولو بمقدار معرفة قبح ظلم بعضهم لبعض.

ويدعم ذلك عدّة اُمور:

أوّلاً: ما هو محسوس لنا في بعض الحيوانات من نظم مذهل في اُمورها، ممّا يدلّ على مدى إدراكها كما في النحل والنمل ممّا يستبعد كونه ـ على ما قد يقال ـ غريزة بدون عقل، وكذلك ما نراه من تشخيص كثير من الحيوانات لأعدائها من دون تجربة مسبقة، كما يُرى من فرار الشاة من الذئب حتّى لأوّل مرّة من رؤيته إيّاه، وكذلك ما نراه من وفاء بعض الحيوانات كالكلب لصاحبه الذي أنعم عليه، بل ولباقي أهل البيت من الأولاد والأطفال والنساء، وكذلك ما نراه من تعليم البشر لبعض الحيوانات لأداء خدمات كثيرة كتعليم كلب الصيد للصيد وتعليم الطير لإيصال الرسائل وأدائها لما يطلب منها بدقّة فائقة.

ثانياً: حكاية القرآن بعض القصص المذهلة عن بعض الحيوانات، كقصّة النمل: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ


(1) س 81 التكوير، الآية: 5.

191

لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا﴾(1).

وكقصّة الهُدهُد، وتفقّد سليمان(عليه السلام) للطير فقال: ﴿مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لاَُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُّبِين * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإ بِنَبَإ يَقِين * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُون﴾(2)، وفي هذه الآية الثانية نرى أنّ سليمان(عليه السلام) قدّر للهُدهُد نوع مجازاة لو لم يأته بسلطان مبين.

ثالثاً: إشارة بعض الروايات إلى مجازاة بعض الحيوانات أو القضاء فيما بينها يوم القيامة، إلّا أنّ الظاهر أنّها جميعاً سنّية المصدر كما ورد في مجمع البيان ضمن تفسير الآية (38) من سورة الأنعام ما رووه عن أبي هريرة أنّه قال: يحشر الله الخلق يوم القيامة والدوابّ والطير وكلّ شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ: أن يأخذ للجمّاء من القرناء ثمّ يقول: كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً، وعن أبي ذر (وأظنّه يقصد: ورووا عن أبي ذر، عطفاً على قوله:


(1) س 27 النمل، الآية: 18 ـ 19.

وقد روي عن عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أبيه موسى بن جعفر(عليه السلام) عن أبيه جعفر بن محمّد(عليه السلام) قال: لمّا قالت النملة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُه وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون﴾ حملت الريح صوت النملة إلى سليمان(عليه السلام) وهو مارّ في الهواء والريح قد حملته، فوقف وقال: عليّ بالنملة، فلمّا اُتي بها قال سليمان(عليه السلام): يا أيّتها النملة، أما علمت أ نّي نبيّ الله وأ نّي لا أظلم أحداً؟ قالت النملة: بلى. قال سليمان(عليه السلام): فلم حذّرتهم ظلمي فقلت: يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم؟ قالت النملة: خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدون عن ذكر الله تعالى. اُنظر عيون أخبار الرضا 2: 78، الباب 32، الحديث 8.

(2) س 27 النمل، الآية: 20 ـ 24.

192

رووه عن أبي هريرة) قال: «بينا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) اذ انتطحت عنزان، فقال النبي(صلى الله عليه وآله)أتدرون فيما انتطحتا؟ فقالوا: لا ندري، قال(صلى الله عليه وآله): لكن الله يدري وسيقضي بينهما».

رابعاً: تصريح القرآن بثبوت الخشية من الله في بعض الجمادات والأحجار بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه﴾(1)، فلئن كان الجماد ـ الذي يشكّل في تصوّراتنا الظاهريّة أخسّ مرتبة من المراتب المادّية في عدم الإحساس والشعور ـ يمتلك بصريح القرآن إحساس الخشية من الله، فما الذي يبعّد وجود مستوى من الشعور لدى الحيوانات ممّا يجعلها مسؤولة تجاه بعض نكات الحسن والقبح العقليين؟!

وبهذا البيان يتّضح مدى ظلم الإنسان وجهله الذي حمل الأمانة التي لم تحملها السماوات والأرض والجبال، ثمّ لا يخشى الله ويخون الأمانة ويوقع نفسه في مستوى أنزل من الحيوانات ومن الجمادات، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِْنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾(2).

