252

العلم الإجماليّ(1).

هذا تمام الكلام في دلالة الحديث.

وأمّا سنده فجميع رواته موثّقون مشهود بوثاقتهم في كتب الشيخ والنجاشيّما عدا عبد الأعلى بن أعين، فإنّه غير مشهود بوثاقته في كتبهما، إلاّ أنّه مشهود بوثاقته وجلالته وعظم شأنه في كلام الشيخ المفيد(قدس سره)(2).

وما قد يناقش به في توثيق الشيخ المفيد وغيره من الفقهاء إذا كان في غير كتب الرجال من عدم حمله على الشهادة عن الحسّ لا يأتي في المقام؛ لأنّ شهادة الشيخ المفيد بشأن هذا الرجل شهادة مفصّلة وموضّحة لكونه من أولئك الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم، وأنّه من الأعلام الذين لا يرتاب في فقههم وعلمهم، وشهادة من هذا القبيل لا يستبعد حملها على الشهادة عن الحسّ(3).

 


(1) حتّى لو فرض حمل قوله: (لم يعرف شيئاً) على الإطلاق البدليّ؛ وذلك لأنّ العلم الإجماليّ وإن كان بالدقّة الفلسفيّة معرفة بالجامع دون الخصوصيّات، لكنّه بحسب الفهم العرفيّ يعتبر معرفة بالواقع على سبيل الإجمال.

(2) حيث ذكر عنه في الرسالة العدديّة: (هو من فقهاء أصحاب الصادقين(عليهما السلام)والأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، والذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم، وهم أصحاب الاُصول المدوّنة والمصنّفات المشهورة).

(3) على أنّ أصل المناقشة كبرويّاً غير صحيحة وتوضيح ذلك:

إنّه إن قصد بالمناقشة الإشكال في الاعتماد على شهادة علمائنا المتأخّرين باعتبار عدم احتمال كونها شهادة عن حسّ، فيكون معنى جواب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في خصوص المقام هو أنّ شخصاً يفترض من الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا

253


والأحكام... يحتمل في شهادة طبقة من المتأخّرين أيضاً بشأنهم كونها شهادة قرينة من الحسّ كما هو الحال في شهادة المتقدّمين؛ إذ كلّما عظم مقام شخص مّا في المجتمع واشتهر وذاع أكثر كانت المدّة التي يمكن للآخرين فيها الشهادة القريبة من الحسّ بشأنه أطول.

ولكنّك ترى أنّ هذا الإشكال بشأن شهادة الشيخ المفيد بالوثاقة غير صحيح في نفسه حتّى في غير مثل المورد، فإنّ الشيخ المفيد ليس من المتأخّرين بل هو أقدم من الشيخ الطوسيّ والنجاشيّ اللذين يعتمد على شهادتهما بوثاقة الرواة، وقد كانت حياته في أوائل عصر الغيبة الكبرى.

وإن قصد بالمناقشة أنّ الشهادة بالوثاقة إذا كانت في الكتب الرجاليّة تحمل على الحسّ، وأمّا إذا كانت في كتب اُخرى فلا، لعدم ظهور لها في الحسّ في تلك الكتب الاُخرى، وأصالة الحسّ إنّما تتّبع كشعبة من أصالة الظهور وليست أصلاً عقلائيّاً مستقلاًّ برأسه؛ لأنّ الاُصول العقلائيّة ليست تعبّديّة، وإنّما هي قائمة على أساس الكشف، فيكون الجواب في خصوص المورد: أنّ هذه الشهادة المفصّلة من الشيخ المفيد لا يحتمل فيها غير الحسّ، ولكن هنا أيضاً يكون أصل النقاش الكبروي في غير محلّه؛ وذلك لأنّه إن قصد به أنّ للكتب الرجاليّة خصوصيّة توجب ظهور الشهادة على الوثاقة فيها في الحسّ؛ لأنّ أصحاب كتب الرجال كانوا بهذا الصدد، وهذا بخلاف غيرها من الكتب، فمن الواضح أنّه لا خصوصيّة في الكتب الرجاليّة بهذا الشأن، وإنّما تنشأ أصالة الحسّ من ظهور خبر المخبر بشكل عامّ في إرادة الشهادة الحسّيّة من دون فرق بين كتب الرجال وغيرها.

وإن قصد به أنّ للكتب الفقهيّة خصوصيّة تمنع عن انعقاد الظهور في إرادة الحسّ في

254


الشهادة على الوثاقة؛ لأنّ الكتب الفقهيّة مبنيّة على استنباط الفتاوى واستخراجها بالحدس والاجتهاد، ومن الواضح أنّ الاجتهاد كما قد يعمل في تشخيص دلالة الحديث مثلاً على المدّعى، أو في كيفيّة الجمع والتعادل والترجيح ونحو ذلك، كذلك قد يعمل في تشخيص صحّة السند ووثاقة الراوي وعدم وثاقته، فكلّ هذا دخيل في الفتوى المستنبطة.

أقول: إن قصد بالنقاش في المقام هذا المعنى ورد عليه:

أوّلاً: أنّ شهادة الشيخ المفيد بوثاقة هذا الرجل وإن لم ترد في كتاب رجالي، ولكنّها لم ترد أيضاً في كتاب فقهيّ مبنيّ على الاستنباط والاجتهاد، وإنّما وردت في رسالته العدديّة، وقد عرفت أنّه لا خصوصيّة للكتب الرجاليّة في جريان أصالة الحسّ، وإن كانت خصوصيّة في المقام، فإنّما هي خصوصيّة للكتب الفقهيّة تمنع عن الأخذ بأصالة الحسّ فيما ورد فيها من الشهادة بالوثاقة، والرسالة العدديّة ليست كتاباً من هذا القبيل.

وثانياً: أنّ هذا النقاش غير صحيح حتّى بالنسبة للكتب الفقهيّة؛ وذلك لأنّ الفتوى وإن كانت قائمة على الحدس والاستنباط وقد يكون أحد مناشئ الحدس والاستنباط فيه إثبات وثاقة الراوي بالحدس، ولكن إذا صرّح بالإخبار بالوثاقة من دون تصريح بكون ذلك حدسيّاً كما يصرّح بالاستنباط الدلاليّ والعلاجيّ مثلاً، فهذا الإخبار ظاهره ـ لا محالة ـ هو الحسّ، وإذا كان الكتاب كتاب فتوىً فقط من دون ذكر الاستنباطات، فالقرينة الارتكازيّة على حدسيّة الفتوى واضحة، ولكن لو صرّح صدفةً في الأثناء بوثاقة راو من رواة الحديث الذي قام إفتاؤه على أساسه لا نكتة في إبطال ظهور هذا التصريح في الحسّ.

