244

إثبات الحرمة بالإجماع:

الدليل الثالث: الإجماع، والصحيح: أنّنا لم نلحظ في كلمات المجمعين وقوع حرمة التجرّي بعنوانها معقداً للإجماع، لكنّنا نستكشف ذلك من إجماعهم على مسألتين:

الاُولى: أنّ من ظنّ ضيق الوقت، وجب عليه البدار، فلو أخّر كان آثماً ومستحقّاً للعقاب وإن تبيّن خطؤه. فهذا يكشف عن الإجماع على حرمة التجرّي بدعوى أنّ هذا الحكم لا يتمّ إلّا بناءً على القول بحرمة التجرّي.

ولكن لا يخفى أنّه لم يرد التصريح في كلماتهم جميعاً بكون هذا التأخير معصية، فبعضهم صرّح بالمعصية، ولكنّ البعض الآخر اكتفى بذكر استحقاق العقاب من دون ذكر المعصية، فلو تمّ إجماع فإنّما يتمّ على استحقاق العقاب، وهو لا يستلزم حرمة التجرّي؛ لما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من كون التجرّي قبيحاً وموجباً لاستحقاق العقاب وإن لم نقل بحرمته.

والثانية: أنّ من سافر سفراً مظنون الضرر، وجب عليه الإتمام وإن تبيّن له الخلاف؛ لأنّ سفره سفر معصية، فهنا ـ أيضاً ـ يقال: إنّ هذا لا يتمّ إلّا بناءً على حرمة التجرّي.

والاستدلال على حرمة التجرّي بالإجماع وكذلك بما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من الدليل الرابع وهو الأخبار واضح عند من لم يقل فيما مضى من الدليل الثاني بثبوت محذور في تحريم التجري، أمّا بناءً على ثبوت المحذور في ذلك، فقد يشكل الأمر هنا؛ لتأتّي نفس المحذور.

وتفصّى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) من ذلك بجعل متعلّق الحرمة عنواناً آخر غير التجرّي يلازم تمام موارد التجرّي، وهو قصد السوء المبرز بالفعل.

وهذا التفصّي صحيح بناءً على كون محذور حرمة التجرّي عبارة عمّا مضى عن المحقّق النائينىّ(قدس سره)؛ إذ إنّ ذاك المحذور يرتفع بما صنعه من تغيير العنوان؛ فإنّ محذوره ـ في فرض تحريم التجرّي بحكم جديد يشمل فرض المصادفة ـ كان عبارة عن لزوم اجتماع المثلين في نظر المكلّف، وهذا يرتفع بفرض أنّ مصبّ الحكم الجديد إنّما هو قصد السوء المبرز بالفعل لانفس الفعل.

أمّا بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ من ثبوت محذور عدم المحرّكيّة، فلا يتمّ هذا

245

التفصّي؛ لأنّ إشكال عدم المحرّكيّة لو تمّ لجرى في المقام أيضاً؛ إذ يقال: إنّ من يوجد تحريم الفعل في نفسه داعياً إلى الترك، لا حاجة في تحريكه إلى تحريم قصد السوء المبرز بالفعل، ومن لايرتدع بما قطع من حرمة الفعل، لايرتدع ـ أيضاً ـ بحرمة القصد.

لايقال: إنّ تحريم الفعل غير كاف في الردع عن القصد؛ لإمكان صدور القصد مطلقاً أو ببعض مراتبه بسبب داع يدعوه إلى إيجاد الشوق والقصد في نفسه.

فإنّه يقال: إنّه قد حقّق في محلّه عدم إمكان انقداح القصد إلّا بملاك في المقصود(1).

وعلى أىّ حال، فالكلام هنا يقع في جهتين:

الاُولى: في أصل إثبات حرمة التجرّي بالإجماع.

الثانية: في نفس المسألتين اللتين أشير إليهما في المقام.

أمّا الجهة الاُولى: فالتحقيق عدم تماميّة الاستدلال على حرمة التجرّي بالإجماع ؛ إذ يرد عليه:

أوّلاً: عدم حجّيّة الإجماع المنقول.

وثانياً: ثبوت المخالف على ما ذكره الشيخ الأعظم(رحمه الله).

وثالثاً: أنّ المسألة عقليّة كما أفاد الشيخ الأعظم(رحمه الله)، ولا أقصد بعقليّة المسألة أنّ عنوان المسألة عقلىّ حتّى يرد عليه ما أفاده المحقّق النائينىّ(قدس سره): من أنّ عنوان المسألة بالنحو الذي حرّرناه (وهو حرمة التجرّي وعدمها) شرعىّ، وليس عقليّاً؛ فإنّ مناط الإشكال ليس كون عنوان البحث عقليّاً، بل أقصد بعقليّة المسألة أنّ من مدارك هذا الحكم قاعدة الملازمة، وهي أمر عقلىّ، ومن المحتمل أن يكون مدرك المجمعين ذلك، وعلى تقدير أن يكون مدركهم ذلك فقد أجمعوا في الحقيقة على أمر عقلىّ، والإجماع لابدّ أن يكون كاشفاً عن دليل شرعىّ حتّى يركن إليه، أمّا لو كان مستنده العقل، فنحن نرجع إلى


(1) ولو سلّم إمكان انقداح القصد بملاك في القصد، فمن الواضح عدم إمكان اجتماعه مع الردع الفعلىّ عن المقصود، فلو كفاه النهي عن المقصود في الردع عنه، لم تعد حاجة إلى الردع عن القصد.

246

عقولنا لنرى هل تحكم بذلك، أو لا (1)؟

ورابعاً: أنّ من المحتمل أن يكون نفس السفر المظنون الخطر ونفس التأخّر مع ظنّ الضيق حراماً في نظر المجمعين بقطع النظر عن مسألة التجرّي. وهذا الإشكال الرابع بالنسبة إلى المسألة السفر المظنون الخطر واضح. وأمّا بالنسبة إلى المسألة ظنّ الضيق، فقد يقال بعدم تماميّته؛ وذلك بناءً على أمرين:

الأوّل: البناء على عصمة الإجماع من الخطأ عند من يرى حجّيّته.

والثاني: ما سيأتي منّا ـ إن شاء الله ـ من أنّ حرمة التأخير بما هو عند ظنّ الضيق غير محتمل فقهيّاً.

والنتيجة: أنّه لا نحتمل كون رأي المجمعين حرمة التأخير بما هو وبقطع النظر عن حرمة التجرّي؛ إذ يلزم من ذلك خطأ الإجماع.

ولكن مع ذلك يمكن توجيه الإشكال على مثال ظنّ الضيق بأن يقال: إنّ من المحتمل أن يكون بعض الفقهاء قد حكم بالإثم بالتأخير بلحاظ التجرّي، والبعض الآخر حكم به بلحاظ دعوى الحرمة المستقلّة، فلم يتحقّق الإجماع على أمر خطأ، وإن كان كلّ واحد من الأمرين خطأً.

وأمّا الجهة الثانية: فالكلام تارة يقع في المسألة الاُولى، واُخرى في المسألة الثانية.

أمّا المسألة الاُولى: وهي البدار عند ضيق الوقت، فإن قلنا: إنّ الظنّ بضيق الوقت له موضوعيّة في المقام، بأن يحرم التأخير ـ عندئذ ـ حرمة نفسيّة بغضّ النظر عن تنجّز الواقع، فلا إشكال في لزوم البدار واستحقاقه للعقاب بتركه، وإن لم نقل بذلك، لزم عليه البدار ـ أيضاً ـ من ناحية تنجّز الواقع عليه؛ لأنّ وجوب الصلاة في الوقت معلوم لديه، والاشتغال اليقينىّ يستدعي الفراغ اليقينىّ، وتأخيره مع احتمال ضيق الوقت مخالفة


(1) لعلّ المقصود من هذا الكلام مجرّد توجيه لكلام الشيخ الأعظم(رحمه الله)الذي ذكر عقليّة المسألة، وإلّا فمن الواضح أنّ الأولى الإشكال بمدركيّة الإجماع أو احتمال مدركيّته من دون فرق بين أن يكون مدركه حكم العقل أو غيره.

247

احتماليّة، فلا يحقّ له ذلك(1)، أمّا استحقاقه للعقاب وعدمه، فهو متفرّع على ما سيأتي


(1) قد يقال: إنّ استصحاب بقاء الوقت يجوّز له التأخير.

وأجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن ذلك: بأنّ هذا الاستصحاب إن احتمل أنّه سينكشف له خلافه في الزمان الثاني لدى التأخير، لم يكن موجباً لجواز تأخيره؛ إذ الواجب بحكم العقل هو تحصيل الامتثال إمّا واقعاً أو تعبّداً، وهو ليس عالماً بأنّه لو أخّر صلاته كانت صلاته في الزمان الثاني امتثالاً واقعيّاً أو تعبّديّاً للأمر بالصلاة في الوقت، والاستصحاب لو كان معذّراً فإنّما هو معذّر بوجوده في زمان التأخير، في حين هو غير واثق بثبوت الاستصحاب في زمان التأخير، وأمّا إذا علم بأنّ هذا الاستصحاب سيبقى له ثابتاً إلى آخر الصلاة في الزمان الثاني، فأيضاً هذا الاستصحاب ليس مجوّزاً للتأخير وترك الصلاة فعلاً؛ وذلك لأنّ هذا الاستصحاب في طول هذا الترك وفي الرتبة المتأخّرة عنه، فلا يكون مجوّزاً لهذا الترك الذي هو مخالفة احتماليّة والذي هو المحقّق لموضوع الاستصحاب.

وبكلمة اُخرى: أنّ الترك متقدّم رتبة على الاستصحاب، ولايوجد في الرتبة المتقدّمة على الاستصحاب مؤمّن ومجوّز بالنسبة إلى الترك.

أقول: قد ينقض هذا الكلام بمن أخّر صلاته إلى أن لم يبق من الوقت إلّا بمقدار تحصيل الطهارة والصلاة، وكان متطهّراً بالطهارة الاستصحابيّة، ولا شكّ أنّه يجوز له أن يصلّي بتلك الطهارة الاستصحابيّة المستمرّة إلى آخر الصلاة من دون أن يتوضّأ، في حين ترك الوضوء هنا يؤدّي إلى المخالفة الاحتماليّة، والاستصحاب إنّما يجري في طول ترك الوضوء.

وقد يجاب عن هذا النقض بأنّ ترك الوضوء في هذا المثال ليس بنفسه مخالفة للأمر النفسىّ، وإنّما هو منشأ لتولّد المخالفة الاحتماليّة، وتولّد الاستصحاب في عرض واحد، فالاستصحاب ليس في طول ما يكون مخالفة احتماليّة كي لا يمكن أن يؤمّن من ناحيته، بل في عرضه، في حين فيما نحن فيه يكون الترك المحقّق لموضوع الاستصحاب بنفسه مخالفة احتماليّة، فلا يمكن للاستصحاب أن يؤمّن من ناحيته.

