358

الشارع، أو العقلاء، أو مجموع البايع والمشتري مثلاً بأن يجعلا فيما بينهما قانوناً كلّيّاً يلتزمان به، ويصنع كلّ منهما ما يُدخله تحت ذلك الإلزام، إذن فانطباق ذلك الإلزام وقانون الملكيّة عليهما عمل تسبيبيّ لهما. وهذا هو الذي يسمّى بالمسبّب، ويقال: إنّ أمره دائر بين الوجود والعدم، ولا يتصوّر فيه الصحّة والفساد، ولا يجري فيه النزاع.

 

ثمرة النزاع في وضع أسماء المعاملات:

الجهة الثالثة: تقدّم في بحث العبادات: أنّه بناءً على القول بالصحيح لا يجوز التمسّك بالإطلاق لدى الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته، وبناءً على القول بالأعمّ يجوز ذلك. وهذا الكلام بعينه يأتي في باب المعاملات، فإن قلنا بأنّ البيع مثلاً اسم للأعمّ من الصحيح والفاسد، سواء كانت الصحّة عقلائيّة أو شرعيّة، صحّ التمسّك بإطلاق (أحلّ الله البيع) عند احتمال دخل شيء في الصحّة الشرعيّة فحسب، أو العقلائيّة أيضاً، وإن قلنا بأنّه اسم للصحيح الشرعيّ، لم يصحّ التمسّك بالإطلاق لرفع احتمال دخل شيء في الصحّة الشرعيّة، سواء جزمنا بعدم دخله في الصحّة العقلائيّة أو لا، ولو قلنا: بأنّه اسم للصحيح العقلائيّ فما نجزم بعدم دخله في الصحّة العقلائيّة، ونحتمل دخله في الصحّة الشرعيّة يمكن دفع احتمال دخله بالإطلاق، وما نحتمل دخله في الصحّة العقلائيّة أيضاً لا يمكن دفعه بالإطلاق.

هذا كلّه في الإطلاق اللفظيّ.

نعم ذكر صاحب الكفاية(1): «أنّه إذا قلنا في المعاملات بأنّها أسماء للصحيح الشرعيّ، وشكّ في دخل شيء في الصحّة الشرعيّة مع الجزم بعدم دخله في الصحّة


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 50 بحسب طبعة المشكينيّ.

359

العقلائيّة، فهنا وإن لم يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظيّ لنفي احتمال الدخل، لكن يمكن التمسّك لذلك بالإطلاق المقامي». وهذا مطلب آخر سوف نتكلّم عنه في الجهة الخامسة إن شاء الله، وإنّما الكلام هنا في الإطلاق اللفظيّ، ومن ناحيته لا فرق بين العبادات والمعاملات؛ فإنّه في كليهما على الصحيح يكون الشيء الدخيل في الصحّة دخيلاً في المسمّى، فمع احتمال دخله لا نحرز شمول إطلاق المسمّى لفاقده، وعلى الأعمّ نجزم بعدم الدخل في المسمّى، فيتمّ الإطلاق لا محالة.

 

إطلاق الدليل في فرض تعلّق الإمضاء بالمسبّبات:

الجهة الرابعة: المعروف بين المحقّقين: أنّه إذا كانت أدلّة الإمضاء منصبّة على السبب وهو الإنشاء، أمكن ـ على الأعمّ ـ التمسّك بالإطلاق لدفع احتمال جزئيّة المشكوك أو شرطيّته، وإذا كانت منصبّة على النتيجة وهي تمليك العين بعوض مثلاً، فلا إطلاق لها بلحاظ الأسباب، فإنّها إن كانت منصبّة على السبب وهو الإنشاء، فالإنشاء قابل للانطباق على الإنشاء القوليّ وعلى الإنشاء الفعليّ مثلاً، وقابل للانطباق على الإنشاء الناشئ من البالغ والإنشاء الناشئ من الصغير مثلاً، وهكذا، فيتمسّك بالإطلاق لإثبات صحّة الكلّ. وأمّا إن كانت منصبّة على النتيجة، فهي تدلّ على إمضاء النتيجة وهي التمليك بعوض، أمّا ما هو السبب لإيجاد هذه النتيجة؟ وهل كلّ أنحاء الإنشاء سبب لذلك أو لا؟ فهذا أمر مسكوت عنه.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) بأنّه يجوز التمسّك بالإطلاق، سواء انصبّ دليل الإمضاء على السبب أو على المسبّب: أمّا على الأوّل


(1) المحاضرات، ج 1، ص 189 ـ 192 بحسب طبعة مطبعة النجف.

360

فواضح، وأمّا على الثاني، فلأنّ المسبّب عندهم هو الإمضاء العقلائيّ للتمليك بعوض مثلاً، والعقلاء عندهم إمضاءات وجعول عديدة، فيجعلون التمليك بعوض عند إنشاء البالغ، ويجعلونه عند إنشاء الصبيّ، ويجعلونه عند الإنشاء باللفظ، ويجعلونه عند الإنشاء بالفعل، وهكذا، فدليل الإمضاء الشرعيّ بمقتضى إطلاقه يدلّ على إمضاء كلّ هذه الإنشاءات.

أقول: إنّنا لتوضيح بطلان هذا الكلام نذكر أمرين:

أوّلاً: معنى إمضاء السبب، ومعنى إمضاء المسبّب، وثانياً: هل يتمّ الإطلاق على كلّ واحد منهما بعد معرفة معنى إمضائه، أو لا؟

أمّا معنى الإمضاء، فنقول: إنّ إمضاء المسبّب ليس معناه ما ذكره ـ دامت بركاته ـ من إمضاء الجعول والإمضاءات العقلائيّة، فإنّه بالإمكان نقل الكلام إلى نفس إمضاء العقلاء، فإنّهم أيضاً قد يقولون: أمضينا السبب وهو الإنشاء، وقد يقولون: أمضينا النتيجة وهي التمليك بعوض مثلاً، وليس معنى إمضاء المسبّب هنا إمضاء إمضاء سابق؛ إذ لا إمضاء قبلي. والمقصود بالإمضاء حينما يضاف إلى العقلاء، وبه حينما يضاف إلى الشارع واحد، وهو الإقدار على النتيجة والتمكين منها. فمعنى إمضاء تمليك المال بعوض: التمكين من تمليك المال بعوض. فإن كان من قبل العقلاء، فهو إمضاء عقلائيّ للتمليك بعوض. وإن كان من قبل الشارع، فهو إمضاء شرعيّ لذلك. هذا معنى إمضاء المسبّب. وأمّا معنى إمضاء السبب. فليس هو الإقدار على السبب والتمكين منه، فإنّ القدرة على السبب ـ وهو الإنشاء ـ حاصلة تكويناً، ولا تحتاج إلى إعمال مولويّة من قبل المولى، وانّما معنى إمضاء السبب هو تصحيحه وتنفيذه.

