444

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل، وقد عرفت عدم ثبوت المقتضي في الآية الشريفة للدلالة على حجّيّة خبر الواحد.

 

المانع عن دلالة المفهوم:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو في بيان المانع بعد فرض تماميّة المقتضي للمفهوم ـ: فالمانع إمّا داخليّ يهدم الظهور، وإمّا خارجيّ يهدم الحجّيّة:

أمّا المانع الداخليّ، فهو عموم التعليل في الآية الشريفة، حيث إنّ خوف الإصابة بالجهالة يتحقّق في كلّ أمارة غير علميّة لا في خصوص خبر الفاسق، فهذا يمنع عن دلالة الآية على حجّيّة خبر العادل.

وقد اُجيب على ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ المفهوم أخصّ من عموم التعليل؛ لاختصاصه بخبر العادل غير العلميّ، فيخصّص به عموم التعليل الدالّ على عدم حجّيّة كلّ أمارة غير علميّة.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ عموم التعليل فيها مقدّم على مفهومها، لا لما ذكره السيّد الاُستاذ: من أنّ المفهوم قوامه بالإطلاق، فيقدّم عموم التعليل عليه لتقدّم العموم على الإطلاق؛ فإنّ هذا الكلام غريب، ومنشأ الاشتباه ما وقع في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره): من


وإذا كان راجعاً إلى النبأ بمعنى المخبر به والمنبأ عنه والقصّة، كانت الآية دالّة على المفهوم؛ لأنّ الشرط الثاني الذي أضافه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) غير مقبول.

فلا يتمّ المفهوم إذن للآية الكريمة إلّا إذا جزمنا بظهور الآية في المعنى الأخير.

445

التعبير بعموم التعليل، وإلّا فليس التعليل في الحقيقة عامّاً بمعنى العموم الوضعيّ،وإنّما يدلّ قوله: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة ...﴾ على عدم الفرق بين أمارة غير علميّة وأمارة غير علميّة اُخرى في عدم الحجّيّة لنكتة واحدة بالإطلاق، ولا توجد في الآية الشريفة أيّ أداة من أدوات العموم.

وإنّما نقول بتقديم عموم التعليل بسبب أنّ نكتة التعليل توجب في نظر العرف الحكومة على الجملة المعلّلة، وتوسّع حدّ وجوب التبيّن، وأنّ هذه النكتة في نظرهم تقدّم على نكتة الأخصّيّة الموجبة للتقديم على العامّ، فكأنّ العلّة كما أنّها في عالم الثبوت تحدّد المعلول، أي: تشخّص حدوده، كذلك في عالم الإثبات ـ بحسب نظر العرف ـ تحدّد المعلول، ولو كان فيه مقتض لمفهوم أخصّ من عموم العلّة فكما أنّ الأخصّيّة توجب قرينيّة الخاصّ على العامّ كذلك التعليل يوجب قرينيّة جملة العلّة على جملة المعلول، والثانية مقدّمة عرفاً على الاُولى.

ولو تنزّلنا عن تقديم نكتة التعليل على نكتة الأخصّيّة، وفرضنا التساوي كفى ذلك في سقوط المفهوم ولو بالتعارض مع عموم التعليل وتساقطهما.

وثانياً: أنّ الخاصّ إنّما يتقدّم على نفس العامّ، أي: على الكلام الذي يكون متصدّياً لإثبات الحكم على تمام الأفراد في عرض واحد لا على ما يكون ابتداءً في مقام بيان نفس العموم، فلو فرض أنّه ذكر في كلام مستقلّ عدم حجّيّة كلّ أمارة غير علميّة، كان مفهوم آية النبأ مقدّماً عليه بالأخصّيّة. ولكن ما نحن فيه ليس كذلك، فإنّ آية النبأ تعرّضت أوّلاً لعدم حجّيّة خبر الفاسق ثُمّ علّلت ذلك بتعليل عامّ، والتعليل العامّ يكون ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ تعميماً للحكم المعلّل، ومن الواضح أنّ ما يكون بصدد بيان نفس التعميم يكون معارضاً لما هو بصدد بيان

446

التخصيص، لا أنّ الثاني يقدّم عليه(1).

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) ومدرسته: من أنّ التعليل يدلّ على عدم حجّيّة الأمارة غير العلميّة، والمفهوم يدلّ على أنّ خبر العادل علم، حيث إنّ دليل الحجّيّة عندهم يدلّ على جعل العلم والطريقيّة، فالمفهوم يكون حاكماً على عموم التعليل.

وأورد المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) على ذلك ـ بعد تسليمه لأصل الحكومة ـ بأنّه لا يتمّ المفهوم؛ لاستلزامه الدور، فإنّ تماميّة المفهوم تتوقّف على عدم تماميّة عموم التعليل وشموله لخبر العدل، وعدم تماميّة العموم يتوقّف على حكومة المفهوم على العموم المتوقّفة على تماميّة المفهوم.

والتحقيق: عدم ورود هذا الإشكال على المحقّق النائينيّ والسيّد الاُستاذ بناءً على مبناهما في الحكومة: من أنّها لا ترجع في روحها إلى التخصيص بعد التعارض، وإنّما هي أمر في قبال التخصيص، ولا تعارض أصلاً بين الدليلين،


(1) ويمكن الجواب أيضاً بعدم أخصّيّة المفهوم بناءً على اشتماله على السالبة بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول.

كما يمكن الجواب أيضاً بأنّ المفهوم بنفسه عبارة عن إطلاق المنطوق، ولا مبرّر للتعامل معه في قِبال ما هو أعمّ منه تعامل الخاصّ في قبال العامّ، وإنّما تعقد النسبة بين المنطوق والمعارض، فترى أنّ التعارض إنّما هو بين إطلاق العلّة وإطلاق المنطوق، فهو كالتعارض بالعموم من وجه.

وهذا الجواب إنّما يتمّ بناءً على بعض المباني في نكتة تقديم الخاصّ على العامّ كنكتة الأقوائيّة، أو نكتة أنّ تقديم العامّ على الخاصّ يوجب لغويّة الخاصّ دون العكس. أمّا بناءً على تقديم الخاصّ على العامّ بنكتة أنّ نفس أخصّيّة أحد الحكمين توجب قرينيّته للحكم الآخر، فهذا الجواب لا يتمّ، فإنّ المفهوم على أيّ حال خاصّ ويكون قرينة على العامّ.

447

لا أنّ هناك تعارضاً بينهما وقدّم أحد المتعارضين على الآخر بنكتة مّا.

وتوضيح دفع الإشكال بناءً على ذلك هو: أنّه بعد تسليم أصل حكومة المفهوم لا تعارض بين المفهوم وعموم التعليل، كي يفترض أنّ تماميّة المفهوم متوقّفة على عدم تماميّة العموم، فمدلول أحدهما هو: أنّه إن لم يحصل العلم بصدق الأمارة لا يجوز اتّباعها، ومدلول الآخر: أنّ العلم حاصل عند إخبار العادل، ولا تنافي بين المدلولين كي يتمّ التعارض بين الدلالتين. وإذا لم يكن تعارض بينهما، فلا مبرّر لسقوط الدلالة المفهوميّة بواسطة دلالة التعليل على العموم، فإنّ السقوط فرع التنافي والتعارض الموجب لانتفاء الدلالة عند الاتّصال، وانتفاء حجّيّتها عند الانفصال، أمّا مع عدم التنافي والتعارض فلا وجه للسقوط(1).