ويمكن الردّ على هذا الجواب: بأنّ ترك المقدّمة المؤدّي إلى فوات ذي المقدّمة بنفسه شروع في مخالفة أمر ذي المقدّمة. فيكون ترك الوضوء مخالفة احتماليّة، فلا فرق بين ما نحن فيه وبين هذا المثال.

ويمكن إبطال هذا الردّ ـ بناءً على أنّ المقصود بالأمن أو التجويز الذي يدّعى تأخّره رتبة عن الترك هو رفع الحرمة الشرعيّة ـ بأنّ ترك المقدّمة غير متّصف بالحرمة الشرعيّة حتّى نفتّش عن رفعها، في حين أنّ ترك الصلاة مع فرض ضيق الوقت مصداق للحرام الشرعىّ.

وعلى أىّ حال، فاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عدل بعد ذلك عمّا أفاده هنا: من أنّ الاستصحاب بما أنّه في طول الترك فلا يجوز الترك، ولا يوجد مؤمّن بالنسبة إلى الترك الذي هو في الرتبة المتقدّمة على الاستصحاب، ولم أسمع منه السبب في هذا العدول.

ولكن الحقّ على أىّ حال: أنّه لا مانع عن التأخير اعتماداً على الاستصحاب إذا كان يعلم بأنّه لا يظهر له خلافه في الزمان الثاني؛ وذلك لأنّنا نسأل: هل النظر في الإشكال في المقام إلى الحرمة الشرعيّة الثابتة للترك في هذا الزمان على تقدير ضيق الوقت بناءً على أنّ بغض المولى للترك في تمام الوقت يستلزم في آخر الوقت بغضه للترك في هذا الوقت الضيّق ـ أو قل: إنّ حبّه لجامع الأفراد الطوليّة يستلزم بعد انحصار الجامع في الفرد الأخير حبّ ذاك الفرد ـ أو النظر في الإشكال في المقام إلى المنع العقلىّ عن هذا الترك باعتباره تركاً للمصداق الذي انحصر الامتثال فيه بعد فوات باقي الأفراد؟

248

ـ إن شاء الله ـ في بحث استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه.

وذهب السيّد الاُستاذ على ما في (الدراسات) إلى أنّ التأخير مع الظنّ بضيق الوقت حرام في نفسه مستدلّاً بصحيحة الحلبىّ الواردة في الظهرين في «رجل نسي الاُولى والعصر جميعاً، ثُمّ ذكر ذلك عند غروب الشمس؟ فقال: إن كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما، فليصلّ الظهر، ثُمّ ليصلّ العصر، وإن هو خاف أن تفوته، فليبدأ بالعصر، ولا يؤخّرها فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعاً، ولكن يصلّي العصر فيما قد بقي من وقتها، ثُمّ


فإن كان النظر في الإشكال إلى الحرمة الشرعيّة للترك، فمن الواضح أنّ الحرمة الشرعيّة للترك موضوعها انحصار الجامع في هذا الفرد؛ كي يتعلّق الحبّ بهذا الفرد بالخصوص، ويحرم تركه، ونحن نستصحب عدم ذلك، ولا نقصد بالاستصحاب استصحاب بقاء الوقت في الزمان الثاني؛ كي يقال: إنّ هذا فرع الترك في الزمان الأوّل، بل نقصد به استصحاب عدم كون الصلاة في الزمان الأوّل هي الفرد المنحصر وكونها واجباً تعيينيّاً.

وإن كان النظر في الإشكال إلى المنع العقليّ عن هذا الترك باعتباره تركاً للمصداق الذي انحصر الامتثال فيه، فهذا المنع إنّما يرفع بالحصول على مصداق آخر للامتثال، وهو إنّما يكون باستصحاب بقاء الوقت في الزمان الثاني، وهذا الاستصحاب هو فرع الترك في الزمان الأوّل، ولكن المؤمّن العقلىّ ليس هو فعليّة الاستصحاب بأن يترك الصلاة في الزمان الأوّل حتّى يتمّ الاستصحاب بلحاظ الزمان الثاني حتّى يكون مؤمّناً (كي يرد عليه: أنّ الاستصحاب الذي هو في طول الترك لا يؤمّن الترك)، وإنّما المؤمّن العقليّ هو (ثبوت الاستصحاب على تقدير الترك)؛ فإنّ الذي يهمّ العقل هو تحصيل الجامع بين الامتثال الواقعىّ والظاهرىّ، فإذا عرف العقل أنّ الترك في الزمان الأوّل لا يحرمه هذا الجمع؛ لأنّ الترك بنفسه يحقّق موضوع الاستصحاب المثبت للامتثال الظاهرىّ، فلا مانع لديه من الترك، والحاصل: أنّه صحيح أنّ ثبوت الاستصحاب كان في طول الترك، ولكن (ثبوت الاستصحاب على تقدير الترك) ثابت قبل الترك، وليس في طول الترك، وهذا هو الذي يحكم العقل بالأمن على أساسه.

وهنا وجه آخر لإثبات عدم جواز الاعتماد عند خوف الضيق على الاستصحاب، وهو: أن يقال: إنّه متى ما كان الاعتماد على الاستصحاب إلى آخر الشوط في تأخير الواجب مستلزماً لفواته عادة؛ إذ لا يحصل العلم بضيق الوقت عادة إلّا بعد انتهائه، فعدم تعقّل العرف لإيجاب شيء مع الترخيص في تركه ترخيصاً شاملاً لكلّ الموارد إلّا ما شذّ يجعل دليل الاستصحاب منصرفاً عن مثل المورد، أو يجعل دليل الوجوب معارضاً لدليل الاستصحاب ومقدّماً عليه؛ إذ يرى تقديم الاستصحاب على دليل الوجوب نفياً لأصل الوجوب، في حين تقديم الوجوب على الاستصحاب ليس إلّا تخصيصاً لإطلاق دليل الاستصحاب.

وهذا الوجه ـ أيضاً ـ قابل للمناقشة؛ وذلك لأنّ الترخيص الذي دلّ عليه الاستصحاب لو كان شاملاً لغالبيّة دواعي التأخير إلّا ما شذّ، لكان من المحتمل دعوى كون ذلك منافياً عرفاً لتحريم التأخير عن الوقت واقعاً، ولكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ هذا الترخيص الذي ينتهي بانتهاء أمد الشكّ لايرخّص في دواعي التأخير التي تدعو إلى التأخير إلى ما بعد أمد الشكّ، أي: التأخير إلى زمان القطع بانتهاء الوقت، ويكفي هذا فائدة عرفيّة للإلزام الواقعىّ بحيث لا يرى تناف بينه وبين الترخيص الظاهرىّ.

249

ليصلّ الاُولى بعد ذلك على أثرها»(1).

أقول: إنّ ما أفاده في المقام مشكل ثبوتاً وإثباتاً:

أمّا من حيث الثبوت، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما فرضه إشكالاً على تطبيق قاعدة الملازمة من محذور عدم قابليّة التحرّك لو تمّ يرد هنا أيضاً، فمن لا يتحرّك نحو البدار بتنجّز الواقع عليه، لا يحرّكه الأمر به أيضاً، ومن يتحرّك نحوه بتنجّز الواقع عليه، يكفيه ذلك(2).

وثانياً: أنّ كون البدار عند ظنّ الضيق واجباً مستقلّاً ـ وبغضّ النظر عن وجوب الصلاة في الوقت ـ بعيد جداً؛ فإنّ هذا الوجوب إن فرض اختصاصه بالظانّ بضيق الوقت، لزم كون حال الظانّ بالضيق أسوأ من حال العالم به، فمن أخّرها مع العلم بالضيق، وأدّى ذلك إلى فوات الصلاة في الوقت، صدرت عنه معصية واحدة، ولكن من أخّرها مع الظنّ بالضيق، وأدّى ذلك إلى فوات الصلاة في الوقت، فقد عصى معصيتين، وهذا ـ كما ترى ـ غير محتمل فقهيّاً.

وإن فرض ثبوت هذا الوجوب النفسىّ حتّى مع العلم بالضيق، لزم الفرق بين من أخّر عالماً بالضيق، ومن أخّر عمداً بنحو لم يحصل له العلم بالضيق، كما لو نام قبل ضيق الوقت عالماً بأنّه لاينتبه من النوم إلّا بعد فوات الوقت، فيكون حال العالم أسوأ من حال هذا الشخص، ولايكونان متساويين برغم أنّ الثاني ـ أيضاً ـ ترك الصلاة عمداً، وهذا غير محتمل فقهيّاً أيضاً.

وإن فرض ثبوت هذا الوجوب النفسىّ بعنوان يشمل حتّى مثل من نام متعمّداً، يلزم أن


(1) الحديث وارد في الوسائل ج 3، ب 4، من المواقيت، ح 18، ووارد في التهذيب ج 2، ح 1074. وسند الحديث ليس نقيّاً؛ فإنّه قد رواه الشيخ(رحمه الله) بسنده عن الحسين بن سعيد، عن ابن سنان، عن ابن مسكان، عن الحلبىّ، وابن سنان مردّد بين عبد الله بن سنان وهو ثقة ومحمّد بن سنان الذي لم تثبت وثاقته. وقد روى الحسين بن سعيد عنهما، وورد بعض الأحاديث عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن سنان، عن ابن مسكان، فقد يكون حديثنا من هذا القبيل، ولعلّ رواية الحسين بن سعيد، عن محمّد بن سنان أكثر من روايته عن عبد الله بن سنان، كما أنّ روايته عنه أنسب من حيث الطبقة من روايته عن عبد الله، وإن شوهد قليلاً روايته عن عبدالله.

(2) لوفرض الوجوب النفسىّ للبدار مختصّاً بفرض الظنّ بالفوت دون العلم به، لم يرد هذا الإشكال؛ فإنّه لولا الوجوب النفسىّ للبدار، لم يكن يتنجّز عليه البدار بناءً على ما مضى منّا من بيان جريان استصحاب الوقت عند الشكّ في الضيق.

250

يكون تارك الصلاة عمداً في الوقت عاصياً لحكمين دائماً:

أحدهما: وجوب الإتيان بها في الوقت، والثاني: وجوب مستقلّ عن الوجوب الأوّل يستلزم عصيان الأوّل عصيانه دائماً، وهذا ـ أيضاً ـ غير محتمل فقهيّاً.

وأمّا من حيث الإثبات، فدلالة الحديث على الوجوب المستقلّ للبدار عند خوف الفوات ممنوعة لوجهين:

الأوّل: أنّ المفهوم من السياق الكامل للحديث سؤالاً وجواباً هو: أنّ الإتيان بالصلاة بعد أن ذكرها قبيل غروب الشمس كان مفروغاً منه، وإنّما الكلام في أنّ أيّهما تقدّم هل صلاة الظهر أو صلاة العصر؟ فبيّن الإمام(عليه السلام) أنّ الترتيب السابق قد سقط، وأنّه يقدّم العصر على الظهر، فلو فرض دلالة الرواية على أمر نفسىّ فإنّما تدلّ على الأمر النفسىّ بتقديم العصر على الظهر، لا بالبدار.