255

الحديث الثالث: ما في توحيد الصدوق، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمّد الإصبهانيّ، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن حفص بن غياث النخعيّ القاضي قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): «مَن عمل بما علم كُفي ما لم يعلم»(1).

وهذه الرواية أحسن الروايات دلالة، فمن لم يعلم بحرمة شرب التتن مثلاً، ولا بوجوب الاحتياط، واجتنب باقي المحرمات المعلومة له كُفي من ناحية حرمة شرب التتن، بخلاف ما لو وصله وجوب الاحتياط ومع ذلك ارتكبه، فإنّه عندئذ لم يعمل بما علم؛ إذ من جملة ما علمه هو وجوب الاحتياط ولم يعمل به.

والظاهر من الحديث أنّ المقصود هو أنّ الله ـ تعالى ـ يكتفي من عبده بالعمل بما علمه، وأنّه لا تبعة عليه من ناحية ما لا يعلمه، لا بيان أنّ كفاية ما لم يعلم متفرّعة على العمل بما علم، بحيث لو أتى ببعض المحرمّات لم يُكفَ المحرّم الآخر الذي لا يعلمه ولا يعلم إيجاب الاحتياط بشأنه.

 


نعم، في الكتب الفقهيّة المتأخّرة تعارف توثيق وتضعيف الأسانيد بالحدس والاستنباط من دون تعرّض في كثير من الأحيان إلى مدارك هذا الحدس والاستنباط، فيقال مثلاً: صحيحة فلان، أو موثّقة فلان، أو رواية فلان من دون ذكر نكتة الصحّة والوثوق والضعف، ولكن كُتُب المتأخّرين خارجة أساساً من هذا البحث؛ لعدم احتمال الحسّ عادةً في شهادتهم على الوثاقة.

(1) وقد رواها المجلسيّ(رحمه الله) في البحار، ج 2 بحسب الطبعة الجديدة باب ما يمكن أن يستنبط من الآيات والأخبار من متفرّقات مسائل اُصول الفقه، ح 49، ص 280 و 281 نقلاً عن كتاب التوحيد.

256

وإدخال حكم العقل بأصالة الاحتياط فيما قصد به من عنوان (ما علم) في هذا الحديث أيضاً خلاف المتفاهم العرفيّ.

وهذا الحديث أيضاً لا يشمل الشبهة الموضوعيّة(1)، ولا الخصوصيّة في أطراف العلم الإجماليّ(2).

هذا تمام الكلام من حيث دلالة الحديث.

وأمّا من حيث السند، ففيه قاسم بن محمّد الإصبهانيّ المعروف بـ (كاسولا) ولم يثبت توثيقه، بل ضعّف في بعض الكتب.

الحديث الرابع: ما عن عبد الصمد بن بشير، قال: جاء رجل يلبّي حتّى دخل المسجد وهو يلبّي وعليه قميصه، فوثب إليه ناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا: شقّ قميصك وأخرجه من رجليك، فإنّ عليك بدنة وعليك الحجّ من قابل، وحجّك فاسد، فطلع أبو عبد الله(عليه السلام)على باب المسجد فكبّر واستقبل القبلة، فدنا الرجل من أبي عبد الله(عليه السلام)وهو ينتف شعره ويضرب وجهه، فقال له أبو عبد الله(عليه السلام): اسكن يا عبد الله، فلمّا كلّمه وكان الرجل أعجميّاً فقال أبو عبد الله(عليه السلام): ما تقول؟ قال: كنت رجلاً أعمل بيدي واجتمعت لي نفقة فحيث أحجّ لم أسأل أحداً عن شيء، وأفتوني هؤلاء أن أشقّ قميصي وأنزعه من قبل رجلي، وأنّ حجّي فاسد، وأنّ عليّ بدنة، فقال له: «متى لبست قميصك، أبعد ما لبّيت أم قبل؟» قال: قبل أن



(1) لأنّ من خالف الحكم الذي علم به لأجل الشكّ في الموضوع وكان الموضوع ثابتاً في الواقع، فقد ترك ما علمه من الحكم، فلا يدلّ الحديث على كونه مكفيّاً عنه. وظاهر الحديث، أو متيقّنه هو كفاية ما لم يعلمه حتّى بهذا المستوى.

(2) لما عرفت من أنّ العلم الإجماليّ يعتبر عرفاً علماً بالواقع على سبيل الإجمال، لا علماً بالجامع دون الواقع.

257

اُلبّي، قال: «فأخرجه من رأسك، فإنّه ليس عليك بدنة، وليس عليك الحجّ من قابل، أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه، طف بالبيت سبعاً، وصلّ ركعتين عند مقام إبراهيم(عليه السلام)، واسع بين الصفا والمروة، وقصّر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل، وأهلّ بالحجّ، واصنع كما يصنع الناس»(1).

وهذا الحديث من حيث السند معتبر. وأمّا من حيث الدلالة، فلو كنّا نحن والجملة المقصودة فحسب، أعني: قوله: «أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه» لكانت دلالتها على البراءة المساوقة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان تامّة، وتقريب ذلك يتأ لّف من عدّة مقدّمات:

الاُولى: أنّ الجهالة في الحديث كما تشمل فرض الغفلة عن الحرمة نهائيّاً كذلك تشمل بإطلاقها فرض الشكّ في الحرمة والتردّد فيها، والثاني هو مصبّ بحثنا في المقام، إذن فالحديث يشمل مصبّ البحث بالإطلاق.

الثانية: أنّ المقصود بقوله: «فلا شيء عليه» ليس هو عدم ثبوت شيء عليه في مقام الوظيفة العمليّة؛ إذ قد فرض ركوب الأمر بجهالة، فهو ينظر إلى المرحلة المتأخّرة عن العمل وهي التبعة، فالحديث يدلّ على نفي التبعة ويشمل بإطلاقه التبعة الدنيويّة، كالكفارة والإعادة، والتبعة الاُخرويّة من العقاب الذي هو المقصود نفيه في بحثنا.

الثالثة: أنّ المستفاد من قوله: «ركب أمراً بجهالة» هو فرض كون الجهالة سبباً لركوب الأمر؛ وذلك لمكان باء السببيّة، وسببيّة الجهالة التصديقيّة ـ أعني: الشكّ والتردّد لركوب الأمر ـ تكون لأحد وجهين:

الأوّل: مركوزيّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الأذهان ولو بلحاظ الموالي العرفيّة.