وفي نهج البلاغة: «ثمّ أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنّها عرضت على السماوات المبنيّة والأرضين المدحوّة والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها، ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة وعقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ، وهو الإنسان، إنّه كان ظلوماً جهولاً. إنّ الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم ونهارهم، لطف به خبراً وأحاط به


(1) س 2 البقرة، الآية: 74.

(2) س 33 الأحزاب، الآية: 72.

193

علماً(1). أعضاؤكم شهوده، وجوارحكم جنوده(2)، وضمائركم عيونه(3)، وخلواتكم عيانه»(4).

 

5 ـ حفظ الجبال للأرض من الحركات والزلازل:

قال الله تعالى:﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُون﴾(5)، ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً﴾(6)، ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَات وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتاً﴾(7)، ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّة﴾(8).

فمن الذي كان يعلم وقتئذ تأثير الجبال في استقرار الأرض، وأنّها بمنزلة الأوتاد والرواسي؟ في حين أنّه بعد مضيّ قرون متمادية انكشف الأمر للعلماء،


(1) «وَكُلَّ سَيِّئَة أَمَرْتَ بِإِثْباتِهَا الْكِرامَ الْكاتِبينَ الَّذينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مِنّي، وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوارِحي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيَّ مِن وَرَائِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ، وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ...». دعاء كميل.

(2) ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾. س 36 يس، الآية: 65. ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُون﴾. س 41 فصّلت، الآية: 21 ـ 22.

(3) ﴿بَلِ الاِْنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه﴾. س 75 القيامة، الآية: 14 ـ 15.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 199. ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور﴾. س 64 التغابن، الآية: 4.

(5) س 16 النحل، الآية 15.

(6) س 78 النبأ، الآية: 6 ـ 7.

(7) س 77 المرسلات، الآية: 27.

(8) س 31 لقمان، الآية: 10.

194

فرأوا أنّ الجبال هي التي هدّأت الأرض في مقابل الحركات والزلازل، سواء التي قد تنشأ من حرارة مركز الأرض وضغطها على قشر الأرض، أو التي يمكن أن تنشأ من الجزر والمدّ الناتجين من جاذبيّة بعض الكواكب الاُخرى كالشمس والقمر، أو التي يمكن أن تنشأ على أثر اصطكاك الأرض بما حولها من الهواء نتيجة حركتها الدائرة حول نفسها، لولا أنّ الجبال تحرّك ـ كما قالوا ـ الهواء من حول الأرض بما يوازي حركة الأرض فلا يتحقّق الاصطكاك بينهما.

 

6 ـ الزوجية في النباتات:

ففي الوقت الذي لم يكن يعرف أحد الزوجيّة في النباتات ـ اللّهم إلّا في النخل الذي شاع تلقيحه عندهم ـ قال القرآن:

﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم﴾(1)، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم﴾(2)، ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج﴾(3)، ﴿وَتَرَى الاَْرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج﴾(4)، ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَات شَتَّى﴾(5).

وقد كان يحمل التعبير بالزوج في هذه الآيات على تعدد الأصناف، إلى أن اكتشف العلم شمولية قانون الزوجيّة من الذكر والاُنثى للنبات والتلقيح فيها ولو بسبب الحشرات تارة، وبسبب الريح اُخرى، ولعلّه المقصود بقوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِح﴾(6).

بل ذهب القرآن إلى أكثر من ذلك وثبّت الزوجيّة لكلّ شيء حتّى الجمادات


(1) س 31 لقمان، الآية: 10.

(2) س 26 الشعراء، الآية: 7.

(3) س 50 ق، الآية: 7.

(4) س 22 الحج، الآية: 5.

(5) س 20 طه، الآية: 53.

(6) س 15 الحجر، الآية: 22.

195

في قوله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾(1).

وقد كان يفسّر ذلك بمعنى خلق كلّ صنفين متقابلين كالليل والنهار، أو النور والظلمة، أو البحار والبراري، أو الشمس والقمر، أو الحرب والصلح، أو ما إلى ذلك، وأنت ترى أنّ هذا ـ مضافاً إلى عدم شموليته لكلّ شيء ـ تفسير واه؛ إذ لا نكتة لتركيز الكلام على الزوجيّة في ذلك، وليس مجرّد المقابلة بين أمرين تنسّب إطلاق الزوج عليهما هنا في حين أنّ العلم أثبت أخيراً تركيب كلّ مادّة من ذرّات، واشتمال كلّ ذرّة على نواة حولها الكترونات ذات شحنات سالبة تدور بسرعة كبيرة، مع احتواء النواة على بروتونات تحمل شحنات موجبة بمقدار شحنة الالكترونات السالبة، والجذب الموجود بينهما وتكميل أحدهما للآخر ممّا ينسّب افتراض أحدهما زوجاً للآخر وليس مجرّد المقابلة، وهذه قاعدة عامّة في جميع الموادّ بلا استثناء.