الثاني: أنّ ما ورد في الحديث من التعليل بقوله: «فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعاً» كالصريح في أنّ سقوط الترتيب وتقديم العصر يكون لأجل التحفّظ على الحكم الأوّل وعدم فوات كلتا الصلاتين، لاأنّه حكم نفسىّ جديد.

وكان الاُولى به أن يستدلّ على مقصوده بذيل الرواية، وهو قوله: «ثُمّ ليصلّ الاُولى بعد ذلك على أثرها»؛ إذ إنّ هذا أمر بالبدار عند خوف الفوت، وإن كان يرد ـ أيضاً ـ على الاستدلال بذلك: أنّه لا يتعيّن كونه أمراً بالبدار على نحو وجوب مستقلّ، بل يحتمل أن يكون بملاك التحفّظ على الواقع الأوّليّ، وهو إيقاع الصلاة في الوقت، بل هو الظاهر منه.

وأمّا المسألة الثانية: وهي السفر المظنون الضرر، فتحقيق الكلام في ذلك: أنّ الضرر المترقّب في السفر على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون ضرراً تافهاً لا يحرم اقتحامه، وفي هذا الفرض لا إشكال في إباحة السفر، وكون الصلاة قصراً.

الثاني: أن يكون الضرر بالغاً مرتبة الحرمة، وعندئذ فإن لم نقل: إنّ الظنّ أمارة عليه، لم يلزم التحرّز في غير فرض العلم، وجرت البراءة، وإن قلنا: إنّ الظنّ أمارة عليه ببناء العقلاء كما قال جماعة بذلك، بل وبأماريّة الاحتمال عليه ـ أيضاً ـ بنكتة أنّ الضرر لا يحصل العلم به غالباً قبل تحقّقه، فقصر الصلاة وتمامها في سفر ظنّ باستلزامه للضرر، ثُمّ

251

انكشف خلافه يتفرّعان على تشخيص: أنّ موضوع التمام هل هو المعصية بمعنى مخالفة الواقع وإن لم يكن منجّزاً، أو مخالفة الواقع المنجّز، أو بمعنى مخالفة المنجز وإن لم يكن واقعاً، أو بمعنى مخالفة أحدهما، أي: الواقع وإن لم يكن منجّزاً، والمنجّز وإن لم يكن واقعاً؟ فعلى الأوّلين يجب القصر، وعلى الأخيرين يجب التمام.

والظاهر: أنّ موضوع التمام هو مخالفة الواقع المنجّز، إذن فالحكم في المقام هو القصر.

الثالث: أن يبلغ الضرر إلى مستوىً أوجب الشارع نفس التحفّظ عنه، كما لو كان في السفر خوف هلاك النفس، وعندئذ لاإشكال في تماميّة صلاته وإن تبيّن الخلاف؛ لأنّ الدخول فيما يخاف فيه الضرر خلاف التحفّظ الواجب، فسفره معصية.

 

إثبات الحرمة بالأخبار:

الدليل الرابع: الأخبار الدالّة على العقاب.

أفاد الشيخ الأعظم(قدس سره) أنّ تلك الأخبار واردة فيما لو كان التجرّي على المعصية بالقصد إلى المعصية. ويقصد بذلك: أنّ الأخبار واردة في موارد الشبهة الموضوعيّة، بأن يكون أصل حرمة ارتكاب الأمر الفلاني ثابتاً في الواقع، فهو معصية واقعاً، وقد قصدها العبد، دون ما إذا كان الأمر على نحو الشبهة الحكميّة.

وغاية ما يمكن دعوى دلالة تلك الأخبار عليه هو: ثبوت العقاب، وهو غير مستلزم للحرمة بناءً على ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من كون المتجرّي مستحقّاً للعقاب. فظهر أنّ هذا الدليل ـ أيضاً ـ غير تامّ، فلا دليل ـ إذن ـ على حرمة التجرّي أصلاً.

بقي هنا شيء، وهو: أنّه توجد في قبال الأخبار المدّعى دلالتها على العقاب أخبار اُخرى تدّعى دلالتها على نفي العقاب. وهاتان الطائفتان اُدّعي في بعض حواشي الرسائل(1) إمكان تواترهما. وقد وقع الكلام في وجه الجمع بينهما، فقد جمع في (الدراسات) بينهما بحمل الطائفة الاُولى على قصد المعصية المبرز في الخارج بفعل من الأفعال من دون أن يرتدع العبد عن ذلك في الأثناء باختياره، وحمل الطائفة الثانية على القصد الذي ليس كذلك بقرينة النبوىّ: «إذ التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في


(1) بحر الفوائد في شرح الفرائد للمحقّق الآشتيانىّ ص 26.

252

النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: لأنّه أراد قتل صاحبه»، بتقريب: أنّ هذا نصّ في فرض الإبراز مع عدم الارتداع باختياره، فتخصّص به الطائفة الثانية، فتنقلب النسبة بين الطائفتين إلى العموم المطلق، وتخصّص الاُولى بالثانية.

ويرد عليه ـ بغضّ النظر عن بطلان انقلاب النسبة ـ أنّ افتراض كون هذا الحديث نصّاً في القصد المبرز بالفعل إن كان بلحاظ التعليل، فالتعليل الوارد في الحديث إنّما هو تعليل بإرادة القتل، والمراد منها إمّا قصد القتل، أو محاولة القتل بالالتقاء بالسيف ونحوه، فعلى الأوّل لا توجد في التعليل دلالة على فرض الإبراز، وعلى الثاني ـ وهو الظاهر عرفاً من مثل هذا الكلام ـ يكون التعليل تعليلاً بفعل حرام واقعىّ؛ وذلك لأنّ محاولة القتل بمثل الالتقاء بالسيف بنفسها حرام مستقلّ ومعصية لله بغضّ النظر عن حرمة القتل، وذلك كحرمة سبّ المؤمن.

وإن كان افتراض نصوصيّة الحديث في القصد المبرز بالفعل بلحاظ مورد الحديث، قلنا ـ بغضّ النظر عمّا عرفت: من أنّ ما في الحديث هو العقاب على محاولة القتل لا على قصده ـ: إنّ مورد الحديث هو مقارنة القصد لفعل حرام واقعىّ، وهو الالتقاء بالسيف وإبرازه به، لاإبرازه بفعل غير محرّم في نفسه، فالحديث ليس نصّاً بمورده في القصد المبرز بفعل غير محرّم، ويقبل التخصيص بخصوص القصد المبرز بفعل محرّم.

نعم، لكلّ من الطائفتين قدر متيقّن من الخارج، فالقدر المتيقّن من الطائفة الاُولى فرض الإبراز، والقدر المتيقّن من الطائفة الثانية فرض عدم الإبراز، لكن وجود القدر المتيقّن من الخارج لا يكفي للجمع.

ثُمّ إنّ غالب الأخبار من كلّ من الطائفتين لا يدلّ على المدّعى، وفي البحث عن ذلك طول وخروج عمّا يناسب المقام، فلنتكلّم على فرض تسليم وجود ما تمّت دلالته في كلّ من الطائفتين، فنقول:

إنّ التحقيق في مقام الجمع حمل الطائفة الاُولى على استحقاق العقاب، والثانية على نفي فعليّته؛ لنصوصيّة كلّ منهما فيما حملناها عليه، فنصّ كلّ منهما قرينة لصرف الاُخرى عن ظاهرها، ونحن لم نقبل مثل هذا الجمع بين لسان الأمر ولسان النهي بنفي الوجوب بالثاني ونفي الحرمة بالأوّل؛ لأنّ الوجوب وجواز الفعل وكذلك الحرمة وجواز الترك

253

جزءان تحليليّان لمفاد الأمر والنهي، فلم يكن العرف مساعداً على هذا الجمع، وهذا بخلاف ما نحن فيه.

هذا بغضّ النظر عن أنّ الطائفة الاُولى لو دلّت على العقاب، فجلّها أو كلّها لا تدلّ بذاتها على أكثر من استحقاق العقاب، كقوله: «نيّة الكافر شرّ من عمله»، وقوله: «للداخل إثمان: إثم الدخول، وإثم الرضا» وأنّ الطائفة الثانية لو دلّت على نفي العقاب، فجلّها أو كلّها لا تدلّ بذاتها على أكثر من نفي فعليّة العقاب، كما ورد من أنّ الله تعالى جعل لآدم(عليه السلام) أن لا يكتب على ولده ما نووا ما لم يفعلوه. بل نقول في هذا الحديث: إنّه لو كان عدم العقاب لعدم الاستحقاق، لم يكن ذلك امتناناً على آدم(عليه السلام)، فهو يدلّ على الاستحقاق(1).

 


(1) لعلّ تفصيل البحث عن مدى دلالة الروايات على العقاب، أو نفيه على الفعل المتجرّى به، أو على النيّة أنسب بما عقد له اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) المقام الثالث من البحث، وهو ما سيأتي من البحث عن استحقاق المتجرّي للعقاب، ولكن بما أنّ كلامه (رضوان الله عليه) هنا انجرّ إلى مسألة دلالة الروايات على العقاب لا بأس بأن نذكر هنا شيئاً من التفصيل في ذلك، ولنبدأ في البحث من نقطة الروايات النافية للعقاب، ومصبّها كما يظهر من مراجعتها إنّما هو ذات النيّة غير المنتهية إلى فعل الحرام، ولا تشمل ما نحن فيه من الفعل المتجرّى به، وهي روايات عديدة من قبيل:

1 ـ ما عن زرارة (بسند فيه عليّ بن حديد)، عن أحدهما(عليهما السلام)، قال: «إنّ الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذرّيّته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، ومن همّ بحسنة وعملها، كتبت له عشراً، ومن همّ بسيّئة،لم تكتب عليه، ومن همّ بها وعملها، كتبت عليه سيّئة» الوسائل / ج 1 / الباب 6 / مقدّمة العبادات / الحديث 6 / ص 36.

2 ـ ما عن أبي بصير بسند تامّ، عن أبي عبدالله(عليه السلام)، قال: «إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها، فتكتب له حسنة، وإن هو عملها، كتبت له عشر حسنات، وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها، فلايعملها، فلاتكتب عليه» المصدر نفسه / الحديث 7 / ص 36.

3 ـ ما عن بكير بسند تامّ، عن أبي عبدالله أو أبي جعفر(عليهما السلام)، قال: «إنّ آدم(عليه السلام)قال: يا ربّ، سلّطت علىّ الشيطان، وأجريته منّي مجرى الدم، فاجعل لي شيئاً. فقال: يا آدم، جعلت لك أنّ من همّ من ذرّيّتك بسيّئة، لم تكتب عليه، فإن عملها، كتبت عليه سيّئة، ومن همّ بحسنة فإن لم يعملها، كتبت له حسنة، وإن هو عملها، كتبت له عشراً. قال: يا ربّ زدني. قال: جعلت لك أنّ من عمل منهم سيّئة، ثُمّ استغفر، غفرت له. قال: يا ربّ زدني. قال: جعلت لهم التوبة أو بسطت لهم التوبة حتّى تبلغ النفس هذه. قال: يا ربّ حسبي» المصدر السابق ورد فيه قسمٌ منه / الحديث 8 / ص 37، وفي الجزء 11 / ب 93 من جهاد النفس / الحديث 1 / ص 369 / في مجموع المتن والتعليقة.

