431


موضوع الجزاء بالمعنى الذي قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، أي: ما هو موضوعه قبل التعليق، ولا فيه خلط بين المعنيين للموضوع.

نعم، هذا الكلام فيه فراغان:

الأوّل: أنّ دخل الشرط في الحكم يتصوّر على نحوين:

أحدهما: دخله فيه على نحو الشرطيّة لذات الحكم، كاشتراط وجوب التصدّق على الفقراء برزق الولد في قولنا: (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء)، وهذا ممّا لا إشكال في ضرورة تجريد موضوع المفهوم عنه. وإلّا للزم إنكار أصل مفهوم الشرط وهو خلف.

والثاني: دخله في موضوع الحكم بمعنى كونه قيداً لما تعلّق به الحكم كالفسق في الآية الكريمة؛ إذ لا شكّ أنّ التبيّن الذي اُمر به في الآية إنّما هو التبيّن عن نبأ الفاسق، فليس مجيء نبأ الفاسق يترتّب عليه وجوب التبيّن حتّى عن أنباء العدول، وإنّما يترتّب عليه وجوب التبيّن عن نبأ الفاسق، ولو أنّ أحداً أنكر المفهوم عند دخل الشرط في موضوع الحكم بهذا المعنى لم يكن هذا خلفاً لأصل الإيمان بمفهوم الشرط؛ إذ يبقى مجال لمفهوم الشرط في المورد الذي يكون الشرط شرطاً لذات الحكم، ولا يكون قيداً لمتعلّقه، كما في مثل (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء) و(إن جاءك زيد فأكرمه)، نعم يلزم من إنكار المفهوم في ذلك بحجّة دخول القيد في موضوع حكم المنطوق بهذا المعنى إنكار مفهوم الوصف واللقب؛ لأنّهما داخلان في موضوع حكم المنطوق بهذا الشكل، ولا ضير في ذلك؛ إذ ربّ من يؤمن بمفهوم الشرط ولا يؤمن بمفهوم الوصف واللقب.

ولابدّ من سدّ هذا الفراغ بدعوى أنّ العرف ـ بناءً على مذاق الإيمان بمفهوم الشرط ـ يؤمن بمفهوم الشرط حتّى فيما لو شكّل الشرط قيداً لمتعلّق الحكم مادام موضوع الحكم قبل التعليق على الشرط فارغاً عن هذا القيد. فمثلاً لو قال: (النبأ إن جاء به فاسق فتبيّنوا عنه)

432

والصحيح في المقام عدم ثبوت المفهوم للآية الشريفة. توضيح ذلك: أنّه يشترط في انعقاد المفهوم للقضيّة الشرطيّة أمران:

الأوّل: أن يكون لموضوع الحكم في المرتبة السابقة على عروض تقييد عليه من ناحية الشرط إطلاق، حتّى يكون التقييد الشرطيّ هدماً لهذا الإطلاق في المرتبة المتأخّرة وينتزع من ذلك المفهوم، فإن لم يكن له إطلاق في المرتبة السابقة لم يتصوّر تقييده بالشرط في المرتبة المتأخّرة حتّى ينتزع من ذلك المفهوم، فإنّ التقييد فرع وجود إطلاق ذاتيّ للموضوع. فإذا قيل: (إن حيّاك شخص بتحيّة ردّ عليه التحيّة) لم يكن له مفهوم يدلّ على عدم وجوب الردّ قبل الابتداء بالتحيّة؛ لأنّ الردّ في نفسه لا يعقل قبل الابتداء بالتحيّة.

 


لا يقلّ ظهوراً في المفهوم عن مثل (إن جاءك زيد فأكرمه)، رغم أنّ متعلّق التبيّن هو نبأ الفاسق، ولكنّ القيد عرف بالشرط، ولولاه فموضوع التبيّن إنّما هو طبيعيّ النبأ الذي رجع إليه الضمير.

الثاني: أنّه بعد ما نسلّم في نقطة الفراغ الأوّل أنّ قيد موضوع الجزاء لو اُستفيد من الشرط فموضوع المفهوم يجرّد عنه، ونسلّم أنّ الفسق اُخذ في الشرط، ولكن إنّما نجرّد موضوع المفهوم عنه لو لم يكن هناك دالّ آخر على هذا القيد في موضوع الجزاء بحيث يصبح موضوع الجزاء في الرتبة السابقة على الشرط مطلقاً. أمّا لو كان موضوع الجزاء مقيّداً بذلك في الرتبة السابقة على الشرط فلا معنى لاقتناص المفهوم من ناحية الشرط بانتفائه، وإنّما يدخل ذلك في مفهوم الوصف واللقب. إذن فلابدّ أن نعرف أنّ قيد الفسق في موضوع وجوب التبيّن هل هناك دالّ عليه بقطع النظر عن الشرط، أو لا؟ فالمفروض ملء هذا الفراغ باستظهار رجوع الضمير المحذوف في الجزاء إلى طبيعيّ النبأ مثلاً، فلو تمّ هذا الاستظهار تمّ المفهوم في المقام.

433

الثاني: أن لا يكون موضوع الحكم داخلاً تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ، وقد عرفت فيما مضى أنّ الموضوع الذي يكون دائماً في قبال الشرط ولا يعقل دخوله تحت دائرة الفرض الشرطيّ إنّما هو موضوع القضيّة، أمّا موضوع الحكم فقد يدخل تحت دائرة التقدير الشرطيّ وقد لا يدخل، فهنا نقول: إنّه يشترط في دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم أن لا يكون موضوع الحكم داخلاً تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ، ودليلنا على ذلك فهم العرف، ولهذا لم يتوهّم أحد دلالة قولك: (إن أخبرك زيد فلا تعتن) بمفهوم الشرط على عدم حرمة الاعتناء بإخبار عمرو، وليس هذا عدا مفهوم اللقب. وهذا بخلاف ما لو قيل: (إن كان الإخبار من زيد فلا تعتن)، والسرّ في الفرق بين المثالين هو ما ذكرناه: من الشرط الثاني، حيث إنّ الإخبار الذي هو موضوع الحكم أصبح في المثال الأوّل داخلاً تحت الفرض الشرطيّ، وفي المثال الثاني كان خارجاً عنه. ولهذا أيضاً ترى الفرق بين قولنا: (إن أكرم زيد عمراً فأكرمه)، أي: أكرم عمراً، وقولنا: (إن أكرم زيد عالماً فأكرمه)، أي: أكرم ذاك العالم، حيث إنّ دلالة الأوّل على المفهوم في غاية الجلاء والوضوح، بينما دلالة الثاني على المفهوم لا تخلو من خفاء وغموض، وليست واضحة كالأوّل. والسرّ في ذلك أنّ موضوع الحكم في المثال الأوّل ـ وهو عمرو ـ لا يحتمل دخوله تحت دائرة الفرض والتقدير؛ لكونه جزئيّاً حقيقيّاً، وموضوع الحكم في المثال الثاني ـ وهو العالم ـ كلّيّ يحتمل دخوله تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ(1).