والتحقيق: التكلّم في أصل الحكومة التي سكت عنها المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)وتكلّم مبنيّاً عليها، فإنّ هذه الحكومة غير صحيحة:

أمّا أوّلاً: فلما مضى في إبطال ما ذهبت إليه مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره)من حكومة أدلّة حجّيّة خبر الواحد على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ: من أنّ جعل العلم والطريقيّة إنّما يكون حاكماً على الأدلّة المثبتة لحكم مّا على موضوع عدم العلم، بينما الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تنفي ابتداءً ـ على حدّ تعبيرهم ـ العلم والطريقيّة، فيقع التعارض لا محالة بينها وبين ما يثبت العلم والطريقيّة. وكذلك


(1) ولو تكلّمنا على مبنى إرجاع الحكومة بروحها إلى التخصيص قلنا: إنّ فرض توقّف المفهوم على عدم تماميّة العمومالمتوقّف على الحكومة المتوقّفة على المفهوم، يعني الاعتراف بوقوع الدور، وهو خطأ. والصحيح: أنّه يقع التزاحم في التأثير بين مقتضى المفهوم ومقتضى العموم، ومقتضى المفهوم يتقدّم في التأثير على مقتضى العموم بنكتة لحن الحكومة.

448

نقول فيما نحن فيه: إنّ عموم التعليل ينفي جعل العلم والطريقيّة والمفهوم يثبته، فهما في عرض واحد ومتعارضان، ولا وجه لحكومة المفهوم على عموم التعليل.

وأمّا ثانياً: فلأنّ الاجتناب عن الإصابة بالجهالة علّل في الآية الشريفة باحتمال الوقوع في الندم، فالعلّة الأصليّة تصبح هي احتمال الوقوع في الندم. والمقصود بالندم إمّا هو الندم الحاصل بعد تبيّن مخالفة تلك الأمارة للواقع على أساس ما فات من مصالح الواقع، أو الندم على أساس تنجّز الواقع مولويّاً من باب عدم حجّيّة تلك الأمارة، ومخالفة الواقع بلا عذر شرعيّ:

فإن كان المقصود هو الأوّل فلا وجه للحكومة المدّعاة في المقام، ولا رافع لاحتمال الندم، فلنفرض أنّ احتمال الجهالة والخطأ ارتفع بجعل العلم والطريقيّة، واحتمال الخطأ مع احتمال الندم متلازمان؛ لأنّ الندم لازم تكوينيّ لانكشاف الخطأ، ولكن نفي احتمال شيء تشريعاً لا يعدّ نفياً تشريعيّاً لاحتمال ما يلازمه تكويناً، ولم يكن الندم أثراً شرعيّاً لنقيض الأمارة كي يرفع بحجّيّة الأمارة، فقد يفرض أحد الاحتمالين المتلازمين منفيّاً بجعل العلم والطريقيّة، لكن الاحتمال الآخر لا مبرّر لافتراض عدمه؛ إذ جعل العلم والطريقيّة إنّما ثبت في مقابل احتمال أحد الأمرين دون الأمر الآخر(1).


(1) هذا الكلام يرجع بروحه إلى إنكار حجّيّة مثبتات الأمارة بناءً على مبنى كون الحجّيّة عبارة عن جعل العلم والطريقيّة.

ولكن بالإمكان أن يقال: إنّه إذا فهم من دليل حجّيّة الأمارة أنّه إنّما جعلت علماً وطريقاً بما لها من كاشفيّة تكوينيّة، وكانت كاشفيّتها عن الشيء، وعن ملازمه على حدّ سواء، إذن فجعل العلم والطريقيّة يتمّ بلحاظ كلا الأمرين المتلازمين، فخبر العادل كما هو كاشف عمّا أخبر به كذلك هو كاشف عن أنّه سوف لن يتحقّق الندم، فنكون تعبّداً عالمين بالمخبر به وبعدم الندم، ويكون هذا حاكم على عموم التعليل بحسب الفرض.

449

وإن كان المقصود هو الثاني فالمفهوم يصبح وارداً على عموم التعليل لا حاكماً عليه؛ إذ بحجّيّة خبر العادل ينتفي احتمال الندم لأجل العقاب تكويناً لا تعبّداً، ولا يتمّ جواب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) عن الإشكال بالحكومة، ولا يتمّ أيضاً أصل الإشكال، فإنّ التعليل على هذا ليس تعليلاً لعدم جعل الحجّيّة لخبر الفاسق؛ إذ الوقوع في الندم من ناحية العقاب يكون في طول عدم جعل الحجّيّة ومعلولاً له، فلا معنى لتعليل عدم جعل الحجّيّة بذلك، فلا يدلّ عندئذ على تعميم عدم جعل الحجّيّة لكلّ أمارة غير علميّة؛ لأنّه ليس علّة له، وإنّما هو علّة للأمر الإرشاديّ إلى ما يستقلّ به العقل: من لزوم التمسّك بعروة اليقين وكون رأس الخيط في العمل هو العلم، ويكون الأمر بالتبيّن أمراً إرشاديّاً.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)في الكفاية من أنّ الإشكال في المفهوم من ناحية عموم العلّة يبتني على كون الجهالة بمعنى الجهالة النظريّة والعقليّة، أي: عدم العلم، ولا يبعد أن تكون هنا بمعنى الجهالة العمليّة، وهي ما يعبّر عنها بالسفاهة وما لا ينبغي صدوره من العقلاء، والتعليل على هذا لا يشمل خبر العادل.

وأورد على ذلك المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) بأنّ هذا المعنى للجهالة يشمل العمل بمطلق غير الحجّة، فإنّ العمل السفهيّ في أحكام المولى إنّما هو عبارة عن العمل بغير ما جعله المولى حجّة لا خصوص العمل بخبر الفاسق، وهذا شامل للعمل بخبر العادل غير العلميّ إلّا إذا ثبتت حجّيّته. فلابدّ في مقام إخراج العمل به عن هذه الكبرى من إثبات حجّيّته، فإن فرض إثبات حجّيّته قبل الآية لا بالآية الكريمة، فهذا خلف ما هو المفروض فعلاً من إثبات حجّيّته بالآية، وإن فرض عدم ثبوت حجّيّته قبل الآية إذن عموم التعليل يشمل خبر العادل ولا يبقى مجال لدلالة الآية على حجّيّته.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ الجهالة لو فسّرت بمعنى السفاهة والعمل غير العقلائيّ فهي لا تشمل

450

العمل بخبر العادل؛ لأنّ العقلاء من طبعهم وسيرتهم العمل بخبر العادل، وعدم حجّيّته شرعاً لا يجعل العمل به غير عقلائيّ، وإنّما يجعله خلاف العقل، وفرق بين كون شيء ما غير عقلائيّ وسفهيّاً، وكونه غير عقليّ، والمعصية الحقيقيّة للمولى تعالى لا تعدّ دائماً سفهيّة عند العقلاء فضلاً عن المعصية في نطاق الحكم الطريقيّ.

وثانياً: لو سلّمنا كون السفاهة والجهالة مساوقة للعمل بغير الحجّة فمفهوم الآية الدالّ على حجّيّة خبر العادل وارد على عموم التعليل، فلا يعقل كون عموم التعليل مانعاً عن دلالة الآية على الحجّيّة، وإشكال الدور قد عرفت جوابه(1).

بل بناءً على فرض كون الجهالة مساوقة للعمل بغير الحجّة لا يبقى موضوع لأصل الإشكال؛ إذ كون العمل بخبر الفاسق جهالة يكون على هذا فرع عدم حجّيّته، فلا معنى لكونه علّة لعدم الحجّيّة حتّى يوجب توسعة دائرة عدم الحجّيّة لكلّ أمارة غير علميّة، بل يصبح تعليلاً لأمر إرشاديّ كما مضى بيانه.