4 ـ ما عن جميل بن دراج بسند تامّ، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: «إذا همّ العبد بالسيّئة، لم تكتب عليه، وإذا همّ بحسنة، كتبت له» المصدر نفسه / الحديث 10 / ص 37.

5 ـ ما عن حمزة بن حمران بسند ضعيف بمحمّد بن موسى بن المتوكّل وعليّ بن الحسين السعد آباديّ

254


اللذين لم يرد نصّ على توثيقهما، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: «من همّ بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشراً، ويضاعف الله لمن يشاء إلى سبع مئة، ومن همّ بسيّئة فلم يعملها، لم تكتب عليه حتّى يعملها، فإن لم يعملها، كتبت له حسنة، وإن عملها، اُجّل تسع ساعات، فإن تاب وندم عليها، لم يكتب عليه، وإن لم يتب ولم يندم عليها، كتبت عليه سيّئة» المصدر نفسه / الحديث 20 / ص 39.

6 ـ ما عن مسعدة بن صدقة ـ ولم يثبت توثيقه ـ عن جعفر بن محمّد(عليه السلام)، قال: «لو كانت النيّات من أهل الفسق يؤخذ بها، إذن لاُخذ كلّ من نوى الزنا بالزنا، وكلّ من نوى السرقة بالسرقة، وكلّ من نوى القتل بالقتل، ولكنّ الله عدل كريم ليس الجور من شأنه، ولكنّه يثيب على نيّات الخير أهلها وإضمارهم عليها، ولا يؤاخذ أهل الفسق حتّى يفعلوا» المصدر نفسه / الحديث 21 / ص 40.

والكلام تارة يقع عن حدود دلالة هذه الروايات، وأنّها هل تشمل ما نحن فيه، أو لا؟

واُخرى عما قد يقال بمعارضته لها؛ كي نعرف أنّها هل تعارضها، أو لا؟ وهل تدلّ على المقصود فيما نحن فيه من العقاب على التجرّي، أو لا؟

وثالثة في أنّه بعد فرض تماميّة كلتا الطائفتين سنداً ودلالة ما هو مقتضى الجمع بينهما؟

ورابعة في أنّ دليل الحجّيّة هل يشمل روايات من هذا القبيل ممّا يحكى عن العقاب وجوداً وعدماً دون أن يكشف عن حكم شرعىّ، أو أنّ حالها حال الروايات الحاكية عن موضوعات تكوينيّة كعدد السماوات والأرض والنجوم مثلاً؟ فهذه اُمور أربعة:

الأمر الأوّل: في معرفة حدود دلالة روايات نفي العقاب، فنقول:

أوّلاً: إنّ مفاد هذه الروايات إنّما هو نفي العقاب على النيّة لا على الفعل المتجرّى به.

لا يقال: إنّ مقتضى إطلاق دليل نفي العقاب ما لم يأت بالسيّئة ـ كما هو لسان هذه الروايات ـ هو نفي العقاب مطلقاً، سواء صدر عنه فعل متجرّى به أو لم يصدر، فالعقاب منحصر بما إذا أتى بتلك السيّئة المنويّة، والمفروض في مورد التجرّي أنّه لم يأت بها.

فإنه يقال: إنّ الإطلاق في نفي العقاب في هذه الروايات حيثىّ، سنخ الإطلاق في إباحة المباحات، فكما أنّ دليل إباحة الجبن ـ مثلاً ـ إنّما يدلّ على إباحة الجبن من حيث هو جبن، فلا يدلّ بإطلاقه على إباحته عند ما يكون مغصوباً مثلاً، كذلك فيما نحن فيه تدلّ هذه الروايات على عدم العقاب بمجرّد أن همّ بالمعصية، أمّا لو فعل فعلاً كان يعتقده المعصية المطلوبة فأخطأ ظنّه، فهذه حيثيّة اُخرى غير منظور إليها في هذه الروايات.

ولو غضضنا النظر عن كون الإطلاق حيثيّاً، قلنا: إنّ هذه الروايات إنّما دلّت على أنّ السيّئة التي نواها ولم يفعلها لا تكتب عليه، أمّا الفعل المتجرّى به فهو سيّئة اُخرى غير داخلة في منطوق الروايات، كما هو واضح.

ومن هنا ينفتح باب للاستشكال في دلالة هذه الروايات على نفي العقاب على النيّة؛ وذلك بأن يقال: إنّ لسان هذه الروايات هو لسان أنّ السيّئة المنويّة لا تسجّل على العبد بمجرّد النيّة، وهذا لا ينافي تسجيل نفس النيّة عليه.

إلا أنّ هذا الإشكال غير عرفىّ؛ فإنّ المفهوم عرفاً من هذه الروايات بمناسبة جوّ الامتنان هو نفي العقاب على المنوىّ والنيّة معاً.

وثانياً: إنّ هذه الروايات هل تنفي استحقاق العقاب، أو فعليّته؟ الصحيح: أنّه لا يستفاد منها أكثر من نفي

255


فعليّة العقاب، بل قد يستفاد من جوّ الامتنان ثبوت الاستحقاق؛ إذ لولا الاستحقاق لما كان هناك مورد للامتنان خصوصاً في الروايات التي عبّرت بتعبير (جعل لآدم)؛ فإنّها صريحة في الامتنان.

نعم، قد تدلّ الرواية الأخيرة على نفي الاستحقاق حيث جاء فيها التعبير بـ (أنّ الله عدل كريم ليس الجور من شأنه)، إلّا أنّ هذه الرواية بعد أن كانت تتكلّم عن نفي الجور إذن ليس جوّها جوّ الامتنان، وحينئذ يمكن حملها أو حمل هذا المقطع منها على نفي العقاب على المنوىّ فحسب دون النيّة، على أنّ سندها ضعيف بمسعدة بن صدقة الذي لا دليل على وثاقته عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات، وهذا الدليل غير مقبول عندنا.

إن قلت: لابدّ أن نستفيد من هذه الروايات نفي الاستحقاق؛ لأنّ الإخبار القطعىّ عن نفي العقاب على رغم الاستحقاق يغري العبد، ويورّطه فيما يوجب استحقاق العقاب، وهذا لا يليق بشأن المعصومين(عليهم السلام)، إذن فحينما يخبرون عن عدم العقاب على شيء يكشف ذلك عن عدم استحقاق العقاب عليه؛ ولذا لو دلّ دليل على نفي العقاب على مشكوك الحرمة، كان ذلك دليلاً على البراءة الشرعيّة والترخيص الشرعىّ، ولو دلّ دليل على نفي العقاب على عمل كشرب التتن مثلاً، كان ذلك دليلاً على الإباحة الواقعيّة.

قلت: إنّ نفي العقاب على النيّة المنفصلة عن الفعل لا يغري العبد، ولا يحفزه على النيّة؛ لأنّ الناوي يهدف الوصول إلى الفعل المنويّ لا إلى النيّة بذاتها، ولا يعقل افتراض أنّ الناوي يبني حين النيّة على الاقتصار على النيّة دون الفعل، فالإخبار عن عدم العقاب على النيّة ليس أثره تحفيز العبد على نيّة الشرّ، بل أثره تحفيز من نوى الشرّ على تركه؛ إذ هو يعلم أنّه لو تركه لما عوقب على نيّته، وهذا شبيه بالإخبار عن عدم العقاب على الصغائر عند اجتناب الكبائر في قوله تعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ﴾ سورة النساء، الآية: 31 حيث لا يغري الناس إلى ارتكاب الصغائر بقدر ما يدفعهم إلى ترك الكبائر؛ إذ إنّ من يرتكب الصغيرة لا يستطيع أن يثق من نفسه بأنّه لن يبتلي بالكبيرة كي يعلم بتنجّز عدم العقاب.

هذا، وقد يقال: إنّنا نعلم بعدم استحقاق العقاب على النيّة سواء دلّت هذه الروايات على نفي الاستحقاق أو لا؛ ولذلك قد صرّح المحقّقون في المقام بأنّ سوء السريرة ما لم يبرز بمبرز لا عقاب عليه، وإنّما وقعالخلاف بينهم في استحقاق العقاب وعدمه عند ما يبرز سوء السريرة في ثوب التجرّي.

إلّا أنّ الصحيح هو: أنّ النيّة أمر زائد على سوء السريرة، فسوء السريرة محضاً يوجب استحقاق اللوم فحسب، أمّا النيّة وهمّ العبد بالمعصية، فهي لون من ألوان هتك المولى بلا إشكال، وهذا موجب عقلاً لاستحقاق العقاب.

الأمر الثاني: فيما قد يدّعى معارضته لروايات نفي العقاب على النيّة من قبيل:

1 ـ بعض الآيات كقوله تعالى: ﴿إنْ تُبْدُوا ما في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه فَيَغْفِرُ لِمَنْ يشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ واللّه عَلى كُلِّ شَي ء قَديرٌ﴾سورة البقرة، الآية: 284.

إلّا أنّ هذه الآية لو دلّت على ما يخالف تلك الروايات، فإنّما تدلّ بالإطلاق في كلمة ﴿ما في أَنْفُسِكُمْ﴾، ولكن دلالتها ـ حتّى بالإطلاق ـ ممنوعة عندنا؛ إذ لم تدلّ الآية على أكثر من فعليّة الحساب دون فعليّة العقاب، نعم لو فرض أنّ تلك الروايات كانت تنفي الاستحقاق أيضاً، فمن المعقول أن يقال: إنّ فعليّة الحساب دليل على استحقاق العقاب، فيقع التعارض مثلاً.

وقوله تعالى: ﴿إنَّ الَّذينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيْعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ في الدُّنْيا وَ الاْخِرَةِ ←

256


وَاللَّه يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾سورة النور، الآية: 19.

ولعلّ من الواضح: أنّه لا ينبغي الجمود في فهم هذه الآية على المعنى اللفظيّ البحت لقوله: ﴿الَّذينَ يُحِبُّونَ...﴾، بل الظاهر: أنّ المقصود بهذا العنوان هو الإشارة إلى الذين يشيعون الفاحشة عن حبّ لإشاعتها لا عن مجرّد اللامبالات، كما يناسب ذلك قصّة الإفك على زوجة النبىّ(صلى الله عليه وآله) أو أمّ ولده والتي وردت هذه الآية في سياقها.