وأمّا تماميّة الإطلاق وعدمه، فتتّضح على ضوء ما عرفته من معنى الإمضاء. ففي إمضاء السبب يتمّ الإطلاق، حيث إنّ معنى (أحلّ الله البيع) لو اُريد بالبيع

361

السبب وهو الإنشاء: أنّه صحّحه ونفّذه، ومقتضى إطلاق ذلك: أنّه جعل كلّ إنشاء صحيحاً. وفي إمضاء المسبّب لا يتمّ الإطلاق؛ لأنّ معنى (أحلّ الله البيع) لو اُريد بالبيع النتيجة: أنّه أقدرنا على التمليك بعوض، ويكفي في تحقّق الإقدار على التمليك بعوض صحّة سبب واحد من أسبابه المقدورة لنا، والتمليك بعوض ليس له خارجاً في كلّ شيء إلاّ وجود واحد، فلا تتعلّق به إلاّ قدرة واحدة، فلا معنى لفرض الإطلاق؛ فإنّ تمليك هذا الشيء بالمعاطاة مثلاً وتمليكه بالقول لا يمكن أن يحصلا في عرض واحد، وإنّما الذي يمكن أن يحصل هو أحدهما على سبيل البدل، والقدرة لا يمكن أن تكون عليهما معاً في عرض واحد، وإنّما يمكن أن تكون على صرف الوجود والجامع، فدليل الإقدار على النتيجة لا يمكن أن يدلّ بإطلاقه على أزيد من جامع القدرة الحاصل بمجرّد القدرة على سبب واحد صحيح، فالدليل لا يدلّ على تنفيذ كلّ الأسباب. وهذا الذي نقوله واضح عرفاً قبل الالتفات إلى التحليل الفنّي، فأنت ترى أنّه لو قيل: «زيد قادر على قتل الجانيّ»، فهو حسب الفهم العرفيّ لا يدلّ على أزيد من ثبوت القدرة بنحو صرف الوجود على قتله ولو بالقدرة على سبب واحد، وهو الضرب بالسكّين مثلاً، ولا يدلّ على القدرة على كلّ أسباب القتل: من الضرب بالسكّين، وإعطاء السمّ وغير ذلك.

إلاّ أنّ هذا التقريب لإبطال الإطلاق في دليل الإمضاء والمنصبّ على المسبّب يمكن المناقشة فيه بأن يقال: إنّ القدرة المأخوذة في مفهوم (أحلّ الله البيع) بمعنى إمضاء المسبّب ليست عبارة عن الإقدار التكوينيّ، بل هي مطعّمة بالحكم والجعل، فإنّها عبارة عن إمضاء وتنفيذ، وإن شئت فعبّر بالإقدار التشريعيّ. وبكلمة اُخرى: لا إشكال في أنّها نوع جعل وحكم من قبل المولى، والقدرة بهذا المعنى لا نسلّم عدم تعدّدها بتعدّد الأسباب، فهي قدرات تتعدّد في عرض واحد، وتثبت بنحو

362

الشمول لكلّ حصص مفهوم التمليك، أي: التمليك الناشئ بالعقد اللفظيّ والتمليك الناشئ بالمعاطاة...، وهكذا، ومفهوم التمليك له حصص بعدد ما يتصوّر له من أسباب، فلماذا لا يكون إطلاق دليل الإقدار التشريعيّ شاملاً لها جميعاً؟! نعم، بعد هذا الإقدار التشريعيّ الشامل يكون العبد غير قادر قدرة تكوينيّة على إيجاد التمليك لشيء واحد، إلاّ بسبب واحد على سبيل البدل، وعدم تعدّد القدرة التكوينيّة لا يوجب عدم تماميّة الإطلاق في المقام؛ ولذا لا إشكال في أنّ (أحلّ الله البيع) له إطلاق من حيث المشتري، ولا يقتصر فيه على القدر المتيقّن، فيدلّ مثلاً على جواز بيع المصحف من الكافر، مع أنّ القدرة التكوينيّة كما لا تتعلّق من حيث الأسباب إلاّ بصرف الوجود كذلك لا تتعلّق من حيث المشتري إلاّ بصرف الوجود، فالإنسان لا يستطيع أن يملّك شيئاً في وقت واحد من شخصين.

وهناك تقريب آخر لإبطال الإطلاق في دليل الإمضاء بناءً على كونه منصبّاً على المسبّب، وهو تطبيق نكتة ذكرناها في مقام الفرق بين إطلاق المتعلّق وإطلاق الموضوع، حيث نرى أنّ الإطلاق في «صلِّ» بدليّ، وكذلك في الإكرام من «أكرم العالم»، بينما هو في «العالم» من «أكرم العالم» شموليّ، وقد قلنا في نكتة الفرق بينهما في بحث المطلق والمقيّد: إنّه متى ما كان الحكم فعليّته في طول وجود شيء ما تتعدّد فعليّة الحكم بتعدّد ذلك الشيء، وهذا هو الحال في الموضوع. ومتى ما لم يكن الحكم تابعاً له في الفعليّة، وليس ذلك الشيء يؤخذ مفروض الوجود في الحكم، بل كان وجود ذلك الشيء في طول الحكم، كما هو الحال في المتعلّق، حيث إنّ قوله: «صلِّ» هو الذي يدعو إلى إيجاد الصلاة، لا أنّه يصبح الحكم فعليّاً بتبع وجود الصلاة خارجاً، فهنا لا يتعدّد الحكم بتعدّد الحصص المفترضة للمتعلّق، فلا تلزم إلاّ صلاة واحدة؛ إذ لم تكن مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الحكم ـ كما هو المفروض في

363

الموضوع ـ حتّى يعقل سريان الحكم إلى تلك الوجودات وانبساطه عليها.

فنقول في مقام تطبيق هذه النكتة على ما نحن فيه: إنّ الحكم بإمضاء الملكيّة ليس في طول فرض وجود الملكيّة، وإنّما تحقّق الملكيّة يكون في طول هذا الحكم، إذن فلا يدلّ على أزيد من إمضاء صرف وجود الملكيّة الذي تكفي فيه صحّة سبب واحد.