 


(1) شهادة هذين المثالين على صحّة الشرط الثاني عرفاً غير واضحة:

أمّا المثال الأوّل: فقد يكون الفرق بين قولنا: (إن أخبرك زيد فلا تعتن)، وقولنا: (إن كان

434


الإخبار من زيد فلا تعتن) هو: أنّ الضمير المحذوف في الجزاء ـ أي: لا تعتن به ـ يعود في الثاني إلى كلمة الإخبار المذكورة صريحاً في الشرط بمدلول اسميّ، وهذا ظاهره أنّ موضوع الجزاء هو طبيعيّ الإخبار بينما الشرط هو كون الإخبار من زيد، ومن الواضح أنّ الموضوع لا ينتفي بانتفاء الشرط، فكان الكلام دالّاً بمفهومه على أنّه إن كان الإخبار من غير زيد يعتني به، أمّا في قولنا: (إن أخبرك زيد فلا تعتن) فالضمير في الجزاء يعود إلى ما هو مقتنص من الشرط وغير مصرّح به. وكما يمكن أن يقتنص من جملة (أخبرك زيد) عنوان الإخبار كذلك يمكن أن يقتنص منها عنوان إخبار زيد. وعلى الثاني يكون مفهوم الشرط سالبة بانتفاء الموضوع، ويكون الشرط الأوّل منتفياً، ومع الإجمال في مرجع الضمير ووجود احتمال كون القضيّة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع لا يتمّ المفهوم، فليس هذا شاهداً لوجود شرط ثان لاقتناص المفهوم.

وأمّا المثال الثاني: فهناك فرق بين قولنا: (إن أكرم زيد عمراً فأكرمه) وقولنا: (إن أكرم زيد عالماً فأكرمه)، وهو: أنّ الضمير في (أكرمه) في الأوّل راجع إلى عمرو، وعمرو إنسان واحد لا يتعدّد بإكرام زيد إيّاه وعدمه، ولذا يكون الظاهر من الكلام أنّ موضوع وجوب الإكرام هو عمرو، وهو لا ينتفي بانتفاء الشرط، بينما الضمير في الثاني راجع إلى عالم، والعالم ليس فرداً واحداً، بل هو متعدّد، ويمكن أن يشار إلى بعضهم بعنوان (من أكرمه زيد) وإلى البعض الآخر بعنوان (من لم يكرمه زيد)، وقد أصبح (عالم) طرفاً للنسبة الناقصة محصّصاً للنسبة التامّة الثابتة بين الإكرام وزيد، وتلك النسبة تخصّص بالقسم الأوّل لا محالة وهو من يكرمه زيد. ومن هنا يأتي احتمال أن يكون مرجع الضمير هو العالم الذي أكرمه زيد، فينتفي الموضوع بانتفاء الشرط، وعلى هذا الاحتمال يكون الشرط الأوّل للمفهوم منتفياً. لذا كان ثبوت المفهوم في الأوّل أوضح منه في الثاني، فهذا لا

435

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ موضوع الحكم في آية النبأ يوجد فيه احتمالان:

الأوّل: أن يكون موضوع الحكم هو نفس الفاسق، بأن يكون التبيّن تبيّناً عن حال الفاسق هل له غرض وداع للكذب في هذه القضيّة، أو لا؟ وهل له عداوة مع مَن نسب إليهم ما يشينهم، أو لا؟

والثاني: أن يكون موضوع الحكم هو النبأ.

أمّا بناءً على الاحتمال الأوّل، فمن الواضح عدم ثبوت المفهوم لهذه القضيّة


يكون شاهداً على وجود شرط ثان لدلالة الشرطيّة على المفهوم.

والصحيح: أنّ موضوع الجزاء إن دخل في التقدير الشرطيّ فإمّا أن يفترض وجود جزء آخر أيضاً في التقدير الشرطيّ غير موجود في موضوع الجزاء، أو يفترض أنّ ما هو داخل في التقدير الشرطيّ هو نحو خاصّ من وجود موضوع الجزاء لا وجوده على الإطلاق، أو لا يفترض شيء من هذا القبيل. فعلى الثاني يكون انتفاء الشرط مساوقاً لانتفاء موضوع الجزاء، فينتفي المفهوم لانتفاء الشرط الأوّل. وعلى الأوّل لا يكون انتفاء الشرط مساوقاً لانتفاء الجزاء، ولا نكتة في كون مجرّد دخول موضوع الجزاء في التقدير سبباً لانتفاء المفهوم بلحاظ الجزء الآخر، أو القيد المأخوذ في التقدير الشرطيّ والذي بانتفائه لا ينتفي موضوع الجزاء.

والحاصل: أنّه لا مبرّر لافتراض شرط ثان لاقتناص مفهوم الشرط، وهو عدم كون موضوع الجزاء داخلاً في التقدير الشرطيّ، وإنّما الصحيح أنّه إن دخل في التقدير الشرطيّ، وكان انتفاء الشرط بانتفائه، فهذا يعني السالبة بانتفاء الموضوع. أمّا لو انتفى الشرط بغير انتفائه فالمفهوم ثابت لا محالة.

ولعلّ هذا هو السرّ فيما رأيته في تقرير بحث اُستاذنا الشهيد في المقام فيما لم أحضره من الدورة الأخيرة: من أنّه لم يتعرّض أصلاً لشرطيّة عدم كون موضوع الجزاء داخلاً في التقدير الشرطيّ.

436

لانتفاء الشرط الأوّل؛ إذ موضوع الحكم ـ وهو الفاسق ـ ليس له في الرتبة السابقة على الشرط إطلاق يشمل فرض العدالة، ويكفي في سقوط دلالة الآية على المفهوم أن يكون هذا الاحتمال وارداً ولو بشكل متساو مع الاحتمال الثاني، بأن تفرض الآية مجملة ومردّدة بين الاحتمالين.

وأمّا بناءً على الاحتمال الثاني، وهو أن يكون التبيّن مضافاً إلى حال نبأ الفاسق لا إلى حال نفس الفاسق، فعندئذ نقول: إنّ في الآية الشريفة كلمتين تدلاّن على عنوان النبأ، أحدهما بنحو بارز، وهي كلمة (النبأ) الواردة في الآية، والاُخرى بنحو مستتر، وهي مادّة (المجيء) في قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ﴾، فإنّ المجيء بالنبأ معناه الإنباء بالنبأ، والفرق بينه وبين النبأ هو الفرق بين الإيجاد والوجود، فمرجع التبيّن يجب أن يكون أحد هذين الأمرين.

فإن فرض مرجع التبيّن هو المجيء، فالشرط الثاني مختلّ؛ لأنّ المجيء اُخذ في دائرة الفرض والتقدير، ولذا ترى أنّه لا يحتمل أحد مفهوم الشرط في قولنا: (إن أنبأك زيد فتبيّن عن ذلك)(1).


(1) قد مضى منّا عدم تماميّة الشرط الثاني من أساسه. وهنا نقول: إنّ التبيّن إذا رجع إلى معنى النبأ المقتنص من ﴿جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ أو من (أنبأك زيد)، فكما يحتمل رجوعه إلى طبيعيّ النبأ كذلك يحتمل رجوعه إلى نبأ فاسق أو نبأ زيد، فإنّه كما يمكن اقتناص مفهوم طبيعيّ النبأ من ﴿جَاءَكُمْ﴾ أو (أنبأك) كذلك يمكن اقتناص حصّة من النبأ من ﴿جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ أو (أنبأك زيد)، وهي نبأ الفاسق أو نبأ زيد، وهذا الاحتمال الثاني يبطل المفهوم؛ إذ عليه يكون موضوع الجزاء هو نبأ فاسق أو نبأ زيد، وهو ينتفي بانتفاء الشرط، فيكون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع.

لا يقال: إنّ النبأ في قولنا: (إن أنبأك زيد) مصرّح به وليس مقتنصاً. فإنّه يقال: إنّ المعنى المصدريّ مقتنص من الفعل، ولا يمكن رجوع الضمير إلى الفعل من دون تجريده عن معنى الهيئة.