على أنّه حتّى لو جمدنا على حاقّ اللفظ، فالآية إنّما دلّت على العقاب على حبّ شياع الفاحشة، وهذا لا يستلزم العقاب على النيّة، أو الفعل المتجرّى به الصادر عن الإنسان بتسويل الشهوات النفسيّة، فكم فرق بين من يحاول معصية طلباً للذّة نفسيّة، وبين من يحبّ أصل صدور المعصية وتحقّقها ولو من الآخرين، فمثلاً: تارة يحاول إشاعة فاحشة ما على أساس ميل النفس إلى التكلّم عن واقعة تجلب النظر مثلاً، واُخرى يحبّ أصل شياع الفاحشة ولو من قبل الآخرين، ومن الواضح أنّ الثاني أشدّ حالاً من الأوّل، ولا يمكن التعدّي من الثاني ـ لو دلّ دليل على عقابه ـ إلى الأوّل.

ولا أراني بحاجة إلى البحث عن الجواب عن آيات اُخرى ربّما يتوهّم عدّها في سياق المعارض لتلك الروايات أيضاً، كقوله تعالى:﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾سورة آل عمران، الآية: 183 حيث نسب القتل إلى المخاطبين مع تأخّرهم عن القاتلين بكثير؛ لرضاهم بقتلهم، وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً في الْأرْضِ وَ لا فَسَاداً﴾ سورة القصص، الآية: 83.

2 ـ روايات نيّة الكافر شرّ من عمله:

كرواية السكونىّ غير تامّة السند، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): نيّة المؤمن خير من عمله، ونيّة الكافر شرّ من عمله، وكلّ عامل يعمل على نيّته» الوسائل / الجزء 1 / الباب 6 / مقدّمة العبادات / الحديث 3 / ص 35.

ورواية الحسن بن الحسين الأنصارىّ عن بعض رجاله، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه كان يقول: «نيّة المؤمن أفضل من عمله؛ وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه، ونيّة الكافر شرّ من عمله؛ وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ، ويأمل من الشرّ ما لا يدركه» المصدر نفسه / الباب 6 / من مقدّمة العبادات / الحديث 17 / ص 38 ـ 39.

ورواية الفضيل بن يسار غير التامّة سنداً، عن أبي جعفر(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)، أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: «نيّة المؤمن أبلغ من عمله، وكذلك نيّة الفاجر» المصدر نفسه / الحديث 22 / ص 40.

وهذه الروايات إضافة إلى ضعف أسانيدها لاتدلّ ـ كما ترى ـ على العقاب على النيّة، فلعلّ المقصود ـ كما يظهر من بعضها ـ مجرد أنّ الكافر أو الفاجر ينوي ما هو أشدّ ممّا يعمل، وهذا أمر طبيعىّ.

3 ـ روايات أنّ من أسرّ سريرة يصيبه شرّها، من قبيل ما عن عمر بن يزيد بسند تامّ، قال: «إنّي لأتعشّى مع أبي عبد الله(عليه السلام) إذ تلا هذه الآية: ﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ * بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه﴾، ثُمّ قال: ما يصنع الإنسان أن يتقرّب إلى الله عزّ وجلّ بخلاف ما يعلم الله؟ إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يقول: من أسرّ سريرة رداه الله رداها، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً» الوسائل / الجزء 1 / الباب 11 / مقدّمة العبادات / الحديث 5 / ص 48.

وما عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): «ما من عبد يسرّ خيراً إلّا لم تذهب الأيّام حتّى يظهر الله له ←

257


خيراً، وما من عبد يسرّ شرّاً إلّا لم تذهب الأيّام حتّى يظهر الله له شرّاً» الوسائل / الجزء 1 / الباب 7 / مقدّمة العبادات / الحديث 2 / ص 41.

وسند الحديث كما يلي: الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن صالح بن السندىّ، عن جعفر بن بشير عن علىّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، ولا يوجد في السند من يتوقّف لأجله عدا صالح بنالسندىّ الذي لم يرد توثيق بشأنه، ولا يفيد نقل عليّ بن إبراهيم عنه؛ فإنّ عبارة عليّ بن إبراهيم في مقدّمة تفسيره وهي قوله: «ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا من مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم...» لا تدلّ على أكثر من وثاقة من روى عنه في تفسيره، ولم يعلم ورود رواية له عن صالح بن السندىّ في تفسيره، ولم تدلّ على أنّه بشكل عامّ لايروي إلّا عن ثقة.

وما عن جرّاح المدائنىّ ـ والسند غير تامّ ـ عن أبي عبد الله(عليه السلام) في حديث «... ما من عبد أسرّ خيراً، فذهبت الأيّام أبداً حتّى يظهر الله له خيراً، وما من عبد يسرّ شرّاً، فذهبت الأيّام حتّى يظهر الله له شرّاً» الوسائل/ الجزء 1 / الباب 12 / مقدمّة العبادات / الحديث 6 / ص 52.

إلّا أنّ هذه الروايات ـ كما ترى ـ لا تدلّ على كون المقصود بالشرّ الذي سيلقاه العقاب الاُخروىّ، بل بعضها واضحة في إرادة أنّه سيصير إلى الشرّ في هذه الحياة. على أنّه قد تفسّر هذه الأخبار بأنّ المقصود أنّ من جعل ما هو عليه من الخير أو الشرّ مستوراً عن الناس، فسوف يبرزه الله للناس، فإن كان شرّاً، فضحه، وإن كان خيراً، رداه رداء الخير أمام الناس، وليس المقصود من الإسرار مجرّد النيّة.

4 ـ ما دلّ على أنّ السبب في خلود الخالدين في النار هو عزمهم على الاستمرار على العصيان إلى الأبد لو بقوا خالدين، كما ورد عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): «إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا: أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا: أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء، ثُمّ تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾، قال: على نيّته» الوسائل / الجزء 1 / الباب 6 / من مقدّمة العبادات / الحديث 4 / ص 36.

إلّا أنّ هذا الحديث ضعيف سنداً، ويمكن توجيهه دلالة بأن يكون المقصود أنّ عقاب العاصي يناسب درجة خبثه، وآية شدّة خبث هؤلاء العصاة أنّهم كانوا عازمين على المكث على المعاصي أبد الآباد لو بقوا.

5 ـ ما دلّ على أن الراضي بفعل قوم شريك معهم من قبيل:

ما عن طلحة بن زيد ـ والسند غير تامّ ـ عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم» الوسائل / الجزء 11 / الباب 80 / جهاد النفس / الحديث 1 / ص 345، والجزء 12 / الباب 42 من أبواب ما يكتسب به / الحديث 2 / ص 128. وبنفس المضمون جاء في الجزء 11 / الباب 5 من الأمر والنهي / الحديث 6 / ص 410. والسند ضعيف بمحمّد بن سنان. أمّا طلحة بن زيد، فيمكن توثيقه، إمّا بتعبير الشيخ عنه بقوله: (هو عامّيّ المذهب إلّا أنّ كتابه معتمد)، أو برواية صفوان بن يحيى عنه، أو بوقوعه في أسانيد كامل الزيارات وإن كان هذا الوجه غير صحيح عندنا.

وما عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة مرسلاً من قوله: «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضا به» الوسائل / الجزء 11 الباب 5 / من الأمر والنهي / الحديث 12 / ص 411.

258


وما عن عبد السلام بن صالح الهرويّ بسند تام، قال: «قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام): يا ابن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق(عليه السلام)، قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين(عليه السلام) بفعال آبائها؟ فقال(عليه السلام): هو كذلك، فقلت: قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ ما معناه؟ قال: صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراري قتلة الحسين(عليه السلام) يرضون بفعال آبائهم، ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أنّ رجلاً قتل بالمشرق، فرضي بقتله رجل بالمغرب، لكان الراضي عند الله عزّ وجلّ شريك القاتل، وإنّما يقتلهم القائم(عليه السلام) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم... الحديث» الوسائل / الجزء 11 / الباب 5 / من الأمر والنهي/ الحديث 4 / ص 401.

وما عنه بنفس السند عن الرضا(عليه السلام) قال: «قلت له: لأىّ علّة أغرق الله عزّ وجلّ الدنيا كلّها في زمن نوح(عليه السلام)، وفيهم الأطفال، ومن لا ذنب له؟ فقال: ما كان فيهم الأطفال؛ لأنّ الله عزّ وجلّ أعقم أصلاب قوم نوح وأرحام نسائهم أربعين عاماً، فانقطع نسلهم، فغرقوا ولا طفل فيهم، ما كان الله ليهلك بعذابه من لا ذنب له، وأمّا الباقون من قوم نوح، فاُغرقوا بتكذيبهم لنبىّ الله نوح(عليه السلام)، وسائرهم اُغرقوا برضاهم بتكذيب المكذّبين، ومن غاب عن أمر فرضي به، كان كمن شاهده وأتاه» الوسائل / الجزء 11 / الباب 5 / من الأمر والنهي / الحديث 5 / ص 410.

والجواب عن مثل هذه الروايات ما مضى في ذيل آية حبّ إشاعة الفاحشة: من أنّ العذاب على الحبّ والرضا بصدور الذنب عن قوم لا يلازم العذاب على النيّة أو التجرّي الصادر عن شخص على أساس إغراء نفسه له باللذّات.

لايقال: إنّ الرضا والحبّ أمر غير اختيارىّ، فكيف يعاقب عليه؟! فإنّه يقال: إنّه اختيارىّ بالواسطة بلحاظ أنّ الإنسان قادر على أن يربّي نفسه بجعلها في ضمن أحوال من المطالعات، أو التفكير، أو الإصغاء إلىوعظ الوعّاظ، أو مصاحبة الأخيار، أو غير ذلك بحيث لا يحصل له الرضا بعمل قوم فاسقين.

6 ـ ما عن زيد بن عليّ(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سُنّة، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله؛ هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: لأنّه أراد قتلاً» الوسائل / الجزء 11 / الباب 67 / من جهاد العدوّ / الحديث الوحيد في الباب ص 113.

ولا يبعد أن يكون المفهوم عرفاً من قوله: «أراد قتلاً» هو ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله):من أنّه حاول القتل عملاً بمثل تجريد السيف عليه، لا مجرّد النيّة، وهذا ليس عقاباً على التجرّي، بل على فعل المعصية؛ فإنّ مثل هذه المحاولة حرام مستقلّ كحرمة سبّ المؤمن بغضّ النظر عن القتل.

هذا، والراوي لهذا الحديث عن زيد بن عليّ هو عمروبن خالد، ولا دليل على وثاقته عدا وقوعه في أسناد كامل الزيارات، ونحن لا نقول بكون ذلك توثيقاً، وتوثيق ابن فضّال له بناءً على نقل الكشيّ.

7 ـ ما عن أبي عروة السلمىّ، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: «إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» الوسائل / الجزء 1 / الباب 5 / من مقدّمة العبادات / الحديث 5 / ص 34.

إلّا أنّ سند الحديث ضعيف، على أنّه لو عارض روايات العفو عن النيّة، فإنّما يعارضها بالإطلاق، فليس المصداق الوحيد للحشر على النيّات العقاب على النيّة، فمن مصاديقه ـ أيضاً ـ تأثير النيّة المقترنة بالعمل في العمل وبالتالي في الحشر، فعمل واحد يؤتى بنيّتين مختلفتين: كنيّة التعبّد، ونيّة الرياء، ويصدق في ذلك أنّ

259


الناس يحشرون على نيّاتهم.