 

7 ـ بعض تطوّرات الجنين:

قال الله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الاِْنسَانَ مِن نُّطْفَة أَمْشَاج نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾(2).

قوله تعالى: ﴿أَمْشَاج﴾ جمع مشج أو جمع مشيج بمعنى المختلط، كان يفسّر بالاختلاط بين منيّ الرجل وبُيَيضة المرأة(3)، ولكن لعلّ صيغة الجمع تشير إلى


(1) س 51 الذاريات، الآية: 49.

(2) س 76 الإنسان، الآية: 2.

(3) بل وحتّى هذا الاختلاط في خلقة الجنين لم يكن معروفاً في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)بالأخص في ذاك المجتمع الجاهلي، وكان الاعتقاد السائد أنّ الولد للأب فقط، وأنّ الاُمّ حكمها حكم القدر الذي يطبخ فيه الطعام، وكان يقال:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

196

أكثر من مادّتين.

أو يفسّر بالاختلاط بين الاستعدادات الجسمانيّة والروحيّة الكامنة في نطفة الإنسان، ولعل ظهور الكلمة يكون في الخلط المادّي الفعلي.

أو يفسّر باختلاط أنواع المركّبات المعدنيّة وشبهها في النطفة، في حين أنّ هذا المعنى من الاختلاط لا يختصّ بالنطفة، بل يشمل جميع الموادّ الإنسانيّة والنباتيّة والأغذية والجمادات المركّبة.

ولكن قد كشف العلم بعد قرون متمادية عن كون المنيّ خليطاً من ترشّحات غدد عديدة في البدن، كالخصيتين وغدّة البروستات وغيرها.

قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾، قد يكون تقديم كلمة السميع على كلمة البصير إشارة إلى ما ثبت بعد حين لدى العلماء: من أنّ المولود يصبح قادراً على السماع في أوائل أيّام ولادته ـ ولعلّه من أوّل يوم ـ ولا يصبح قادراً على الرؤية إلّا بعد حين، أو إشارة على ما ثبت أيضاً بعد حين من أنّ تكوّن أساس الجهاز السمعي للجنين يكون قبل تكوّن أساس الجهاز البصري في الرحم.

وقال الله تعالى:﴿أَلَمْ نَخْلُقكُم مِّن مَّاء مَّهِين * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَار مَّكِين * إِلَى قَدَر مَّعْلُوم * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُون﴾(1)، وهذا ظاهر في أنّ خلق الإنسان من ماء مهين يكون أوّلاً قبل جعله في قرار مكين وهو الرحم، ثُمّ يجعل فور انعقاده في القرار المكين على ما هو ظاهر العطف بالفاء، وقد كشف العلم بعد قرون: عن أنّ انعقاد الجنين يتمّ أوّلاً بتلاقح المني والبُيَيضة خارج الرحم، ثمّ ينتقل فوراً بعد الانعقاد إلى الرحم.

قوله تعالى: ﴿فِي قَرَار مَّكِين﴾، وأيّ قرار أمكن وآمن من مقرّ الجنين الواقع


(1) س 77 المرسلات، الآية: 20 ـ 23.

197

بعد أستار ثلاثة(1) وفي كيس مليء بماء لزج، يجعل الجنين سابحاً في ذلك الماء فكأنّه لا وزن له؟! وتتحمّل تلك الفواصل ثمّ ذاك الماء كلّ الضربات المتوقعة، ويبقى الجنين سليماً في العادة إلى آخر لحظة، و﴿إِلَى قَدَر مَّعْلُوم * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُون﴾ ثمّ ينفجر الكيس وينزل الماء؛ ليعقّم طريق خروج الجنين الذي لا يخلو عادة من تلوّثات، ويوسّع فوهة الرحم تمهيداً لخروجه بسلام(2).

ولملحد أو كافر أن يقول: من قال: إنّ الآية القرآنيّة تحكي عن هذه الدقائق؟ ولعلّ مقصودها بالقرار المكين المقدار المنكشف لكلّ انسان اعتيادي من أنّ الرحم واقع في جوف البطن فهو قرار مكين نسبيّاً. وأيضاً من قال: إنّ تقديم كلمة «السميع» على كلمة «البصير» تشير إلى تقدّم السمع على البصر؟ ومن قال: إنّ كلمة ﴿أَمْشَاج﴾ تشير إلى الاختلاط بين أكثر من مادّتين؟ وقد قالوا: إنّ صيغة الجمع تطلق على اثنين فصاعداً.