437

وإن فرض مرجع التبيّن هو النبأ قلنا:

أوّلاً: إنّه لا يبعد اختلال الشرط الثاني أيضاً وإن لم نجزم به، فإنّنا قلنا فيما سبق: إنّ تمييز موضوع القضيّة عن الشرط وهو الداخل تحت الفرض والتقدير الشرطيّ يكون بيد العرف. ولا يبعد أن يقال: إنّه بحسب نظر العرف يكون تمام الكلمات في قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ﴾داخلة تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ ما عدا كلمة (الفاسق). ويشهد لذلك ما تراه: من أنّه لا يتفاوت أبداً مفاد الكلام بتقديم كلمة (الفاسق) عن أداة الشرط أو تأخيره، فلو قلنا: (الفاسق إن جاءكم بنبأ) لم يكن مفاده مختلفاً عن قولنا: (إن جاءكم فاسق بنبأ)، ولا إشكال في قولنا: (الفاسق إن جاءكم بنبأ) في أنّ الفاسق خارج بمقتضى الفهم العرفيّ عن دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ، وأنّ باقي الكلمات كلّها داخلة تحت دائرة الفرض.

ولو لم نجزم بما قلناه كفى في إبطال المفهوم احتمال أنّ النبأ في الآية داخل تحت دائرة الفرض، وعدم قيام قرينة ـ ولو من ناحية الارتكاز العرفيّ ـ على خروجه عن تلك الدائرة.

وثانياً: إنّ الشرط الأوّل أيضاً مختلّ في المقام؛ إذ لو كان التبيّن راجعاً إلى كلمة (النبأ) فظاهر الكلام أنّ موضوع الجزاء هو نبأ الفاسق لا طبيعيّ النبأ، فإنّ كلمة (النبأ) وإن كانت بنفسها تدلّ على طبيعيّ النبأ، ولكن بتعدّد الدالّ والمدلول تدلّ على نبأ الفاسق(1). فنفس الكلمة تدلّ على طبيعيّ النبأ، والباء وهيئة الكلام تدلّ


(1) والأولى أن يقال: إنّ مرجع الضمير يصبح مجملاً مردّداً بين طبيعيّ النبأ ونبأ الفاسق، حيث إنّ كلمة (النبأ) دلّت على طبيعيّ النبأ، وبتعدّد الدال والمدلول اُريد نبأ الفاسق، فلا نعلم أنّ الضمير رجع إلى هذا أو ذاك، والإجمال كاف في عدم تماميّة المفهوم.

438

على قيد الفسق؛ وذلك لأنّ النبأ جعل حدّاً ومحصّصاً للنسبة التامّة في قوله ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾، فالفاسق قد يجيء بالنبأ، وقد يجيء بالفاكهة، وقد يجيء بشيء آخر، فكلمة (النبأ) حصّصت هذه النسبة التامّة بواسطة النسبة الناقصة وصارت حدّاً لها. ومن المعلوم أنّ النبأ الذي يقع حدّاً لنسبة المجيء إلى الفاسق غير النبأ الذي يقع حدّاً لنسبة المجيء إلى العادل، وهذا بخلاف الفاكهة ـ مثلاً ـ في قولنا: (إن جاءكم فاسق بفاكهة فلا تأكلوها)؛ فإنّ الفاكهة لا تتعدّد بكون الجائي بها الفاسق أو العادل، ولكن النبأ يتعدّد بذلك. فحال النبأ حال الكتاب، ولا يتوهّم أحد أنّ قوله: (إن ألّف زيد كتاباً فاقرأه) يدلّ بمفهوم الشرط على أنّه إن ألّف عمرو كتاباً لم تجب قرأته، فإنّ الكتاب يتحصّص، ويكون الكتاب الذي ألّفه زيد غير الكتاب الذي ألّفه عمرو. وهذه قاعدة متّبعة في تمام ما يكون من هذا القبيل، فما يتحصّص لا يكون دالّاً على المفهوم، وما لا يتحصّص يدلّ على المفهوم ما لم يختلّ شرط آخر للمفهوم.

وإنّما لم نقل ـ على تقدير رجوع التبيّن إلى المجيء ـ بكون موضوع الجزاء هو الحصّة ـ أعني: نبأ الفاسق ـ لأنّ المجيء ليس طرفاً للنسبة الناقصة وحدّاً، كما هو الحال في كلمة النبأ، وإنّما هو طرف للنسبة التامّة، والنسبة التامّة تقتضي لحاظ كلّ من طرفيها مستقلاًّ، فالمجيء يدلّ على طبيعيّ المجيء.

هذا كلّه بناءً على أن يكون (النبأ) في الآية الكريمة بمعنى الإخبار، ولكن من القريب عندي ـ وإن كنت لا أجزم به ـ أن يكون الظاهر من (النبأ) في قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ﴾ هو المنبأ، بقرينة جعله متعلّقاً لـ ﴿جَاءَكُمْ﴾ الذي هو بمعنى أنبأكم، فكأنّه قال: إن جاءكم فاسق بمنبأ ـ أي: بقصّة ـ كما يقول: أخبرته بخبر، أي: بمطلب مخبر به، وإلّا لكان شبه التكرار، ومن المعلوم أنّ القصّة لا تتعدّد بكون المخبر بها شخصاً فاسقاً أو عادلاً.

439

فإن تمّ هذا الكلام كانت العمدة في الإشكال في المقام هي الإشكال من ناحية الشرط الثاني.

بقي في المقام التعرّض لإشكال آخر على الاستدلال بمفهوم الآية أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) في تعليقه على الكفاية، وأجاب عليه:

وحاصل الإشكال هو: أنّ موضوع وجوب التبيّن لو كان طبيعيّ النبأ لا نبأ الفاسق، والوجوب المتعلّق بالطبيعيّ يسري لا محالة إلى تمام أفراده، لزم من ذلك أنّه حينما يخبر الفاسق عن نبأ يجب التبيّن حتّى عن أخبار العدول، وهذا خلاف الوجدان، فيكون هذا برهاناً على أنّ موضوع وجوب التبيّن ليس هو طبيعيّ النبأ، بل الحصّة الخاصّة منه وهي نبأ الفاسق، فبانتفاء الشرط ينتفي موضوع الحكم، ويكون المفهوم من السالبة بانتفاء الموضوع. هذا حاصل ما ذكره مع أدنى تغيير.

وأجاب(قدس سره) على ذلك بأنّ المقصود من كون موضوع وجوب التبيّن طبيعيّ النبأ ليس هو الطبيعيّ الملحوظ بنحو الوجود الساري، بل المراد به ذات الطبيعيّ بلا ملاحظة سريانه إلى تمام الأفراد، ولا مانع من أنّه يكون موضوع الحكم في مرتبة الموضوعيّة مطلقاً بهذا المعنى بلا قيد مجيئه من الفاسق أو من العادل، ثُمّ يتقيّد في المرتبة المتأخّرة عن ذلك من ناحية الشرط، ويتحصّص إلى حصّة مضافة إلى الفاسق، وحصّة مضافة إلى العادل، وفائدة الإطلاق في المرتبة السابقة هي انتزاع المفهوم؛ إذ لولا فرض إطلاقه في المرتبة السابقة، وتقييده في المرتبة المتأخّرة لما أمكن انتزاع المفهوم في المقام. هذا خلاصة ما أفاده في مقام الجواب مع أدنى تغيير أيضاً.

والتحقيق: أنّه لا محصّل لهذا الجواب، ولا لذاك الإشكال:

أمّا الجواب فيرد عليه: أنّه إن اُريد بذلك التفصيل بين الإطلاق الملحوظ بنحو الوجود الساري والإطلاق بنحو صرف الوجود بدعوى: أنّ الأوّل يوجب

440

السريان، والثاني لا يوجب السريان، وإطلاق النبأ في المقام في مرتبة موضوعيّته من قبيل الثاني، وباصطلاحنا الماضي في بحث المطلق والمقيّد اُريد التفصيل بين الإطلاق الذاتيّ والإطلاق اللحاظيّ، فالإطلاق الذاتيّ لا يقتضي السريان، والإطلاق اللحاظيّ يقتضي السريان، ففيه ما حقّقناه في ذاك البحث من اقتضاء الإطلاق الذاتيّ أيضاً للسريان.