8 ـ روايات العقاب على بعض مقدّمات الحرام من قبيل:

ما عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: «لعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها» الوسائل / الجزء 17 / الباب 34 / من الأشربة المحرّمة / الحديث 1 / ص 300. وسند الحديث ضعيف بعمروبن شمر.

وما عن زيد بن عليّ، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: «لعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها ومشتريها، وساقيها، وآكل ثمنها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه» المصدر نفسه / الحديث 2. وفي السند عمروبن خالد الذي تقدّم الكلام عنه.

وما عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: «إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم، فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم، فيقال: بلى ذكرت عبدي فلاناً فترقى ذلك حتّى قتل، فأصابك مندمه» الوسائل / الجزء 19 / الباب 2 / قصاص النفس / الحديث 1 / ص 8. وسند الحديث تامّ، وتوجد روايات عديدة بشأن من أعان على الدم مقاربة لهذا المضمون واردة في الوسائل / الجزء 19 / الباب 2 / من قصاص النفس.

والواقع: أنّ تحريم مقدّمة من مقدّمات الحرام من قبل الشريعة الإسلاميّة أمر معقول، وما يقال في علم الاُصول: من عدم حرمة مقدّمة الحرام إنّما يعني: أنّ حرمة الشيء لا تستلزم حرمة مقدّمته، ولا يعني: أنّ الشريعة الإسلاميّة لا تستطيع أن تحرّم مقدّمة من المقدّمات لأجل أخذ مزيد من الحيطة.

على أنّ روايات الإعانة على القتل واردة في المقدّمة الموصلة، فحتّى لو تعيّن حملها على العقاب على التجرّي، فالعقاب على التجرّي بإتيان مقدّمة موصلة لا يستلزم العقاب على التجرّي بالإتيان بأمر حلال بتخيّل كونه حراماً كما هو محلّ البحث؛ إذ إنّ من المحتمل كون انتهاء ذاك التجرّي إلى تفويت الغرض على المولى دون هذا التجرّي فارقاً في المقام.

الأمر الثالث: في أنّه هل هناك جمع عرفىّ بين الطائفتين لو تمّتا سنداً ودلالة، أو لا؟

ذهب الشيخ الأعظم (رضوان الله عليه) إلى أنّ كلتا الطائفتين وردتا في القصد، وذكر في مقام الجمع بينهما احتمالين:

الأوّل: حمل طائفة نفي العقاب على من ارتدع عن قصده بنفسه، وحمل طائفة العقاب على من بقي على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره.

والثاني: حمل الاُولى على من اكتفى بمجرّد القصد، وحمل الثانية على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدّمات.

وكلا هذين الجمعين جمع تبرّعىّ بحاجة إلى شاهد فنّىّ، وقد يجعل الشاهد الفنّيّ لذلك حديثالقاتل والمقتول في النار: «... قيل يا رسول الله(صلى الله عليه وآله)، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: لأنّه أراد قتلاً» بدعوى أنّ هذا الحديث نصّ في مورده، وهو فرض عدم الارتداع عن القصد إلى أن يحصل له العجز، فيخرج ذلك بالتخصيص عن أدلّة نفي العقاب، وبذلك تصبح أدلّة نفي العقاب أخصّ ببركة قاعدة انقلاب النسبة من أدلّة العقاب، فتخصّص بها، وينتج التفصيل الأوّل من التفصيلين اللذين احتملهما الشيخ الأعظم(رحمه الله).

260


أو بدعوى أنّ هذا الحديث نصّ في مورده، وهو الاشتغال ببعض المقدّمات، فتخصّص به أدلّة نفي العقاب، ثُمّ ببركة انقلاب النسبة تخصّص أدلّة العقاب بأدلّة النفي، فينتج التفصيل الثاني من التفصيلين، كما وقد تجعل روايات العقاب على بعض المقدّمات ـ أيضاً ـ شاهداً لهذا الجمع الثاني، ولعلّه إلى ذلك يشير الشيخ(رحمه الله) حيث يقول: «كما يشهد له حرمة الإعانة على المحرّم حيث عمّمه بعض الأساطين لإعانة نفسه على الحرام، ولعلّه لتنقيح المناط لا بالدلالة اللفظيّة».

وقد يقال: إنّ هذه الطريقة تثبت اشتراط العقاب بكلا القيدين، لو اعتمدنا في مقام ذكر الشاهد على رواية (القاتل والمقتول)، فيقال: إنّ هذه الرواية نصّ في موردها، وتوجد في موردها خصوصيّتان: إحداهما: أنّه لم يرتدع عن الحرام إلى أن عجز، والثانية: أنّه اشتغل ببعض المقدّمات، أو قل: أبرز قصده بمبرز عملىّ، فروايات عدم العقاب تخصّص بهذا المقدار، فمن قارنت نيّته هاتين الخصوصيّتين يعاقب، وبفقدان إحدى الخصوصيّتين ينتفي العقاب ببركة روايات نفي العقاب التي هي أخص ـ بعد انقلاب النسبة ـ من روايات العقاب.

وأورد على ذلك اُستاذنا الشهيد(قدس سره) ـ بغضّ النظر عن عدم قبول كبرى انقلاب النسبة، وبغضّ النظر عن المناقشة الدلالية لرواية القاتل والمقتول؛ إذ إنّ الإرادة هنا لا تحمل على النيّة، بل على محاولة القتل بمثل الهجوم الذي هو محرّم شرعاً ـ أنّ مورد الحديث يحمل خصوصيّة ثالثة، فيجب أخذها ـ أيضاً ـ بعين الاعتبار، وهي: اقتران النيّة بعمل محرّم في ذاته، وهو محاولة القتل بمثل الهجوم بالسيف.

وذكر الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) وجهاً آخر للجمع بين الطائفتين ـ بعد فرض ورودهما في مورد التجرّي وتعارضهما ـ وهو: حمل أدلّة النفي على نفي فعليّة العقاب، وأدلّة الإثبات على إثبات استحقاق العقاب؛ وذلك لأنّ أدلّة النفي نصّ في نفي الفعليّة، وظاهرة في نفي الاستحقاق (لو لم نقلّ: إنّ كلّها أو جلّها تدلّ على نفي الفعليّة فقط)، وأدلّة الإثبات نصّ في إثبات الاستحقاق، وظاهرة في إثبات الفعليّة (لو لم نقل: إنّ كلّها أو جلّها تثبت الاستحقاق فقط)، فترفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر. وإنّما لا نجمع بين الأمر والنهي بجمع من هذا القبيل بحمل كلّ منهما على مجرّد الجواز لنصوصيّة كلّ منهما في الجواز في جانبه وظهوره في الإلزام؛ لأنّ تحليل الأمر والنهي إلى الجواز والإلزام تحليل عقلىّ، بخلاف ما نحن فيه.

أقول: إنّ روايات العقاب فيها ما هو نصّ في فعليّة العقاب كرواية تعليل خلود الخالد في النار بنيّة الاستمرار، وفيها ما لا يتلائم مع الوعد الجزمىّ بالعفو، كرواية القاتل والمقتول في النار، وروايات لعن الغارس والعاصر، وغير ذلك.

الأمر الرابع: في مدى إمكانيّة شمول دليل الحجّيّة لروايات العقاب، أو نفي العقاب في المقام:

إن كان الدليل يثبت أو ينفي فعليّة العقاب مع علمنا بالاستحقاق، فلا يعقل تنجيز أو تعذير زائد؛ كي نتعقّل الحجّيّة.

وإن كان الدليل يثبت أو ينفي الاستحقاق، وكان ذلك كاشفاً عن ثبوت الحكم الإلزامىّ وعدمه، فلا شكّ في الحجّيّة.

وإن كان الدليل يثبت الاستحقاق، ولم نجعل ذلك كاشفاً عن ثبوت الحكم الإلزامىّ، أو كان ينفي الاستحقاق، وكنّا نعلم من قبل بعدم الحكم الإلزامىّ، بدعوى استحالة الحكم في سلسلة معلولات الأحكام مثلاً، فلا معنىً ـ أيضاً ـ للحجّيّة؛ وذلك لأنّ روح الحجّيّة عبارة عن التنجيز والتعذير. والاستحقاق بواقعه يساوق

261

 

قبح الفعل المتجرّى به

 

المقام الثاني: قبح الفعل المتجرّى به وعدمه. وهناك جهتان من البحث:

إحداهما: في مقابل الشيخ الأعظم(قدس سره) المنكر للقبح، وأنّه لا يوجد في المقام شيء عدا سوء سريرة العبد لا قبح فعله.

والثانية: في قبال المحقّق النائينىّ(رحمه الله) الذي سلّم بالقبح على ما في تقرير المحقّق الكاظمىّ(رحمه الله)، وقال: إنّه قبح فاعلىّ، وليس قبحاً فعليّاً.

 

مع المنكرين للقبح

أمّا الجهة الاُولى: فتحقيق الكلام في ذلك: أنّ في موارد استحقاق المولى ـ عزّ اسمه ـ على عبده الطاعة عنصرين: عنصر الحكم الإلزامىّ، وعنصر الوصول بمرتبة من مراتب الوصول المنجّزة. فما هو مصبّ حقّ الطاعة من هذين العنصرين؟

يبدو أوّل وهلة في النظر أربعة احتمالات:

1 ـ أن يكون مصبّه العنصر الأوّل، بمعنى: أنّ من حقّ المولى على العباد إطاعة حكمه الإلزامىّ سواء وصل أو لا.

2 ـ أن يكون مصبّه العنصر الثاني، بمعنى: أنّ من حقّ المولى على العباد إطاعة ما وصل إليهم من حكمه ولو كان الوصول خاطئاً: بأن لم يكن هناك حكم إلزامىّ في الواقع.

3 ـ أن يكون مصبّه مجموع العنصرين، أو قل: الحكم الواقعىّ الواصل.

4 ـ أن يكون مصبّه كلا العنصرين، أي: إنّ صدور الحكم وحده موجب لحقّ الطاعة ولو لم يصل، والوصول وحده موجب لحقّ الطاعة ولو لم يطابق الواقع.

 


التنجيز، وعدمه بواقعه يساوق التعذير، إذن فالتنجيز والتعذير هنا يدوران مدار الواقع، ولا معنىً للحجّيّة الظاهريّة.

262

ويمكن حصر الأمر بعد شيء من التأمّل في احتمالين: الثاني والثالث؛ وذلك بأن يقال: ما معنى كون العنصر الأوّل وهو صدور الحكم بلا وصول كافياً لتنجّز حقّ الطاعة؟ إن قصد بذلك أنّ ثبوت الحكم واقعاً حتّى مع العلم بالخلاف يوجب الطاعة على العبد، فهذا بديهىّ البطلان، وإن قصد بذلك أنّ صدوره عند وصوله الاحتمالىّ يوجب الطاعة، فهذا بناءً على الإيمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان باطل، وبناءً على عدم الإيمان بها راجع إلى الاحتمال الثالث؛ إذ معناه كون مصبّ الطاعة صدور الحكم مع مرتبة من الوصول منجّزة منضمّاً إلى الإيمان بأنّ مرتبة الوصول الاحتمالىّ منجّزة كما هو المفروض بناءً على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان. إذن فالعنصر الأوّل وحده لا يمكن أن يكون مصبّاً لحقّ الطاعة، وبهذا يسقط الاحتمال الأوّل والرابع.