إلاّ أنّ هذا التقريب أيضاً قابل للمناقشة، فإنّ هذا التقريب إنّما تمّ في مثل «صلِّ» لأجل أنّ الصلاة كانت مأخوذة بما هي فانية في الوجود الخارجيّ للصلاة، وحيث إنّ الوجود الخارجيّ للصلاة في طول الحكم لا العكس لم يتمّ سريان الحكم إلى حصص الوجود. وأمّا فيما نحن فيه، فإمضاء التمليك ليس حكماً قد اُخذ متعلّقه ـ وهو التمليك ـ فانياً في الوجود الخارجيّ للتمليك، وإنّما هذا حكم يثبت على مفهوم التمليك وماهيته حتّى يكون العبد قادراً بعد ثبوت هذا الحكم على مفهوم التمليك على إيجاده خارجاً(1)، إذن فينحلّ الحكم قهراً بعدد حصص


(1) كأنّ المقصود: أنّ عنوان الصلاة المتعلّق للأمر في مثل «صلِّ» حينما يلقي الآمر نظره الأوّليّ إليه لكي يأمر به يرى بهذا النظر الوجود الخارجيّ للصلاة ـ وإن كان لو ألقى إليه بعد ذلك نظرة ثانية فاحصة، لرآه مفهوماً ذهنيّاً، أو رآه عبارة عن ماهية الصلاة التي وجدت في ثوب الوجود الذهنيّ لا الخارجيّ (بناءً على فكرة: أنّ الماهيات لها سنخان من الوجود: الخارجيّ والذهنيّ) ـ وبما أنّ وجودها يكون في طول فعليّة الحكم، وليست مفروضة الوجود في الرتبة السابقة على الحكم، فلا معنى لانحلال الحكم على كلّ وجوداتها وسريانه إلى تلك الوجودات. أمّا الملكيّة التي جعلت الشريعة في المقام للعبد القدرة الشرعيّة على تحقيقها، فهي وإن كانت في لغة تعبيرنا بالإقدار على الملكيّة كأنّها متعلّق للحكم، ولكنّها في روحها وواقعها هي نفس الحكم الوضعيّ، كالطهارة والنجاسة وغيرهما من الأحكام الوضعيّة، وهي بمنظار الجعل لا ينظر إليها بعنوانها أمراً خارجيّاً، بل هي أحكام يوجدها المولى، أو قل: هي مفاهيم يلبسها المولى ثوب الجعل والتشريع

364

ذلك المفهوم، فيتمّ الإطلاق.

وهناك تقريب ثالث لإبطال الإطلاق، وهو: أنّ عدم القدرة على حصّة من حصص التمليك قد ينشأ من نقص في التمليك نفسِه بحيث يكون هذا التمليك غير قابل للتحقّق خارجاً، وقد ينشأ من نقص وقصور في السبب بحيث يكون هذا السبب غير قابل للسببيّة، والذي يُنفى عرفاً بإطلاق دليل إمضاء التمليك إنّما هو الأوّل، ويبقى احتمال القصور في ذات بعض الأسباب غير منفيّ بالإطلاق، وهذا نظير ما لو قال المولى: أحللتُ لك ضرب الجانيّ، فإنّ هذا قد يدلّ بالإطلاق على أنّ الضرب من حيث هو بجميع أقسامه لا قصور فيه لقبول الحلّيّة، ولكن هذا لا ينافي حرمة الضرب بالعصا المغصوبة لنقص في العصا وهي كونها مغصوبة، فلا يجوز التصرّف فيها(1).

 


ويكون في المقام بهدف إقدار العبد على فعليّة الملكيّة، فإذا فرضت لذلك المفهوم عدّة حصص قبل الجعل والتشريع، فلا مانع من افتراض نظر المولى إلى كلّ تلك الحصص بنحو الشمول، وبالتالي انحلال الجعل وسريانه إلى كلّ تلك الحصص.

(1) لا يخفى: أنّ عدم تماميّة الإطلاق لدليل حلّيّة الضرب لفرض كون العصا مغصوبة إنّما يكون بنكتة: أنّ الحكم الترخيصيّ كما في «أحللت لك ضرب الجانيّ»، وكذلك الإطلاق البدليّ كما في «أوجبت عليك ضرب الجانيّ» يكون عرفاً حيثيّاً، فالضرب من حيث هو ضرب قد دلّ الدليل على حلّيّته، وهذا لا ينافي مجيء الحرمة من حيثيّة اُخرى أجنبيّة عن مسألة الضرب، وهي حيثيّة الغصب. وأمّا في المقام، فتحصّص المسبّب وهو التمليك مثلاً وتعدّده إنّما كان بتحصّص السبب وتعدّده، فهنا لا يقبل العرف فرضيّة: أنّ القدرة على بعض هذه الحصص أو مشروعيّتها وإمضائها قد تنعدم بسبب نقص في المسبّب، واُخرى بسبب نقص في السبب، وأنّ الثاني أمر أجنبيّ عن نقص وقصور في

365


المسبّب حتّى يقال: إنّ الحكم حيثيّ لا ينفي نقصاً يأتي من قبل أمر آخر، وهو السبب؛ وذلك لأنّ تحصّص تلك الحصص إنّما هو بتعدّد السبب، وليس لأيّ حصّة من الحصص امتياز على باقي الحصص، إلاّ بامتياز سببها، فنقص الحصّة المسبّبة مع نقص سببها يعتبر شيئاً واحداً لا شيئين، فالإطلاق الذي يُقرّ كلّ تلك الحصص يُقِرّ ـ لا محالة ـ كلّ تلك الأسباب.

هذا حال التقريب الثالث من التقريبات الثلاثة التي أفادها اُستاذنا(رحمه الله) لإبطال الإطلاق.

وأمّا التقريبان الأوّلان، فقد نتجا في الحقيقة من تصوّر: أنّ معنى التحليل والإمضاء مثلاً في (أحلّ الله البيع) بناءً على تعلّقه بالمسبّب هو الإقدار على إيجاد الملكيّة، لا إنفاذ ملكيّة مفروضة في مرتبة سابقة، وذلك ببيان: أنّ الإمضاء للعقود كما يصدر عن الشارع كذلك يصدر عن العقلاء، ويكون كلاهما بمعنىً واحد، وإنّما الاختلاف في الممضيّ، وبما أنّ الإمضاء العقلائيّ لا يمكن تفسيره بمعنى الملكيّة العقلائيّة؛ لأنّ هذا معناه: إمضاء الإمضاء، أو تنفيذ التنفيذ، بل لابدّ من تفسيره بمعنى الإقدار على إيجاد الملكيّة العقلائيّة؛ فكذلك الإمضاء الشرعيّ يكون بمعنى الإقدار على إيجاد الملكيّة الشرعيّة، فكلا الإمضاءين يكونان بمعنىً واحد، وهو الإقدار على إيجاد الملكيّة، وإنّما كانت الملكيّة في أحدهما عقلائيّة وفي الآخر شرعيّة بسبب اختلاف الممضيّ الذي هو العقلاء في أحدهما، والشرع في الآخر، وعلى أساس هذا التفسير صيغت التقريبات الثلاثة التي عرفتها لمحاولة إثبات عدم تماميّة الإطلاق فيما إذا كان الإمضاء منصبّاً على المسبّب.