والتحقيق: أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هو خير ما اُفيد في المقام لدفع مانعيّة التعليل عن المفهوم، ومع فرض حصول الوثوق بكون ظاهر الجهالة هنا ذلك لا يكون هذا التعليل مانعاً عن المفهوم أصلاً. نعم، لو فرض إجمال كلمة الجهالة اختلّ المفهوم لا محالة؛ لاكتناف القضيّة الشرطيّة بما يصلح للقرينيّة على عدم المفهوم وكون العبرة في وجوب التبيّن بمطلق الأمارة غير العلميّة دون خصوص خبر الفاسق.


(1) ولو سلّم إشكال الدور على تقريب الحكومة بفرض أنّ الحكومة ترجع بروحها إلى التخصيص، وأنّ التعارض محفوظ في المقام، فتماميّة المفهوم تتوقّف على عدم تماميّة العموم، قلنا: إنّ هذا الكلام لا يرد بناءً على تفسير الندم بمعنى الندم بلحاظ العقاب؛ لأنّ المفهوم عندئذ وارد على عموم التعليل، وعدم رجوع الورود بروحه إلى التخصيص واضح، فعدم الدور هنا أوضح؛ لوضوح عدم التعارض.

451

بقي هنا شيء، وهو: أنّ التبيّن في الآية الشريفة ربط بالشرط ربطاً تعليقيّاً، وبالجهالة ربطاً تعليليّاً، فتارةً نفترض هذين الربطين في عرض واحد، واُخرى نفترض أحدهما في طول الآخر: فإن فرضناهما في عرض واحد كان الكلام في الآية الشريفة من حيث مانعيّة التعليل عن مفهوم الشرط وعدمها هو ما ذكرناه حتّى الآن.

وأمّا إن فرضنا الربط الأوّل في طول الربط الثاني فكأنّه قال: إنّ وجوب التبيّن المعلّل بخوف الإصابة بالجهالة ـ مثلاً ـ معلّق على مجيء الفاسق، فلا إشكال في عدم مانعيّة التعليل عن المفهوم، فإنّ الكلام عندئذ يكون بصدد تخصيص نفس ثبوت العلّة بفرض مجيء الفاسق، ونفيها في فرض مجيء العادل.

كما أنّه إن فرضنا الربط الثاني في طول الربط الأوّل فكأنّه قال: وجوب التبيّن المعلّق على مجيء الفاسق معلّل بخوف الإصابة بالجهالة ـ مثلاً ـ لم يكن إشكال أيضاً في عدم مانعيّة التعليل عن المفهوم، فإنّ الكلام يكون في مقام بيان علّة الحكم المعلّق بما هو معلّق ومقيّد بفرض الشيء، وهو مجيء الفاسق، وليس علّة للحكم في غير فرض الشرط.

هذا بحسب مقام الثبوت. وأمّا بحسب مقام الإثبات فالظاهر عرفاً من الآية الشريفة هو العرضيّة لا الطوليّة(1).

هذا تمام الكلام في المانع الداخليّ عن المفهوم.


(1) أفاد (رضوان الله عليه) بعد البحث: أنّ بالإمكان ذكر صورة دليل على كون الطوليّة بالنحو الثاني خلاف الظاهر، وهو: أنّ ظاهر التعليل بشيء كون ذاك الشيء بوجوده علّة لا بعدمه، والإصابة بالجهالة بوجودها ليست إلّا علّة لأصل الحكم لا لتعليقه على الشرط، وإنّما العلّة لتعليقه على الشرط هي عدمها في غير فرض الشرط.

ولا أتذكّر أنّ التعبير بـ (صورة دليل) هل كان في مقام التعريض بهذا البيان بأنّه ليس دليلاً صحيحاً وإنّما هو صورة دليل، أو لم يكن في هذا المقام.

452

وأمّا المانع الخارجيّ عن المفهوم، فهو الدليل الدالّ على عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، وأنّه لابدّ فيها من البيّنة، فلو فرض ثبوت المفهوم للآية الشريفة لزم خروج المورد عن المفهوم باعتبار أنّ الآية واردة في الموضوعات، وخروج المورد غير صحيح بحسب القوانين العرفيّة.

واُجيب عن ذلك بأنّه لا يلزم بضرورة الحاجة إلى البيّنة خروج المورد بأن لا يكون خبر العادل حجّة في المورد، وإنّما الذي يلزم من ذلك تقييد المفهوم في المورد بفرض تعدّد المخبر العادل.

أقول: لو ثبت من الخارج عدم حجّيّة خبر العادل الواحد في مورد الآية لم يتمّ المفهوم للآية بالنسبة للمورد أصلاً، فإنّ المفهوم للآية إنّما يتمّ بالإطلاق باعتبار كونه في مقام بيان المعادل لخبر الفاسق لو كان، فلو كان خبر العادل كخبر الفاسق في الحكم لقال مثلاً: (إن جاءكم فاسق أو عادل فتبيّنوا)، فعدم ذكر المعادل دليل على عدمه. وبعد أن ثبت من الخارج أنّ خبر العادل الواحد كخبر الفاسق، وتبيّن أنّ المتكلّم لم يكن في مقام بيان هذا المعادل لا نستطيع أن نقول: إنّ خبر العدلين ـ وهو البيّنة ـ لو كان أيضاً معادلاً لخبر الفاسق لبيّنه لأنّه في مقام البيان؛ وذلك لأنّه لو كان في مقام بيان مساواة خبر العدلين لخبر الفاسق لكان أيضاً في مقام بيان مساواة خبر العدل الواحد؛ إذ عدم حجّيّة خبر عدلين يساوق عدم حجّيّة خبر عدل واحد كما هو واضح، فمادام المولى لم يكن في مقام بيان مساواة خبر العادل الواحد لخبر الفاسق لو كان كذلك فهو ليس أيضاً في مقام بيان مساواة البيّنة له. وعليه فالمفهوم يبطل تماماً بالنسبة للمورد، فلو قلنا بأنّ خروج المورد عن المفهوم يبطل المفهوم بشكل عامّ بطل مفهوم الآية في المقام(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الذي ثبت ـ بحسب الفرض ـ إنّما هو: أنّ المتكلّم لم يكن بصدد

453

والصحيح في مقام الجواب: أنّ خروج المورد عن المفهوم لا يبطل المفهوم بالنسبة لغير المورد، ولا ينطبق في المقام قانون عدم صحّة خروج مورد الكلام عن إطلاق الكلام وعمومه، توضيح ذلك: أنّ المفهوم إنّما ثبت حتّى للمورد بالإطلاق، واستهجان خروج المورد إنّما هو بلحاظ المنطوق. أمّا لو بطل المفهوم بالنسبة لخصوص المورد فهذا يعني ورود قيد على إطلاق الكلام لا خروج مورد الكلام عن الكلام، ولا ضير في ذلك، فإنّ الذي لا يساعد عليه العرف إنّما هو خروج المورد عن أصل مفاد الكلام لا عن إطلاقه، فلو سأل السائل عن وجوب إكرام زيد العالم، فقال المولى: (أكرم كلّ عالم)، وعرفنا من الخارج أنّ خصوص زيد يكون وجوب إكرامه مقيّداً بقيد مّا لم يكن ذلك مصداقاً لخروج المورد المستهجن؛ لأنّ المورد ـ وهو زيد ـ خرج عن إطلاق الكلام لا عن أصل الكلام. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم ليست بوضع أداة الشرط لغةً للمفهوم كي يلزم من عدم المفهوم في المورد خروج المورد، وإنّما تدلّ عليه بالإطلاق النافي للعدل، وإخراج المورد عن إطلاق المنطوق لا عن أصل المنطوق لا بأس به(1).

 


بيان مساواة خبر العادل الواحد لخبر الفاسق، وهذا لا ينافي افتراض أنّ المولى بصدد بيان تساوي البيّنة لخبر الفاسق على تقدير مساواتها له، أي: أنّه لو كانت البيّنة كخبر الفاسق في ترتّب الجزاء ـ وهو وجوب التبيّن ـ لبيّن المولى ذلك وإن كان ذلك مساوقاً لبيان تساوي خبر العادل الواحد له أيضاً، وهذه القضيّة الشرطيّة لا تناقض القضيّة التنجيزيّة التي نعلم بها، وهي: أنّ المولى لم يكن بالفعل بصدد بيان مساواة خبر العادل الواحد لخبر الفاسق.