وإن اُريد بذلك بيان عدم السريان من ناحية التقييد بالشرط في المرتبة المتأخّرة، وأنّ هذا الإطلاق إطلاق مرتبتي لا إطلاق واقعيّ(1)؛ إذ النبأ وإن كان في المرتبة السابقة مطلقاً لكنّه حصّص في المرتبة المتأخّرة بالتقييد بالشرط إلى حصّتين. ففيه: أنّ مصبّ التقييد بالشرط هو الحكم لا الموضوع، أي: أنّ الذي يفحص عنه لا زال هو طبيعيّ النبأ إلّا أنّ وجوب الفحص مشروط بإتيان الفاسق بنبأ، فيعود الإشكال، وهو: أنّه يلزم من ذلك أنّ ورود نبأ من قِبل الفاسق يوجب التبيّن عن كلّ نبأ حتّى أنباء العدول، وهذا غير محتمل، فلابدّ أن يفترض أنّ موضوع وجوب التبيّن هو نبأ الفاسق، ومعه يكون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا الإشكال فجوابه يكون بانحلال القضيّة، وبما أنّ هذه الآية في نفسها ليس لها مفهوم بحسب الواقع فمن المستحسن أن ننقل هذه المغالطة إلى مثال آخر كي يتّضح الجواب عنها، فلنفرض أنّ الآية كانت هكذا: (النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا)، ومعناه أنّ طبيعيّ النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا عنه، فيقال: إنّه يلزم من ذلك وجوب التبيّن عن نبأ العادل أيضاً بواسطة ثبوت نبأ الفاسق، وهذه مغالطة


(1) الظاهر أنّ هذا هو مقصود المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) لا التمسّك لنفي سريان الحكم بعدم لحاظ السريان. وإنّما ذكر عدم لحاظ السريان في الرتبة السابقة على الشرط تمهيداً لبيان تقيّد الإطلاق بالشرط؛ إذ لو لوحظ السريان في مرتبة الموضوع لم يعقل التقييد بعد ذلك.

441

نشأت من تخيّل سريان الحكم بذاته إلى تمام الأفراد، مع أنّه إنّما يسري الحكم إلى تمام الأفراد لا بما هو، بل بوصف كونه معلّقاً. وبتعبير آخر: إنّ أصل القضيّة بما هي قضيّة تنحلّ لا أنّ جزءاً منها ينحلّ. وبكلمة اُخرى: إنّ الانحلال ثابت للمعلّق، والمعلّق عليه، والتعليق معاً، فقولنا: (النبأ إن جاءكم به فاسق فتبيّنوا عنه) يكون عرفاً في قوّة أن يقال: هذا النبأ إن جاءكم به فاسق فتبيّنوا عنه، وذاك النبأ إن جاءكم به فاسق فتبيّنوا عنه، وذلك النبأ إن جاءكم به فاسق فتبيّنوا عنه. وهكذا تنحلّ هذه القضيّة الواحدة إلى قضايا متعدّدة كلّ واحدة منها مشتملة على المعلّق، والمعلّق عليه، والتعليق، ولولا هذا لسرى هذا الإشكال إلى تمام موارد المفهوم؛ إذ يأتي تقريبه في كلّ قضيّة شرطيّة ذات مفهوم(1).

 


(1) بشرط أن يكون الموضوع الذي يبحث عن تحصّصه وعدمه كلّيّاً، كما في المقام، لا جزئيّاً حقيقيّاً، فلا مجال لهذا الإشكال حينما يكون الموضوع جزئيّاً حقيقيّاً، كما في (إن جاءك زيد فأكرمه)، وبشرط أن يكون موضوع الجزاء عائداً إلى نفس ذاك الموضوع الموجود في الشرط، فلا مجال لهذا الإشكال في مثل (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء).

أقول: ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من انحلال الجزاء بما هو معلّق أو انحلال كلّ القضيّة صحيح، إلّا أنّ هذا لا علاقة له بالإشكال الذي طرح في المقام، فبإمكان صاحب الإشكال أن يقول: إنّ هناك انحلالين: الأوّل: انحلال لجملة الجزاء بلحاظ تعليقها على الشرط، أي: أنّ كلّ فرد من أفراد مجيء فاسق بنبأ يترتّب عليه الجزاء وهو قوله: (تبيّنوا)، والثاني: انحلال الحكم في الجزاء بانحلال موضوعه، فمثلاً لو قال: (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء)، فرزق كلّ واحد من الولد الأوّل، والثاني، والثالث ... يترتّب عليه وجوب التصدّق على الفقراء، وهو الانحلال الأوّل، ثُمّ وجوب التصدّق المرتّب على أيّ واحد من أفراد

442


الولد ينحلّ بعدد الفقراء، وهو الانحلال الثاني، والإشكال لا علاقة له بالانحلال الأوّل، وإنّما ينبع من الانحلال الثاني، فيقال: إنّ المعلّق على كلّ فرد من أفراد مجيء الفاسق بنبأ هل هو التبيّن عن كلّ خبر، أو هو التبيّن عن خبر الفاسق؟ فعلى الأوّل يلزم التبيّن عن خبر العادل أيضاً بسبب مجيء الفاسق بنبأ، وهو غير محتمل، وعلى الثاني يكون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع.

والصحيح في الجواب أن يقال: إنّه إذا كان موضوع الجزاء ضميراً يرجع إلى موضوع في جملة الشرط، أو ما بحكم الضمير من قبيل لام العهد ونحوه، فمقتضى نظام اللغة أن ينطبق المرجع وضميره على فرد واحد في غير موارد الاستخدام، فلو قال: (إن جاءك رجل فأكرمه)، لا يصحّ أن يقال: إنّ هذا يعني إن جاءك رجل فأكرم رجلاً، أي: إن جائني رجل جاز لي الاكتفاء بإكرام رجل آخر. ولو قال: (العالم إن صلّى صلاة الليل فأكرمه) لا يصحّ أن يقال: إنّ الواجب عند ما يصلّي عالم واحد صلاة الليل هو إكرام كلّ العلماء حتّى غير المصلّين صلاة الليل بحجّة أنّ الضمير رجع إلى العالم، والعالم ينطبق على كلّ فرد من أفراد العلماء. وعليه ففي المقام حينما رجع ﴿تَبَيَّنُوا﴾ إلى النبأ المذكور في الشرط بقوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ﴾فبمقتضى نظام اللغة يجب أن يكون ما يتبيّن عنه متّحداً مع ما يجيء به الفاسق. وعليه فالشرط في المقام ليس مقيّداً فقط للحكم في الجزاء وهو الوجوب، بل مقيّد أيضاً لموضوعه، أي: متعلّق المتعلّق، فكما أنّ الوجوب مشروط بمجيء الفاسق كذلك النبأ الذي يتبيّن عنه إنّما هو نبأ الفاسق.