ولكن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) يرى أنّ الإمضاء في (أحلّ الله البيع) ونحوه ـ بناءً على كونه إمضاءً للمسبّب ـ يكون بمعنى تنفيذ ملكيّة مفروضة سابقاً، فتلك الملكيّة موضوع لهذا الحكم، وبما أنّها تتحصّص بتحصّص الأسباب فهي: تارة ملكيّة ناتجة من العقد اللفظيّ، واُخرى من المعاطاة ... وما إلى ذلك، فالإطلاق الحكميّ يجري في المقام، ويثبت بذلك شمول الحكم.

366


وهذا البيان لا يرد عليه شيء من التقريبين؛ إذ ليس الإمضاء بمعنى الإقدار حتّى يقال: إنّ الإقدار لا يكون إلاّ على أحد التمليكات؛ لاستحالة الجمع فيما بينها، فيبطل الإطلاق الشموليّ. وليس متعلّقه التمليك الشرعيّ حتّى يشبّه بمتعلّق الأوامر الذي لا يتمّ الإطلاق الشموليّ بشأنه، بل متعلّقه تمليك سابق، ويكون التمليك الشرعيّ بواسطة الإمضاء، وتعلّق الإمضاء بالملكيّة السابقة بمعنى تنفيذها يكون ـ لا محالة ـ كتعلّق أيّ حكم بموضوعه، ويثبت إمضاء جميع حصصها، وبما أنّ تعدّد تلك الملكيّة يكون بتعدّد أسبابها، فإطلاقها يعني ـ لا محالة ـ تصحيح تمام تلك الأسباب.

بقي الكلام في أنّه: هل الصحيح ما ذكره اُستاذنا(رحمه الله) من أنّ التحليل والإمضاء في (أحلّ الله البيع) يكون بمعنى الإقدار على التمليك، ويكون متعلّقه هو التمليك، سنخ كون الصلاة مثلاً متعلّقاً للأمر في قوله: «صلِّ»؟ أو ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّه بمعنى تنفيذ ملكيّة سابقة، وصحيح: أنّ هذا التنفيذ هو بذاته إقدار على التمليك الشرعيّ، إلاّ أنّ هذا حكم تعلّق بملكيّة سابقة سنخ تعلّق الأحكام بموضوعاتها؟

المفهوم عرفاً في رأيي هو الثاني، أي: ما أفاده السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لا ما أفاده اُستاذنا الشهيد(قدس سره).

أمّا ما برهن به اُستاذنا الشهيد على مدّعاه من أنّ إمضاء الشارع للعقود كإمضاء العقلاء للعقود، وبمعنىً واحد، وإنّما الفرق في المشرّع والممضي، فجوابه هو: أنّ هذا لا يثبت أكثر من أنّ متعلّق التنفيذ ليست هي الملكيّة العقلائيّة؛ إذ لا معنى لفرض أنّ العقلاء ينفّذون ويمضون ما أمضوه من الملكيّة، ولا إمضاء سابق حتّى يتعلّق به الإمضاء العقلائيّ وتنفيذهم. إلاّ أنّ هذا ـ كما ترى ـ لا يبرهن كون التحليل هنا بغير معنى تنفيذ تمليك سابق، وكونه محضاً بمعنى الإقدار على التمليك؛ إذ بالإمكان أن يكون بمعنى تنفيذ التمليك، ولكن ليس التمليك العقلائيّ، بل التمليك الذي جرى في اعتبار المتعاملين، فإنّ التمليك له وجود في عالم اعتبار المتعاملين، وله وجود في عالم التشريع العقلائيّ، وله

367

التعويض عن الإطلاق اللفظيّ بالإطلاق اللبّيّ:

الجهة الخامسة: اتّضح أنّه بناءً على الصحيح الشرعيّ، وكذلك بناءً على الوضع للمسبّبات(1) لا يمكن التمسّك بالإطلاق، ومن هنا اُريد التعويض عن الإطلاق اللفظيّ في هذه الفروض بالإطلاق اللبّيّ، ويمكن تقريبه بوجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون الإطلاق بملاك دلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغويّة، حيث إنّ المولى لو أراد بقوله: (أحلّ الله البيع) تحليل السبب الصحيح شرعاً على إجماله ومن دون معرفة حدوده وأجزائه وشرائطه، لكان لغواً، فينعقد


وجود في عالم التشريع الشرعيّ. وكلّ من التشريع العقلائيّ أو الشرعيّ تنفيذ وإمضاء للتمليك الموجود في عالم اعتبار المتعاملين على ما هو الصحيح من كون الإنشاء كاشفاً عن الاعتبار النفسانيّ، أو تنفيذ وإمضاء للتمليك الذي أوجده المتعاملان بالإنشاء على الرأي الآخر الذي يرى إنشاء العقد موجداً للمُنشأ، وهو الملكيّة.

والسيّد الخوئيّ(رحمه الله) لم يحصر الأمر ـ حسب التعبير الوارد في المحاضرات ـ في تفسير تحليل البيع بإمضاء التمليك العقلائيّ كما هو المتبادر من نقل اُستاذنا(رحمه الله) بل تكلّم على كلّ الفروض: من كون المسبّب الممضى عبارةً عن الاعتبار القائم بنفس المتعاملين، أو عبارةً عن الوجود الإنشائيّ الحاصل بالعقد بناءً على مسلك إيجاديّة العقود، أو عبارةً عن الإمضاء العقلائيّ.

نعم، غاية ما في الأمر هو الجزم ببطلان الاحتمال الأخير، وهو كون المسبّب عبارة عن الإمضاء العقلائيّ؛ لأنّ الإمضاء العقلائيّ والإمضاء الشرعيّ أمران عرضيّان منصبّان على شيء واحد، ولا يختلفان إلاّ في المشرّع، فالمشرّع تارةً هو العقلاء، واُخرى هو الشريعة، فلابدّ من الفحص عن مسبّب ممضىً مشترك بين الإمضاءين، وليكن هو الملكيّة الثابتة في عالم المتعاملين، لا في عالم العقلاء.

(1) مضى منّا النقاش في هذا الكلام.

368

للكلام ظهور ثانويّ في استهداف توضيح إمضاء الطريقة العقلائيّة في بيان الأسباب وتحديدها، فكأنّما قال: اُرجِعكم في هذا السبب الصحيح عندي إلى الأنظار العقلائيّة.

ويرد عليه: أنّه يكفي لرفع محذور اللغويّة وجود قدر متيقّن(1) يؤخذ بالدليل فيه، فإنّنا نعلم من الخارج أنّ الشارع إن كان قد صحّح البيع في الجملة، فقد صحّح حتماً البيع الناشئ من البالغ الرشيد الطيّب النفس (أي: غير المكره) باللفظ العربيّ المشتمل على الإيجاب والقبول مع حفظ الموالاة مثلاً، فقوله: (أحلّ الله البيع) على إجماله يفيد تصحيح هذا المقدار من دون لزوم اللغويّة.