ولكن ماذا يقول عن رفع القرآن الستار عن مراتب تطوّر الجنين في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾(3) ؟ فمن علّم الرجل الاُمّي(صلى الله عليه وآله) الذي عاش وترعرع ضمن المجتمع الجاهليّ الذي لا يعرف شيئاً اسمه العلم، ولا يجيد إلّا السباب والشتائم


(1) جدار البطن، وجدار الرحم، والكيس الذي فيه الجنين. راجع أيضاً هذا البحث في ما مضى من بحث القرار المكين للجنين ضمن برهان النظم على وجود الله سبحانه وتعالى.

(2) راجع في كلّ هذا پيام قرآن 8: 169 ـ 172.

(3) س 23 المؤمنون، الآية: 13 ـ 14.

198

والمشاحنة والقتال والغارات أنّ الجنين يمرّ أوّلاً بمرحلة النطفة في الرحم، ثُمّ يصل إلى مرحلة الدم المنجمد، ثمّ يرتقي إلى مرحلة ما يشبه اللحم الممضوغ، ثمّ يتحوّل إلى الخلايا العظميّة، ثمّ تكسى العظام باللحم إلى أن ينتهي الأمر إلى نفخ الروح؟ فتبارك الله أحسن الخالقين. وهل أنّ أدوات التصوير التي شاعت اليوم عن مراحل الجنين كانت شائعة وقتئذ؟ أم الدراسات الممكنة اليوم لما في داخل البدن بجزيئاته بوسائل التلفزة الواضحة كانت تحت يد الرسول(صلى الله عليه وآله)يومئذ؟ أم هل كان قد راج آنذاك ما يسمّى اليوم بعلم تشريح الجنين؟ أوَ ليس كلّ هذا تعليماً ربّانيّاً من قبل إله حكيم عليم محيط بكلّ شيء إحاطة الخالق بالمخلوق؟(1)

ومن الطريف من الناحية البلاغيّة أنّه تعالى في الآية السابقة عطف مرحلة الجعل في قرار مكين بالفاء، وفي هذه الآية عطفها بثمّ؛ لأنّ المعطوف عليه في تلك الآية كان عبارة عن مرحلة الانعقاد الذي يتمّ خارج الرحم، ثمّ ينتقل الجنين فوراً إلى الرحم، في حين أنّ المعطوف عليه في هذه الآية عبارة عن مرحلة خلق الإنسان من سلالة من طين قبل نأي من الزمن.

وأيضاً من الطريف من الناحية البلاغيّة: أنّ المراحل المتقاربة نسبيّاً من بعد اجتياز مرحلة النطفة عطف بعضها على بعض في هذه الآية بالفاء، عدا مرحلة نفخ الروح البعيدة نسبيّاً عن المراحل السابقة، فقد عطفت بثمّ.

وأيضاً من الطريف في هذه الآية أنّها عنونت المراحل المتقدّمة بعناوين قابلة للفهم البشري من: النطفة والعلقة والمضغة والعظم وكسوة اللحم، ولكن أشارت إلى المرحلة الأخيرة ـ وهي نفخ الروح ـ بما يوحي إلى أنّه غير قابل


(1) راجع پيام قرآن 8: 173 ـ 174.

199

للدرك في فهم الإنسان المادّي فقال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر﴾ من دون أن يسمّي ذاك الخلق باسم؛ لأنّه ليس له اسم قابل للدرك في الذهن البشري، كما قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(1) على ما في أكبر الظنّ من أنّ المقصود بالروح هو الروح البشريّة، أو مطلق الروح الحيوانيّة على الرغم من أنّ بعض الأكابر(2) أصرّ على كون المقصود بالروح روح الأمين جبرائيل، وممّا ذكره كقرينة على ذلك: أنّ السائلين في قوله: ﴿يَسْأَلُونَك﴾ وإن كانوا بعض المشركين، لكنّهم إنّما سألوا بدلالة بعض اليهود الذين كانوا أعداء لجبرئيل باعتقادهم أنّه حرّف النبوّة من نسل إسرائيل إلى نسل إسماعيل، ويقولون بشأنه: خان الأمين؛ ولهذا قال الله تعالى في ردّهم: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين﴾(3).

أقول: إنّ هذا الكلام غريب؛ فإنّ الظاهر من فرض السؤال عن الروح هو السؤال عن هويته لا عن أمانته أو خيانته أو عن طيبه أو خبثه.