وبإمكانك أن تقول في مقام التعليق على الاحتمال الرابع: إنّه لو قصد بذلك أن يكون للمولى حقّان: حقّ امتثال الواقع ولو لم يصل، وحقّ امتثال الواصل ولو لم يطابق الواقع، لزم من ذلك اجتماع حقّين للمولى في فرض ثبوت الواقع مع الوصول، وكون العاصي ـ عندئذ ـ معاقباً بعقابين، وهذا غير محتمل(1).

ولو قصد بذلك أنّ للمولى حقّاً واحداً له عرض عريض: بأن يكون حقّ المولى هو الجامع بين الأمرين بناءً على تصوير الجامع بينهما.

قلنا ـ بعد وضوح ضرورة استثناء الواقع المقطوع بخلافه لبداهة عدم استحقاق الطاعة فيه ـ: إنّ ثبوت حقّ الطاعة في الواقع ولو لم يصل ـ بشرط عدم القطع بالخلاف ـ وفي الواصل ولو كان على خلاف الواقع مرجعه إلى الاحتمال الثاني، وهو كون مصبّ حقّ الطاعة هو الحكم الواصل بمرتبة التنجيز ولو كان على خلاف الواقع مع توسيع دائرة الوصول المنجّز بحيث يشمل الوصول الاحتمالىّ.

وعلى أىّ حال، فإذا دار الأمر بين احتمالين وهما الثاني والثالث، فقد يقال: إنّ الصحيح هو الاحتمال الثالث، بمعنى: أنّ حقّ الطاعة للمولى تعلّق بحكمه الواقعىّ الواصل


(1) سيأتي في أوّل تعليق نذكره بعد هذا ما يكون تعليقاً على هذا الكلام.

263

بمرتبة من مراتب الوصول، ولا حقّ له حينما لا يوجد حكم في الواقع، وذلك قياساً لحقّ المولى بسائر حقوق الناس، فكما أنّ من الواضح في حقّ الملكيّة الذي هو حقّ عقلائىّ، وحقّ عدم الإيذاء والقتل مثلاً: أنّ من تصرّف فيما اعتقد كونه ملكاً لزيد، ثُمّ تبيّن أنّه كان مملوكاً له، ولم يكن ملك زيد، أو قتل من اعتقد زيداً، ثُمّ تبيّن أنّه شخص آخر مهدور الدم مثلاً، لم يصدر عنه ما يهدر حقّاً من حقوق زيد إطلاقاً، ولم يكن ظالماً له. فحقّ زيد يدور مدار واقع ملكه، أو واقع حياته، وليس من حقّه ترك التصرّف فيما اعتقدنا خطأً أنّه ملكه، أو ترك قتل من اعتقدنا خطأً أنّه هو، فكذلك الحال بالنسبة إلى المولى تعالى، فحقّه يدور مدار واقع حكمه بشرط الوصول بمرتبة من المراتب. أمّا إذا لم يكن حكم في الواقع، وكان الوصول خطاءً محضاً، فليس له حقّ الطاعة، وبهذا يثبت أنّ الفعل المتجرّى به ليس قبيحاً.

ولكن الواقع: أنّ الصحيح هو الاحتمال الثاني، وليس الثالث، وأنّ قياس المقام بالحقوق الاُخرى قياس مع الفارق؛ وذلك لأنّ حقّ طاعة المولى ليس بملاك غرض المولى وحاجة يحتاجها بنحو يقبل انكشاف الخلاف نظير ما بين الناس من الحقوق، بل إنّما هو بملاك احترام المولى وإجلاله وعدم التوهين بشأنه، والمعصية والتجرّي متساويان في مرتبة مخالفة الاحترام، وعليه فمصبّ حقّ الطاعة إنّما هو الحكم الواصل بمرتبة منجّزة سواء كان ثابتاً في الواقع أو لا، فالتجرّي قبيح كالمعصية(1).

 


(1) أقول لا إشكال في أنّ أمر المولى ينشأ من غرض ما، وعندئذ لا يبعد القول بأنّ العقل يحكم بأنّ للمولى حقّ تحقيق غرضه كما أنّ له حقّ الاحترام. وفي مورد المعصيّة قد خولف كلا الحقّين، وفي مورد التجرّي خولف حقّ واحد، وهو حقّ الاحترام.

وبكلمة اُخرى: أنّ العنصر الثاني وهو مجرّد الوصول ولو خطأً مصبّ لحقّ الطاعة بملاك الاحترام، والعنصر الأوّل وهو عنصر الحكم الإلزامىّ بشرط مستوى من مستويات الوصول مصبّ لحقّ الطاعة بملاك تحصيل غرض المولى.

وبتعبير آخر: أنّ الاحتمال الثاني والثالث كلّ منهما مستقلّاً وبعنوانه صحيح. وما يلزم من ذلك من أشدّيّة العاصي من المتجرّي في استحقاق العقاب لا نتحاشى عنه، ولا نراه خلاف الوجدان، وإنّما الذي يكون خلاف الوجدان هو أشدّيّة وضع العاصي من المتجرّي أمام محكمة الوجدان وذمّ العقل، ونحن لا نقول بأنّ ذمّ المولى عقابه كي يسري حكم الوجدان بعدم كون العاصي أشدّ حالاً من المتجرّي في ذلك إلى مسألة العقاب.

264

وما ذكرناه واضح بناءً على أنّ قبح المعصية ـ الثابت بنفس مولويّة المولى كما هو الحقّ، أو بقاعدة قبح الظلم كما هو مبنى القوم ـ أمر واقعىّ يدرك بالعقل العملىّ.

أمّا لو قلنا بأنّ قبحها حكم عقلائىّ مجعول من قبل العقلاء تحفّظاً على النظام الاجتماعىّ، ولا واقع لباب الحسن والقبح وراء جعل العقلاء التابع لما يرونه من مصالح ومفاسد، فالالتزام بثبوت هذا الحكم العقلائىّ قد يرد عليه ما مضى في مسألة الحرمة: من إشكال عدم المحرّكيّة، أي: إنّ هذا الإشكال لو تمّ هناك تمّ هنا أيضاً، فيقال: إنّ المتجرّي الذي يعتقد كون عمله معصية وقبيحاً عند العقلاء لو لم يردعه هذا القبح المعتقد لا يردعه قبح التجرّي المفروض جعله من قبل العقلاء.

ومن هنا ظهر ما في كلام المحقّق الإصفهانىّ (رحمه الله) حيث يرى في بحث الحرمة أنّ حرمة التجرّي لغو؛ لعدم المحرّكيّة؛ إذ من لم تردعه حرمة الفعل التي اعتقد بها خطأً لا تردعه


ولايلزم ممّا ذكرناه من فرض حقّين للمولى ـ حقّ الاحترام، وحقّ تحصيل الطاعة بملاك تحصيل الغرض ـ أن يكون العاصي أشدّ حالاً أمام ذمّ العقل ولوم الوجدان كي يقال: إنّ هذا خلاف الوجدان.

وتوضيح ذلك: أنّ لوم الوجدان أو قل ذمّ العقل لا يتبع الحقّ الواقعىّ لشخص ما، بل هو تابع لوصول الحقّ ولو خطأً، فمن قتل شخصاً باعتقاده فلاناً من الناس الذي لا يجوز قتله، ثُمّ تبيّن له أنّ قتله كان حقّاً له؛ لأنّ المقتول كان قاتلاً لأبيه، فكان من حقّه القصاص، فهذا الإنسان على الرغم من أنّه لم يخالف حقّاً واقعيّاً للمقتول يكون ملوماً لدى الوجدان حتّى بعد انكشاف الواقع؛ لأنّه حينما قتله كان يعتقد ولو خطاءً أنّه ليس من حقّه قتله، هذا ما ندّعيه بالوجدان، وليس بالإمكان إقامة برهان على ذلك.

وبناءً عليه يكون المتجرّي والعاصي متساويين أمام محكمة الوجدان على الرغم من أنّ العاصي خالف حقّين للمولى، والمتجرّي خالف حقّاً واحداً له؛ وذلك لأنّ المتجرّي حين التجرّي كان يعتقد أنّ عمله كان معصية للمولى ومخالفة لحقّ طاعة الحكم الواقعىّ له، فهو ملوم لدى الوجدان على هذا العمل لهذه النكتة حتّى بعد انكشاف الخلاف.

أمّا لو لم نقبل ملامة الوجدان لمن يخالف باعتقاده حقّ أحد بعد أن ينكشف خطأ الاعتقاد، وقلنا: إنّ الوجدان المطّلع على حقيقة الأمر لا يلوم هذا الإنسان، فلازم ذلك بناءً على ما اخترنا: من ثبوت حقّين للمولى ـ (حقّ الاحترام، وحقّ تحصيل الغرض المطلوب) ـ عدم مساواة العاصي والمتجرّي أمام محكمة الوجدان. وهذه النتيجة الواضحة البطلان قد تسرّب البطلان إليها من المقدّمة الاُولى، وهي إنكار ملامة الوجدان عند انكشاف عدم الحقّ واقعاً، لا من المقدّمة الثانية، وهي فرض تعلّق حقّ للمولى بتحصيل غرضه. وعلى تقدير عدم حكم الوجدان باللوم عند انكشاف عدم الحقّ لا يحكم الوجدان بمساواة العاصي والمتجرّي في الذمّ والملامة.

265

حرمة التجرّي، ومع ذلك التزم في المقام بقبح التجرّي على الرغم من أنّه يرجع باب الحسن والقبح إلى المجعولات العقلائيّة.

ودليله على إرجاع باب الحسن والقبح إلى المجعولات العقلائيّة، واعتبارهما من المشهورات لا من الضرورات العقليّة: أنّ الضرورات العقليّة منحصرة في ستّة اُمور: الأوّليّات: وهي التي يكفي تصوّر طرفيها مع تصوّر النسبة بينهما في الجزم بها كقولنا: الكلّ أعظم من الجزء. والفطريات: وهي الّتي قياسها معها كقولنا: الأربعة زوج، فهذا الكلام قياسه معه، وهو كون الأربعة منقسمة إلى متساويين. والمتواترات: وهي القضايا المخبر بها بأخبار كثيرة حسيّة توجب القطع كقولنا مكة موجودة. والحسيّات، والتجريبيّات، والحدسيّات، في حين أنّ حسن العدل وقبح الظلم ليسا من الأوليّات؛ لأنّ تصوّر الطرفين مع النسبة لا يكفي في الجزم ولا من الفطريّات؛ إذ ليس معها قياس يدلّ عليها، ولا من المتواترات؛ إذ ليس مصدر العلم بها إخبارات حسيّة كثيرة، ولا من المحسوسات، أو التجريبيّات، أو الحدسيّات كما هو واضح، إذن ليس الحسن والقبح من الضروريّات(1).