والشرط إذا انتفى فتارةً لا ينتفي بذلك موضوع الجزاء، أعني: متعلّق المتعلّق كما في (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء). وهنا لا إشكال في ثبوت المفهوم. واُخرى ينتفي به الموضوع الثابت قبل التعليق على الشرط كما في (إن رزقت ولداً فاختنه)، فإنّ الولد

443


موضوع للختان سواء جيء بأداة الشرط، أو قيل اختن الولد. وهنا لا إشكال في عدم المفهوم. وثالثة ينتفي به قيد الموضوع الذي لم يكن قيداً له لولا الشرط، وإنّما صار قيداً بالتقدير الشرطيّ بإضافة النكتة التي بيّنّاها، وهي: أنّ نظام اللغة يقتضي انطباق المرجع والضمير على مصداق واحد. فهنا هل يكون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع؛ لأنّ قيد الموضوع قد انتفى على أيّ حال بانتفائه؟ أو يتمّ المفهوم؛ لأنّ الموضوع لولا الشرط لم يكن مقيّداً بهذا القيد؟ الظاهر عرفاً ـ بناءً على مذاق الإيمان بمفهوم الشرط ـ هو الثاني، فلا إشكال في مثل قوله: (النبأ إن جاء به الفاسق وجب التبيّن عنه) في دلالة الكلام على المفهوم رغم أنّ الفسق قيد في موضوع وجوب التبيّن، ولكنّه قيد فهم بالشرط بمعونة تلك النكتة، وقبل الشرط ليس قيداً، لوضوح أنّ الضمير رجع إلى طبيعيّ النبأ.

ولعلّ هذا هو مقصود المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) حيث يقول: إنّ النبأ في مرتبة الموضوع مطلق، فيتمّ المفهوم، وفي مرتبة الشرط مقيّد، فلا يلزم وجوب التبيّن عن نبأ العادل عند وصول نبأ الفاسق.

ولعلّ هذا أيضاً هو مقصود المحقّق العراقيّ(رحمه الله) حيث يقول: إنّ موضوع المفهوم يجب أن يجرّد عن القيد المستفاد بالشرط.

وخلاصة الكلام في الآية المباركة: أنّه إذا كان التبيّن راجعاً إلى حال الفاسق فلا مفهوم لها؛ لانتفاء الموضوع بانتفاء مجيء الفاسق بنبأ.

وإذا كان راجعاً إلى ما يقتنص من كلمة ﴿جَاءَكُمْ﴾ أي: أنبأكم، فلا مفهوم لها؛ لاحتمال رجوعه إلى نبأ الفاسق، وهو ينتفي بانتفاء الشرط.

وإذا كان راجعاً إلى النبأ، وفسّرناه بمعنى الإخبار، فلا مفهوم لها؛ لأنّ النبأ يتحصّص بطرفيّته للنسبة الناقصة، فيحتمل رجوع الجزاء إلى نبأ الفاسق.

444

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل، وقد عرفت عدم ثبوت المقتضي في الآية الشريفة للدلالة على حجّيّة خبر الواحد.

 

المانع عن دلالة المفهوم:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو في بيان المانع بعد فرض تماميّة المقتضي للمفهوم ـ: فالمانع إمّا داخليّ يهدم الظهور، وإمّا خارجيّ يهدم الحجّيّة:

أمّا المانع الداخليّ، فهو عموم التعليل في الآية الشريفة، حيث إنّ خوف الإصابة بالجهالة يتحقّق في كلّ أمارة غير علميّة لا في خصوص خبر الفاسق، فهذا يمنع عن دلالة الآية على حجّيّة خبر العادل.

وقد اُجيب على ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ المفهوم أخصّ من عموم التعليل؛ لاختصاصه بخبر العادل غير العلميّ، فيخصّص به عموم التعليل الدالّ على عدم حجّيّة كلّ أمارة غير علميّة.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ عموم التعليل فيها مقدّم على مفهومها، لا لما ذكره السيّد الاُستاذ: من أنّ المفهوم قوامه بالإطلاق، فيقدّم عموم التعليل عليه لتقدّم العموم على الإطلاق؛ فإنّ هذا الكلام غريب، ومنشأ الاشتباه ما وقع في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره): من


وإذا كان راجعاً إلى النبأ بمعنى المخبر به والمنبأ عنه والقصّة، كانت الآية دالّة على المفهوم؛ لأنّ الشرط الثاني الذي أضافه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) غير مقبول.

فلا يتمّ المفهوم إذن للآية الكريمة إلّا إذا جزمنا بظهور الآية في المعنى الأخير.

445

التعبير بعموم التعليل، وإلّا فليس التعليل في الحقيقة عامّاً بمعنى العموم الوضعيّ،وإنّما يدلّ قوله: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة ...﴾ على عدم الفرق بين أمارة غير علميّة وأمارة غير علميّة اُخرى في عدم الحجّيّة لنكتة واحدة بالإطلاق، ولا توجد في الآية الشريفة أيّ أداة من أدوات العموم.

وإنّما نقول بتقديم عموم التعليل بسبب أنّ نكتة التعليل توجب في نظر العرف الحكومة على الجملة المعلّلة، وتوسّع حدّ وجوب التبيّن، وأنّ هذه النكتة في نظرهم تقدّم على نكتة الأخصّيّة الموجبة للتقديم على العامّ، فكأنّ العلّة كما أنّها في عالم الثبوت تحدّد المعلول، أي: تشخّص حدوده، كذلك في عالم الإثبات ـ بحسب نظر العرف ـ تحدّد المعلول، ولو كان فيه مقتض لمفهوم أخصّ من عموم العلّة فكما أنّ الأخصّيّة توجب قرينيّة الخاصّ على العامّ كذلك التعليل يوجب قرينيّة جملة العلّة على جملة المعلول، والثانية مقدّمة عرفاً على الاُولى.

ولو تنزّلنا عن تقديم نكتة التعليل على نكتة الأخصّيّة، وفرضنا التساوي كفى ذلك في سقوط المفهوم ولو بالتعارض مع عموم التعليل وتساقطهما.

وثانياً: أنّ الخاصّ إنّما يتقدّم على نفس العامّ، أي: على الكلام الذي يكون متصدّياً لإثبات الحكم على تمام الأفراد في عرض واحد لا على ما يكون ابتداءً في مقام بيان نفس العموم، فلو فرض أنّه ذكر في كلام مستقلّ عدم حجّيّة كلّ أمارة غير علميّة، كان مفهوم آية النبأ مقدّماً عليه بالأخصّيّة. ولكن ما نحن فيه ليس كذلك، فإنّ آية النبأ تعرّضت أوّلاً لعدم حجّيّة خبر الفاسق ثُمّ علّلت ذلك بتعليل عامّ، والتعليل العامّ يكون ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ تعميماً للحكم المعلّل، ومن الواضح أنّ ما يكون بصدد بيان نفس التعميم يكون معارضاً لما هو بصدد بيان

446

التخصيص، لا أنّ الثاني يقدّم عليه(1).

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) ومدرسته: من أنّ التعليل يدلّ على عدم حجّيّة الأمارة غير العلميّة، والمفهوم يدلّ على أنّ خبر العادل علم، حيث إنّ دليل الحجّيّة عندهم يدلّ على جعل العلم والطريقيّة، فالمفهوم يكون حاكماً على عموم التعليل.

وأورد المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) على ذلك ـ بعد تسليمه لأصل الحكومة ـ بأنّه لا يتمّ المفهوم؛ لاستلزامه الدور، فإنّ تماميّة المفهوم تتوقّف على عدم تماميّة عموم التعليل وشموله لخبر العدل، وعدم تماميّة العموم يتوقّف على حكومة المفهوم على العموم المتوقّفة على تماميّة المفهوم.

والتحقيق: عدم ورود هذا الإشكال على المحقّق النائينيّ والسيّد الاُستاذ بناءً على مبناهما في الحكومة: من أنّها لا ترجع في روحها إلى التخصيص بعد التعارض، وإنّما هي أمر في قبال التخصيص، ولا تعارض أصلاً بين الدليلين،


(1) ويمكن الجواب أيضاً بعدم أخصّيّة المفهوم بناءً على اشتماله على السالبة بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول.