الوجه الثاني: ما يسمّى بالإطلاق المقاميّ، وذلك بأن يقال: إنّ ظاهر حال المولى هو كونه بصدد بيان ما هو الصحيح عنده؛ فإنّه لا يشرّع الحكم لكي يبقى مخزوناً عنده، بل يشرّعه لكي يصل إلى العباد، ومع ذلك نرى خارجاً أنّه لم يتعرّض لحدود وشرائط ما عنده، فينعقد لسكوته ظهور في الحوالة على العقلاء. وهذا ـ كما ترى ـ قائم على أساس ظهور الحال، لا على أساس اللغويّة.

وهذا الوجه أيضاً غير تامّ؛ فإنّه إنّما يتمّ لو قلنا بظهور حال مولويّة المولى


(1) وهل الذي يبطل هذه الدلالة عبارة عن وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ولو بقرينة ارتكازيّة كالمتّصل، أو عبارة عن وجود القدر المتيقّن ولو في الخارج ومنفصلا عن الخطاب؟

الواقع هو: أنّه إن قصد بهذه الدلالة الدلالة العقليّة البحت باعتبار استحالة صدور اللغو عن الشارع الحكيم، فوجود القدر المتيقّن ـ ولو في الخارج ومنفصلا عن الخطاب ـ يبطل هذه الدلالة. وإن قصد بها ظهور لفظيّ باعتبار أنّ ما يبدو من ظاهر الخطاب من اللغويّة لولا الإطلاق يعطيه ظهوراً في الإطلاق، فالذي يبطل هذه الدلالة إنّما هو وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ولو بلحاظ ارتكازات عقلائيّة كالمتّصل.

369

وشارعيّته في أنّه في مقام بيان الأجزاء والشرائط في شخص قوله: (أحلّ الله البيع) وفي نفس اللحظة، وأمّا لو قلنا بأنّ ظاهر حال مولويّته وشارعيّته هو: أنّه في مقام البيان في مجموع كلماته وعلى طول الزمان فلا يمكننا أن ننفي جزئيّة شيء أو شرطيّته، إلاّ بعد مطالعة مجموع كلماته: ما تقدّم منها وما تأخّر، فإذا احتملنا أنّ الشارع قد صدرت عنه بيانات تدلّ على اعتبار اللفظ مثلاً، ولكنّها لم تصلنا، لم يمكن إحراز الإطلاق المقاميّ.

فظهر: أنّه لو انسدّ باب الإطلاق اللفظيّ، لا يمكن التعويض عنه بالإطلاق اللبّيّ.

نعم، هناك شيء آخر لا يرتبط بباب الأدلّة اللفظيّة، وهو: أنّه إذا انعقدت سيرة العقلاء على معاملة ما ـ مثلاً ـ ولم يصلنا الردع مع شدّة استحكام السيرة، قلنا: إنّه لو لم يرضَ الشارع بذلك، لردع ووصل الردع، فيستكشف الإمضاء. وهذا مطلب يتمّ حتّى ولو لم يوجد (أحلّ الله البيع) و لا (تجارة عن تراض) و (اُوفوا بالعقود)، ولا أيّ إطلاق لفظيّ أو لبّيّ، فهذا باب آخر ولا ينبغي الخلط بين البابين(1).

 


(1) كأنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يرى أنّ الأمر في تصحيح المعاملات العقلائيّة يدور بين الاستفادة من سيرة العقلاء على أساس عدم الردع الكاشف عن الإمضاء ـ وهذا وإن كان صحيحاً ولكن لا علاقة له بما نحن فيه من فرض الاستفادة من الأدلّة اللفظيّة ـ وبين الاستفادة من الأدلّة اللفظيّة بمثل الإطلاق المقاميّ، وهذا ما ناقش فيه.

ولكن لا يخفى أنّ هناك وسطاً بين الأمرين، وهو أن يقال: لمّا كانت السيرة العقلائيّة قائمة على إيجاد المسبّب بالأسباب الفلانيّة، وكان الخطاب بمثل: (أحلّ الله البيع) خطاباً إلى هؤلاء العقلاء، وتكون هذه السيرة موجبة لتطبيق العقلاء ولو خطأً المفهوم الذي أعطاه الشارع بهذا الخطاب على المصاديق التي هم يرونها، والشارع يعلم بأنّ الفهم التطبيقيّ لخطابه هذا لدى العقلاء الذين يخاطبهم يكون بهذا الشكل المغلوط يتكوّن لخطابه هذا

370

تحقيق حال المسألة بناءً على وضع الألفاظ للأسباب:

الجهة السادسة: أنّنا ذكرنا فيما سبق: أنّ أسماء المعاملات لو كانت موضوعة للمسبّبات انغلق باب البحث في الصحيح والأعمّ(1)، ولو كانت موضوعة للأسباب انفتح ذلك. والآن نفترض أنّها موضوعة للأسباب، فهل الحقّ هو الصحيح أو الأعمّ؟

فنقول: تارة نتكلّم في الصحّة الشرعيّة، واُخرى في الصحّة العقلائيّة.

أمّا الصحّة الشرعيّة، فلا إشكال في أنّها ليست مأخوذة في المعنى الموضوع له؛ لأنّ ظاهر حال الشارع بما هو شخص يعيش في مجتمع له لغته وأعرافه أنّه يمضي اللغة، ويمضي أيضاً الأعراف والآثار، فيستعمل لفظ «البيع» في نفس ما يستعملونه، ويمضي نفس الآثار، ثمّ ظهر بالتدريج أنّه لا يمضي جملةً من الآثار، فحرّم الربا والبيع الغرري والبيع من الطفل مثلاً، وغير ذلك من الأعراف والآثار التي غيّرها، فرفعنا اليد عن ظهور حاله في إمضاء الأحكام والآثار، بل حتّى في الحكم الذي لم نسمع عنه بعد شيئاً قد لا نجزم بموافقته لهم وإن كان ظهور سكوته هو الموافقة، وهو حجّة. وأمّا ظهور حاله في إمضاء اللغة، فلا موجب لرفع اليد عنه، فإنّ دليل اشتراط البلوغ أو حرمة الربا أو غير ذلك لم يدلّ على أكثر من التصرّف في الأحكام، ولا قرينة على رفع اليد عن ظهور الحال في إمضاء اللغة،


ظهور في الإقرار على نتائج هذا الفهم الخاطئ، وهذا الظهور يكون حجّة. وهذا يرجع بروحه إلى إثبات إمضاء هذه السيرة لا بعدم الردع، بل بظهور اللفظ المتكوّن في طول هذه السيرة، وإن شئت فسمّ هذا أيضاً بالإطلاق المقاميّ.

(1) مضى أنّه لا يتعلّق باب هذا البحث إلاّ إذا فرض أنّ أسماء المعاملات اسم للمسبّب الشرعيّ لا العقلائيّ ولا المعامليّ.