ويرد عليه: أنّ انحصار الضروريّات في هذه الاُمور الستّة ليس داخلاً في هذه الاُمور؛ إذ ليس هو أوّليّاً؛ لعدم كفاية تصوّر طرفيه مع تصوّر النسبة للجزم به، ولا فطريّاً؛ لعدم كون قياسه معه، ولا متواتراً؛ لعدم إخبار جماعة كثيرة به عن حسّ، ولا من المحسوسات، أو التجريبيّات أو الحدسيّات كما هو واضح. وإنّما هو حكم استقرائىّ. وهذا الاستقراء موقوف على تسليم عدم كون باب حسن العدل وقبح الظلم ـ مثلاً ـ من الضروريّات العقليّة، إذن فلا يمكن الاستدلال على عدم ضروريّة الحسن والقبح بعدم دخولها في الضروريّات الستّ؛ فإنّ هذا البرهان دورىّ(2).

 


(1) راجع نهاية الدراية ج 2 ص 8.

(2) بإمكان المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) أن يقول: إنّ ضروريّة القضيّة إمّا أن تكون بمعنى كفاية تصوّر أطرافها للتصديق بها، أو بمعنى وضوح برهانها بحيث تعتبر القضيّة قياسها معها، والحسّيّات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات كلّها راجعة إلى ما يكون قياسه معه. والقياس المتدخّل في هذه الاُمور هو ما يعتقدون به من قانون: أنّ الصدفة لا تكون أكثريّة، وبما أنّ حسن الشيء أو قبحه ليس من الاُمور التي يكفي تصوّر أطرافها للتصديق

266

وعلى أىّ حال، فالصحيح هو كون قبح مخالفة المولى ثابتاً بنفس مولويّة المولى، وكونه أمراً واقعيّاً يدركه العقل، وليس حكماً مجعولاً للعقلاء. وعليه فلا إشكال في أنّ الفعل المتجرّى به قبيح بعنوانه الثانوىّ، وهو التجرّي بالبيان الذي عرفت.

بقي الكلام فيما استدلّ به المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) على عدم قبح الفعل المتجرّى به حيث ذكر لذلك وجوهاً ثلاثة برهانيّة ووجهاً آخر وجدانيّاً، ويمكن صياغته بشكل فنّيّ، فهذه وجوه أربعة:

الوجه الأوّل: أنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال الاختياريّة، والمتجرّي لم يصدر عنه فعل اختيارىّ قابل للتوصيف بالقبح؛ فإنّ العنوان الذي يتصوّر في المقام كونه منشأً للقبح هو عنوان شرب مقطوع الحرمة مثلاً، ولكنّه لم يكن مريداً لهذا العنوان، فهذا العنوان ليس اختياريّاً له.

والجواب عن ذلك ما حقّقناه في بحث الطلب والإرادة: من أنّ اختياريّة الفعل ـ بالمعنى الذي يكون موضوعاً للأحكام العقليّة من الحسن والقبح واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك ـ ليس هو تعلّق الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد، بل هو السلطنة، بمعنى: أنّ له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهي متقوّمة بالقدرة والالتفات.

فإذا حصلت القدرة والالتفات، فقد تحقّق الاختيار، وهما حاصلان في المقام. أمّا


بها، ولا نمتلك قياساً حاضراً معه، فلا محالة نحتاج إلى برهان خارجىّ عليه.

فإن لم يكن في المقام برهان من هذا القبيل، فلا محالة نذهب إلى القول بأنّ الحسن والقبح من القضايا المشهورة لا اليقينيّة. فإن كان هذا هو واقع مقصود المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله)، لم يرد عليه الإشكال بكون حصر الضروريّة في الاُمور الستّة ليس من الاُمور الستّة. نعم، يرد عليه: منع عدم كون الحسن والقبح في كثير من الاُمور من الأوّليّات.

فصحيح أنّنا لا نقبل قانون حسن العدل وقبح الظلم؛ لرجوعهما إلى القضيّة بشرط المحمول، ولكنّا نرى أنّ حسن كثير من الاُمور وقبح كثير منها من الأوّليّات، أي: إنّه يكفي تصوّر الأطراف للجزم بالحسن والقبح وإن أنكره بعض الناس؛ لشبهة حصلت له، أو لما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) خارج الدرس: من أنّ بالإمكان ثبوتاً أن تكون في الإنسان قوّة تسمّى بالعقل العملىّ تدرك بعض الأشياء كقبح الظلم، ولكنّها بحاجة إلى إعدادات ومقدّمات لابدّ من طيّها كي توجد تلك القوّة المدركة، كما في الحواس الظاهريّة المدركة لبعض الأشياء الحاصلة بعد استكمال النطفة للإعدادات والمقدّمات.

267

الإرادة فلا دخل لها في الاختيار. نعم، لو سمّيت الإرادة اختياراً كمصطلح، لانناقش في ذلك، فلامشاحّة في الاصطلاح، ولكن المهم أنّ مناط الأحكام العقليّة ـ كالحسن والقبح، أو استحقاق المدح والذم ـ هو الاختيار المتقوّم بالقدرة والالتفات، أمّا الإرادة فهي أجنبيّة عنه على ما برهنّا عليه في بحث الطلب والإرادة.

وقد أورد المحقّق الإصفهانىّ (رحمه الله) نقضين على دخل إراديّة الفعل في الاختيار، وأجاب عنهما(1):

النقض الأوّل: أنّه لو شرب الخمر عالماً، لكن لا للشوق إلى شرب الخمر، بل بقصد التبريد مثلاً، فهنا لا إشكال في قبح فعله، وكونه معاقباً على شرب الخمر، وصدور ذلك عنه اختياراً، في حين لم يكن هو مريداً لهذا العنوان ومشتاقاً إليه.

وأجاب عن ذلك بأنّ شرب الخمر أصبح مقدّمة للتبريد، ومن اشتاق إلى شيء اشتاق بالتبع إلى مقدّمته، فهو مريد لشرب الخمر.

وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ فشوقه لم يكن متعلّقاً بشرب مقطوع الحرمة.

النقض الثاني: أنّه لو اشتاق إلى الجامع بين الحرام وغير الحرام كما لو احتاجت معدته إلى جامع المائع، فشرب الخمر عمداً لا بشوق منه وإرادة لهذا العنوان، بل بشوق منه وإرادة لشرب جامع المائع، فلا إشكال في قبح ما صدر عنه من شرب الخمر واختياريّته واستحقاقه للعقوبة عليه مع أنّ إرادته لم تتعلّق بذلك، وإنّما تعلّقت بشرب المائع. ولا يأتي على هذا النقض الجواب السابق؛ لانتفاء المقدّميّة في المقام.

وأجاب المحقّق الإصفهانىّ (رضوان الله عليه) عن ذلك بأنّه لو لم تتعلّق إرادته وشوقه بهذه الحصّة، لكان ترجيحها على حصّة اُخرى ترجيحاً بلامرجّح، وهو مستحيل، إذن هو يقصد الخصوصيّة ـ أيضاً ـ لا صرف الجامع.

وجواب المحقّق الإصفهانىّ عن النقض الأوّل في الحقيقة تصعيد لذاك النقض إلى مستوى النقض الثاني؛ إذ يثبت أنّ من قصد التبريد ـ مثلاً ـ قصد مقدّمته، ومقدّمته عبارة


(1) راجع نهاية الدراية ج 2 ص 9، 10.

268

عن الجامع بين شرب الخمر وشرب الماء، إذن فقد اشتاق إلى الجامع، واختار عملاً أحد فرديه. فإذا رجع النقض الأوّل إلى النقض الثاني، جاء جواب النقض الثاني.

وكلام المحقّق الإصفهانىّ في الجواب عن النقض الثاني إنّما يتمّ على مذهب الفلاسفة الذين طبّقوا قانون العلّة والمعلول على باب الأفعال الاختياريّة للفاعل.

ولو سلّمنا ذلك، أمكن ـ على رغم هذا ـ توجيه النقض إلى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)بفرض أنّه إنّما اختار شرب الخمر لا لشوق إلى هذه الحصّة، بل لفقدان الحصّة الاُخرى، كما لو لم يكن لديه ماء، أو لمرجّح فيها يلازم هذا العنوان، كما لو كان الخمر في إناء نظيف، والماء في إناء وسخ، فقدّم شرب الخمر على شرب الماء؛ لنظافة الإناء على الرغم من أنّه لا اشتياق له إلى شرب الخمر، بل ربّما يكرهه، إذن فالنقض الثاني يتمّ إيراده على المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ولو بشيء من التعديل، وكذلك النقض الأوّل ـ أيضاً ـ يمكن إيراده بشيء من التعديل؛ وذلك لأنّ المفروض في النقض الأوّل كان عبارة عن كون العنوان المقصود حلالاً معلولاً للحرام، فأجاب عن النقض بأنّ الحرام مقصود مقدّمة وبالتبع، والآن لنفرض العكس: بأن كان العنوان المقصود حلالاً علّة للحرام، فليس الحرام مقصوداً لا بذاته ولا بالتبع؛ إذ ليس من اشتاق إلى العلّة فقد اشتاق إلى المعلول، ومثاله: ما لو أراد الشخص إنارة الكهرباء وسلكها متّصل بيد مؤمن، فإنارتها علّة لقتله، لكن المنير لا يقصد قتل المؤمن، وإنّما يقصد إنارة الكهرباء، وهو عالم بما يترتّب عليه من قتل المؤمن، فإنّه لا إشكال في ترتّب تمام آثار القتل الاختيارىّ عليه، في حين لم يكن الشوق متعلّقاً بذلك(1).

وقد يجاب عن كلّ هذه النقوض بدعوى أنّ إرادة أحد المتلازمين تلازم إرادة المتلازم الآخر، ففي كلّ موارد النقض قد أراد الحرام؛ لأنّه أراد ما يلازمه، وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ


(1) أقول: إنّ النقض الثاني حتّى بعد تعديله يمكن الجواب عنه بما هو الحقّ عندنا وعند اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)كما ذكره في مبحث اجتماع الأمر والنهي: من أنّ حبّ الجامع يستلزم حبّ كلّ من الفردين على تقدير عدم الفرد الآخر، فهو حينما أحبّ جامع شرب المائع، ولم يكن كارهاً لشرب الخمر بدرجة تغلب هذا الحب ـ وإلّا لما كان يشرب حتّى لو لم يجد الماء ـ إذن فقد ثبت أنّه يحبّ تحقّق شرب الخمر على تقدير عدم تحقّق شرب الماء لأىّ سبب من الأسباب: من عدم وجدانه، أو وساخة الظرف، أو أىّ شيء آخر، إذن فقد صدر عنه عنوان شرب الخمر بالشوق والإرادة. نعم، النقض الأوّل بعد تعديله الذي مضى لا يرد عليه هذا الجواب.