كما يمكن الجواب أيضاً بأنّ المفهوم بنفسه عبارة عن إطلاق المنطوق، ولا مبرّر للتعامل معه في قِبال ما هو أعمّ منه تعامل الخاصّ في قبال العامّ، وإنّما تعقد النسبة بين المنطوق والمعارض، فترى أنّ التعارض إنّما هو بين إطلاق العلّة وإطلاق المنطوق، فهو كالتعارض بالعموم من وجه.

وهذا الجواب إنّما يتمّ بناءً على بعض المباني في نكتة تقديم الخاصّ على العامّ كنكتة الأقوائيّة، أو نكتة أنّ تقديم العامّ على الخاصّ يوجب لغويّة الخاصّ دون العكس. أمّا بناءً على تقديم الخاصّ على العامّ بنكتة أنّ نفس أخصّيّة أحد الحكمين توجب قرينيّته للحكم الآخر، فهذا الجواب لا يتمّ، فإنّ المفهوم على أيّ حال خاصّ ويكون قرينة على العامّ.

447

لا أنّ هناك تعارضاً بينهما وقدّم أحد المتعارضين على الآخر بنكتة مّا.

وتوضيح دفع الإشكال بناءً على ذلك هو: أنّه بعد تسليم أصل حكومة المفهوم لا تعارض بين المفهوم وعموم التعليل، كي يفترض أنّ تماميّة المفهوم متوقّفة على عدم تماميّة العموم، فمدلول أحدهما هو: أنّه إن لم يحصل العلم بصدق الأمارة لا يجوز اتّباعها، ومدلول الآخر: أنّ العلم حاصل عند إخبار العادل، ولا تنافي بين المدلولين كي يتمّ التعارض بين الدلالتين. وإذا لم يكن تعارض بينهما، فلا مبرّر لسقوط الدلالة المفهوميّة بواسطة دلالة التعليل على العموم، فإنّ السقوط فرع التنافي والتعارض الموجب لانتفاء الدلالة عند الاتّصال، وانتفاء حجّيّتها عند الانفصال، أمّا مع عدم التنافي والتعارض فلا وجه للسقوط(1).

والتحقيق: التكلّم في أصل الحكومة التي سكت عنها المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)وتكلّم مبنيّاً عليها، فإنّ هذه الحكومة غير صحيحة:

أمّا أوّلاً: فلما مضى في إبطال ما ذهبت إليه مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره)من حكومة أدلّة حجّيّة خبر الواحد على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ: من أنّ جعل العلم والطريقيّة إنّما يكون حاكماً على الأدلّة المثبتة لحكم مّا على موضوع عدم العلم، بينما الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تنفي ابتداءً ـ على حدّ تعبيرهم ـ العلم والطريقيّة، فيقع التعارض لا محالة بينها وبين ما يثبت العلم والطريقيّة. وكذلك


(1) ولو تكلّمنا على مبنى إرجاع الحكومة بروحها إلى التخصيص قلنا: إنّ فرض توقّف المفهوم على عدم تماميّة العمومالمتوقّف على الحكومة المتوقّفة على المفهوم، يعني الاعتراف بوقوع الدور، وهو خطأ. والصحيح: أنّه يقع التزاحم في التأثير بين مقتضى المفهوم ومقتضى العموم، ومقتضى المفهوم يتقدّم في التأثير على مقتضى العموم بنكتة لحن الحكومة.

448

نقول فيما نحن فيه: إنّ عموم التعليل ينفي جعل العلم والطريقيّة والمفهوم يثبته، فهما في عرض واحد ومتعارضان، ولا وجه لحكومة المفهوم على عموم التعليل.

وأمّا ثانياً: فلأنّ الاجتناب عن الإصابة بالجهالة علّل في الآية الشريفة باحتمال الوقوع في الندم، فالعلّة الأصليّة تصبح هي احتمال الوقوع في الندم. والمقصود بالندم إمّا هو الندم الحاصل بعد تبيّن مخالفة تلك الأمارة للواقع على أساس ما فات من مصالح الواقع، أو الندم على أساس تنجّز الواقع مولويّاً من باب عدم حجّيّة تلك الأمارة، ومخالفة الواقع بلا عذر شرعيّ:

فإن كان المقصود هو الأوّل فلا وجه للحكومة المدّعاة في المقام، ولا رافع لاحتمال الندم، فلنفرض أنّ احتمال الجهالة والخطأ ارتفع بجعل العلم والطريقيّة، واحتمال الخطأ مع احتمال الندم متلازمان؛ لأنّ الندم لازم تكوينيّ لانكشاف الخطأ، ولكن نفي احتمال شيء تشريعاً لا يعدّ نفياً تشريعيّاً لاحتمال ما يلازمه تكويناً، ولم يكن الندم أثراً شرعيّاً لنقيض الأمارة كي يرفع بحجّيّة الأمارة، فقد يفرض أحد الاحتمالين المتلازمين منفيّاً بجعل العلم والطريقيّة، لكن الاحتمال الآخر لا مبرّر لافتراض عدمه؛ إذ جعل العلم والطريقيّة إنّما ثبت في مقابل احتمال أحد الأمرين دون الأمر الآخر(1).


(1) هذا الكلام يرجع بروحه إلى إنكار حجّيّة مثبتات الأمارة بناءً على مبنى كون الحجّيّة عبارة عن جعل العلم والطريقيّة.

ولكن بالإمكان أن يقال: إنّه إذا فهم من دليل حجّيّة الأمارة أنّه إنّما جعلت علماً وطريقاً بما لها من كاشفيّة تكوينيّة، وكانت كاشفيّتها عن الشيء، وعن ملازمه على حدّ سواء، إذن فجعل العلم والطريقيّة يتمّ بلحاظ كلا الأمرين المتلازمين، فخبر العادل كما هو كاشف عمّا أخبر به كذلك هو كاشف عن أنّه سوف لن يتحقّق الندم، فنكون تعبّداً عالمين بالمخبر به وبعدم الندم، ويكون هذا حاكم على عموم التعليل بحسب الفرض.

449

وإن كان المقصود هو الثاني فالمفهوم يصبح وارداً على عموم التعليل لا حاكماً عليه؛ إذ بحجّيّة خبر العادل ينتفي احتمال الندم لأجل العقاب تكويناً لا تعبّداً، ولا يتمّ جواب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) عن الإشكال بالحكومة، ولا يتمّ أيضاً أصل الإشكال، فإنّ التعليل على هذا ليس تعليلاً لعدم جعل الحجّيّة لخبر الفاسق؛ إذ الوقوع في الندم من ناحية العقاب يكون في طول عدم جعل الحجّيّة ومعلولاً له، فلا معنى لتعليل عدم جعل الحجّيّة بذلك، فلا يدلّ عندئذ على تعميم عدم جعل الحجّيّة لكلّ أمارة غير علميّة؛ لأنّه ليس علّة له، وإنّما هو علّة للأمر الإرشاديّ إلى ما يستقلّ به العقل: من لزوم التمسّك بعروة اليقين وكون رأس الخيط في العمل هو العلم، ويكون الأمر بالتبيّن أمراً إرشاديّاً.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)في الكفاية من أنّ الإشكال في المفهوم من ناحية عموم العلّة يبتني على كون الجهالة بمعنى الجهالة النظريّة والعقليّة، أي: عدم العلم، ولا يبعد أن تكون هنا بمعنى الجهالة العمليّة، وهي ما يعبّر عنها بالسفاهة وما لا ينبغي صدوره من العقلاء، والتعليل على هذا لا يشمل خبر العادل.