ومن الجدير بالذكر بهذه المناسبة أنّ البعض قد يتصوّر التضارب في بعض الاُمور بين العلم والدين، وقد يذكر كمثل لذلك ما هو المعروف في الفقه من أنّ الروح ينفخ في الجنين من بعد الأربعة أشهر، في حين أنّ العلم يقول: إنّ الجنين مشتمل على الروح من أوّل يوم؛ ولهذا ينمو ويتكامل ويطوي المراحل المختلفة، وقد يذكر أيضاً كمثل لذلك ما هو معلوم لدى الفقه من التفكيك بين دم الحيض ودم الاستحاضة، في حين أنّ العلم لا يفرّق بينهما ويراهما حقيقة


(1) س 17 الإسراء، الآية: 85.

(2) راجع منشور جاويد 3، الفصل العاشر.

(3) س 2 البقرة، الآية: 97.

200

واحدة ومن منبع واحد.

والواقع أنّ التضارب بين العلم والدين من المستحيلات؛ لأنّ خالق العلم ومنزّل الدين واحد وهو الله تعالى، أمّا الجواب على ما ذكرناهما من المثلين والمسموعين من بعض الأطبّاء فواضح:

أمّا المَثَل الأوّل فلأنّ فيه خلطاً بين الروح النباتيّة والتي تؤدّي إلى النموّ، والروح الحيوانيّة والتي تؤدّي إلى الحركات الإراديّة التي يتّصف بها الجنين عادة من بعد الأربعة أشهر.

وأمّا المَثَل الثاني فلأنّ فيه خلطاً بين تماثل الدّمين في الهويّة والعناصر التي يأتلف منها الدم، وفي منبع نزول الدم من ناحية وأسباب النزول من ناحية اُخرى، فسبب نزول دم الحيض سبب صحّي؛ ولهذا لا يعالجه الأطبّاء، وسبب نزول دم الاستحاضة سبب مرضي؛ ولهذا يحاول الطبيب معالجته، وسبب نزول الحيض هو التمزّق الدوري لغشاء الرحم، في حين أن سبب الاستحاضة كما قلنا انحراف المزاج، ونزول الحيض آيةٌ لقابليّة الحمل وليست الاستحاضة كذلك.

 

8 ـ السقف المحفوظ المسمّى اليوم بالغلاف الجوّي:

قال الله تعالى:﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُون﴾(1)، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون﴾(2).

كان الاعتقاد السائد قديماً هو أنّ السماوات كقشور البصل، فكأنّ كلّ سماء قشر كالقشور الأرضيّة، وبعضها منطبق على البعض، ثمّ انكشف ـ على الأقل


(1) س 21 الأنبياء، الآية: 32.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 125.

201

بالنسبة لما هو مرتبط مادّياً بأرضنا وهي ما يسمّى بالسماء الدنيا ـ أنّه ليس الأمر كذلك، بل كوكبنا وكباقي الكواكب بالقدر المكشوف لنا كلّها كرات سابحة في جوّ يبدو لنا أنّه غير متناه.

وبهذا أصبح معنى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ أمراً غامضاً؛ إذ يقال: لا سقف لعالمنا وأرضناأو مجرّتنا أو المجرّات الملحوظة كي يكون محفوظاً أو غير محفوظ، فلابدّ من حمل الآية على معنى مجازي.

ولكن العلم كشف أخيراً عن أنّ أرضنا محفوفة بالهواء المسمّى بالغلاف الجوّي، وهو هواء رقيق أرقّ وأصفى من الهواء المألوف عندنا في مرافق الأرض، وهذا الغلاف بلغ من الضخامة مئات الكيلو مترات وهو متألّف من الهواء وبعض الغازات الاُخرى، وضخامته التي أشرنا إليها جعلته مقاوماً ومحفوظاً كسقف حديدي يبلغ نحو عشرة أمتار مثلاً، ليحفظ الأرض ومن عليها وما عليها من الأخطار النازلة والمتنوّعة:

فالأحجار المسمّاة بالشهب تنزل بأسرع ما يتصوّر إلى الأرض، وواحدة منها تكفي لهلاكنا أو هلاك قسم واسع من أرضنا، فكيف وعددها يبلغ يوميّاً الملايين على ما يقول العلماء؟ ولكنّها جميعاً تصطدم في طريقها بذاك الغلاف الجوّي الضخم وتحترق بذلك، إلّا بعض الأجزاء اليسيرة المتبقّية من بعض الأحجار الكبيرة، فتخرق هذا السقف، وتحقّق بعض التهديمات المهمّة في بعض نقاط الأرض، وكأنّ ذلك لإلفات نظرنا وتنبيهنا إلى الأخطار الحقيقيّة للشهب التي يحفظنا منها هذا السقف المحفوظ.