(1) الوسائل، ج 9، ب 45 من تروك الإحرام، ح 3، ص 126.

258

والثاني: أنّ محرّكيّة العلم للامتثال أشدّ وأقوى من محرّكيّة الاحتمال للامتثال،ومحرّكيّة الاحتمال أضعف درجةً من محرّكيّة العلم، فمن لا تكفيه تلك الدرجة من المحرّكيّة تكون الجهالة سبباً لركوب الأمر من باب مساوقتها لفقدان الدرجة الأعلى من التحريك.

وشيء من هذين الوجهين لا يأتيان في فرض وصول إيجاب الاحتياط. أمّا الأوّل فواضح؛ إذ لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان مع العلم بإيجاب الاحتياط. وأمّا الثاني، فلأنّه إن كان هناك فرق بحسب التفكير الاُصوليّ بين العلم بالخطاب الواقعيّ والعلم بالخطاب الظاهريّ في المحرّكيّة فلا فرق بينهما من هذه الناحية بحسب التفكير العرفيّ، فمن لم يعلم بالخطاب الواقعيّ بترك شرب التتن وعلم بالخطاب الظاهريّ بتركه ومع ذلك خالف الخطاب وركب شربه لا يقال عنه: إنّه ركب أمراً بجهالة، بل يقال عنه: إنّه ركبه بعصيانه وتمرّده، وبهذا ظهر أنّ الموضوع لنفي الشيء عليه الشامل للعقاب الاُخرويّ في هذا الحديث هو الجهل بالحكم مع عدم وصول إيجاب الاحتياط.

والحديث مطلق يشمل الشبهة الحكميّة والموضوعيّة. ولكن لا يمكن أن تُنفى به الخصوصيّة في أطراف العلم الإجماليّ.

هذا كلّه لوكنّا نحن وهذه الجملة.

وأمّا بالنظر إلى مورد الحديث فإن فرض هذا الشخص قاصراً وغير ملتفت أمكن تطبيق تلك القاعدة الكلّيّة ـ أعني: نفي الشيء عن الجاهل بالمعنى الدالّ على ما يساوق في الرتبة البراءة العقليّة ـ على المورد، وقلنا: إنّ هذه القاعدة تشمل الجهل بالموضوع والجهل بالحكم سواء كان قبل الفحص أو بعد الفحص، غاية الأمر أنّه خرج منه الجهل التقصيريّ من الشبهة الحكميّة قبل الفحص بحكم ما دلّ على عدم معذوريّة الجاهل في هذا الفرض، وعدم صحّة اعتذاره بعدم العلم.

259

ولكن من المستبعد جدّاً في مورد الحديث قصور هذا الشخص، فإنّه وإن لم يكن عارفاً باللسان لكنّه كان يعيش مع المسلمين، وقد كان بلغ في سنّه إلى حدّ استطاع للحجّ تدريجاً بكسبه، فلا أقلّ من الالتفات الإجماليّ إلى أحكام الحجّ وإن لم يلتفت تفصيلاً إلى كلّ واحد منها، بل الظاهر أنّه جاء مع الحجّاج إلى المسجد فقد رأى الحجّاج في الميقات نزعوا قميصهم ولبسوا ثياب الإحرام وكانوا بهذا الزي معه إلى المسجد، فبكلمة مختصرة: أنّنا نطمئن بأنّ هذا الشخص كان مقصّراً والشبهة شبهة حكميّة قبل الفحص، وصاحبها يستحقّ العقاب على المخالفة جزماً، فإن فرضنا أنّ قوله: «لا شيء عليه» شامل للعقاب الاُخرويّ لزم كون المورد خارجاً عن إطلاق الوارد، ولا يحتمل عقلائيّاً أنّ هذا الشخص لم يكن يعلم أنّ مشرّع هذه الشريعة بما له من الاهتمام بشريعته لا يرضى بترك السؤال عن أحكام شريعته وفوت أغراضه بهذا السبب، ومن هنا يشكل الأمر من حيث إنّه هل خروج المورد عن إطلاق الوارد يكون من قبيل خروج المورد عن أصل الكلام الذي لا يساعد عليه العرف، بحيث لو ورد ما يخصّص المورد يجعل معارضاً للعام رأساً أو لا؟

هذا تمام الكلام في أدلّة البراءة.

261

 

 

 

 

 

 

 

أدلّة الاحتياط

وننتقل بعد هذا إلى أدلّة الاحتياط، ويقع الكلام في ذلك في مقامين:

أحدهما: في الاحتياط بحكم العقل.

والثاني: في الاحتياط عن طريق النقل.

 

الاحتياط العقليّ

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر لإثبات الاحتياط عن طريق العقل وجهان:

 

أصالة الحظر:

الوجه الأوّل: ما ذكر في كلمات المتقدّمين بشكل مشوّش، وذكر في كلمات المتأخّرين كالشيخ الطوسيّ(قدس سره) باسم أصالة الحظر فيما لا يعلم جوازه.

والمظنون أنّ مقصودهم بذلك كان هو ما ذكرناه من أنّ حقّ المولويّة لا يختصّ بالتكاليف المعلومة، بل يشمل كلّ تكليف محتمل ما لم يعلم بعدم اهتمام المولى به في مورد الشكّ وإن عبّر عن ذلك بتعبيرات مشوّشة وفقاً لمستوى اللغة العلميّة وقتئذ.

والشيخ الطوسيّ(رحمه الله) أنكر أصالة الحظر وقال بأصالة الوقف، وبالنتيجة التزم في

262

مقام العمل بالاحتياط والحظر. وقال: إنّما نخرج عن هذا الاحتياط بسببالترخيصات الواردة عنهم(عليهم السلام).

والظاهر أنّ هذا مجرّد خلاف لفظيّ بين الشيخ الطوسيّ ومن قال بأصالة الحظر، نشأ من الخلط بين مقام الفتوى ومقام العمل، فكلاهما معترفان بأنّ الوظيفة العمليّة هي الحظر، وبأنّ الحكم الإلهيّ غير معلوم، فلا يمكن الإفتاء به.

هذا. ويظهر من قوله بالخروج عن الاحتياط بما ورد عنهم(عليهم السلام) من الترخيص: أنّه لولا الترخيص الوارد من الشارع لكان يقول بأصالة الاحتياط، وهذا يشهد لما قلناه من أنّ المقصود هو ما ادّعيناه من كون القاعدة العقليّة الأوّليّة هي الاحتياط، وأنّ من حقّ المولى ـ تعالى ـ الطاعة حتّى في تكاليفه الاحتماليّة ما لم يعلم برضاه بالمخالفة.