وأورد على ذلك المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) بأنّ هذا المعنى للجهالة يشمل العمل بمطلق غير الحجّة، فإنّ العمل السفهيّ في أحكام المولى إنّما هو عبارة عن العمل بغير ما جعله المولى حجّة لا خصوص العمل بخبر الفاسق، وهذا شامل للعمل بخبر العادل غير العلميّ إلّا إذا ثبتت حجّيّته. فلابدّ في مقام إخراج العمل به عن هذه الكبرى من إثبات حجّيّته، فإن فرض إثبات حجّيّته قبل الآية لا بالآية الكريمة، فهذا خلف ما هو المفروض فعلاً من إثبات حجّيّته بالآية، وإن فرض عدم ثبوت حجّيّته قبل الآية إذن عموم التعليل يشمل خبر العادل ولا يبقى مجال لدلالة الآية على حجّيّته.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ الجهالة لو فسّرت بمعنى السفاهة والعمل غير العقلائيّ فهي لا تشمل

450

العمل بخبر العادل؛ لأنّ العقلاء من طبعهم وسيرتهم العمل بخبر العادل، وعدم حجّيّته شرعاً لا يجعل العمل به غير عقلائيّ، وإنّما يجعله خلاف العقل، وفرق بين كون شيء ما غير عقلائيّ وسفهيّاً، وكونه غير عقليّ، والمعصية الحقيقيّة للمولى تعالى لا تعدّ دائماً سفهيّة عند العقلاء فضلاً عن المعصية في نطاق الحكم الطريقيّ.

وثانياً: لو سلّمنا كون السفاهة والجهالة مساوقة للعمل بغير الحجّة فمفهوم الآية الدالّ على حجّيّة خبر العادل وارد على عموم التعليل، فلا يعقل كون عموم التعليل مانعاً عن دلالة الآية على الحجّيّة، وإشكال الدور قد عرفت جوابه(1).

بل بناءً على فرض كون الجهالة مساوقة للعمل بغير الحجّة لا يبقى موضوع لأصل الإشكال؛ إذ كون العمل بخبر الفاسق جهالة يكون على هذا فرع عدم حجّيّته، فلا معنى لكونه علّة لعدم الحجّيّة حتّى يوجب توسعة دائرة عدم الحجّيّة لكلّ أمارة غير علميّة، بل يصبح تعليلاً لأمر إرشاديّ كما مضى بيانه.

والتحقيق: أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هو خير ما اُفيد في المقام لدفع مانعيّة التعليل عن المفهوم، ومع فرض حصول الوثوق بكون ظاهر الجهالة هنا ذلك لا يكون هذا التعليل مانعاً عن المفهوم أصلاً. نعم، لو فرض إجمال كلمة الجهالة اختلّ المفهوم لا محالة؛ لاكتناف القضيّة الشرطيّة بما يصلح للقرينيّة على عدم المفهوم وكون العبرة في وجوب التبيّن بمطلق الأمارة غير العلميّة دون خصوص خبر الفاسق.


(1) ولو سلّم إشكال الدور على تقريب الحكومة بفرض أنّ الحكومة ترجع بروحها إلى التخصيص، وأنّ التعارض محفوظ في المقام، فتماميّة المفهوم تتوقّف على عدم تماميّة العموم، قلنا: إنّ هذا الكلام لا يرد بناءً على تفسير الندم بمعنى الندم بلحاظ العقاب؛ لأنّ المفهوم عندئذ وارد على عموم التعليل، وعدم رجوع الورود بروحه إلى التخصيص واضح، فعدم الدور هنا أوضح؛ لوضوح عدم التعارض.

451

بقي هنا شيء، وهو: أنّ التبيّن في الآية الشريفة ربط بالشرط ربطاً تعليقيّاً، وبالجهالة ربطاً تعليليّاً، فتارةً نفترض هذين الربطين في عرض واحد، واُخرى نفترض أحدهما في طول الآخر: فإن فرضناهما في عرض واحد كان الكلام في الآية الشريفة من حيث مانعيّة التعليل عن مفهوم الشرط وعدمها هو ما ذكرناه حتّى الآن.

وأمّا إن فرضنا الربط الأوّل في طول الربط الثاني فكأنّه قال: إنّ وجوب التبيّن المعلّل بخوف الإصابة بالجهالة ـ مثلاً ـ معلّق على مجيء الفاسق، فلا إشكال في عدم مانعيّة التعليل عن المفهوم، فإنّ الكلام عندئذ يكون بصدد تخصيص نفس ثبوت العلّة بفرض مجيء الفاسق، ونفيها في فرض مجيء العادل.

كما أنّه إن فرضنا الربط الثاني في طول الربط الأوّل فكأنّه قال: وجوب التبيّن المعلّق على مجيء الفاسق معلّل بخوف الإصابة بالجهالة ـ مثلاً ـ لم يكن إشكال أيضاً في عدم مانعيّة التعليل عن المفهوم، فإنّ الكلام يكون في مقام بيان علّة الحكم المعلّق بما هو معلّق ومقيّد بفرض الشيء، وهو مجيء الفاسق، وليس علّة للحكم في غير فرض الشرط.

هذا بحسب مقام الثبوت. وأمّا بحسب مقام الإثبات فالظاهر عرفاً من الآية الشريفة هو العرضيّة لا الطوليّة(1).

هذا تمام الكلام في المانع الداخليّ عن المفهوم.


(1) أفاد (رضوان الله عليه) بعد البحث: أنّ بالإمكان ذكر صورة دليل على كون الطوليّة بالنحو الثاني خلاف الظاهر، وهو: أنّ ظاهر التعليل بشيء كون ذاك الشيء بوجوده علّة لا بعدمه، والإصابة بالجهالة بوجودها ليست إلّا علّة لأصل الحكم لا لتعليقه على الشرط، وإنّما العلّة لتعليقه على الشرط هي عدمها في غير فرض الشرط.

ولا أتذكّر أنّ التعبير بـ (صورة دليل) هل كان في مقام التعريض بهذا البيان بأنّه ليس دليلاً صحيحاً وإنّما هو صورة دليل، أو لم يكن في هذا المقام.

452

وأمّا المانع الخارجيّ عن المفهوم، فهو الدليل الدالّ على عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، وأنّه لابدّ فيها من البيّنة، فلو فرض ثبوت المفهوم للآية الشريفة لزم خروج المورد عن المفهوم باعتبار أنّ الآية واردة في الموضوعات، وخروج المورد غير صحيح بحسب القوانين العرفيّة.

واُجيب عن ذلك بأنّه لا يلزم بضرورة الحاجة إلى البيّنة خروج المورد بأن لا يكون خبر العادل حجّة في المورد، وإنّما الذي يلزم من ذلك تقييد المفهوم في المورد بفرض تعدّد المخبر العادل.

أقول: لو ثبت من الخارج عدم حجّيّة خبر العادل الواحد في مورد الآية لم يتمّ المفهوم للآية بالنسبة للمورد أصلاً، فإنّ المفهوم للآية إنّما يتمّ بالإطلاق باعتبار كونه في مقام بيان المعادل لخبر الفاسق لو كان، فلو كان خبر العادل كخبر الفاسق في الحكم لقال مثلاً: (إن جاءكم فاسق أو عادل فتبيّنوا)، فعدم ذكر المعادل دليل على عدمه. وبعد أن ثبت من الخارج أنّ خبر العادل الواحد كخبر الفاسق، وتبيّن أنّ المتكلّم لم يكن في مقام بيان هذا المعادل لا نستطيع أن نقول: إنّ خبر العدلين ـ وهو البيّنة ـ لو كان أيضاً معادلاً لخبر الفاسق لبيّنه لأنّه في مقام البيان؛ وذلك لأنّه لو كان في مقام بيان مساواة خبر العدلين لخبر الفاسق لكان أيضاً في مقام بيان مساواة خبر العدل الواحد؛ إذ عدم حجّيّة خبر عدلين يساوق عدم حجّيّة خبر عدل واحد كما هو واضح، فمادام المولى لم يكن في مقام بيان مساواة خبر العادل الواحد لخبر الفاسق لو كان كذلك فهو ليس أيضاً في مقام بيان مساواة البيّنة له. وعليه فالمفهوم يبطل تماماً بالنسبة للمورد، فلو قلنا بأنّ خروج المورد عن المفهوم يبطل المفهوم بشكل عامّ بطل مفهوم الآية في المقام(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الذي ثبت ـ بحسب الفرض ـ إنّما هو: أنّ المتكلّم لم يكن بصدد

453

والصحيح في مقام الجواب: أنّ خروج المورد عن المفهوم لا يبطل المفهوم بالنسبة لغير المورد، ولا ينطبق في المقام قانون عدم صحّة خروج مورد الكلام عن إطلاق الكلام وعمومه، توضيح ذلك: أنّ المفهوم إنّما ثبت حتّى للمورد بالإطلاق، واستهجان خروج المورد إنّما هو بلحاظ المنطوق. أمّا لو بطل المفهوم بالنسبة لخصوص المورد فهذا يعني ورود قيد على إطلاق الكلام لا خروج مورد الكلام عن الكلام، ولا ضير في ذلك، فإنّ الذي لا يساعد عليه العرف إنّما هو خروج المورد عن أصل مفاد الكلام لا عن إطلاقه، فلو سأل السائل عن وجوب إكرام زيد العالم، فقال المولى: (أكرم كلّ عالم)، وعرفنا من الخارج أنّ خصوص زيد يكون وجوب إكرامه مقيّداً بقيد مّا لم يكن ذلك مصداقاً لخروج المورد المستهجن؛ لأنّ المورد ـ وهو زيد ـ خرج عن إطلاق الكلام لا عن أصل الكلام. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم ليست بوضع أداة الشرط لغةً للمفهوم كي يلزم من عدم المفهوم في المورد خروج المورد، وإنّما تدلّ عليه بالإطلاق النافي للعدل، وإخراج المورد عن إطلاق المنطوق لا عن أصل المنطوق لا بأس به(1).

 


بيان مساواة خبر العادل الواحد لخبر الفاسق، وهذا لا ينافي افتراض أنّ المولى بصدد بيان تساوي البيّنة لخبر الفاسق على تقدير مساواتها له، أي: أنّه لو كانت البيّنة كخبر الفاسق في ترتّب الجزاء ـ وهو وجوب التبيّن ـ لبيّن المولى ذلك وإن كان ذلك مساوقاً لبيان تساوي خبر العادل الواحد له أيضاً، وهذه القضيّة الشرطيّة لا تناقض القضيّة التنجيزيّة التي نعلم بها، وهي: أنّ المولى لم يكن بالفعل بصدد بيان مساواة خبر العادل الواحد لخبر الفاسق.

(1) وقد اتّضح بمجموع ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) مع تعليقاتنا الماضية: أنّه لقائل

454

 

مشكلة الأخبار مع الواسطة:

بقي الكلام في إشكال الأخبار مع الواسطة الذي ذكروه في ذيل آية النبأ وإن كان في الحقيقة مشتركاً بينها وبين كثير من سائر الأدلّة. ويقرّب هذا الإشكال بعدّة وجوه يمكن إرجاعها إلى تقريبين رئيسين:

التقريب الأوّل: أنّه تلزم من شمول آية النبأ للخبر مع الواسطة وحدة الحكم والموضوع مع أنّ الموضوع مقدّم على الحكم رتبة، فلا يمكن تقارنهما أو وحدتهما. وتوضيح ذلك: أنّ الحجّيّة حكم موضوعه مركّب من جزءين: الخبر، والأثر الشرعيّ، أعني: كون المخبر به حكماً شرعيّاً أو ذا حكم شرعيّ. والجزء الثاني من الموضوع منتف بالنسبة لخبر المخبر الذي لا ينقل مباشرة عن الإمام؛ لأنّه ليس ما يخبر به عبارة عن حكم شرعيّ، ولا عمّا هو موضوع لحكم شرعيّ إلّا ببركة حجّيّة ما قبله من الخبر، فإنّ الذي يخبر به إنّما هو خبر عن الإمام مثلاً، وأثره عبارة عن حجّيّته التي هي عين الحكم المستفاد من هذه الآية المباركة، وهذا معنى ما قلناه: من وحدة الحكم والموضوع أو تقارنهما.

والتقريب الثاني: أنّه يلزم من شمول آية النبأ للخبر مع الواسطة ما هو أشدّ من وحدة الحكم والموضوع أو تقارنهما، وهو تأخّر المقدّم عن المؤخّر، أعني: تأخّر


أن يدّعي تماميّة دلالة الآية على حجّيّة خبر العادل، بدعوى استظهار رجوع الضمير المحذوف في ﴿تَبَيَّنُوا﴾ إلى أقرب الكلمات إليه وهو النبأ، مع استظهار معنى المنبأ عنه من كلمة النبأ بقرينة تعلّق جاءكم به، أي: أنبأكم بنبأ، وبه يتمّ المقتضي للمفهوم، ثُمّ يدفع المانع الداخليّ باستظهار كون الجهالة بمعنى السفاهة، كما أنّ المانع الخارجيّ مدفوع بوجهين.

والردّ الواضح عندي على ذلك هو عدم الإيمان بأصل مفهوم الشرط.

455

الموضوع عن الحكم؛ وذلك لأنّ الجزء الأوّل من جزءي الموضوع وهو الخبر غير ثابت لنا بالحسّ في غير الخبر المباشر لنا، وإنّما يثبت ذلك بحجّيّة ما قبله من الخبر، وهي: الحكم المستفاد من هذه الآية. إذن فالحكم يثبت قبل ثبوت الموضوع.

وهذان التقريبان يختلفان ملاكاً وموضوعاً:

أمّا الأوّل: فلما عرفت: من أنّ ملاك الأوّل هو تقارن المتقدّم والمتأخّر ووحدتهما، وملاك الثاني هو تأخّر المتقدّم.

وأمّا الثاني: فلأنّ النسبة بينهما عموم من وجه، فهما يجتمعان في الوسائط ويفترقان في الطرفين؛ إذ الأوّل لا يأتي في أوّل السلسلة الذي ينقل الحكم الشرعيّ، والثاني لا يأتي في آخر السلسلة المتّصل بنا الذي يكون خبره ثابتاً عن حسّ.

ولا يخفى ما في التقريب الثاني: من الخلط بين ثبوت الخبر واقعاً وثبوته ظاهراً وتعبّداً. أو قل: الخلط بين الخبر والكشف عنه، فإنّ ما يكون موضوعاً للحجّيّة هو نفس الخبر بوجوده الواقعيّ، وما تحقّق بسبب الحجّيّة هو الكشف عن الخبر وثبوته عندنا تعبّداً.

وعلى أيّة حال، فهذا الإشكال بكلا تقريبيه إنّما يأتي بالنسبة للأدلّة اللفظيّة لحجّيّة خبر الواحد دون الأدلّة اللبّيّة، فالاستدلال بالسيرة العقلائيّة ـ مثلاً ـ لا يرد عليه هذا الإشكال، فالسيرة لو قامت على الأخذ بالخبر مع الواسطة، والمفروض كشفها عن الجعل الشرعيّ، فهي تكشف عن الجعل بالنحو الذي لا يرد عليه هذا الإشكال كفرض كون الحجّيّة لجميع الوسائط بجعول متعدّدة لا بجعل واحد(1).


(1) أو كون الخبر مع الواسطة حجّة ابتداءً لثبوت الحكم الشرعيّ المنقول من دون أن يكون كلّ خبر مثبتاً لما قبله.