وكذلك يحفظنا هذا السقف المحفوظ من الأشعّة فوق البنفسجيّة الصادرة من الشمس ممّا لا تدرك بالبصر، ومقدارها الضئيل الذي يصلنا ينفعنا ويقتل كثيراً من الميكروبات الملوّثة للجوّ؛ لما له من التأثير المضادّ الحيويّ، ولكن الكثير

202

من تلك الأشعة يحرق البدن، وامتصاص الغلاف الجوّي للزائد منها هو الذي ينجينا من الهلاك.

وكذلك يحفظنا هذا السقف المحفوظ أو قل: هذا الغلاف الجوّي من الأشعة التي تنزل إلينا من فوق المنظومة الشمسيّة بواسطة ما فيه من غاز أزرق يسمّى بالاُوزون. وقد شاعت في هذه الأيّام مخاوف العلماء من حدوث رقّة في طبقة الاُوزون نتيجة تصاعد بعض الغازات الأرضيّة الناشئة من احتراق الوقود وغيره.

وإطلاق كلمة السماء في هذه الآية المباركة على ما يسمّى اليوم بالغلاف الجوّي ليس غريباً؛ فإنّ كلمة السماء يبدو أنّها استعملت يقينا في هذا المعنى في عديد من الآيات، من قبيل آيات إنزال ماء المطر من السماء كقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ﴾(1).

وقل لي بالله عليك أنّ الرجل الاُمّي ـ أرواحنا له الفداء ـ كيف عرف الفرق بين الهواء المتواجد لدينا في مرافق أرضنا، والهواء الفوقاني من ناحية أنّ الهواء المتواجد لدينا مضغوط وفيه من الاُكسيجن ما يكفي للتنفّس بكلّ راحة، في حين أنّنا كلّما نصعد في الهواء ونقترب أكثر من ذاك السقف المحفوظ أو طبقات الغلاف الجوّي يرقّ الهواء أكثر ويقلّ فيه عنصر الاُكسجين، فيضيق التنفّس في الصدر إلى أن ينعدم، فورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون﴾(2).

إنّ هذه حقيقة لم تنكشف للعلم إلّا بعد قرون متمادية، فترى اليوم أنّ


(1) س 2 البقرة، الآية: 22.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 125.

203

المشرفين على الطائرات يعلنون لركّابها أنّ الهواء داخل الطائرة مكيّف بتكييف خاصّ لتسهيل التنفّس، فلو حصل أيّ عطب أو خلل أوجب ضيق التنفّس زوّدناكم بأجهزة اُكسجينيّة تستفيدون منها حتّى تهبط الطائرة إلى الجوّ المناسب من الهواء.

 

9 ـ نسبة البَرَد إلى الجبال في السماء:

فقد ورد في القرآن الكريم نسبة البَرَد(1) ـ الذي ينزل إلى الأرض عادة مع الأمطار ـ إلى جبال في السماء، فكأن المطر يسير إلى تلك الجبال ويحمل منها البَرَد، فينزل البَرَد ضمن المطر إلى الأرض، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَال فِيهَا مِن بَرَد فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاَْبْصَار﴾(2).

والمقدار المعروف لدى الناس الاعتياديين في زماننا ـ لا في زمان نزول الآية ـ أنّ السحاب الذي هو عبارة عن البخار المتصاعد من الأرض إلى السماء يتحوّل بالتلاقي مع برودة الطبقات الجوّية العليا إلى ماء، وينزل مرّة اُخرى إلى الأرض، وقد يتحوّل نتيجة شدّة البرد إلى الثلج؛ وذلك على شكلين: فإن تحوّل السحاب بشدّة البرد إلى الثلج تكوّن الوفر ونزل، وإن تحوّل بسبب مستوى معيّن من البرد إلى الماء وهو المطر ثمّ تحوّل بعض قطرات هذا المطر في الأثناء بشدّة البرد إلى الثلج تكوّن البَرَد ونزل البَرَد إلى الأرض. أمّا افتراض أنّ البَرَد


(1) البَرَد: الماء الجامد ينزل من السحاب قِطَعاً صغاراً، ويسمّى: حبّ الغمام. المعجم الوسيط«برد».

(2) س 24 النور، الآية: 43.

204

عبارة عن حبّات تؤخذ من جبال في السماء فيكاد يبدو في الذهن ـ لولا اكتشافات علميّة أخيرة ـ من الخرافات.