371

فالظاهر أنّه أمضى ما عليه العقلاء في اللغة وإن لم يُمضِ ما عليه العقلاء في الأحكام.

وأمّا الصحّة العقلائيّة، فالصحيح أنّها أيضاً ليست مأخوذة في المعنى الموضوع له؛ وذلك لأنّ أخذ الصحّة العقلائيّة في المعنى الموضوع له لا يخلو من أحد وجهين:

الأوّل: أن يكون البيع مثلاً موضوعاً لواقع الصحيح، أي: واقع ما هو واجد لأجزاء معيّنة وشرائط مخصوصة من دون أخذ عنوان الصحّة قيداً في المسمّى، وهذا لازمه أن تكون اللغة في أسماء المعاملات متغيّرة بتبع تغيّر أحكام المعاملة، ومن المعلوم اختلاف أحكامهم باختلاف الأزمنة والأمكنة، فقد تكون أجزاء البيع مثلاً وشرائطه في عصر أربعة، وفي عصر آخر ثلاثة أو خمسة، فلو كان لفظ «البيع» موضوعاً لواقع تلك الأجزاء والقيود لزم تغيّر اللغة حينما تتغيّر المحاكم العقلائيّة، وتضيف شرطاً أو تنقص، فنحتاج عندئذ إلى وضع جديد، بينما من المعلوم وجداناً أنّ الوضع اللغويّ ثابت ومستقرّ ثباتاً واستقراراً لا يناسبه ذلك التغيّر في الأحكام.

الثاني: أن يكون المأخوذ في المسمّى عنوان الصحيح ومفهومه، لا واقعه، فلا يرد عليه الاعتراض السابق؛ لأنّ المفهوم مفهوم واحد، وإنّما الاختلاف في المصاديق، ولكن يلزم من ذلك كون مفهوم الصحّة مستفاداً من لفظ البيع، مع أنّنا ذكرنا سابقاً: أنّ مفهوم الصحّة حتّى عند الصحيحيّ لا إشكال في أنّه غير مستفاد من لفظ البيع، كما لم يكن مستفاداً من العبادات، بداهة عدم تبادر مفهوم الصحّة من الأسامي، وعدم ترادفها مع اسم الصحيح، أو المعاملة الصحيحيّة، إذن فاسم المعاملة اسم للركن الركين الذي مهما اختلفت أحكام العقلاء يبقى ثابتاً.

 

هل وضعت أسماء المعاملات للأسباب أو للمسبَّبات؟

الجهة السابعة: عرفت أنّ النزاع إنّما يتطرّق بناءً على أنّها أسماء للأسباب

372

لا المسبّبات(1)، فيقع الكلام الآن في أنّها: هل هي أسماء للأسباب أو للمسبّبات؟

ولتوضيح ذلك نتكلّم أوّلاً: في أنّه ماذا نريد بالسبب وبالمسبّب، وقد اُقتنص ذلك من البحوث السابقة، لكن نكرّره ونوضّحه هنا فنقول:

أمّا السبب فمُتكوّن من ثلاثة عناصر بمجموعها تسمّى سبباً:

1 ـ هو الإنشاء، أي: اللفظ الذي تنشأ به المعاملة، أو ما يقوم مقام اللفظ كالفعل في المعاطاة.

2 ـ المدلول التصديقيّ للإنشاء القائم في نفس المُنشئ، أعني: اعتبار مضمون المعاملة، كاعتبار البايع مثلاً ملكيّة هذا المال بإزاء الثمن.

3 ـ قصد التسبّب بهذا الاعتبار إلى المسبّب. وتوضيح ذلك: أنّ هذا الاعتبار لابدّ أن يكون له غرض، وهذا الغرض: إمّا هو التوصّل إلى السيطرة التكوينيّة الخارجيّة، وهذا الاحتمال ساقط؛ لوضوح عدم تأثير الاعتبار في السيطرة الخارجيّة، وإنّما تتمّ هذه السيطرة عن طريق التعاطي الخارجيّ، سواء اعتبر أو لم يعتبر، ومع عدم التعاطي لا تحصل السيطرة، سواء اعتبر أو لم يعتبر. وإمّا هو التسبّب والتوصّل إلى إلزامات فوقيّة ضماناً لسلامة النتيجة حتّى لو عدل أحدهما عمّا أوجده من المعاملة، وهذا الإلزام الفوقيّ هو الذي نسمّيه بالمسبّب، وهو عبارة عن جعل من قبل جاعل و مقنّن، سواء كان هو الشارع العقلائيّ أو الشارع الإلهيّ أو نفس البايع والمشتري بحيثيّة عقلائيّتهما، لا بحيثيّة متعاقديّتهما. ولو لم يحصل قصد التسبّب وبقي الاعتبار بدون هذا القصد لكان اعتباراً هزليّاً في نظر العقلاء، فلو قال: «بعت هذه الدار بفلس» وكان مقصوده الهزل، فالاعتبار سهل


(1) قد عرفت تعليقنا على ذلك.

373

المؤونة، ويحصل بسهولة، ولكن لا يرتّبون عليه الأثر؛ لفقدان العنصر الثالث. فجدّيّة المعاملة ليست بالاعتبار فحسب، بل بأن يكون الاعتبار جدّيّاً. فالسبب بحسب ما تقتضيه الاعتبارات العقلائيّة عبارة عن مجموع هذه الاُمور الثلاثة.

وأمّا المسبّب فهو ذاك المتسبّب إليه من الإلزامات الفوقيّة، أي: الجعل القانونيّ الذي تسبّبا إليه.

فإذا اتّضح السبب والمسبّب يقع الكلام في أنّها: هل هي أسماء للأسباب أو المسبّبات؟ وعلى ضوء ما بيّنّاه يتبيّن أنّه لا تقابل بين السبب والمسبّب، فهما فردان من مفهوم واحد، فكلاهما تمليك، إلاّ أنّ أحدهما في اُفق نفس المتعاملين وهو السبب، والآخر في اُفق نفس القانون والمقنّن وهو المسبّب. وبكلمة اُخرى: أنّ أحدهما وجود مباشريّ للمتعاقدين وهو السبب، والآخر وجود تسبيبيّ لهما وهو المسبّب، فبالإمكان أن يقال: إنّ البيع مثلاً اسم لمطلق مفهوم تمليك العين بعوض بغضّ النظر عن خصوصيّة أحد الفردين؛ ولذا نرى بالوجدان عدم المؤونة في إطلاقه تارة على هذا الفرد واُخرى على ذاك الفرد، بل يمكن أن يترقّى أزيد من ذلك ويقال: إنّ هذين الفردين وهما السبب والمسبّب تعدّدهما إنّما هو بالنظر الدقّيّ العقليّ، ونحن كنّا نتكلّم بهذا النظر، ففرضنا فردين وقلنا: إنّ البيع اسم للمفهوم الجامع بينهما، والآن نقول: إنّهما بحسب النظر العرفيّ حالهما حال الإيجاد والوجود، والإيجاد عين الوجود. وبكلمة اُخرى نقول: إنّه وإن كان السبب بحسب النظر الدقّيّ موجوداً في اُفق، والمسبّب موجوداً في اُفق آخر، ولكنّه يلحظ السبب عرفاً بما هو آلة للمسبّب وفان فيه، أي: بما هو إيجاد له، وإيجاد المسبّب لا يزيد على وجود المسبّب.

375

المقدّمة

10

 

 

 

 

 

 

الاشتراك

 

 

 

○ دعوى ضرورة وقوع الاشتراك.

○ دعوى امتناع وقوع الاشتراك.

○ استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنىً.

 

377

 

 

 

 

 

 

الأمر العاشر: في الاشتراك، وفيه جهات:

 

دعوى ضرورة وقوع الاشتراك:

الجهة الاُولى: ادُّعيَ ضرورة وقوع الاشتراك، وبُرهن على ذلك بأنّ المعاني غير متناهية، والألفاظ متناهية، فلابدّ من الاشتراك حتّى تفي بكلّ المعاني.

واُجيب على ذلك بوجوه:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّه حتّى إذا فرض إرادة استيعاب كلّ المعاني اللامتناهية بالوضع بالاستعانة بالاشتراك، فهذا غير ممكن للإنسان الاجتماعيّ، فإنّه متناه، والوضع بهذا النحو لا متناه، فلا يمكن صدوره من المتناهي(1).

ويرد عليه: أنّ الاشتراك كما قد يحصل بأوضاع تفصيليّة بعدد المعاني كذلك يحصل بوضع واحد لمعان كثيرة بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فيمكن استيعاب المعاني بهذا الطريق بالرغم من تناهي الأوضاع.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 53 بحسب طبعة المشكينيّ.

378

اللّهمّ إلاّ إذا قيل: إنّا قصدنا بالاشتراك تعدّد الوضع تفصيلاً. إلاّ أنّ هذا يصبح عندئذ مجرّد بحث ونقاش لفظيّ.

الثاني: ما ذكره أيضاً المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّنا لو سلّمنا إمكان صدور الوضع اللامتناهي من الواضع؛ لكونه هو الله وهو لا متناه، لكنّ المستعمل هو الإنسان إشباعاً لحاجاته الاستعماليّة، ويستحيل صدور استعمالات غير متناهية منه؛ لاستحالة صدور اللامتناهي من المتناهي(1).

ويرد عليه: أنّ الحاجات الاستعماليّة وإن كانت بوجودها الفعليّ متناهية، لكنّها بوجودها التبادليّ أوسع من وجودها الفعليّ، أي: أنّ البشر سيحتاج من ضمن المعاني اللامتناهية إلى كمّيّة متناهية منها، ولكن ما هي تلك الكمّيّة المتناهية؟ هي العشرة الاُولى مثلا، أو الثانية، أو الثالثة أو عشرة ملفّقة من العشرة الاُولى والثانية وما إلى ذلك من المحتملات؟ فغير معلوم، فلعلّ دائرة ذلك تشمل كلّ المعاني اللامتناهية، فنحتاج إلى الوضع لكلّ تلك المعاني مثلاً حتّى يصحّ الاستعمال في أيّ معنىً أراده الإنسان.

نعم، لو بدّل هذا الجواب الشامخ البرهانيّ إلى جواب متواضع وجدانيّ بأن يقال: إنّ الوجدان حاكم بأنّ حاجات البشر حتّى التبادليّة منها ليست إلاّ عدداً معقولاً من المعاني وكمّيّةً متناهيةً منها، لكان جواباً صحيحاً.

الثالث: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ أيضاً من أنّ المعاني متناهية؛ لأنّ المراد بالمعاني ليست هي الجزئيّات، كزيد وعمرو وخالد، بل الكلّيّات، وهي متناهية(2).

 


(1) راجع نفس المصدر.

(2) راجع نفس المصدر، ص 53 ـ 54.

379

وهذا الجواب أيضاً لو صيغ بصياغة برهانيّة فهو غير صحيح، فإن المعاني قد تكون بسائط، كمفهوم الوحدة والوجود والعدم وغير ذلك، واُخرى مركّبات تركيباً حقيقيّاً من جنس وفصل، كالإنسان والحيوان ونحو ذلك، وثالثة مركّبات تركيباً اعتباريّاً من أجزاء خارجيّة، كالسوق والدار ونحو ذلك. وإذا كانت المركّبات الاعتباريّة داخلة تحت الحساب، كانت المعاني لا متناهية؛ إذ يمكن التركيب الاعتباري من كلّ اثنين مثلاً، وتضاف تلك المعاني المركّبة تركيباً اعتباريّاً إلى غيرها، فيزداد العدد، ثُمّ مجموع كلّ معنيين من هذه المعاني بنفسه معنىً تركيبيّ اعتباريّ يضاف إلى باقي المعاني فتزداد المعاني، وأيضاً كلّ اثنين أو ثلاثة من مجموع هذه المعاني التي ازدادت معنىً مركّب اعتباريّ في نفسه، وهكذا، إلاّ إذا رجعنا إلى ذاك الجواب الساذج المتواضع وقلنا: الوجدان حاكم بعدم الاحتياج إلى كلّ هذه المعاني.

الرابع: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّ الألفاظ أيضاً لا متناهية؛ إذ كلّ حرف: إمّا مفتوح، أو مضموم، أو مكسور. وعلى التقادير: إمّا واقع في أوّل الكلمة، أو آخرها، أو وسطها. والكلمة: إمّا ثنائيّة، أو ثلاثيّة، أو رباعيّة إلى آخر هذه التقسيمات التي تولّد ألفاظاً لا متناهية(1).

 


ويوجد في الكفاية وجه رابع، راجع الصفحة 54، بحسب تلك الطبعة، وراجع جوابه في كتاب السيّد الهاشميّ (بحوث في علم الاُصول) ج 1، ص 114. وحاصله: أنّه لو فرضت المعاني الحقيقيّة متناهية، فالمجازيّة لا متناهية. وهذا يستلزم علاقات لا متناهية بينها وبين المعاني الحقيقيّة، وكلّ علاقة تمثّل حيثيّة في المعنى الحقيقيّ، فتشتمل المعاني الحقيقيّة على حيثيّات لا متناهية، وكلّ منها بحاجة إلى لفظ دالّ عليه، فعاد المحذور.

(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 199 ـ 200 بحسب طبعة مطبعة النجف.

380

وهذا الجواب أيضاً لو اُريد به البرهان فهو غير تامّ، وأقصر كلام يظهر به بطلانه أن يقال: إنّ أيّ عدد يفرض من الكلمات لأداء المعاني فهي بنفسها معان؛ فانّ كلّ كلمة بنفسها معنىً من المعاني يضاف إلى تلك المعاني، فبالتالي سوف يكون المعنى أكثر من اللفظ حتماً، إلاّ أن نرجع إلى ذاك الجواب الساذج المتواضع من عدم الحاجة وجداناً إلى تمام هذه المعاني، وإنّما نحتاج إلى عدد معقول من المعاني، وأكثر هذه المعاني اللامتناهية خارجة عن المعرضيّة العرفيّة للاحتياج.

 

دعوى امتناع وقوع الاشتراك:

الجهة الثانية: في دعوى امتناع الاشتراك. فقد يدّعى ذلك على أساس كونه خلاف الحكمة؛ إذ حكمة الوضع التفهيم والتفاهم، والاشتراك يوجب الإجمال، وينافي التفهيم.

والجواب عن ذلك بصيغتين:

1 ـ أن يقال: بأنّ الفرض من الوضع ليس هو خصوص التفهيم التفصيليّ، بل جامع التفهيم. والمشترك وإن كان لا يعطي التفهيم التفصيليّ لكنّه يعطي التفهيم الإجماليّ، وهو مرتبة من التفهيم، فحينما يقول مثلاً: «جاءني المولى» يفهم المخاطب أنّ هذا الجائي: إمّا عبد، أو سيّد مثلاً، فقد ضيّق دائرة محتملات الجائي، فلو كان يقول: «جاءني شخص» لم يعلم أنّ هذا الجائي: هل هو عبد، أو سيّد، أو شخص آخر؟ ولكن حينما عبّر بالمولى علم إجمالاً بأنّه: إمّا سيّد، أو عبد. وهذا مرتبة من التفهيم.

2 ـ لو سلّمنا أنّ الفرض دائماً هو التفهيم التفصيلي، قلنا: إنّ المشترك يساعد على تحقيق هذا الغرض، لكنّه بنحو جزء العلّة لا تمامها؛ فإنّ العلّة عندئذ تتركّب

381

من لفظ المشترك والقرينة، كما لو قال: «جاءني مولاي فقبّلت يده»، فتقبيل اليد قرينة على تعيين السيّد من بين المعنيين. إذن فهذا البرهان على امتناع الاشتراك غير صحيح.

نعم، وقع أصحاب مبنى التعهّد كالسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في شبكة برهان آخر على استحالة الاشتراك(1).

وتحقيق الكلام في ذلك أن يقال: إنّ التعهّد في باب الوضع تعهّد بقضيّة شرطيّة، ولها صيغتان متعاكستان في الشرط والجزاء:

الاُولى: أن يقول: تعهّدت بأ نّني متى ما أتلفّظ بلفظ المولى أقصد تفهيم السيّد مثلاً.

والثانية: أن يقول: تعهّدت بأ نّني متى ما أقصد تفهيم السيّد أتلفّظ بلفظ المولى.

فإن فرضت الصيغة الاُولى، لزم التهافت والتدافع بين التعهّدين في باب الاشتراك؛ لأنّه تارةً يتعهّد مثلاً بأنّه متى ما تلفّظ بلفظ المولى قصد السيّد، واُخرى بأنّه متى ما تلفّظ به قصد العبد وهاتان قضيّتان شرطيّتان تعهّد بهما، وهما متّحدتان شرطاً ومختلفتان جزاءً، فلا محالة يقع التدافع بينهما؛ إذ لو أراد الوفاء بكلا التعهّدين لزمه أن يلتزم بإرادة كلا المعنيين حينما يتلفّظ بلفظ المولى، بينما لا يلتزم بذلك حتماً.

وإن فرضت الصيغة الثانية ارتفع التهافت في باب الاشتراك؛ لأنّ الشرط في القضيّتين متعدّد والجزاء واحد، فهو يتعهّد بأنّه متى ما أراد معنى السيّد تلفّظ بالمولى، وبأنّه متى ما أراد معنى العبد تلفّظ بالمولى، ولا منافاة بين الأمرين، ولكن يقع التهافت والتدافع بين التعهّدين عندئذ في باب الترادف؛ حيث إنّه يتّحد


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 202 ـ 203 بحسب طبعة مطبعة النجف.

382

الشرطان هناك ويتعدّد الجزاء، فهو يتعهّد مثلاً بأنّه متى ما أراد الحيوان المفترس أتى بلفظ الأسد، ويتعهّد أيضاً مثلاً بأنّه متى ما أراد الحيوان المفترس أتى بلفظ السبع، ومعنى ذلك أن يلتزم بأنّه متى ما أراد الحيوان المفترس أتى بكلا اللفظين، بينما لا يلتزم بذلك حتماً.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ التدافع بين التعهّدين في كلا البابين تدافع إطلاقيّ لا تدافع ذاتيّ، أيّ: أنّ كلاًّ من التعهّدين يزاحم إطلاق التعهّد الآخر لا أصله؛ فإنّ أصل التعهّدين يمكن أن يجتمعا بأن يتعهّد في باب الاشتراك مثلاً بأنّه متى ما أتى بلفظ المولى قصد السيّد، ثُمّ يتعهّد مرّة ثانية بإرادة العبد، ويجعل ذلك ناسخاً لإطلاق الوضع الأوّل، ويقول: إنّ تعهّدي بإرادة السيّد اُقيّده بما إذا لم أكن قد أردت العبد، أو إذا أقمت قرينة صارفة عن إرادة العبد، أي: أنّه يقيّد بتقييد من التقييدات التي وقع الكلام عنها في بحث الوضع، وتعهّده الثاني حين يُنشئه يُنشئه مقيّداً، ولا يبقى أيّ تهافت بين التعهّدين؛ إذ هو بالنتيجة متعهّد مثلاً بأن يقصد هذا المعنى إن لم يقصد ذاك المعنى وبالعكس، سنخ ما يقال في الواجب التخييريّ بناءً على إرجاعه إلى واجبين مشروطين(1).

 


(1) وهذا البيان يبطل ما اختاره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أن الاشتراك بالمعنى المألوف الراجع إلى تعدّد الوضع باطل، وأنّه لابدّ من تفسير ما قد يتراءى من اللغات من الاشتراك بتفسير آخر يحمل نفس آثار الاشتراك، وهو دعوى: وضع اللفظ بوضع واحد لتلك المعاني المتعدّدة على شكل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فالواضع يتعهّد بأنّه متى تكلّم باللفظ الفلانيّ قصد أحد المعنيين أو أحد تلك المعاني، ويكون الموضوع له نفس تلك المعاني بخصوصيّاتها. وهذا يفي بكلا أثري الاشتراك: من كون اللفظ حقيقة في كلّ واحد من تلك المعاني بخصوصه، ومن الحاجة إلى القرينة.