وعلى أيّة حال، فهذا الوجه لبيان الاحتياط العقليّ وإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أنّه لا يقاوم الأدلّة التي أقمناها على البراءة بكلا المستويين؛ لأنّ موضوع الحكم العقليّ بالاحتياط هو التكليف المحتمل الذي لم يعلم عدم اهتمام الشارع به في ظرف الشكّ بوصول الترخيص بأحد المستويين، فيرتفع موضوعه بدليل البراءة، ولو دلّ على البراءة في مستوى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

 

العلم الإجماليّ بالأحكام:

الوجه الثاني: العلم الإجماليّ بوجود أحكام إلزاميّة في الشريعة الإسلاميّة، وهو يمنع عن الرجوع إلى البراءة و يوجب الاحتياط.

وقد اُجيب على ذلك بجوابين أساسيّين:

 

انحلال العلم الكبير بالعلم الصغير:

الجواب الأوّل: دعوى انحلال العلم الإجماليّ في جميع الشبهات بعلم أصغر في دائرة الأمارات المعتبرة الإلزاميّة مشتمل على مقدار المعلوم بالإجمال في

263

العلم الإجماليّ الكبير.

وفي تحقيق هذا الجواب يقع الكلام تارةً في كبرى انحلال العلم الإجماليّ، واُخرى في تنقيح كون ما نحن فيه صغرى من صغرياته وعدمه.

والبحث الكبرويّ موضعه الفنّيّ هو مبحث العلم الإجماليّ، إلاّ أنّ جملة من المحقّقين كالمحقّق العراقيّ(قدس سره)وغيره تعرّضوا لبحث هذه الكبرى هنا، ولعلّه بلحاظ حاجة البحث في المقام عن إبطال دليل الاحتياط الذي قد يتمسّك به الأخباريّ إلى المعرفة بصورة مسبقة بكبرى الانحلال.

وعلى أيّة حال، فلابدّ من بحث هذه الكبرى في مورد مّا، فليبحث عنها هنا كي يصبح البحث مع الأخباريّين واضح الجهات والخصوصيّات، وفي بحث العلم الإجماليّ يحوّل على هذا المقام، إذن فنعقد هنا مبحثين:

 

أ ـ كبرى انحلال العلم الإجماليّ:

المبحث الأوّل: في كبرى الانحلال، والكلام فيه يقع في جهتين:

الاُولى: في الانحلال الحقيقيّ.

والثانية: في الانحلال الحكميّ.

 

الانحلال الحقيقيّ:

أمّا الجهة الاُولى: وهي في البحث عن الانحلال الحقيقيّ، فنقول: إنّ هناك صورتين خارجتين عن محلّ النزاع:

الاُولى: ما لو اُخذت في المعلوم بالإجمال خصوصيّة زائدة لم تؤخذ في المعلوم بالتفصيل، فيحتمل ـ لا محالة ـ عدم انطباقه عليه، كما لو علمنا إجمالاً بموت أحد شخصين بالكهرباء، وعلمنا تفصيلاً بموت واحد منهما على التعيين،

264

ففي هذا الفرض لا إشكال في عدم الانحلال.

وأوضح من هذا ما لو كان كلّ منهما مقيّداً بخصوصيّة مباينة لخصوصيّة الآخر.

والثانية: ما إذا فرض أنّ العلم التفصيليّ كان في مقام تعيين المعلوم بالإجمال، كما لو علمنا بالإجمال بموت ابن زيد وكان ابنه مردّداً بين شخصين، ثمّ عرفنا بالتفصيل من هو ابن زيد، ففي هذا الفرض لا إشكال في الانحلال.

فالكلام إنّما هو في مثل ما لو فرضنا مثلاً العلم الإجماليّ بموت أحد الشخصين من دون أخذ مثل خصوصيّة الكهرباء التي لم تؤخذ في المعلوم بالتفصيل، وعلمنا تفصيلاً بموت واحد معيّن منهما من دون أن يكون العلم التفصيليّ ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، وكذلك لو فرضنا العلم الإجماليّ باحتراق أحد الكتابين، وعلمنا تفصيلاً باحتراق واحد معيّن منهما، وما إلى ذلك من الأمثلة.

وهذا الباب هو أحد موارد الخلاف الشديد بين مدرسة المحقّق العراقيّ(قدس سره)ومدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، حيث بنت مدرسة المحقّق النائينيّ على الانحلال بخلاف مدرسة المحقّق العراقيّ.

وحاصل ما يقال في مقام تقريب انحلال العلم الإجماليّ ـ مضافاً إلى دعوى الوجدان ـ أحد وجوه:

الوجه الأوّل: قياس ما نحن فيه بباب الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين وجعله من صغريات ذلك الباب، فكما لا إشكال في أنّه لو علمنا بفوت صيام اليوم الأوّل من رمضان مثلاً، واحتملنا فوت اليوم الثاني أيضاً وعدمه، فالعلم الإجماليّ بوجوب القضاء المردّد بين الأقلّ والأكثر منحلّ ـ لا محالة ـ إلى العلم التفصيليّ باليوم الأوّل، والشكّ البدويّ في اليوم الثاني، ولا يوجد لنا في الحقيقة علم إجماليّ

265

بالتكليف، كذلك الأمر فيما نحن فيه، فإنّ الأمر دائر بين الأقلّ وهو احتراق كتاب الهندسة مثلاً، والأكثر وهو احتراق كتاب التأريخ مثلاً معه، وهذا من صغريات دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، ولا إشكال ـ لدى دوران الأمر بينهما ـ في أنّ الأقلّ معلوم تفصيلاً، والأكثر مشكوك بدواً(1).

ويرد عليه: أنّ هذا قياس مع الفارق؛ إذ فيما نحن فيه يوجد ـ لا محالة ـ وراء العلم التفصيليّ علم آخر ولو مستتراً وتقديريّاً، ويقع الكلام في أنّه هل هو منحلّ وغير موجود بالفعل أو لا؟

ولم يكن الأمر كذلك في باب دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، و الدليل على ذلك ما تراه من أنّه لو زال علمنا باحتراق كتاب الهندسة لم يزل أصل العلم باحتراق أحد الكتابين، بخلاف باب الأقلّ والأكثر؛ إذ لو زال علمنا بفوات صوم اليوم الأوّل لم يكن لدينا علم بفوات صوم يوم من الأيّام أصلاً.



(1) راجع نهاية الأفكار تقرير بحث المحقّق العراقيّ(رحمه الله) القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250، وقد أجاب عليه في نهاية الأفكار بأنّ الإجمال في باب الأقلّ والأكثر إنّما هو في الحدّ، لا في أصل التكليف، بدليل عدم صدق قضيّة تعليقيّة تقول: لو كان الواجب هو الأكثر لكان الأقلّ غير واجب في حين أنّه تصدق القضيّة التعليقيّة من الطرفين في الدوران بين المتباينين حتّى بعد تحقّق العلم التفصيليّ، أقول: صحيح أنّ في موارد العلم الإجماليّ بين المتباينين إذا كان للمعلوم بالإجمال تعيّن واقعيّ صدق نفي وجوده في أحد الطرفين على تقدير وجوده في الطرف الآخر، بينما هذا غير صادق بلحاظ ذات التكليف في الأقلّ والأكثر، فهذه آية انتفاء العلم الإجماليّ في الأقلّ والأكثر بخلاف المقام، إلاّ أنّ الذي يقول بالانحلال لا يعترف بصدق هذه القضيّة التعليقيّة بعد تحقّق العلم التفصيليّ، فالأولى في الجواب ما ذكرناه في المتن عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

266

الوجه الثاني:(1) ما يتحصّل من كلمات مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وتوضيحه يكون بذكر أمرين:

أحدهما: بيان أركان العلم الإجماليّ.

والثاني: بيان فقدان بعضها لدى تكوّن العلم التفصيليّ في بعض الأطراف.

أمّا الأمر الأوّل: فالعلم الإجماليّ له ركنان أساسان:

الأوّل: أنّ العلم فيه متعلّق بالجامع وبذلك يمتاز عن العلم التفصيليّ المتعلّق بالفرد.

الثاني: احتمالات انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ واحد من أطراف العلم الإجماليّ(2)، وبذلك يمتاز عن العلم بالجامع الموجود في ضمن العلم بالفرد في العلم التفصيليّ.

ومرجع هذين الركنين بعد التعميق إلى أمر واحد، وهو أنّ العلم الإجماليّ علم بالجامع بحدّه الجامعيّ ـ أي: بشرط لا ـ عن السريان إلى حدّ أخصّ، وهذا بخلاف العلم بالجامع الموجود في ضمن العلم بالفرد، فهو علم بالجامع لكن لا بحدّه الجامعيّ. وهذا ـ أعني: كون العلم واقفاً على الجامع بحدّه الجامعيّ ـ يستلزم ما ذكر من احتمالات الانطباق، وكون العلم علماً بالجامع بحدّه الجامعيّ بما هو حدّ



(1) لم أره فيما يحضرني من الكتب.

(2) ورد في تقريري بحث المحقّق النائينيّ(1)(رحمه الله): أنّ العلم الإجماليّ بالجامع مشوب بالجهل في الأطراف فتكون هناك قضيّة معلومة وقضايا مشكوكة بعدد الأطراف، ولم أرَ فيها ما يدلّ على ذكر ذلك كبرهان على الانحلال فيما نحن فيه.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 237 و 238، وفوائد الاُصول، ج 4، ص 4.

267

يساوق ما قلناه من عدم السريان إلى حدّ أخصّ، فإنّ الحدّ بما هو حدّ لا يكونمحفوظاً في ضمن حدّ أخصّ، وإلاّ للزم أن يكون الفرد قابلاً للانطباق على كثيرين، ومن هنا يظهر أنّ المطابق الخارجيّ للعلم الإجماليّ إنّما هو مطابق للمعلوم بالذات القائم في اُفق النفس ذاتاً وليس مطابقاً له حدّاً، بخلافه في العلم التفصيليّ، فإنّ المطابق الخارجيّ فيه مطابق للمعلوم بالذات ذاتاً وحدّاً.

والحاصل: أنّ معروض العلم الإجماليّ كمعروض الكلّيّة، إنّما هو الجامع بحدّه، وكما يستحيل سريان الكلّيّة إلى الفرد كذلك يستحيل سريان العلم إليه، غاية الفرق بين الكلّيّة والعلم، هي أنّ الكلّيّة تعرض للحدّ الجامعيّ بما هو حدّ ذهنيّ قائم في الذهن. وأمّا العلم فيعرض للحدّ الجامعيّ بما هو مرآة للخارج، وبما أنّه يُرى به بالنظر التصوّري الخارج، ولهذا لا توصف الاُمور الخارجيّة بالكلّيّة وتوصف بالعلم.

وأمّا الأمر الثاني: فهو أنّنا لو علمنا باحتراق أحد الكتابين كتاب الهندسة وكتاب التأريخ مثلاً، ثمّ علمنا تفصيلاً باحتراق كتاب الهندسة فقد انهدم بذلك الركن الثاني من ركني العلم الإجماليّ؛ إذ بتعلّق العلم تفصيلاً بأحد الأطراف قد زاد المنكشف، فلا محالة يزيد الانكشاف، فإنّ الانكشاف إنّما توقّف على الجامع لنقص المنكشف وقد زال النقص فقد سرى العلم من ذاك الحدّ إلى الحدّ الشخصيّ، فلم يكن علماً بالجامع بحدّه الجامعيّ ولا مقترناً باحتمالات الانطباق على الأطراف، إذن فقد انحلّ العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ باحتراق كتاب الهندسة مثلاً، وشكّ بدويّ في احتراق كتاب التأريخ.

أقول: إنّ هذا الجامع الذي لا يبدو في بادئ النظر مقيّداً بقيد يحتمل عدم انطباقه على هذا الفرد إن كان حاله ـ بحسب الدقّة العقليّة ـ كذلك، أي: لم يكن حقيقة مقيّداً بقيد يحتمل عدم انطباقه على هذا الفرد، فلا محالة يتحقّق الانحلال بالبرهان الذي عرفت، والشأن في مقام مصير هذا الوجه هو تحقيق هذه النكتة،

268

وهي أنّه هل يكون هذا الجامع مقيّداً بما يحتمل عدم انطباقه على هذا الفرد، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ بهذا الوجه؛ لعدم العلم بانطباق الجامع المعلوم على ما علم به تفصيلاً، أو لا يكون كذلك، فيكون العلم الإجماليّ منحلاًّ؟ وهذه هي النكتة التي حاموا حولها ولم يدخلوا في تحقيقها، وكأنّهم اكتفوا فيها بالارتكاز والوجدان.

الوجه الثالث: أنّه لولا انحلال العلم الإجماليّ بعد تعلّق العلم التفصيليّ بأحد الفردين للزم اجتماع المثلين؛ إذ العلم الإجماليّ بعد العلم بانطباق الجامع على هذا الفرد قد سرى إلى هذا الفرد وهو معروض لعلم تفصيليّ، فقد أصبح معروضاً لعلمين وهو محال(1).

ولكن لا يخفى أنّ هذا الوجه لا يرجع إلى محصّل، فإنّه إن سلّمنا بسريان العلم من الجامع إلى الفرد فهو مساوق لانحلال العلم الإجماليّ وانتفاء الإجمال، فقد ثبت المقصود بقطع النظر عن إشكال اجتماع المثلين، وإن لم نقبل بالسريان لم يلزم اجتماع المثلين؛ لأنّ أحد العلمين واقف على الجامع بحدّه الجامعيّ، والعلم الآخر ثابت على الفرد.

والإشكال بأنّ الجامع بحدّه الجامعيّ غير موجود في الخارج فما معنى وقوف العلم عليه؟ مدفوع بأنّ الجامع بحدّه الجامعيّ قابل للوجود في عالم النفس وإن لم يكن قابلاً للوجود في عالم الخارج، والعلم الإجماليّ ـ ككلّ علم ـ يكون معروضه بالذات الصورة القائمة في عالم النفس، وما في الخارج يكون معروضاً له ومنكشفاً به بالعرض.

على أنّ هذا الوجه بقطع النظر عن الإشكال الذي شرحناه يكون تحقيقه مرتبطاً بتحقيق تلك النكتة، وهي أنّه هل يكون المعلوم بالإجمال محدوداً بحدّ يحتمل



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250.

269

عدم انطباقه على المعلوم بالتفصيل أو لا؟ فإن كان كذلك لم يحصل الانحلال ولم يلزم من تواجد العلمين اجتماع المثلين على شيء واحد، والخصم معترف بأنّه لو كان العلم الإجماليّ متعلّقاً باحتراق أحد الكتابين بالكهرباء مثلاً، والعلم التفصيليّ متعلّقاً باحتراق كتاب الهندسة من دون علم بسبب احتراقه لم ينحلّ العلم الإجماليّ، فبأيّ وجه أجاب عن إشكال اجتماع المثلين هناك أجبنا به هنا، وإن لم يكن كذلك، أي: لم يكن محدوداً بحدّ محتمل الإباء عن الانطباق توجّه مثلاً القول بالانحلال؛ للزوم اجتماع المثلين بالسريان.

الوجه الرابع: هو أنّ لازم العلم الإجماليّ هو التردّد في النفس، وصحّة تشكيل القضيّة المنفصلة بأن يقال مثلاً: إمّا أن احترق كتاب الهندسة، أو احترق كتاب التأريخ، ومن المعلوم أنّ هذا التردّد النفسيّ قد انتفى، فلا يصحّ أن يقال: إمّا أن احترق هذا، أو احترق ذاك، بل قد احترق هذا جزماً، والثاني مشكوك بدواً، ولا تردّد بينهما في عالم النفس.

ولكن هذا أيضاً تحقيقه يرجع إلى تنقيح تلك النكتة من أنّه هل يكون المعلوم بالإجمال محدّداً بحدّ قابل للإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل أو لا؟ فإن لم يكن كذلك فقد انحلّ العلم الإجماليّ، ونعترف بالانحلال بلا حاجة إلى النظر إلى هذا اللازم، وإن كان كذلك فالتردّد ثابت والقضيّة المنفصلة منعقدة، ونقول: إنّ الجامع المقيّد بالقيد الفلانيّ إمّا موجود هنا أو هناك.

الوجه الخامس: أنّ للعلم الإجماليّ لازماً، وقد اعترف به المحقّق العراقيّ(قدس سره)وهو صحّة تشكيل القضيّة الشرطيّة(1) بأن يقال: إن كان المعلوم بالإجمال في هذا



(1) وعبّر عنها في نهاية الأفكار بالقضيّة التعليقيّة، راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250.

270

الطرف فليس في ذاك الطرف، وإن كان في ذاك الطرف فليس في هذا الطرف، ومن المعلوم أنّ هذه القضيّة الشرطيّة لا تأتي بعد العلم باحتراق كتاب الهندسة مثلاً، فلا يصحّ أن يقال: إن كان كتاب التأريخ محترقاً فكتاب الهندسة غير محترق، فإنّ كتاب الهندسة محترق على كلّ حال.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الوجه ينشأ من إساءة فهم معنى هذا اللازم؛ إذ ليس هذا اللازم بالمعنى الذي يمكن أن يقال به عبارة عن أنّ الطبيعيّ لو وجد في هذا الطرف فهو معدوم في ذاك الطرف وبالعكس، فإنّ هذا واضح البطلان؛ إذ لا ينطبق على موارد احتمال وجوده في كلا الطرفين، كما لو قطع باحتراق أحدهما واحتمل احتراق كليهما، وليس مراد المحقّق العراقيّ(قدس سره) ذلك، وإنّما مراده أنّ المنكشف بالعلم الإجماليّ ـ الذي يستحيل أن يكون أكثر من واحد؛ لأنّ العلم تعلّق بمفاد النكرة لا بمفاد اسم الجنس ـ لو كان موجوداً في هذا الطرف فهو غير موجود في ذاك الطرف وبالعكس، وعلى هذا لا يكون موضوع لهذا الوجه؛ إذ لا يمكن أن يقال: إنّ احتراق كتاب الهندسة هو المعلوم بالإجمال على كلِّ حال ـ أي: سواء كان الفرد الآخر معلوماً بالإجمال أو لا ـ كما كنّا نقول: إنّ كتاب الهندسة محترق على كلّ حال ـ أي: سواء كان الكتاب الآخر محترقاً أو لا ـ إذ لو صحّ هذا اللازم وفرضنا أنّ المعلوم بالإجمال له تعيّن حتّى على فرض احتراق الكتابين في الواقع، فعلى تقدير كون الفرد الآخر هو المعلوم بالإجمال لا يكون هذا الفرد معلوماً بالإجمال قطعاً، فليس احتراق كتاب الهندسة هو المعلوم بالإجمال على كلّ حال.

ثمّ بعد غضّ النظر عن هذه الجهة نقول: إنّه لو صحّ هذا اللازم واُريد تطبيقه على محلّ الكلام فلابدّ أيضاً أن نرجع إلى تلك النكتة الأساسيّة؛ إذ لو فرضنا أنّ الجامع المعلوم بالإجمال كان متخصّصاً بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق على الفرد

271

المعلوم بالتفصيل قلنا: إنّ هذا اللازم موجود، فهذا الجامع المتخصّص بتلك الخصوصيّة إن كان في هذا الطرف فليس في ذاك الطرف وبالعكس، وإن فرض أنّه لم يكن متخصّصاً بتلك الخصوصيّة فلا محالة يتحتّم الانحلال ويقطع بانطباق المعلوم بالإجمال على هذا الفرد فيتمّ الوجه الثاني.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّه إن كان هناك انحلال فلابدّ لإثباته من إثبات تلك النكتة، وهي أنّ الجامع لم يتخصّص بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلاً، فلو أثبتنا ذلك فالانحلال برهانيّ، وإلاّ لم يمكن المصير إلى الانحلال إلاّ بنكتة اُخرى سوف تظهر إن شاء الله.

وقد قرّب في المقام عدم الانحلال بوجوه يرجع حاصلها إلى تقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: دعوى أنّ الوجدان حاكم بعدم الانحلال ووجود علمين في النفس.

ومن الغريب أنّ الوجدان ادّعي من قِبل كلتا المدرستين، فمدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره)تدّعي الوجدان على الانحلال(1)، ومدرسة المحقّق العراقيّ(رحمه الله) تدّعي الوجدان على عدمه(2).



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 4، ص 14.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى ما جاء في المقالات، ج 2، ص 66 من بيان عدم انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ؛ إذ كلّ واحد من العلمين متعلّق بصورة غير الاُخرى؛ إذ الصورة الإجماليّة مباينة للصورة التفصيليّة ذهناً وإن اتّحدتا أحياناً في الخارج، ومع اختلافهما فكلّ علم متقوّم بمتعلّقه بلا موجب لقلب أحدهما بالآخر، والإجمال في نفس الذات باق على حاله وإن تحقّق علم تفصيليّ بأحدالطرفين كما هو الظاهر. انتهى مع تغيير يسير في التعبير ومع حذف ما لا يعنينا الآن.

272

والصحيح ـ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ هو التفصيل في المقام، فالوجدان في مورد يقتضي البرهان الانحلال شاهد على الانحلال، والوجدان في مورد يقتضي البرهان عدم الانحلال شاهد على عدم الانحلال، وبعد الالتفات إلى برهان الانحلال في بعض الموارد وعدم الانحلال في بعض آخر يُرى أنّ الوجدان أيضاً مطابق للبرهان.

التقريب الثاني: ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره) من أنّنا نثبت بقاء العلم الإجماليّ ببقاء لازمه، وهو احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر غير المعلوم تفصيلاً، وهذا الاحتمال موجود وجداناً، فيستكشف من وجود اللازم وجود الملزوم(1).

وهذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ مجرّد صدق قضيّتين إحداهما: أنّ الجامع معلوم، والاُخرى: أنّ الجامع محتمل الانطباق على الطرف الآخر لا يبرهن على وجود العلم الإجماليّ، وإنّما يكون العلم الإجماليّ موجوداً لو فرض أنّ الجامع الذي يحتمل انطباقه على هذا محدود بنفس الحدّ الذي به يكون معروضاً للعلم. أمّا لو فرض أنّ الجامع محدود بحدّ يحتمل انطباقه على الطرف



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250، وقد كرّر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) نقل ذلك حينما وصل إلى بحث العلم الإجماليّ بفارق جزئيّ في صيغة البيان عمّا بيّنه هنا، ونحن نسجّل هنا تلك الصيغة كي لا نعود إلى ذلك في بحث العلم الإجماليّ، وهي أنّنا نحتمل انطباق الجامع في غير الطرف المعلوم بالتفصيل، وهذا كاشف عن وجود الاحتمال في الطرف المعلوم بالتفصيل أيضاً؛ لأنّ احتمال انطباقه على هذا الطرف يجب أن يكون في قباله احتمال الانطباق على طرف آخر، وإلاّ لقطعنا بالانطباق على هذا الطرف، فالركن الثاني من ركني العلم الإجماليّ وهو احتمال الانطباق موجود، كما أنّ الركن الأوّل وهو العلم بالجامع موجود.

273

الآخر ولكنّه ليس معلوماً بهذا الحد، وإنّما هو معلوم بحدّ آخر غير محتمل الانطباق على ذاك الطرف، فالعلم الإجماليّ غير موجود، وقد يكون ما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لو فرض أنّ الجامع المعلوم مجرّد عن الخصوصيّة المحتملة الإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل، فإنّ الجامع بحدّه الجامعيّ محتمل الانطباق على الطرف الآخر، ولكنّه بهذا الحدّ ليس معروضاً للعلم؛ إذ ـ كما مضى في الوجه الثاني من وجوه تقريب الانحلال ـ قد سرى العلم إلى الحدّ الشخصيّ لا محالة، وهو بحدّه الشخصيّ غير محتمل الانطباق على الطرف الآخر، فيصبح حال العلم بالجامع هنا حال العلم بالجامع في ضمن كلّ علم تفصيليّ عندما احتمل بدواً وجود فرد آخر، فلو فرضنا مثلاً أنّنا علمنا بوجود زيد في المسجد، فإنّنا نعلم بوجود جامع الإنسان في ضمنه أيضاً، ونحتمل في نفس الوقت أن يكون جامع الإنسان موجوداً في المسجد في ضمن عمرو، فكلتا القضيّتين صادقتان في المقام ولا علم إجماليّ فيه(1)، والنكتة في ذلك هي اختلاف الحدود.

إذن فلابدّ من تركيز البحث على أنّ الجامع المعلوم في المقام هل هو متخصّص بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل أو لا.

التقريب الثالث: أن يقال: إنّه لا إشكال في الانحلال في موارد قيام العلم التفصيليّ في مقام تعيين المعلوم بالإجمال، كما لو علمنا إجمالاً بموت ابن زيد المردّد بين بكر وخالد، ثمّ علمنا تفصيلاً أنّ ابن زيد هو بكر، فلو فرض الانحلال حتّى في صورة عدم كون العلم التفصيليّ ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال للزم أن يكون الأثر الوجدانيّ والنفسانيّ للثاني، كالأثر الوجدانيّ والنفسانيّ للأوّل، مع



(1) ولم يكن احتمال الجامع فى أحد الطرفين العارض على الجامع بحدّه الجامعيّ مستلزماً لعروضه عليه في الطرف الآخر على أساس معلوميّة الجامع.

274

أنّنا نرى بالوجدان أنّ هناك فرقاً بين الحالتين.

وفيه: أنّ الفرق بحسب الحالة النفسانيّة ثابت بينهما حتّى على تقدير الانحلال، والسرّ في ذلك أنّ العلم التفصيليّ حينما يكون ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال يثبته في طرف وينفيه عن الطرف الآخر؛ إذ فرض كونه ناظراً إلى ذلك مساوق لثبوت تعيّن واقعيّ للمعلوم بالإجمال، فالعلم التفصيليّ كما يتعلّق بثبوت ذلك الواقع في هذا الطرف كذلك يتعلّق بانتفائه في ذاك الطرف، فيزول احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر، وهذا بخلاف ما لو لم يكن ناظراً إلى تعيينه، فإنّه عندئذ إنّما يزول العلم الإجماليّ بتبدّل احتمال الانطباق في هذا الطرف إلى العلم بالانطباق من دون أن يتبدّل أيضاً احتمال الانطباق في الطرف الآخر إلى العلم بعدم الانطباق، بل يبقى احتمال الانطباق في الطرف الآخر على حاله، ولكنّه لا يستلزم ثبوت العلم الإجماليّ؛ لاختلاف الحدود كما مضى بيانه.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ جميع ما بيّنوه في المقام ليس بحثاً أساساً في الانحلال.

والبحث الأساس فيه يقع في نكتتين للانحلال:

الاُولى: ما وصل إليها كلام المثبتين للانحلال والنافين له، ولكن لم يتعرّضوا لها مباشرة بالتحقيق إثباتاً أو نفياً، وهي أنّ الجامع المعلوم هل هو متّصف بخصوصيّة تأبى احتمالاً عن انطباقه على المعلوم بالتفصيل أو لا؟ فهذه النكتة هي ما حامت كلتا المدرستين حولها ولم يحقّقوها.

والثانية: ما لم يحوموا حولها فضلاً عن أن يحقّقوها، وهي زوال العلم الإجماليّ بزوال سببه في نفسه، وذلك بواسطة العلم التفصيليّ.

فنحن نقول: إنّ انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ يتصوّر له ملاكان:

الملاك الأوّل: أن ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل بنحو الجزم،

275

فينحلّ العلم الإجماليّ ـ لا محالة ـ كما مضى، والميزان في هذا الانطباق وعدمه، هو كون المعلوم بالإجمال متخصّصاً بخصوصيّة يحتمل إباؤها عن انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل أو غير متخصّص بها.

وهنا يمكن أن يقال في بادئ النظر: إنّ الجامع المعلوم بالإجمال متخصّص دائماً بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق، وذلك بأن نلحظه مقيّداً بوصف العلم الإجماليّ ونقول: إنّ هذا الجامع وإن كان بما هو غير آب عن الانطباق على الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيليّ، لكنّه بما هو معلوم بالإجمال يحتمل إباؤه عن الانطباق عليه؛ إذ لا نعلم أنّ معلومنا الإجماليّ أهو هذا أو ذاك.

إلاّ أنّ هذا التخيّل غير صحيح؛ وذلك لأنّ العلم إذا عرض على جامع يقطع بانطباقه على هذا الفرد سرى ـ لا محالة ـ إلى هذا الفرد، فلابدّ لنفي السريان من خصوصيّة في معروضه ـ أي: في المرتبة السابقة على العلم ـ موجبة لاحتمال الإباء عن الانطباق.

وإن شئت فقل: إنّه لو اُخذت الخصوصيّة من نفس العلم لزم الدور، فإنّ وجود العلم الإجماليّ يتوقّف على هذه الخصوصيّة، فلو فرضت منتزعة من المعروض بلحاظ نفس العلم الإجماليّ لزم الدور.

وقد يخطر بالبال وجه آخر في بيان خصوصيّة للمعلوم بالإجمال موجبة لاحتمال إبائه عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل، وذلك بأن يقال: إنّ العلم الإجماليّ وإن تعلّق بالجامع وهو احتراق أحد الكتابين القابل للانطباق في بادئ النظر على هذا الفرد، ولكنّ الجامع لم يؤخذ بما هو في طريق الوجود والتطبيق كما في باب الأمر بالجامع، بل اُخذ بما هو مفروغ عن وجوده، فنستطيع أن نشير إلى ذلك الوجود المفروغ عنه ونقول: أهو نفس المعلوم بالتفصيل أو غيره؟ فالجامع وإن كان بقطع النظر عن مفروغيّة وجوده قابلاً للانطباق على المعلوم

276

بالتفصيل جزماً، لكن بالنظر إلى ذلك يصبح محتمل الإباء عن الانطباق عليه.

وهذا التصوّر أيضاً خاطئ؛ لأنّ الخصوصيّة، وهي الوجود المفروغ عنه لا يكون داخلاً تحت العلم إلاّ بمقدار معرّفيّة هذا الجامع، ومقدار معرّفيّته يلائم كلا الطرفين لا محالة.

والتحقيق: أنّ هناك خصوصيّتين يمكن إبرازهما لجعل الجامع المعلوم محتمل الإباء عن الانطباق على المعلوم التفصيليّ:

الخصوصيّة الاُولى: توجد في بعض موارد العلم الإجماليّ لا في جميع موارده، وتلك الخصوصيّة مستمدّة من تحديد خارجيّ للمعلوم بالإجمال ـ أي: تكون بلحاظ وجوده الخارجيّ ـ وتوضيح ذلك: أنّ العلم الإجماليّ بلحاظ سبب تكوّن العلم ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن لا تكون نسبة سببه إلى كلّ من الطرفين على حدّ سواء، بخلاف نفس العلم الذي تكون نسبته إلى كليهما على حدّ سواء، وذلك كما لو رأينا الدخان يتصاعد من جانب أحد الكتابين لا نراه بأعيننا كي نميّزه من الآخر، فعلمنا باحتراق أحدهما بدليل إنّيّ وهو تصاعد الدخان الذي ليست نسبته إلى احتراق الكتابين على حدّ سواء، بل هو معلول لأحدهما المعيّن في الواقع، أو رأى ثقة ـ نقطع بعدم كذبه ـ احتراق أحدهما، فأخبرنا به فعلمنا باحتراق أحدهما بإخبار الثقة الذي هو أيضاً معلول لاحتراق أحدهما المعيّن في الواقع وليست نسبته إلى كليهما على حدّ سواء، وكما لو رأينا النار توجّهت نحو أحد الكتابين ولم نره بأعيننا كي نميّزه من الآخر فعلمنا باحتراق أحدهما بالدليل اللمّيّ، وهو توجّه النار نحوه الذي يكون علّة لاحتراق أحدهما المعيّن في الواقع وليست نسبته إلى كلا الطرفين على حدّ سواء، فسبب العلم في أمثال هذه الموارد يركِّز في نفسه على فرد معيّن بحسب الواقع صار مجهولاً عندنا لجهة من الجهات، ومردّداً بين فردين فأوجب تحقّق العلم الإجماليّ.