إلّا أنّ الاكتشافات الأخيرة تقول: إنّ المطر حينما يلتقي طبقة باردة في الجوّ، وتتحوّل قطرات منه إلى الثلج تكون تلك القطرات صغيرة جدّاً، ولا تبلغ ابتداءً حجم البَرَد المألوف لدينا نزوله هذا من ناحية، ومن ناحية اُخرى تقول الاكتشافات: إنّ الغيوم وإن كانت تتراءى لنا في ظاهر الحال كأوراق مفروشة في السماء، ولكنّها كما نراها من الطائرات التي تعلوها تكون في جهتها الاُخرى جبالاً سحابيّة، أي ركاماًـ كما عبّر به في القرآن ـ ضخماً مختلف السطوح وليست كوجهها الظاهر لنا من مكان بعيد، وهي تماماً كالجبال الأرضية متفاوتة السطوح ومختلفة الأحجام، ومن ناحية ثالثة تقول الاكتشافات أيضاً: إنّ تلك القطرات الثلجية الصغيرة الضئيلة يأخذ بها الريح لخفّتها يميناً وشمالاً وصعوداً إلى تلك الجبال الغيميّة، وتمتصّ معها مرّة اُخرى رطوبة الجوّ لتتحوّل إلى قشر ثلجيّ جديد في طريقها للنزول، فيكبر بذلك حجم البَرَد، وتتكرّر هذه العمليّة عدّة مرّات إلى أن تبلغ من الكبر ما لا يستطيع الهواء رفعه مرّة اُخرى إلى ما فوق تلك الجبال، فتأخذ طريقها في الهبوط إلى الأرض بحجمها المألوف أو بتعبير القرآن: على شكل البَرَد فقد عرفنا كيف يحمل المطر البَرَد من الجبال.

بل قيل: إنّ من تلك الجبال ما هي متحوّلة إلى ثلوج ناعمة متراكمة(1).

أقول: ويحتمل ـ ولعل هذا يكشفه العلم بالمستقبل ـ وجود جبال هوائيّة باردة، كما يحسّ به اليوم من وجود وِديان هوائيّة قد تجذب الطائرات الصاعدة.

 


(1) راجع پيام قرآن 8: 181 ـ 182.

205

10 ـ عظمة ودقّة صنع البنان:

قال الله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الاِْنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَه﴾(1). هذه الآية المباركة تبدأ بالاستنكار على من لا يستطيع التصديق بقدرة الله سبحانه على جمع عظام الميّت ونفخ الروح فيه مرّة اُخرى، وتنتهي بالإشارة إلى قدرته عزّ وجلّ على صنع أدقّ عضو من أعضاء الإنسان وإرجاعه إلى الخلق الأوّل، فعلى خلاف ما قد يبدو في تصوّر ساذج من أنّ العظام الكبيرة العظيمة التي تتقوّم بها البُنية الأصليّة من الجسد هي أعظم ما يكون في صنع البشر، يقول الله تعالى: لا تستغرب من إرجاع العظام إلى ما كانت عليه في الخلق الأوّل، فهنا ما يكون أعظم وأغرب في الصنع وأدقّ في التسوية والترتيب، والله تعالى يُرجعها ويُرجع العظام وباقي الأعضاء كما كانت، ألا وهي البنان.

فمن الذي كان يعرف أنّ البنان من أغرب ما في جسم البشر وأعظمها وأدقّها قبل أن يكتشف العلم خطوط البنان التي لو قيس فيها بنان شخص ببنان شخص آخر مع الجمع بين الأوّلين والآخرين من البشر من أوّل العالم وإلى يوم القيامة فلن يوجد بنانان متساويان لشخصين في تلك الخطوط؟ ولهذا أصبحت البصمة في عالم القضاء والحكم في زماننا هذا أمتن توقيع متميّز فوق الختم والإمضاء، فكلّ شيء يقبل التزوير والتصنيع ما عدا بصمة البنان، وأصبح تشخيص المجرم عن طريق آثار البنان ـ التي تبقى على الأبواب أو الأقفال أو الحيطان أو الأسلحة أو ما إلى ذلك ـ فنّاً رائعاً من فنون هذا العصر، نعم يقول الله تبارك وتعالى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَه﴾.

 


(1) س 75 القيامة، الآية: 3 ـ 4.

206

 

الإخبار عن اُمور غيبيّة مستقبليّة

 

وردت أخبار غيبيّة مستقبليّة في القرآن من قبيل:

 

1 ـ انتصار الروم بعد بضع سنين:

قال تبارك وتعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(1).