(1) وقد اتّضح بمجموع ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) مع تعليقاتنا الماضية: أنّه لقائل

454

 

مشكلة الأخبار مع الواسطة:

بقي الكلام في إشكال الأخبار مع الواسطة الذي ذكروه في ذيل آية النبأ وإن كان في الحقيقة مشتركاً بينها وبين كثير من سائر الأدلّة. ويقرّب هذا الإشكال بعدّة وجوه يمكن إرجاعها إلى تقريبين رئيسين:

التقريب الأوّل: أنّه تلزم من شمول آية النبأ للخبر مع الواسطة وحدة الحكم والموضوع مع أنّ الموضوع مقدّم على الحكم رتبة، فلا يمكن تقارنهما أو وحدتهما. وتوضيح ذلك: أنّ الحجّيّة حكم موضوعه مركّب من جزءين: الخبر، والأثر الشرعيّ، أعني: كون المخبر به حكماً شرعيّاً أو ذا حكم شرعيّ. والجزء الثاني من الموضوع منتف بالنسبة لخبر المخبر الذي لا ينقل مباشرة عن الإمام؛ لأنّه ليس ما يخبر به عبارة عن حكم شرعيّ، ولا عمّا هو موضوع لحكم شرعيّ إلّا ببركة حجّيّة ما قبله من الخبر، فإنّ الذي يخبر به إنّما هو خبر عن الإمام مثلاً، وأثره عبارة عن حجّيّته التي هي عين الحكم المستفاد من هذه الآية المباركة، وهذا معنى ما قلناه: من وحدة الحكم والموضوع أو تقارنهما.

والتقريب الثاني: أنّه يلزم من شمول آية النبأ للخبر مع الواسطة ما هو أشدّ من وحدة الحكم والموضوع أو تقارنهما، وهو تأخّر المقدّم عن المؤخّر، أعني: تأخّر


أن يدّعي تماميّة دلالة الآية على حجّيّة خبر العادل، بدعوى استظهار رجوع الضمير المحذوف في ﴿تَبَيَّنُوا﴾ إلى أقرب الكلمات إليه وهو النبأ، مع استظهار معنى المنبأ عنه من كلمة النبأ بقرينة تعلّق جاءكم به، أي: أنبأكم بنبأ، وبه يتمّ المقتضي للمفهوم، ثُمّ يدفع المانع الداخليّ باستظهار كون الجهالة بمعنى السفاهة، كما أنّ المانع الخارجيّ مدفوع بوجهين.

والردّ الواضح عندي على ذلك هو عدم الإيمان بأصل مفهوم الشرط.

455

الموضوع عن الحكم؛ وذلك لأنّ الجزء الأوّل من جزءي الموضوع وهو الخبر غير ثابت لنا بالحسّ في غير الخبر المباشر لنا، وإنّما يثبت ذلك بحجّيّة ما قبله من الخبر، وهي: الحكم المستفاد من هذه الآية. إذن فالحكم يثبت قبل ثبوت الموضوع.

وهذان التقريبان يختلفان ملاكاً وموضوعاً:

أمّا الأوّل: فلما عرفت: من أنّ ملاك الأوّل هو تقارن المتقدّم والمتأخّر ووحدتهما، وملاك الثاني هو تأخّر المتقدّم.

وأمّا الثاني: فلأنّ النسبة بينهما عموم من وجه، فهما يجتمعان في الوسائط ويفترقان في الطرفين؛ إذ الأوّل لا يأتي في أوّل السلسلة الذي ينقل الحكم الشرعيّ، والثاني لا يأتي في آخر السلسلة المتّصل بنا الذي يكون خبره ثابتاً عن حسّ.

ولا يخفى ما في التقريب الثاني: من الخلط بين ثبوت الخبر واقعاً وثبوته ظاهراً وتعبّداً. أو قل: الخلط بين الخبر والكشف عنه، فإنّ ما يكون موضوعاً للحجّيّة هو نفس الخبر بوجوده الواقعيّ، وما تحقّق بسبب الحجّيّة هو الكشف عن الخبر وثبوته عندنا تعبّداً.

وعلى أيّة حال، فهذا الإشكال بكلا تقريبيه إنّما يأتي بالنسبة للأدلّة اللفظيّة لحجّيّة خبر الواحد دون الأدلّة اللبّيّة، فالاستدلال بالسيرة العقلائيّة ـ مثلاً ـ لا يرد عليه هذا الإشكال، فالسيرة لو قامت على الأخذ بالخبر مع الواسطة، والمفروض كشفها عن الجعل الشرعيّ، فهي تكشف عن الجعل بالنحو الذي لا يرد عليه هذا الإشكال كفرض كون الحجّيّة لجميع الوسائط بجعول متعدّدة لا بجعل واحد(1).


(1) أو كون الخبر مع الواسطة حجّة ابتداءً لثبوت الحكم الشرعيّ المنقول من دون أن يكون كلّ خبر مثبتاً لما قبله.

456

ولعلّ هذا هو الوجه في أنّهم لم يؤجّلوا البحث عن إشكال الأخبار مع الوسائط إلى آخر أدلّة حجّيّة خبر الواحد التي منها الأدلّة اللبّيّة، فذكروه في ذيل البحث عن آية النبأ التي هي أوّل الأدلّة اللفظيّة في المقام، وإن كان الأنسب تأخيره إلى آخر الأدلّة اللفظيّة.

هذا. والأدلّة اللفظيّة لو كانت بلسان الإخبار عن الجعل المنسجم لفرض وحدة الجعل، ولفرض تعدّد الجعول لم يبق أيضاً مجال للإشكال؛ لأنّ إطلاق الدليل للخبر مع الواسطة يبقى حجّة مادمنا نحتمل صدقه لمعقوليّة حجّيّة الخبر مع الواسطة، ولو بتعدّد الجعول. فالإشكال إذن إنّما ينحصر في فرض الدليل اللفظيّ الذي يكون بلسان جعل الحجّيّة، أو بلسان الإخبار عن جعل واحد.

وقد تعارف لدى المحقّقين(رحمهم الله) الجواب على الإشكال بتوضيح عدم اتّحاد الحكم والموضوع، أو تأخّر الموضوع عن الحكم بلحاظ المعنون الواقع مع تسليمهم بكون الخبر خبراً مع الواسطة، واتّحاد الحكم والموضوع، أو تأخّر الموضوع عن الحكم عنواناً.

والتحقيق: أنّ الخبر مع الواسطة يرجع دائماً إلى الخبر بلا واسطة، وبهذا ينهدم موضوع الإشكال.

فالكلام يقع هنا في مقامين:

 

إرجاع الخبر غير المباشر إلى المباشر:

المقام الأوّل: في رجوع الخبر مع الواسطة إلى الخبر بلا واسطة ممّا يهدم أصل موضوع الإشكال، وهذا ما غفل عنه الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم.

والثاني: في تحقيق حال الإشكال، وتمحيص كلمات الأعلام بعد غضّ النظر عن رجوع الإخبار مع الواسطة إلى الإخبار بلا واسطة.

457

أمّا المقام الأوّل: فلإرجاع الإخبار مع الواسطة إلى الإخبار بلا واسطة تقريبان، أوّلهما هو المرضيّ عندنا دون الثاني.

التقريب الأوّل: أنّ الشيخ الكلينيّ(رحمه الله) مثلاً الذي ينقل خبراً ببعض الوسائط الثقات عن الإمام المعصوم(عليه السلام)، فهو وإن كان بالمطابقة ينقل خبراً بالوسائط عن الإمام لكنّه ينقل لنا بالملازمة قضيّة مانعة الخلوّ، وهي: أنّه إمّا أنّ أحد الوسائط الثقات قد كذب (والمقصود بالكذب مخالفة الواقع)، أو أنّ الإمام(عليه السلام)قد قال كذا، وأنّ الحكم الشرعيّ هو كذا، وإخباره عن هذه القضيّة التي هي على نحو مانعة الخلوّ إخبار عن حسّ وبلا واسطة؛ لأنّه قد سمع الراوي المباشر له حسّاً عند نقله لهذا الخبر، فلو لم يكن كاذباً، ولم يكن أحد الوسائط الآخرين كاذباً فالحكم ثابت من الإمام حتماً، ولو لم يكن الحكم صادراً من الإمام فقد كذب الراوي المباشر، أو أحد الوسائط الآخرين؛ إذ لا شكّ لدى الكلينيّ(رحمه الله) في صدور هذا الخبر عن الراوي المباشر له. وكلّ قضيّة مانعة الخلوّ تنحلّ إلى قضيّتين شرطيّتين مقدّمهما نفي أحد الطرفين وتاليهما إيجاب الطرف الآخر. إذن فالكلينيّ(رحمه الله)يخبر عن حسّ بقضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو لم يكذب أحد الوسائط فقد صدر هذا الحكم من الإمام(عليه السلام)، فيشمله دليل حجّيّة خبر الثقة؛ إذ لا فرق في حجّيّة خبر الثقة بين الإخبار عن كلام الإمام مطلقاً، والإخبار عنه على تقدير، كما في المقام حيث أخبرنا الكلينيّ عن كلام الإمام على تقدير عدم كذب أحد الوسائط الثقات، وهذا التقدير ثابت لنا بنحو ملفّق من الوجدان والتعبّد؛ لأنّ هذا الحديث إمّا أنّه لم يصدر من أحد من الوسائط فهم غير كاذبين وجداناً، أو صدر من بعضهم، أو جميعهم فهم غير كاذبين تعبّداً، فإذا ثبت الشرط بنحو ملفّق بين الوجدان والتعبّد، أو قل: ثبت الشرط بالتعبّد؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، فقد ثبت الجزاء، وهو صدور هذا الحكم من الإمام.

458

وإن شئت فقل: إنّ الثقات قبل الكلينيّ لو سألنا أيّ واحد منهم هل كذبت في القضيّة الفلانيّة لقال: لا. فيثبت عدم كذبه بإخباره عن ذلك تعبّداً، وإذا أخبر عن عدم كذب نفسه فقد أخبر ولو بالقوّة بأنّه إن كانت ملازمة بين عدم كذبه وقول الإمام فقد قال الإمام كذا، وهذه الملازمة ثابتة باخبار الشيخ الكلينيّ، فيثبت المطلوب، وهو قول الإمام(عليه السلام)(1).

 


(1) إنّ روح الكلام الذي ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يمكن أن تصبّ في عدّة صيغ:

الاُولى: أن يتمسّك بالمقارنة بين عدم كذب الوسائط وكلام الإمام المخبر بها من قبل الكلينيّ، بأن يقال: إنّ كلام الكلينيّ له دلالة التزاميّة على المقارنة بين عدم كذب الوسائط وصدور النصّ من الإمام، وعدم كذب الوسائط على تقدير السكوت ثابت بالوجدان، وعلى تقدير النطق ثابت بالتعبّد، وبهذا يثبت صدور النصّ من الإمام، والظاهر أنّ هذا هو مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

وقد يورد عليه: تارةً: بأنّ هذا يعني التمسّك بالدلالة الالتزاميّة من دون حجّيّة الدلالة المطابقيّة، وهذا خلف قانون تبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة.

وأجاب على ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ على ما نقله السيّد الهاشميّ حفظه الله في تقريره عنه ـ بأنّ هذه التبعيّة إنّما تعني أنّ ملاك حجّيّة المطابقيّة ـ وهو الكشف عن المعنى المطابقيّ ـ لو بطل لانهارت حجّيّة الالتزاميّة أيضاً؛ لأنّ ملاك الكاشفيّة فيهما واحد، وفي المقام لم يحدث شيء من هذا القبيل.

واُخرى: بأنّ المدلول الالتزاميّ دائماً هو الحصّة الخاصّة المقيّدة بالملزوم، فالإخبار عن شرب زيد للسمّ إخبار بالملازمة عن موته الحاصل من شرب السمّ لا مطلق الموت، وفي المقام أيضاً يكون المدلول الالتزاميّ عبارة عن نصّ المعصوم على تقدير عدم كذب صفّار ـ مثلاً ـ لا مطلقاً، بل مقيّداً بصدور الإخبار من صفّار، فلابدّ من إثبات صدوره منه، وهذا رجوع مرّة اُخرى إلى المحذور.

459


وأجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ذلك ـ على ما نقله السيّد الهاشميّ حفظه الله في تقريره ـ بأنّ كبرى كون المدلول الالتزاميّ الحصّة الخاصّة ممنوعة في محلّها، ولو سلّمت لم تضرّ في المقام؛ لأنّ المدلول الالتزاميّ في المقام هو القضيّة الشرطيّة، وهي: أنّه لو لم يكذب صفّار فقد قال الإمام كذا، فهذه القضيّة الشرطيّة هي التي تتقيّد بإخبار صفّار، بمعنى أنّ الكلينيّ يخبر عن ثبوت هذه القضيّة الشرطيّة مقترنة بإخبار صفّار، وهذا لا يضرّنا، فإنّ هذا لا يعني أنّ الشرط في القضيّة الشرطيّة أصبح مقيّداً بإخبار صفّار كي نحتاج إلى إثبات صدور الخبر من صفّار ويعود المحذور.

الثانية: أن يتمسّك بالملازمة العقليّة، وهي ليست بين عدم كذب الوسائط وصدور النصّ من الإمام، فإنّ عدم كذب الوسائط لو كان على أثر السكوت لا يلزم صدور النصّ، وإنّما هي ملازمة بين عدم كذب الوسائط مع النطق من ناحية وصدور النصّ من الإمام من ناحية اُخرى، وبما أنّ عدم كذب الوسائط على تقدير النطق والإخبار ثابت بالتعبّد فكلام الكلينيّ الحاكي عن النطق حاك بالملازمة عن صدور النصّ من الإمام. والإشكال بتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة قد عرفت جوابه.

وقد يورد على هذا التقريب بأنّ الملازمة إنّما هي بين مجموع إخبار صفّار ـ مثلاً ـ وعدم كذبه من ناحية وبين كلام الإمام من ناحية اُخرى، فإخبار صفّار جزء من الملزوم، فلابدّ من إثباته كي يثبت اللازم، وهو كلام الإمام، وإثباته بخبر الكلينيّ بواسطة دليل الحجّيّة يعني الرجوع إلى المحذور مرّة اُخرى.

والجواب: أنّ إخبار صفّار وإن كان جزءاً من الملزوم لكنّنا لسنا بحاجة إلى إثباته كي يعود المحذور، فإنّ ثبوت الجزء الآخر ـ وهو عدم كذب صفّار أو عدم كذبه على تقدير إخباره ـ كاف في أن يكون نقل الكلينيّ للجزء الأوّل ـ وهو إخبار صفّار ـ نقلاً بالملازمة لصدور النصّ من الإمام.

460

ولم تلزم من ذلك وحدة العارض والمعروض، أو الموضوع والحكم؛ لأنّ الأثر الشرعيّ الذي هو جزء الموضوع ليس هنا عبارة عن الحجّيّة كي يلزم اتّحاده مع الحكم المستفاد من الآية، وإنّما هو عبارة عن الحكم المنقول عن المعصوم(عليه السلام).

كما لم يلزم أيضاً ثبوت الموضوع بعد الحكم؛ لأنّ الحجّيّة لم تكن دخيلة في


الثالثة: أن يقال رأساً: إنّنا نعلم علماً يقيناً أنّ هؤلاء الثقات بما فيهم الكلينيّ نفسه الذي سمعناه ـ مثلاً ـ إن لم يكذبوا كذباً مقارناً للنطق فقد قال الإمام كذا؛ إذ لا نحتمل سكوتهم جميعاً؛ لأنّنا نعلم علماً يقيناً بإخبار الكلينيّ، فهذه الملازمة ثابتة لنا بالوجدان، وعدم كذبهم على تقدير نطقهم ثابت بالتعبّد، إذن فيثبت بذلك قول الإمام.

أو قل: إنّنا نعلم علماً يقيناً بالمقارنة بين عدم كذب هؤلاء الثقات بما فيهم الكلينيّ وقول الإمام؛ إذ لا نحتمل سكوتهم جميعاً؛ لأنّنا نعلم علماً يقيناً بإخبار الكلينيّ، وعدم كذبهم ثابت لنا؛ إذ من سكت منهم لم يكذب وجداناً، ومن تكلّم منهم لم يكذب تعبّداً، إذن فيثبت بذلك قول الإمام.

وهناك وجه آخر لحلّ الإشكال نقله السيّد الهاشميّ عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وهو: أنّ حجّيّة خبر الثقة إنّما تكون على أساس كاشفيّة الوثاقة عن عدم كذب المخبر الجامع بين عدم كذبه من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو السالبة بانتفاء المحمول، وهذه الكاشفيّة مصبّها وثاقة المخبر لا إخبار الثقة، وهي كما تقتضي الكشف عن صدق ما أخبر به المخبر، كذلك وبنفس الدرجة تقتضي الكشف عن عدم صدور الإخبار من الثقة إذا ما أحرز عدم صدق القضيّة وعلم الثقة بذلك، وبمجرّد وجدان الخبر مع الواسطة نعلم بقضيّة شرطيّة هي: أنّه إن لم يكذب كلّ واحد من هؤلاء الثقات الواقعين في سند هذا الخبر فقد صدر هذا الخبر من الإمام. والشرط ثابت تعبّداً، فإنّ مقتضى وثاقة كلّ واحد منهم هو أنّه لم يكذب، فيثبت الجزاء، ومعه يرتفع موضوع الإشكال من رأس، فإنّه كان مبنيّاً على افتراض طوليّة الإخبارين الموضوعين لدليل الحجّيّة.

461

إثبات الخبر، وإنّما كانت دخيلة في إثبات الشرط في القضيّة الشرطيّة التي أخبر بها، وكم فرق بينهما.

التقريب الثاني: مبنيّ على مبنى مَن يقول بكون المجعول في باب الأمارات هو العلم تعبّداً، ولنفترض لأجل التسهيل أنّ الكلينيّ(رحمه الله) قد أخبرنا بخبر عن المعصوم بواسطة شخص واحد ثقة، وهو الصفّار مثلاً، وعندئذ نقول: إنّ الكلينيّ قد أخبر بالملازمة بكونه عالماً بقول الإمام؛ لأنّ خبر الصفّار حجّة له ومورث للعلم التعبّديّ له، وإخباره عن علمه بقول الإمام وإن كان إخباراً حدسيّاً وليس حسّيّاً؛ لأنّ حجّيّة الخبر ثبتت بالاجتهاد، لكن هذا الحدس مصدّق من قبلنا أيضاً بحسب الفرض، والحدس المشترك بين المخبر والسامع بحكم الحسّ، ولا يسقط الخبر عن الحجّيّة لدى السامع.

وإذا ثبت أنّ الشيخ الكلينيّ أخبرنا بكونه عالماً بقول الإمام فقد ثبت لنا قول الإمام لأحد وجهين:

الأوّل: أنّه مستعدّ للإخبار ابتداءً بقول الإمام؛ إذ الأمارة عند القائلين بجعل العلم والطريقيّة تقوم مقام العلم الموضوعيّ.

والثاني: أنّه يكفينا نفس إخباره عن علمه بقول المعصوم، فإنّ كلّ خبر عن شيء ليس في الحقيقة إلّا إخباراً عن علم المخبر بذلك الشيء، ونحو ذلك من الاُمور النفسيّة كقصد الحكاية.

ويرد على هذا التقريب: أنّ المستظهر من الدليل اللفظيّ لحجّيّة الخبر والمقطوع به من الدليل اللبّيّ لها إنّما هو حجّيّة الخبر بما له من الكشف الذاتيّ، والعلم التعبّديّ بما هو كذلك ليس له كشف أصلاً، فلا يكون الإخبار عنه، أو الإخبار عمّا علم به حجّة لإثبات الواقع. فمثلاً لو أخبرنا مخبر بطهارة شيء اعتماداً على أصالة الطهارة ـ بناءً على أنّ أصالة الطهارة توجب العلم التعبّديّ ـ لم يثبت ذلك لنا شيئاً

462

زائداً على المقدار الثابت لنا بالأصل.

والخبر مع الواسطة له مستوى من الكشف الذاتيّ قبل التعبّد بكون الخبر علماً، فإن أفادنا هذا الكشف الذاتيّ بغضّ النظر عن العلم التعبّديّ للمخبر، وذلك بحلّ إشكال الخبر مع الواسطة بطريق آخر غير مسألة كون المخبر عالماً تعبّداً، صحّ لنا العمل بهذا الخبر، وإن لم يفدنا ذلك؛ لأنّنا لم نعرف علاجاً آخر لحلّ مشكلة الخبر مع الواسطة، فكون المخبر عالماً تعبّداً بما يخبر به لا يحلّ لنا إشكالاً في المقام؛ لأنّ علمه التعبّديّ لا يفيدنا كشفاً ذاتيّاً أصلاً، وما لخبره من كشف ذاتيّ لا يمتّ إلى علمه التعبّديّ بصلة، وإنّما هو كشف للخبر مع الواسطة، والمفروض عدم حجّيّة الخبر مع الواسطة، فإرجاعه إلى الخبر بلا واسطة عن طريق العلم التعبّديّ للمخبر لا قيمة له.

وبكلمة اُخرى: إنّ هذا الخبر بما هو خبر مع الواسطة له كشف ذاتيّ، لكن المفروض عدم حجّيّته بما هو كذلك، وبما هو علم تعبّديّ للمخبر لا كشف ذاتيّ له، فلا يشمله دليل الحجّيّة الظاهر في كون حجّيّة خبر الواحد بما له من كشف ذاتيّ.

على أنّه لو تمّ هذا الوجه لم يتمّ في تمام الموارد بحسب مباني مَن يقول بجعل الطريقيّة والعلم؛ وذلك لأنّه قد يفترض أنّ الوسيط غير ثقة لدى المخبر وإن كان ثقة لدينا، أو أنّ المخبر هو لا يؤمن بحجّيّة خبر الثقة وإن كنّا نحن مؤمنين بها، وعندئذ لا يتمّ هذا الجواب بناءً على مبناهم: من أنّ دليل الحجّيّة إنّما يكون حاكماً على دليل حرمة القول بغير علم عند الوصول، إذن فلا يصحّ للكلينيّ مثلاً الإخبار عن قول الإمام لا بشكل مطلق ولا بأن يقول: (لو كان الصفّار ثقة، وخبر الثقة حجّة، فالإمام قال كذا). أمّا عدم جواز إخباره عن قول الإمام بشكل مطلق فواضح. وأمّا عدم جواز إخباره عن قول الإمام بصيغة الشرط فلأنّنا نقول: هل المقصود بذلك الإخبار المشروط ؟ أو المقصود به الإخبار بالملازمة والقضيّة

463

الشرطيّة؟ فإن كان المقصود هو الثاني كان كذباً، لوضوح عدم الملازمة بين وثاقة الصفّار وحجّيّة خبر الثقة من ناحية، وصدور الكلام من الإمام من ناحية اُخرى، وإن كان المقصود هو الأوّل لم يجز هذا الإخبار؛ لأنّ هذا إخبار فعليّ وقع في زمان عدم وصول الحجّيّة وإن كان مدلوله ضيّقاً لكونه إخباراً على تقدير، وقد فرضنا أنّ دليل الحجّيّة لا حكومة له قبل الوصول على دليل حرمة القول بغير علم.

نعم، إذا قال: (لو علمت بوثاقة صفّار وحجّيّة خبر الثقة لأخبرت بقول الإمام)، كان هذا الكلام صحيحاً، لكنّه لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّه ليس إخباراً بقول الإمام. هذا ويصحّ للكلينيّ الإخبار عن علمه بقول الإمام على شكل الإخبار بالقضيّة الشرطيّة، وعلى شكل الإخبار المشروط بأن يقول مثلاً: (لو كان الصفّار ثقة، وخبر الثقة حجّة، فإنّي عالم بأنّ الإمام قال كذا) لكن هذا لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّنا وإن قلنا في مقام بيان الوجه الثاني من وجهي الاستفادة من العلم التعبّديّ للمخبر: إنّه يكفي الإخبار عن العلم؛ لأنّ روح الإخبار عن شيء إنّما هو الإخبار عن العلم به. لكنّا نقول أيضاً: إنّ روح الإخبار عن الشيء إنّما هو الإخبار عن العلم الفعليّ لا الإخبار عن العلم المعلّق بنحو القضيّة الشرطيّة، أو الإخبار المشروط بحيث يكون هو بنفسه شاكّاً في علمه بذلك الشيء(1).

 


(1) قد يقال: إنّ الإخبار عن العلم بقول الإمام إذا كان على نحو الإخبار بالقضيّة الشرطيّة، أو كان على شكل الإخبار المشروط، فهذا وإن لم يكن عبارة عن روح الإخبار بقول الإمام بشكل مطلق لكنّه عبارة عن روح الإخبار بقول الإمام بشكل مشروط بأن يكون الإخبار بقول الإمام مضيّقاً ومحصوراً بخصوص دائرة فرض وثاقة صفّار وحجّيّة خبر الثقة، غاية ما هناك أنّ هذا الإخبار لم يكن جائزاً؛ لأنّنا فرضنا عدم حكومة دليل الحجّيّة قبل الوصول على دليل حرمة القول بغير علم، ولكن الإخبار عن العلم بقول الإمام

464

ولو سلّمنا كفاية إخباره عن العلم المعلّق بأحد الشكلين بدعوى أنّ المعلّق عليه ثابت لدينا فيثبت لنا بذلك تحقّق العلم للكلينيّ، قلنا: إنّ هذا لا يتمّ فيما لو كانت وثاقة الصفّار أو حجّيّة خبر الثقة ثابتة لنا بالاستصحاب؛ لأنّ هذا الاستصحاب لا يثبت لنا علم الكلينيّ بقول الإمام؛ لعدم حجّيّة مثبتات الاُصول(1)، وهذا الاستصحاب لم يكن مجعولاً بشأن الكلينيّ؛ لأنّه إنّما يكون مجعولاً بشأن من له يقين سابق وشكّ لاحق، والمفروض أنّ الكلينيّ قاطع مثلاً بعدم وثاقة صفّار، أو


مشروطاً أو بنحو القضيّة الشرطيّة جائز رغم أنّه هو روح الإخبار المشروط بقول الإمام؛ وذلك لعدم ورود إشكال الحاجة إلى الحكومة.

والواقع: أنّ الوصول إلى هذه النتيجة الغريبة ـ وهي عدم جواز الإخبار بشيء مع جواز ما هو روحه من الإخبار بالعلم به ـ هو ضريبة الإسراف في نفي حكومة دليل الحجّيّة غير الواصل على دليل حرمة القول بغير علم.

والذي ينبغي في المقام هو: أن يكون معنى عدم حكومة دليل الحجّيّة غير الواصل على دليل حرمة القول بغير العلم هو عدم حكومته عليه في تجويز الإخبار المطلق، فلو أخبر بشكل مطلق كان عاصياً رغم ثبوت دليل الحجّيّة في علم الله، لا عدم حكومته عليه في تجويز الإخبار المشروط.

(1) لو قلنا بحجّيّة الاستصحاب التعليقيّ في مثل المقام لأمكن القول بأنّ خبر الكلينيّ لو كان في زمان وثاقة صفّار، أو حجّيّة خبر الثقة لكان الكلينيّ عالماً، والآن كما كان، بل بالنسبة لاستصحاب الوثاقة لسنا بحاجة إلى الاستصحاب التعليقيّ، كما أنّ الأصل ليس مثبتاً، فإنّ ثبوت العلم للكلينيّ أثر شرعيّ لوثاقة الراوي؛ إذ الحكم المجعول في باب خبر الثقة هو العلم والطريقيّة بناءً على مبنى جعل العلم والطريقيّة، وهذا الحكم موضوعه مركّب من الخبر ووثاقة المخبر، فاستصحاب وثاقة المخبر الذي أخبر الكلينيّ يثبت لا محالة علم الكلينيّ من دون ابتلاء بالأصل المثبت، ولا بالاستصحاب التعليقيّ.

465

عدم حجّيّة خبر الثقة. نعم، لو كان عدم قوله بوثاقة صفّار أو حجّيّة خبر الثقة من باب غفلته عن الاستصحاب لم يرد في هذا الفرض هذا الإشكال. لكن يبقى ما قلنا: من أنّ روح الإخبار عن شيء إنّما هو الإخبار عن العلم الفعليّ، أمّا مع شكّ نفس المخبر في علمه فلا يجدي مجرّد الإخبار عن العلم المعلّق بشكل القضيّة الشرطيّة أو الإخبار المشروط؛ لأنّ هذا ليس هو روح الإخبار عن شيء.

 

موقف الأصحاب تجاه المشكلة:

وأمّا المقام الثاني: فقد أفاد المحقّقون ـ قدّس الله أسرارهم ـ عن الإشكال أجوبة ثلاثة:

الجواب الأوّل: أنّه وإن كان دليل الجعل الواحد لا يشمل الأخبار مع الواسطة بحسب الفرض لأنّها تحتاج إلى جعول متعدّدة كي لا يرد ما مضى من الإشكال، لكنّا نقطع بعدم الفرق بين أثر وأثر، فإذا كان خبر الواحد حجّة بالنسبة لسائر الآثار غير أثر الحجّيّة، فنحن نقطع بكونه حجّة بالنسبة لأثر الحجّيّة أيضاً ولو بجعل مستقلّ.

ويرد عليه: أنّه مادام تعدّد الواسطة يوجب ضعف قرينيّة الخبر لا محالة بحساب الاحتمالات فاحتمال الفرق بين الإخبار بلا واسطة والإخبار مع الواسطة موجود، فإذا كان الخبر بلا واسطة فهذا يعني أنّ الوسيط بيننا وبين الإمام ليس عدا شخص واحد، وهذا الخبر قرينة لنا على صدور الحكم من الإمام رغم احتمال مخالفة كلام الوسيط للواقع. أمّا إذا تعدّدت الواسطة فكان هذا المخبر قد أخبرنا بواسطة شخص آخر عن الإمام، فهنا تضعف القرينيّة؛ لأنّ خبر الشخص المباشر لنا يحتفظ بما فيه من درجة احتمال المخالفة للواقع، ويضاف إلى ذلك أنّه على تقدير موافقة كلامه للواقع وصحّة نقله عن ذاك الشخص الآخر يأتي احتمال

466

مخالفة نقل ذاك الشخص الآخر للواقع، فالقيمة الاحتماليّة لموافقة الخبر للواقع قلّت لا محالة. وهذا الكلام يتكرّر كلّما ازدادت الوسائط، ويتناسب الضعف طرديّاً مع كثرة الوسائط، فإذا كان وجود الواسطة في الخبر مؤثّراً في ضعف قيمته فلا محالة يكون احتمال الفرق موجوداً، فحجّيّة الخبر بلا واسطة لا تستلزم حجّيّة الخبر مع الواسطة.

نعم، احتمال الفرق إنّما يرد بلحاظ الأدلّة اللفظيّة بحجّيّة الخبر، أمّا بلحاظ الأدلّة اللبّيّة فلا يوجد احتمال الفرق. ولكن الإشكال من أوّل الأمر لم يكن وارداً بلحاظ الأدلّة اللبّيّة، بل كان مختصّاً بالأدلّة اللفظيّة كما مضى بيانه.

الجواب الثاني: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ متعلّق الحكم هو طبيعة الأثر لا خصوص أثر الحجّيّة كي يلزم اتّحاد الحكم والموضوع. ولا يقصد(رحمه الله)بكون القضيّة طبيعيّة، المعنى الذي يقصد في قولهم: (إنّ الإنسان نوع قضيّة طبيعيّة)، أي: أنّه لم تلحظ فيها جهة انطباقها على الأفراد، فالحكم فيها لا يسري إلى الأفراد، بل يقف على الطبيعة في عالم تباينها مع الأفراد وعدم انطباقها عليها، وهو عالم الذهن مثلاً. وإنّما يقصد(رحمه الله) بكون الحكم على الطبيعة: أنّ الحكم لم ينصب في القضيّة ابتداءً على الأفراد، بل انصبّ على الطبيعة وسرى إلى الأفراد باعتبار انطباقها عليها، فإذا انصبّ الحكم ابتداءً على طبيعة الأثر المغايرة لأفراده ـ وإن كانت تنطبق عليها ـ فهذا كاف في المغايرة التي لابدّ منها بين الموضوع والحكم، فالحجّيّة فرد من أفراد الأثر، وفي نفس الوقت الحجّيّة حكم ولكن ليس موضوع هذا الحكم نفس الحجّيّة كي يلزم اتّحاد الحكم والموضوع، وإنّما موضوعه طبيعيّ الأثر وهو غير الحجّيّة، وهو وإن كان منطبقاً على الحجّيّة، وكان هذا الانطباق موجباً لسريان الحكم إلى هذا الفرد، إلّا أنّ سريان الحكم إلى الأفراد لا يعني جعلاً جديداً للحكم وعروضاً للحكم على الموضوع مرّة ثانية، وإنّما

467

الحكم بحسب عالم الجعل يعرض على موضوعه مرّة واحدة، والملحوظ في عالم الجعل هو طبيعة الأثر المغاير أو المقدّم والمؤخّر. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره).

ويرد عليه: أنّ مصبّ الإشكال ليس هو عالم الجعل، ولا مجال فيه للإشكال سواء فرضناه منصبّاً على طبيعيّ الأثر، أو على الأفراد. وإنّما مصبّ الإشكال هو عالم الفعليّة بافتراض أنّ وحدة الجعل توجب في عالم الفعليّة انطباق هذا الحكم الواحد على نفسه؛ لأنّ فعليّة الحكم بأيّ معنى تفسّر ـ على خلاف في تفسيره بيننا وبين الأصحاب ـ تعني انطباق الحكم بمعنى من معاني الانطباق على فرد الموضوع الذي صار فعليّاً، وقد فرضنا أنّ الجاعل جعل حكماً واحداً، فحينما يصبح هذا الحكم بنفسه فرداً من أفراد الموضوع يلزم اتّحاد الحكم والموضوع، أو المنطبق والمنطبق عليه.

أمّا في عالم الجعل ـ وبغضّ النظر عن مرحلة الفعليّة ـ فلا مجال للإشكال أصلاً بجميع أنحاء صور الجعل. وتوضيح المقصود: أنّ جعل الحكم على شيء يتصوّر على أنحاء ثلاثة:

الأوّل: جعله على الطبيعة كقوله: (أكرم العالم)، وإن شئت فسمّه بالجعل على نحو الإطلاق. وهذا لا يستلزم في المقام مع غضّ النظر عن فعليّة الحكم أيّ إشكال، وذلك لما قاله المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّ طبيعيّ الموضوع غير فرد الموضوع، إذن لم يلزم اتّحاد الحكم والموضوع.

والثاني: جعله على الأفراد، لكن لا بمعنى جعله على نفس الأفراد، بل بمعنى جعله على عنوان الأفراد، أعني: العنوان الذي يطلق على الأفراد بما هي متكثّرة، ويلحظ به الأفراد بعنوان وحدانيّ كعنوان (كلّ عالم) في قولنا: (أكرم كلّ عالم)، وهذا العنوان يفترق عن العنوان السابق، فإنّ العنوان السابق لم تكن تلحظ فيه

468

جهة تكثّر الأفراد، وإنّما كانت تلحظ فيه الجهة المشتركة بعد تجريدها عن الخصوصيّات الفرديّة بخلاف هذا العنوان، ولذا ترى أنّ هذا العنوان يطلق على المتكثّر بما هو متكثّر بخلاف العنوان السابق فيقال: (هؤلاء كلّ العلماء)، ولا يقال: (هؤلاء العالم)، وإن شئت فسمّ هذا الجعل بالجعل على نحو العموم. وهذا أيضاً ليس في المقام مصبّاً للإشكال إذا غضّ النظر عن عالم الفعليّة؛ لأنّ الموضوع ـ وهو العنوان العامّ الملحوظ فيه جهة الكثرة ـ مغاير على أيّ حال للمعنونات الخاصّة الفرديّة تغاير كلّ عنوان لمعنونه، فإذا انطبق على نفس الحكم فهذا لا يعني اتّحاد الحكم والموضوع.

والثالث: جعل الحكم على نفس الأفراد بلا توسيط أيّ واحد من العنوانين كجعله على زيد وعمرو وبكر ... وغيرهم من الأفراد. وهذا الطرز من الجعل يساوق لا محالة تعدّد الجعل، ومع فرض تعدّد الجعل لا مجال لتوهّم الإشكال في المقام.

وإنّما الإشكال يكون بحسب عالم الفعليّة، فيقال: إنّ هذا الجعل الواحد ينطبق لا محالة بحسب عالم الفعليّة على الأفراد، ومن تلك الأفراد نفس الحجّيّة، فلزم اتّحاد الحكم والموضوع، والمنطبق والمنطبق عليه بأيّ نحو فسّرنا هذا الانطباق وهذه الفعليّة على الخلاف الموجود بيننا وبينهم في تفسير ذلك.

ويمكن ذكر الإشكال بتقريب آخر، وهو: أنّه لو سلّمنا إمكان عروض الشيء على نفسه نقول في خصوص باب الحجّيّة: إنّ هذا محال لاستلزامه اللغويّة؛ إذ الحجّيّة بنفسها لا مساس لها بالعمل ولذا تحتاج إلى متعلّق يمسّ العمل كأن يقال: إنّ الحكم الفلانيّ الذي يمسّ العمل ثبت بحجّيّة خبر الثقة. أمّا لو فرض أنّ الشيء الذي يثبت بالحجّيّة هو نفس الحجّيّة بأن عرضت على نفسها ـ لو أمكن عروض الشيء على نفسه ـ فهذا لغو؛ إذ لا تتحقّق بذلك الصلة بالعمل؛ إذ المفروض أنّ