قالوا: وقعت حرب بين الروم والفُرس بهجوم من قبل الفُرس سنة (617) الميلاديّة تقريباً على الروم في أراضي الشامات، وانتهت بهزيمة الامبراطوريّة الروميّة الشرقيّة وأصبحت على أبواب الانقراض. وكان ذلك فيما يقارب السنة الهجريّة السابعة، وأوجب فرحاً وسروراً للمشركين في مكّة؛ لأنّ الفُرس كانوا مشركين مجوسيّين والروم مسيحيّين ومن أهل الكتاب، فتفاءل مشركو مكّة بأنّهم سيغلبون المسلمين، ويُنهون بذلك حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهذا ما أوجب فرح المشركين وأذى المسلمين واغتمامهم، فنزلت الآية المباركة المصرّحة بأنّ الروم سيَغلِبون في ما هو أقل من عشر سنين.

والذي وقع حسب ما يحدّثنا التاريخ هو بدء غلبة الروم على الفُرس من سنة (626) الميلاديّة في حروبهم مع إيران إلى سنة (627)، فكان يتمّ للروم


(1) س 30 الروم، الآية: 1 ـ 6.

207

الانتصار تلو الانتصار حتّى اكتمل انتصارهم، وخلع الإيرانيون ملكهم خسرو پرويز ونصبوا مكانه ابنه شيرويه. إذن بدأت انتصارات هرقل ملك الروم بعد تسع سنين من انكساره واكتملت في السنة العاشرة، حيث اكتسح سلطانه الأرض إلى ما يقرب من عاصمة خسرو فهرب وخلعه الإيرانيون وقُتل بعد ذلك.

 

2 ـ دخول المسجد الحرام:

قال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾(1).

قالوا: عزم رسول الله(صلى الله عليه وآله)على زيارة المسجد الحرام وأداء العمرة في شهر ذي القعدة سنة ست للهجرة، وطلب من المسلمين مصاحبته في هذا العمل فاستجاب كثير منهم. وقد رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عالم الرؤيا دخوله مع أصحابه المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة، وحدّث المسلمين بذلك، ورؤيا النبي تعتبر بمنزلة الوحي، فتوهّم المسلمون أنّ ذلك سيكون في تلك السنة نفسها.

وسار مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) نحو ألف وأربع مئة نفر وهم لا يحملون من السلاح إلّا السيف الذي يعتبر سلاح السفر ولا يكفي للحرب، وحينما وصلوا إلى عسفان قريباً من مكّة عرفوا أنّ قريشاً صمّمت على منعهم من دخول مكّة، ولكنّهم ساروا إلى الحديبيّة التي كانت تبعد عن مكّة بعشرين كيلو متراً، فوقفت الناقة وزجرها فلم تنزجر وبركت، فقال أصحابه: خلأت الناقة. أي بركت ولم تبرح


(1) س 48 الفتح، الآية: 27.

208

مكانها. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): وما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل. ودعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى مكّة ليأذنوا له بأن يدخل مكّة ويحلّ من عمرته وينحر هديه، فقال: يا رسول الله ما لي بها من حميم، وإنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيّاها، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي وهو عثمان بن عفّان. فقال: صدقت. فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله)عثمان، فأرسل إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب وإنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فخرج عثمان إلى مكّة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ـ حين دخل مكّة أو قبل أن يدخلها ـ فحمله بين يديه، ثمّ أجاره حتّى بلّغ رسالة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله(صلى الله عليه وآله)والمسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال(صلى الله عليه وآله): لا نبرح حتّى نناجز القوم. فدعا الناس إلى البيعة فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلى الشجرة فاستند إليها، وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا.

ونزل(صلى الله عليه وآله) بأقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء، فشكوا إليه العطش، فانتزع رسول الله(صلى الله عليه وآله) سهماً من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه في الماء، فو الله مازال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه، وبعد ذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وأخبره بتهيّؤ قريش للقتال، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): نحن لم نجئ لنقاتل أحداً ولكنّنا جئنا معتمرين. وعرض(صلى الله عليه وآله) عليه فكرة الصلح وإيقاف الحرب لمدّة بين المسلمين والمشركين، وإعطاءه حرّية تبليغ الرسالة مع كونهم في أمان من المسلمين وكون المسلمين في أمان منهم، فقال بديل: ساُبلّغهم ما تقول. فرجع إلى قريش وأخبرهم بكلام رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقام عروة بن مسعود الثقفي وقال: إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها ودعوني آته. فأتى النبيّ(صلى الله عليه وآله) وضمن حواره معه(صلى الله عليه وآله) جعل يرمق صحابته(صلى الله عليه وآله)، فإذا أمرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا